الدرس التاسع- تابع المقدمات
الواجب الموسّع- مقدمة الواجب- اجتماع الأمر والنهي
أولا: الواجب الموسّع.
1- وقت الجواز للصلاة المكتوبة هو وقتٌ كامل لأدائها ففي أي جزء من هذا الوقت أُوقِعَتْ الصلاة فيه فقد وقعتْ اداءً لأن وقتها مُوَسّعٌ.
ويجبُ على من أراد أن يؤخر الصلاة كالظهر عن أول الوقت أن يعزم بقلبه على أدائها في الوقت، فإن لم يعزم أثم.
2- مَن ظنّ أنه لن يتمكن من فعل العبادة آخر الوقت لعارض ما فأخرّها أثِمَ وإن لم يتحقق ظنه، كالمحكوم عليه بالقتل وجب عليه أن يبادر وأن لا يؤخر إلى الوقت الذي يظن فوات الواجب فيه، فإن أخّر كان عاصيا ولو بان خلاف ظنه كأن عفي عنه أو أجّل ليوم آخر، ثم إن فعلها بعد ذلك اعتبرت أداءً لا قضاءً ما دام أنها وقعت في وقتها المقدر لها شرعا.
3- مَنْ ظنّ أنه يتمكن من فعل العبادة آخر الوقت فأخّر فبان خلاف ظنه لم يأثم إلا في الفرض الذي وقته العمر كله، كمن أدرك وقت العشاء وأخّرها وهو يظن سلامته لآخر الوقت ثم أصيب بسكتة- نسأل الله العافية- فمات قبل أن يصلي فلا إثم عليه لأن التأخير جائز في حقه.
ولكن يستثنى الفرض الذي وقته موسع جدا وهو العمر كله كالحج فإنه متى تمكن من فعله وأخّر ظنا لسلامته فمات أثم، لأنّا لو لم نقل بذلك لما وجب أبدًا إذْ كل من وجب عليه الحج له أن يؤخره حتى يموت وهو لم يحج، وحينئذ هو واجب موسع ولكن بشرط السلامة وهذه مجازفة كبيرة فالمتعين هو المبادرة على من استطاع إليه سبيلا فإن لم يبادر وتمكن من فعله قبل الموت فلا شيء عليه وإن مات أثم.
ثانيا: مقدمة الواجب.
1- الفعل المقدور للمكلف الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، ويسمى مقدمة الواجب كالوضوء فإنه لا يتم فعل الصلاة الا به فيكون واجبا بنفس الدليل الذي أوجب الصلاة، كما أنه واجب بدليل آخر عليه.
واحترز بالمقدور عن غير المقدور كتمام العدد في وجوب صلاة الجمعة فإنه ليس إليه وغير مخاطب به، واحترز بالمطلق عن المقيد، وهو الذي لا يجب إلا بقيد من سبب أو شرط كالزكاة فلا تجب إلا بالنصاب، وكالحج فلا يجب إلا بالاستطاعة فلا يخاطب العبد بتحصيل النصاب والاستطاعة كي تجبان عليه، وإنما القاعدة السابقة الكلام فيها على فعل ثبت وجوبه وتقرر على المكلف ولكنه توقف إيقاعه في الواقع على تحصيل أمر ما فهل يجب ذلك الأمر الذي يسمى مقدمة الواجب أو لا يجب ؟
والجواب يجب كمن أمر بالوضوء ولا ماء عنده وعنده ثمن الماء فيجب عليه شراؤه لأنه لا يتم الوضوء إلا به.
2- لو لم يقدر شخص على ترك محرّم إلا بترك غيره من الجائز وجب الترك، فلو تزوج شخص من امرأة ولم يرها ثم سافرت إليه واختلطت زوجته بأجنبية ولم يميز بينهما وجب اجتناب قربان الاثنين إلى حصول التمييز، ولو طلق شخص إحدى زوجتيه ونسيها وجب اجتنابهما حتى يتذكر لأن ترك الحرام واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ثالثا: اجتماع الأمر والنهي.
هل يجتمع الأمر والنهي في شيء واحد بأن يكون شيء واحد مأمورًا به وفي نفس الوقت منهيًا عنه؟
والجواب إن اجتماع الأمر والنهي يكون على أنحاء:
1- أن يكون الاجتماع في جهة واحدة، بأن يكون مأمورا به من جهة ومن نفس تلك الجهة هو منهي عنه، وهذا باطل يلزم عليه التناقض كأن يقال اجلس هنا كي لا تؤذي غيرك، ولا تجلس هنا كي لا تؤذي غيرك، فالأمر بالجلوس في محل ما لدفع الأذى، والنهي عن الجلوس في نفس المحل الأول لدفع الأذى، فاجتمع أمر ونهي من جهة واحدة وهو باطل.
