الدرةالجامعة في تأويل آية المائدة
قال تعالى:(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك همالكافرون).
اختلف المفسرين في تأويل هذه الآية الى أقوال عديدة و قد ذكر الامام الطبري عند تفسير هذه الآية خمسأقوال للسلف و كذلك الامام ابن القيم ذكر ست أقوال عند حديثة عن هذه الآية و سوفأذكر كلام ابن القيم النفيس في الختام.
وقال بن الجوزي رحمه الله فيزاد المسير ج: 2 ص: 366 ( فأما قوله ومن لم يحكم بماأنزل الله فأولئك هم الكافرون وقوله تعالى بعدها فأولئك هم الظالمون فأولئك همالفاسقون فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال أحدها أنها نزلت في اليهود خاصةرواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس وبه قال قتادة والثاني أنها نزلت في المسلمينروى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى والثالث أنها عامة في اليهود وفي هذهالأمة قاله ابن مسعود والحسن والنخعي والسدي والرابع أنها نزلت في اليهود والنصارىقاله أبو مجلز والخامس أن الأولى في المسلمين والثانية في اليهود والثالثة فيالنصارى قاله الشعبي...
وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولىقولان : أحدهما : أنه الكفر بالله تعالى. والثاني : أنه الكفر بذلك الحكم وليسبكفر ينقل عن الملة. ) ا.هـ
و أبدأ بذكر كلام اقوال أهل التفسير فيتأويل هذه الآية و قد حصرتها في ثمانية أقوال:-
1- القول الأول أن الكفر المراد في الآية هو الكفر الأكبر و لكن الآيةخاصة على أهل الكتاب و لا تشمل المسلمين
و هو قول بعض التابعين كأبي مجلز و عكرمة والضحاك و الشعبي و أبو صالح وهو اختيار النحاس و القرطبي هو ترجيح شيخ المفسرين الطبري قال-رحمه الله- في«جامع البيان» (6/166-167): «وأولى هذهالأقوال عندي بالصواب: قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ماقبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها، وهذه الآيات سياق الخبرعنهم، فكونها خبراً عنهم أولى.)و نسب هذا القول خطأً الى بعضالصحابة و التابعين كالبراء بن عازبوحذيفة بن اليمان وابن عباس والحسنالبصري و هم لا يقولون به و لم يرد عن أحدٍ من الصحابة أنه قال إن الآية ليست فيالمسلمين، وإنما غاية ماورد عن بعضهم قوله: إنها نزلت في أهل الكتاب، وهذا ليستخصيصاً وليس قصراً للنص العام على هذا السبب.
قال ابن تيميةأيضا: [إن الصحابة يقولون نزلت الآية في كذا ولايختلفون في أن نصّها يتعدى إلى غيرسبب نزولها طالما يتناوله لفظها](مجموع الفتاوى) 31/ 28 - 29.
بل بعضهم صرحإنها نزلت في أهل الكتاب و هي واجبة على المسلمين (كما قال الحسن البصري ).
و روىالطبري في تفسيره 6/ 253بإسناده عن أبي البختري قال: [سأل رجلٌ حذيفة عنهؤلاء الآيات (وَمَن لَّمْيَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) قال: فقيل ذلك في بني إسرائيل؟ قال: نِعْمالإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مُرَّةٍ، ولكم كل حُلوةٍ، كلاّ واللهلتسلكنّ طريقهم قدر الشِراك] .و هذا القول أيتخصيص الآية بأهل الكتاب أو باليهود قول ضعيف مرجوح اذ أن العبرة بعمومم اللفظ لابخصوص السبب و صيغة هذه الآية عامة لأنهامصدَّرة بمَنْ الشرطية (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ).
قال ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى) 15/ 82.ه[ولفظ (مَن)أبلغ صيغ العموم لاسيما إذا كانت شرطاً أواستفهاماً، كقوله (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَذَرَّة ٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍشَرّاً يَرَهُ) الزلزلة: ٧ - ٨ وقوله (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُعَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) فاطر: ٨]
قال الرازيفي تفسيره ( وهذا ضعيف لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوصالسبب .)
قال ابن القيم في (مدارج السالكين) 1/ 365 منتقدا هذا القول[ومنهم من تأوّلها على أهل الكتاب، وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما، وهو بعيد، وهوخلاف ظاهر اللفظ، فلا يُصار إليه].
قال القاسمي في تفسيرهمحاسن التأويل 6/ 215[وكذا ماأخرجه أبو داود عن ابن عباس: أنها في اليهود - خاصة قريظة والنضير -لاينافي تناولها لغيرهم، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لابخصوص السبب، وكلمة (مَن) وقعت في معرضالشرط فتكون للعموم]) .
2- القول الثاني أن الكفر المراد في الآية ليس الكفر الأكبر المخرج منالملة:-
و قد نُسِب هذاالقول إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما و الى طاوس الذي روي أنه قال [ليس بكفرينقل عن الملة]. و كذلك روي عطاء بن أبي رباح أنه قال فيها [كفر دون كفر].
