مسؤوليات المعلم (1-2)


د. عبدالكريم بكار



إن الأسر في البيوت والمعلمين في المدارس يشتغلون على جهاز واحد، ويعملون من أجل أهداف واحدة - وإن اختلف المستوى - ولذا فإن انتشار بعض المفاهيم غير الصحيحة حول مهام المعلمين ومسؤولياتهم، والحاجة إلى بلورة أفكار محددة، دعت إلى كتابة هذه الحروف الصغيرة هنا.

إن مسؤوليات المربين والمعلمين، تزداد اتساعاً؛ لاتساع حاجات العيش في زماننا الصعب، ولكثرة المشكلات التي تواجه الشباب في ميادين الحياة المختلفة؛ فعمل المعلم اليوم مزيج من مهام الأب والقائد ومدير المشروع والناقد والمستشار والشارح!

وسنشير هنا إلى المسؤوليات التي نعتقد أن على المعلم أن يضطلع بها:

1- تنمية الاتجاهات الأخلاقية:

لا نختلف في أن المهمة الأساسية للمدرس، هي تثقيف العقول، ومحاولة إغناء الطلاب بالمعلومات المختلفة، ومساعدتهم على تفهم المواد والمناهج المقررة، لكن هذا ليس كل الواجب، فتوجيه الطلاب وإرشادهم، وترسيخ القيم والأخلاق الفاضلة في نفوسهم، من المهام الأساسية للمدارس والمعلمين.

إن مهمة المدرسة مكملة لمهمة الأسرة، وإذا كانت الخطوط العميقة في شخصية الطفل، تتشكل في السنوات السبع الأولى من عمره، فإن الصحيح أيضاً أن تلك البذور والأنماط السلوكية، تظل بحاجة إلى تزكية ورعاية من قبل المعلمين حتى يشب الطالب عن الطوق، وتستكمل شخصيته كل أبعادها النهائية، وإلا فإن الانتكاس سيظل أمراً وارداً. ولا ينبغي أن ننسى أن كثيراً من الأسر، لا تقوم بواجبها تجاه غرس القيم الإسلامية في نفوس أبنائها، بل إن بعضها ليس مؤهلاً لذلك أصلاً؛ وإن بعضها يؤسس أخلاقاً سيئة، فيأتي الطفل إلى المدرسة في حالة مَرَضية تحتاج إلى معالجة.

ليس هدفنا من وراء التعليم هو أن نعد أبناءنا ليكونوا موظفين أو باحثين، وإنما نعدهم؛ ليحيوا «حياة طيبة»، وهي لا تولد من التزود بالكثير من المعارف، وإنما من خاصية التوازن والتكامل لمجمل عناصر الشخصية العقلية والمعرفية والنفسية والروحية، وهذا لن يتم إلا من وراء عمليات متواصلة، تهدف إلى تعريف الطلاب بالفوارق بين الصواب والخطأ، والحلال والحرام، والأخلاق الحميدة والأخلاق الذميمة، إلى جانب تثبيت الاتجاهات الخيرة، وكل ما يؤدي إلى صقل الشخصية. ولست أدري كيف يمكن أن نعلم مسائل وقضايا تتعلق بمصير الإنسان ومصالحه وعلاقاته دون أن نسلط الضوء على الوضعية الصحيحة في كل ذلك، ودون أن نسلط أشعة النقد على الحالات التي تخالف النموذج الذي ينبغي أن يكون؟!

إن عصرنا هذا هو عصر القلق النفسي، والتحلل الخلقي، والجفاء الاجتماعي، وهو عصر ذلت فيه الرقاب للمطامع والحاجات المادية، وإن على المدرسة أن تعرف واجبها في صياغة جيل، يحمل مناعة ضد هذه الأوبئة، وتستعلي فيه مطالب الروح على مطالب الجسد.

2- المعلم جسر بين الأجيال:

نحن أمة ذات تراث ضخم، وذات تجربة حضارية عريقة وثرية، وحتى نستوعب حضارة العصر على نحو مقبول، فإننا بحاجة إلى أن نمتلك وعياً جيداً بذلك التراث، وتلك التجربة. ومن الواضح أن التطور الحالي الهائل، أوجد هوة واسعة بين الأجيال الحاضرة وبين تراثها، كما أنه أدى إلى إيجاد اختلاف واسع بين كل آليات الفهم والتحليل التي سادت في الماضي، وهذه السائدة اليوم. ومهمة المدرس أن يقوم بعملية ترجمة واسعة وأمينة لكل المعطيات الحضارية والتراثية، وتقديمها للطلاب بلغة معاصرة، وبذلك يكون قد جسّر العلاقة بين الماضي والحاضر. ليست هذه المهمة من المهام السهلة، فنحن لا نملك معايير صارمة، ولا أدوات دقيقة لفهم الماضي، كما أن التعبير عنه بصورة متوازنة ومنصفة، هو مشكلة أخرى. ولا أجد من المناسب هنا أن أفصل القول في هذه المسألة، لكن كل ما يمكن قوله هنا هو: إن علينا أن نقدم للأجيال الجديدة من تراثنا الحضاري ما يعمق انتماءها لهذا الدين وهذه الأمة، وما يعرفها على هويتها الإسلامية، فضلا عن المغازي الحضارية التي تساعدها على فهم هذا العصر والعيش فيه بكفاءة وفاعلية.

