إشكال وجواب,فائدة النص على مسألة زنا المرأة ضرورة في كتب الفقه:
يستشكل بعض الطلاب هذا النصمن كتاب في الفقه المالكي حول إباحة زنا المرأة للضرورة، والنص كما في الكتاب:"ان - المرأة إذا زنت من أجل حفظ حياتها . ولا يتوقف ذلك على سد الرمق بل : إذا وجدت من يزني بها ويشبعها ، ومن يزني بها ويسد رمقها زنت بمن يشبعها والحد على الرجل الزاني فقط .
( والأجمل لها عند الله تعالى أن تصبر على الموت جوعاً على الزنا ؛ لأن الصبر أفضل وأكثر ثواباً .
ومثل ذلك في الرخصة إذا زنت من أجل قوت صبيانها .
ومحلّ الرخصة لحفظ حياتها وحياة صبيانها إذا لم تجد مبينة أو لحم خنزير فلا يجوز إقدامها على ذلك وجود ما ذكر ، لما تقدم أنها مباحة للمضطر
ومثل المرأة الرجل من أجل حفظ حياته ولو بميتة أو لحم خنزير ، فإذا لم يجد إلا أن يزني بامرأة تعطيه ما يحفظ به حياته فالجواز بشرط أن تكون طائعة ، غير ذات زوج
وأما الولد أو الرجل فلا يجوز له أن يمكن غيره أن يفعل به فعل قوم لوط .
ولو أدى به الجوع لموته".
والإشكال عندهم من جهتين:
--مسوغ الفتيا بذلك مع عدم النص عليه صراحة في الأدلة، ومع فداحة جريمة الزنا.
--الفائدة من تعلمه مع قلة وقوعه.
وليس المقصود من هذه الأسطر استيعاب الكلام حول خلاف العلماء في هذه المسألة، وإنما هو محاولة تنوير من يستشكل إيراد أمثال هذه المسائل، وتدريسها.
ولفهم ذلك بتوفيق الله يجب أن يعلم أن المسائل على ضربين:
--ضرب شائع الوقوع ويحتاج إليها المسلمون عامة: فهذه جاءت مبينة موضحة في نصوص الشرع بما لا يدع مجالا للاستشكال، وإنما يدخلها النظر في بعض تفريعاتها.
--ومسائل تستحدث أو أكثرها وقائع عين تعرض لأفراد, فبينت الشريعة أصول أبوابها، وضوابطها التي تنظمها.
فأما ما لم يقع فكان السلف الأولون حين يسألون عنها يقولون: وهل وقعت؟ فإن قيل: لا، قالوا دعوها حتى تقع، وقد إثر ذلك عن مالك رحمه الله وغيره،وبعض العلماء وهم أهل الرأي من الفقهاء كان يشيع بينهم الخوض في تلك المسائل التي لم تقع يقولون: نفصل الكلام فيها، لعلها تقع فلا يجد المستفتي من يبين له الحكم وقت الحاجة إليها، وقد كانت تصدر المسائل التي كانوا يتباحثون فيها من هذا الشأن بقولهم: أرأيت إذا وقع كذا وكذا، وعبارة نحوا من هذه.
جاء في أصول الفقه لابن مفلح:
" ولا يلزم جواب ما لم يقع، وما لا يحتمله السائل ولا ينفعه.
سئل أحمد عن يأجوج ومأجوج أمسلمون هم؟ فقال للسائل: أَحْكَمتَ العلم حتى تسأل عن ذا؟
وسئل عن مسألة في اللعان، فقال: سَلْ -رحمك الله- عما ابتليت به.
وسأله مهنا عن مسألة، فغضب، وقال: خذ -ويحك- فيما تنتفع به، وإياك وهذه المسائل المحدثة، وخذ فيما فيه حديث.
وسئل عن مسألة، فقال: ليت أنا نُحْسن ما جاء فيه الأثر.
ولأحمد عن ابن عمر: "لا تسألوا عما لم يكن، فإِن عمر نهى عنه ".
وله -أيضًا- عن ابن عباس: أنه قال عن الصحابة: ما كانوا يسألون إِلا عما ينفعهم واحتج الشافعي على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه بقوله: (لا تسألوا عن أشياء) الآية وكان ﵇ ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وفي لفظ: (إِن الله كره لكم ذلك) متفق عليهما.
وفي حديث اللعان: "فكره ﵇ المسائل وعابها".
وقد بحث العلماء سبب كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المسائل، وبينوا نوع المسائل التي كرهها، وحديث اللعان المذكور, " أنَّ عُوَيمرًا العَجْلانيَّ أتى عاصمَ بنَ عديٍّ وكان سيِّدَ بني العَجْلانِ فقال: كيف تقولونَ في رجلٍ وجَد مع امرأتِه رجلًا أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يصنَعُ ؟ فقال: سَلْ لي رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك قال: فأتى عاصمٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ رجلٌ وجَد مع امرأتِه رجلًا أيقتُلُه فتقتُلونه أم كيف يصنَعُ ؟ فكرِه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المسائلَ وعابها فأتى عُوَيمرًا فقال له: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد كرِه المسائلَ وعابها فقال عويمرٌ: واللهِ لا أنتهي حتَّى أسأَلَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك ..." الحديث.