2- أن يكون الاجتماع في أكثر من جهة وبين الجهتين تلازم، كالأمر بصلاة النافلة المطلقة، والنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة، فالأمر بالنافلة للتقرّب بالعبادة لله، والنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة لموافقة عبّاد الشمس في سجودهم، فالأمر له جهة والنهي له جهة أخرى ولكن بينهما ملازمة لأن الموافقة للكفار في السجود لا تتحقق بغير الصلاة فهي لازمة للصلاة غير منفكة عنها.
3- أن يكون الاجتماع في أكثر من جهة وبين الجهتين انفكاك، كالأمر بالصوم للتقرّب بالعبادة لله والنهي عن الصوم يوم الجمعة كراهة الضعف عن كثرة العبادة في ذلك اليوم، فكل له جهة وبين الجهتين انفكاك لأن الضعف المذكور غير لازم فإنه كما يحصل بالصوم يحصل بغيره كقلة الأكل أو كثرة التعب في عمل دنيوي، فيصح الصوم.
ومثله النهي عن الصلاة في المكان المغصوب، فالأمر بالصلاة له جهة، والنهي عن الغصب له جهة أخرى وهي التعدي على ملك الغير، وهذا المعنى غير لازم للصلاة فكما يتحقق الغصب في الصلاة يتحقق في الأكل والنوم مثلا في المكان المغصوب، فالصلاة صحيحة تجزئ عن القضاء مع معصية الغصب.
فإذا علم هذا فقد قالوا: ( الأمرُ المطلقُ لا يتناولُ المكروهَ ) ويقصدون أن الأمر بشيء ما لا يندرج تحته طلب أي شيء منهي عنه تحريما أو كراهة ولا يجزئ فعل المنهي عن المأمور إن كان النهي له جهة واحدة أو جهتان متلازمتان، فمثلا قد أمر الشرع بصلاة النافلة فهل يشمل أمره هذا ركعتين في وقت النهي ؟ الجواب لا يشمل ولا تصح الصلاة.
وهنا مسألتان:
1- من دخل ملك غيره بغير إذنه فقد غَصَبَ ، فإن خرج تائبا فخطواته في الطريق نحو المخرج تكون واجبة لأن ما لا يتم الواجب الذي هو الخروج من المغصوب إلا به فهو واجب، وإن خرج غير تائب فخطواته تلك خطوات غاصب آثم.
2- مَن سقط على جريح حوله جرحى إن استمر فوق الذي سقط عليه ولم يبرح من مكانه فسيقتله وإن تحرك وقع على جريح آخر لشدة الزحام فيقتله ولا يوجد مكان آخر ينتقل إليه غير ذاك فماذا يفعل؟
والجواب: يستمر على ذلك الجريح ولا ينتقل لأن الضرر لا يزال بضرر آخر مثله أو أشد منه.
( شرح النص )
مَسألةٌ: الأَصحُّ أَنَّ وقْتَ المكتوبةِ جوازًا وقتٌ لأدائِهَا، وأَنَّه يجبُ على المؤخِّرِ العزمُ، ومَنْ أَخَّرَ معَ ظنِّ فوتِهِ عصى، وأَنَّهُ إنْ بانَ خِلافُهُ وفَعَلَهُ فأداءٌ، وأَنَّ مَنْ أَخَّرَ معَ ظنِّ خِلافِهِ لمْ يَعْصِ بخِلافِ ما وقْتُهُ العُمْرُ كَحَجٍّ.
مَسألةٌ: المقدورُ الذي لا يتِمُّ الواجِبُ المطلقُ إلا بِهِ واجِبٌ في الأصحِّ، فلو تَعَذَّرَ تَرْكُ مُحَرَّمٍ إلا بتركِ غيرِهِ وَجَبَ، أَو اشْتَبَهَتْ حَلِيلَةٌ بأجنَبِيَّةٍ حَرُمَتا، كما لو طلَّقَ مُعَيَّنَةً ثم نسيَها.