3- تحرير العقل من أغلاله:

العادات العقلية ظروف شرطية للكفاية الفكرية؛ فهي تحدد للعقل التخوم والمدارات التي سيعمل فيها، كما أنها تحول دون شروده وبحثه في مسائل لا تلائم الواقع. وعلى الرغم من أهمية ذلك، فإن العادة عندما تصبح نسقاً مطرداً رتيباً، فإنها تغلق الباب في وجه التفكير، وتصده إلى درجة أن الحاجة إلى التفكير تنعدم، أو تصبح غير ممكنة.

ومن الواضح أن نوعية الثقافة، وأشكال المقولات التي «تقولب» عقلية المرء، هي التي تحدد آفاق فكره، كما تحدد طبيعة امتصاصه للمعارف، وطبيعة تحليلها والاستفادة منها؛ ولذا فإن كل ثقافة لا تخضع للتمحيص والمراجعة على نحو مستمر، يمكن أن تتحول إلى أغلال تكبل العقل، وتحوله من أداة تحرر وارتقاء إلى أداة تكرس الأخطاء وتنتجها. ولا يخفى علينا أن كثيرين من أبناء الأمة يرون أن ما حصل من فتن واحتراب في تاريخنا الإسلامي، كان بسبب عناصر مدسوسة، أو تآمر أممي, وسقوط الدولة العثمانية كان بسبب تآمر أوروبا، وقوة الاقتصاد اليهودي في فلسطين السليبة بسبب المعونات الأمريكية... وهكذا فكل شيء عندنا على ما يرام، والسبب في مصائبنا هم الآخرون!! ونجد بعد هذا أن من مستلزمات «التفسير التآمري» للواقع والتاريخ اللجوء الدائم إلى عادة «الانتقاء» التي تمكن العقل من القيام بعمله وفق الثقافة «التآمرية» السائدة. فإذا جاء نص يؤكد القصور الذاتي في حدث تاريخي فاجع، كان ذلك النص مكذوباً، أو بحاجة إلى تمحيص... وإذا جاء نص يؤكد وجود تآمر خارجي، فإنه يُقبل دون تردد!!

إن مهمة المعلم أن يحرر عقول الطلاب من كل المقولات والطروحات والأنماط والعادات الخرافية والعنصرية والإقليمية والمحلية والقبلية، ويقوم إلى جانب ذلك بتأسيس العقلية المنهجية السببية التي أرسى قواعدها القرآن الكريم، وعليه أن يستعين بالخبرات التي خلفها كفاح البشرية ضد استعباد الثقافات المحدودة للعقول، وضد أشكال التحيز والرؤى المشوهة والأحكام المبتسرة... وحتى يستطيع المعلم أن يفعل ذلك، فإن عليه أن يثقف نفسه على نحو مستمر بثقافة عالمية، تمكنه من الموازنة الصحيحة، وتخرجه من سجن الخبرات الفجة والقراءات الناقصة للماضي والحاضر.

4- مساعدة الطلاب على تحديد أهدافهم:

منذ سن الثامنة يبدأ الطفل بالتساؤل عن العمل الذي سيمتهنه في المستقبل، وعن التخصص الذي سوف يدرسه تأثرا بالآباء والأساتذة والزعماء والإخوة والأقرباء. ومنذ ذلك الحين تبدأ مسؤولية المعلمين في مساعدة الطلاب على التطلع إلى الارتباط بأهداف تناسب طاقاتهم ومواهبهم، وهي إلى جانب ذلك ممكنة التحقيق وذات معنى. صحيح أن كثيرا مما يقال في سن مبكرة عن مهنة المستقبل عرضة لتبدلات عديدة، إلا أن تحاور المعلم مع طلابه عما يمكن أن يسعوا لأجله ذو فائدة عظيمة في تحديد آفاق ما يمكن اختياره، فلكل مجتمع إمكاناته وحاجاته ومشكلاته، وهي في تغير دائم، ومن خلالها جميعا يمكن بلورة قائمة بأهداف متنوعة يزيدها الطلاب بلورة وتحديدا إلى أن يحين وقت الاختيار.


من المهم في معالجة هذا الموضوع مع الطلاب أن يتم من أفق إشعارهم بالمسؤولية تجاه أنفسهم وأمتهم؛ إذ إن (الشخصية) لا تنبثق إلا من خلال الشعور بالمسؤولية، والأهداف التي يسعى الناشئة إلى تحقيقها، قد تصبح مصدرا للأنانية والتوتر الاجتماعي ما لم تنبثق من إحساس المجتمع بحاجاته المستقبلية، فإذا كان المجتمع يشكو - مثلا - من نقص في المشتغلين بالبحث العلمي أو الأطباء أو التقنيين أو المهندسين.. وجب تركيز البحث والحوار والتوجيه نحو ما يصبو المجتمع إلى إيجاد التوازن فيه، بالإضافة إلى هذا فإن تحقيق أي هدف يجب أن يتم في جو التجربة المعيشة للمجتمع، وعلى خلفية ثقافية وتاريخية محددة. ومن المهم للمعلم أن يستوعب ذلك حتى يبلور لطلابه الأنماط الفكرية السائدة والقوى النابعة منها، ومواطن الصراع فيها، والوسائل المختلفة التي تساعد على تخفيف حدة الصراع وتوجيهه بما يكفل إقامة مجتمع متزن مرن منفتح متماسك، يقبل التغيرات الجديدة ويحدثها، وبهذا يكون تحديد أهداف الأفراد مؤطرا بمطالب المجتمع الذي يعيشون فيه، وبتجاربه وإمكاناته.