وفي رواية لأبي داود, " فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال له: يا عاصم! ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير؛ قد كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسألة التي سألته عنها".
وفي رواية للحديث في صحيح مسلم عن ابن عمر: " قَالَ سُبْحَانَ اللهِ نَعَمْ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ أَنْ لَوْ وَجَدَ أَحَدُنَا امْرَأَتَهُ عَلَى فَاحِشَةٍ كَيْفَ يَصْنَعُ إِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَالَ فَسَكَتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُجِبْهُ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَاهُ فَقَالَ إِنَّ الَّذِي سَأَلْتُكَ عَنْهُ قَدْ ابْتُلِيتُ بِهِ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ في سُورَةِ النُّورِ".
وفي رواية عند أحمد وأبي يعلى عن ابن عباس, " لمَّا نزَلَتْ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] قال سعدُ بنُ عُبادةَ، وهو سيدُ الأنصارِ: أهكذا أُنزِلتْ يا رسولَ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يا مَعْشرَ الأنصارِ، ألَا تسمَعونَ إلى ما يقولُ سيِّدُكم؟، قالوا: يا رسولَ اللهِ، لا تَلُمْه، فإنَّه رجُلٌ غَيورٌ، واللهِ ما تزوَّجَ امرأةً قطُّ إلَّا بِكرًا، وما طلَّقَ امرأةً له قطُّ، فاجتَرأَ رجُلٌ منَّا على أنْ يتزوَّجَها من شدةِ غَيْرَتِه، فقال سعدٌ: واللهِ يا رسولَ اللهِ، إنِّي لأعلَمُ أنَّها حقٌّ، وأنَّها من اللهِ، ولكنِّي قد تعجَّبْتُ أنِّي لو وجدتُ لَكاعًا قد تفَخَّذَها رجُلٌ لم يكُنْ لي أنْ أُهيِّجَه ولا أُحرِّكَه، حتى آتِيَ بأربعةِ شُهداءَ، فواللهِ لا آتي بهم حتى يقضِيَ حاجتَه، قال: فما لبِثوا إلا يسيرًا، حتى جاء هِلالُ بنُ أُميَّةَ، وهو أحدُ الثلاثةِ الذين تِيبَ عليهم، فجاءَ من أرضِه عِشاءً، فوجَدَ عندَ أهلِه رجُلًا، فرأى بعَيْنَيْه، وسمِعَ بأُذُنَيْه، فلم يُهِجْه ، حتى أصبَحَ، فغدا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنِّي جئتُ أهلي عِشاءً، فوجَدتُ عندَها رجُلًا، فرأيتُ بعَيْنَيَّ، وسمِعتُ بأُذُنَيَّ، فكَرِه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما جاء به، واشتَدَّ عليه، واجتَمعَتِ الأنصارُ، فقالوا: قد ابتُلِينا بما قال سعدُ بنُ عُبادةَ، الآنَ يضرِبُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هِلالَ بنَ أُمَيَّةَ، ويُبطِلُ شهادتَه في المسلمينَ""، الحديث.
علق الشيخ عبد المحسن العباد على قول راوي الحديث, فقال:
" فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها"، فقال: فكره الرسول صلى الله عليه وسلم هذه المسائل وعابها، وهذه الكراهية إنما تكون في الشيء الذي لم يقع والناس في عافية منه، وأما إذا وقع الشيء وسئل عنه فإن ذلك لا بأس به؛ لأن السؤال سيكون حينئذ في أمر قد حصل ولا بد من معرفة الحكم فيه، وأما إذا كان السؤال في شيء فيه عنت وفيه مشقة، كقصة الرجل الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، قال: أفي كل عام يا رسول الله؟) فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (ذروني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، ولو قُلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ما استطعتم).
فقوله: (فكره المسائل وعابها) أي: التي من هذا القبيل، إذ لا ينبغي للإنسان أن يسأل عن الأشياء التي لم تقع، ولكن الإنسان إذا ابتلي بشيء فليسأل عنه ليعرف الحكم الشرعي".
وفي فتح الباري لابن حجر (9/449):" قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَقَعْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَكِنِ اتَّفَقَ أَنَّهُ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ إِرَادَةُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْحُكْمِ فَابْتُلِيَ بِهِ كَمَا يُقَالُ الْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ".
إلى أن قال:
"وَقَالَ النَّوَوِيُّ الْمُرَادُ كَرَاهَةُ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُحْتَاجُ إِلَيْهَا لَا سِيَّمَا مَا كَانَ فِيهِ هَتْكُ سِتْرِ مُسْلِمٍ أَوْ إِشَاعَةُ فَاحِشَةٍ أَوْ شَنَاعَةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَسَائِلَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا إِذَا وَقَعَتْ فَقَدْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ عَنِ النَّوَازِلِ فَيُجِيبُهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي سُؤَالِ عَاصِمٍ شَنَاعَةٌ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَسْلِيطُ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِي نَ عَلَى أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ كَرِهَ مَسْأَلَتَهُ وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ تَضْيِيقٌ وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيْسِيرَ عَلَى أُمَّتِهِ وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ كَثِيرَةٌ .
