بسم الله الرحمن الرحيم
قد وضع أبو بكر بن أبى شيبة رحمه الله فى مصنفه كتابا للرد على أبى حنيفة رحمه الله فى ما خالف فيه - بزعمه - الأثر الذى جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قرأت الكتاب وجدت أن ابن أبى شيبة قد أسرف على نفسه فى رده على أبى حنيفة وزعمه أنه خالف الأثر. فمن ذلك أنه احتج فى بعض الأبواب بأحاديث ضعاف لا يثبت أهل الفقه مثلها ولا يحتجون بها ومن ذلك أنه خالف جماعة أهل العلم فى غير مسألة فإما أتى بحديث ضعيف فقال به وأهل العلم على خلافه أو أنه أتى بحديث له تأويل قد تأوله أهل العلم وقالوا به وتأوله أبو بكر على خلاف ما تأولوه. وفى الكتاب أيضا مسائل لم ينفرد أبو حنيفة بالقول بها بل كثير منها قول الجمهور ومنها قول مالك وأبى حنيفة وكثير منها قول فقهاء الكوفيين أخذه عنهم أبو حنيفة كإبراهيم النخعى وعامر الشعبى. ومن هذه المسائل ما خالف فيه أبو حنيفة الأثر حقا. فأردت أن أجمع أقوال أهل العلم فى هذه المسائل لأرى ما أصاب فيه ابن أبى شيبة وما أخطأ فيه من عيبه على أبى حنيفة خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا رابط الكتاب الذى فيه المسائل التى جمعت أقوال أهل العلم فيها ولم أنته بعد من مسائل الكتاب كلها:
https://archive.org/details/20250810_20250810_2127
[مسألة الخيار في البيع]
قال أبو بكر حدثنا ابن عيينة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيِّعان بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا إلا أن يكون بيعهما عن خيار»
قال أبو بكر حدثنا يزيد بن هارون عن سعيد عن قتادة عن صالح أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»
قال أبو بكر حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أيوب بن عتبة حدثنا أبو كثير السحيمي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار في بيعهما ما لم يتفرقا أو يكن بيعهما عن خيار»
قال أبو بكر حدثنا الفضل بن دكين عن حماد بن زيد عن جميل بن مرة عن أبي الوضيء عن أبي برزة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»
قال أبو بكر حدثنا عفان حدثنا همام عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا»
قال أبو بكر: وذكر أن أبا حنيفة قال: يجوز البيع وإن لم يتفرقا
يجوز البيع يعنى أنه يلزم ويجوز على البائع والمبتاع. وجاز عليه الشى إذا لزمه. ومعنى جواز العقود أن تلزم فلا يملك كل واحد من المتعاقدين أن يرجع فيما لزمه بالعقد فلا يملك البائع أن يرجع فى السلعة إلا برضا المشترى ولا يملك المبتاع أن يرجع فى الثمن إلا برضا البائع وكذلك النكاح الجائز هو ما لزم الرجل والمرأة فلم يكن للرجل أن يرجع فى ماله إلا برضا المرأة أو يطلق قبل الدخول فيرجع فى نصف المهر بنص كتاب الله تعالى ولم يكن للمرأة أن ترجع فى نفسها قبل الدخول ولا بعده وهذا نص كتاب الله سبحانه وإجماع المسلمين لا نعلم فيه خلافا. وقالت قرامطة الوهابية ليس بين المراة وزوجها عقد وأحلوا فروج النساء بغير عقود. وقول من قال لا تجوز الهبات إلا مقبوضة معناه أن للواهب أن يرجع فيها ولا تلزمه ما لم يقبضها الموهوبة له.
