رمضان موسم تدبر القرآن الكريم
د. عبدالله البوعلاوي
(1)
رمضان ليس كباقي الشهور، ففيه تتجدد العزائم، وتتعدد الطاعات، فيتجدد العهد بالقرآن الكريم، تلاوة وحفظاً وتدبراً، بعدما عَدَلوا إلى غيره وهجروه، يقول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185]، وعن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِي رضي الله عنه قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْن ِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ»[1].
يعتبر رمضان فرصة للارتباط بالقرآن الكريم وفهمه، ولعل حبس النفس عن الشهوات في رمضان والتضييق على مجاري الشيطان يجعلان العقل صافياً لتدبر القرآن وفهم معانيه وإدراك أسراره. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أجوَدَ الناس بالخير، وكَانَ أجودَ مَا يَكُونُ فِي رمضَانَ حِينَ يلْقَاهُ جبرِيلُ، وكان جبريل عليه السلام يلقاهُ كلَّ ليلَةٍ في رمضانَ حتى ينسلخَ، يعرضُ عليهِ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن[2]، وفي رواية مسلم فيدارسه القرآن»[3].
يقول الله تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، هذه المغفرة تتحقق لمن اتقى، وإذا تأملنا قول الله تعالى: {سَارِعُوا} وجدنا أن الأمر يستدعى استباق الزمن وتجاوز الوقت، فالسرعة إلى نيل المغفرة من الله مطلوبة، مأمور بها الإنسان.
قد يحتاج الإنسان في المسابقة إلى إعادة النظر في إمكانياته الروحية والمادية، فيستجمع ما لديه من قوة، فيجد في الطلب ويجتهد في المأمورات، ويصبر على شهوات النفس ومطامعها، ويقوي من عزيمته نحو فعل الخيرات. ورمضان فرصة التسابق إلى كل الخيرات وأنواع البر كلها، يقول الطاهر بن عاشور: «السرعة المشتق منها سارعوا مجاز في الحرص والمنافسة والفور إلى عمل الطاعات التي هي سبب المغفرة والجنة، ويجوز أن تكون السرعة حقيقة، وهي سرعة الخروج إلى الجهاد عند التنفير كقوله في الحديث: (وإذا استُنْفِرْتُم فَانفِرُوا)، والمسارعة على التقادير كلها تتعلق بأسباب المغفرة، وأسباب دخول الجنة»[4].
ولن يجد الإنسان أكثر من فرصة التعلق بالقرآن الكريم في رمضان، بأن يجعل له ورداً للتلاوة وورداً للمدارسة والتدبر، ليهذب نفسه بالقيم القرآنية ومحامد الأخلاق العالية الإنسانية.
والإنسان الآمر بالعدل يستشرف المستقبل، ويأخذ الهدف من وجوده، فينظر إلى ما تقدم يداه، يقول الله تعالى ملفتاً نظر الإنسان إلى منتهى أجله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، فأمر الله تعالى العبد أن ينظر ما قدم لغد، وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك، والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به أم لا؟ والمقصود من النظر: ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر»[5]، وعلى هذا يجب أن يكون المؤمن مستعداً، فيزين نفسه من الأعمال ويدرأ عنها ما يفسدها لتكون خالصة لوجه الله، وتكون له حجة عند الله تعالى.