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ إِلَّا لِكَثْرَةِ السُّؤَالِ أَخْرَجَهُ الْخَطِيبُ فِي الْمُبْهَمَاتِ مِنْ طَرِيقِ مَجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْهُ".
وإنما قطع كلام ابن مفلح في الأصول بالاستطراد بذكر الحديث لبيان شيء من الهدي النبوي في التعامل مع السؤال عما لم يقع، ثم بيان كلام السلف في الحكم التي من أجلها كان النهي عن الكلام فيما لم يقع، منها ما يعود لزمن الوحي، ومنها ما هو عام إلى يومنا هذا.
وعودا على بدء, فقد قال ابن مفلح في الأصول بعد ذلك:
" قال البيهقي "كره السلف السؤال عن المسألة قبل كونها إِذا لم يكن فيها كتاب أو سنة؛ لأن الاجتهاد إِنا يباح ضرورة"، ثم روى عن معاذ: "أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن -مرسلاً- معناه. وقال ابن عباس لعكرمة: "من سألك عما لا يعينه فلا تفته"، وسأل المروذي لأحمد عن شيء من أمر العدل، فقال: لا تسأل عن هذا؛ فإِنك لا تدركه".
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح ج2 ص71--72
" وَقَالَ طَاوُسِ عَنْ عُمَرَ لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَسْأَلُوا عَمَّا لَمْ يَكُنْ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي الْفَتْحُ بْنُ بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيْحٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: وَإِيَّاكُمْ وَهَذِهِ الْعَضْلَ فَإِنَّهَا إذَا نَزَلَتْ بَعَثَ اللَّهُ لَهَا مِنْ يُقِيمُهَا أَوْ يُفَسِّرُهَا، وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَحْوُ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ رَاشِدٍ قَالَ: سَأَلْتُ طَاوُسًا عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: أَكَانَ هَذَا قُلْتُ نَعَمْ. فَحَلَّفَنِي فَحَلَفْت لَهُ.فَقَالَ: إنَّ أَصْحَابَنَا حَدَّثُونَا عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَعَجَّلُوا بِالْبَلَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ فَيَذْهَبَ بِكُمْ هَهُنَا وَهَهُنَا وَإِنَّكُمْ إنْ لَمْ تَعَجَّلُوا لَمْ يَنْفَكَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ إذَا سُئِلَ سُدِّدَ، أَوْ قَالَ وُفِّقَ " وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ.... وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ انْطَلِقْ فَأَفْتِ النَّاسَ فَمَنْ سَأَلَكَ عَمَّا يَعْنِيهِ فَأَفْتِهِ، وَمَنْ سَأَلَكَ عَمَّا لَا يَعْنِيهِ فَلَا تُفْتِهِ فَإِنَّك تَطْرَحُ عَنْ نَفْسِك ثُلْثَيْ مُؤْنَةِ النَّاسِ.وَرَوَ هُ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ وَفِيهِ انْطَلِقْ فَأَفْتِ النَّاسَ وَأَنَا لَكَ عَوْنٌ قَالَ قُلْتُ لَوْ أَنَّ هَذَا النَّاسَ مِثْلَهُمْ مَرَّتَيْنِ لَأَفْتَيْتُهُم ْ".
ومما نقله ابن مفلح رحمه الله في الترخيص في الكلام في هذه المسائل ما نقله ص71 فقال:
" وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَبَلَغَنِي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّهُ أَبَاحَ ذَلِكَ لِلْمُتَفَقِّهَ ةِ لِيُرْشِدُوا إلَى طَرِيقِ النَّظَرِ قَالَ: وَالرَّأْيِ، قَالَ وَعَلَى ذَلِكَ وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَسَائِلَ الِاجْتِهَادِ وَأَخْبَرُوا بِآرَائِهِمْ فِيهَا".
فهذا كلام السلف في النهي عن الكلام فيما لم يقع، وبعده ذكر سبب تجويز من جوز الكلام فيها، وإذا كان عدم الخوض هو الأصل وهو ما دل عليه الدليل، وتبينت الحكمة فيه، وكان غيره هو الفرع، فإنه لا يعدل عن الأصل إلى الفرع إلى عند الضرورة أو الحاجة، والضرورة تقدر بقدرها.
فالمسائل غير الشائعة مسائل يحتاج إليها أفراد معلوم أنه قد يخص فرد بحكم دون غيره, لظروف خاصة به لا يشاركه فيها إلا من كان حاله مثل حاله، ولو أشيع الحكم فيها بين الناس ترخص فيها من لا تنطبق عليه شروط رخصة ذلك الفرد، فيحصل فساد عريض، وذلك من سماحة الشريعة وتوازنها في مراعاة التيسير على الناس دون إفساد للأحكام العامة التي هي مصلحة عامة للناس.
ومثال ذلك ترخيص بعض العلماء لبعض الشباب حلق لحاهم في دول كانت تضر بمن يعفون لحاهم، فكانوا يفتون من كانوا في تلك البلدان ولا يستطيعون الصبر بحلق لحاهم، ولا يشيعون ذلك بين العامة.