وإذا باع الرجل شيئا من صاحبه وتكلما بالبيع ثم أراد أحدهما أن يرجع فى البيع قبل أن يتفرقا فإن هذه مسألة من العلم قد اختلف أهله فيها فقال كثير من أهل العلم ليس لأحدهما خيار إذا لم يشترطا الخيار فى عقد البيع وهذا قول مالك وزعم صاحبه أشهب أنه قول أهل الحجاز وأنكر هذا الشافعى وزعم أن أكثر أهل الحجاز على خلافه. وهو قول إبراهيم النخعى وأبى حنيفة وصاحبيه وزعم محمد بن الحسن أن أهل المدينة لا يقولون بقول مالك فيها وقد احتج أصحاب مالك لقولهم بالحديث الذى جاء فى اختلاف المتبايعين والسلعة قائمة فيتحالقان ويترادان وقالوا لو كان الخيار للمتبايعين قبل التفرق لكان لكل واحد منهما رد البيع بغير يمين.
ولعل من الحجة لقولهم أيضا ما روى أبو داود فى سننه قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس أن الحكم بن نافع حدثهم أخبرنا شعيب عن الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه فنادى الأعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن كنت مبتاعا هذا الفرس وإلا بعته؟" فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال: «أو ليس قد ابتعته منك؟» فقال الأعرابي: "لا والله ما بعتكه" فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بلى، قد ابتعته منك» فطفق الأعرابي يقول: "هلم شهيدا" فقال خزيمة بن ثابت: "أنا أشهد أنك قد بايعته" فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: «بم تشهد؟»، فقال: "بتصديقك يا رسول الله" فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
فقد أراد الأعرابى نقض البيع فلم يجد سبيلا إلا إنكار أن يكون قد باع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو ليس قد ابتعته منك؟» فهذا يشبه والله أعلم أنه قد لزم البيعُ ولم يكن للأعرابى خيار فى رده ولو كان له خيار لأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن له الخيار فى رده إن أراد من غير أن يجحد البيع ومما يدل على ذلك قول الأعرابى: "هلم شهيدا" ولو كان المتبايعان بالخيار لكان له أن يرد البيع ولو شهد عليه الشهود. فإن قال قائل: فلعله كان له أن يرده بالخيار ولم يخبره بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل له: لو كان له حق فى رد البيع لأعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يضيع عليه حقه وليعلم غيره أن للبائع حقا فى رد البيع قبل التفرق. ألا ترى أنه لما عتقت بريرة أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها الخيار لئلا يضيع حقها وكان يرى الأصلح لها أن تقر مع زوجها وكذلك لما عتقت زبراء أخبرتها حفصة أن لها الخيار ونصحتها أن تقر مع زوجها ولكنها اختارت نفسها. وقد طاف النساء ببيوت النبى صلى الله عليه وسلم يشتكين ما لقين من الضرب من أزواجهم فلم يجعل لواحدة منهن خيارا فقال أهل العلم إن الرجل إذا ضرب امرأته أو سبها أو لعنها أو رماها بالزنا لم تملك أن تفارقه ولو كان مداوما على ذلك لأنها لو كانت تملك ذلك لأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء بأن لهن ذلك لئلا يضيع حقهن وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين السلف.
وإنما خالف فيه رجل غير فقيه يقال له ابن الهندى وهو الذى قال فيه عياض اليحصبى: "ولم يكن بالمرضي في دينه، ولا بالمقبول قوله؛ عديم المرؤة، وذكر فيه أشياء منكرة؛ قال: وهو أحد من لاعن زوجته بالأندلس بعهد القاضي ابن السليم" (ترتيب المدارك وتقريب المسالك - أحمد بن سعيد بن إبراهيم الهمداني)
وقد كان ابن الهندى والله أعلم أول الناس تضررا بقوله هذا فإنه اضطر إلى رمى امرأته بالزنا وملاعنتها فإن كان صادقا فلأنه لما خاف تأديبها لئلا تملك أن تفارقه على قوله ذئرت عليه وصنعت ما بدا لها حتى زنت فلاعنها. وإن كاذبا عليها فذلك أبعد من أن يقبل قوله. والذى أدخل قول ابن الهندى على المالكية أشعرى من المتأخرين يقال له خليل بن إسحاق صاحب مختصر خليل وسماه طلاق الضرر ونسبه إلى ابن الهندى ثم غلط من بعده فنسبوه إلى مالك وأصحابه والمتقدمين من أتباع مذهبه وصار يقال طلاق الضرر مذهب مالك. ومالك بن أنس إمام دار الهجرة برىء من هذا القول براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
روى مالك عن نافع، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار» قال مالك: "وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه" (الموطأ - باب بيع الخيار)
قال سحنون: "قلت لابن القاسم: هل يكون البائعان بالخيار ما لم يفترقا في قول مالك؟
قال: قال مالك: لا خيار لهما وإن لم يفترقا، قال مالك: البيع كلام، فإذا أوجبا البيع بالكلام وجب البيع، ولم يكن لأحدهما أن يمتنع مما قد لزمه.