يقول أبو حيان ناصرا هذا القول: "وإلى أنَّهَا عامة فياليهود وغيرهم ذهب ابن مسعود وإبراهيم وعطاء وجماعة، ولكن كفر دون كفر، وظلم دونظلم، وفسق دون فسق، يعني: أن كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر، وكذلك ظلمه وفسقه، لايخرجه ذلك عن الملة..."البحر المحيط: (3/492).
جاء فيتفسير الجلالين عن هذه الآية ([ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون] به)
و هذا القول ضعيف مرجوح لعدة اعتبارات:-
الأول دلالة اللغة العربية: وذلك لأن الكفر في الآية جاءبصيغة الإسم المعرف بأل – (الْكَافِرُونَ) - الدال على حصول كمال المعنى، بما يعني أنه الكفرالأكبر كما أن الكفر لم يرد في القرآن إلا بما يعني الكفر الأكبر و الواجب حملمعنى اللفظ على معهود استعمال الشارع, كما أن العلماء متفقون أن الكفر اذا أطلقولم يرد نص يقيد معناه فالمراد به الكفر الأكبر قهذاالقول تخصيص لنص عام بلا دليل .
قال ابن تيمية [اللفظ إذا تكرر ذِكره في الكتاب، ودار مرة بعد مرة على وجه واحد، وكانالمراد به غير مفهومه ومقتضاه عند الإطلاق ولم يُبَيَّن ذلك كان تدليساً وتلبيسايجب أن يُصان كلام الله عنه](مجموع الفتاوى) 6/ 471
قال ابن حجر رحمه الله [عُرف الشارعإذا أطلق الشرك إنما يريد به مايقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتابوالأحاديث حيث لايُراد به إلا ذلك](فتح الباري) 1/ 65.
الثانيان الكفر جاء في الآية بصيغة اسم الفاعل وليس بصيغة الفعل و اذا جاء لفظ"الكفر" جاز دخول جميع أنواع الكفر فيه ، وإذا أطلق اسم الفاعل"الكافر" لم يكن إلا للكفر الناقل عن الملة ؛ لأن اسم الفاعل لا يشتقإلا من الفعل الكامل .
و قد ذكر هذا التفريق الحافظ ابن رجب فيكتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري 1/131 ، وقال إنه اختيار ابن قتيبة ، وحكم عليهبأنه قول حسن ، لولا ما تأوله ابن عباس وغيره في الكفر في هذه الآية .
الثالث أن هذا القول لم يرد عن أحد من الصحابى الا ابن عباس رضي الله عنه و هو لا يصح عنه فمقولة[وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله].ليست من قول ابن عباس على التحقيق ، وإنما قول ابن طاوس أُدرج - في رواية سفيان عنمعمر - على ابن عباس.
وبيان ذلك أن الطبري رحمه الله روي من طريق سفيان بن عيينة عن معمر بن راشد عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس [ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله، أه. ورواه الطبري من طريق عبدالرزاق عن معمر عنابن طاوس عن أبيه قال: سُئل ابن عباس عن قوله (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُالْكَافِرُو نَ) قال: هي به كفر، قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله].
وقد ظهر من الرواية الثانية- رواية عبدالرزاق وهي التي اقتصر ابن كثير على إيرادها - أن كلمة [وليس كمن كفربالله] هي من كلام ابن طاوس لا ابن عباس، وعلى هذا فلا يصح نسبة هذا القول لابن عباس.
أمامقولة[ليس بالكفر الذي تذهبون إليه...كفر دون كفر] المنسوبة لابن عباس فهي ضعيفة من جهة الرواية، والعلة فيه: هشام بن حجير فقد اتفق جهابذة الحديث على تضعيفهوبالتالي فالأثر ضعيف.قال البرقوي- بعدما ذكر لفظ الحاكم للأثر – [هشام بن حجير ضعّفه الأئمة الثقات ولم يتابعه علىهذه الرواية أحد. قال أحمد بن حنبل: هشام ليس بالقوي، وقال: مَكْيٌّ ضعيف الحديث،وهذا طعن من جهة الرواية. وضعَّفه يحيى بن سعيد القطان وضَرَب على حديثه، وضعّفهعلي بن المديني، وذكره العُقيلي في الضعفاء، وكذا ابن عَدِيّ وهشامصالحٌ في دينه، لذا قال ابن شبرمة: ليس بمكة مثله، وقال ابن معين: صالح فهذا فيالدين أو العبادة بدليل أن ابن معين نفسه قد قال فيه: ضعيف جدا. وقالالحافظ ابن حجر: صدوق له أوهام. قلت: فلعل هذا من أوهامه لأن مثل هذا القول مرويّثابت عن ابن طاوس، فلعله وَهَم فنسبه إلى ابن عباس.وقال علي بنالمديني: زعم سفيان قال: كان هشام بن حجير كتب كُتُبَه على غير مايكتب الناس، أياقتداراً عليه، فاضطربت عليه]. من «معرفة الرجال» 203/ 2
الرابع أننا لو سلمنا بثبوت هذا القول عن ابن عباس رضي اللهعنه فانه قد ثبت أن له مخالفي من الصجابة رضي الله عنه كعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي بن أبيطالب رضي الله عنهم. و من التابعين من خالف طاووس و عطاء كالحسن البصري وسعيد بنجبير وإبراهيم النخعي والسدي .
