.. من "الطراز لأسرار البلاغة و حقائق علوم الإعجاز" لحمزة بن يحيى العلوي

الصنف الثامن و العشرون فى التسجيل
وهو «تفعيل» من قولهم: سجّل الحاكم عليه تسجيلا، إذا كتب كتاب الحكم و أمضاه. وأسجل الكلام إسجالا إذا أطال ذيوله، والسّجيل: الطويل من الضروع، قاله الجوهرى. فهو مؤذن بالطويل فى كل ما سيق منه كما ترى، هذا فى اللغة.
وأما معناه فى مصطلح علماء البلاغة فهو تطويل الكلام والمبالغة فيما سيق من أجله من مدح أو ذم، و هو نوع من الإطناب، خلا أن الإطناب عام فى كل مقصود من الكلام، والتسجيل خاص فى المبالغة فى المدح أو الذم.
والمثال فيه قوله تعالى فى ذم عبادة الأوثان والأصنام وتهجين من عبد سواه، فإنه سجل عليهم غاية التسجيل، ونعى إليهم أفعالهم، ووبخهم وسفه حلومهم، واسترك عقولهم على جهة التسجيل والتنويه بما عملوا: [يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73)] (الحج: 73).
فانظر ماذا حازته هذه الآية من الإبانة عن نقص عقولهم، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ[الأعراف: 194] الآية. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) [فاطر: 13] الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تسفيه عقولهم و إظهار جهلهم.
ومن ذلك ما ورد فى ذم الكفار من أهل الكتاب و المشركين فى صدر سورة البقرة فإن الله تعالى نعى عليهم تلك الأفعال الخبيثة وسجّلها عليهم، وذكر ما أكنّته صدورهم وأضمرته نفوسهم من الغدر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم والإصرار على الكفر، والتمادى فى النفاق، والإعراض عما جاء به من النور المبين والصراط المستقيم، وتصميمهم على جحود ذلك و إنكاره.
ومن ذلك ما كان من بنى إسرائيل من كتمان ما أنزل الله عليهم فى التوراة فى وصف رسول الله، وتصديق ما جاء به، ونصب العداوة والمكر و الخديعة، فأظهر الله ما كتموه من العداوة، وكشف ما أضمروه من الحسد والجحود والإنكار. و سجل عليهم غاية التسجيل.
فهذا ما يتعلق بأمثلة التسجيل فى الذم.
وأما مثال التسجيل فى المدح فكقوله تعالى فى صفة المؤمنين فى صدر سورة البقرة، حيث ذكرهم بالصفات المحمودة، وأثنى عليهم بالمناقب المعهودة، وبما شرح الله صدورهم بالإيمان بالله تعالى وبرسوله وكتبه المنزّلة قديما وحديثا، وبما كان منهم من التصديق بما جاءت به من أحوال القيامة والحشر والنشر وغير ذلك من علوم الآخرة.
ومن ذلك ما كان فى صفة المؤمنين فى سورة المؤمنين حيث صدّر مدحهم بالخشوع فى الصلاة، ثم عقبه بالصفات الحسنة، والأفعال المحمودة المستحسنة، فأشاد ذكرهم بما وصفهم به وسجل فيه نهاية التسجيل.
وهكذا القول فيما يرد فى القرآن على هذا النحو، فإنه يكون مثالا لما ذكرناه من التسجيل فى المدح و الذم.
وفى الخطب والقصائد إذا جرى على هذا المجرى فهو تسجيل.