فالحاصل أن ما شاعت الحاجة إليه من المسائل والأحكام فصلته الشريعة تفصيلا، وما لم يكثر وقوعه أو قد يحتاج إليه فيما بعد فالأصل ألا يبحث فيه إلا عند الحاجة إليه، قال شيخ الإسلام في الاستقامة ص 8 :
"وإنما ظن كثير من الناس الحاجة إلى الرأي المحدث لأنهم يجدون مسائل كثيرة وفروعا عظيمة لا يمكنهم إدخالها تحت النصوص كما يوجد في فروع من ولد الفروع من فقهاء الكوفة ومن أخذ عنهموجواب هذا من وجوه:
أحدها ان كثيرا من تلك الفروع المولد المقدرة لا يقع أصلا وما كان كذلك لم يجب أن تدل عليه النصوص ومن تدبر ما فرعه المولدون من الفروع في باب الوصايا والطلاق والأيمان وغير ذلك علم صحة هذا الوجه.
الثاني أن تكون تلك الفروع والمسائل مبنية على أصول فاسدة فمن عرف السنة بين حكم ذلك الأصل فسقطت تلك الفروع المولدة كلها، وهذا كما فرعه صاحب الجامع الكبير فإن غالب فروعه كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي أنه كان يقول مثله مثل من بنى دارا حسنة على أساس مغصوب فلما جاء صاحب الأساس ونازعه في الاساس وقلعه انهدمت تلك الدار".
فهذا التشبيه البديع, (بناء دار حسنة على أرض مغصوبة)، يبين حقيقة أكثر ما بحث فيه مما لم يقع، فهو على الرغم مما فيه من فائدة تكون كالدار الحسنة، إلا أن فيه من الإشكالات التي كان من أجلها سد باب البحث فيها أولى من التفصيل في تفريعات قد لا يحتاج إليها الزمن الطويل، جاء في مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة, ج1 ص18:
"[٢ ـ فصل [في علم المعاملة]]
فأما علم المعاملة وهو علم أحوال القلب، كالخوف، والرجاء، والرضى، والصدق، والإخلاص وغير ذلك، فهذا العلم ارتفع به كبار العلماء، وبتحقيقه اشتهرت أذكارهم، كسفيان [الثوري]، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
وإنما انحطت رتبة المسمين بالفقهاء والعلماء عن تلك المقامات، لتشاغلهم بصورة العلم من غير أخذ على النفس أن تبلغ إلى حقائقه وتعمل بخفاياه.
وأنت تجد الفقيه يتكلم في الِّظهار، واللِّعان، والسبع، والرمى، ويفرع التفريعات التي تمضى الدهور فيها ولا يحتاج إلى مسألة منها، ولا يتكلم في الإخلاص، ولا يحذر من الرياء، وهذا عليه فرض عين، لأن في إهماله هلاكه، والأول فرض كفاية.
ولو أنه سئل عن علة ترك المناقشة للنفس في الإخلاص والرياء لم يكن له جواب.
ولو سئل عن علة تشاغله بمسائل اللعان والرمي، لقال: هذا فرض كفاية، ولقد صدق، ولكن خفي عليه أن الحساب فرض كفاية أيضاً، فهلا تشاغل به، وإنما تبهرج عليه النفس، لأن مقصودها من الرياء والسمعة يحصل بالمناظرة، لا بالحساب.
واعلم: أنه بدلت ألفاظ وحرفت، ونُقلت إلى معان لم يردها السلف الصالح, فمن ذلك: الفقه، فإنهم تصرفوا فيه بالتخصيص، فخصوه بمعرفة الفروع وعللها، ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول منطلقاً على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب, ولذلك قال الحسن [البصري] رحمه الله: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الوَرِع الكافُّ عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لهم.
فكان إطلاقهم اسم الفقه على علم الآخرة أكثر، لأنه لم يكن متناولاً للفتاوى، ولكن كان متناولاً لذلك بطريق العموم والشمول، فثار من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد لعلم الفتاوى الظاهرة، والإِعراض عن علم المعاملة للآخرة".
وما لم يقع لو وقع له سبيلان:
--الأول: إما التعويل فيه على رأي سبق، وهذا وإن وفر على الباحث شيئا من الوقت والجهد، فلا ينافي خصوصيات لواقعة العين قد تغير الحكم بالاجتهاد السابق.
--الثاني: اجتهاد مستحدث, يكون للمجتهد شأنه شأن المجتهد فيما لم يقع رأس المال أو الأصول ذاتها التي يبنى عليها الحكم.
فالاجتهاد السابق فيما لم يقع حين يقع لا يعفي المفتي أو القاضي من النظر، أي لا يوفر له قوالب جاهزة يستعملها في راحة تامة، والاختلافات في الاجتهادات السابقة حول ما لم يقع قد يعطي مجالا أرحب للنظر، وقد يوقع في حيرة والتباس.
