تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 12 من 12

الموضوع: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

  1. #1

    افتراضي شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    بسم الله الرحمن الرحيم

    المقدمة
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }(
    [1]).

    { يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}(
    [2]).

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}(
    [3]).

    أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
    وبعد فهذا شرح على الأصول الستة للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: جمعته من كلام مجموعة من العلماء وطلبة العلم في شروحاتهم على هذه الرسالة المباركة وهي كما قال جامعها رحمه الله تعالى:"ستة أصول عظيمة".
    والإمام المؤلف رحمه الله معروف لدى أهل العلم بجمال أسلوبه وقوة استنباطه من نصوص الوحيين حتى إن الناظر في كتاب التوحيد وبديع تراجمه كأنه يقرأ للإمام البخاري رحمه الله تعالى.
    وكذلك عنايته رحمه الله بالرسائل القصيرة ومن ذلك رسالة ثلاثة الأصول التي لاقت قبولاً كبيرا من أهل العلم واستحساناً لما اشتملت عليه من أصول عظيمة.
    وهذه الرسالة المباركة فإنها مع صغر حجمها اشتملت على جمل من معتقد الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة فقد حظيت بقبولً واهتمام من أهل العلم فقاموا بشرحها وتوضيح معانيها فأحببت أن يكون لي نصيب من توضيح هذه الرسالة المباركة تأسياً بأولئك الأفاضل من باب قول الشاعر:
    فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم .....إن التشبه بالكرام فلاح.

    فهذه الأصول مهمة كما ذكر ذلك شرّحُاها, فالأصل الأول: كان الكلام فيه عن: إخلاص الدين لله تعالى أي: التوحيد.
    والأصل الثاني: كان عن: قضية الاجتماع على هذا الدين وعلى هذا التوحيد وتحريم التفرق فيه.
    والأصل الثالث: كان في الطريق إلى الاجتماع والطريق إلى القوة وهو السمع والطاعة لمن ولاه الله أمرنا.
    والأصل الرابع: في بيان من هم العلماء وما هو العلم ومن هم الفقهاء وما هو الفقه وبيان حال من تشبه بهم وهو ليس منهم.
    والأصل الخامس: في بيان من هم العباد ومن هم أولياء الرحمن ومن هم أولياء الشيطان.
    والأصل السادس والأخير: الاعتصام بالكتاب والسنة ورد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة وإتباع الآراء والأهواء, المتفرقة المختلفة وهي:
    أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق وبسبب تضييع هذا الأصل الأخير وقعت المخالفة في الأصول السابقة.
    فكانت بحق أصول عظيمة كما قال عنها مؤلفها رحمه الله تعالى:
    ومن الجدير التنبيه عليه أنه ليس لي في هذا الشرح إلا الجمع والترتيب من شروح الفضلاء فممن استفدت من كلامهم وشروحهم على هذه الأصول الستة أصحاب الفضيلة:
    1_ فضيلة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى.
    3_فضيلة الشيخ العلامة صالح الفوزان حفظه الله تعالى.
    5_ فضيلة الشيخ عبد الله بن صالح العبيلان حفظه الله تعالى.
    6_ فضيلة الشيخ عبد السلام برجس رحمه الله تعالى.
    7_ فضيلة الشيخ خالد بن عبد الله بن محمد المصلح حفظه الله تعالى.
    8_فضيلة الشيخ عبد الحميد بن خليوي الرفاعي حفظه الله تعالى.
    وقبل ذلك شيخي الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى: فهما المرجع لكل من أراد أن يوضح التوحيد الذي بعث الله به المرسلين وذلك لعنايتهما بالأصلين الكتاب والسنة وحرصهما على بيانهما للناس كما استفدت في غالب الأحيان من تفسيري ابن جرير الطبري وابن كثير وتفسير العلامة السعدي والعلامة أبو بكر الجزائري حفظه الله تعالى سائلاً المولى الإعانة على التوفيق والسلامة عند الختام.
    وقد ذكرت من استفدت من شروحهم على هذه الرسالة حتى لا أثقل الكتاب بالحواشي إلا إذا رأيت حاجة لذلك.
    هذا والمرجوُّ ممن اطلع على هذه الورقات اليسيرات إن وجد فيه ما يفيد أن لا يحرمني من دعوة صالحة في ظهر الغيب والملك الكريم فيها شهيد ويقول "ولك مثل ذلك" فإن هذا لم يأتي إلاَّ بعد جهد وبحث فمن وجد خطأ فليسبل ثوب الستر الجميل فإن المنصف من اغتفر قليل الخطأ في كثير الصواب, اللهم أني أبرأ من كل حول وطول إلاَّ بك.

    وكان الفراغ من هذا الجمع في:
    30/شوال/1432هـ
    28/9/ 2011م
    وكتب
    أبو عبد الله البصري
    عفى الله عنه.

    مقدمة الشيخ
    قال الشيخ رحمه الله تعالى:
    ((
    من أعجب العجاب وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب ستة أصول([4]) بينها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام فوق ما يظن الظانون ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم وعقلاء بني آدم إلا أقل القليل))

    الأصل لغة: هو أسفل الشيء واصطلاحاً: ما يبنى عليه غيره والمقصود بالأصول هنا أصول الدين وأصول العقيدة التي يجب على كل مسلم أن يعرفها ويعمل بها.
    وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى: له عناية بالرسائل المختصرة التي يفهمها العامي وطالب العلم ومن هذه الرسائل هذه الرسالة المباركة: (ستة أصول عظيمة).
    وسبب اقتصار الشيخ على هذه الأصول الستة هو:
    1_ لأن المخالفة من أهل زمانه لهذه الأصول كانت شديدة ة على الرغم من شدة وضوحها.
    2_ أن هذه الأصول الستة هي أهم ما يقوم عليه الدين الصحيح وبالخلل فيها يكون الخلل في دين الناس سواء كان هذا الخلل كلياً أو جزئياً ولهذا خص هذه الأصول بالذكر.

    (الغلّاب) ليس من أسماء الله عز وجل ولكن ذكره المؤلف رحمه الله تعالى على وجه الصفة(
    [5]) ومعلوم أن باب الأوصاف أوسع من باب الأسماء، فالأسماء توقيفية أما الأوصاف فالأصل فيها التوقيف، لكنها أوسع من باب الأسماء لأن الأسماء لابد فيها من توقيف على الكتاب والسنة.
    أما الصفات فيمكن أن تشتق من الأفعال فكل فعل ثبت لله عز وجل فإنه مشتق منه صفة لله سبحانه وتعالى وقد جاء في بعض الروايات والآثار وصفه جل وعلا بالغالب وهو من معاني اسمه العزيز فإن الغالب هو من معاني اسم العزيز كما تقدم لأن من معاني العزّة الغلبة والقهر.

    (والعوام) العامى الذي لا تمييز له والعامي منسوب إلى العامة الذين هم خلاف الخاصة لأن العامة لا تعرف العلم وإنما يعرفه الخاصة فكل واحد عامي بالنسبة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما سواه.
    والشيء العجيب : هو المستغرب الذي يكون على خلاف العادة كقول كفار قريش:(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص:5).
    ومراد الشيخ رحمه الله تعالى: أن من أكثر ما يثير العجب ما عليه الناس في هذا الزمان. زمان الشيخ من التعامل مع هذه الأصول الستة وحالهم معها حيث أنهم جهلوا هذه الأصول فلم يعلموها أو علموها ولم يعملوا بها على الرغم من شدة بيانها ووضوحها فهذا أمر داعي للتعجب وهذا هو سبب تأليف الشيخ لهذه الرسالة ليزيل سبب هذا العجب.
    والعجب أيضاً أن هذه الأصول الستة مذكورة في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام ثم يغفل عنها كثير من المسلمين ولا يعملون بها والله المستعان.

    (الآيات) جمع آية وهي إما أن تكون مقروءة كما في القرآن الكريم وإما أن تكون مخلوقة كقوله تعالى:(وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَار) (فصلت:37) . وكلاهما دليل على وحدانية الله عز وجل.
    وهذه الأصول الستة مستنبطة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام بدليل قوله: رحمه الله تعالى:(بينها الله تعالى........)

    (للعوام ) فيه دليل على أن هذه الأصول لا تحتاج إلى رسوخ في العلم لمعرفتها لأن الله عز وجل بينها بياناً تاماً وأن هذه الأصول قد بينها الله بياناً واضحاً جلياً بحيث أن العامة من المسلمين يمكنهم فهمها فكيف بمن فوقهم من طلبة العلم بل كيف بمن أعلى من هؤلاء و هم العلماء؟!.
    (أذكياء العالم) الذكاء: هو حدة في الفهم يدرك بها الإنسانُ الغامضَ من الأمور ولا صلة بين الذكاء والإيمان إنما الصلة بين الزكاء والإيمان لأن الزكاء في القلب، والذكاء في الفهم، فقد يكون الإنسان ذكياً كافراً، لكنه لا يمكن أن يكون زكيّاً إلا إذا كان مؤمناً بالله ورسوله.
    ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاءً وأعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}[ الأحقاف:26 ].
    (وعقلاء بني ادم) فيه أشارة على أنه يستحيل أن يستقل عقل الإنسان بمعرفة المصالح والمفاسد من غير نقلٍ من الشريعة.
    (إلا أقل القليل) يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : " بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء" يعني: غلط فيها كثير إلا أقل القليل الذين لم يغلطوا فيها ونسأل الله عز وجل أن نكون ممن يدخل في قوله: { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ:13]. وهذه هي حال بني آدم، فإن أكثرهم ضالون، كما قال الله تعالى:{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الأنعام:116].
    ولذلك لا يجوز الاستدلال على صحة القول أو المذهب أو الطريقة بكثرة السالكين لها وإن هذا أمر مهم لأن الله عز وجل لم يذكر الكثرة على وجه المدح، بل قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه } وقال الله سبحانه وتعالى:{ وَقَلِيْلٌ مِنْ عِبَاْدِيَ الشَّكُوْرُ}.
    وقال جل وعلا: { إِنَّ فِيْ ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَاْنَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ } [الشعراء:8]. فالكثرة لا تدل على صحة الطريق ولا على سلامة المنهج، بل الذي يدل على صحة الطريق وسلامة المنهج هو التزام الكتاب والسنة فهما الحاكمان على كل قول ورأي وعمل، فما وافق الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة فهو الصواب وما خالفه فهو الخطأ المردود، وإن كان عليه أكثر الناس.
    والقلة صفه ملازمة دائماً في الغالب لأهل الحق وهذا واضح في آيات الله تعالى وأهل الحق وإن كانوا قله في العدد ولكنهم في قوة الإيمان أكثر من أهل الشرك والكفر والضلال. وأهل الحق هم قله دائماً في عددهم كما في قوله تعالى{ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} و في الحديث لما أسرى بالنبي :r " فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحدٌ!"(
    [6]).
    وقوله r كذلك :" بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء" رواه مسلم فهؤلاء القلة هم الغرباء هم الذين اصطفاهم الله عز وجل.




    ([1]) (آل عمران:102) .

    ([2]) (النساء :1) .

    ([3]) (الأحزاب:70_71) .

    ([4]) (يبدو أنه في بعض النسخ قال: " ستة أصول عظيمة" وهي كما قال رحمه الله تعالى).

    ([5]) (وقد يكون من باب الأخبار عن الله إذ الأخبار أوسع من الأوصاف كذلك).

    ([6]) (متفق عليه ).

  2. #2

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    (الأصل الأول)
    ((إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة، ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم))
    هذا الأصل هو قاعدة القرآن الأولى وقضيته الكبرى فالقرآن كله في تقرير هذا الأصل، وهو الدعوة إلى إخلاص العبودية لله والتحذير من من الشرك ولذلك لو تأملت في القرآن تجد موضوعه يدور حول هذا الأصل وهو أول أمر أمر الله تعالى به في القرآن ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾(البقرة :21). وكذلك أول نهي في القرآن النهي عن الشرك وذلك في الآية التي بعدها﴿فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ﴾ ( البقرة :22 ) . وعليه استحق أن يكون أول واجب يدُعى إليه المسلمين وينشئوا عليه كما دل على ذلك حديث معاذ t.
    قوله:( إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له................)
    الإخلاص: مأخوذ في اللغة من الخالص وهو الشيء الأبيض الذي لم يشركه شيء غيره من الألوان ولم يدنسه أذى والعرب يسمون الأبيض الصافي بالخالص لأنه نقى والإخلاص في اصطلاح أهل السنة هو توحيد المراد كما قال ابن القيم في نونيته :
    وحقيقة الإخلاص توحيد المراد ........ فلا يخالطه مراد ثانٍ(
    [1]).
    أي: تخليص العمل من كل شبهة وشهوة تعارض المتابعة وإرادة تعارض الإخلاص.
    ومعنى تخليصه وإخلاصه: تبرئته من كل لوث وشرك مع الله سبحانه وتعالى فإخلاص العمل تبرئته من كل نصيب لغير الله جل وعلا والعمل يشمل العمل القلبي وعمل الجوارح العمل الظاهر فيشمل الأعمال الباطنة والأعمال الظاهرة ويشمل الأعمال الواجبة والأعمال المستحبة، فإن الجميع يجب إخلاصه لله سبحانه وتعالى.
    والإخلاص : أحد أركان العبادة لأن العبادة لها ركنان الركن الأول الإخلاص لله جل وعلا والركن الثاني متابعة الرسول r وأدلة هذا الأصل كثيرة مستفيضة في الكتاب والسنة فمن الكتاب العزيز مثلاً: قوله تعالى :{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (البينة:5) .
    وقوله عز وجل:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِه}(الزمر:11-15 ).
    وقوله تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}( التوبة31) . وقال تعالى :{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [:الملك:2].
    قال الفضيل بن عياض : هو أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا: لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص: أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [ الكهف:110 ] . وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [ النساء: 125].
    فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله والإحسان فيه متابعة رسوله وسنته وقال تعالى:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}[ الفرقان:23] وهي الأعمال التي كانت على غير السنة أو أريد بها غير وجه الله(
    [2]). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إخلاص الدين لله عز وجل وحده لا شريك له.
    وأما الأحاديث التي دلت على هذا الأصل العظيم فمنها:
    عن أبي هريرة: y أَنَّ النَّبِيَّ r قَالَ:"أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ" (
    [3]).
    وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب y قالَ : سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ r يقُولُ :"إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْه"(
    [4]).
    قال عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى :"ينبغي لكل من صنَّف كتابًا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث تنبيهًا للطالب على تصحيح النية".
    وعن أمِّ المؤمِنينَ أمِّ عبدِ اللهِ عائشةَ رضي الله عنها قالت قالَ رسول اللهr : "يغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الأَرضِ يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ قَالَتْ قلتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ! كَيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ وَفِيهمْ أسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ؟! قَالَ: يُخْسَفُ بِأَوَّلِهِمْ وَآخِرِهِمْ ثُمَّ يُبْعَثُونَ عَلَى نِيّاتِهمْ"(
    [5]).
    وعن أبي عبدِ اللهِ جابر بن عبدِ اللهِ الأنصاريِّ رَضي اللهُ عنهما قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبيِّ r في غَزَاةٍ فَقالَ: "إِنَّ بالمدِينَةِ لَرِجَالاً ما سِرْتُمْ مَسِيراً ، وَلا قَطَعْتُمْ وَادِياً ، إلا كَانُوا مَعَكمْ حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ"(
    [6]).
    وَفي روَايَة مسلم :"إلا شَرَكُوكُمْ في الأجْرِ" ورواهُ البخاريُّ عن أنسٍ t قَالَ:رَجَعْنَا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ مَعَ النَّبيِّ r فقال:" إنَّ أقْواماً خَلْفَنَا بالْمَدِينَةِ مَا سَلَكْنَا شِعْباً وَلا وَادياً إلا وَهُمْ مَعَنَا حَبَسَهُمُ العُذْرُ"(
    [7]).
    ففي هذا الحديث: دليل على أن من صحت نيته وعزم على فعل عمل صالح وتركه لعذر أن له مثل أجر فاعله وفيه تنبه على فضل النية والإخلاص لله تعالى.
    وكذلك قوله:r لسعد ابن أبي وقاصt :" إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ فَتَعملَ عَمَلاً تَبتَغي بِهِ وَجْهَ اللهِ إلا ازْدَدتَ بِهِ دَرَجةً ورِفعَةً وَلَعلَّكَ أنْ تُخَلَّفَ حَتّى يَنتَفِعَ بِكَ أقْوَامٌ وَيُضَرَّ بِكَ آخرونَ اللَّهُمَّ أَمْضِ لأصْحَابي هِجْرَتَهُمْ ولا تَرُدَّهُمْ عَلَى أعقَابهمْ لكنِ البَائِسُ سَعدُ بْنُ خَوْلَةَ.........".
    وعن أَبي هريرة t قَالَ : سَمِعْتُ رسول الله r يقولُ قَالَ الله تَعَالَى:"أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ"(
    [8]).
    وعن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري t وكان من الصحابة قال قال رسول الله :r" إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك"(
    [9]).

    بيان حقيقة الإخلاص وفضله من كلام ابن تيمية وابن القيم
    :
    قال شيخ الإسلام قال تعالى في حق يوسف:{ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}(يوسف 24). فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور والتعلق بها ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له بحيث تغلبة نفسه على اتباع هواها فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوي في قلبه انقهر له هواه بلا علاج (
    [10]).
    وقال:" فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته لله واستغناؤه عن المخلوقات وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك" (
    [11]).
    قال العلامة ابن القيم: (فصل) " لا يجتمع الإخلاص في القلب ومحبة المدح والثناء والطمع فيما عند الناس إلا كما يجتمع الماء والنار والضب والحوت فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص فاقبل على الطمع أولا فأذبحه بسكين اليأس وأقبل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح سهل عليك الإخلاص. فان قلت وما الذي يسهل علي ذبح الطمع والزهد في الثناء والمدح؟.
    قلت أما ذبح الطمع فيسهله عليك علمك يقينا أنه ليس من شيء يطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره ولا يؤتى العبد منها شيئا سواه. وأما الزهد في الثناء والمدح فيسهله عليك علمك أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمة ويشين إلا الله وحده كما قال: ذلك الأعرابي للنبي r " إن مدحي زين وذمي شين فقال:" ذلك الله عز و جل"(
    [12]).
    فازهد في مدح من لا يزينك مدحه وفي ذم من لا يشنيك ذمه وارغب في مدح من كل الزين في مدحه وكل الشين في ذمه ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين فمتى فقدت الصبر واليقين كنت كمن أراد السفر في البحر في غير مركب قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّك َ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ}.
    وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ}.
    فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له ولا يتم الإخلاص إلا بالصدق ولا الصدق إلا بالإخلاص ولا يتمان إلا بالصبر.
    وقيل: من شهد في إخلاصه الإخلاص احتاج إخلاصه إلى إخلاص فنقصان كل مخلص في إخلاصه: بقدر رؤية إخلاصه فإذا سقط عن نفسه رؤية الإخلاص صار مخلصا مخلصاً.
    وقيل: الإخلاص استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن.
    والرياء: أن يكون ظاهره خيراً من باطنه والصدق, في الإخلاص: أن يكون, باطنه أعمر من ظاهره. وقيل: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق ومن تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله(
    [13]).
    وقال وقيل لسهل:" أي شيء أشد على النفس فقال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب".
    وقال يوسف بن الحسين: "أعز شيء في الدنيا: الإخلاص وكم أجتهد في إسقاط الرياء عن قلبي فكأنه ينبت على لون آخر".
    ثم قال أي: صاحب المنازل" الإخلاص: تصفية العمل من كل شوب" أي : لا يمازج عمله ما يشوبه من شوائب إرادات النفس: إما طلب التزين في قلوب الخلق وإما طلب مدحهم والهرب من ذمهم أو طلب تعظيمهم أو طلب أموالهم أو خدمتهم ومحبتهم وقضائهم حوائجه أو طلب محبتهم له أو غير ذلك من العلل والشوائب التي عقد متفرقاتها هو: إرادة ما سوى الله بعمله كائنا ما كان"(
    [14]).
    وقال:" ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان: لم؟ وكيف؟ أي: لم فعلت ما فعلت وكيف فعلت فالأول سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم أو استجلاب محبوب عاجل أو دفع مكروه عاجل أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى وابتغاء الوسيلة إليه.
    ومحل هذا السؤال : أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك أم فعلته لحظك وهواك؟.
    والثاني : سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة و السلام في ذلك التعبد أي هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولي أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه؟.
    فالأول: سؤال عن الإخلاص والثاني: عن المتابعة فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما.
    فطريق التخلص من السؤال الأول بتجريد الإخلاص.
    وطريق التخلص من السؤال الثاني بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص وهوى يعارض الإتباع فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضمنت له النجاة والسعادة"(
    [15]).
    وقال رحمه الله تعالى:"ويعلم أنه لابد أن ينشر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته وكيف فعلته فالأول سؤال عن الإخلاص والثاني سؤال عن المتابعة قال:تعالى:( فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الحجر92). وقال تعالى :( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ) (الأعراف6). وقال تعالى :( لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) (الأحزاب8).
    فإذا سئل الصادقون وحوسبوا على صدقهم فما الظن بالكاذبين"(
    [16])؟؟؟!!!.
    وقال أيضا:" شجرة الإخلاص أصلها ثابت لا يضرها زعازع أين شركائي الذي كنتم تزعمون وأما شجرة الدباء فإنها تجتث عند نسمة من كان يعبد شيئا فليتبعه "(
    [17]).
    يتبعه تتمة الاصل الاول بإذن الله تعالى ........

    ([1]) ( ينظر شرح الأصول الستة للبرجس رحمه الله تعالى ص 6)
    ([2]) (انظر مدارج السالكين ج2_ص310_ط دار طيبة)
    ([3]) (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ"99" ).
    ([4]) (مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ).
    ([5]) (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
    ([6]) (رواه مسلم).
    ([7]) (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
    ([8]) (رواه مسلم"7666 ").
    ([9]) (قال الشيخ الألباني حسن انظر المشكاة "5318").
    ([10]) (العبودية تحقيق الشيخ علي الحلبي ص79).
    ([11]) (العبوديةص93).
    ([12]) (ولفطه عند الترمذي عن البراء بن عازب: t في قوله:( إَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ). قال قام رجل فقال يا رسول الله إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال النبي: r" ذاك الله عز و جل". صححه الألباني برقم" 2605 " وانظر صحيح الترمذي للألباني رحمه الله تعالى).
    ([13]) (مدارج السالكين ج2_ص32).
    ([14]) (مدارج السالكين ج2_ص32)
    ([15]) (إغاثة اللهفان ط دار ابن الجوزي _ج1_ص43).
    ([16]) (ينظر المصدر السابق).
    ([17]) (بدائع الفوائد ص 203 ).

