قواعد الفتوى الشرعية وضوابط التيسير فيها
الدكتور: عبد الكريم عبد الحميد الخلف
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وإمام المتقين ، ومرشد الأمة إلى الهداية والطريق المستقيم ، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين .
أما بعد
أنزل الله كتابه الكريم مشتملاً على ما يصلح حال البشر ، من أصول الدين ، وقواعد العمل الصالح ، وأمر رسوله ببيانه للناس من حيث الحلال والحرام ، والجواز وعدمه ، وغير ذلك من الأحكام الشرعية ، لقوله تعالى :{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، وبهذا التكليف الرباني قام المصطفى - صلى الله عليه وسلم- ببيان معاني القرآن وأحكامه ، و أعلى مناره ، وقوًى دعائمه ،وانتظم من الكتاب والسنة أعظم مرجع لمن يبحث عن أسباب الهداية ، ويلتمس طريق الاستقامة ، فتسابقت همم العلماء إلى الارتشاف من معينه ، والاغتراف من فيضه ، وتعددت اتجاهاتهم في الأخذ منه .
ومن هنا نجد أن أول مفتٍ هو المصطفى - صلى الله عليه وسلم- ، ومن بعده علماء الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم العلماء المجتهدون ، فالإفتاء إذن من عمل الأنبياء ، ومن ثم ورثتهم العلماء الضالعون في علوم الشريعة ، وفروعها وملحقاتها , وعلى ضوء ذلك لا يصح الإفتاء من العوام ، أو الذين لم يصلوا إلى أغوار العلوم الشرعية ، وهذا ما دعاني إلى أن أبحث في هذا المجال عندما وجدت على أرض الواقع أن كثيراً من الذين لا يفقهون من الدين إلا ظواهره يقومون بالإفتاء بغير علم ، ويتجرؤون على الله ورسوله ، بحجة التيسير ، ويطلقون الأحكام الخاطئة ، فهؤلاء يشكلون على الدين خطراً كبيراً ، ويغررون بالمسلمين أشد تغرير ، وعلى هذا قمت بالبحث في هذا المجال لأبيًن قواعد الفتوى ، وضوابط التيسير فيها ومدى دقتها ، سائلاً المولى عز وجل أن يوفقني لهذا إنه سميع مجيب .
أولاً – مفهوم الإفتاء :
والإفتاء لغة : مأخوذ من الإبانة . يقال : أفتاه في الأمر أبانه له ، وهو : إبانة الحكم في المسائل المطروحة على رجل الإفتاء ، ويقال : أفتى الرجل في المسألة . أي : أبان الحكم فيها ، وذهب القوم إلى المفتي . أي : تحاكموا إليه .
والفتوى هي : الجواب عما يُشكل من المسائل الشرعية ، أو القانونية ، والمفتي هو : من يتصدى للفتوى بين الناس ، ويتم تعينه من قبل الدولة ليجيب عمّا يُشكل من المسائل الشرعية ، أو القانونية .
واصطلاحاً : هو إظهار الأحكام الشرعية بالانتزاع والاستنباط من الكتاب والسنة والإجماع والقياس ، والمصادر الشرعية الأخرى ، وعلى هذا يكون المفتي هو : المظهر للأحكام الشرعية بانتزاعها من مصادرها الشرعية ، وهو : من اتصف بالعلم الشامل ، والعدالة : وملكة الاقتدار على استنباط أحكام الفروع المتجددة .
وعرف الشوكاني المفتي بأنه هو : المجتهد ، وهذا ما عليه علماء الأصول ، وأما المفتي المقلد هو : من لم يبلغ رتبة الاجتهاد ، ولكنه درس وفهم مذهباً من مذاهب الفقهاء المعروفين كمذهب الإمام أبو حنيفة ، أو الشافعي ، أو المالكي ، أو الحنبلي ، وأخذ على عاتقه تقليده معتقداً بصحته ، فيجوز له الإفتاء على المذهب فقط شريطة ألا يكون هناك مجتهد يرجع الناس إليه لأن العامي إذا وجد مجتهداً عدلاً فليس له أن يلجأ إلى غيره ، بل أقول : أن المفتي المقلد في حقيقة الأمر ليس مفتياً ، ولكنه ناقل لفتوى من يقلد ، ولهذا لا يُعدُّ من أهل الإفتاء لذلك قال أهل العلم : إذا أفتى برأي إمام من الأئمة المعروفين يجب عليه أن ينسب الفتوى إلى صاحب الرأي
ثانياً – أنواع الفتوى :
من خلال البحث في موضوع الفتوى تبين أنها تحصل بالقول ، أو الفعل ، أو الإقرار ، وإلى هذه الأنواع الثلاثة بالتفصيل :
الفتوى بالقول - وهذا النوع من الفتوى مشهور ومعروف فلا حاجة للكلام فيه .