ولا يفهم من ذلك ذم الفقه بالكلية، أو أنه بدعة ومحدث، فالفقه في الاصطلاح يبحث في معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، لكن المقصود ترتيب الأولويات، وعدم التشاغل بما قد لا يحتاج إليه الزمن الطويل، فإن وقع قيض الله له من يبين حكمه، كما مر من نقول السلف رحمهم الله، وهذا كان من الفوارق العظيمة بين مدرستي, أهل الحديث، وأهل الرأي، والرأي منه محمود ومذموم كما ذكر أهل العلم، في تفاصيل ليس هذا موضعها.
فإن تبين هذا فما جدوى ذكر هذه التفريعات من أمثال مسألة زنا المرأة للضرورة في كتب الفقه؟
وللجواب عن هذا يقال: إن المتعامل مع كتب الفقه لا يخلو من أحوال, فإما أن يكون مفتيا أو قاضيا، وإما أن يكون عالما أو متعلما، فالعالم والمتعلم فائدتهما الدرس والتدارس لمعرفة سبيل استنباط الأحكام، وهما المعنيان بالمنقول من منهاج القاصدين في مراعاة الأولويات، وعدم التشاغل بما قد لا يحتاج إليه الزمن الطويل، وبين الإفراط والتفريط سبيل القصد، فيكفي المثال والمثالان والعشرة في ترسيخ تطبيق شروط الضرورة، والمثال يحفظ ويقاس عليه، كما ستراه من كلام الشيخ ابن العثيمين في بيان شروط الضرورة.
والمهم أن تعاملهما مع كتب الفقه تعامل نظري، يستحضر فيه ما جاء في المنقول من كتاب منهاج القاصدين، وذكر البحث في مسألة زنا المرأة للضرورة يكون من باب الدربة والامتحان, ليكون قادرا على التعامل مع هذه المسألة وأمثالها في الواقع العملي.
وأما تعامل القاضي أو المفتي من حيث الواقع العملي فهو الذي ينصب عليه كلام السلف في الخوض فيما لم يقع، وقد علمت أن للسلف موقفين, موقف ينهى عن البحث فيما لم يقع، وموقف يجعلها من باب الدربة والمران، ومر تفصيل ما تيسر مما يغني عن الإعادة.
وما جدوى انتفاعهما بذكر الحكم العام في المسألة في كتب الفقه؟
تعامل القاضي أو المفتي مع هذه المسألة له صور, منها:
--الصورة الأولى, أن تكون جناية في واقعة: ومعلوم أن قضاء القاضي لا يكون في أمر افتراضي، بل في دعوى قضائية، فيها مدع، ومدعى عليه، ونظر في بينات وشهود، والقاضي عندها يحتاج للتثبت ما إن كانت المرأة المتلبسة بالزنا زنت لضرورة لدفع جوع يسبب لها الموت أو لبنيها، والقاضي الشرعي كما الفقيه لا شك يعرف شروط الضرورة وأنها تقدر بقدرها، وسيعمل في حكمه على تلك المرأة بالقرائن المتوفرة لديه، فهي مسألة قضائية، وهذا الوجه لا يخرج المسألة عن كونها وقائع تتعلق بأفراد، والحكم فيها سيكون بعد وقوع الواقعة، فإن رأى أن شروط الضرورة توفرت فسيحكم بدفع الحد عنها من باب, {فمن اضطر غير باغ ولا عاد}، ومن باب الحديث, {ادرأوا الحدود بالشبهات}، وقد عطل عمر رضي الله عنه حد السرقة في عام الرمادة لما فشت المجاعة، فلو أن قاضيا قضى في مثل هذه القضية بدون النظر بما خطه الفقهاء في هذه المسألة بالخصوص، بل طبق الأصول العامة للضرورة ودرؤ الحد بالشبهات لعله لا يستحق اللوم، فكلام الفقهاء ومنه النص المذكور أعلاه عام لا يغني القاضي عن البحث في القرائن والحكم بناء عليها، وكلام الفقهاء في المسألة سيكون نظريا ولن يكون له أي أثر واقعي إلا بعد الوقوع، ولهذا لا تلام الشريعة في تركها النص نصا صريحا بالخصوص على حكم من زنت للضرورة، وما في حكمها من المسائل الخاصة، أو ما يعبر عنه في كتب العلم بوقائع العين، بل كان من حكمة العليم الحكيم النص على أصل باب تلك المسائل، وضابطها العام, كالنص على شروط الضرورة, {غير باغ ولا عاد}، {في مخمصة غير متجانف لإثم}، والنص على درء الحدود بالشبهات دون التفريع بذكر المسائل المخصوصة، لأن المسائل المخصوصة المتعلقة بالظروف الاستثنائية لها وجوه متعددة، ويطول الكلام بذكرها، وبعضها غير شائع الوقوع، وإن كان يمكن أن يقع، فنص على أصل بابها دون ذكر تفريعاتها هو الحكمة، ويترك تطبيق ذلك لولي الأمر ونوابه، ولعل هذا هو السبب في تطويل كتب الفقه طولا شديدا، وكثرتها، بحيث يحتاج النظر فيها لأعمار مع عمر الإنسان، مع أنها كلها تدور على الأبواب ذاتها، ولذلك حذر من حذر من السلف من باب تخريج الفروع على الأصول وما أشبهه، وقد مر النقل من كتاب منهاج القاصدين، وذلك أن المرؤ قد يفني عمره في البحث في مسائل قد لا تدعوا الحاجة إليها الزمن الطويل.