ولن نصل إلى طهارة النفس في رمضان حتى ندرأ عنها الشهوات ونحفظها من الوقوع في الزلات من المحرمات، ونُقبِلَ على ما يمحو الخطايا والذنوب والأوزار من شتى القربات، ولن نجد أفضل من الإقبال على القرآن الكريم، فنرقى به إلى مستوى الوعي بأحكامه وسبر أسراره، والتمسك بأنواره وهدايته على المستوى الروحي والمادي، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، لا أن نكتفي بتلاوة حروفه دون تدبر معانيه، «ونستطيع أن نقول: وقد تحولت العناية بالقرآن إلى حفظه وحسن ترتيله وطباعته، والاقتصار على ترداد فهوم السابقين فقط:
إننا نعيش المرحلة التي أخبر عنها وحذر منها الصادق المصدوق من ذهاب العلم وشيوع الأمية العقلية، وأن الكثير من علل الأمم السابقة قد تسربت إلى المسلمين مصداقاً لقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، أي لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلاً، قال ابن تيمية رحمه الله عن ابن عباس وقتادة في قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ}، أي غير عارفين بمعاني الكتاب، يعلمونها حفظاً وقراءة بلا فهم، لا يعلمون فقه الكتاب»[6]، وقال الحسن البصري: والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل. لهذا يركز القرآن على التدبر لتحصيل المراد من قراءته، ولا يمكن أن نحيا بالقرآن حتى تلتقي أرواحنا بروح القرآن، فيبعث فيها الحياة، وإلا فإنها محجوبة عن حقيقته، يقول الله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وتفيد الآية التقريع، وطلب التدبر يفيد أيضاً النظر إلى مآلات الآيات، وهي مرحلة تستدعي التفكر وإعمال العقل، والتلاوة الخالية من التدبر لا تثمر خشية القلب، المفضي إلى العمل بكتاب الله.
ففي رمضان نقبل على القرآن الكريم تلاوة، فينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا عظمة المتكلم، ونتأمل الأوامر والنواهي، والوعد والوعيد، والأخبار والقصص، والموت وما يتبعه من عالم البرزخ، وأحداث الساعة وأهوالها وما يتبعها من نفخ الصور والبعث والنشور، والشفاعة والحساب، والجزاء والميزان، ثم الحوض والصراط، ومصير الإنسان إلى الجنة أو النار، من أجل أن نعيش بالقرآن وأن نحيا بالقرآن، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّـمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ 57 قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57، 58]. والإنسان يفرح إذا أتاه الله فهم القرآن الكريم وتدبر آياته ليهتدي به في دينه ودنياه، فهو يدل على الخير وإلى فعل الخير، وكل هداية فيها سعادة الإنسان وطمأنينته، يقول الله تعالى: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
يقول ابن القيم رحمه الله: «إن القرآن الكريم هو الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد، والموصل لهم إلى سبيل الرشد، فالحقيقة والطريقة والأذواق والمواجيد الصحيحة كلها لا تُقتبس إلا من مشكاته، ولا تُستثمر إلا من شجراته»[7].
إننا نحتاج إلى إعادة النظر في طريقة قراءتنا للقرآن الكريم لنرقى إلى مستوى القرآن الكريم، ونتخلق بأخلاق القرآن، وندرك الخطاب القرآني وهدايته لنتبصر به نوراً وصراطاً مستقيماً، يقول الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].
وقد ذكر الله لهذا النور ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى: أنه يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام؛ أي إن من اتبع منهم ما يرضيه تعالى بالإيمان بهذا النور يهديه - هداية دلالة تصحبها العناية والإعانة - الطرق التي يسلم بها في الدنيا والآخرة من كل ما يرديه ويشقيه، فيقوم في الدنيا بحقوق الله تعالى وحقوق نفسه الروحية والجسدية وحقوق الناس، فيكون متمتعاً بالطيبات مجتنباً للخبائث، تقياً مخلصاً، صالحاً مصلحاً، ويكون في الآخرة سعيداً منعماً، جامعاً بين النعيم الحسي الجسدي والنعيم الروحي العقلي. وخلاصة هذه الفائدة أنه يتبع ديناً يجد فيه جميع الطرق الموصلة إلى ما تسلم به النفس من شقاء الدنيا والآخرة، لأنه دين السلام والإخلاص لله ولعباده، دين المساواة والعدل والإحسان والفضل.