الفتوى بالفعل - ولها وجهان :
- الوجه الأول : الفعل الذي يقصد به الإفهام عن طريق استعمال الإشارة المفهومة في عرف المفتي والناس ، وهذا الوجه قائم مقام القول المصرح به كقول الرسول- صلى الله عليه وسلم- : " الشهر هكذا وهكذا ، وعقّد بين الإبهام في ثلاثة ثم قال : الشهر هكذا وهكذا "، يعني تمام الثلاثين ، وسُئل عليه الصلاة والسلام في حجته فقال :" ذبحت قبل أن أرمي ، فأوما بيده وقال له : لا حرج"
- الوجه الثاني : الفعل الذي يقتضي التأسي والإقتداء وأصل ذلك قوله تعالى :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، وقوله سبحانه وتعالى :{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم- : " صلوا كما رأيتموني أصلي" ، وحج النبي - صلى الله عليه وسلم- وقال :"خذوا عني مناسككم " ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة : "ألا أخبرتيه أني أُقبًل وأنا صائم" ، وإذا كان كذلك ، وثبت للمفتي أنه قائم مقام النبي ، ونائب منابه في التبليغ لزم من ذلك أن أفعاله محل للإقتداء والتأسي أيضاً.
- الفتوى بالإقرار : وهذا النوع من الفتوى يرجع إلى الفعل ، لأن الكفّ فعل ، وكفّ المفتي عن الإنكار إذا رأى فعلاً من الأفعال كتصريحه بجوازه ، وقد أثبت الأصوليون ذلك دليلاً شرعياً بالنسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وكذلك يكون بالنسبة إلى المنتصب للفتوى ، لذلك مُدحت هذه الأمة لقيامها بواجبها من أمر بالمعروف ، ونهي عن المنكر فقال تعالى :{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ، وما تقدم من الأدلة في الفتوى الفعلية متفق عليه بين الفقهاء ، ومن هنا ثابر السلف الصالح على القيام بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولم يبالوا في ذلك بما ينشأ عنه من عود المضرات عليهم بالقتل وما دونه ، ومن أخذ بالرخصة أي اعتزل الناس حتى لا يترتب على إنكاره آذىً شديداً قد يصبه ، يكون قد ضرَّ بدينه ، واستخفى بنفسه ، هذا ما لم يكن ذلك سبباً بالإخلال بما هو أعظم من ترك الإنكار ، فإنّ ارتكاب أخف الضررين أو الشرين أولى ، وهذا في الحقيقة راجع إلى إعمال القاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ثالثاً – الفرق بين القضاء والإفتاء :
ومن خلال إطلاعي على هذه المسألة وجدت أن القضاء والإفتاء يتفقان في بعض الأمور ، ويختلفان في البعض الآخر على النحو الآتي :
(أ) - يتفق القضاء والإفتاء في أنه لا بد لكل من المفتي والقاضي من فقهين :
الأول : فقه الحادثة التي يراد الإفتاء أو القضاء فيها ، ولا بد في هذا من براعة وحنكة في استخلاص الحقيقة المأخوذة من أقوال الخصوم وشهودهم ، أو من أسئلة المستفتين من العامة ، لذلك كان كثيراً من العلماء والقضاة ذو قريحة وقادة ، وذكاء حاد ، وفطنة بارعة في الاحتيال لمعرفة الحق من خلال أحوال المتخاصمين ، وأحوال المستفتين.