  3. #3

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    تتمة الاصل الاول
    قوله:(وبيان ضده............)
    والعطف هنا على الإخلاص فالأصل الأول هو بيان التوحيد والأمر به. وبيان الشرك والنهى عنه وقد جمع الله بينهما في كثير من الآيات كقوله تعالى:{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا}(النساء:36). فلا يتحقق إيمان المسلم وتمسكه بالعروة الوثقى إلا بهذين الأمرين معاً كما في قوله: تعالى(فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)( البقرة:256). فشهادة أن لا إله إلا الله فيها تلازم بين الكفر بالطاغوت والإيمان بالله فلا إله: نفى جميع المعبودات من دون الله وهذا كفر بالطاغوت وإلا الله: إثبات العبادة لله وحده لا شريك له.
    والشيخ هنا لا يريد أن يتكلم في الأصل وحده ولكن يريد أن يتكلم في الأصل وضده.
    وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ.
    ولهذا قال: رحمه الله:(الذي هو الشرك.................)
    والشرك دائر على معنىً واحد وهو: تسوية الله بغيره، سواءٌ أكانت التسوية فيما يتعلق بالخلق والرزق والملك والتدبير كأن يعتقد العبد أن هناك خالقاً أو رازقاً أو مالكاً أو مدبراً غير الله جل وعلا أم كانت تسوية الله عز وجل بغيره فيما يجب له من الأسماء والصفات، كأن يعتقد العبد أن صفات الله كصفات المخلوق فهذا أيضاً من الشرك الذي يجب أن يتخلص منه المؤمن ليكمل توحيده وإيمانه من الشرك.
    وأخطر الشرك وأعظمه الشرك في الإلهية وهو الشرك في العبادة ومعناه: أن يجعل العبد مع الله من تُصْرَفُ له العبادة. وأول ما حدث الشرك والانحراف عن العقيدة في قوم نوح فكان عليه السلام أول رسول كما قال تعالى:{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ }[ النساء:163 ]. قال ابن عباس : " كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام".
    قال ابن القيم وهذا القول هو الصواب قطعا فإن قراءة أبي بن كعب يعني في آية البقرة:( فاختلفوا فبعث الله النبيين). ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى:{ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا } [يونس:19].
    وينقسم إلى شرك أكبر وشرك أصغر:
    فالنوع الأول: الشرك الأكبر وهو كل شرك أطلقه الشارع وكان متضمناً لخروج الإنسان عن دينه كدعاء غير اللّه والتقرب بالذبائح والنذور لغير اللّه من القبور والجن والشياطين والخوف من الموتى أو الجن أو الشياطين أن يضروه أو يمرضوه ورجاء غير اللّه فيما لا يقدر عليه إلا اللّه من قضاء الحاجات وتفريج الكربات مما يمارس الآن حول الأضرحة المبنية على قبور الأولياء والصالحين قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}[ يونس : 18 ].
    والنوع الثاني: الشرك الأصغر وهو كل عمل قولي أو فعلي أطلق عليه الشرع وصف الشرك ولكنه لا يخرج عن الملة. وهو قسمان :
    القسم الأول: شرك ظاهر وهو ألفاظ وأفعال: فالألفاظ كالحلف بغير اللّه قالr :" من حلف بغير اللّه فقد كفر وأشرك" وقوله: ما شاء اللّه وشئت قال r لما قال رجل:"ما شاء الله وشئت فقال:" أجعلتني للّه ندّا ؟! قل: ما شاء اللّه وحده"وقول: لولا الله وفلان والصواب أن يقال : ما شاء الله ثم فلان ولولا اللّه ثم فلان لأن ثم للترتيب مع التراخي تجعل مشيئة العبد تابعة لمشيئة اللّه كما قال تعالى:{ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29].
    وأما الواو فهي لمطلق الجمع والاشتراك لا تقتضي ترتيباَ ولا تعقيبا ومثله قول : ما لي إلا اللّه وأنت وهذا من بركات اللّه وبركاتك.
    وأما الأفعال : فمثل لبس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه ومثل تعليق التمائم خوفاَ من العين وغيرها إذا اعتقد أن هذه أسباب لرفع البلاء أو دفعه فهذا شرك أصغر لأن الله لم يجعل هذه أسبابا أما إن اعتقد(
    [1]) أنها تدفع أو ترفع البلاء بنفسها فهذا شرك أكبر لأنه تعلق بغير اللّه وقد عقد المؤلف لكل نوع من أنواع الشرك باباً في كتابه العجاب"كتاب التوحيد (الذي هو حق الله على العبيد)".
    القسم الثاني من الشرك الأصغر: شرك خفي وهو الشرك في الإرادات والنيات كالرياء والسمعة كأن يعمل عملا مما يتقرب به إلى الله يريد به ثناء الناس عليه كأن يحسن صلاته أو يتصدق لأجل أن يمدح ويُثنى عليه أو يتلفظ بالذكر ويحسن صوته بالتلاوة لأجل أن يسمعه الناس فيثنوا عليه ويمدحوه .
    والرياء: إذا خالط العمل أبطله(
    [2]) قال الله تعالى : { فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا }[ الكهف: 110].
    وقال النبي r "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" قالوا يا رسول اللّه وما الشرك الأصغر قال: الرياء".
    ومنه العمل لأجل الطمع الدنيوي كمن يحج أو يؤذن أو يؤم الناس لأجل المال أو يتعلم العلم الشرعي أو يجاهد لأجل المال قال النبي r" تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أُعطي رضي وإن لم يعط سخط"(
    [3]).
    قال الإمام ابن القيم رحمه اللّه :"وأما الشرك في الإرادات والنيات فذلك البحر الذي لا ساحل له وقل من ينجو منه فمن أراد بعمله غير وجه اللّه ونوى شيئا من غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته.
    والإخلاص: أن يخلص للّه في أفعاله وأقواله وإرادته ونيته وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر اللّه بها عباده كلهم ولا يقبل من أحد غيرها وهي حقيقة الإسلام كما قال تعالى:{ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ آل عمران: 85 ]. وهي ملة إبراهيم عليه السلام التي من رغب عنها فهو من السفهاء(
    [4]). وعلى الإنسان الحذر من الشرك أكبره وأصغره فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}[ النساء 48].
    لا يتم بيان الشيء بياناً تاماً إلا بذكر ضده كما قال عمرt :" إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا ظهر في الإسلام من لا يعرف الجاهلية". فلا يستطيع أحد أن يجتنب الشرك بأنواعه ويعتقد العقيدة السليمة وينهج النهج السليم إلا إذا بُين له ما يضاد كل ذلك كما قيل :
    والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء.

    لماذا كان الشرك أعظم الذنوب:؟
    1- لأنه تشبيه للمخلوق الناقص بكل الوجوه بالخالق الذي بلغ في الكمال غايته ومنتهاهه وله خصائص الإلهية فمن أشرك مع الله أحدا فقد شبهه به وهذا أعظم الظلم قال تعالى:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان:13]. والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه فمن عبد غير الله فقد وضع العبادة في غير موضعها وصرفها لغير مستحقها وذلك أعظم الظلم .
    2 - إنَ الله أخبر أنه لا يغفر لمن لم يتب منه قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء: 48] .
    3 - إن الله أخبر أنه حرم الجنة على المشَرك وأنه خالد مخلد في نار جهنم قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } [المائدة: 72] .
    4 - إن الشرك يحبط جميع الأعمال قال تعالى:{ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }[ الأنعام: 88 ]. وقال تعالى:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] .
    5 - إن المشرك حلال الدم والمال قال تعالى:{ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } [ التوبة : 5 ]. وقال النبيr" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "(
    [5]).
    6- إن الشرك أكبر الكبائر قال r" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين"(
    [6]).
    قال العلامة ابن القيم:" أخبر سبحانه أن القصد بالخلق والأمر أن يعرف بأسمائه وصفاته ويعبد وحده لا يشرك به وأن يقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض كما قال تعالى:{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } [الحديد : 25 ]. فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل ومن أعظم القسط التوحيد وهو رأس العدل وقوامه وأن الشرك ظلم كما قال تعالى:{ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13].
    فالشرك: أظلم الظلم والتوحيد أعدل العدل فما كان أشد منافاة لهذا المقصود فهو أكبر الكبائر إلى أن قال فلما كان الشرك منافيا بالذات لهذا المقصود كان أكبر الكبائر على الإطلاق وحرم الله الجنة على كل مشرك وأباح دمه وماله وأهله لأهل التوحيد وأن يتخذوهم عبيدا لهم لما تركوا القيام بعبوديته وأبى الله سبحانه أن يقبل لمشرك عملا أو يقبل فيه شفاعة أو يجيب له في الآخرة دعوة أو يقبل له فيها رجاء فإن المشرك أجهل الجاهلين بالله حيث جعل له من خلقه ندّا وذلك غاية الجهل به كما أنه غاية الظلم منه وإن كان المشرك في الواقع لم يظلم ربه وإنما ظلم نفسه" (
    [7]).
    7 - إن الشرك تنقص وعيب نزه الرب سبحانه نفسه عنهما فمن أشرك بالله فقد أثبت للّه ما نزه نفسه عنه وهذا غاية المحادة للّه تعالى وغاية المعاندة والمشاقة للّه"(
    [8]).
    وقال العلامة ابن القيم أيضاً:"فالشرك والتعطيل مبنيان على سوء الظن بالله تعالى ولهذا قال إبراهيم إمام الحنفاء لخصمائه من المشركين:(أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصافات:86] وإن كان المعنى ما ظنكم به أن يعاملكم ويجازيكم به وقد عبدتم معه غيره وجعلتم له ندا فأنت تجد تحت هذا التهديد : ما ظننتم بربكم من السوء حتى عبدتم معه غيره؟!.
    فإن المشرك إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم من وزير أو ظهير أو عون وهذا أعظم التنقيص لمن هو غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشريك وإما أن يظن بأنه لا يعلم حتى يعلمه الواسطة أولا يرحم حتى يجعله الواسطة يرحم أو لا يكفي عبده وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده الواسطة كما يشفع المخلوق عند المخلوق فيحتاج أن يقبل شفاعته لحاجته إلى الشافع وانتفاعه به وتكثره به من القلة وتعززه به من الذلة أو لا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الواسطة أن ترفع تلك الحاجات إليه كما هو حال ملوك الدنيا وهذا أصل شرك الخلق أو يظن أنه لا يسمع دعاءهم لبعده عنهم حتى يرفع الوسائط ذلك أو يظن أن للمخلوق عليه حقا فهو يقسم عليه بحق ذلك المخلوق عليه ويتوسل إليه بذلك المخلوق كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا يمكنهم مخالفته وكل هذا تنقص للربوبية وهضم لحقها ولو لم يكن فيه إلا نقص محبة الله تعالى وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه من قلب المشرك بسبب قسمته ذلك بينه سبحانه وبين من أشرك به فينقص ويضعف أو يضمحل ذلك التعظيم والمحبة والخوف والرجاء بسبب صرف أكثره أو بعضه إلى من عبده من دونه ......"(
    [9]).
    ثم قال:"وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول r مقاصده، جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهى بصيغتيه: صيغة"لا تفعلوا" وصيغة "إنى أنهاكم" ليس لأجل النجاسة(
    [10]) بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله فإن هذا وأمثاله من النبي r صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه.
    فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكاباً لنهيه وغرهم الشيطان فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم أشد لها تعظيما، وأشد فيهم غلوا، كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد.
    ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عبَّاد يغوث ويعوق ونسر ومنه دخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة. فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن فى طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم وأما المشركون فعصوا أمرهم، وتنقصوهم فى صورة التعظيم لهم"(
    [11]).
    وإذا كان معرفة الشرك ضروري كي يجتنب فمعرفة السبل مهمة لطالب العلم كذلك والأصل في هذه المسألة هي قوله تعالى:{ وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}(الأنعام 55). فالناس في معرفة السبل تتفاوت تفاوتاً عظيماً ولهذا انقسموا في معرفته أربعة فِرق:
    الفرقة الأولى: من عميت عنها السبيلان من أشباه الأنعام, وهؤلاء بسبيل المجرمين أحضر ولها أسلك.
    الفرقة الثانية: عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة وسبيل المؤمنين مجملة وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات أهل البدع فعرفها على التفصيل ولم يعرف ما جاء به الرسول r كذلك بل عرفه معرفة مجملة وان تفصلت له بعض الأشياء ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا.
    الفرقة الثالثة:من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل وان لم يتصوره على التفصيل, بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف عنه سمعه ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه وهو بمنزلة من سلمت نفسه من أرادت الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه, بخلاف الفرقة الرابعة فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله.
    الفرقة الرابعة: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا وهؤلاء أعلم الخلق. (وهم الصحابة ومن سار على دربهم) ولهذا سلموا من البدعة والشرك"(
    [12]).
    وقوله:(من وجوه شتى...................)
    هذه الجملة تشتمل على مسألتين هامتين :
    أ ) أن أكثر القران جاء لبيان التوحيد والنهى عن الشرك وهذه الحقيقة يعرفها كل من قرأ القران واستمع له ولذا قال ابن القيم إن كل آية في القران متضمنة للتوحيد وداعية إليه و فسر هذا بأن القران لا يخلو أن يأتي في خمس مواضيع :
    1- خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وهذا هو التوحيد العلمي الخبري أي الذي يستفاد عن طريق الخبر وعن طريق العلم.
    2- الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه وهو التوحيد الطلبى وهو توحيد الألوهيه.
    3- أمر ونهى وهو إلزام بطاعة الله وفعل أمره واجتناب نهيه وهذا من حقوق التوحيد.
    4- إنعام الله على أهل التوحيد وذكر ما أعد لهم من الجزاء في الدارين وهذا جزاء التوحيد.
    5- خبر عن الكفار وما أعده الله لهم من عذاب عقوبة على ترك التوحيد ومن ثم فالقران كله جاء في بيان التوحيد وسورة الفاتحة كل أية فيها توحيد ( الحمد لله رب العالمين) توحيد و كذلك باقي الآيات.
    ب) من حكمة الله تعالى حتى .تقوم الحجة على الناس أن جعل كل, آيات التوحيد, في القران سهلة بسيطة ومختلفة الأساليب(
    [13]). حتى أن لم يفهم بهذا, الأسلوب فهم بأسلوب أخر ولهذا فمن بلغة القران فقد بلغته حجة الله الرسالية([14]). فإن لم يدخل في دين الله عز وجل فهو من أهل النار ولذلك فإن الوجوه التي جاءت عليها الآيات القرآنية المتضمنة للتوحيد يفهمها كل إنسان إلا من كان مجنوناً أو معتوهاً، وهذه الوجوه,كثيرة,ومت نوعة,منها:
    1_ الأمر صراحة بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه عز وجل مختص بهذه العبادة فلا يجوز أن تصرف لغيره مثل قوله تعالى :{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} (آل عمران:64) وقوله: { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (النساء:36) .{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} (النحل:36). وقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}(الإسراء:23).
    2_ النهى الصريح المباشر عن الشرك والكفر في قوله تعالى:{قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (الأنعام:151). قوله تعالى {لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} (الكهف:38) قوله تعالى:{ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} (المائدة:72).قوله تعالى:{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}(النساء:48). فكلها آيات صريحة في النهى عن الشرك فهل من ,سمع هذه الآيات ,لا يعرف معنى التوحيد ولا يعرف خطورة الشرك.
    3_ إن الله أثبت أنه وحده المتفرد بالإلوهية ولا يشركه فيها احد, من المخلوقات لا نبي, مرسل ولا ملك, مقرب، و منه, قوله تعالى :{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (محمد 19). وقوله تعالى { أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف:110).
    4_ بيان الله لاختصاصه بالربوبية فوجب إفراده في الالوهيه لزوماً لهذا، ولذا احتج الله على الكفار بتوحيد الربوبية ليحققوا توحيد, الإلوهية, في سورة البقرة :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة 21-22). وقوله تعالى :{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}(قريش:3).
    5_ إن الله خاطب عقول الناس وبين لهم أن كل معبود من دون الله تعالى هو معبود نقص لا يملك ما يؤهله لهذه العبودية كما جاء في, قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}(الحج7).
    6_ ذكر الله تعالى للآيات الدالة على نعمه الظاهرة والباطنه, وفيها إلزامهم بالعبادة له فوجوه تقرير, القران للتوحيد كثيرة بما لا يبقى شبهه في قلب أحد.
    قوله:( بكلام يفهمه أبلد العامة................)
    يعني: لا يحتاج إلى فهم ولا إلى قوة بلاغة ولا إلى عظيم إدراك حتى يصل إلى فهم هذه المعاني، بل هي ظاهرة لكل أحد فمثلاً قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اَللهُ أَحَد }[الإخلاص:1] هذه الآية يدرك معناها كل أحدٍ من الناس، وأنه عز وجل أحد فيما يجب له سبحانه وتعالى من الربوبية والإلهية والأسماء والصفات.
    قوله(ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار.....................)
    أي: أنهم انحرفوا عن التوحيد ومالوا إلى الشرك والوقوع في الخرافات وكثر في الأمة وتفشى ولا سيما في القرون الأخيرة فأصبح في كل بلد وثن يُعبد من دون الله وهنا يجب أن يعلم أن التوحيد هو الأصل في بني آدم وأن الشرك طارئ.
    قوله:( أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين.......................)
    وهذا هو دأب الشيطان أعاذنا الله وإياكم منه فإنه يأتي للمؤمن ويظهر له الطاعة بثوبٍ قبيح تنفر منه النفس وتزهد فيه،وتنصرف عنه،ويأتي إلى البدعة والمعصية فيكسوها أجمل الحلل، ويبهرجها ويزخرفها بأحسن الزخارف حتى يقبل عليها من ضعف إيمانه ولم يرسخ يقينه.
    وأما أهل الإيمان والبصائر فإنهم لا تغريهم هذه المظاهر بل ينظرون إلى الأمور بالبصيرة التي يمنّ الله سبحانه وتعالى بها على المتقين، فيفرقون بين الحق والباطل ولا تختلط عندهم هذه الأمور، بل هي عندهم في غاية الظهور فالشيطان يظهر الشرك بمظهر محبة الصالحين(
    [15]).
    ويظهر الداعين إلى التوحيد بأنهم لا يحبون الصالحين ولا يعظمونهم حق تعظيمهم، فإذا جئت إلى رجلٍ وقلت له: يا أخي لا تتوجه إلى القبر في الدعاء،وتوجه, إلى القبلة واسأل, ربك الذي يملك خزائن السماوات والأرض جلّ وعلا ولا تسأل هذا المقبور الذي لا يملك لنفسه حولاً ولا طوْلاً قال: أنت لا تعرف قدر الصالحين، ولا, تقدر أولياء الله. وهذا في الحقيقة من جهله، وأنه لم يقدر الله حق قدره ولو قدر الله حق قدره ما توجه إلى مقبور, بين التراب ولتوجه إلى رب الأرباب لكن لضعف يقينه وقلة بصيرته انطلت, عليه هذه الصورة،وجعل تعظيم أهل القبور والصالحين بالانحناء لهم والركوع أو السجود وغير ذلك مما يفعله أهل, الشرك، وكل هذا مما يخالف هدي النبي r ومما يوقع في الشرك.
    والواجب على المؤمن أن يبعد نفسه عن كل ما خالف هدي النبي r وأن يعلم أن خير الهدي هدي النبي r وإذا وقع المؤمن في شيء من هذا فإن الشيطان سيزيِّنه له، لكن إن راجع المؤمن كتاب الله وسنة رسوله r وهدي السلف الصالح سلم من هذه الشبه.
    وليعلم أنه لا أحد أعظم اتباعاً للكتاب والسنة من رجل جعل الله عز وجل قصده ومعبوده ولم يصرف إلى غيره نوعاً من العبادة، فليحذر المؤمن من الشيطان فإنه يأتي إلى هؤلاء ويزين لهم الشرك ويقول لهم: هذا ليس شركا إنما هذا من إجلال الصالحين ومن تعظيمهم حتى ينفرهم من دعوة التوحيد يقول: هؤلاء إنما يدعون إلى تنقص الصالحين والوقيعة فيهم، ولا يعظمونهم ولا يقدرونهم حق قدرهم وهذه شبهة ضعيفة لا تنطلي إلاّ على ضعاف العقول.
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:"ومن العجب أنهم ينسبون أهل التوحيد إلى التنقص بالمشايخ والأنبياء والصالحين وما ذنبهم إلا أن قالوا : إنهم عبيد لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وأنهم لا يشفعون لعابديهم أبدا بل قد حرم الله شفاعتهم لهم ولا يشفعون لأهل التوحيد إلا بعد إذن الله لهم في الشفاعة فليس لهم من الأمر شيء بل الأمر كله لله والشفاعة كلها له سبحانه والولاية له فليس لخلقه من دونه ولي ولا شفيع"(
    [16]).
    ولذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وإتباعهم..........................).
    والصحيح أنها غلو في الصالحين، ومجاوزة للحد وإلاَّ فالمؤمن لا يقع في هذا ولا يقرب منه، بل لا يعظم إلاّ ما عظمه الله ورسوله r ثم إن محبة الصالحين عبادة، لكن لا يجوز أن يتجاوز المؤمن في هذه العبادة حدها حتى يقع في الشرك ومن رأوه يخلص العبادة لله تعالى اتهم بالتقصير اتهم في تنقيص الصالحين أنه ينقص الصالحين ويقصر في حقوقهم .
    جعلوا للصالحين حقوقاً عظيمة أعظم من حق الله تعالى حق الله تعالى على عباده كما يعلم الجميع أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وما هي حقوق الصالحين التي يتهم من أخلص العبادة لله سبحانه وتعالى بأنه ضيعها؟ وأنه قصر في حقوق الصالحين ما هي هذه الحقوق ؟ أين جاء ذكرها في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام حتى شغلت بال كثير من الناس الاهتمام بحقوق الصالحين وتعظيم الصالحين ومحبة الصالحين والغلو في الصالحين؟
    حقيقيٌ وصحيحٌ أن الصالحين من عباد الله الصالحين الواجب علينا محبتهم في الله لكن فليسبق ذلك محبة الله(
    [17]) وألا يحبوا مع الله ليس من حقوق الصالحين أن يحب الرجل الصالح مع الله حتى يجعل شريكاً لله بل من حقه علينا أن نحبه في الله التفريق بين الأمرين هو الذي قصر فيه كثير من الأذكياء كما قال الجامع لهذه الأصول حتى لم يفرقوا بين الحب في الله والحب مع الله, الذي يجري الآن في المجتمعات الإسلامية في الغالب الكثير لدى أضرحة من سموهم بالصالحين الحب مع الله لا الحب في الله الحب مع الله من أعظم أنواع الشرك الأكبر قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى...} الآية.
    من أحب غير الله مع الله وعظمه كما يعظم الموحدون رب العالمين وتذلل له كما يتذلل الموحد لله سبحانه وتعالى وبالغ في تعظيمه إلى درجة اعتقاد أنه يعلم ما في الصدور وأنه ينفع ويضر هذا هو الشرك الأكبر الذي تورط فيه عوام المسلمين لدى كثرٍ من أضرحة الصالحين أو غير الصالحين وشجعهم على ذلك كثير من المنتسبين إلى العلم وزينوا لهم أن ما يفعلونه عند قبور الصالحين من الطواف بها والذبح لها والنذر لها كل ذلك من محبة الصالحين ومن التوسل بالصالحين وليست من العبادة في شيء هذا هو الواقع والحقيقة أن هذه التهمة ليست جديدة فالنبي عليه الصلاة والسلام لما بُعث إلى المشركين في مكة وكان ينهاهم عن عبادة الأصنام وعبادة الآلهة الباطلة كانوا يقولون عنه إنه يسب آلهتهم.
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى:"ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا والنهي عن اتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها واستلامها وتقبيلها وتعفير الجباه في عرصاتها غض من أصحابها ولا تنقيص لهم ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه. فأنت والله وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم وسنتهم وعلى هديهم ومنهاجهم وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى عليهما السلام والرافضة مع علي t فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل فـ(وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ). و(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ).
    فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته مشتغلين, بقبره عما أمر به ودعا إليه ,وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما, دعوا إليه من, العلم النافع والعمل, الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادة طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعياداً"(
    [18]).
    وأعلم أيها الموفق أن أهل الشرك ينقمون على أهل التوحيد إخلاصهم وكذلك أهل البدع ينقمون على أهل السنة أتباعها وتعظيمها!.
    قال العلامة ابن القيم:" وهكذا المشرك إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد وأنه لا يشوبه بالإشراك.
    وهكذا المبتدع : إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول وأنه لم يشبها بآراء الرجال ولا بشيء مما خالفها.
    فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة خير له وأنفع وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله عليه من موافقة أهل الشرك والبدعة.
    إذا لم يكن بد من الصبر فاصطبر ..... على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه(
    [19]).
    مراحل إضلال الشيطان وتزيينه للشرك:
    المرحلة الأولى: جاء إلى قوم نوح إبليس فقال: لهم ألا تضعون لهم نصباً لتذكروا عبادتهم فمات الجيل الأول ولم تعبد الأصنام.
    المرحلة الثانية :جاء الشيطان للجيل الثاني وقال لهم إن أولكم ما وضعوا نصب ليغوث ويعوق ونسرا إلا لأنهم كانوا يستشفعون بهم إلى الله تعالى فأخذوا يستشفعون بهم.
    المرحلة الثالثة: كذلك وسوس لهم الشيطان بأن دعاء الله عند القبور الصالحين أولى وأنفع وأبرك من الدعاء في المساجد فأصبحوا يدعون عند القبور.
    المرحلة الرابعة :وسوس لهم الشيطان بدعاء أصحاب القبور أنفسهم ليكشفوا مرضهم, ويقضوا حاجاتهم.
    المرحلة الخامسة: أوقعهم الشيطان في الشرك وذلك لأن الدعاء هو العبادة ولقوله تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (الجن: 18).
    المرحلة السادسة : بدأ العاكفون على القبور بدعوة الناس لما وقعوا فيه من الشرك مدعين كذباً أن هذا هو التوحيد وأن هذه هي محبة الصالحين فبدأ هؤلاء القبوريون بالدعوة لهذا الباطل وألفوا الكثير من المؤلفات التي تدعوا لدعاء القبور.
    المرحلة السابعة : العداوة الشديدة لكل من دعا إلى العودة إلى ما كانت عليه الأمة في الأجيال الفاضلة من التوحيد وإفراد العبادة لله والنهى عن الشرك والتحذير منه تحت شبهه أن هؤلاء يتنقصون من الصالحين ويزدرونهم وهذا غير صحيح فلم يقلل أحداً من الصالحين ولا من مكانتهم.
    ولكن يجب ألا تكون مكانتهم في قلوب العباد كمكانة الله سبحانه وتعالى وعليه فإن أفضل الصالحين وهو نبينا محمد r جاءت السنة الصحيحة عنه عن عمر t قال قال رسول الله r :" لا تطروني(
    [20]) كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"([21]).