--الصورة الثانية: أن تستفتي امرأة مفتيا في واقعة وقعت لها، وتدعي أن ذلك كان ضرورة، والمفتي كما هو معلوم يفتي السائل بحسب ما يسمع منه، ويكل سريرته لله، وهذه الصورة أيضا من وقائع الأعيان، لا يفتى فيها إلا بعد الوقوع، فقد لا يحتاج فيها المفتي لكلام سابق ما دام قادرا على الاجتهاد فيها متى ما كان أهلا لذلك، فهو ليس مجرد حافظ يردد ويسرد أقوال المذاهب ههنا، بل مطلوب منه إعمال الأصول في الفتوى.
--الصورة الثالثة: أن تقع حاجة فردية, ولذلك نظير منصوص عليه في السنة, وهو حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، وفيهكما في البخاري: " فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا"، قال ابن حجر في فتح الباري عند شرح الحديث (6/509):
"وَفِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ فَلَمَّا أَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا بَكَتْ فَقُلْتُ مَا يبكيك قَالَت فعلت هَذَا من الْحَاجة فَقَالَت انْطَلِقِي وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ النُّعْمَانِ أَنَّهَا تَرَدَّدَتْ إِلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ مَعْرُوفِهِ وَيَأْبَى عَلَيْهَا إِلَّا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَأَجَابَتْ فِي الثَّالِثَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْذَنَتْ زَوْجَهَا فَأَذِنَ لَهَا وَقَالَ لَهَا أَغْنِي عِيَالَكِ قَالَ فَرَجَعَتْ فَنَاشَدَتْنِي بِاللَّهِ فَأَبَيْتُ عَلَيْهَا فَأَسْلَمَتْ إِلَيَّ نَفْسَهَا فَلَمَّا كَشَفْتُهَا ارْتَعَدَتْ مِنْ تحتي فَقلت مَالك قَالَتْ أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَقُلْتُ خِفْتِيهِ فِي الشِّدَّةِ وَلَمْ أَخَفْهُ فِي الرَّخَاءِ فَتَرَكْتُهَا وَفِي حَدِيث بن أَبِي أَوْفَى فَلَمَّا جَلَسْتُ مِنْهَا مَجْلِسَ الرَّجُلِ من الْمَرْأَة أذكرت النَّارَ فَقُمْتُ عَنْهَا وَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ مُمْكِنٌ وَالْحَدِيثُ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا".
ففي هذا النص بيان أنها كانت ذات زوج لو صحت رواية النعمان رضي الله عنه، وفيها أنها استأذنت زوجها وأذن لها، قال الشيخ ابن عثيمين في التعليق على القصة من رياض الصالحين ج1 ص81:
"فأرادها على نفسها)) أي أراداه- والعياذ بالله- بالزنا؛ ليزني بها، ولكنها لم توافق وابت، فألمت بها سنة من السنين، أي: اصابها فقر وحاجةن فاضطرت إلى أن تجود بنفسها في الزنا من أجل الضرورة، وهذا لا يجوز، ولكن على كل حال؛ هذا الذي حصل".
وفي الحديث, "ألمت بها سنة"، دليل على أن الحاجة كانت فردية، ولم تكن مجاعة عامة، وفي الحديث, فضيلة إخلاص الرجل، وفضيلة خوفهما من الله ، وليس فيه بيان عذر لها في الزنا، لم يأت في الحديث أنها لو زنت لكانت معذورة، بل جاء في الحديث التفريج عنها بخوفها من الله.
وليتأمل القارئ قول الشيخ ابن عثيمين: " فاضطرت إلى أن تجود بنفسها في الزنا من أجل الضرورة، وهذا لا يجوز، ولكن على كل حال؛ هذا الذي حصل"، ولعله حكم من الشيخ في الواقعة بعدم توفر شروط الضرورة، فإنه ذكر الضرورة وشروطها فقال في "شرح منظومة أصول الفقه وقواعده (صـ 59 – 61):
"وهذه القاعدة من القواعد الفقهية الأصولية التي دل عليها الشرع ، "كل شيء ممنوع فإنه يحل للضرورة" ...فالممنوع يباح للضرورة ولكن بشرطين :
الشرط الأول : أن نضطر إلى هذا المحرم بعينه ، بمعنى : أن لا نجد شيئاً يدفع الضرورة إلا هذا الشيء المحرم ، فإن وجد سواه فإنه لا يحل ، ولو اندفعت الضرورة به .
الشرط الثاني : أن تندفع الضرورة به ، فإن لم تندفع الضرورة به فإنه يبقى على التحريم ، وإن شككنا هل تندفع أو لا ؟ فإنه يبقى أيضاً على التحريم ، وذلك لأن ارتكاب المحظور مفسدة متيقنة ، واندفاع الضرورة به مشكوك فيه ، ولا ينتهك المحرم المتيقن لأمر مشكوك فيه.