الثاني : فهم الحكم الشرعي لهذه الحادثة ، والذي يبدو لي : أن هناك فقه ثالث يراد به فض النزاع بين المتخاصمين بأي طريقة من الطرق التي تنقدح في ذهن القاضي ، والمستفتي ، ومن هذا النوع ما روي أن رجلاً شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- جاراً يؤذيه فقال له : انطلق فأخرج متاعك إلى قارعة الطريق فلما فعل ذلك اجتمع إليه الناس وسألوه ما شأنك ؟ فذكر لهم خبر جاره ، فجعلوا يلعنونه ويذمونه ، فأقبل الجار إلى صاحبه يعتذر إليه ، ويعده بعدم العودة إلى أذيته (16)وكذلك ما روي أن ثلاثة من أهل اليمن اختصموا إلى علي رضي الله عنه في غلام ، فزعم كل منهم أنه ابنه ولا بينة لواحد منهم فأقرع رضي الله عنه بينهم ، وجعل الولد للقارع ، وألزمه أن يدفع لكل من الرجلين ثلث الدية ، وبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ، فضحك حتى بدت نواجذه.
(ب) – ويفترقان في الأمور الآتية :
1- الإفتاء أوسع مجالاً من القضاء ، لذلك يصح الإفتاء من الحر والعبد ، والذكر والمرأة ، والبعيد والقريب ، والأجنبي والصديق ، بخلاف القضاء فإنه يشترط في القاضي أن يكون مسلماً ذكراً حراً لا يقضي في أصوله وفروعه .
2- القضاء ملزم للخصوم ، ونافذ فيهم ، بخلاف الإفتاء ، فالمستفتي مخير دنيوياً بين العمل بالفتوى ، أو إهمالها .
3- قضاء القاضي إذا خالف فتوى المفتي فإنه نافذ ، ويُعَدُّ نقضاً لقضاء سابق ، أما قضاء القاضي إذا خالف قضاءً سابقاً فإنه لا ينفذ .
4- المفتي لا يقضي إلا إذا تعين له ، بخلاف القاضي فإنه يجب عليه أن يقضي سواء تعين له أم لم يتعين .
رابعاً – صفات المفتي :
لا ينبغي للرجل أن يرشح نفسه لمنصب الفتيا إلا إذا توافرت فيه خمس خصال لما روى عن الإمام أحمد رحمة الله أنه قال : " لا ينبغي للرجل أن ينصّب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال " .
أولها : أن يكون له نية ، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ، ولا على كلامه نور ، بمعنى أن يبتغي بفتواه وجه الله تعالى ، فلا يفتي طمعاً في مال أو جاه ، أو خوفاً من سلطان ، ومن المعروف أن الله يلبس المخلص من المهابة والنور ومحبة الخلق ما يناسب إخلاصه ، ويلبس المرائي من المهانة والذل والبغض ما يلائم رياءه .
وثانيها : أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة ، أما العلم فالحاجة إليه واضحة ظاهرة ، وعلى هذا فمن أفتى بغير علم فقد تعرض لعقاب الله ، ودخل في حكم قوله تعالى { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وقوله تعالى بشأن الشيطان :{ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، وقوله عز وجل : { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }، والحديث المشهور : "أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار" ، وأما الحلم فإنه كسوة العلم وجماله ، فالعلم يُعَرِِّفُ المرء رشده ، والحلم يثبته ، والوقار والسكينة من ثمار الحلم .
وثالثها : أن يكون المفتي قوياً على ما هو فيه ، وعلى معرفته . أي : متمكناً من العلم غير ضعيف فيه ، فإذا كان قليل البضاعة أحجم عن الحق في موضع الإقدام ، أو أقدم في موضع الإحجام .
ورابعها : الكفاية : وإلا مضغه الناس ، والمراد بالكفاية الغنى عن الناس وعدم الحاجة إلى ما في أيديهم ، فإن هذا يُعين العالم على إحياء علمه ، ومن امتدت يده إلى الناس زهد الناس في علمه ، وتناولته ألسنتهم بالذم.
وخامسها : ( معرفة الناس ) . أي أن يكون عالماً بأحوالهم ، فإن الجاهل بأحوالهم يُفسد بالفتوى أكثر مما يصلح ، إذ يروّج عنده مكرهم وخداعهم حيث يتمثل له الظالم أنه مظلوم ، والمبطل بأنه محق ، وهذه صفات خمس لابد أن يتحلى بها الرجل المفتي .
خامساً : ما يجب على المفتي إتباعه :
يجب عليه إذا ما رُفعت إليه مسألة الأمور الآتية :
1 – ألا يُقدم على الإفتاء وهو في غضب شديد ، أو خوف حقيقي ومزعج ، أو إذا كان في حالة نفسية يشوبها الحزن والقلق ، أو جوع مفرط ، أو نعاس غالب أو شغل قلب مستحكم، أو مدافعة للأخبثين ، لأن كل ذلك يخرجه عن حال الاعتدال وكمال التثبت .