    انتهى الأصل الأول وهو أصل عظيم ينبغي أن يتأمل فيه الإنسان تأملاً طويلاً وكذلك يتأمل في هؤلاء الناس كيف لبّس الشيطان عليهم دينهم فيعرف نعمة الله عليه ويسأله العافية مما وقعوا فيه يليه الأصل الثاني بإذن الله تعالى.

    ([1]) (وهذا هو الضابط في المسألة الاعتقاد).
    ([2]) (في المسألة تفصيل أنظره في القول المفيد على كتاب التوحيد للعلامة ابن عثيمين باب"الخوف من الشرك").
    ([3]) (رواه البخاري "2886").
    ([4]) (انظر كتاب التوحيد للعلامة الفوزان حفظه الله تعالى)
    ([5]) (رواه البخاري ومسلم) .
    ([6]) (رواه البخاري ومسلم).
    ([7]) (الجواب الكافي ص 109 بواسطة كتاب التوحيد للعلامة للفوزان).
    ([8]) (انظر كتاب التوحيد للعلامة الفوزان حفظه الله تعالى).
    ([9]) (أنظر إغاثة اللهفان ج1_ص129).
    ([10]) (أي نجاسة القبور ).
    ([11]) (إغاثة اللهفان ج1_ص356)
    ([12]) (ينظر فوائد الفوائد ص 138 بتصرف وتقديم وتأخير).
    فـائـدة :أكثر أنواع الشرك شيوعا هو شرك الدعاء وقد تقرر بالقرآن الكريم والسنة المطهرة أن الدعاء هو العبادة فمن صرفه لغير الله فهو مشرك بالله قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدا) (الجـن:20). فالآية صريحة في أن من دعا غير الله فقد أشرك وقال تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60) فجعل الدعاء هو العبادة وثبت عند الترمذي بسند صحيح : أن رسول الله r قال :" الدعاء هو العبادة ".
    ([13]) (وسيتضح ذلك أكثر في الأصل السادس والأخير من هذه الرسالة المباركة).
    ([14]) (وهذا ليس على أطلاقة و المسألة فيها تفصيل ليس هذا موطنه).
    ([15]) (وقد عقد الشيخ الأصل الخامس لبيان من هم الصالحين والأولياء ووجه الانحراف الذي وقع بسبب الجهل بحالهم).
    ([16]) (إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان ج1_ص129)
    ([17]) قال ابن القيم:"وأعظم أنواعها المحمودة محبة الله وحده وهذه المحبة هي أصل السعادة ورأسها التي لا ينجو أحد من العذاب إلا بها والمحبة المذمومة الشركية هي أصل الشقاوة ورأسها التي لا يبقي في العذاب إلا أهلها فأهل المحبة الذين أحبوا الله وعبدوه وحده لا شريك له لا يدخلون النار من دخلها منهم بذنوبه فانه لا يبقى فيها منهم أحد ومدار القرآن على الأمر بتلك المحبة ولوازمها والنهى عن المحبة الأخرى ولوازمها"(الداء والدواء).
    ([18]) (إغاثة اللهفان ج1_ص391)
    ([19]) (ينظر إغاثة اللهفان ج1_ص138).
    ([20]) (الإطراء : الإفراط في المديح ومجاوزة الحد فيه ، وقيل : هو المديح بالباطل والكذب فيه).
    ([21]) (انظر صحيح الجامع للألباني " 7363 ").

  4. #4

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    (الأصل الثاني)
    ((أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بياناً شافياً تفهمه العوام ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا، وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه ويزيده وضوحاً ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين ، وصار الاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون))
    سبحان الله عندما رأيت حال, أهل السنة في هذه الأيام من وحشة ونفره تفرق في الأبدان والقلوب والإفهام ,وتناوش, بالتهم والألقاب سألت بعض طلبة, العلم عن ذلك؟! فأجابني"بأن الفرقة التي في أهل البدع أكثر بكثير"!.فلم يقنعني جوابه كثيراً .
    فسألت شيخنا الفاضل فتحي سلطان الموصلي حفظه الله تعالى قائلاً: نجد أن نصوص الكتاب والسنة وحال السلف, الصالح تأمر بالاجتماع والمودة والتآلف وحالنا نحن معاشر أهل السنة بخلاف ذلك؟!
    فأجابني" أن غالب الشباب اليوم ما فهموا حقيقة الإسلام كما فهمه السلف الصحابة ومن بعدهم وإنما فهم الإعراب"(
    [1]).
    ثم زاد عجبي لما رأيت أن أمام الدعوة التي ننتسب إليها بكل فخر واعتزاز قد ذكر هذا الأمر في ثاني الأصول التي جمعها! ومما يزيد العجب أن التفرق بين أهل الحق هو سبب لانتشار الشرك ولهذا جاء به الشيخ بعد الأصل الأول بهذا الأصل.
    فنسأل الله أن يجمع شمل أهل السنة كما كان من قبل ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي والرجوع لما كان عليه السلف الصالح وتعظيم نصوص الوحي وقد ذكر الشيخ في كتابه مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله: r أهل الجاهلية المسألة الثانية: "التفرق في الدين والدنيا ويرون أنه هو الصواب".
    قال الشيخ رحمه الله تعالى:" أنهم متفرقون في دينهم، كما قال تعالى:{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}. وكذلك في دنياهم ويرون أن ذلك هو الصواب فأتى بالاجتماع في الدين بقوله: { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ}. وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ}.
    ونهانا عن مشابهتهم بقوله: { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ونهانا عن التفرق في الدنيا يقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا َلَا تَفَرَّقُوا}.
    قال الشيخ العلامة صالح آل الشيخ :" هذه المسألة الثانية التي وَصَفَ فيها أهل الجاهلية بأنهم متفرقون في دينهم ودنياهم، عندهم العزة والكرامة في التفرق؛ لأنه يدل على استقلال كل بما عنده، وأنه لا يتبع أحدا متفرقون في دينهم، كلٌّ له دين، بعضهم يعبد الملائكة، بعضهم يعبد الصالحين، بعضهم ينكر البعث بعضهم يجحد الرسالة بعضهم يؤله عيسى، بعضهم يؤَلِّه عزيرا، ونحو ذلك، في دينهم لم يجتمعوا كذلك في دنياهم، فبين الله جل وعلا أنه شرع لنا من الدين ما نجتمع بيه في الدنيا......أ.هـ
    ثم قال حفظه الله تعالى:" قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في شرح هذه الآية في "قاعدة الجماعة والفرقة"(
    [2]) إن الأصل الأصيل الذي دعا إليه الأنبياء جميعا وهو الدين المشترك والإيمان المشترك هو الاجتماع على دين حق وعدم التفرق في ذلك. وأكد ذلك جل وعلا بقوله (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) فذكر جل وعلا ما وصف به أمر المرسلين بقوله (وَصَّيْنَا) وما أمر به النبي r بقوله:(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ).
    قال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى).
    فهذه الآية فيها الأمر بالاجتماع، (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) .
    وإقامة الدين بالاجتماع على التوحيد؛ يعني على ما دعا إليه النبي rبأن لا يكون في البلاد شرك وأن لا يُقر الشرك وأن لا يكون هناك ما يحرم أصل الدين، لأنه إذا تفرق الناس في أصل الدين تفرقوا في الدنيا ولا شك، فأهل الشرك لما تفرقوا في الدين تفرقوا في الدنيا، فالتفرق في الدين يورث التفرق في الدنيا، وكذلك التفرق في الدنيا يعني: بعدم الاجتماع في الدنيا يعني بعدم الاجتماع كما سنوضحه يورث التفرق في الدين فأمر الله جل وعلا بعدم التفرق في الدين وعدم التفرق في الدنيا؛ يعني بالأمر بالاجتماع والائتلاف في الأبدان والاجتماع في الدين،فهما نوعان: من الاجتماع؛ اجتماع في الأديان واجتماع في الأبدان وأحدهما ملازم في الآخر لهذا قال أهل العلم: الجماعة في قول النبي: r "الجماعة رحمة والفرقة عذاب"(
    [3]).
    ونحو ذلك من النصوص التي فيها ذكر الجماعة هو ما يكون من مجموع الأمرين، اجتماع في الدين واجتماع في الدنيا، اجتماع في الأبدان واجتماع في الدين، فكما أن النبي:r خالف أهل الجاهلية في أنهم متفرقون في الدين فأتى بدين واحد يخضع له الجميع، كذلك أمره بالاجتماع في الدنيا وأن يقروا لولاتهم وأن لا يخرجوا عليهم كما سيأتي إيضاحه في المسألة الثالثة"(
    [4]).
    إذاً الشيخ عقب بهذا الأًصل بعد الأصل السابق لأن انتشار الشرك في الغالب لا يقع إلا بعد حدوث التشاحن والاختلاف بين المسلمين ولهذا فإن النبي r كثيراً ما يقرن بين الشرك وخطورة الشحناء بين المسلمين كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله r قال:" تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل مؤمن إلا عبدا بينه بين أخيه شحناء فيقال اتركوا هذين حتى يفيئا".
    وقال:r" إن الله تعالى ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن"(
    [5]). فالطريق إلى الشيطان لتمرير الشرك هو وجود الشحناء بين المسلمين فينشغل المسلمون ببعضهم البعض تبديعاً وتفسقاً وتكفيراً فينسون مقاصد الشريعة والتوحيد!!!. ولو لم يكن في التدابر والتشاحن إلا هذا الخطر الكبير لكفى أهل التوحيد والسنة الانتهاء عنه.
    ولهذا إن قوة الأمة لا تكون إلا في وحدتها واجتماعها، ولهذا لما تفرقت الأمة شذر مذر، تسلط عليها أعداؤها وساموها سوء العذاب، فإذا أرادت الأمة أن يعود لها مجدها وعزتها وقوتها فعليها بالاجتماع على كتاب الله وسنة رسوله r وعليها أن تنبذ التفرق والاختلاف.
    والاجتماع في الدين لا يمكن ولا يتحقق إلاّ بالاعتصام بالكتاب الحكيم والأخذ بسنة خاتم النبيين r والسير على صراط الصحابة والتابعين من خير القرون، هذه الأمور الثلاثة بها يحصل الاجتماع في الدين ومن غيرها لا يمكن أن يحصل اجتماع، بل غيرها هو الفرقة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها وحذر منها رسوله: r ومع الأمر بالاجتماع لابد أن تبين طريق الاجتماع، وهو ما بينه الله في كتابه، أما أن تطلق الدعوة إلى الاجتماع دون بيان الطريق الموصل للاجتماع فهذا لا يحقق المقصود؛ لأن الله لما أمر بالاجتماع لم يأمر به مطلقاً، بل أمر به أمراً واضحاً مقيداً فقال سبحانه وتعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}.
    وقال جلّ وعلا: { أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ }[الشورى:13]. وإقامته لا تكون إلا بأخذه من صادره الأصيلة الكتاب والسنة، فالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق مما دل عليه الكتاب والسنة دلالةً واضحة. قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} الأنعام(159).
    قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى:"يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم، أي: شتتوه وتفرقوا فيه، وكلٌّ أخذ لنفسه نصيبا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية.
    أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة.
    ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية.
    وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال:{ لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } أي لست منهم وليسوا منك، لأنهم خالفوك وعاندوك{ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ } يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم { ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }.
    وقوله تعالى:{ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ }. هذه أكبر منة أنعم الله بها على عباده، أن شرع لهم من الدين خير الأديان وأفضلها وأزكاها وأطهرها، دين الإسلام، الذي شرعه الله للمصطفين المختارين من عباده، بل شرعه الله لخيار الخيار وصفوة الصفوة، وهم أولو العزم من المرسلين المذكورون في هذه الآية أعلى الخلق درجة، وأكملهم من كل وجه فالدين الذي شرعه الله لهم، لا بد أن يكون مناسبا لأحوالهم موافقا لكمالهم، بل إنما كملهم الله واصطفاهم، بسبب قيامهم به فلولا الدين الإسلامي، ما ارتفع أحد من الخلق، فهو روح السعادة، وقطب رحى الكمال، وهو ما تضمنه هذا الكتاب الكريم، ودعا إليه من التوحيد والأعمال والأخلاق والآداب.
    ولهذا قال:{أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ }. أي: أمركم أن تقيموا جميع شرائع الدين أصوله وفروعه، تقيمونه بأنفسكم، وتجتهدون في إقامته على غيركم، وتعاونون على البر والتقوى ولا تعاونون على الإثم والعدوان.{وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}. أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه واحرصوا على أن لا تفرقكم المسائل وتحزبكم أحزابا، وتكونون شيعا يعادي بعضكم بعضا مع اتفاقكم على أصل دينكم" (
    [6]).
    ومن أنواع الاجتماع على الدين وعدم التفرق فيه، ما أمر به الشارع من الاجتماعات العامة، كاجتماع الحج والأعياد، والجمع والصلوات الخمس والجهاد، وغير ذلك من العبادات التي لا تتم ولا تكمل إلا بالاجتماع لها وعدم التفرق.
    { كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي: شق عليهم غاية المشقة، حيث دعوتهم إلى الإخلاص للّه وحده، كما قال عنهم: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } وقولهم: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ }.
    وقوله تعالى:{ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } .
    لما أمر تعالى باجتماع المسلمين على دينهم، ونهاهم عن التفرق، أخبرهم أنكم لا تغتروا بما أنزل الله عليكم من الكتاب، فإن أهل الكتاب لم يتفرقوا حتى أنزل الله عليهم الكتاب الموجب للاجتماع، ففعلوا ضد ما يأمر به كتابهم، وذلك كله بغيا وعدوانا منهم، فإنهم تباغضوا وتحاسدوا، وحصلت بينهم المشاحنة والعداوة، فوقع الاختلاف، فاحذروا أيها المسلمون أن تكونوا مثلهم"(
    [7]).
    إذا ما نعيشه اليوم من هذا التفرق الخطير كل ذلك يصطدم مع هذه النصوص وهذا ما يستغرب منه هذا الذي جمع هذه الأصول وإن من أعظم أسباب رد الحق هو تعظيم الرجال بل هو من أعظم أسباب الوقوع في الشرك كما في البخاري(
    [8]) عن ابن عباس y في قصة قوم نوح مع الرجال الصالحين فتجد بعض الناس يعتقد أن الحق في كل ما قاله فلان فإذا جاء الدليل من الكتاب والسنة بخلافه رفضه وتمحل في رده وتأويله ومن تأمل أحوال الفرق الضالة وجدهم أشد الناس تعلقاً بالأشخاص كما يفعل الشيعة وكما هو موجود في كثير من الجماعات الإسلامية فتجدهم يعظمون الشخص لأنه عذب مثلا أو جاهد...أو...!!! .
    وعقيدة أهل السنة والجماعة أن المعصوم هو رسول الله:r وحده وأما من سواه فيؤخذ من قوله ما وافق الكتاب والسنة ويرد ما خالفهم . ولذلك فإن الواجب هو ربط المسلمين برسول اللهr لأن ربطهم بغيره من أعظم أسباب اختلافهم كما حصل في المذاهب الأربعة .
    تجد هذا يعظم الشافعي ويرفض قول أبي حنيفة وهذا يعظم قول أحمد ويرفض قول مالك حتى وصل بهم التعصب للرجال أن أفتى بعضهم بتحريم زواج الحنفية من الشافعي بل وضعوا أحاديث في مدح أئمتهم وذم أئمة آخرين وما ذاك إلا لتعظيم الرجال والتعصب لهم! حتى قال الصاوي صاحب الحاشية على الجلاليين: "إن الأخذ بظاهر القرآن كفر"! لماذا؟ تعصبا للمذهب!.
    وليس المقصود من الاجتماع تكثير سواد المسلمين على ما فيهم من بعد عن عهد الرسالة وإنما المقصود بالاجتماع الاعتصام بحبل الله على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة قال تعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }. والتأليف بالقلوب معناه : الاجتماع:
    قال العلامة السعدي:" فاجتمعوا وائتلفوا، وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم، ولم يكن هذا بسعي أحد، ولا بقوة غير قوة اللّه،فلو أنفقت ما في الأرض جميعا من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك النفرة والفرقة الشديدة { مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلا اللّه تعالى:{وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }. ومن عزته أن ألف بين قلوبهم، وجمعها بعد الفرقة كما قال تعالى:{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا }. هذه بعض الآيات التي جاءت بالحض على الاجتماع.
    أما الأحاديث النبوية التي أمرت بالاجتماع والتآلف ونهت عن الفِرقة والتناحر كثيرة:
    فعن أبي ثعلبة الخشنيt قال:"كان الناس إذا نزلوا منزلًا تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول اللهr : "إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان"فلم ينزل بعد ذلك منزلًا إلا انضم بعضهم إلى بعض حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمهم" (
    [9]).
    قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:" إذا كان مثل هذا التفرق الذي إنما هو في أمر عادي من عمل الشيطان، فما بالك بالتفرق في الدين وفي أعظم أركانه العملية كالصلاة مثلًا، حيث نرى المسلمين اليوم يتفرقون فيها وراء أئمة متعددة في مسجد واحد، أفليس ذلك من الشيطان بلى وربي، ولكن أكثر الناس لا يعلمون:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}"(
    [10]).
    وعن أبى هريرة t أن رسول الله r قال :" إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" (
    [11]).
    وعنه أيضاً قال: قالr " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتيين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسبعون في النار" قيل يا رسول الله من هم ؟ قال: ( الجماعة )" (
    [12]).
    وعن عبد الله بن عمرو t قال رسول الله r: "ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة" قالوا ومن هي يا رسول الله قال:" ما أنا عليه وأصحابي"(
    [13]).
    وعن أبي أمامة y قال قال رسول الله r :"ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل" ثم تلا رسول الله r هذه الآية { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف 58 ) (
    [14]).
    وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
    قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله تعالى :" فينبغي أن يفرق بين الهجر لحق الله وبين الهجر لحق نفسه فالأول مأمور به و الثاني منهي عنه لأن المؤمنون أخوة وقد قال النبيr : في الحديث الصحيح" لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله أخوانا المسلم أخو المسلم" وقال:r في الحديث الذي في السنن" ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قالوا بلى يا رسول الله قال: إصلاح ذات البين فان فساد ذات البين هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"(
    [15]).
    وقال في الحديث الصحيح :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" وهذا لأن الهجر من باب العقوبات الشرعية فهو من جنس الجهاد في سبيل الله وهذا يفعل لأن تكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله والمؤمن عليه أن يعادى في الله ويوالى في الله فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وان ظلمه فان الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية.
    قال تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (الحجرات:9). إلى قوله ................{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }.
    فجعلهم أخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم فليتدبر المؤمن الفرق بين هذين النوعين فما أكثر ما يلتبس أحدهما بالآخر!!!.(
    [16]).
    وليُعلم أن المؤمن تجب موالاته وان ظلمك واعتدى عليك والكافر تجب معاداته وان أعطاك وأحسن إليك يعني أن الإحسان في المعاملة الدنيوية لا يصح أن يكون سبباً لموالاة الكافر موالاة دينية كإعانته على كفره أو استحسانه منه وإقراره عليه ......"(
    [17]).
    قال العلامة ابن عثيمين :"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فأنت إذا أحسست بألم في أطراف شيء من أعضائك فإن هذا الألم يسري على جميع البدن كذلك ينبغي أن تكون للمسلمين هكذا إذا اشتكى أحد من المسلمين فكأنما الأمر يرجع إليك أنت.
    وليعلم أن النصيحة هي مخاطبة الإنسان سرا بينك وبينه لأنك إذا نصحته سرا بينك وبينه أثرت في نفسه وعلم أنك ناصح لكن إذا تكلمت أمام الناس عليه فإنه قد تأخذه العزة بالإثم فلا يقبل النصيحة وقد يظن أنك إنما تريد الانتقام منه وتوبيخه وحط منزلته بين الناس فلا يقبل لكن إذا كان السر بينك وبينه صار لها ميزان كبير عنده وقيمة وقبل منك" (
    [18]).
    وقال في لقاء الباب الشهري:" وكون الإنسان يألم بما يألم به المؤمنون ويحزن بما يحزنون به ويسر بما يسرون به دليلٌ على أنه مؤمنٌ خالص يحب لإخوانه ما يحب لنفسه وسوف يثاب على ذلك إن شاء الله تعالى".
    ومما ورد أيضاً عن أبي هريرة t قال قال رسول الله r : " لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" (
    [19]).
    وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رَسُول الله rقَالَ:" المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم لا يَظْلِمهُ وَلا يُسْلمُهُ مَنْ كَانَ في حَاجَة أخيه كَانَ اللهُ في حَاجَته ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَةً ، فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بها كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللهُ يَومَ القِيامَة" (
    [20]).
    وعن أبي هريرة t قال قال رسولr :"المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَخونُهُ وَلا يَكْذِبُهُ وَلا يَخْذُلُهُ، كُلّ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ حَرَامٌ عرْضُهُ ومَالُهُ وَدَمُهُ التَّقْوَى ها هنا بِحسْبِ امْرِىءٍ مِنَ الشرّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلم "(
    [21]).
    قال ابن بطال في شرحه على الحديث وقوله:"لا يظلمه ولا يسلمه" فإن الله حرم قليل الظلم وكثيره, وقوله:" لا يسلمه" مثل قوله عليه السلام:"انصر أخالك ظالمًا أو مظلومًا" وباقى الحديث حض على التعاون وحسن التعاشر والألفة، والستر على المؤمن وترك التسمع به، والإشهار لذنوبه وقد قال تعالى:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى }.