الفائدة الثانية: الإخراج من ظلمات الوثنية والخرافات والأوهام التي أفسد بها الرؤساء جميع الأديان واستعبدوا أهلها، إلى نور التوحيد الخالص الذي يحرر صاحبه من رق رؤساء الدين والدنيا، فيكون بين الخلق حراً كريماً، وبين يدي الخالق وحده عبداً خاضعاً. وقوله: {بِإذْنِهِ} فسروه بمشيئته وبتوفيقه. والإذن العلم، يقال أذن بالشيء: إذا علم به، وآذنته به: أعلمته فأذن، ويقال أذن - بالتشديد - وتأذن بمعنى أعلم غيره، ويقال: أذن له بالشيء: إذا أباحه له، وأذن له أذناً: استمع، والظاهر أن الإذن هنا بمعنى العلم؛ أي يخرجهم من الظلمات إلى النور بعلمه الذي جعل به هذا القرآن سبباً لانقشاع ظلمات الشرك والضلال من نفس من يهتدي به، واستبدال نور الحق بها، بنسخه وإزالته لها؛ فهو إخراج يجري على سنن الله تعالى في تأثير العقائد الصحيحة والأخلاق والأعمال الصالحة في النفوس، وإصلاحها إياها، لا أنه يحصل بمحض الخلق واستئناف التكوين من غير أن يكون القرآن هو المؤثر فيه.
الفائدة الثالثة: الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الطريق الموصل إلى المقصد والغاية من الدين في أقرب وقت؛ لأنه طريق لا عوج فيه ولا انحراف، فيبطئ سالكه أو يضل في سيره، وهو أن يكون الاعتصام بالقرآن على الوجه الصحيح الذي أنزله الله تعالى لأجله، كما كان عليه أهل الصدر الأول، قبل ظهور الخلاف والتأويل؛ بأن تكون عقائده وآدابه وأحكامه مؤثرة في تزكية الأنفس وإصلاح القلوب وإحسان الأعمال. وثمرة ذلك سعادة الدنيا والآخرة بحسب سنن الله في خلق الإنسان[8].
إن الذي يساعد على تدبر القرآن الكريم وفهمه إطلاق العقل وسياحته مع معاني الآيات، وخصوصاً عند حِلَق القرآن الكريم حيث تكثر في رمضان ومجالسة العلماء، الذين ينظرون في خطابه، فتخشع القلوب والجوارح، و«يتوقف فهم القرآن الكريم على الجمع بين التلاوة والمدارسة للوقوف على المطلوب منه أمراً ونهياً، إذ لا بد من قراءة القرآن الكريم قراءة متدبرة واعية تفهم الجملة فهماً دقيقاً، ويبذل كل امرئ ما يستطيع لوعي معناها وإدراك مقاصدها... ومعنى المدارسة القراءة والفهم والتدبر والتبين لسنن الله في الأنفس والآفاق، ومقومات الشهود الحضاري، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه لاستئناف دورهم المفقود[9].
تتطلب مدارسة القرآن الكريم في رمضان إيقاظ الضمير وتحفيز الهمم وتقوية الإرادة لتدبر آياته وفهمها في بعدها الكوني والحضاري، ليكون الإنسان على استعداد لتنزيل كل ما يلزم تنزيله بما يناسب الواقع، يقول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم منادياً كلَّ من يبحث عن الهداية في حياته كلها، فيما ينقله أَبو شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَبْشِرُوا، أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ طَرَفَهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَطَرَفَهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ؛ فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا، وَلَنْ تَهْلَكُوا بَعْدَهُ أَبَداً[10]. وقال صلى الله عليه وسلم : «كتابُ الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض»[11].
يأمر الله تعالى الإنسان بتدبر القرآن الكريم، وينهى عن الإعراض عنه، يقول الحق سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه. والمعنى: «بل بعض القلوب عليها أقفال، هذا من التعريض بأن قلوبهم من هذا النوع. لأن إثبات هذا النوع من القلوب في أثناء التعجيب من عدم تدبر هؤلاء القرآن، يدل بدلالة الالتزام لأن قلوب هؤلاء من هذا النوع من القلوب ذواتِ الأقفال. فكون قلوبهم من هذا النوع مستفاد من الإضراب الانتقالي في حكاية أحوالهم»[12]. تمنع هذه القلوب العقلَ عن التعامل مع القرآن الكريم فلا ينفذ إليها نور ولا تهتدي بهدى. وصيغة {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} للاستفهام الإنكاري الدالة على التحريض، بمعنى أن القرآن واجب تدبره لما يحمل من أسرار تنفع الإنسان في حياته الأولى والأخرى.