مسألةٌ: مُطلَقُ الأمرِ لا يتناولُ المكروهَ في الأصحِّ، فإنْ كانَ له جِهِتانِ لا لزومَ بينهما تناوَلَهُ قطعًا في نهيِ التنزيهِ وعلى الأصحِّ في التحريمِ، فالأصحُّ صِحَّةُ الصلاةِ في مغصوبٍ، وأَنَّهُ لا يُثابُ عليهِ، وأَنَّ الخارِجَ من مغصوبٍ تائِبًا آتٍ بواجبٍ، وأَنَّ الساقِطَ على نحوِ جريحٍ يَقْتُلُهُ أَو كُفْأَهُ يستَمِرُّ .
.............................. .............................. .............................. .............................
هذه ( مسألةٌ ) في الواجب الموسّع ( الأَصحُّ أَنَّ وقْتَ ) الصلاة ( المكتوبةِ جوازًا ) وهو وقت الاختيار قيد أخرج به وقت الضرورة والحرمة لأن الكلام في المسألة على وقت الجواز ( وقتٌ لأدائِهَا ) ففي أي جزء منه أوقعت الصلاة فقد أوقعت في وقت أداء ولا يقيد الوجوب بأول ولا آخر، وقيل إن وقت الأداء هو آخر الوقت فإن فعلت في أول الوقت أو وسطه فهو تعجيل للطاعة كتعجيل دفع الزكاة قبل حلول الحول ( و ) الأصح ( أَنَّه يجبُ على المؤخِّرِ ) أي مريد تأخير الصلاة عن أول الوقت ( العزمُ ) في أول الوقت على الفعل في الوقت، وقيل لا يجب عليه العزم واختاره الأصل وهو خلاف معتمد المذهب الذي صححه الإمام النووي في المجموع ( ومَنْ أَخَّرَ ) الواجب الموسع ( معَ ظنِّ فوتِهِ ) أي فوت ذلك الواجب بنحو موت أو حيض كمن علمت أن عادتها أن تأتيها الحيضة آخر الوقت فلا يجوز لها تأخير الصلاة ( عصى ) لظنه فوت الواجب بالتأخير وإنما الأعمال بالنيات ( و ) الأصح ( أَنَّهُ إنْ بانَ خِلافُهُ ) بأن تبين خلاف ظنه ولم يمت أو تأتي المرأةَ الحيضة ( وفَعَلَهُ ) أي فعل الواجب قبل خروج وقته ( فـ ) فعله ( أداءٌ ) لأن العبرة بالوقت في الواقع وهو لم يخرج، وقيل: إن فعله قضاء لأنه فعله بعد الوقت الذي تضيّق بظنه وإن بان خلاف ظنه لأن العبرة بظنه ( و ) الأصح ( أَنَّ مَنْ أَخَّرَ ) الواجب الموسع ( معَ ظنِّ خِلافِهِ ) أي خلاف فوته بأن ظن عدم فوت الوقت بالتأخير ( لمْ يَعْصِ ) لأن التأخير جائز له فهو عكس المسألة التي قبلها ( بخِلافِ ما ) أي الواجب الذي ( وقْتُهُ العُمْرُ كَحَجٍّ ) فإن من أخّره بعد أن أمكنه فعله مع ظن عدم فوته كأنّ ظن سلامته من الموت إلى مضي وقت يمكنه فعله فيه ومات قبل فعله يعصي على الأصح، وقيل لا يعصي.
هذه ( مَسألةٌ ) في مقدمة الواجب، الفعل ( المقدورُ ) للمكلف ( الذي لا يتِمُّ ) أي لا يوجد ( الواجِبُ المطلقُ إلا بِهِ واجِبٌ ) بنفس وجوب الواجب ( في الأصحِّ ) وقيل لا يجب بوجوبه بل بدليل خاص يدل عليه، واحترز بالواجب المطلق عن الواجب المقيد وجوبه بما يتوقف عليه كالزكاة وجوبها متوقف على ملك النصاب فلا يجب تحصيله ( فلو تَعَذَّرَ تَرْكُ مُحَرَّمٍ إلا بتركِ غيرِهِ ) من الجائز ( وَجَبَ ) ترك ذلك الغير الجائز لتوقف ترك المحرم الذي هو واجب عليه، كما لو اختلط طعام مائع مباح بطعام مائع محرّم فيجب عليه ترك الطعام المباح لأنه يتعذر تمييز الحلال عن الحرام ( أَو اشْتَبَهَتْ حَلِيلَةٌ ) لرجل من زوجة أو أمة ( بأجنَبِيَّةٍ حَرُمَتا ) وتبقى الحرمة إلى أن يميّز بينهما فتحل له حينذاك ( كما ) أي ومثله ما ( لو طلَّقَ مُعَيَّنَةً ) من زوجتيه مثلا ( ثم نسيَها ) أي نسى من طلق فإنهما يحرمان عليه وتبقى الحرمة إلى التمييز بينهما.
