الرواية الأولى في المذهب - وهي المشهورة - تقديم الركبتين في النزول علي اليدين:
واستدلوا على ذلك بحديث وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَجَدَ وَضَعَ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا قَامَ مِنَ السُّجُودِ رَفَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ([1]).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِرُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَلَا يَبْرُكْ بُرُوكَ الْفَحْلِ([2])».
قلت: والحديثان ضعيفان جدًّا، ولا يرقيان للحجة.
وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد رحمه الله أنه يبدأ بيديه قبل ركبتيه([3]):
واستدلوا على ذلك بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ([4])».
ولا شك أن هذا الحديث أقوى من سابقيه.
فإن قيل كما قال ابن القيم رحمه الله: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يُخَالِفُ أَوَّلُهُ آخِرَهُ؛ فَإِنَّهُ إِذَا وَضَعَ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ فَقَدْ بَرَكَ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ؛ فَإِنَّ الْبَعِيرَ إِنَّمَا يَضَعُ يَدَيْهِ أَوَّلًا([5]).
قلنا: قد أجاب الإمام الطحاوي عن هذا.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله - بعد ما روى حديث أبي هريرة رضي الله عنه – في ((شرح مشكل الآثار)) (1/ 168): ((فَقَالَ قَائِلٌ: "هَذَا كَلَامٌ مُسْتَحِيلٌ; لِأَنَّهُ نَهَاهُ إذَا سَجَدَ أَنْ يَبْرُكَ كَمَا يَبْرُكُ الْبَعِيرُ؛ وَالْبَعِيرُ إنَّمَا يَنْزِلُ عَلَى يَدَيْهِ, ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: "وَلَكِنْ لِيَضَعْ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ"؛ فَكَانَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ فِي أَوَّلِهِ قَدْ أَمَرَهُ بِهِ فِي آخِرِهِ".
فَتَأَمَّلْنَا مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ فَوَجَدْنَاهُ مُحَالًا وَوَجَدْنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مُسْتَقِيمًا لَا إِحَالَةَ فِيهِ, وَذَلِكَ أَنَّ الْبَعِيرَ رُكْبَتَاهُ فِي يَدَيْهِ, وَكَذَلِكَ كُلُّ ذِي أَرْبَعٍ مِنَ الْحَيَوَانِ؛ وَبَنُو آدَمَ بِخِلَافِ ذَلِكَ; لِأَنَّ رُكَبَهُمْ فِي أَرْجُلِهِمْ لَا فِي أَيْدِيهِمْ؛ فَنَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَخِرَّ عَلَى رُكْبَتَيْهِ اللَّتَيْنِ فِي رِجْلَيْهِ كَمَا يَخِرُّ الْبَعِيرُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ اللَّتَيْنِ فِي يَدَيْهِ, وَلَكِنْ يَخِرُّ لِسُجُودِهِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ فَيَخِرُّ عَلَى يَدَيْهِ اللَّتَيْنِ لَيْسَ فِيهِمَا رُكْبَتَاهُ، بِخِلَافِ مَا يَخِرُّ الْبَعِيرُ عَلَى يَدَيْهِ اللَّتَيْنِ فِيهِمَا رُكْبَتَاهُ.
فَبَانَ - بِحَمْدِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ - أَنَّ الَّذِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامٌ صَحِيحٌ لَا تَضَادَّ فِيهِ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ))اه ـ.
وقد أنكر ابن القيم رحمه الله ما قرره الطحاوي وغيره من العلماء، من أن ركبتي البعير في يديه؛ حيث قال رحمه الله: ((قَوْلُهُمْ: "رُكْبَتَا الْبَعِيرِ فِي يَدَيْهِ" كَلَامٌ لَا يُعْقَلُ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ؛ وَإِنَّمَا الرُّكْبَةُ فِي الرِّجْلَيْنِ([6])))اهـ.
قلت: بل أثبت أهل اللغة ما نفاه ابن القيم رحمه الله.
فقد قال الخليل بن أحمد رحمه الله: ((ورُكبةُ البعيرِ فِي يدِهِ؛ ورُكْبَتا يَدَيِ الْبَعِيرِ: المَفْصِلانِ اللَّذانِ يَليانِ البَطْنَ إِذا بَرَكَ؛ وأَما المَفْصِلانِ الناتِئَانِ مِنْ خَلْفُ فَهُمَا العُرْقُوبانِ([7]))).
[1])) أخرجه أبو داود (838)، والترمذي (268)، والنسائي (1089)، وابن ماجه (882)، والدارقطني في ((سننه)) (1307)، ومدار الحديث على شريك بن عبد الله القاضي، وهو ضعيف سيئ الحفظ، وقد تفرد به عن عاصم بن كليب، قال الدارقطني في ((السنن)) (2/ 150): «تَفَرَّدَ بِهِ يَزِيدُ عَنْ شَرِيكٍ, وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ غَيْرُ شَرِيكٍ؛ وَشَرِيكٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِيمَا يَتَفَرَّدُ بِهِ»اهـ، وقال الترمذي: «قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَلَمْ يَرْوِ شَرِيكٌ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ، إِلَّا هَذَا الحَدِيثَ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، لَا نَعْرِفُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرَ شَرِيكٍ»اهـ. وضعفه الألباني في ((الإرواء)) (357)، وفي ((أصل صفة الصلاة)) (2/ 715)، وقال هناك: «وشريك سيئ الحفظ عند جمهور علماء الحديث، وبعضهم صرح بأنه كان قد اختلط؛ فلذلك لا يحتج به إذا تفرد، ولا سيما إذا خالف غيره من الثقات الحفاظ؛ فقد روى جمع منهم عن عاصم بإسناده هذا عن وائل صفة صلاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس فيها ما ذكره شريك»اهـ.
[2])) أخرجه ابن أبي شيبة في ((مصنفه)) (2702)، وأبو يعلى في ((مسنده)) (6540)، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (1517)، والبيهقي في ((معرفة السنن والآثار)) (3503)، وقال الألباني في ((الإرواء)) (2/ 79): «حديث باطل»، وقال في ((أصل صفة الصلاة)) (2/ 277): «قال الحافظ (2/ 231) - تبعًا للبيهقي -: "إسناده ضعيف".
وأقول: بل هو ضعيف جدًّا، وعلته عبد الله بن سعيد هذا، وهو المقبري، وهو متروك - كما سبق في الحديث الذي قبل هذا -، وقد اتهمه بعضهم بالكذب. ولعله تعمد، فقلب هذا الحديث؛ فغَيَّر بذلك المعنى»اهـ.
[3])) (المغني)) (1/ 370).
[4])) أخرجه أحمد (8955)، وأبو داود (840)، والنسائي في ((المجتبى)) (1091)، وفي ((الكبرى)) (682)، وقال الألباني في ((أصل صفة الصلاة)) (2/ 720- 722): ((وهذا سند صحيح. رجاله كلهم ثقات رجال مسلم؛ غير محمد بن عبد الله بن الحسن، وهو المعروف بالنفس الزكية العَلَوي، وهو ثقة، كما قال النسائي وغيره، وتبعهم الحافظ في "التقريب".
ولذلك قال النووي في "المجموع" (3/ 421)، والزُّرْقاني في "شرح المواهب" (7/ 320): "إسناده جيد". ونقل ذلك المُناوي عن بعضهم، وصححه السيوطي في "الجامع الصغير". وصححه عبد الحق في "الأحكام الكبرى" (54/1 )، وقال في كتاب "التهجد" (56/1): "إنه أحسن إسنادًا من الذي قبله". يعني: حديث وائل المعارض له.
وقد أعله بعضهم بثلاث علل:
الأولى: تفرد الدراوردي به عن محمد بن عبد الله.
والثانية: تفرد محمد هذا عن أبي الزناد.
والثالثة: قول البخاري: "لا أدري أَسَمِعَ محمد بن عبد الله بن حسن من أبي الزناد أم لا".
وهذه العلل ليست بشيء:
أما الأولى والثانية؛ فلأن الدراوردي وشيخه محمدًا هذا ثقتان - كما تقدم -؛ فلا يضر تفردهما بهذا الحديث، وليس من شرط الحديث الصحيح أن لا ينفرد بعض رواته به، وإلا؛ لما سلم لنا كثير من الأحاديث الصحيحة، حتى التي في "صحيح البخاري" نفسه؛ كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" - وهو أول حديثٍ فيه -؛ فإنه تفرد به يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر رضي الله عنه.
وأما الثالثة؛ فهي علة عند البخاري على أصله؛ وهو اشتراط معرفة اللقاء؛ ولكن الجمهور من أئمة الحديث لا يشترطون ذلك، بل يكتفون بمجرد إمكان اللقاء؛ بأن يكونا في زمن واحد مع أمن التدليس.
وهذا كله متحقق هنا؛ فإن محمد بن عبد الله هذا لم يعرف بتدليس، وهو مدني
مات سنة (145)، وله من العمر (53) سنة. وشيخه: أبو الزناد مات سنة (130)
بالمدينة. وعليه فقد أدركه زمنًا طويلًا.
فالحديث صحيح.
على أن الدراوردي لم يتفرد به، بل تُوبع عليه في الجملة.
فقد أخرجه أبو داود، والنسائي، والترمذي أيضًا (2/ 57- 58) من طريق عبد الله ابن نافع عن محمد بن عبد الله بن حسن به مختصرًا بلفظ: "يعمد أحدكم؛ فيبرك في صلاته برك الجمل؟!".
فهذه متابعة قوية؛ عبد الله بن نافع ثقة أيضًا من رجال مسلم، كالدراوردي))اهـ.
[5])) ((زاد المعاد)) (1/ 217).
[6])) السابق (1/ 218).
[7])) ((العين)) (5/ 362)، وانظر: ((تهذيب اللغة)) (10/ 123)، و((لسان العرب)) (1/ 433).