يعتبر رمضان فرصة لتدبر الإنسان القرآن الكريم، لينتفع القلب نوراً وهداية، ويجب أن لا يقع همُّ الواحد منا في كثرة ختمات القرآن أكثر من وعيه بمعاني القرآن وفهمه لأحكامه. ولا يجوز أن يعطل الحواس إلى حال يهوي بها إلى درجة الكائنات غير العاقلة، وتزج به إلى درجة الدونية، وتجعله من أهل النار في الآخرة، يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِـجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْـجِنِّ وَالإنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. وتأتي الدعوة الإلهية من جديد إلى الذين عطلوا أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم عن ذكر الله وما نزل من الحق: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْـحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، أن يثوبوا إلى رشدهم، وأن يفتحوا مغاليق قلوبهم، ويزيلوا عنها ما ران عليها من الصدأ لطول الأمد، وأن يُعملوا عقولهم بعد أن يزيلوا عنها ما تراكم من غبار التقليد عبر السنين، وأن يعيدوا قراءة كتاب الله، ويتلوه حق تلاوته، بأعين مدركة للنصوص، مفتوحة على الواقع. فسوف يجدون أن الله تعالى قادر على أن يحيي الأرض بعد موتها، قادر على أن يعيدهم إلى الحياة والعزة بالقراءة من جديد»[13].
رمضان فرصة لتحرر العقل من الأقفال، لينظر إلى نور الوحي بكل عزيمة وقوة، ويفجر كل قدراته ومهاراته ليأتمر بأمره وينتهي بنهيه. والقراءة المتدبرة للقرآن سبيل إلى الإبحار في معانيه والاستجوال في فضاءاته والتنقل في آفاقه. وإذا تجاوز الإنسان عتبة التلاوة السطحية إلى القراءة التدبرية حقق المراد من قوله تعالى: لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29].
إن رمضان فرصتنا للنظر في القرآن الكريم على مستوى العمل، أكثر من الحرص على كثرة ختمه دون وعي وتدبر، ليكون لنا منهجاً دالاً إلى الخيرات في ديننا ودنيانا.
[1] صحيح مسلم، حديث رقم 1343.
[2] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، للإمام أحمد بن حجر العسقلاني (773-852هـ)، 4/116، تصحيح وتحقيق عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار المعرفة ، بيروت، لبنان.
[3] صحيح مسلم حديث رقم 2308.
[4] التحرير والتنوير، للشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ص89-90، الدار التونسية للنشر، 1984م.
[5] بدائع التفسير، الجامع لما فسره الإمام ابن القيم رحمه الله، 3/146-147، جمعه وخرج أحاديثه السيد محمد، راجعه ونسّق مادته ورتبها صالح أحمد الشامي، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، رمضان 1428هـ.
[6] كيف نتعامل مع القرآن الكريم،
[7] مدارج السالكين، بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، للإمام لابن قيم الجوزية (691-751هـ) ص14، بتصرف يسير، تحقيق محمد حامد الفقي، ومحمد عبد الرحمن الطيب، المكتبة التوفيقية.
[8] تفسير القرآن الحكيم، الشهير بتفسير المنار، تأليف السيد محمد رشيد رضا، 6/305-306، در المنار الطبعة الثانية، 1368هـ.
[9] كيف نتعامل مع القرآن، في مدرسة مع الشيخ عمر عبيد حسنه ص35.
[10] رواه الطبراني في الكبير (معجم الطبراني الكبير، لأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (ت360هـ)، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الثانية 2010م)، وصححه الألباني في الترغيب والترهيب، زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، مشهور بن حسن آل سلمان، ص37، مكتبة المعارف، الطبعة الأولى، 2009م.
[11] صححه الألباني بمجموع طرقه في الصحيحة، الحديث (2024). وقال العلامة الألوسي في تفسيره: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه} [آل عمران: 103] أي القرآن، وروي ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود .
[12] التحرير والتنوير، للشيخ الطاهر بن عاشور 26/113.
[13] القراءة أولاً، ص155.