قال مالك في حديث ابن عمر: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار» ، قال مالك: ليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه وقد كان ابن مسعود يحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما بيعين تبايعا فالقول ما قال البائع أو يترادان» .
قال ابن وهب: وقد ذكر إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن أمية، عن عبد الملك بن عبيد، عن ابن لعبد الله بن مسعود أنه حدثه عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع ثم كان المبتاع بالخيار إن شاء أخذ وإن شاء ترك» .
قال سحنون، وقال أشهب: الذي اجتمع عليه أهل العلم من أهل الحجاز أن البائعين إذا أوجبا البيع بينهما فقد لزم ولا خيار لواحد منهما إلا أن يكون اشترط الخيار أحدهما فيكون ذلك المشترط على الخيار على صاحبه، وليس العمل على الحديث الذي جاء «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» ، ونرى والله أعلم أنه منسوخ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المسلمون على شروطهم» ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اختلف البيعان استحلف البائع» .
قال سحنون، وقال غيره: فلو كان الخيار لهما لما كلف البائع اليمين، ولقال هب الأمر كما قال المبتاع أليس لي أن لا أقبل وأن يفسخ عني البيع، فإذا صادقته على البيع كان لي أن لا يلزمني، فإذا خالفته فذلك أبعد من أن يلزمني ابن وهب، وقد قال مالك: الأمر عندنا في الذي يشتري السلعة من الرجل فيختلفان في الثمن فيقول البائع: بعتكها بعشرة دنانير ويقول المشتري: اشتريتها بخمسة دنانير أنه يقال للبائع: إن شئت فأعط المشتري بما قال وإن شئت فاحلف بالله ما بعت سلعتك إلا بما قلت، فإن حلف قيل للمشتري إما أن تأخذ السلعة بما قال البائع وإما أن تحلف بالله ما اشتريتها إلا بما قلت، فإن حلف برئ منها وذلك أن كل واحد منهما مدع على صاحبه.
قال سحنون: وأخبرني ابن وهب ووكيع، عن سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، عن شريح قال: إذا اختلف البائعان وليس بينهما بينة قال: إن حلفا ترادا وإن نكلا ترادا وإن حلف أحدهما ونكل الآخر لزمه البيع" (المدونة - البيعان بالخيار ما لم يفترقا)
قال أبو بكر حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال: "البيع جائز وإن لم يتفرقا"
قال محمد بن الحسن: "قال أبو حنيفة: إذا تبايع الرجلان ولم يذكرا فيه خيارا فقد وجب البيع حين عقداه وإن لم يفترقا ولا خيار لهما.
وقال أهل المدينة: هما بالخيار ما لم يفترقا عن مجلسهما ذلك أو عن مقامهما ذلك ويكون بيعهما بيع الخيار.
وقال محمد: وكيف قلتم إذا لم يشترطا خيارا كانا بالخيار ما لم يتفرقا؟
قالوا: للحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه نافع عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار»
قلنا لهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا من مجلسهما أو مكانهما؟
قالوا: ليس هذا في الحديث ولكن معناه هذا عندنا.
قيل لهم: لقد أخطأتم. عندنا المعنى في هذا البيعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا عن منطق البيع إذا قال البائع قد بعتك فالمشتري بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل فإنا نفسر هذا الحديث البيعان كل واحد منهما بالخيار مالم يتفرقا على هذا الوجه.