الخامس أن صورة سبب النزول قطعية الدخول في النص، ونقل السيوطيالإجماع على ذلك(الاتقان، 1/ 28) و قال الزركشي :-(فإنمحلَّالسبب لايجوزإخراجهبالاجتهادبالإجماعكماحكاهالقاضي أبوبكرفيمختصرالتقريب؛لأن دخولالسبب قطعي ) البرهان ١/١١٧.
و الآية نزلت في بيان كفرأهل الكتاب في تركهم الحكم بما أنزل الله
وقد نص ابن الزبير الغرناطي في كتابه ملاك التأويل 1/398 على إجماع المفسرين على تناول الوعيد الوارد في الآيةلليهود
و قال الجصاص (وأجمعالمفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله تعالى في واقعةالرجم)
فكيف يكون الكفر المراد فيالآية هو الكفر الأصغر و سبب مزول الآية في بيان كفر اليهود.
قال أبوحيان الأندلسي في تفسيره - منتقداً قول من قالإنه كفر أصغر – [وقيل المراد كفر النعمة، وضُعِّفَ بأن الكفر إذا أطلق انصرف إلىالكفر في الدين، وقال ابن الأنباري: فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وضُعِّف بأنهعدول عن الظاهر](تفسير البحر المحيط) 3/ 493.
قال الرازي في تفسيره مضعفا هذا القول(وهو أيضاً ضعيف؛ لأنلفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين)
3- القول الثالث وهو تأويلالآية على ترك الحكم جحودا به .فمعنىالآية عندهم أن من ترك الحكم بما أنزل الله جاحدا له كان من الكافرين.
نسبه الطبري في تفسيره (6/ 257) هذا القولالى ابن عباس.
وقال البغوي :- وقال عكرمة معناه : ومن لميحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر ، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق
و نسبه القرطبي خطأ الى ابن مسعود والحسن البصري فقال [وقال ابن مسعود والحسن: هي عامة في كلمن لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي معتقداً ذلك ومستحلاًله].(تفسير القرطبي) 6/ 190
فجملة (أيمعتقداً ذلك ومستحلاً له) هي من كلام القرطبي ليست من كلام ابن مسعود والحسن رضيالله عنهما.و الثابت عنهما خلاف ذلك كما سأبين بعد قليل.
و هو اختيار الرازي و الجصاص يقول الجصاص في أحكام القرآن: (2/439) ناصرا هذا القول : "المراد: جحود حكمالله، أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله، فهذا كفر يخرج عن الملة، وفاعلهمرتد إن كان قبل ذلك مسلمًا.وعلى هذا تأوله منقال: إنَّهَا نزلت في بني إسرائيل، وجرت فينا يعنون: أن من جحد حكم الله، أو حكمبغير حكم الله، ثم قال: إن هذا حكم الله؛ فهو كافر، كما كفرت بنو إسرائيل حينفعلوا ذلك".اهـ.
و هذا القول مرجوح لأن الجاحد كافر سواءحكم أو لم يحكم كما أن الآية علقت الكفر على الترك فلا يخصص بلا دليل قال بن القيم رحمه الله في مدارج السالكين 1/336: ((ومنهم من تأول الآية على ترك الحكم بماأنزل الله جاحدا له وهو قول عكرمة وهو تأويل مرجوح فإن نفس جحوده كفر سواء حكم أولم يحكم )) .
4- القول الرابع وهو أن الترك هنا هو ترك الحكم بجميع ما أنزل الله بما فيذلك الحكم بالتوحيد والإسلام .
و هو قول ضعيف جدا لا يحتاج أن نقف عنده
قال ابن القيم رحمه اللهمنتقدا هذا القول في مدارج السالكين 1/336:(( ومنهم من تأولها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله قال ويدخل في ذلك الحكمبالتوحيد والإسلام وهذا تأويل عبد العزيز الكناني وهو أيضا بعيد إذ الوعيد على نفيالحكم بالمنزل وهو يتناول تعطيل الحكم بجميعه وببعضه)) .
قال الرازي :( وهذا أيضاً ضعيف ؛ لأنه لو كانت هذه الآية وعيداً مخصوصاً بمن خالف حكم اللهتعالى في كل ما أنزل الله تعالى لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكمالله في الرجم . وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهمحكم الله تعالى في واقعة الرجم ؛ فيدل على سقوط هذا الجواب .)