    ([1]) ("السؤال والجواب عن طريق المراسلة بالهاتف منذ سنتين من كتابة هذه الرسالة فهو بالمعنى لا نصا").
    ([2]) (وهي في مجموع الفتاوى ج1_ص17)
    ([3]) (رواه الإمام أحمد وكذا ابنه في زوائد المسند و القضاعي في مسند الشهاب والبزار كما في كشف الأستار وابن ابي عاصم في السنة "93" وحسنه فيه الألباني ص43_وتلميذه باسم الجوابرة في السنة أيضا "ج1_ص94" ووافق شيخه على تحسينه).
    ([4]) (شرح مسائل الجاهلية).
    ([5]) (حسنه الألباني في صحيح الجامع "1819").
    ([6]) ( كالتوحيد والأتباع وسائر الأصول التي نجتمع عليها......).
    ([7]) (ينظر تفسير السعدي)
    ([8]) (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "صَارَتْ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ" رواه البخاري "4920").
    ([9]) ( أخرجه أبو داود"410" وهذا إسناد متصل صحيح انظر جلباب المرأة المسلمة للعلامة الألباني ص214).
    ([10]) (ينظر المصدر المشار إليه).
    ([11]) (رواه البخاري في الأدب المفرد "442" قال: الشيخ الألباني صحيح ).
    ([12]) (رواه الترمذي"2641" حسنه الألباني ).
    ([13]) (رواه الترمذي"2641" حسنه الألباني ).
    ([14]) (رواه الترمذي"3253" وابن ماجه"48" وصححه الشيخ الألباني).
    ([15]) (رواه الترمذي "2509" وصححه الألباني).
    ([16]) (نعم فكم من يهجر ويبدع ويفسق ظنا منه انه لله ولكنه في الحقيقة لحظ نفسه وهواه!!!).
    ([17]) ( إرشاد الطالب إلى أهم المطالب).
    ([18]) (انظر شرح رياض الصالحين).
    ([19]) (رواه مسلم هو الحديث الخامس والثلاثون في الأربعين النووية).
    ([20]) (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).
    ([21]) (رواه الترمذي وقال حديث حسن ).

  5. #5

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    تتمة الاصل الثاني :
    وقال العلامة فقيه العصر ابن عثيمين رحمه الله تعالى:" لا يظلمه ولا يسلمه" لا يظلمه لا في ماله ولا في بدنه ولا في عرضه ولا في أهله، يعني لا يظلمه بأي نوع من الظلم " ولا يسلمه يعني لا يسلمه لمن يظلمه فهو يدافع عنه ويحميه من شره، فهو جامع بين أمرين:
    الأمر الأول : أنه لا يظلمه.
    والأمر الثاني : أنه لا يسلمه لمن يظلمه بل يدافع عنه.
    ولهذا قال العلماء رحمهم الله تعالى: يجب على الإنسان أن يدافع عن أخيه في عرضه وبدنه وماله في عرضه: يعني إذا سمع أحداً يسبه ويغتابه يحب عليه أن يدافع عنه وكذلك أيضاً في بدنه : إذا أراد أحد أن يعتدي على أخيك المسلم وأنت قادر على دفعه، وجب عليك أن تدافع عنه، وكذلك في ماله: لو أراد أحد أن يأخذ ماله، فإنه يجب عليك أن تدافع عنه"(
    [1]).
    وقال رحمه الله عز وجل:"وفي مقابل حث النبي:r المؤمنين بالتحاب والتآلف ومحبة الخير والتعاون على البر والتقوى وفعل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه في مقابل ذلك نهى النبي r عن كل ما يوجب تفرق المسلمين وتباعدهم, وذلك لما في التفرق والبغضاء من المفاسد العظيمة فالتفرق هو قرة عين شياطين الجن والأنس لأن شياطين الأنس والجن لا يودون من أهل الإسلام أن يجتمعوا على شيء فهم يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام والاتجاه إلى الله عز وجل.
    فالنبي r حث على التآلف والتحاب بقوله وبفعله ونهى عن التفرق والاختلاف الذي يؤدي إلى تفريق الكلمة وذهاب الريح"(
    [2]).
    ثم قال رحمه الله:"فالواجب على المسلمين جميعاً أن يكونوا أمة واحدة وأن لا يحصل بينهم تفرق وتحزب بحيث يتناحرون فيما بينهم بأسنة الألسن ويتعادون ويتباغضون من أجل اختلاف يسوغ فيه الاجتهاد فإنهم وإن اختلفوا فيه فيما تقتضيه النصوص حسب افهماهم فإن هذا أمر فيه سعة ولله الحمد".
    والمهم ائتلاف القلوب واتحاد الكلمة ولا ريب أن أعداء المسلمين يحبون من المسلمين أن يتفرقوا سواء كانوا أعداء يصرحون بالعداوة أو أعداء يتظاهرون بالولاية للمسلمين أو للإسلام وهم ليسوا كذلك"(
    [3]).
    وقال العلامة العباد حفظه الله تعالى:" وإذا كان المسلم أخا المسلم فإن هذا يقتضي ألا يظلمه "ولا يلصق الظلم به"وكذلك لا يسلمه أي: لا يتركه عندما يظلم وهو يقدر على تخليصه من الظلم، وذلك بأن يسلمه وألا يساعده ولا يعينه، بل عليه أن يساعده ويعينه، كما قال عليه الصلاة والسلام :"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، فقال: أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال: تمنعه من الظلم"(
    [4]).
    فإن الناظر في نصوص الكتاب والسنة حُق له أن يعجب حين يرى ما عليه المسلمون من تفرق وتمزق واختلاف...و...و....!! !. ولهذا تعجب المؤلف من مخالفة هذه الأصول مع وضوحها وكثرة النصوص فيها.
    قال العلامة الفوزان حفظه الله تعالى في قوله جل شأنه:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني: جماعة لأن دين الإسلام دين جماعة لا دين تفرّق واختلاف، فليس فيه تفرّق وأحزاب، وجماعات وجمعيات متفرقة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فالمطلوب من المسلمين أن يكونوا أمة واحدة على منهج واحد وعلى دين واحد، وعلى ملة واحدة، كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وكالجسد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولا يكون ذلك إلاَّ بعقيدة التّوحيد.
    أما التفرّق والاختلاف والتناحر والتهاجر والتباغض والتنابُذ بين الجماعات وبين الفرق فهذا ليس من دين الإسلام وهذا يكون مع فساد العقيدة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} نعم قد يوجد الاختلاف في الاجتهاد، ولكن هذا الاختلاف يحسم بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله:r فالمخطئ يرجع والمصيب يثبت قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}(
    [5]) .
    أسباب الاختلاف في الدين:
    1_الأعراض عن الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، فبقدر ما يحصل عند الناس من الإعراض عن هذه الأمور يحصل بينهم من الفرقة والاختلاف والتناحر والخصومة والتفرق في القلوب والأبدان.
    2_تعظيم الرجال والتعصب لأرائهم وتنزيلها منزلة النصوص وهذا ما أوقع الأمم السابقة في الشرك.
    3_التقليد الأعمى وقلة العلم الشرعي والتقليد كما وصفه شيخ الإسلام" كأكل الميتة لايجوز إلا للضرورة" فما بالك بمن يجعله ديدنه فضلاً أن يوالي ويعادي عليه؟!.
    4_ الكبر هو سبب من أسباب الفرقة والاختلاف لأن الكبر يحمل الإنسان على رد الحق، فالمتكبر يأنف ويستعلي أن يأخذ الحق من غيره، ويقول: أنا آخذ الحق من هذا! فما الذي تميز به عليَّ؟ أنا أحسن منه في كذا.....
    5_ إتباع الهوى قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
    6_ الجهل: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ "إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا"(
    [6]).
    وكلكم رأى أن الفتن ما انتشرت في الأمة إلا بعد موت الأئمة الثلاثة رحمهم الله وحفظ الأحياء منهم.
    قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى:" فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العادة الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى العالمين بمواردها ومصادرها والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفاً بل كل على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق :
    أحدها: أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ولم يبلغ تلك الدرجة فيعمل على ذلك ،ويعد رأيه رأياً وخلافه خلافاً ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من: الفروع وتارة يكون في كلي أصل من أصول الدين كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية فتارة آخذاً ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها ، وهذا هو المبتدع. وعليه نبه الحديث الصحيح أنه r قال :"لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم إتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم . فيؤتى الناس من قبله وقد صرف هذا المعنى تصريفاً فقيل:" ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان" قال ونحن نقول :"ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتى من ليس بعالم" .
    والثاني: من أسباب الخلاف إتباع الهوى: ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها ،حتى يصدروا عنها ،بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم ،ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم.
    والثالث: من أسباب الخلاف التصميم على إتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق وهو إتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ ،وأشباه ذلك ،وهو التقليد المذموم ،فإن الله ذم بذلك في كتابه بقوله :( إنا وجدنا آباءنا على أمة) الآية.
    ثم قال : ( قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون). وقوله: (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون) فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء فقالوا:( بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون)"(
    [7]).
    أسباب الاجتماع في الدين:
    1_ التمسك والاعتصام بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
    2_ من أعظم أسباب الاجتماع هو العلم الشرعي؛ لأنه كلما كثر علم الإنسان ورسخ كان داعياً إلى الاجتماع ونبذ الفرقة. إذاً: الواجب على كل مؤمنٍ أن يسعى إلى الاجتماع، وأن يأمر به، وأن يحث عليه، لكن ما هو الاجتماع الذي دعت النصوص إلى الأخذ به؟ الجواب:هو الوارد في قوله تعالى:{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً}[آل عمران:103] . والحبل في هذه الآية هو شرع الله المتين الذي جاء به رسول الله r.
    3_التحاكم إلى الكتاب والسنة عند الاختلاف وعدم التعصب لقول إمام بعينه مهما كان شأنه.
    مسألة:
    ما هو الضابط في كون المخالف يخرج من كونه من الفرقة الناجية أو من أهل السنة والجماعة؟
    1_ أن تكون المخالفة لأصل من أصول الدين أو لقاعدة كلية تندرج تحتها جزئيات كثيرة فعندها تعد الفرقة المخالفة ليست من أهل السنة والجماعة.
    2_ أن تكون المخالفة في جزئيات كثيرة لأن كثرة الجزئيات تجري مجرى القاعدة الكلية أو الأصل(
    [8]).
    قوله :(ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين ،وصار الاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون................)
    والحقيقة هي أن من خالف تلك النصوص الصريحة الواضحة المستفيضة هو المجنون الزنديق قال تعالى:{فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فقوله:{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ:
    الْأَوَّلُ: الْكُفْرُ .
    الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ .
    الثَّالِثُ: بَلِيَّةٌ يَظْهَرُ بِهَا مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ.
    أراد رجل أن يحرم من عند قبر النبي:r فنهاه الإمام مالك رحمه الله وقال له : "أحرم من حيث أحرم رسول الله r إني أخشى عليك الفتنة، فقال: الرجل: وأي فتنة في أميال أزيدها ؟ فقال: له الإمام : أي فتنة أعظم من أنك ترى أنك هديت إلى أمر قصر عنه النبي: r ؟ إني سمعت الله يقول {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. فما بالك بمن يسمع هذه النصوص العظيمة ثم يبقى مصرا على تفريق الأمة شذر مذر وهي مستباحة من كل كلاب الأرض؟.
    ومن هنا نعلم خطأ القول الشائع بأن الخلاف رحمه على اطلاقه! وذلك مخالف لقوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} فاستثنى الله تعالى المرحومين من المختلفين فدل على أن المختلفين ليسوا بمرحومين ومخالف لقوله :r"الجماعة رحمه والفرقة عذاب" تقدم تخريجه.
    قال البغوي: "وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: وللرحمة خلقهم، يعني الذين رحمهم".
    وقال الفراء: خلق أهل الرحمة للرحمة، وأهل الاختلاف للاختلاف. وحاصل الآية: أن أهل الباطل مختلفون، وأهل الحق متفقون، فخلق الله أهل الحق للاتفاق، وأهل الباطل للاختلاف"(
    [9]).
    وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قوله : "ولذلك خلقهم" خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا وعن مالك أيضاً قال : "الذين رحمهم لم يختلفوا"وعن نجيح أن رجلين تخاصما إلى طاووس,فاختلفا عليه فقال: اختلفتما علي فقال احدهما لذلك خلقنا قال كذبت قال أليس الله يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم} قال:"إنما خلقهم للرحمة والجماعة".
    وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال :"أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضيرهم" يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر بل لهم فيه أعظم العذر ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع أتى فيه بأصل يرجع إليه ، وهو قول الله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول) الآية.........فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله وذلك رده إلى كتابه وإلى رسول اللهr. وذلك رده إليه إذا كان حياً وإلى سنته بعد موته وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم(
    [10]).
    أما روي في بعض الآثار في أن اختلاف الصحابة رحمه فنعم هو رحمه لأنه خلاف ممن هو أهل له ومبني, على أصول شرعية عارية عن أتباع الهوى والانتصار للرأي(
    [11]). وفيه توسعة على الأمة.
    عن القاسم بن محمد قال:"لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله r في العمل لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة".
    وعن ضمرة بن رجاء قال:" اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكرن الحديث ـ قال:فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم قال:وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر لا تفعل ! فما يسرني باختلافهم حمر النعم".
    وروى ابن وهب عن القاسم أيضاً قال:"لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز :ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله r لا يختلفون لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم،فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة".
    ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة كما تقدم فيضير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم ،وهو نوع من تكليف ما لا يطاق وذلك من أعظم الضيق فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم ،فكان فتح باب الأمة للدخول في هذه الرحمة ، فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربك؟! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله(
    [12]).
    الخلاصة:
    1_أن الاجتماع على الحق طريق السلف الصالحين أصحاب الفهم الصحيح لنصوص الكتاب والسنة.
    2_أن الفرقة سبيل أهل البدع والزيغ والطغيان ولذلك حذر الله منها وحث على الاجتماع والائتلاف.
    3_أن وجوب الاجتماع على الحق أصل من أصول أهل السنة والجماعة.
    4_تحريم التدابر والتقاطع والتهاجر والاختلاف مما تضافرت به نصوص الكتاب والسنة.
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:" فَظَهَرَ أَنَّ سَبَبَ الِاجْتِمَاعِ وَالْأُلْفَةِ جَمْعُ الدِّينِ وَالْعَمَلُ بِهِ كُلِّهِ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ كَمَا أَمَرَ بِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
    وَسَبَبُ الْفُرْقَةِ :تَرْكُ حَظٍّ مِمَّا أُمِرَ الْعَبْدُ بِهِ وَالْبَغْيُ بَيْنَهُمْ وَنَتِيجَةُ الْجَمَاعَةِ :رَحْمَةُ اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ وَصَلَوَاتُهُ وَسَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبَيَاضُ الْوُجُوهِ وَنَتِيجَةُ الْفُرْقَةِ : َعذَابُ اللَّهِ وَلَعْنَتُهُ وَسَوَادُ الْوُجُوهِ وَبَرَاءَةُ الرَّسُولِ r مِنْهُمْ"([13]).


    انتهى الاصل الثاني ......

    ([1]) (شرح رياض الصالحين ).
    ([2]) (شرح الأصول الستة ص23).
    ([3]) (المصدر السابق ص25).
    ([4]) (شرح سنن أبي داود).
    ([5]) (إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب").
    ([6]) (رواه البخاري ومسلم).
    ([7]) (ينظر الاعتصام ج2_ص128_ص141 بتصرف واختصار )
    ([8]) (ولمزيد بيان لهذه المسألة ينظر الاعتصام للشاطبي ج2_ص177 ط شيخ مشهور).
    ([9]) (ينظر تفسير البغوي)
    ([10]) (الاعتصام ج2_ص122)
    ([11]) (قال: الإمام السيوطي في تاريخ الخلفاء "ص124"وأخرج الخطيب في_ أدب الراوي_ عن مالك من طريقه عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن و سعيد بن المسيب :" أن عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان كانا يتنازعان في المسألة بينهما حتى يقول الناظر : إنهما لا يجتمعان أبدا فما يفترقان إلا على أحسنه و أجمله").
    ([12]) (الاعتصام ج2_ص124_بتصرف واختصار).
    ([13]) (مجموع الفتاوى ج1_ص17).