قال: وكذلك أخبرنا بعض أصحابنا عن أبي معشر عن إبراهيم النخعي أنه فسر حديث البيعان بالخيار ما لم يتفرقا على هذا.
وما يدلكم على أن هذا الحديث ليس معناه على ما تقولون حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه المعروف المشهور وهو كان أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: وما حديث عمر؟ قلنا لهم: قوله حين وضع رجله في الغرز: إن الناس يقولون غدا ماذا قال عمر ألا إن البيع عن صفقة أو خيار فإذا وجبت الصفقة فكان فيها خيار وإن لم يشترط الخيار.
فهذا الحديث باطل إنما الصفقة أن يُوجِبَ البيعَ البائعُ والمشتري. وبلغنا عن شريح أنه قال: إذا تبايع الرجلان وجب البيع ولم يكن لواحد منهما خيار.
قالوا: فهذا الأمر معمول به عندنا" (الحجة على أهل المدينة - باب الرجلين يتبايعان ولا يذكران خيارا)
حديث عمر الذى احتج به محمد بن الحسن باطل لا يصح إلى عمر وما بلغه عن شريح فضعيف وصح عنه خلافه.
روى عبد الرزاق عن الثوري عن الحجاج يرفعه إلى عمر أن عمر قال بمنى حين وضع رجله في الغرز: «إن الناس قائلون غدا: ماذا قال عمر؟ ألا وإنما البيع عن صفقة أو خيار والمسلم عند شرطه» قال سفيان: "والصفقة باللسان"
وحجاج بن أرطأة مدلس وليس ممن يحتج به ثم هو منقطع بينه وبين عمر.
قال عبد الرزاق أخبرنا هشيم عن الحجاج عن محمد بن خالد بن الزبير عن رجل من كنانة قال: قال عمر حين وضع رجله في الغرز وهم بمنى: «اسمعوا ما أقول لكم، ولا تقولوا قال عمر وقال عمر. البيع عن صفقة أو خيار ولكل مسلم شرطه»
وفيه حجاج بن أرطأة ومحمد بن خالد مجهول ويرويه عن رجل مجهول.
قال أبو بكر حدثنا ابن أبي زائدة وأبو خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن شريح قال: "إذا تكلم بالبيع جاز عليه" وجاز عليه يعنى لزمه.
وفيه حجاج بن أرطأة وقد مضى الكلام فيه ثم قد روى عنه خلافه بإسناد أصح من هذا.
قال أبو بكر حدثنا وكيع قال حدثنا سفيان عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي عن شريح قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"
قال أبو بكر حدثنا وكيع عن شعبة عن الحكم عن شريح قال: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا"
وأين رواية حجاج عن الحكم من رواية شعبة عنه.
قال أبو بكر حدثنا جرير عن مغيرة عن الشعبي أنه أتي في رجل اشترى من رجل برذونا فأراد أن يرده قبل أن يفترقا فقضى الشعبي أنه قد وجب عليه فشهد عنده أبو الضحى أن شريحا أتي في مثل ذلك فرده على البائع فرجع الشعبي إلى قول شريح.
وقال غيرهم بظاهر الحديث: إن البيعين بالخيار حتى يتفرقا أو يخير أحدهما صاحبه فيختار البيع. والتفرق تفرق الأبدان. وهذا قول عبد الله بن عمر رضى الله عنهما وهو راوى الحديث وقول الشافعى وأحمد وإسحاق والليث بن سعد والأوزاعى وسفيان الثورى وهو قول شريح والشعبى وعطاء وسعيد بن المسيب وطاوس وللشافعى فيها مناظرة طويلة.
وكان من حجتهم على استدلال مالك وأصحابه باختلاف المتبايعين والسلعة قائمة فيتحالفان ويترادان أن هذا يكون قبل التفرق وبعد التفرق والخيار الذى فى الحديث لا يكون إلا قبل التفرق.
