عظمت عناية السلف بالعقيدة لأنها أساس صلاح أعمالهم


الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر




في محاضرة قيمة له تحدث الشيخ عبدالرزاق عبدالمحسن البدر عن أهمية العقيدةِ الإسلاميةِ الصافيةِ النقيَّةِ المتلقَّاة من الكتابِ والسُّنَّة، ومكانتها العالية الرفيعة في الدين، وأكد أن منزلتَها فيه منزلة الأساس من البُنيان، والقلب من الجسد، والأصل من الشجر، قال الله -تعالى-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} (إبراهيم:24).

فهذا شأن العقيدة، شأنٌ عظيم ومكانةٌ عالية ومنزلةٌ رفيعة، العقيدة أمرٌ مستقرٌّ في نفوس أهلها، وكامِنٌ في قلوب أصحابها، فمنها ينْطَلقون، وعليها يُعَوِّلون، ولأجلها يُناضِلون، سَمَا قدرُها في نفوسِهم، وعَلَت مكانتُها في قلوبِهم، فتمكَّنت منها القلوب، واستقرَّت في النفوس؛ فترتَّب على ذلك وانبنى عليه صلاحٌ في السُّلوك، واستقامةٌ في المنهج، وتَمامٌ في الأعمال، ودأَبٌ على الطاعةِ والعبادة، ولزومُ أمرِ الله -تبارك وتعالى-، وكلَّما كانت العقيدةُ أعظمَ تَمكُّناً في نفوسِهم وأقوى استقراراً في قلوبِهم كان ذلك دافعاً لهم لكلِّ خير، مُعِيناً لهم على كلِّ فلاحٍ وصلاحٍ واستقامةٍ.

عناية السلف واهتمامهم بالعقيدة

ومِن هنا عَظُمت عنايتُهم وزاد اهتمامُهم بها اهتماماً وعناية مقدَّمةً على كلِّ اهتمامٍ وعنايةٍ، فهي عند أهلها أهمُّ من طعامِهم وشرابهم ولباسِهم وسائر شؤونهم ؛ لأنَّها هي حقيقةً حياة قلوبهم {يَأَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال:24) ؛ فهي حياة قلوبهم حقيقة، وأساسُ نَماءِ أعمالهم، واستقامةِ سلوكهم، وحسنِ نَهجِهم وطريقِهم ؛ ولهذا عَظُمت عنايتُهم بها علماً واعتقاداً وما يتبع ذلك ويترتَّب عليه من جدٍّ واجتهادٍ واستقامةٍ وطاعةٍ لله -تبارك وتعالى.

أهمُّ المهمَّات وآكدُ الواجبات

إنَّ العقيدةَ الإسلاميةَ الصحيحةَ الصَّافيةَ النقيَّةَ هي أهمُّ المهمَّات وآكدُ الواجبات، والعنايةُ بها ينبغي أن تُقدَّم على كلِّ عنايةٍ واهتمام، وعندما نتأمَّل سيرةَ سلفنا الأخيار -رحمهم الله، وأسكنهم الجنَّة، وجزاهم عن المسلمين خير الجزاء- نرى عِظَم عنايتِهم بالعقيدة، وشِدَّةَ اهتمامِهم بها، وأنَّهم يُقدِّمونها في الاهتمام والعناية على كلِّ الأمور ؛ هي أعظمُ مطالبِهم، وغايةُ مقاصدِهم، وأَنبلُ أهدافهم وأشرفُها، وقد تنوَّعت عنايتُهم بالعقيدة عَبر مجالاتٍ مختلفةٍ وجهودٍ متنوِّعة، ومن عنايتِهم بها - وهو من أسباب حِفظِها وثباتِها وبقائها - تأليفُهم فيها المؤلَّفات النافعة، والكتبَ المفيدة التي تُقرِّرُ العقيدة وتُبيِّنها وتوضِّحُها وتذكر شواهدَها ودلائِلها وتذُبُّ عنها كيدَ الكائدين واعتداءَ المعتَدِين وتعطيلَ المعطِّلين وتحريفَ الغالين ونحوَ ذلك مِمَّا قد يُحاك حولها وتُستهدف به.