ومن ثَمَّ يختلف الحكم في رجل جائع لم يجد إلا ميتة ، فهنا نقول : كُلْ من الميتة .
فإذا قال : هذا انتهاك للمحرم ، قلنا : حَلَّ لك للضرورة ، لأنه ليس عندك ما تأكله سوى هذا ، ولأنك إذا أكلت اندفعت الضرورة به .
ورجل قيل له : إن تناول الخمر يشفيك من المرض ، فهنا نقول : لا يحل لك أن تتناول الخمر ولو قيل لك : إنه يشفيك من المرض.
لماذا؟
أولاً : لأنه لا يتيقن الشفاء به ، فإنه ربما يشربه ولا يبرأ من المرض ، فإننا نرى كثيراً من المرضى يتناولون أدوية نافعة ، ثم لا ينتفعون بها .
ثانياً : أن المريض قد يبرأ بدون علاج ، بتوكله على الله ، ودعائه ربه ، ودعاء الناس له ، وما أشبه ذلك.
هذا من حيث التعليل.
أما من حيث الدليل ؛ فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) فهذا الحكم معقول العلة ، لأن الله سبحانه لم يحرمه علينا إلا لأنه ضار بنا ، فكيف يكون المحرم شفاءً ودواءًً؟
ولهذا يحرم التداوي بالمحرم ، كما نص عليه أهل العلم ، ولا يقال : هذا ضرورة ؛ كما يظنه بعض الناس.
لو قال قائل : إنسان غَصَّ ، وليس عنده إلا كوب خمر ، فهل يجوز أن يشرب هذا الكوب لدفع الغصة؟
الجواب : يجوز ، لأن الشرطين وجدا فيه.
فهو قد اضطر إلى هذا بعينه ، ونتيقن زوال الضرورة به ، فنقول : اشرب الخمر ، ولكن إذا زالت الغصة فكفَّ عن الشراب.
لو قال قائل : رجل وجد لحماً مذبوحاً حلالاً ولحماً لحيوان ميت ، فهل له أكل الميت لكونه مضطراًّ لذلك؟
.
.
فهل أشرب؟الجواب : لا ، كما قال العلماء ، لأنه لا تندفع به الضرورة ، بل لا يزيده إلا عطشاً ، فإذاً لا فائدة من انتهاك المحرم ، لأنه لا تندفع به الضرورة ، فلم يتحقق .
ولو قال قائل : لو اضطر المريض إلى شرب الدم للتداوي به فهل يجوز له ذلك؟
الجواب : لا يجوز له ذلك ، لانتفاء الشرطين"".
فهذه فتوى الشيخ في واقعة عين لم يشهدها، لم يفتح فيها كتب الفقه التي تنص على إباحة زنا المرأة ضرورة خوف هلاكها بالجوع هي أو عيالها، وإنما لعله بنى حكمه على سبيل ما فهمه من القرائن من النص, أنه لم يكن يجوز لها فعل ذلك، مع أنه في النص, "ألمت بها سنة"، وهي قرينة يمكن أن يحكم بها أو يفتى لصالح المرأة، لكن، ذكر إلمام السنة بها يفهم منه أنه واقعة عين فردية ويمكنها الاستغناء بغير الزنا, كسؤال غير ابن عمها ذاك مثلا، هذا كان حكم الشيخ في واقعة لم يشهدها فلم يحكم بما في كتب الفقه من نصوص خاصة بالمسألة، فكيف يكون الحال مع كلام فيما لم يقع؟!
--الصورة الرابعة, أن تنزل نازلة عامة, مجاعة، أو حرب، مما يسبب الفقر والحاجة، وأمثال هذه الظروف العامة مظنة وقوع مثل هذه الحادثة، فلا يعقل أن تصدر فتوى عامة بهذا الشأن، وإنما يتعامل القاضي أو المفتي مع كل حالة بحسبها.
--الصورة الخامسة, ادعاء امرأة تمتهن البغاء الضرورة والحاجة، وهذا أيضا مما يستدعي التعامل معه على أنه واقعة عين، يحكم فيها بخصوصها، دون النظر فيما ورد من نصوص خاصة حولها في كتب الفقه.
والحاصل أن انتفاعهما بإتقان أصول الباب والضوابط أنفع لهما وأعون على مقصودهما في الحكم في وقائع الأعيان، مع ما حصل لهما من ملكة في زمن التعلم والتعليم من قياس ونظر في القرائن بما تقتضيه الأدلة الشرعية، فلا يعقل أن قاضيا أو مفتيا تعرض له قضية أو واقعة تنطبق عليها شروط الضرورة، ويقول: لم يعطوني هذا المثال في دراستي، أو لا أجد هذه المسألة حرفيا في كتاب، لا يعقل أن يستفتى مفت أو يطلب من قاض الحكم في امرأة ادعت أنها زنت ضرورة فيقول لم يعلموني هذه المسألة بعينها، وإنما سبيل القاضي والمفتي تطبيق الأصول والقواعد والضوابط على وقائع الأعيان.