حدثنا وكيع قال حدثنا هشام بن زياد عن سعيد بن المسيب قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"
قال عبد الرزاق أخبرنا ابن عيينة عن سليمان الأحول قال: سمعت طاوسا يحلف بالله ما التخيير إلا بعد البيع.
قال أبو بكر حدثنا جرير بن عبد الحميد عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة وعطاء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار حتى يفترقا عن رضا» وهذا مرسل.
قال عبد الله: "سألت أبي عن البيعين بالخيار؟ فقال: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" (مسائل عبد الله 1039)
قال المروذي: "سمعت محمد بن نصر النيسابوري يقول: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: ناظرت يحيى بن آدم في البيعين بالخيار ما لم يتفرقا، قال: فقال لي: من قال بهذا القول من الفقهاء؟ فقلت له: سفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، قال: وذكرت أحمد معهم لكي لا يجترئ" (أخبار الشيوخ وأخلاقهم 266)
قال الشافعى رحمه الله تعالى: "وبهذا نأخذ وهو قول الأكثر من أهل الحجاز والأكثر من أهل الآثار بالبلدان. (قال) : وكل متبايعين في سلف إلى أجل أو دين أو عين أو صرف أو غيره تبايعا وتراضيا ولم يتفرقا عن مقامهما أو مجلسهما الذي تبايعا فيه فلكل واحد منهما فسخ البيع وإنما يجب على كل واحد منهما البيع حتى لا يكون له رده إلا بخيار أو شرط خيار أو ما وصفت إذا تبايعا فيه وتراضيا وتفرقا بعد البيع عن مقامهما الذي تبايعا فيه أو كان بيعهما عن خيار فإن البيع يجب بالتفرق والخيار (قال) : واحتمل قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إلا بيع الخيار» معنيين أظهرهما عند أهل العلم باللسان وأولاهما بمعنى السنة والاستدلال بها والقياس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جعل الخيار للمتبايعين فالمتبايعان اللذان عقدا البيع حتى يتفرقا إلا بيع الخيار فإن الخيار إذا كان لا ينقطع بعد عقد البيع في السنة حتى يتفرقا وتفرقهما هو أن يتفرقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه كان بالتفرق أو بالتخيير وكان موجودا في اللسان والقياس إذا كان البيع يجب بشيء بعد البيع وهو الفراق أن يجب بالثاني بعد البيع فيكون إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع كان الخيار تجديد شيء يوجبه كما كان التفرق تجديد شيء يوجبه ولو لم يكن فيه سنة بينة بمثل ما ذهب إليه كان ما وصفنا أولى المعنيين أن يؤخذ به لما وصفت من القياس" (الأم - باب بيع الخيار)
وهذا خلاف ما زعم أشهب أن أكثر أهل الحجاز لا يأخذون بهذا الحديث.
قال الشافعى: "وقد قال بعض أصحابنا: يجب البيع بالتفرق بعد الصفقة ويجب بأن يعقد الصفقة على خيار وذلك أن يقول الرجل لك بسلعتك كذا بيعا خيارا فيقول: قد اخترت البيع.
(قال الشافعي) : وليس نأخذ بهذا وقولنا الأول: لا يجب البيع إلا بتفرقهما أو تخيير أحدهما صاحبه بعد البيع فيختاره" (الأم - باب بيع الخيار)
وهذا القول الذى نسبه لبعض أصحابه هو قول لأحمد بن حنبل رحمه الله.
قال الشافعى: "فخالفنا بعض الناس فيما يجب به البيع فقال: إذا عقد البيع وجب ولا أبالي أن لا يخير أحدهما صاحبه قبل بيع ولا بعده ولا يتفرقان بعده.
(قال الشافعي) : فقيل لبعض من قال هذا القول إلى أي شيء ذهبت في هذا القول؟ قال أحل الله البيع وهذا بيع وإنما أحل الله عز وجل منه للمشتري ما لم يكن يملك ولا أعرف البيع إلا بالكلام لا بتفرق الأبدان فقلت له: أرأيت لو عارضك معارض جاهل بمثل حجتك فقال مثل ما قلت أحل الله البيع ولا أعرف بيعا حلالا وآخر حراما وكل واحد منهما يلزمه اسم البيع ما الحجة عليه؟ قال إذ نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله عز وجل معنى ما أراد.
(قال الشافعي) : قلت له ولك بهذا حجة في النهي فما علمنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سن سنة في البيوع أثبت من قوله «المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا» فإن ابن عمر وأبا برزة وحكيم بن حزام وعبد الله بن عمرو بن العاص يروونه ولم يعارضهم أحد بحرف يخالفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نهى عن الدينار بالدينارين، فعارض ذلك أسامة بن زيد بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلافه، فنهينا نحن وأنت عن الدينار بالدينارين وقلنا هذا أقوى في الحديث ومع من خالفنا مثل ما احتججت به أن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا وأن نهيه عن الربا خلاف ما رويته ورووه أيضا عن سعد بن أبي وقاص وابن عباس وعروة وعامة فقهاء المكيين" (الأم - باب الخلاف فيما يجب به البيع)
قال الشافعى: "قال: لا ولكني أقول إنه ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قلت وبه أقول ولكن معناه على غير ما قلت، قلت فاذكر لي المعنى الذي ذهبت إليه فيه قال المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا في الكلام قال فقلت له الذي ذهبت إليه محال لا يجوز في اللسان قال وما إحالته؟ وكيف لا يحتمله اللسان؟ قلت إنما يكونان قبل التساوم غير متساومين ثم يكونان متساومين قبل التبايع ثم يكونان بعد التساوم متبايعين ولا يقع عليهما اسم متبايعين حتى يتبايعا ويفترقا في الكلام على التبايع (قال) : فقال فادللني على ما وصفت بشيء أعرفه غير ما قلت الآن.
(قال الشافعي) : فقلت له أرأيت لو تساومت أنا وأنت بسلعة رجل امرأته طالق إن كنتما تبايعتما فيها؟ قال فلا تطلق من قبل أنكما غير متبايعين إلا بعقد البيع، قلت وعقد البيع التفرق عندك في الكلام عن البيع؟ قال نعم، قلت أرأيت لو تقاضيتك حقا عليك، فقلت والله لا أفارقك حتى تعطيني حقي متى أحنث، قال إن فارقته ببدنك قبل أن يعطيك حقك، قلت فلو لم تعرف من لسان العرب شيئا إلا هذا أما دلك على أن قولك محال وأن اللسان لا يحتمله بهذا المعنى ولا غيره؟ قال فاذكر غيره، فقلت له، أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه التمس صرفا بمائة دينار، قال فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا حتى اصطرف مني وأخذ الذهب يقلبها في يده ثم قال حتى يأتي خازني أو حتى تأتي خازنتي من الغابة.
(قال الشافعي) : أنا شككت وعمر يسمع فقال عمر والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» ، قلت له أفبهذا نقول نحن وأنت إذا تفرق المصطرفان عن مقامهما الذي تصارفا فيه انتقض الصرف وما لم يتفرقا لم ينتقض؟ فقال: نعم قلت له فما بان لك وعرفت من هذا الحديث أن التفرق هو تفرق الأبدان بعد التبايع لا التفرق عن البيع؛ لأنك لو قلت تفرق المتصارفان عن البيع قبل التقابض لبعض الصرف دخل عليك أن تقول لا يحل الصرف حتى يتراضيا ويتوازنا ويعرف كل واحد منهما ما يأخذ ويعطي ثم يوجبا البيع في الصرف بعد التقابض أو معه، قال لا أقول هذا، قلت ولا أرى قولك التفرق تفرق الكلام إلا جهالة أو تجاهلا باللسان" (الأم - باب الخلاف فيما يجب به البيع)
قال الشافعى: "فقال: دعه. قلت نعم بعد العلم مني بأنك إنما عمدت ترك الحديث وأنه لا يخفى أن قطع الخيار البيع التفرق أو التخيير كما عرفته في جوابك قبله" (الأم - باب الخلاف فيما يجب به البيع)
قال الشافعى: "فقال، فإنا روينا عن عمر أنه قال، البيع عن صفقة أو خيار، قلت أرأيت إذا جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما وصفت لو كان قال رجل من أصحابه قولا يخالفه ألا يكون الذي تذهب إليه فيه أنه لو سمع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا لم يخالفه إن شاء الله تعالى، وتقول قد يعزب عن بعضهم بعض السنن؟ قال: بلى قلت أفترى في أحد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة؟ فقال عامة من حضره: لا، قلت: ولو أجزت هذا خرجت من عامة سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليك ما لا تعذر منه، قال فدعه، قلت فليس بثابت عن عمر، وقد رويتم عن عمر مثل قولنا، زعم أبو يوسف عن مطرف، عن الشعبي أن عمر قال البيع عن صفقة أو خيار.
(قال الشافعي) : وهذا مثل ما روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فهذا منقطع قلت وحديثك الذي رويت عن عمر غلط، ومجهول، أو منقطع، فهو جامع لجميع ما ترد به الأحاديث، قال لئن أنصفناك ما يثبت مثله، فقلت احتجاجك به مع معرفتك بمن حدثه وعمن حدثه ترك النصفة" (الأم - باب الخلاف فيما يجب به البيع)
وهذا كله رد على محمد بن الحسن ومن قال بقول أبى حنيفة.
قال الشافعى: "فعارضنا غير هذا بأن قال فأقول إن ابن مسعود روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع والمبتاع بالخيار» (قال الشافعي) : وهذا الحديث منقطع عن ابن مسعود والأحاديث التي ذكرناها ثابتة متصلة فلو كان هذا يخالفها لم يجز للعالم بالحديث أن يحتج به على واحد منها؛ لأنه لا يثبت هو بنفسه فكيف يزال به ما يثبت بنفسه ويشده أحاديث معه كلها ثابتة؟ .
(قال الشافعي - رحمه الله تعالى -) : ولو كان هذا الحديث ثابتا لم يكن يخالف منها شيئا من قبل أن هذين متبايعان إن تصادقا على التبايع واختلفا في الثمن فكل واحد منهما يختار أن ينفذ البيع إلا أن تكون دعواهما مما يعقد به البيع مختلفة تنقض أصله ولم يجعل الخيار إلا للمبتاع في أن يأخذ أو يدع وحديث البيع بالخيار جعل الخيار لهما معا من غير اختلاف في ثمن ولا ادعاء من واحد منهما بشيء يفسد أصل البيع ولا ينقضه إنما أراد تحديد نقض البيع بشيء جعل لهما معا وإليهما إن شاءا فعلاه، وإن شاءا تركاه.
(قال الشافعي) : ولو غلط رجل إلى أن الحديث على المتبايعين اللذين لم يتفرقا من مقامهما لم يجز له الخيار لهما بعد تفرقهما من مقامهما، فإن قال فما يغني في البيع اللازم بالصفقة أو التفرق بعد الصفقة؟ قيل لو وجب بالصفقة استغني عن التفرق ولكنه لا يلزم إلا بهما ومعنى خياره بعد الصفقة كمعنى الصفقة والتفرق وبعد التفرق فيختلفان في الثمن فيكون للمشتري الخيار كما يكون له الخيار بعد القبض وقبل التفرق وبعد زمان إذا ظهر على عيب، ولو جاز أن نقول إنما يكون له الخيار إذا اختلفا في الثمن لم يجز أن يكون له الخيار إذا ظهر على عيب وجاز أن يطرح كل حديث أشبه حديثا في حرف واحد لحروف أخر مثله، وإن وجد لهما محمل يخرجان فيه" (الأم - باب الخلاف فيما يجب به البيع)
وهذا رد على مالك وأصحابه. والمشرقيون هم العراقيون وأصحاب أبى حنيفة.