جهود ضخمة وأعمال كبيرة

فقام السَّلفُ -رحمهم الله- في هذا المجال العظيم بجهود ضخمة وأعمال كبيرة خدمةً للعقيدة ونُصرةً لها وقياماً بالواجب العظيم تجاهها، وكتبوا فيها بياناً وتوضيحاً واستشهاداً واستدلالاً مئات الكتب، بل الآلاف بين مطوَّل ومختصَر، وبين شامل ومتخصص في جانب من الجوانب، بين مُؤَصِّلٍ ورادٍّ على المخالِف، عناية كبيرة جداً في مؤلفاتهم -رحمهم الله، ثمَّ اللاَّحق منهم يأخذ العقيدةَ عن السابق، يأخذها واضحةً وضوح الشمس في النهار، بيِّنة لا لَبس فيها ولا غموض ؛ لصحَّةِ شواهدها، وسلامةِ دلائلها، وقوَّتها ووضوحها وبيانها، فتوارثها المؤمنون المتَّبعون جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن، كلُّ جيل يأتي يتعاهدها تعاهدًا عظيمًا ويرعاها رعاية كبيرة ثمَّ يُؤدِّيها إلى مَن بعده كما هي دون تغييرٍ أو تبديلٍ أو تحريفٍ أو نحوِ ذلك، فيأتي الجيلُ الذي بعدهم فيعتنِي بها عنايةَ أسلافه ويهتمُّ بها اهتمامَ مَن قبلَه فيُحافظُ عليها، وهكذا توارثتها القرون جيلاً بعد جيل، ولا تزال طائفةٌ من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - على الحقِّ منصورةً لا يضرُّهم مَن خَذَلَهم ولا مَن خالَفهم إلى أن تقوم الساعة.

العقيدة التي دعا إليها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم

ثم بين الشيخ البدر أن العقيدة التي في قلوب أهل السُّنَّة في هذا الزمان هي العقيدة التي دعا إليها النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وهي العقيدة التي كان عليها الصحابةُ، وتناقلوها فيما بينهم، وتوارثوها إلى أن وصلت إلى زماننا هذا صافيةً نقيَّة.

اختلاف الناس

نعم ضلَّ عنها أقوامٌ، وانحرف عنها أناسٌ كثيرون، تفرَّقت بهم السُّبُل، وحادوا عن الجادَّة الصحيحة والطريق المستقيم، وقد أشار النَّبِيُّ الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى أنَّ هذا سيقع وسيكون فقال: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، وقال في الحديث الآخر: «إِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلا وَاحِدَةً» رواه المقدسي في المستخرج، فرقةٌ واحدةٌ سلِم لها دينُها، واستقام لها منهجُها، وصحَّ لها معتقدُها ؛ لأنَّها أخذتهُ من نَبعِه الصافي ومَعِينِه الذي لَم يَشُبْه أيُّ كَدَر، أخذته من كتاب الله وسُنَّة نبيِّه صلوات الله وسلامه عليه، فكان حظُّهم في الاعتقاد وسائر شؤون الدِّين السلامةَ والعلم والحكمة والرِّفعة {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (الفتح:26) ؛ لأنَّهم أخذوها من مصدرها ومَنبَعها: كتاب ربِّهم وسنَّة نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -، سلَّمهم الله فلم تتخطفهم الأهواء، ولم تتلقَّفهم الشُّبُهات، ولم يَميلوا إلى عقولهم أو آرائهم أو أذواقِهم أو مواجيدهم، أو نحو ذلك طلباً لمعرفة الاعتقاد الصحيح، وإنَّما عوَّلوا على كتاب الله وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم .

أسباب ثبات العقيدة وسلامتها

وع أسباب ثبات العقيدة وسلامتها من التغيرات قال الشيخ البدر: ما من شكٍّ أنَّ هناك أسباباً كثيرة ومتعدِّدة كانت داعياً لبقاء هذه العقيدة وسلامتها واستقرارها في نفوس أهلها بعد توفيق من الربِّ -سبحانه وتعالى-، فهو الموفِّق وحده والمانُّ، بيده الفضل {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:29)، توفيق الله وتسديده وهدايتُه وإعانتُه لهم هو أعظمُ أمرٍ تحقَّقت به سلامتُهم، توفيق الله لهم وحفظه لهم وكلاءته لهم وعنايته بهم سبحانه و-تعالى- كان به بقاء هذه العقيدة في نفوسهم {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف:64).