  6. #6

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    (الأصل الثالث)
    (( أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً فبين الله هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به))؟؟!!
    جاء الشيخ بهذا الأصل لأنه لا يصلح الناس إلا بقائد يقودهم ويسوسهم حتى تستقيم أحوالهم وتصلح أمورهم والناس بغير قائد تضطرب أمورهم، ويقعون في هرج ومرج واختلاف ولهذا كان من الأصول التي جاء بها الإسلام السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان ظالماً، ما لم يصدر منه الكفر صريحاً.
    وهذا الأصل من الأصول التي تميز بها أهل السنة والجماعة وهو السمع والطاعة لولاة الأمور ولا يخلو كتاب من كتب أهل السنة في العقيدة من بيان هذا الأصل.
    قال الإمام البر بهاري في شرح السنة: (ص138) "ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه وإن جار وذلك لقول رسول الله r لأبي ذر الغفاري "اصبر وإن كان عبدا حبشيا" وقوله للأنصار: "اصبروا حتى تلقوني على الحوض" وليس من السنة قتال السلطان فإن فيه فساد الدنيا والدين".
    وقال الإمام الطحاوي:"ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ، ولا ندعو عليهم ولا ننزع يدًا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" وقال:" وَنَتَّبِعُ السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَنَجْتَنِبُ الشُّذُوذَ وَالْخِلَافَ وَالْفُرْقَةَ".
    فانظروا إلى علاقة الأصول بعضها ببعض كيف, أن بينها ترابط عجيب فالاجتماع على ولاة الأمور من ثماره الجماعة والقوة ووحدة,الصف المسلم كما مر معنا في الأصل الثاني. والأصل في هذا الباب ما جاء عن أبي هريرة tقال قال النبي r: " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر: قالوا: فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم"(
    [1]).
    هذا الأصل من أعظم الأصول التي قلما يلتزم بها غالب الناس مع أن أمر المسلمين لن يلتئم وتقوى شوكته إلا باجتماعهم على إمام.
    قال ابن عباس:" ليلة من إمام خير من أن تمطر أربعين صباحا "ولا يشترط أهل السنة والجماعة في الإمام أن يكون معصوما فهذا من عقيدة الخوارج والشيعة . بل يكون مسلما يقود الناس بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله: r وقد وردت آيات في القرآن تنبه على هذا الأصل المهم كقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء:59).
    وكذلك وردت أحاديث كثيرة في السنة تأمر بطاعة الإمام وتحذر من الخروج عليه فعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود يحدث عن أبيه yما عن النبي rقال : "نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل(
    [2]) عليهن قلب مسلم : إخلاص العلم لله ومناصحة أئمة المسلمين ولزوم جماعتهم فإن الدعوة تحيط من ورائهم" ([3]) .
    فجمع هذا الحديث الأصول الأولى الثلاثة ففيه الأصل الأول إخلاص الدين لله تعالى والأصل الثاني الأمر بالاجتماع وعدم التفرق والأصل الثالث لزوم جماعة المسلمين وهذا من جوامعه r فقد جمع هذه الأصول العظيمة في اقل من سطرين! وكذلك في قوله r: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَy قَالَ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ r" إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلَاثًا يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ وَيَسْخَطُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ"(
    [4]).
    أيضا أشتمل هذا الحديث على هذه الأصول العظيمة التي فرط فيها غالب الناس اليوم!.
    وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِt قَالَ :" بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ r عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنْ اللَّهِ بُرْهَانٌ"(
    [5]).
    إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان إذا رأينا كفرا بواحاً أي:" إذا رأينا " يعني ما سمعنا رأينا بأعيننا كفراً وليس فسقاً أو عصياناً "بواحاً " أي ظاهراً لا شك فيه ولا اشتباه فيه "عندنا من الله برهان " على أن هذا كفر وكان عندنا " القوة والاستطاعة " حينئذ نغير هذه أربعة شروط صعب.
    الشرط الأول: أن تروا هذا.
    الشرط الثاني: كفراً.
    الشرط الثالث: بواحاً.
    الشرط الرابع: عندنا فيه من الله برهان.
    هذا وهناك شرط خامس: يؤخذ من عمومات الشريعة والقواعد العامة " الاستطاعة " هذه خمسة شروط هل توفرت؟ ما توفر واحد! ومع ذلك يخرجون ويتمردون ويفتحون باب الشر علينا وعليهم وعلى الناس.
    سئل العلامة صالح آل الشيخ ما ضابط الكفر البواح؟
    فأجاب حفظه الله:"الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان، الذي عليه دليل، يعني واضح بَيِّنْ، وبعض أهل العلم قال أنه ترك الصلاة، أنه ما يأمر بالصلاة، وينهى عنها، مثل ما جاء في الحديث قال:"ما أقاموا فيكم الصلاة" ففهموا حديث الكفر البواح بإقامة الصلاة. وآخرون قالوا: لا، ما يشترط إقام الصلاة الكفر البواح هو إذا حصل منه كفر عندنا من الله فيه برهان وليس له شبهة فيه ولا تأويل.
    نُخْرِجْ منه صورة المأمون وأمثاله في عهد الإمام أحمد؛ لأنه كانت عندهم بنوع تأويل، أطاعوا بعض العلماء في هذه المسألة، وواضح في الحديث قال:"عندكم فيه من الله برهان" يعني شيء مجمع عليه واضح"(
    [6]).
    "أن تروا كفراً بواحاً" يعني جهاراً من باح الشيءُ يبوحُ إذا أعلنه" عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنْ اللَّهِ بُرْهَانٌ" أي حجة تعلمونها من دين الله. فهنا شروط :إلا أن تروا أنتم لا يُرى لكم كفراً بوحاً ظاهراً لا اختلاف فيه بين أهل العلم ولا اختلاف في الحكم عليه بأنه كفر يخرج من الملة عندكم انتم لا عند غيركم وإنما عندكم من الله فيه برهان بالحجة القاطعة فلابد من توفر الشروط وانتفاء الموانع ومن أقامة الحجة الربانية الإلهية النبوية الرسولية.
    العندية ههنا مهمة فلا يبني الأمر على الظن ولا على النقل غير موثوق ولا على التهييج والإثارة ولكن عندكم من الله فلابد أن تكون هذه العندية مبنية على الكتاب والسنة وعلى ما جاء به الرسول: r لا على التخبطات ولا على الاستنباطات الجائرة الخاطئة" (
    [7]).
    وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ t زَوْجِ النَّبِيِّ r عَنْ النَّبِيِّ r "أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ لَا مَا صَلَّوْا أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ"(
    [8]).
    عن أنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ r لِأَبِي ذَرٍّ :"اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ"(
    [9]).
    وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ:r قَالَ:" خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُم ْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُ مْ وَتَلْعَنُونَهُ مْ وَيَلْعَنُونَكُ مْ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ"(
    [10]).
    ولايشترط أن يكون الوالي التي تجب طاعته والسماع له والولاء له والدعوة له لا يشترط أن يكون عادلاً بل من تولى أمور المسلمين وجمع الله على يده كلمة المسلمين وجبت طاعته والسمع له.
    قال حذيفة: t كان الناس يسألون رسول الله r عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر؟
    قال:" نعم" فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال:" نعم وفيه دخن" قلت: وما دخنه ؟قال: قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر" فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال:نعم "دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها" فقلت: يا رسول الله صفهم لنا؟ قال: نعم "قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا" قلت: يا رسول الله فما ترى إن أدركني ذلك؟ قال:"تلزم جماعة المسلمين وإمامهم" فقلت فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"(
    [11]).
    وفي رواية أخرى عنه t قلت: يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال:" نعم" قلت: هل من وراء ذلك الشر خير ؟ قال:" نعم" قلت: فهل من وراء ذلك الخير شر ؟ قال:" نعم" قلت كيف ؟ قال:"يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس" قال: قلت كيف أصنع ؟ يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال:" تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع" (
    [12]).
    قال الإمام النووي:" قوله: (عن أبي سلام قال: قال حذيفة بن اليمان) قال الدارقطني: هذا عندي مرسل لأن أبا سلام لم يسمع حذيفة t وهو كما قال الدار قطني لكن المتن صحيح متصل بالطريق الأول وإنما أتى مسلم بهذا متابعة كما ترى وقد قدمنا في الفصول وغيرها أن الحديث المرسل إذا روى من طريق آخر متصلا تبيانا به صحة المرسل وجاز الاحتجاج به ويصير في المسألة حديثان صحيحان"(
    [13]).
    وهذا فيه رد على من ضعف هذا الحديث لهوى في قلبه فتدبر أو كي يتمشى مع أصولهم البدعية كحال الأحزاب المعاصرة التي من أعظم سمتها الخروج على الحكام بحجة الظلم.
    قال الشيخ الألباني بعد تخريجه للحديث في الصحيحة:"قلت: هذا حديث عظيم الشأن من أعلام نبوته r و نصحه لأمته ما أحوج المسلمين إليه للخلاص من الفرقة و الحزبية التي فرقت جمعهم و شتت شملهم و أذهبت شوكتهم فكان ذلك من أسباب تمكن العدو منهم مصداق قوله تبارك و تعالى:(ولا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم)".
    وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:" وفي صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله r قال:" سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف بريء ومن أنكر سلم ولكن رضي وتابع قالوا أفلا نقاتلهم قال لا ما صلوا" فقد نهى رسول الله r عن قتالهم مع إخباره أنهم يأتون أمورا منكرة فدل على أنه لا يجوز الإنكار عليهم بالسيف كما يراه من يقاتل ولاة الأمر من الخوارج والزيدية والمعتزلة وطائفة من الفقهاء وغيرهم.
    وفي الصحيحين عن ابن مسعود t قال: قال لنا رسول الله :r" إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا فما تأمرنا يا رسول الله قال تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم" فقد أخبر النبي r أن الأمراء يظلمون ويفعلون أمورا منكرة ومع هذا فأمرنا أن نؤتيهم الحق الذي لهم ونسأل الله الحق الذي لنا ولم يأذن في أخذ الحق بالقتال ولم يرخص في ترك الحق الذي لهم"(
    [14]).
    وقال رحمه الله:"ولهذا كان المشهور من مذهب أهل السنة أنهم لا يرون الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف وإن كان فيهم ظلم كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبي: r لأن الفساد في القتال والفتنة أعظم من الفساد الحاصل بظلمهم بدون قتال ولا فتنة فلا يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما ولعله_ لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته"(
    [15]).
    إذا ما هي الطريقة الشرعية للتغيير والصلاح والفلاح الذي ينشده كل مسلم:؟" التصفية والتربية" تصفية عقائد المسلمين من الشرك والبدع والخرافات وتربيتهم على السنة المحمدية وطريقة الخلفاء الراشدين. وهذا ما كان الأئمة الثلاثة في عصرنا هذا يدندنون حوله أعني ابن باز والألباني وابن عثيمين و وكان الشيخ الألباني كثيراً ما يذكر هذه الكلمة في دروسه ومحاضراته التصفية والتربية اخذوا هذا الأصل من قوله تعالى:( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) يعلمهم ويزكيهم. وكذلك من قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ).
    قال العلامة الشنقيطي في أضواء البيان:"بين تعالى في هذه الآية الكريمة، أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية، حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا. والمعنى: أنه لا يسلب قوماً نعمة أنعمها عليهم، حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
    وقال العلامة السعدي:" بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر, ومن الطاعة إلى المعصية أو من شكر نعم الله إلى البطر بها, فيسلبهم الله إياها عند ذلك. وكذلك إذا غير العباد, ما بأنفسهم من المعصية, فانتقلوا إلى طاعة الله, غير الله عليهم, ما كانوا فيه من الشقاء, إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة".
    وقال الشيخ أبو بكر الجزائري :" يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه ماضية فيهم وهي أنه تعالى لا يزيل نعمة أنعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء بسبب إيمانهم وصالح أعمالهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم للمعاصي نتيجة الإعراض عن كتاب الله وإهمال شرعه وتعطيل حدوده والانغماس في الشهوات والضرب في سبيل الضلالات"(
    [16]).
    وقد عد الشيخ رحمه الله تعالى: هذه المسألة أيضا من مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله: r أهل الجاهلية فقال:المسألة الثالثة"مخالفة وعدم الانقياد لولي الأمر فضيلة والسمع والطاعة له ذل ومهانة" فخالفهم رسول الله r وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأبدى فيه وأعاد".
    قال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى:" رحم الله الشيخ رحمة واسعة لم يقع خلل في دين الناس أو دنياهم إلا بسبب الإخلال في هذه الثلاث أو بعضها، هذه الثالثة أهل الجاهلية كانوا فوضى لا يقرون بولاية لأحد ولا يرضون ذلك لأنهم يعتقدون أن الطاعة لبشر مثلهم أنها ذل ومهانة كيف يطيع.
    ويسمع له وهو مثله؟ بما فضل عليه؟. ويعتبرون عدم الطاعة دليل العزة ودليل الكرامة, ودليل الرفعة، فخالفهم النبي: r خالف أهل, الجاهلية بأن أمر بطاعة ولاة الأمر يعني المسلمين في غير المعصية، أمر بطاعتهم ,في المعروف, وأن لا يُخرج عليهم وأن لا يُفَرَّق الناس من حولهم، ولهذا كان أول من , خالف هذا الأصل, الخوارج حيث إنهم خرجوا عن ولاية وخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب y بآراء اجتهدوا فيها، والنبي:r أمر بالطاعة قال:"أطع" قال:"أسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك" وقال:في الحديث الآخر حينما سأله: أفلا نقاتلهم؟. قال:"لا ما صلوا "إنه يكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ولكن من رضي وتابع "قال: أفلا نقاتلهم؟ قال:"لا ما صلوا" وفي رواية "ما أقاموا فيكم الصلاة" وفي حديث آخر قال:" إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان" فما دام أن الوِلاية يصح عليها اسم الإسلام، ولم تنتقل عنه إلى الكفر ولم يُحكم بردتها، فالطاعة والسمع واجبان، وتجميع الناس حولها ما دام اسم الإسلام باقيا واجب لأنه ما يحصل للناس من, الاجتماع ولو كان هناك نقص في, بعض أمور الدين فإنه, ما يحصل من, الاجتماع أضعاف أَضعاف ما يحصل من المصلحة من التفرق.
    وأنتم إذا نظرتم إلى تاريخ المسلمين، وجدتم أن, هذا الأصل حزم في مواضع, وكلما ظن الناس أنهم بخروجهم على الوالي المسلم أنه سينتجون خيرا فإنه ترتد عليهم ولا يكون ذلك خير.كما قال عليه الصلاة والسلام"لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم" خرجوا على بني أمية ولم يقروا لهم، وقامت دولة بني العباس ومع ذلك لم تكن دولة بني العباس كدولة بني أمية، وهكذا في نزول من الزمان، فأتى النبي r بمخالفة المشركين في ذلك، وقد كان الواحد من المشركين ينصح بالاجتماع وينهى عن التفرق فقال أحد منهم:
    لا يصلح الناس فوض لا صَراط لهم ............. ولا صَراط إذا جُهالهم سادوا.
    كانوا يأمرون بأن يرجعوا إلى كبرائهم، ولكن ما كانوا يطيعون، بل كانت الجزيرة العربية ,فيها من القيادات والاختلاف قبل مبعث رسول الله r ما لا يحصى ولا تغيبن عنكم الحروب الدائرة في الجاهلية وأسباب ذلك.
    إذن فهذا الأصل من الأصول العظيمة:
    قال رحمه الله: وأبدى فيه يعني النبي: r أبدى فيه ,وأعاد وغلظ في ذلك من التغليظ أنه قال:"اسمع وأطع ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك" تسمع وتطيع لم؟, لأن أخذ المال وضرب الظهر هذا مفسدته عليك وستلقى, ربك أنت, وهو ويقتص لك منه، لكنك إذا لم تطع تعدى ذلك ,إلى الناس, فصار ,الاختلاف وصارت الفرقة ومعها لا يكون الاجتماع في الدين"(
    [17]).
    تولي الظلمة بسبب ظلم الناس أنفسهم وظلمهم بعضهم بعضا!
    ومما ينبغي أن يعلم أن الظلم لا يقع على الناس إلا بما كسبت أيديهم والظلم يكون بين العبد وبين ربه، وهذا يكون بترك واجب أو فعل محرم، ترك واجب أوجبه الله جل وعلا على الإنسان فيما بينه وبينه، فيما بين العبد وبين ربه جل وعلا فإذا ترك شيئاً منه فهو ظلم، وهو لله جل وعلا، فله أن يجزي هذا الظالم على ظلمه وله أن يعفو.
    والنوع الثاني: الظلم الذي يقع بين العباد بعضهم من بعض، من أخذ الأموال أو التعدي على الأعراض والأجساد أو استطالة في العرض بالكلام بأن يقال فيه ما ليس فيه، أو يقال فيه ما فيه في غيبته، فإن هذا من الظلم؛ لأن الرسول r لما بين الغيبة قال:"ذكرك أخاك بما يكره".
    قيل له: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" والبهت: هو أشد الظلم وأعظمه فكذلك سائر الحقوق التي تقع من إنسان على الآخر إذا فرط فيها أو ظلمه فيها فإنه يطالب بأدائها، فهذا نوع آخر أما:
    النوع الثالث: فهو أشدها وأعظمها، وهو الشرك بالله تعالى وجميع هذه الأنواع من الظلم واقعة منا فإذا أردنا أن يرفع عنا الظلم فلا بد من رفعه فيما بيننا أولا"(
    [18]).
    قال: تعالى : (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأنعام:129).
    قال:الفخر الرازي"إنْ أراد الرّعيّةُ أن يتخلّصوا من أمير ظالم ؛ فليتركوا الظّلم وقد قيل :
    ومَا ظَالمٌ إلاّ سَيُبْلَى بظَالِم
    لكل شيء آفة من جنسه حتى الحديدُ سطا عليه المِبْرَد.
    قال الإمام القرطبي:"وقال ابن عباس y:" إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم ، إذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم".
    قوله: (بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً................)
    أما شرعاً فقد تقدم كثير من الأدلة على ذلك وأما قدراً وكوناً فالواقع شاهد على ذلك ولا يُغتر ببعض الايجابيات التي تحصل عند الخروج فإن الشر الواقع أضعاف أضعاف ذلك الخير المزعوم ولو لم يكن في ذلك الخروج إلا إزهاق الأرواح البريئة التي تجهل حقيقة التغيير الشرعي لكفى.
    قوله:(ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به...............)
    وهذا واقع، ولذلك تجد أن كثيراً ممن يخالف طريق أهل السنة والجماعة لا يذكرون هذا الأصل، فليس من أصولهم السمع والطاعة لولاة الأمر بل من أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني الخروج على الأئمة ومنابذتهم ومقاتلتهم، وهذا مشهور عند الخوارج والمعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة كالرافضة ومن تأثر بهم ممن لا بصيرة لهم بطرق الشريعة بإزالة المنكر فهؤلاء هم الذين سلكوا هذا المسلك واتخذوا هذا الأسلوب أما علماء المسلمين فإنهم يبقون في بلاد الإسلام ويصبرون ويدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة يدعون إلى الله بما استطاعوا بالعلم والبيان ولا يفتحون على الناس باب الشر والفتنة ولا يسافرون إلى الكفار يتقوون بهم أو يكونون بما يعرف الآن"بالمعارضة" ثم يحرضون ويحرشون بين الشباب الذي تغلب عليه العاطفة وحكامهم! .
    هذا كله من عمل الشيطان .. نعوذ بالله ! والشباب اليوم كثيرٌ منهم لا يُحكمّون شرع الله في هذه الأمور وإنما يُحكمون العواطف انفعالات نفسية ؟.
    ما سمعنا عالماً من علماء المسلمين فعل ذلك وما سمعنا مصلحاً من المصلحين الذين يسيرون على منهج الأنبياء فعل ذلك إنما فعل ذلك فيما نعلم" الروافض كالخميني وأمثاله وسعد زغلول من الحركيين الذين جلبوا المظاهرات إلى العالم الإسلامي جهلوا طرق التغيير التي جاء بها الوحي وتأسوا بالغرب الكافر الذي حذر المصطفى r من السير خلفهم.
    مسألة:
    ما هي الطرق التي تحصل بها الإمامة والولاية ؟:
    قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى:" الخلافة منصب كبير، ومسؤولية عظيمة وهي تولي تدبير أمور المسلمين بحيث يكون هو المسؤول الأول في ذلك وهي فرض كفاية، لأن أمور الناس لا تقوم إلا بها. وتحصل الخلافة بواحد من أمور ثلاثة:
    الأول: النص عليه من الخليفة السابق، كما في خلافة عمر بن الخطاب فإنها بنص من أبي بكر رضي الله عنه.
    الثاني: اجتماع أهل الحل والعقد سواء كانوا معينين من الخليفة السابق كما في خلافة عثمان رضي الله عنه، فإنها باجتماع من أهل الحل والعقد المعينين من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أم غير معينين كما في خلافة أبي بكر رضي الله عنه على أحد الأقوال، وكما في خلافة علي رضي الله عنه.
    الثالث: القهر والغلبة كما في خلافة عبدالملك بن مروان حين قتل ابن الزبير وتمت الخلافة له(
    [19]).
    وقد أقر بالإجماع عند أهل السنة والجماعة أن الولاية لها طريقين كما, في حديث أنس بن مالكt "الأئمة من قريش"(
    [20]).
    فالطريق الأول :الاختياري وقد اتفق عليه الفقهاء وهو اجتماع المسلمون واختيارهم أميراً أي: اجتماع أهل الحل والعقد وهم العلماء كما اجتمع أهل الحل والعقد على اختيار أبى بكر وهذه الطريقة هي التي يشترط فيه الفقهاء الشروط المعروفة كما جاء في حديث" الأئمة من قريش" فقد أجمع المسلمون على صحة هذا العقد.
    الطريق الثاني :وهى خلافة العهد كما فعل أبي بكر مع عمر وقد اجمع المسلمون على صحة هذا العقد فدل على صحته ويشترط فيه ما يشترطه الفقهاء في الإمام.
    الطريق الثالث : إذا وقعت وحدثت وهى الطريقة الجبرية أو الغلبة فإن تغلب أحد المسلمين على بلد وأصبح أميراً بالجبر والغلبة وأستقر له الأمر فإن له ما للأئمة السابقين وهذا بالإجماع وهو للضرورة وقد حكاه الكثير من الفقهاء وهذا الإمام الذي وصل للإمامة بهذه الطريقة قد تتخلف فيه بعض الشروط ولكن يكون تقبل إمامته حفظاً لكلمة المسلمين وحقنا لدمائهم وتثبت له هذه الولاية فإن الشارع الحكيم لفت أنظار المسلمين على الواقع الذي يشاهده الناس ويدركونه محسوساً وهو أن كل مجتمع يتم الخروج فيه على أهل الإمارة ووالى الأمر فإنه تحل به من النكبات مالا يخفى على أحد من الناس فالخروج عن الحاكم فيه الكثير من المصائب من قتل الأنفس وهتك الأعراض واستباحة الأموال وغير هذا(
    [21]).
    وهذا لمن تأمل التاريخ واضح لا يحتاج لمزيد بيان فالاجتماع على ولى الأمر يفرح به كل مسلم وإن لم يكن اجتماع كامل.
    ومن أراد أن ينصح لولي الأمر فعليه بما جاء في هذا الحديث"من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبديها علانيةً ولكن ليأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل ذاك وإلا كان أدى الذي عليه"(
    [22]).
    بقي لنا وقفة مع قول النبي r " كلمة حق عند سلطان جائر" فعن طارق بن شهاب أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه و سلم وقد وضع رجله في الغرز : أي الجهاد أفضل فذكره......يستدل به أهل الأهواء على ثوريتهم فنقول:
    أولا: أن سمة أهل الباطل إما أن يستدلوا بنص ضعيف أو بنص صحيح لكن لا يدل على ما استدلوا به! أو بنص متشابه! أو بعام لم يجري عليه عمل السلف! فنقول: له نعم التزم بالحديث يقول"عند"وأنت تقف على المنبر! وتهيج وتحرش وتدفع بالشباب المتحمس تحت نيران الحكام!.
    فالنبي r قال:"عند" ليس في الشوارع وأمام العامة حتى يتجرأ الهمج الرعاع وتعم الفوضى ثم أين النصوص الكثيرة التي تأمر بالصبر وعدم نزع اليد من طاعة وعدم مفارقة الجماعة؟ فهذه العندية فسرها النبي r بقوله: "من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبديها علانيةً ولكن ليأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل ذاك وإلا كان أدى الذي عليه" وقد تقدم فكلامه يفسر بعضه بعضاً وهذه الطريقة لم يعمل بها القوم لأنها لا توافق هواهم فأقل ما يقال في هذا الحديث أنه من المتشابه وتلك النصوص المتقدمة محكمة واضحة صريحة في تحريم الخروج على ولاة الأمور هذا إن قلنا بالتعارض بينها وبين وهذا الحديث أصلاً.
    بل نقل الإمام النووي الإجماع على ما دلت عليه تلك الأحاديث فقال:"ومعنى الحديث أي تروا كفرا بواحا لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محققاً تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم وقولوا بالحق حيث ما كنتم، وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته.
    وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل وحكي عن المعتزلة أيضاً فغلط من قائله مخالف للإجماع.
    قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه"(
    [23]).
    وهذا قد رأينه بأم أعيننا فلا حاجة لكثرة التدليل عليه لوضوحه وظهوره.
    والخلاصة من أراد أن يستدل بشيء من النصوص فعليه بالأخذ بجميعها لا أن يأخذ نصا يوافق هواه ويترك ما خالفه! هذا لا يليق بالمسلم العاقل وهي الطريقة التي ضل بسببها كثيرُ من الفرِق!.