2 - أن يُشعر قلبه على أنه بحاجة إلى ربه ، ويستمد منه المعونة ويطلب السداد ليوفقه إلى الصواب ، ويفتح له سبيل الرشاد ، ثم يتجه إلى نصوص الكتاب والسنة النبوية ، وآثار الصحابة الكرام ، ويطلع على ما أُثر من أقوال العلماء ، ويبذل جهده في معرفة الحكم من أصوله ، مستعيناً بآثار من سبقه ، فإن ظفر به ، وإلا بادر إلى التوبة والاستغفار ، وألح في استمداد المعونة من معلم الخير وملهم الصواب ،فإن العلم نور يقذفه الله في قلب عبده ، والهوى والمعاصي رياح عاصفة تطفئ ذلك النور ،وتنشر الظلمة في أرجاء الصدور .
3 - أن يتحرى الحكم بما يرضي ربه ،ويجعل نصب عينيه قوله تعالى :{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}
إذن فلا يصح له أن يعتمد في فتواه على مجرد وجود الحكم بين أقوال العلماء ، بل يجب عليه أن يتحرى ما هو أرجح منها تبعاً لقوة الدليل ، وإلا كان متبّعاً هواه ،وقائلاً في دين الله بالتشهي ، كما لا يصح له أن يفتي بالحيل المحرمة أو المكروهة ، أما الحيل التي ُتخرج المستفتي من الحرج من غير مفسدة فإنها مستحبة ولا شيء فيها ،ولا يصح له أيضاً أن يحابي في فتواه ، فيفتي بالرخص لمن أراد نفعه من أهله وأقاربه وأصدقائه ، أو من طمع في بره وجزواه من ذوي السلطان والجاه دون غيرهم من عامة الناس ،كأن يفتي بالطلاق من قريب ، أو ذي جاه بعدم وقوع الطلاق بالحنث ، ويفتي من حلف به من غيرهم بوقوعه ، أو يفتي من طلّق منهم بلفظ الكتابة ، بوقوع الطلاق رجعياً، ويفتي من طلق به من غيرهم بوقوعه بائناً ، أو يفتي من طلّق منهم ثلاثاً بلفظ واحد بوقوع طلقة واحدة ، ويفتي من فعل ذلك من غيرهم بوقوعه ثلاثاً ، وهكذا .
سابعاً - ما يجب على المفتي الذي يتخير من المذاهب :
ويجب على من يتخير من المذاهب أن يراعي الأمور الثلاثة الآتية :
أولها : يُتبع القول لدليله ، فلا يختار من المذاهب أضعفها دليلاً ، بل يختار أقواها دليلاً ، ولا يتبع شواذ الفتيا ، وأن يكون عالماً بأسس وقواعد ومناهج المذهب الذي يقع الاختيار فيه ، وهذا يقتضي أن يكون المفتي مجتهداً لا يتخلف اجتهاده إلى مرتبة التقليد ، ومن هذا النوع العلامة ( أبن تيميه ) رحمه الله في اختياراته ، فإن لم تكن عنده هذه المقدرة ، فأولى أن يقتصر على مذهبه فقط إن كان قد بلغ درجة الإفتاء فيه .
وثانيها : أن يجتهد ما أمكنه الاجتهاد في ألا يترك المجُمع عليه إلى المختلف فيه ، فمثلاً إذا سئل المفتي الذي أحيط خبراً بالمذاهب الإسلامية عن تولي المرأة عقد زواجها بنفسها , لا يفتي بقول أبي حنيفة النعمان الذي انفرد به عن الجمهور ، بل يفتي بقول الجمهور ، ولا مانع من أن يبين له قول الأحناف ويترك له الاختيار مع بيان وجه اختياره لرأي الجمهور فيذكر مثلاً أنها مسألة دقيقة في الحلال والحرام، وأنه لا يؤخذ فيها إلا بالاحتياط وغير ذلك ، أما إذا كانت المسألة خلافية احتاط للشرع ، واحتاط للمستفتي من غير خروج ولا شذوذ فمثلاً : إذا سأله رجل يريد الزواج بامرأة رضعت من أمه رضعة واحدة أفتاه بمذهب أبي حنيفة ومالك اللذين يعتبران قليل الرضاع محرماً ولو كان مصة أو مصتين ، أما إذا كان السائل قد وقع في البلوى وتزوج امرأة كانت بينهما رضاعة ، ولم يصل إلى خمس رضعات ، ولم يعلم تلك الواقعة إلا بعد أن أعقب منها أطفالاً ، فإن الاحتياط للأولاد يسوغ له الإفتاء بالحل شريطة أن تكون الأدلة قد تراجعت لدية ، ولا يرى واحداً منها قاطعاً في الموضوع .
