الإمام محمد بن عبد الوهاب
في ظلِّ الجهل المطبق والانغماس في الملذات والملاهي، والاستعانة بما لا يضرُّ ولا ينفع، في ظلِّ هذه البيئة الملبَّدة بكل ما هو بعيد عن الدين وُلِدَ محمد بن عبد الوهاب آل مشرف التميمي؛ ليكون خطًّا فاصلاً وعلامة فارقة بين الجهل والعلم، والشرك والإيمان.
الإمام محمد بن عبد الوهاب الميلاد والنشأة
محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد[1]، الذي يعود نسبه إلى آل مشرِّف[2] من قبيلة تميم عريقة النسب والشرف؛ حيث ينحدرون من مُضَرَ فمن نزار فمن عدنان[3]، كان جدُّه سليمان بن علي بن مشرف من أشهر العلماء في عصره ومصره؛ حيث كان من أكابر العلماء في الجزيرة، وكذلك كان والده عالمًا فقيهًا على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وكان من علماء نجد المشهورين، وقضاتها المعروفين، فقد تولَّى القضاء في عدَّة جهات؛ مثل: العيينة وحريملاء[4]، وكان عمُّه الشيخ إبراهيم بن سليمان من مشاهير العلماء في تلك البلاد[5].في هذه الأسرة العريقة وُلِدَ محمد في بلدة العيينة شمالي الرياض، في عام (1115هـ=1703م)، وقد تعلَّم القرآن الكريموحفظه قبل بلوغه عشر سنين، وكان يتمتَّع بالذكاء وسرعة الحفظ منذ صغره؛ فكان رغم حداثة سنِّه كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام، فشرح الله صدره لمعرفة التوحيد وتحقيقه، ومعرفة نواقضه المضلَّة؛ حتى إنَّ أباه كان يتعجَّب من فَهْمِه ويقول: "لقد استفدْتُ من ولدي محمد فوائد من الأحكام"[6].ولم يكن محمدًا في طفولته كأقرانه ممَّن يُحبُّون اللعب والمرح، بل كان يقضي معظم وقته في الاطلاع على الكتب وخاصَّة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ومن قبلهما مؤلَّفات الإمام أحمد بن حنبل؛ التي كان لها الأثر الكبير في تكوين شخصيَّته العلميَّة الصحيحة[7]
رحلة الإمام محمد عبد الوهاب في طلب العلم
ارتحل الشيخ محمد بن عبد الوهاب قاصدًا حجَّ بيت الله الحرام، وبعد أدائه الفريضة اتجه إلى المدينة المنورة، وفيها وجد ضالَّته؛ إذ كانت آنذاك مليئة بالعلماء؛ أمثال الشيخ عبد الله بن إبراهيم آل سيف مصنف كتاب (العذب الفائض في علم الفرائض)، فأخذ عنه الكثير من العلم، وأحَبَّه الشيخ عبد الله، وبذل جهدًا كبيرًا في تثقيفه وتعليمه، فتوثَّقت روابط المحبَّة بينهما، وممَّا يذكره الإمام عن شيخه عبد الله آل سيف قوله: "كنت عنده يومًا، فقال لي: أتريد أن أريك سلاحًا أعددته للمجمعة[8]. قلتُ: نعم. فأدخلني منزلاً فيه (كتب كثيرة)، فقال: هذا الذي أعددناه لها"[9]. ولعلَّ هذا الموقف هو ما جعل الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- يتحمَّس لطلب العلم من مناطق أخرى، فلم يتوانَ في هذا الأمر طيلة حياته.ومن علماء المدينة الذين كان لهم فضل كبير في تعليم الإمام الشيخُ محمد حياة السِّندي؛ فلقد أدرك الرجل ما عليه تلميذه من عقيدة صافية، وبما تجيش به نفسه من مَقْتِ الأعمال الشائعة في كل مكان مِنَ البِدَع والشرك الأكبر والأصغر، وأنه إنما خرج من نجد للرحلة والاستزادة من العلم الشرعي؛ الذي يُعِينُه على القيام بالدعوة والجهاد في سبيل الله.ومن المواقف الجليلة التي أثَّرت في محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- تأثيرًا كبيرًا، وكانت سببًا مباشرًا لمقاومته لكلِّ مظاهر الشرك والبدع في الجزيرة، ذلك الموقف المحزن الذي شاهده عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي أحد الأيام كان الشيخ واقفًا عند الحجرة النبويَّة فإذا به يرى أناسًا يدعون ويستغيثون بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، حينذاك رآه الشيخ السِّندي فأقبل عليه، وسأله قائلاً: ما تقول في هؤلاء؟ قال له الطالب النجيب: {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139] [10].فأيقن عندها الشيخ السندي أن تلميذه قد بلغ مرحلة علميَّة متقدِّمة.أراد ابن عبد الوهاب –رحمه الله- أن يستزيد من العلوم، وأن يتعرَّف على جديدها، وعلى العلماء الراسخين في العلم في بقية البلدان الإسلامية الأخرى؛ فقرَّر أن يترك المدينة المنورة ليتَّجه إلى الدراسة في البصرة، وبالفعل ارتحل إليها، وحينما حطَّ رحاله فيها قرَّر أن يدرس على أكابر علمائها الراسخين؛ كالشيخ العلامة محمد المجموعي، الذي أثَّر في حياته تأثيرًا كبيرًا؛ حيث قرأ الإمام على يديه الكثير من كتب النحو واللغة والحديث.وفي البصرة بدأت مرحلة جديدة في حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله، إنها مرحلة الجهر بما يؤمن ويعتقد؛ فلقد رأى في البصرة أمورًا أطمَّ وأعظم مما رآه سابقًا في المدينة المنورة، فقرَّر من توِّه أن يُحَدِّث الناس عن خطورة البدع والخرافات؛ كإنزال التضرُّع والحاجات بسكان القبور، مستشهدًا بكتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح، لكن ذلك لم يُجْدِ مع أقوام تربَّوْا وأُشْرِبُوا في قلوبهم البدع والضلالات؛ ومن ثَمَّ قُوبِلَ الإمام بالتكذيب والوعيد، ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدِّ؛ بل تعرَّض الشيخ للضرب والسبِّ، حتى أُخْرِجَ من البصرة قسرًا بعدما أمضى بها أربع سنوات كاملة، ولم يكتفِ أهل البصرة بما فعلوه بالإمام، بل أنزلوا بشيخه المجموعي البلاء والضيم!فأراد ابن عبد الوهاب أن يستكمل مسيرته العلمية والعملية، فقصد بلد الزبير[11]، وقد واجهته الكثير من الصعاب في طريقه إليها، وبعد عناء الوصول استطاع أن يأخذ منها حاجته؛ وقد فكَّر جدِّيًّا في التوجُّه ناحية الشام لاستكمال رحلته في طلب العلم، غير أن نفقته قد أوشكت على النفاد فاضطرَّ إلى الرجوع إلى بلده، وفي طريق عودته أتى الأحساء، فنزل بها عند الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي، وقرأ عنده بعض الكتب الشرعيَّة، ثم توجَّه إلى حُريملاء وكان ذلك في عام 1143هـ وكان والده –رحمه الله- قد انتقل إليها منذ عام (1139هـ)، فلازم أباه، واشتغل في علم التفسير والحديث، ثم عكف على كتب الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم رحمهما الله، فزادته تلك الكتب القيِّمة، علمًا ونورًا وبصيرة، وكانت المنطلق الذي استمدَّ منها مبادئ دعوته [12].