    نسأل الله العافية والسلامة وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.



    ([1]) (متفقٌ عليه).
    ([2]) (أي: لا يبقى فيه غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة بل تنفي عنه غله وتنقيه منه وتخرجه عنه فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل وكذلك يغل على الغش وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه: بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة/ ينظر مدارج السالكين ج2_ص311) .
    ([3]) (رواه أحمد"13350" والترمذي"2658"وابن ماجة"230 " وصححه الشيخ الألباني) .
    ([4]) (رواه احمد"879" ومسلم"4578").
    ([5]) ( مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ)
    ([6]) (ينظرشرح العقيدة الطحاوية )
    ([7]) (تمام المنة في التعليق على شرح الأصول الستة للشيخ ابن عثيمين ص58)
    ([8]) (رواه مسلم"490")
    ([9]) (رواه البخاري 696)
    ([10]) (مسلم4910)
    ([11]) (رواه مسلم 1847).
    ([12]) (رواه مسلم 1847 باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة).
    ([13]) (المنهاج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج_ ج6_ص480).
    ([14]) (منهاج السنة النبوية ج3_ص194).
    ([15]) (منهاج السنة النبوية ج3_ص191).
    ([16]) (أيسر التفاسيرج4_ص60).
    ([17]) (شرح مسائل الجاهلية ص20).
    ([18]) (ينظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد بتصرف).
    ([19]) (شرح لمعة الاعتقاد للعلامة ابن عثيمين ص 115).
    ([20]) ( قال: الشيخ الألباني صحيح ورد من حديث جماعة من, الصحابة منهم أنس بن مالك وعلي ابن أبي طالب وأبو برزة الأسلميt ينظر إرواء الغليل ف تخريج أحاديث منار السبيل ج3_302). ولفظ الصحيحين عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: "لاَ يَزَالُ هذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ".
    ([21]) ومن يعيش الواقع الذي نعيشه اليوم بما يسمى بـ (الربيع العربي!) يتضح له هذا الأمر أكثر وأكثر.
    ([22]) (صححه الألباني في ظلال الجنة "1097" وقال:الشيخ عبد السلام برجس وأصله في مسلم).
    ([23]) (المنهاج شرح مسلم ابن الحجاج للإمام النووي:"ج6_ص472") .

  7. #7

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    (الأصل الرابع)
    ((بيان العلم والعلماء ، والفقه والفقهاء ، وبيان من تشبه بهم وليس منهم ، وقد بين الله هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} { البقرة :40} إلى قوله:{ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} {البقرة، الآية:47}.
    ويزيده وضوحاً ما صرحت به السنة في هذا الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد،ثم صار هذا أغرب الأشياء ، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل ، وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون ، وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم
    ))

    هذا أصلٌ مهم وله أثر عظيم ولا سيما على عامة المسلمين لأن من أعظم الفتن على العامة (علماء السوء) الذين قال الله تعالى في وصفهم :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه )(التوبة:34) .
    أي: إن كثيراً من الأحبار يعني العلماء والرهبان والعباد الذين يتظاهرون بالزهد والتقشف ما بهم؟ ليأكلون أموال الناس بالباطل إذاً هم أهل دنيا.
    ويصدون عن سبيل الله إذاً هم أهل بدع وضلالات ليس عندهم استقامة لا في عقيدتهم ولا في أخلاقهم والعياذ بالله !!.
    ومع ذلك هم عند الناس أحبار ورهبان علماء وعباد ولكنهم لا يتقون الله وليسوا على الطريق الصحيح هؤلاء أعظم فتنة على الناس. العالم المفتون والعابد المفتون هؤلاء من أعظم الناس فتنة لأن الناس يأخذون عن علمائهم ولأن الناس كذلك يقتدون لمن تظاهر بالصلاح فإذا كان العالم ضالاً منحرفاً ضل معه فئام من الناس وكذلك العابد إذا كان ضالاً منحرفاً أيضاً ضل بضلاله فئام من الخلق.
    ولهذا أول أمر أُمر به النبي: r هو الأمر بالقراءة، وما ذاك إلا لبيان أن هذا الدين مبني على العلم، وقد جاءت الشريعة ببيان فضل العلم وبيان صفات حملته،حتى لا يختلط الأمر وينعكس، فيؤخذ العلم عن غير أهله أي: أن هذا الأصل مخصوص ببيان حقيقة الفقه ومن هم الفقهاء وليس مراد المؤلف رحمه الله بالفقه هنا معناه في الاصطلاح: الخاص الذي هو: معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية،بل المراد بالفقه هنا إدراك الشريعة وفهمها وهو المقصود بقول النبي r:"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(
    [1]).
    فليس المراد بذلك معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية فقط.
    والعلم يحمله من الناس صنفان:
    1_عامل به فذاك الموفق المحصِّل للمقصود.
    2_ ومهمل له وذاك الخاسر المحروم.
    لأن من تعلم العلم ولم يعمل به فهو حجة عليه، كما قال النبي r :"والقرآن حجة لك أو عليك"(
    [2]).
    حجة لمن أخذ به وقرأه وعمل به، وهو حجة على من قرأه وأعرض عنه، وهو كذلك حجة على من أعرض ابتداءً فلم يقرأ أو يعمل، فكلاهما يدخل في كون القرآن حجة عليه لكن من أخذ بالقرآن وأعرض عنه فإنه أعظم جرماً ممن لم يأخذه من الأصل والسبب أن من أخذ القرآن فقد أبصر وصار عنده آلة الاهتداء ومعرفة, سلوك الطريق, المستقيم بخلاف الذي أعرض عنه بالكلية؛ فإنه لم ينل البصيرة، ولم يحمل النور ومن المهم لنا نحن طلبةَ العلم ومن يشتغل بطلب العلم أن نعرف ونتلمس صفاتِ العلم النافع ولذلك ينبغي علينا أن نجمع صفات العلم النافع من خلال الكتاب والسنة وكلام السلف لأن في ذلك من الإشارات إلى العلم النافع ما ينبغي لنا أن نقف عليه حتى نعرف ما الذي ينفع فنأخذه ونُقبِل عليه، وما الذي لا يدخل في إطار العلم النافع فنشتغل بغيره عنه لأن العلم كثير.
    والعلم هو: ما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة فخرج بذلك علم الكلام فليس هو من العلم الممدوح بالكتاب والسنة بل هو من جنس قول الله تعالى :(وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) (البقرة: 102). وخرج أيضاً ما يسمى في هذا العصر : بالفكر فإن الدين الإسلامي ليس مجموعة أفكار وإنما هو وحي في الكتاب والسنة .
    وخرج بذلك أيضاً جميع العلوم الكونية فإنها وإن كان بعضها يحتاج إليه المسلمون إلا أنها ليست العلم الممدوح في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وإنما يتفاضل العلماء بحسب كثرة علمهم بالكتاب والسنة.
    والعلم:صفة محبوبة كما أن الجهل صفة مذمومة ولهذا حتى الجاهل يحب أن ينتسب للعلم ويبغض الجهل. قال علي بن أبي طالبt :"كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمّاً أن يتبرأ منه من هو فيه".
    قوله: (وقد بين الله هذا الأصل في أول سورة البقرة.............)
    وهم يبلغون اثنين وثمانون آية وصف الله بها حال علماء السوء منها قوله تعالى: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} (البقرة41) . وقوله تعالى: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة42) . وقوله:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(البقرة:43).
    فتوظيف اليهود وغيرهم كتاب الله لجناية الأموال بالباطل فيه شبه ممن يشيدون القبور والأضرحة ليأخذوا أموال الناس بالباطل كالسدنة وغيرهم وكذلك علماء السوء الذين يضلون الناس بالباطل لأنهم يلبسون الحق بالباطل حتى يصدون متبوعيهم عن الحق وعلماء السوء ليس عندهم انقياد وإتباع لكلام الله تعالى، كما أنهم يجادلون بالباطل كما جادلوا موسى عليه السلام في قصة البقرة واتخاذهم العجل.
    وكذلك فإن علماء السوء أهل تحريف وأهل تبديل كما في قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} (البقرة:59) . ولما دخلوا القرية أمرهم الله تعالى أن يقولوا حطة كما في قوله تعالى { وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة : 58). أي: أن الله حط عنهم خطاياهم فبدلوا ما أمروا به وقالوا: حنطه فزادوا النون وكذلك كل من شابههم من العلماء الذين بدلوا كلام الله وحرفوه ولذا قال ابن القيم في نونيته:
    نون اليهود ولام الجهمي هما في وحى رب العرش زائدتان
    أمر اليهود بأن يقولوا حطة
    فأبوا فقالوا حنطة لهوان
    وكذلك الجهمي قيل له استوى
    …. فأبى وزاد اللام في نكران.
    إذا الأصل الرابع: في بيان العلم والعلماء والفقه والفقهاء جاء المؤلف بهذا الأصل لأنه من, أهم الأمور التي تقوم عليها حياة المسلمين في مجال العلم والدعوة إلى الله وكذلك كأنه يريد أن يقول أن هذه الأصول لا يحافظ عليها إلا العلماء العاملون ولا تؤخذ إلا منهم فهم العارفون لها لعاملون بها.
    والأمة إنما تتلقى أحكام الشريعة بعد وفاة الرسول : r من أهل العلم والعلماء ولما كان العلم, مشتركا ففيه النافع وفيه الضار، وكذلك كان العلماء فيهم العامل الرباني وفيهم علماء السوء أراد المؤلف أن يبين للمسلم هذا الأصل ليتعرف على علماء الحق من غيرهم والعلم الذي يقصده المؤلف هو معرفة الله ومعرفة رسوله r ومعرفة دين الإسلام بالأدلة فهذا هو العلم الممدوح وكل ما ورد من الفضائل للعلم فالمقصود به العلم الشرعي.
    العلم قال الله قال رسوله قال الصحابي ليس ُخلف فيه
    ما العلم نصبك للخلاف سفاهةً
    …. بين الرسول وبين قوله سفيه.
    قال تعالى مادحاً العلماء الربانيين: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } (فاطر28). وقال ابن مسعود" ليس العلم عن كثرة الرواية وإنما العلم العمل". ويقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى:" الناس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرة أو مرتين، والعلم يُحتاج إليه بعدد الأنفاس".
    متى يمت عالم منها يمت طرف وإنْ أبى عاد في أكنافها التَّلف
    الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلّ به.

    وهذا الأصل لا يقوم على بيان العلم والعلماء فحسب ولكن أتى به المؤلف رحمه الله تعالى: لبيان الزائفون الذين يتشبهون بالعلماء وما هم من العلماء لأن العلم منه ما هو نافع ومنه ما هو باطل كما أسلفنا ولذلك جاء في الحديث عن جابر t أن رسول الله r قال:" سلوا الله علما نافعا وتعوذوا بالله من علم لا ينفع"(
    [3]).
    فأهل الباطل لهم علما يُنسبون إليه كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون}(غافر:83). وأهل الباطل عندهم علم ولكنه علم سوء وعلم ضلال ولهذا عقد ابن قُدامة المقدسي فصلاً في كتابه "مختصر منهاج القاصدين" يبين به حال القسمين:
    فقال: (فصل) في آفات العلم وبيان علماء السوء وعلماء الآخرة :
    وعلماء السوء :هم الذين قصدهم من العلم التنعم بالدنيا، والتوصل إلى المنزلة عند أهلها . وقد روى أبو هريرةr عن النبي r أنه قال :"من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" يعنى ريحها .
    وفى حديث آخر أنه قال : "من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار"(
    [4]). وفى ذلك أحاديث كثيرة قال بعض السلف : "أشد الناس ندامة عند الموت عالم مفرط".
    واعلم : أن المأخوذ على العالم أن يقوم بالأوامر والنواهي وليس عليه أن يكون زاهداً ولا معرضاً عن المباحات إلا أنه ينبغي له أن يتقلل من الدنيا مهما استطاع، لأنه ليس كل جسم يقبل التعلل فإن الناس يتفاوتون. روي أن سفيان الثوري رحمه الله كان حسن المطعم وكان يقول :"إن الدابة إذا لم يحسن إليها في العلف لم تعمل" وكان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: يصبر من خشونة العيش على أمر عظيم والطباع تتفاوت.
    ومن صفات علماء الآخرة أن يكون أكثر بحثهم فى علم الأعمال عما يفسدها ويكدر القلوب ويهيج الوساوس وإتباع الصحابة وخيار التابعين، وتوقى كل محدث وأن لا يسترعوا إلى الفتوى وأن يعلموا أن الدنيا حقيرة وأن الآخرة شريفة وأنهما كالضرتين، فهم يؤثرون الآخرة، ولا تخالف أفعالهم أقوالهم، ويكون ميلهم إلى العلم النافع فى الآخرة ويجتنبون العلوم التي يقل نفعها إيثاراً لما يعظم نفعه، كما روي عن شقيق البلخي رحمه الله: أنه قال لحاتم: قد صحبتني مدة، فماذا تعلمت؟.
    قال : ثمانية مسائل:
    أما الأولى: فإني نظرت إلى الخلق فإذا كل شخص له محبوب فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه فجعلت محبوبي حسناتي لتكون في القبر معي.
    وأما الثانية : فإني نظرت إلى قوله تعالى:{ونهى النفس عن الهوى }[ النازعات40] فأجهدتها في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى.
    وأما الثالثة: فإني رأيت كل من معه شئ له قيمة عنده يحفظه ثم نظرت فى قوله سبحانه وتعالى:{ما عندكم ينفد وما عند الله باق} [النحل: 96] فكلما وقع معي شئ له قيمة وجهته إليه ليبقى لى عنده.
    وأما الرابعة : فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والشرف وليست بشئ فنظرت فى قوله الله تعالى:{إن أكرمكم عند الله أتقاكم } [الحجرات: 13] فعملت فى التقوى لأكون عنده كريماً.
    أما الخامسة: فإنى رأيت الناس يتحاسدون فنظرت في قوله تعالى:{نحن قسمنا بينهم معيشتهم} [ الزخرف32] فتركت الحسد .
    والسادسة :رأيتهم يتعادون، فنظرت فى قول الله تعالى:{إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً }[ فاطر6] فتركت عدواتهم واتخذت الشيطان وحده عدواً.
    السابعة :رأيتهم يذلون أنفسهم فنظرت فى قول تعالى:{وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها }[ هود6] فاشتغلت بما له علي وتركت ما لى عنده .
    والثامنة : رأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وصحة أبدانهم، فتوكلت على الله تعالى"(
    [5]).
    ومن صفات علماء الآخرة أنهم يتبعون المحكم وعلماء السوء يتبعون المتشابه ويتمسكون بحجج واهية ليهدموا بها أصول الدين و هم الذين يصدق فيهم قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ }(آل عمران7).
    وعن ابن مسعود قال :" كيف بكم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير يتخذها الناس سنة إذا ترك منها شئ قيل تركت السنة قيل يا أبا عبد الرحمن ومتى ذلك؟. قال: إذا كثرت جهالكم وقلت علماؤكم وكثرت خطباؤكم وقلت فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم وتفقه لغير الدين والتمست الدنيا بعمل الآخرة"(
    [6]).
    ومن صفات علماء الآخرة العمل بالعلم قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن عثمان بن عفان وعبد اللّه بن مسعود وغيرهما" أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي :r عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل".
    فالعمل عند علماء الخير هو العلم الذي يورث الطاعة ويوصل إليه ولذا فأنهم كانوا يحصلون العلم للعمل به لا للتشدق بالقيل والقال ولذلك كان علماء السلف أقل الناس كلاماً ولكن من جاء بعدهم كثر كلامه وقل عمله ولهذا قال ابن رجب في كتابه: "فضل علم السلف على علم الخلف" قال: "كلام السلف قليل كثير الفائدة وكلام الخلف كثير قليل الفائدة ".
    وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
    وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا.
    قال: ابن أبي العز الحنفي:"وَإِنَّم َا دَخَلَ الْفَسَادُ فِي الْعَالَمِ مِنْ ثَلَاثِ فِرَقٍ، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ:
    فَالْمُلُوكُ الْجَائِرَةُ: يَعْتَرِضُونَ عَلَى الشَّرِيعَةِ بِالسِّيَاسَاتِ الْجَائِرَةِ، وَيُعَارِضُونَه َا بِهَا، وَيُقَدِّمُونَه َا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
    وَأَحْبَارُ السُّوءِ:، وَهُمُ الْعُلَمَاءُ الْخَارِجُونَ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِآرَائِهِمْ وَأَقْيِسَتِهِم ُ الْفَاسِدَةِ، الْمُتَضَمِّنَة ِ تَحْلِيلَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَتَحْرِيمَ مَا أَبَاحَهُ، وَاعْتِبَارَ مَا أَلْغَاهُ، وَإِلْغَاءَ مَا اعْتَبَرَهُ، وَإِطْلَاقَ مَا قَيَّدَهُ، وَتَقْيِيدَ مَا أَطْلَقَهُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
    وَالرُّهْبَانُ: وَهُمْ جُهَّالُ الْمُتَصَوِّفَة ِ الْمُعْتَرِضُون َ عَلَى حَقَائِقِ الْإِيمَانِ وَالشَّرْعِ، بِالْأَذْوَاقِ وَالْمَوَاجِيدِ وَالْخَيَالَاتِ وَالْكُشُوفَاتِ الْبَاطِلَةِ الشَّيْطَانِيَّ ةِ الْمُتَضَمِّنَة ِ شَرْعَ دِينٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَإِبْطَالَ دِينِهِ الَّذِي شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ r وَالتَّعَوُّضَ عَنْ حَقَائِقِ الْإِيمَانِ بِخُدَعِ الشَّيْطَانِ وَحُظُوظِ النَّفْسِ .
    فَقَالَ الْأَوَّلُونَ : إِذَا تَعَارَضَتِ السِّيَاسَةُ وَالشَّرْعُ قَدَّمْنَا السِّيَاسَةَ!
    وَقَالَ الْآخَرُونَ : إِذَا تَعَارَضَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ قَدَّمْنَا الْعَقْلَ!.
    وَقَالَ أَصْحَابُ الذَّوْقِ:إِذَا تَعَارَضَ الذَّوْقُ وَالْكَشْفُ وَظَاهِرُ الشَّرْعِ قَدَّمْنَا الذَّوْقَ وَالْكَشْفَ"(
    [7]).
    قال: العلامة بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى:"تساءل مع نفسك عن حظك من علامات العلم النافع وهى:
    1_العمل به.
    2_كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق.
    3_تكاثر تواضعك كلما ازددت علماً.
    4_الهرب من حب الترؤس والشهرة والدنيا.
    5_هجر دعوى العلم.
    6_إساءة الظن بالنفس وإحسانه بالناس تنزها عن الوقوع بهم.
    وقد كان عبد الله بن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:

    لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم
    ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد(
    [8]).
    قوله(وبيان من تشبه بهم وليس منهم.............)
    إذا تبين ذلك فلا بد من معرفة من هم العلماء حقاً هم الربانيون الذين يربون الناس على شريعة ربهم حتى يتميز هؤلاء الربانيون عمن تشبه بهم وليس منهم يتشبه بهم في المظهر والمنظر والمقال والفعال لكنه ليس منهم في النصيحة للخلق وإرادة الحق فخيار ما عنده أن يلبس الحق بالباطل ويصوغهُ بعبارات مزخرفة يحسبهُ الظمآن ماءً حتى إذا جاءهُ لم يجد شيئاً بل هو البدع والضلالات الذي يظنه بعض الناس هو العلم والفقه وأن ما سواه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون.
    والتشبه نوعان :
    أ*) التشبه بأهل العلم في أخلاقهم في علمهم في دعوتهم في سلوكهم محاولين أن يكونوا مثلهم هذا نافع كما قيل :
    تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ...... إن التشبه بالكرام فلاح.
    هذا إذا كان بمعنى التأسي بهم .
    ب) تشبه بمجرد المحاكاة بالاسم بالألفاظ والدعايات والزي هذا الذي لا يجدي والمذموم أي: أن من الناس من يتشبه بأهل العلم والعلماء وليس منهم وهذا يكون غالباً في أهل البدع من المتصوفة والشيعة وغيرهم ومن هذا أن ينصب نفسه للعلم والتعليم والفتوى وهو ليس أهلاً لذلك فإنه بذلك يوهم نفسه أنه من عدادهم فيحرم العلم النافع وكان السلف كثيراً ما يوصون طالب العلم ألا يترأس في حداثته وقبل رسوخ قدمه في العلم قال: عمرy:"تفقهوا قبل أن تسودوا"(
    [9]).
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:" ومن كيده : أمرهم بلزوم زي واحد ولبسة واحدة وهيئة ومشية معينة وشيخ معين وطريقة مخترعة ويفرض عليهم لزوم ذلك بحيث يلزمونه كلزوم الفرائض فلا يخرجون عنه ويقدحون فيمن خرج عنه ويذمونه وربما يلزم أحدهم موضعا معينا للصلاة لا يصلي إلا فيه وقد نهى رسول اللهr: أن يوطن الرجل المكان للصلاة كما يوطن البعير(
    [10]).
    وكذلك ترى أحدهم لا يصلي إلا على سجاده ولم يصل عليه السلام على سجادة قط ولا كانت السجادة تفرش بين يديه بل كان يصلي على الأرض وربما سجد في الطين وكان يصلي على الحصير فيصلي على ما اتفق بسطه فإن لم يكن ثمة شيء صلى على الأرض.
    وهؤلاء اشتغلوا بحفظ الرسوم عن الشريعة والحقيقة فصاروا واقفين مع الرسوم المبتدعة ليسوا مع أهل الفقه ولا مع أهل الحقائق فصاحب الحقيقة أشد شيء عليه التقيد بالرسوم الوضعية وهي من أعظم الحجب بين قلبه وبين الله فمتى تقيد بها حبس قلبه عن سيره وكان أخس أحواله الوقوف معها ولا وقوف في السير بل إما تقدم وإما تأخر كما قال تعالى:{ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } [ المدثر : 37 ]. فلا وقوف في الطريق إنما هو ذهاب وتقدم أو رجوع وتأخر.
    ومن تأمل هدي رسول الله rوسيرته وجده مناقضا لهدي هؤلاء فإنه كان يلبس القميص تارة والقباء تارة والجبة تارة والإزار والرداء تارة ويركب البعير وحده ومردفا لغيره ويركب الفرس مسرجا وعريانا ويركب الحمار ويأكل ما حضر ويجلس على الأرض تارة وعلى الحصير تارة وعلى البساط تارة ويمشي وحده تارة ومع أصحابه تارة وهديه عدم التكلف والتقيد بغير ما أمره به ربه فبين هديه وهدي هؤلاء بون بعيد"(
    [11]).
    فعلى طالب العلم أن يجتنب حب الظهور الذي يقطع الظهور ويجدَّ ويجتهد في طلب العلم وإن من تمام التوحيد أن يعلم المرء أن الله عز وجل هو الذي يرفع العبد ويعلي ذكره فلا ينبغي له أن يحرص على الشهرة فقد ذم الله عز وجل الذين يريدون العلو في الأرض قال تعالى:(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83) .
    وليحذر طالب العلم أن يكون علمه لغير الله عز وجل فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرةt مرفوعاً :"أول ثلاثة تسعر بهم النار وذكر أولهم : قارئ القرآن الذي قرأ القرآن وعلمه ولكنه لم يخلص قصده لله فيسحب في النار على وجهه"(
    [12]).
    يريد الشيخ رحمه الله أن من صفات المتشبهين بالعلماء وليسوا منهم أنهم يطلبون العلم لغير الله عز وجل ثم إذا طلبوه لغير الله أرادوا أن يحصلوا من ورائه على الأجر الدنيوي وأما العلماء المخلصون. فإن الله عز وجل قال عنهم : ( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام:90) .
    وعلامة العلم النافع أنه ينفع صاحبه ويورثه الخشية والعمل الصالح والاستقامة وعلامة العلم الذي لا ينفع أن يفسد صاحبه بالزهو والفخر والخيلاء وطلب العلو والرفعة في الدنيا والمنافسة فيها وطلب مباهاة العلماء ومماراة السفهاء وصرف وجوه الناس إليه فلا بد من التمييز بين العلماء ومن تشبه بهم وبين أهل السنة وأهل البدعة فقد أمر الله تعالى بالرد إلى العلماء الربانيين عند وقوع النوازل فقال تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَ هُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً} (النساء: 83).
    أولو الأمر الذين يُردُ إليهم: هم العلماء والأمراء أمر الله تعالى بطاعة أهل العلم فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وأولو الأمر:هم العلماء والأمراء العلماء الربانيون هم العلماء بالشريعة الإسلامية المتبعون للسنة الذين يدينون الله تعالى بالدين بالحق بكتابه وسنة رسوله r على فهم السلف الصالح فلابد من الحذر من أهل البدع وأصحاب الأهواء والمتشبهين بالعلماء حتى يسلم للمرء دينه.
    قوله: ( ثم صار هذا أغرب الأشياء ................)
    أي: اللبس بين علماء الحق وعلماء السوء وانقلاب الموازين حدث حينما أصبح علماء السوء هم أهل الصدارة و أصبح أهل الحق هم الذين يحاربون وتكمم أفواههم وكان هذا من كيد الشيطان أن أظهر للناس أن العلم الذي هو معرفة الله ورسوله هو البدعة والضلالة فأصبح الناس لا يرجعون إلى كتاب الله وسنة رسوله r ولكن يرجعون إلى كتب أهل الضلال ككتب الكثير من غلاة الصوفية ممن أضلهم الله على علم فيوحون إلى متبعيهم أن الخرافات والشركيات والبدع هي الحق وأن من دعا الى التوحيد واحياء السنن ونبذ الشرك جاء بدين جديد؟ وكأن الله عز وجل ما قال: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} (الأعراف: 3).
    ولا قال:{ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (النور:54).
    فكيف أصبح إتباع الرسول r والمناداة بإتباعه من الأمور المرفوضة؟؟!!. وأصبح الناس يقرءون كتاب الله تعالى للبركة لا للعمل به و تدبره وأوحى لهم الشيطان أن أخذ العلم من كتاب الله و سنة نبيه r لا يكون إلا لمجتهد ووضع لهم من شروط هذا المجتهد ما لا تتحقق هذه الشروط على أي مجتهد من أهل الأرض فالمؤلف شرح واقع الناس في زمنه وهو واقع مر أليم وهو يشبه واقعنا اليوم وهذا الواقع في كل بلد مسلم يقل فيه العلماء الحقيقيين وينتشر علماء السوء.
    قوله: ( وصار من أنكره وعاداه..............)
    أي أنكر هذا الباطل وصنف التحذير منه وهذه القضية لم يدعها الرسول r بل بينها لنا ووضحها لنا واخبرنا فثبت عن رسول الله r كما في الطبراني وغيره من حديث أمية الجمحي أن النبي r قال:" إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر"(
    [13]). والاصاغر: هنا كما قال العلماء هم أهل البدع والأهواء وقال ابن قتيبة"الاصاغر هم صغار السن الذين ليس معهم علم يؤهلهم للتصدر للحديث في شرع الله:" وكلا القولين صواب ولذا صح عن ابن مسعود t عند عبد البر وغيره قوله:" لا يزال الناس في خيرٍ ما أخذوا العلم عن أكابرهم وعلماءهم فإذا أحذوه من صغارهم وعن صغارهم هلكوا".
    وهذا القيد من السلف يوضح من ُيؤخذ عنه ممن لا يؤخذ عنه والأكابر هم الذين تعلموا دين الله تعالى وعملوا به فهم العدول الذين يحملون العلم كما قال رسول الله r:"يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين"(
    [14]).
    فبأخذ العلم عن هؤلاء العلماء ينتشر الخير وتستقر أحوال الأمة وتكون لها القوة وبعكسه يكون الهلاك.
    والأمة لا تصاب بشر مثل إصابتها بوجود علماء السوء فإنهم يلبسون لباس أهل الحق ويُلبسون على الناس دينهم وفى بيان خطورة الأخذ عن علماء السوء ذكر الراغب الأصفهاني في كتابه " الذريعة إلى مكارم الشريعة" لا شئ أوجب على السلطان من رعاية أحوال المتصدرين للرئاسة بالعلم فبإلاخلال بها ينتشر الشر ويكثر الأشرار ويقع بين الناس التباغض والتناطح" ولهذا قال: ابن سيرين كلمته المشهورة" إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم "(
    [15]).
    ومن شروط العلماء المذكورة في أصول الفقه اشتهاره بالعلم والصلاح والعمل بالكتاب والسنة و تزكية العلماء الكبار له و غير ذلك مما ذكره الامدى وغيره.
    ومما ينبغي أن يعلم هو التفريق بين العلماء والوعاظ فالواعظ ليس أهلاً لإفتاء الناس وكذلك التفريق بين العلماء والمثقفين من أنصاف العلماء الذين لا يعرف في تاريخهم طلب العلم وتتبعه من أفواه الرجال وبطون الكتب ومع الأسف فقد اختلط في زماننا على كثير من الناس عدم التفريق بين الذين مضى ذكرهم وبين العلماء الربانيين فتجد مثلاً من يعارض فتوى ذلك العالم برأي ذلك المثقف أو ذلك الواعظ وكأن الدين أصبح مجرد آراء كل من شاء قال برأيه وكل من قال فهو محق وهذا لبس بالحق بالباطل وتضليل للناس ولهذا جاء الإمام المؤلف بهذا الأصل.
    وأما من انتسب إلى مذهب معين من المذاهب الأربعة فلا يخلوا إما أن يجعل ما في مذهب من العلم والاختيارات مرجعه الكتاب والسنة فما وافقهما أخذ به وما خالفهما رده فهذا حسن وأما أن يجعل ما في مذهبه هو مرجعه من غير نظر إلى الأدلة الأخرى في الكتاب والسنة كما قال بعضهم :" كل آية أو حديث خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول" فهذا قد جعل المذهب الأصل والكتاب والسنة تبع!.
    قال: الشيخ رحمه الله : (وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات............ .....)
    وهذا عندما ينتشر الجهل ويقل العلم والله المستعان فمن دعا الى التوحيد والسنة قالوا: عنه لا يحب الصالحين ولا يحترم الأئمة المجتهدين.
    قال الشيخ رحمه الله:( وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون..........)
    هذا هو الواقع أن من التزم الدليل الشرعي وصار دينه قال الله قال رسوله قال الصحابة فهو متهم بالجمود وربما بالرجعية لأنه لم يحرف الكلم عن مواضعه فهو ليس بفقيه بزعمهم فأقوال الرسولr: وصحابته الكرام وأئمة الدين بعدهم لا تناسب عصرنا كما صرَّح بذلك من لم يقم للكتاب والسنة رأساً.
    قوله:(ويزيده وضوحاً ما صرحت به السنة في هذا الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد............ )
    يعني السنة بينت من هم العلماء ؟ وبينت ما هو العلم ؟ والسنة بينت من هم الفقهاء ؟ وبينت ما هو الفقه ؟. والعالم هو الذي عرف بأخذه العلم عن العلماء وثنى الركب عندهم وزكاه علماء عصره أو شهدت له مؤلفاته وطلابه وأثاره بأتباعه للسنة. ولهذا قيل " من آثارهم تعرفونهم".



    ([1]) (ولفظه عن مُعَاوِيَةَ،رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ "مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هذِهِ الأُمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللهِ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ" أخرجه البخاري في: 3 كتاب العلم: 13 باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين /ومسلم باب النَّهْىِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ. (34) رقم(2436).
    ([2]) (عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبايع نفسه فمعتقها أو موبقها"أخرجه مسلم: حديث( 223، 1/203) وابن حبان: حديث( 844، /124)والترمذي: حديث/(3517 5/535 ) والنسائي في الكبرى:حديث(2217)و بن ماجة:حديث(280، 1/102) والدارمي: حديث( 653، 1/174)).
    ([3]) (رواه ابن ماجة "3843" في الزوائد إسناده صحيح . رجاله ثقات . وأسامة بن زيد هذا هو الليثي المزني احتج به مسلم
    قال الشيخ الألباني : حسن).
    ([4]) (رواه الترمذي ) .
    ([5]) (ينظر مختصر منهاج القاصدين بتصرف).
    ([6]) (رواه عبد الرزاق في مصنفه"20742" وابن أبى شيبة ، ونعيم بن حماد فى الفتن والمنتقى الهندي في كنز العمال "31430" والمنذري في الترغيب والترهيب "111" قال: الألباني صحيح لغيره موقوفا) .
    ([7]) (شرح العقيدة الطحاوية ص 204 ط المكتب الإسلامي ).
    قال الشيخ علي في تحقيق:( إغاثة اللهفان"ج1_ص 593") معلقا على كلام ابن أبي العز بعد أن نقله "وهو كلام عظيم جداً رحم الله قائله رحمة واسعة".
    ([8]) (حلية طالب العلم ص71 ط دار العاصمة).
    ([9]) (علقه البخاري في باب الاغتباط في العلم والحكمة قال الشيخ الألباني وصله أبو خيثمة في "العلم" /9/ بسند صحيح وكذا ابن أبي شيبة/ومعنى تسودوا أي تجعلوا سادة مختصر صحيح البخاري ج1_ص48 ).
    ([10]) (وفي المسألة تفريق بين النافلة والفرض أنظرها في القول المبين في أخطاء المصلين للعلامة مشهور).
    ([11]) (إغاثة اللهفان ج1_ص242).
    ([12]) (عن أبي هريرة t فقال له قائل أهل الشام أيها الشيخ حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار" رواه مسلم (1905) وغير) .
    ([13]) (رواه الطبراني وانظر الصحيحة للألباني" 695").
    ([14]) (رواه البيهقي وغيره والآجري في الشريعة وحسنه محققه وليد سيف النصر حديث رقم : "1") .
    ([15]) (رواه مسلم في مقدمة صحيحة ) .

  8. #8

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    ( الأصل الخامس)
    ((بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله والمنافقين والفجار ويكفي في هذا آية في سورة آل عمران وهي قوله:(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)(56) وآية في سورة المائدة وهي قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.. .....)(57) وآية في سورة يونس وهي قوله:(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُونَ........ .)(58).
    ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هُداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن أولياء الله لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم ولابد من ترك الجهاد فمن جاهد فليس منهم ولابد من ترك الإيمان والتقوى فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم. يا ربنا نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء
    ))
    لما بين الشيخ الإمام رحمه الله تعالى: في الأصل الرابع العلم والعلماء والفقه والفقهاء ومن تشبه بهم وهو ليس منهم حفاظاً منه لحق الشريعة أولاً ولحق العلماء ثانياً جاء بهذا الأصل لبيان الأولياء وعلى رأسهم الرسل والأنبياء والصحابة والصديقيين والصالحين والشهداء ومن ليس منهم من الكذابين والدجلة والمشعوذين لحفظ الشريعة أيضاً ولحق الأولياء والصالحين حتى لا يدخل فيهم من ليس منهم .
    ولأهمية هذا الأصل العظيم ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" وهو أحد كتب التراث الثمينة التي تحمي ثغراً من ثغور العقيدة في مفهوم ولاية الله وتُبطل ما يدعيه أدعياء الولاية والسحرة وأشباههم من الأحوال الشيطانية والمخارق الكاذبة. وإبطال ما يدّعيه أهل الروحية الحديثة أو تحضير الأرواح التي تختفي تحت ستار العلم والتقدم العلمي الذي يضفي عليها طابع التقدير والاحترام فهذا الكتاب من خير ما يكشف حال هؤلاء ويميز بين أحوالهم وأحوال أولياء الله المؤمنين الصادقين وهو نادر في موضوعه إن لم يكن الوحيد(
    [1]).
    وقد عقد الشيخ المؤلف هذا الأصل لأن أكثر ضلال الناس جاء من قبيل وضع بعض الصالحين أو المجتهدين في غير موضعهم ويدعون لهذا الولي حقوقاً و ربما عبدوه من دون الله تعالى فأراد المؤلف أن يبين هذا الأصل لأن أكثر تعلق الناس بالشرك إنما جاء من قبل التعلق بالأولياء ولهذا عقد الشيخ رحمه أبوابا في كتاب التوحيد لبيان خطر التعلق بالصالحين والأولياء فعقد:
    باب:( ما جاء في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين)
    وباب:(ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟)
    وباب:(ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله)
    قال العلامة ابن القيم :" فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر ولهذا نجد أهل الشرك كثيرا يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدونهم بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي: rمادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون الصلاة فيها للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد المصلي ما قصده المشركون سدا للذريعة.
    وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله تعالى فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله r أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك : الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي عليه الصلاة والسلام بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد متابعة منهم,للسنة الصحيحة الصريحة"(
    [2]).
    وقال رحمه الله تعالى :" ومن أعظم كيد الشيطان : أنه ينصب لأهل الشرك قبر معظم يعظمه الناس ثم يجعله وثنا يعبد من دون الله ثم يوحي إلى أوليائه: أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيدا وجعله وثنا فقد تنقصه وهضم حقه فيسعى الجاهلون المشركون في قتله وعقوبته ويكفرونه وذنبه عند أهل الإشراك : أمره بما أمر الله به ورسولهr: ونهيه عما نهى الله عنه ورسوله:r من جعله وثنا وعيدا وإيقاد السرج عليه وبناء المساجد والقباب عليه وتجصيصه وإشادته وتقبيله واستلامه ودعائه أو الدعاء به أو السفر إليه أو الاستغاثة به من دون الله مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله: r من تجريد التوحيد لله وأن لا يعبد إلا الله فإذا نهى الموحد عن ذلك غضب المشركون واشمأزت قلوبهم وقالوا : قد تنقص أهل الرتب العالية وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وسرى ذلك, في نفوس الجهال والطغام وكثير ممن ينسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم هم, أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله, ذلك, فما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتبعون له الموافقون له العارفون بما ,جاء به الداعون إليه لا المتشبعون بما لم يعطوا لابسو ثياب الزور الذين يصدون الناس عن سنة نبيهم يبغونها عوجا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!"(
    [3]).
    وكل ذلك بدعوى عدم احترام الصالحين وحفظ منزلتهم! وهذا من الظلم والتدليس على عباد الله الذين رضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد r نبياً.
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى:"ولا تحسب أيها المنعم عليه باتباع صراط الله المستقيم صراط أهل نعمته ورحمته وكرامته أن النهي عن اتخاذ القبور أوثانا وأعيادا وأنصابا والنهي عن اتخاذها مساجد أو بناء المساجد عليها وإيقاد السرج عليها والسفر إليها والنذر لها واستلامها وتقبيلها وتعفير الجباه في عرصاتها : غض من أصحابها ولا تنقيص لهم ولا تنقص كما يحسبه أهل الإشراك والضلال بل ذلك من إكرامهم وتعظيمهم واحترامهم ومتابعتهم فيما يحبونه وتجنب ما يكرهونه.
    فأنت والله وليهم ومحبهم وناصر طريقتهم وسنتهم وعلى هديهم ومنهاجهم وهؤلاء المشركون أعصى الناس لهم وأبعدهم من هديهم ومتابعتهم كالنصارى مع المسيح واليهود مع موسى عليهما السلام والرافضة مع علي t فأهل الحق أولى بأهل الحق من أهل الباطل(وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ).(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَا تُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ). فاعلم أن القلوب إذا اشتغلت بالبدع أعرضت عن السنن فتجد أكثر هؤلاء العاكفين على القبور معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته مشتغلين بقبره عما أمر به ودعا إليه وتعظيم الأنبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي, باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادة طريقتهم دون عبادة قبورهم والعكوف عليها واتخاذها أعياداً"(
    [4]).
    وقد بين الله هذه الأمور في كتابه بياناً كافياً شافياً ولم يقتصر الشارع على بيان صفات أولياء الله بل بين الفرق بينهم وبين أولياء الشيطان وهذا من قواعد الشرع أن يبين الشئ وضده.
    إذاً من هو الولي وما هي الوَلاية وما هي صفات الأولياء وكيف تنال الوَلاية ؟
    أولياء: جمع ولي والولي له معنى في اللغة: وهو المحب الناصر كما في قوله جل وعلا:(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(المائدة 55).
    والولي: هو الناصر والوَلاية بالفتح هي المحبة والنصرة. أما الوِلاية بالكسر فهي الإمارة هذا في اللغة.(
    [5])
    فالولي: هو المحب الناصر تقول هذا وليي يعني محباً لي وناصراً لي ومنه قول الله عز وجل(وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة 71).
    أما في الاصطلاح: فالولي عند أهل السنة هو: كل مؤمن تقي ليس بنبي(
    [6]).
    أشتمل التعريف على أن الولي من جهة الاسم الاصطلاحي لا يدخل فيه الأنبياء أما من جهة الأصل فإن الأنبياء أولياء (
    [7]).
    والولاية:ضد العداوة وأصل الولاية: المحبة والقرب وأصل العداوة: البغض والبعد.(
    [8]) وعلى هذا فإن الولاية تدور على أمرين: المحبةالنصرة/ كما أن العداوة، دائرة على أمرين : البغضاء_ والكره. ويأتي الولي: في اللغة :بمعنى القريب وفي الشرع: العالم بالله المواظب على طاعته المخلص في عبادته.
    قال: شيخ الإسلام:"الولي مشتق من الولاء وهو القرب كما أن العدو من العدو وهو البعد فولي الله من والاه بالموافقة له في محبوباته وتقرب إليه بما أمر به من طاعاته"(
    [9]).
    والولي: هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين بعضهم بعضاً ويوالون به ربهم بالطاعة، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة قال تعالى:(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاهُمْ يَحْزَنُونَ). والإنسان بالنسبة لرب العالمين إما وليٌ وإما عدو ولكن الأولياء يتفاوتون في درجاتهم وفي قربهم من الله وفي محبتهم لله وفي تعظيمهم لشرع الله ؛كما أن أعداء الله يتفاوتون في العداوة والأولياء ليسوا على درجة واحدة إنما المهم أن نفهم معنى الوَلاية وحقيقة الوَلاية الوَلاية كما تقدم أمر مكتسب يكتسبه العبد بإيمانه وعمله الصالح وبتوفيق الله تعالى له.
    فالسمة الأولى لأولياء الله التي يتميزون بها عن غيرهم هي اتباع النبي r واتباع النبي r يكون في أمرين: الدرجة الأولى: _فيما فرض_. الدرجة الثانية: _وفيما ندب إليه من الأعمال: ودليل ذلك قول النبيr :"قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته(
    [10]) بالحرب". ثم بعد أن ذكر جزاء الأولياء وانتصار الله لهم قال:"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل" وهذا طريق تحصيل الولاية قال:" وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه"([11]).
    فذكر الطريقين اللذين تحصل بهما ولاية الله عز وجل، وهذا تفصيل لما أجملته آية:(فَاتَّبِعُونِي) فالإتباع للنبي r يكون في أداء الفرائض أولاً لأنها أحب ما يتقرب به إلى الله عز وجل ثم بالنوافل ثانياً.
    ومن هنا نعلم أخوتي أن من أشتغل بالنوافل مضيعاً للفرائض قد خالف الطريقة الربانية في تحصيل الولاية الشرعية إذ الأصل الانشغال بالواجب والفرض ثم تكميله بالمستحب والنفل.
    كما أنه يبدأ العبد بتكميل نفسه أولاً ثم تكميل غيره كما في سورة العصر:{وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
    قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى:"فبالأمرين الأولين، يكمل الإنسان نفسه، وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره وبتكميل الأمور الأربعة، يكون الإنسان قد سلم من الخسار وفاز بالربح العظيم" فالأمرين الأولين هما:1_الذين آمنوا: ولا يصح إلا بالعلم / 2_عملوا الصالحات: أي العمل به.
    والآخرين 3_ تواصوا بالحق: أي الدعوة إليه /4_تواصوا بالصبر: أي الصبر على الأذى فيه.
    قال ابن القيم رحمه الله عز وجل في قوله تعالى:( وَالْعَصْرِ, إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ, إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) فأقسم سبحانه وتعالى بالدهر الذي هو زمن الأعمال الرابحة والخاسرة على أن كل واحد في خسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله وقوته العملية بالعمل بطاعته فهذا كماله في نفسه ثم كمل غيره بوصيته له بذلك وأمره إياه به وبملِاك ذلك وهو الصبر فكمل نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وكمل غيره بتعليمه إياه ذلك ووصيته له بالصبر عليه ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو فكر الناس في سورة : والعصر لكفتهم"(
    [12]) .
    قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه) هذه الآية الأولى التي استدل بها المؤلف لبيان هذا الأصل العظيم.
    وإذا أحب الله عبداً فقد تولاه فأولياء الله عز وجل لا يتميزون عن غيرهم بمظهر بل هم كغيرهم من أهل الإسلام لا يتميزون عنهم بلباس ولا بهيئة لكنهم يتميزون عن غيرهم بعملهم الصالح، فالمظاهر لا تمييز فيها لكن المخابر والأعمال هي التي يدور عليها التمييز بين أولياء الله وبين غيرهم من الناس فما هو العمل الذي يميز أولياء الله عن غيرهم؟ قول الله تعالى:(فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).
    هذا هو المعيار الفارق والميزان الدقيق لبيان حقيقة الولاية، فالولاية التي يثبت بها للمؤمن الانتساب إلى الله هي أن يكون متبعاً للنبي r ظاهراً وباطناً فعلى قدر ما يكون مع الإنسان من اتباع هدي النبي r يكون عنده بقدر ذلك من ولاية الله له، وبقدر ما يكون معه من تقصير فإنه ينقص عنه من ولاية الله له بقدر ما حصل منه من التقصير، والناس في هذا درجات متفاوتة، لا يحدها وصف.
    فكأن الشيخ رحمه الله يريد أن يقول بإيراد هذه الآية التي تسمى عند السلف آية المحنة أن من أبرز علامات الولي أن يكون متبعاً لرسولهr وهذا يبطل الزعم الباطل الذي نبه عليه المؤلف كما سيأتي من أن الولي لا بد فيه من أن يكون مخالفاً للشريعة غير متبع للنبي:r لأنه يتلقى عندهم عن الله مباشرة!.
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:"ومن كيده:ما ألقاه إلى جُهَّال المتصوفة من الشَّطح والطامَّات وأبرزه لهم في قالب الكشف من الخيالات فأوقعهم في أنواع الأباطيل والترهات وفتح لهم أبواب الدعاوي الهائلات وأوحى إليهم : أن وراء العلم طريقا إن سلكوه أفضى بهم إلى كشف العيان وأغناهم عن التقيد بالسنة والقرآن!.
    فحسن لهم رياضة النفوس وتهذيبها وتصفية الأخلاق والتجافي عما عليه أهل الدنيا وأهل الرياسة والفقهاء وأرباب العلوم والعمل على تفريغ القلب وخلوه من كل شيء حتى ينتقش فيه الحق بلا واسطة تعلّم فلما خلا من صورة العلم الذي جاء به الرسول نقش فيه الشيطان بحسب ما هو مستعد له من أنواع الباطل وخيله للنفس حتى جعله كالمشاهد كشفا وعيانا فإذا أنكره عليهم ورثة الرسل قالوا: لكم العلم الظاهر ولنا الكشف الباطن ولكم ظاهر الشريعة وعندنا باطن الحقيقة ولكم القشور ولنا اللباب(
    [13]). فلما تمكن هذا من قلوبهم سلخها من الكتاب والسنة والآثار كما ينسلخ الليل من النهار ثم أحالهم في سلوكهم على تلك الخيالات وأوهمهم أنها من الآيات البينات وأنها من قبل الله سبحانه إلهامات وتعريفات فلا تعرض على السنة والقرآن ولا تعامل إلا بالقبول والإذعان.
    فلغير الله لا له سبحانه ما يفتحه عليهم الشيطان من الخيالات والشطحات وأنواع الهذيان وكلما ازدادوا بعدا وإعراضا عن القرآن وما جاء به الرسول:r كان هذا الفتح على قلوبهم أعظم(
    [14]).
    ثم ذكر رحمه الله قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).


