لماذا عبر القرآن في آيات العذاب بالذوق دون غيره؟
تأملت في آيات العذاب فوجدتها غالبا ما يعبر فيها بذوق العذاب...
يقول الله تعالى:"فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"-آل عمران:106-.
ويقول جل في علاه:"فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ"-الأعراف:39-.
ويقول سبحانه:"فَذُوقُو ا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ"-السجدة:12-.
ويقول جل ذكره:"فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ"-فاطر:37-.
ويقول عز في علاه وتعالى في سماه:"فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا"-النبأ:30-...
وبالرجوع إلى كتب اللغة نجد أن مادة (ذاق) يراد بها الاختبار والإحساس.
الطعام ذوقا وذوقانا ومذاقا اختبر طعمه ويقال ما ذقت نوما والشيء جربه واختبره فهو ذائق وذواق وأحسه يقال ذاقته يدي أحسته ...
ويقول ابن فارس رحمه الله تعالى في مقاييسه:
"(ذوق) الذال والواو والقاف أصلٌ واحد، وهو اختبار الشيء من جِهَةِ تَطَعُّمٍ، ثم يشتق منه مجازاً فيقال: ذُقْت المأكولَ أذُوقه ذَوْقاً. وذُقْت ما عند فلانٍ: اختبرتُه.".
ويقول الراغب رحمه الله تعالى في مفرداته:
"ذوق : الذوق وجود الطعم بالفم وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر ، فإن ما يكثر منه يقال له الأكل.".
فما الحكمة من استعمال الذوق لأهل العذاب –عياذا بالله- دون غيره، مع أن الذوق غالبا ما يراد به مجرد الاختبار والإحساس، وعذاب أهل النار ليس منحصرا في كونهم يختبرون ذلك العذاب كاختبار صاحب الطعام طعامه، بل العذاب محيط بهم بشكل سرمدي لا يجدون عنه تحويلا ولا إلى غيره موئلا؟
- مجرد ذوقهم للعذاب كفيل بالانتقام منهم ونسيانهم كل ما كانوا فيه من الترف والنعيم...
وقد ذكرني هذا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت:"ثم يؤتى بأنعم الناس كان في الدنيا من أهل النار فيقول : اصبغوه فيها صبغة فيقول : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط قرة عين قط ؟ فيقول : لا وعزتك ما رأيت خيرا قط ولا قرة عين قط".
- ووجدت جوابا عند ابن فارس في معجم مقاييس اللغة له، ينقل عن الإمام الخليل الفراهدي رحمه الله تعالى، حيث يقول:"وفي كتاب الخليل: كلُّ ما نزَلَ بإِنسانٍ مِن مكروه فقد ذَاقَه".
ولعله أراد بكتاب الخيل كتاب العين والله أعلم.
وهو كذلك فقد بحثت في كتاب العين (مادة ذاق) فوجدت الخليل رحمه الله تعالى يقول:" وما نَزَل بكَ مكروهٌ فقد ذُقْتَه وقال اللهُ - عزَّ وجلٌ - : ( ذُقْ إنّك أنت العزيزُ الكريمُ ) ".
وهذه وجوه أخرى ألفيتها في كتب التفسير:
- يقول الراغب في المفردات: "واختير في القرآن لفظ الذوق في العذاب لأن ذلك وإن كان في التعارف للقليل فهو مستصلح للكثير. فخصه بالذكر ليعم الأمرين.".
- يقول الإمام الرازي رحمه الله تعالى:" وخص لفظ الذوق لأنهم في كل حال يجدونه وجدان الذائق في قوة الاحساس".
- ويقول العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى:" وذوْق العذاب استعارة لإحساسه ، لأنّ الذوق أقوى الحواسّ المباشرة للجسم ، فشبّه به إحساس الجلد .".
والله أعلم وأحكم ونسبة العلم إليه سبحانه أسلم.