وثالثها : أن لا يتبع أهواء الناس ، بل يتبع المصلحة والدليل ، والمصلحة المعتبرة هي مصلحة الكافة ، وما تؤدي إليه الفتيا من تحليل وتحريم
ثامناً – على المفتي الأخذ بقاعدة الوسط بين الشدة والتخفيف :
المفتي البارع ، البالغ ذروة الدرجة والناجح في فتواه ، و الذي يحمل الناس على المعهود الوسطي فيما يليق ويتلاءم مع الجمهور ، فلا يذهب بهم مذهب الشدة المطلق ، ولا يميل بهم إلى التحقيق المطلق المؤدي إلى طرف الانحلال ، والدليل على صحة مبدأ الوسطية هو أن مقصد الشارع الحكيم من المكلف هو الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط ، فإذا خرج المفتي بالمستفتي عن مبدأ التوسط فإن هذا الخروج خروجاً على مقاصد الشرع ، لذلك فإن مثل هذا الخروج مذموماً عند العلماء الراسخين في العلم ، وإذا تتبعنا مسار النبي - صلى الله عليه وسلم- وسيرته نجد أنه - صلى الله عليه وسلم- أخذ بالمبدأ الوسطي، وسار على نهجه صحابته الكرام رضوان الله عليهم ، وقد تمثل هذا المبدأ عندما رد عليه الصلاة والسلام ( التبتل ) حين طلبه بعض الصحابة رضوان الله عليهم ، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل لما أطال بالناس في الصلاة : " أفتان أنت يا معاذ " وقوله عليه الصلاة والسلام :" إن منكم منفرين " ، وقال أيضاً : " سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدَّلجة ، والقصد القصد تبلغوا " ، وقال عليه الصلاة والسلام : "عليكم من العمل ما تطيقون فإن الله لا يملُّ حتى تملُّوا" والأدلة كثيرة في هذه المسألة أقف عند هذا الحد خشية الإطالة .
إذاً الخروج إلى أطراف الانحلال خروجاً عن العدل والتوسط وبالتالي لا تقوم به مصلحة الخلق ، والميل المطلق إلى أطراف التشديد فيه مهلكة للناس لأن المستفتي إذا ذُهب به مذهب الشدة والحرج بُغِّض إليه الدين وأدى به إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة ، وإذا ذُهب به مذهب التخفيف المطلق كان مظنة للمشي خلف الهوى والشهوة ، وهذا خلاف ما جاء به الشرع الإسلامي الذي نهى عن الهوى لأنه مُهلك ، فعلى هذا فالأخذ بالرخص بصورة مطلقة يخالف قاعدة التوسط ، وكذلك الأخذ بالعزائم بشكل مطلق يخالف أيضاً مبدأ التوسط ، وهنا لا بد من التنبيه على أمر هام ألا وهو أن بعض الناس يفهمون أن ترك الرخص تشديد عليهم ، وليس بين التشديد والترخيص وسطاً ، وهذا المفهوم مغلوط وغير صحيح لأن الشرع الإسلامي مبني على قاعدة التوسط ، ومن تأمل مصادر الأحكام الشرعية تبين له ذلك ، فمن يقول ليس بين التشديد والتخفيف واسطة فيكون هذا القول قلباً للمقصود في الشريعة الإسلامية الغراء .
إذاً فعلى رجل الإفتاء الأخذ بمبدأ الوسطية في جميع فتاواه ، فلا يشدد على المستفتين إلى درجة الإحراج وعدم الطاقة ، أو يخفف إلى حد الانحلال وتمميّع الأمور ، لذلك عليه أن يوازن الأمور فيأخذ بالتشديد عندما يرى ضرورته ، ويميل إلى التخفيف ويأخذ بالرخص عندما يرى ذلك مناسباً ، ومطابقاً لمقاصد الشرع الإسلامي .
يتبع