تقوية الصلة بالله -تعالى

ولهذا ينبغي بل يجب على كلَّ مسلم أن يُقوِّي صلتَه بالله، وأن يسأله دائماً الإعانة والتوفيق والسدادَ والسلامةَ ؛ لأنَّ الأمرَ بيده -تبارك وتعالى-: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}(هود:88)، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (سورة الفاتحة) فتوفيق الله وحفظه وهدايته وإعانته به يستقيم للإنسان أمره، ويصلح عمله، وتزكو نفسه، ويتحقق فلاحه في الدنيا والآخرة، وقد تلخَّص لي من خلال التأمُّل والنَّظر لكلام أهل العلم - رحمهم الله - في هذا الباب العظيم أن هناك أسباباً كثيرةً أدَّت إلى ثبات العقيدة في نفوس أهلها وأصحابها، وأدَّت إلى سلامتها من التغيُّر والانحراف، وأوجزها لكم في في النقاط الآتية:

أولاً: الاعتصام بالكتاب والسنة

بين الشيخ البدر أن أول أسباب ثبات العقيدة اعتصامُ أهلها بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وإيمانُهم بما جاء في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، واعتقادُهم الكامل أنَّ ما في الكتاب والسُّنَّة لا يجوز تركُ شيء منه، بل الواجب على كلِّ مسلم الإيمانُ والتصديقُ بما جاء في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، فآمَنوا بالنصوص المشتملة على الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته وأنبيائه واليوم الآخر والقدر ونحو ذلك، آمنوا بها إيماناً مُجملاً ومفصَّلاً، إيماناً مُجملاً بما أخبر الله -تبارك وتعالى- به من أمور الإيمان، وإيماناً مفصَّلاً بما بلغهم علمُه من ذلك في كتاب الله وسنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات:15)، هذا شأنهم مع نصوص الكتاب والسنَّة، سلَّموا بالجميع وآمنوا بالجميع، وشأنهم كما قال بعضُ السَّلف: «مِن الله الرسالةُ، وعلى الرسول البلاغُ، وعلينا التسليمُ»، فسلَّموا لكل ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه -صلوات الله وسلامه عليه-، ولهذا فإن مَن كان معتصماً بكتاب الله وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - معوِّلاً عليهما معتمِداً عليهما فإنَّه بإذن الله -تبارك وتعالى- يكون حليفُه الثبات والسلامة والاستقامة والبُعد عن الانحراف.

جِمَاعُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «جِمَاعُ الْفُرْقَانِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالرَّشَادِ وَالْغَيِّ، وَطَرِيقِ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ وَطَرِيقِ الشَّقَاوَةِ وَالْهَلَاكِ: أَنْ يَجْعَلَ - أي المسلم - مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْفُرْقَانُ وَالْهُدَى وَالْعِلْمُ وَالْإِيمَانُ ؛ فَيُصَدِّقُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ كَلَامِ سَائِرِ النَّاسِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَافَقَهُ فَهُوَ حَقٌّ، وَإِنْ خَالَفَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَافَقَهُ أَوْ خَالَفَهُ لِكَوْنِ ذَلِكَ الْكَلَامِ مُجْمَلًا لَا يُعْرَفُ مُرَادُ صَاحِبِهِ أَوْ قَدْ عُرِفَ مُرَادُهُ وَلَكِنْ لَمْ يُعْرَفْ هَلْ جَاءَ الرَّسُولُ بِتَصْدِيقِهِ أَوْ تَكْذِيبِهِ فَإِنَّهُ يُمْسِكُ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِعِلْمِ. وَالْعِلْمُ مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَالنَّافِعُ مِنْهُ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم ».

خلاصة طريقة أهل السُّنَّة والجماعة


هذه خلاصة طريقة أهل السُّنَّة والجماعة -رحمهم الله- في هذا الباب العظيم، يُعوِّلون على الكتاب والسُّنَّة، وبهذا التَّعويل نالوا السَّلامةَ والثباتَ، وكما قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في مقام آخر - بل كان كثيراً ما يقول -: «مَن فارق الدليلَ ضلَّ السبيل، ولا دليل إلاَّ بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم «، ويقول ابن أبي العز -في شرحه للعقيدة الطحاوية-: « كيف يُرام الوصول إلى علمِ الأصول بغير ما جاء به الرَّسول - صلى الله عليه وسلم ؟ أي أنَّ هذا غيرُ مُمكن وغيرُ متَأتٍّ، فإذاً تعويلُهم - رحمهم الله - على ما جاء في كتاب الله وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - واعتمادُهم على ما جاء فيهما كان سبباً عظيماً لثبات عقيدتهم، فلم يكن أحدٌ من أهل السُّنَّة والجماعة - رحمهم الله - يُنشئ اعتقاداً من قِبَل نفسه، أو يأتي باعتقادٍ أو دين من رأيه وذوْقه وفِكرِه، والذين يفعلون ذلك يكثر فيهم التنقل والتلون، أمَّا أهلُ السُّنَّة فإنَّه لم يكن أحدٌ منهم ينشئ شيئاً من الاعتقاد من قِبَل نفسه، بل جميعُهم يُعوِّلون ويعتمدون على كتاب الله وسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم .