سيكولوجية السعادة في السّنّة النّبويّة - الصدق والصبر من الأخلاق التي ترقى بالعبد إلى منازل السعداء

د. سندس عادل العبيد



ما زال حديثنا مستمرًا عن ثمرات الالتزام بالقيم الإسلامية وأثرها في تحقيق السعادة، وقد ذكرنا أنَّ القيم هي الفضائل الدينيّة والخلقيّة والاجتماعيّة التي تقوم عليها سعادة الفرد والمجتمع في الحياة، كما أنَّ التزام القيم الإسلامية من مؤشرات السعادة المؤثرة في سلوك الإنسان وانفعالاته، وتحدثنا في الحلقة الماضية عن الشكر والتوكل بوصفه أحد القيم الأساسية لتحقيق السعادة والطمأنينة، واليوم نتكلم عن الصدق، والصبر.

فضل الصدق وسموّ منزلته

الصدق هو مُطَابقَة الْكَلَام للْوَاقِع بِحَسب اعْتِقَاد الْمُتَكَلّم، وَيُقَال رجل صدق وَامْرَأَة صدق، وَالْأَمر الصَّالح لَا شية فِيهِ من نقص أَو كذب وَفِي التَّنْزِيل الْعَزِيز {وَقل رب أدخلني مدْخل صدق وأخرجني مخرج صدق}، وصدق فلَان فِي الحَدِيث صدقًا أخبر بالواقع، ولا يخفى ما للصدق من فضل عظيم، وثواب جزيل، ومقام كريم، ومما يدلّ على فضل الصدق، وسموّ منزلته، وعلوّ مكانه أنه من خصائص أهل الإيمان والتقوى، قال -تعالى-: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّق ِينَ وَالْمُتَصَدِّق َاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}، فمن اتصف بهذه الصفات العظام فقد فاز، وقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا».





اسمٌ جامعٌ للخيراتِ كلها


والصدق هو اسمٌ جامعٌ للخيراتِ كلِّها، أي العمل الصالح الخالص من كل ذم، والمرء يصدق أي يعتاد الصدق في كل أمر، حتى يكون صديقا فيصبح الصدق صفة ذاتية له فيدخل في زمرة الصديقين، ويستحق ثوابهم، والفجور: اسم جامع لكل شر، أي الميل إلى الفساد والانطلاق إلى المعاصي، ومن اعتاد الكذب يحكم له به، وكذابا صيغة مبالغة من الكذب، وهو من يصبح الكذب صفة ملازمة له، ولذا حكم - صلى الله عليه وسلم - بأنَّه يهدي ويوصل إلى الجنة، والرجل ليصدق في السر والعلانية، ويتكرّر ذلك منه حتى يكون صديقًا، وهو من أبنية المبالغة، والمراد فرط صدقه حتى يُصدِّقَ قولُه عملَه، ولم يعد الصدق مطلبا دينيا أو قضية أخلاقية، بل أكدت الدراسات أنه مطلب نفسي وجسمي واجتماعي، فهو ينشط المناعة الجسمية والنفسية، وهو علامة جيدة للصحة النفسية، والكذب يثبطها ويضعفها.





نفعه للعبد في الدنيا والآخرة


والصدق خلق عظيم، يرجع نفعه على العبد في الدنيا والآخرة وعلى المجتمع أيضًا، لذلك على طالب السعادة أن يخلص قلبه لله، ويربي نفسه على خلق الصدق، وألا يتوسع في مجال التورية، فيدخل في دائرة الكذب، بل إذا اتقى الله علم أن التورية بابها ضيق لا كما يفعل بعضهم في هذا الزمن، وإذا حقق العبد الإيمان، صار صادقا دون تكلف؛ لأنه لا يخاف إلا الله -تعالى-، ولعلمه أن الأمور كلها بيد الله، فيكون راضيًا لحكمه -سبحانه-، وبهذا تسكن نفسه وترزق السعادة.





الصبر


- الصبر: لغة من قولهم صبر صبرًا تجلد وَلم يجزع وانتظر فِي هدوء واطمئنان، وَيُقَال صَبر على الْأَمر: احتمله وَلم يجزع، وَحبس نَفسه عَنهُ وضبطها، والصَّبْر: التجلد وَحسن الِاحْتِمَال، وَعَن المحبوب: حبس النَّفس عَنهُ، وعَلى الْمَكْرُوه: احْتِمَاله دون جزع، وَقَالُوا: قَتله صبرًا: حَبسه حَتَّى مَاتَ، وَشهر الصَّبْر: شهر الصَّوْم؛ لما فِيهِ من حبس النَّفس عَن الشَّهَوَات.

واصطلاحًا: منع النفس وحبسها عن الجزع، واللسان عن التشكِّي، والجوارح عن التشْويش، كلطم الخدود، وشقّ الجيوب ونحوهما.





حقيقة الصبر


وأما حقيقة الصبر فهو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به العبد من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها، وهذه القوة تمكِّن الإنسان من ضبط نفسه لتحمّل المتاعب، والمشاق، والآلام، ليحظى بالسعادة الحقيقية، ومن استطاع تدريب نفسه على هذا الخلق رزق انشراح القلب، والهدوء والاطمئنان، وفي هذا المعنى العظيم يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»، وهنا أظهر النبي - صلى الله عليه وسلم - العجب على وجه الاستحسان لشأن المؤمن فإن شأنه كله خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن.

فالمؤمن إذا أصابته ضراء صبر فكان الصبر خيرًا له؛ لأنه يؤمن بأن كل شيء بقضاء الله، فيكون دائمًا في سرور وانشراح، فما أصابه فإنه من الله، فإن كان ضراء صبر وانتظر الفرج من الله، ولجأ إلى الله -تعالى- في كشف هذه الضراء، وإن كان سراء شكر وحمد الله وعلم أن ذلك لم يكن بحوله ولا قوته، فيحوز أجر الصابرين الذين يوفون أجورهم بغير حساب.





من مؤشرات الصحة النفسية


والصبر من المؤشرات المهمة للصحة النفسية والسعادة، فقدرة العبد على تحمل مشاق الحياة، والصمود في مواجهة الشدائد، والقدرة على تأجيل الإشباع، تدل دلالة واضحة على شخصيته السوية وما يتمتع به من قدر كبير من الصحة النفسية والسعادة الحقيقية، والصبر من أنجح الطرائق لعلاج الانفعالات الإنسانية: كالخوف والحزن والقلق، ولأهميته اهتمت السّنّة النبوية بوضع وسائل عدة لتحقيقه.



خلق يحتاج إلى تدريب

وبيّن لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الصبر خلق يحتاج إلى تدريب وتربية للنفس، فقد روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ، سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ -صلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلّم- فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ».





تحقيق الصبر

وقوله - صلى الله عليه وسلم - ومن يتصبر يصبره الله، أي: ومن يعالج نفسه ويدرّبها على الصبر ويتكلفه على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا، يرزقه الله الصبر ويُسهِّلِه الله عليه، والصبر كسائر الأخلاق، يحتاج إلى مجاهدة النفس وتمرينها، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ومن يتصبر» بدل (يصبر) بإضافة التاء دلالة على المشقة والمجاهدة، فمن أهم وسائل تحقيق الصبر طلبه من الله -تعالى- كما جاء في الحديث السابق، ومن وسائل تحقيقه أيضا، ضبط النفس عند المصيبة بإظهار مشاعر الحزن من غير تسخط، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- في وفاة ابنه إبراهيم، قال أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ، وَكَانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ: «يَا ابْنَ عَوْفٍ، إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى، فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» .





الصبر أعظم العطايا


وإنما كان الصبر أعظم العطايا؛ لأنه يتعلق بأمور العبد وكمالاته، وكل حالة من أحواله تحتاج إلى صبر، فإنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله، حتى يقوم بها ويؤديها، وإلى صبر عن معصية الله حتى يتركها لله، وإلى صبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخّطها، وإلى صبر على نعم الله ومحبوبات النفس، فلا يدع النفس تمرح وتفرح الفرح المذموم، بل يشتغل بشكر الله، فهو في أحواله كلّها يحتاج إلى الصبر، وبالصبر ينال الفلاح، وما أعطي العبد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر؛ لأنّه جامع لمكارم الأخلاق.