ومن تمام البحث أن يعلم أن العلماء اختلفوا في ارتكاب المحظور عند الضرورة هل هو واجب بحيث يأثم الإنسان إن لم يرتكب ذاك المحظور عند الضرورة، أو هو مباح أو رخصة؟
فمن قال بوجوب ارتكاب المحظور عند الضرورة بشروطها حكم على من لم يرتكب المحظور للضرورة بالإثم، وهو مستمد من لفظة الاضطرار، جاء في تفسير القرطبي لقوله تعالى في سورة البقرة, {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}، ما نصه:
"وَقَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ: مَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِإِلْكِيَا: وَلَيْسَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عاصيا، وَلَيْسَ [تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ مِنْ رُخَصِ السَّفَرِ أَوْ مُتَعَلِّقًا بِالسَّفَرِ بَلْ هُوَ مِنْ نَتَائِجِ الضَّرُورَةِ سَفَرًا كَانَ أَوْ حَضَرًا".
فتأمل أنهم أوجبوا عليه فعل المحظور ضرورة ولو كان في سفر فيه لمعصية الله، كما ذكر ذلك القرطبي فيما قبل المنقول من تفسير الآية، بخلاف الرخصة فأنه متى ما شرع المسافر في سفر معصية وما أشبهه لم يجز له الترخص برخص السفر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/547):
" وَالْمُضْطَرُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرِهِمْ".
وفي مجموع فتاوى شيخ الإسلام أيضا ج24 ص113--114:
"وكذلك أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَاجِبٌ عَلَى الْمُضْطَرِّ: سَوَاءٌ كَانَ فِي السَّفَرِ أَوْ الْحَضَرِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ ضَرُورَتُهُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ أَوْ مُحَرَّمٍ فَلَوْ أَلْقَى مَالَهُ فِي الْبَحْرِ وَاضْطُرَّ إلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَهَا وَلَوْ سَافَرَ سَفَرًا مُحَرَّمًا فَأَتْعَبَهُ حَتَّى عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا وَلَوْ قَاتَلَ قِتَالًا مُحَرَّمًا حَتَّى أَعْجَزَتْهُ الْجِرَاحُ عَنْ الْقِيَامِ صَلَّى قَاعِدًا"، ومن العلماء من يذهب إلى أن ارتكاب المحظور عند الضرورة رخصة أو مستحب، وفي نص الكتاب المنقول أعلاه حول زنا المرأة للضرورة:"والأجمل لها عند الله تعالى أن تصبر على الموت جوعاً على الزنا ؛ لأن الصبر أفضل وأكثر ثواباً"، ولعل نص الآيات مشعر به, ففي الآيات, {فلا إثم عليه}، وهي عبارة مصرحة برفع الإثم، ولم تأت عبارة الآية بلفظ يكون نصا في الإيجاب بأمره بالأكل ورفع الإثم وما أشبهها من صيغ الوجوب، والله أعلم.
فلو كانت العبارة في النص المنقول أعلاه, "فلا أثم عليها"، كما في الآية، بدل بالقول: " زنت بمن يشبعها والحد على الرجل الزاني فقط"، لكان أولى وأوفق للنص، لأن العبارة على هذا النحو مشعرة بأن زناها في تلك الحالة أولى وأرفق بها، وأنه الوجه المقدم، وهو ترجيح للرخصة على العزيمة، وهذا لا يستقيم مع قول المؤلف, " والأجمل لها عند الله ...".
الخلاصة:
--الأصل عند سلفنا عدم الخوض فيما لم يقع، وغيره فرع عنه.
--بنى السلف حكمهم هذا على أدلة تبين من خلالها الحكم الجليلة على عدم الخوض فيما لم يقع.
--دراسة كتب الفقه للتعلم والتعليم لا بد أن يكون منضبطا بضوابط كثيرة, منها, التنبه لما ذكره السلف من أمور تتعلق بالرأي المذموم، وعدم الإفراط والتفريط في الخوض في التفريعات, كالتمثيل للمسائل، وكذلك عدم التعصب، والتعويل على الدليل، إلى غير ذلك من الضوابط.
--ليس من سمات طالب الحق رفض كل ما يستشكله أول وهلة، بل عليه أن يعرف الظروف والملابسات، وعليه أن يسأل قبل أن يرفض، ليتبين له ما كان خافيا عنه.
--ارتكاب المحظور عند الضرورة بضوابطها وشروطها ليس معناه تحليل الحرام، ولا معناه الطعن في الشريعة أنها تبيح الزنا مثلا، بل من محاسن الشريعة أنها توازن بين المصالح والمفاسد، بجلب المصالح ودرء المفاسد، وتغليب المصلحة الكبرى على الصغرى، وارتكاب أدنى المفسدتين بقدر الضرورة لاجتناب أعظمهما.
--مما يزيل الإشكال واللبس التفريق بين ما تدعو الحاجة العامة له من المسائل، فهذا بينته الشريعة بيانا شافيا في الكتاب والسنة، وبين ما يكون من وقائع الأعيان وهي أيضا مما بينت الشريعة أصولها وضوابطها العامة دون عينها، فكان في ذلك الحكمة البالغة.
والله أعلم.