هذه ( مسألةٌ ) في اجتماع الأمر والنهي ( مُطلَقُ الأمرِ لا يتناولُ المكروهَ في الأصحِّ ) بمعنى أن الأمر بشيء ما له أمثلة وجزئيات فهل يندرج تحته صورة منهي عنها فتكون صحيحة لأن الأمر يقتضي الصحة ؟ كما لو قال أب لابنه: ادرسْ واجباتك، وفي سياق آخر قال له يا بني: لا تبق مستيقظا إلى منتصف الليل، فالأمر بالدراسة من جزئياته الدراسة في منتصف الليل، فهل أمره بالدراسه يتناول تلك الحالة بحيث إنه إذا رآه يدرس في ذلك الوقت لن يعاقبه، ويكون الولد ممتثلًا، أو أن تلك الحالة غير مندرجة في أمره ؟ ذهب الجمهور إلى أن المنهي عنه لا يندرج تحت الأمر إذا كان لهما جهة واحدة أو جهتان بينهما تلازم، فإن لم يكن بينهما تلازم فتندرج صورة النهي في الأمر بحيث تجزئ وإن كانت مذمومة من جهة النهي عنها، كما في الصلاة في المكان المغصوب، وقوله: مطلق الأمر احترز به عن الأمر المقيد بغير المكروه فلا خلاف في عدم تناول الأمر له كما لو قيل: صل في غير وقت النهي، فمن الواضح أن الصلاة في وقت النهي تكون غير مندرجة حينذاك اتفاقا، وقوله المكروه أي كراهة تحريم أو كراهة تنزيه، وقوله في الأصح إشارة إلى قول بعض العلماء بأن المنهي عنه يندرج تحت الأمر المطلق ولذا صححوا الصلاة في أوقات النهي والجمهور عندهم أن هذه الصلاة باطلة ( فإنْ كانَ له ) أي للمكروه ( جِهِتانِ لا لزومَ بينهما ) كالصلاة في المكان المغصوب فإنها صلاة وغصب وكل منهما يوجد بدون الآخر فالصلاة توجد في مكان غير مغصوب والغصب يوجد بدون صلاة في ذلك المكان ( تناوَلَهُ ) مطلق الأمر ( قطعًا في نهيِ التنزيهِ ) كما في النهي عن الصلاة في الأمكنة المكروهة كالحمام فإن النهي للكراهة وليس للتحريم ولا يوجد تلازم بين الصلاة والكون في الحمام ويمكن أن يوجد أحدهما بدون الآخر كما هو ظاهر ( وعلى الأصحِّ في ) نهي ( التحريمِ ) كما في الصلاة في المكان المغصوب، وقيل لا يتناوله في هذه الحالة ( فالأصحُّ صِحَّةُ الصلاةِ في مغصوبٍ وأَنَّهُ لا يُثابُ عليهِ ) أي الأصح أن الصلاة تصح فرضا كانت أو نفلا ولكن لا يثاب عليها بسبب الغصب، وقال بعضهم يثاب عليها من جهة الصلاة ويعاقب عليها من جهة الغصب والعقاب قد يكون بحرمانه ثواب تلك الصلاة وقد يكون بغير ذلك، وقال الإمام أحمد رحمه الله لا تصح ويجب إعادتها ( و ) الأصح ( أَنَّ الخارِجَ من ) محل ( مغصوبٍ تائِبًا ) أي نادما على الدخول فيه عازما على أن لا يعود إليه في المستقبل ( آتٍ بواجبٍ ) لتحقق التوبة الواجبة بخروجه تائبا، وقال بعض المعتزلة هو آت بحرام لأن ذلك شغل ملك غيره بغير إذنه كالماكث ( و ) الأصح ( أَنَّ الساقِطَ على نحوِ جريحٍ ) بين جرحى ( يَقْتُلُهُ ) إن استمر عليه ( أَو ) يقتل ( كُفْأَهُ ) فإن لم يكن كفأه فينقلب عليه كما لو سقط على مسلم وبجنبه جريح كافر فينقلب على الكافر لأن إزهاق حياة مسلم أمر عظيم ( يستَمِرُّ ) عليه ولا ينتقل إلى كفئه لأن الضرر لا يزال بالضرر.