    ([1]) (من مقدمة كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان تحقيق د/عبد الرحمن بن عبد الكريم اليحيى ص7/قدم له فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى).
    ([2]) (إغاثة اللهفان ج1_ص349)
    ([3]) (إغاثة اللهفان ج1_ص 389)
    ([4]) (إغاثة اللهفان ج1_ص391 وقد تقدم هذا النقل في الأصل الأول واعدته هنا لأهميته)
    ([5]) (انظر شرح العقيدة الواسطية / للشيخ صالح آل الشيخ ص411/ ولسان العرب "15/409 ").
    ([6]) (ينظر شرح العقيدة الواسطية / للشيخ صالح آل الشيخ /ومنهاج السنة النبوية (7/28)).
    ([7]) (ينظر شرح العقيدة الواسطية / للشيخ صالح آل الشيخ ص412).
    ([8]) (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص11).
    ([9]) (مجموع الفتاوى ج11_ص62).
    ([10]) (آذنته:أعلمته بأني محارِب لَهُ).
    ([11]) رواه البخاري(6137) وغيره ولفظه عنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :"إِنَّ اللَّهَ قَالَ "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ".
    ([12]) (إغاثة اللهفان ج1_ص68).
    ([13]) (قال: الشيخ علي الحلبي حفظه الله معلقاً على هذا الموضع :" وكثير من ذوي الحزبيَّات المعاصرة يُنكرون على أهل السنة ودعاة التوحيد تمسُّكهم بالدعوة إلى نبذ البدع ورد الخُرافات,زاعمي أن هذه(قشورٌ) والواجب الدعوة إلى (اللباب)!
    وما هو (اللبابُ) في زعمهم ؟!
    إنه الكلام العاطفيُّ الأهوج الذي لا يسمن ولا يغني من جوع!
    فلا بـ (القشور) التزموا,ولا إلى (اللباب) دعًوا!!
    وللإمام العز بن عبد السلام في"فتاويه" (ص72,71) كلمة طيبة في نقد_و ونقض هذه الكلمة الكاذبة فلتنظر").
    ([14]) (إغاثة اللهفان ج1_ص 229).

  9. #9

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    تتمة الاصل الخامس:
    في سياق بيان أوصاف أولياء الله المتقين أورد الشيخ ثلاث آيات هذه الآية ثانيها منها .
    قال جمع من المفسرين نزلت في أبي بكر ومن معه من الصحابة : y الذين قاتلوا المرتدين وذهب بعضهم أنها نزلت في أبي موسى الأشعري: t وقومه وأنظر للمزيد تفسير ابن جرير الطبري والقرطبي وابن كثير.
    قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى:" من صفاتهم الذل للمؤمنين والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين وهذا من كمال صفات المؤمنين وبهذا أمر الله نبيه r فأمره بلين الجانب للمؤمنين بقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
    وأمره بالقسوة على غيرهم بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الآية.
    وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين والشدة على الكافرين من صفات الرسول r، وأصحابه y بقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} ...(
    [1]).
    وقال العلامة السعدي:"يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله شيئا وإنما يضر نفسه وأن لله عبادا مخلصين ورجالا صادقين، قد تكفل الرحمن الرحيم بهدايتهم ووعد بالإتيان بهم وأنهم أكمل الخلق أوصافا وأقواهم نفوسا وأحسنهم أخلاقا أجلُّ صفاتهم أن الله{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ }.
    فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه وأفضل فضيلة، تفضل الله بها عليه وإذا أحب الله عبدا يسر له الأسباب وهون عليه كل عسير ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات، وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة والوداد.
    ومن لوازم محبة العبد لربه، أنه لا بد أن يتصف بمتابعة الرسول: r ظاهرا وباطنا، في أقواله وأعماله وجميع أحواله، كما قال تعالى:{قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}. كما أن من لازم محبة الله للعبد، أن يكثر العبد من التقرب إلى الله بالفرائض والنوافل، كما قال النبي: r في الحديث الصحيح عن الله: "وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
    ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى والإكثار من ذكره فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدا بل غير موجودة وإن وجدت دعواها ومن أحب الله أكثر من ذكره وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل، وغفر له الكثير من الزلل.
    ومن صفاتهم أنهم :{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } فهم للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم ونصحهم لهم ولينهم ورفقهم ورأفتهم ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم وقرب الشيء الذي يطلب منهم.
    وعلى الكافرين بالله المعاندين لآياته المكذبين لرسله أعزة قد اجتمعت هممهم وعزائمهم على معاداتهم وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به الانتصار عليهم قال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وقال تعالى: { أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }.
    فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم، ولا تمنع الغلظة عليهم والشدة دعوتهم إلى الدين الإسلامي بالتي هي أحسن فتجتمع الغلظة عليهم، واللين في دعوتهم وكلا الأمرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم.{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بأموالهم وأنفسهم، بأقوالهم وأفعالهم. { وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ }.
    بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم المخلوقين وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم، فإن ضعيف القلب ضعيف الهمة تنتقض عزيمته عند لوم اللائمين، وتفتر قوته عند عذل العاذلين وفي قلوبهم تعبد لغير الله بحسب ما فيها من مراعاة الخلق وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله فلا يسلم القلب من التعبد لغير الله حتى لا يخاف في الله لومة لائم.
    ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم منَّ الصفات الجليلة والمناقب العالية، المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير أخبر أن هذا من فضله عليهم وإحسانه لئلا يعجبوا بأنفسهم وليشكروا الذي مَنَّ عليهم بذلك ليزيدهم من فضله وليعلم غيرُهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب فقال:{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }. أي: واسع الفضل والإحسان جزيل المنن قد عمت رحمته كل شيء ويوسع على أوليائه من فضله، ما لا يكون لغيرهم ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلا وفرعا"(
    [2]) أ.هـ
    فاشتملت هذه الآية على أربع أمور:
    1_ يحبهم الله جل وعلا ويحبونه: فيه أثبات المحبة لله وانه يود عباده ويودونه جل وعلا فهو واد مودود وبلوغ هذه المرتبة هي غاية ما يتمناه أولياء الله ولهذا قال بعض السلف" ليس الشأن أن تُحِبَّ ولكن الشأن أن تُحَبْ" فإن محبة الله جل وعلا يدعيها المشركون، يدعيها الضالون أي ليس أن تكون تحب الله فحسب بل الشأن كل الشأن أن يحبك الله تعالى هذا بالنسبة لمحبة الله لعباده.
    أما بالنسبة لمحبة العبد لربه فقد قال فيها: ابن القيم رحمه الله تعالى:" وأصل دعوة جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له المتضمنة لكمال حبه وكمال الخضوع والذل له والإجلال والتعظيم ولوازم ذلك من الطاعة والتقوى وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنسt عن النبيr أنه قال: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" وفي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "يا رسول الله والله لانت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي" فقال: " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال والذي بعثك بالحق لانت أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر".
    فإذا كان هذا شأن محبة عبده ورسوله ووجوب تقديمها على محبة النفس ووالده وولده والناس أجمعين فما الظن بمحبة مرسله سبحانه وتعالى ووجوب تقديمها على محبة ما سواه ومحبة الرب تعالى تختص عن محبة غيره في قدرها وصفتها وإفراده سبحانه بها.
    فان الواجب له من ذلك كله أن يكون إلى العبد أحب إليه من ولده ووالده بل من سمعه وبصره ونفسه التي بين جنبيه فيكون إلهه الحق ومعبودة أحب إليه من ذلك كله والشيء قد يحب من وجه دون وجه وقد يحب بغيره وليس شيء يحب لذاته من كل وجه إلا الله وحده ولا تصلح الإلوهية إلا له ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا والتأله هو المحبة والطاعة والخضوع"(
    [3]).
    2_أذلةً على الؤمنيين أعزةً على الكافرين: قال عليّt :" أهل رقة على أهل دينهم أهل غلظة على من خالفهم في دينهم".
    وقال ابن عباس: "هم للمؤمنين كالوالد للولد والسيد للعبد وهم في الغلظة على الكفار كالسبع على فريسته قال: الله تعالى:" أشداء على الكفار رحماء بينهم "(
    [4]).
    أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يحبون المؤمنين ويذلون لهم ويتألفونهم ويواخونهم ويتولونهم ويبغضون الكافرين وهم أعزة عليهم لا يذلون لهم ولا ينكسرون لهم ولا يحبونهم إذاً المعنى أنهم يعملون بعقيدة الولاء والبراء ، الولاء للمؤمنين والبراء من الكافرين.
    3_ يجاهدون في سبيل الله: الجهاد فى سبيل الله بالنفس واللسان والمال وذلك هو تحقيق دعوى المحبة لأن اعز ما يملك العبد هو ماله ونفسه فإذا بذلهما في سبيل محبوبه الأول أستحق وصفه بالوَلاية والجهاد في سبيل الله كما قال عنه النبي r :"رأسُ الأمْرِ الإِسْلامُ وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهادُ"(
    [5]).
    والجهاد في سبيل الله لا يقتصر على قتال الكفار فقط وإن كان هو المراد ابتدئا فالجهاد منه ما يكون باليد ومنه ما يكون باللسان ومنه ما يكون بالتأليف والكتابة وغيرها من الوسائل.
    قال ابن القيم في قوله تعالى:{والذين جاهدوا فينا لنهديّنهم سبلنا} (العنكبوت69). علق سبحانه الهداية بالجهاد فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادا وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد.
    قال الجنيد:"والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص" ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا فمن نصر عليها نصر على عدوه ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه"(
    [6]).
    وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى :(يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ).
    قال مجاهد: {لما يحييكم} يعني للحق وقال قتادة: هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة.
    وقال السدي: هو الإسلام أحياهم بعد موتهم بالكفر.
    وقال ابن إسحاق: عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير: واللفظ له{لما يحييكم} يعني للحرب التي أعزكم الله بها بعد الذل, وقوّاكم بعد الضعف, ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
    وكل هذه عبارات عن حقيقة واحدة وهي القيام بما جاء به الرسول ظاهرا وباطنا.
    قال الواحدي: والأكثرون على أن معنى قوله:{ لما يحييكم} هو الجهاد. وهو قول ابن إسحاق واختيار أكثر أهل المعاني.
    قال الفراء: إذا دعاكم إلى إحياء أمركم بجهاد عدوكم يريد إنما يقوي بالحرب والجهاد فلو تركوا الجهاد ضعف أمرهم واجترأ عليهم عدوهم.
    قلت: الجهاد من أعظم ما يحييهم به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة أما في الدنيا فان قوتهم وقهرهم لعدوهم بالجهاد وأما في البرزخ فقد قال تعالى: { وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (آل عمران 169).
    وأما في الآخرة فان حظ المجاهدين والشهداء من حياتها ونعيمها أعظم من حظ غيرهم ولهذا قال ابن قتيبة:{لما يحييكم} يعني الشهادة. وقال بعض المفسرين:{لما يحييكم} يعني الجنة. فانها دار الحيوان وفيها الحياة الدائمة الطيبة حكاه أبو علي الجرجاني. والآية تناول هذا كله فان الإيمان والقرآن والجهاد تحيي القلوب الحياة الطيبة"(
    [7]).
    4_ لا يخافون في الله لومة لائم: لأن غايتهم رضى الله سبحانه وتعالى لذلك لا يبالون بالناس يدعون للتوحيد ويُظهرون التوحيد ويدعون للسنة ويُظهرون السنة ويعملون بها ولايبالون بالرعاع ولو سخط عليهم هؤلاء الهمج من الخلق ولو قالوا عنهم أنهم متشددون أو غير ذلك من الأنباز التي يُنبز بها أهل السنة لا يبالون ولا يرفعون لذلك رأساً.
    بخلاف أهل البدع لا يتكلمون بالسنة ولا يدعون إلى السنة ويتكلمون في الأشياء التي تعجب العوام وتعجب الرعاع فيكثر الناس في محاضراتهم وفي دروسهم يريدون الأتباع يريدون تكثير السواد حولهم.
    أما أهل السنة فليسوا كذلك أهل السنة لايبالون بهذا ولا بأحد، إذا كانوا يصدعون بالحق ويتبِعون السنة ويُظهرون العلم فإنهم لا يبالون رضي من رضي وسخط من سخط هؤلاء هم أولياء الله.
    ثم ذكر رحمه الله الآية الثالثة وهي قوله جل وعلا(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (
    [8]).
    قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى :" واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم فقال بعضهم : "هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم ، لما عليهم من سيما الخير والإخبات".
    ثم ذكر أقوالاً أخرى ومنها ما روي عن عمر بن الخطاب t قال: قال رسول الله r : "إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فإنا نحبهم لذلك! قال: هم قوم تحابُّوا في الله بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها فوا الله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس" وقرأ هذه الآية:(ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)"(
    [9]).
    وعن أبي مالك الأشعري t قال: قال رسول الله r: "يأتي من أفْنَاء الناس ونوازع القبائل قوم لم تَصل بينهم أرحام متقاربة، تحابُّوا في الله وتصافَوْا في الله يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها يفزع الناس فلا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"(
    [10]).
    قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: الولي أعني _ولي الله_ هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها وهو الذي آمن واتقى كما قال الله تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ).
    وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:" يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسرهم ربهم، فكل من كان تقيا كان لله وليا: أنه {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أي: فيما يستقبلون من أهوال القيامة{ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما وراءهم في الدنيا.
    وقال عبد الله بن مسعود، وابن عباسy وغير واحد من السلف:" أولياء الله الذين إذا رءوا ذُكِر الله" فهذا هو تفسير الولي أنه من آمن و جمع الإيمان والتقوى والإيمان و التقوى من المعاني التي بينها الله تعالى بيانا واضحاً".
    قال الشيخ رحمه الله تعالى:(ثم صار الأمر عند أكثر من يدعي العلم وأنه من هُداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن أولياء الله لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم ولابد من ترك الجهاد فمن جاهد فليس منهم ولابد من ترك الإيمان والتقوى فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم.................)
    يشير الشيخ رحمه إلى المعتقد الباطل الذي تدعيه الصوفية في مسألة الولي والوَلاية وهو ترك اتباع الرسل وترك العلم الشرعي زعماً منهم أن الرسل إنما أرسلوا للعامة وأن الأولياء وهم الخاصة يتلقون عن الله مباشرةً عياذاً بالله تعالى وعلى زعمهم الباطل أن الولي لا يحتاج للنبي ولا للعلم الشرعي ولهذا جاءت عبارتهم بهذا المعنى الفاسد.
    قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:"الصوفية الذين يستغني أحدهم عن سنة النبي r وهديه وبيانه بما يزعمونه من العلم اللدني يرمز إليه بعضهم بقوله:" حدثني قلبي عن ربي "بل زعم الشعراني في "الطبقات الكبرى" أن أحد شيوخه( المجذوبين) والذين يترضى هو عنهم كان يقرأ قرآنا غير قرآننا ويهدي ثواب تلاوته لأموات المسلمين!"(
    [11]).
    وكان بعضهم يقول: إذا طالبوني بعلم الورق ... برزت عليهم بعلم الخرق لذا يقولون: أنتم تأخذون دينكم من ميت عن ميت فتقولون:حدثنا عبد الرزاق -وقد مات- عن معمر وقد مات- عن أيوب -وقد مات- وأما نَحْنُ فنأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً والصوفية قسموا الدين إلى قسمين: شريعةٌ وحقيقةٌ الشريعة للعلماء الجامدين الفقهاء الجامدين والحقيقة لمن؟.
    للعارفين بالله والواصلين إلى الله الذين استغنوا عن الشريعة ينظرون إلى اللوح المحفوظ فيأخذون التعليمات من اللوح المحفوظ رأساً زهدوا في الشريعة فيما جاء به النبي: rقالوا هذه مرحلة لأن السير إلى الله على مراحل.
    المرحلة الأولى : العمل بالشريعة ثم بعد ذلك:الانتقال إلى الحقيقة الحقيقة التي لا يعلمها إلا الخواص هم عندهم الخاصة وخاصة الخاصة هذا حقائق مكتوبة في الكتب في كتبهم. ولهذا قالوا مقولتهم الباطلة حدثني قلبي عن ربي!!!.
    ولا يصير الولي الآن في عرف كثير من المتأخرين إلا من بني على قبره قبةُ أو مسجدُ أما المدفون الذي دفنه على السنة الذي لم يوضع على قبره شيء فهو عندهم ليس بولي ولو كان من أفضل الناس ثم أيضاً عندهم الولي له زي خاص بأن يلبس عمامةً ويلبس ثوباً خاصاً.
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى:" ومن كيده:أنه يحسن إلى أرباب التخلي والزهد والرياضة العمل بهاجسهم وواقعهم دون تحكيم أمر الشارع! ويقولون:القلب إذا كان محفوظا مع الله كانت هواجسه وخواطره معصومة من الخطأ وهذا من أبلغ كيد العدو فيهم:
    فإن الخواطر والهواجس ثلاثة أنواع :رحمانية وشيطانية ونفسانية_ كالرؤيا_ فلو بلغ العبد من الزهد والعبادة ما بلغ فمعه شيطانه ونفسه لا يفارقانه إلى الموت والشيطان يجري منه مجرى الدم والعصمة إنما هي للرسل صلوات الله وسلامه عليهم الذين هم وسائط بين الله عز و جل وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده ومن عداهم يصيب ويخطىء وليس بحجة على الخلق.
    وقد كان سيد المحدثين الملهمين :عمر بن الخطاب:t يقول الشيء فيرده عليه من هو دونه فيتبين له الخطأ فيرجع إليه وكان يعرض هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليها ولا يحكم بها ولا يعمل بها.
    وهؤلاء الجهال يرى أحدهم أدنى شيء فيحكم هواجسه وخواطره على الكتاب والسنة ولا يلتفت إليهما ويقول :حدثني قلبي عن ربي ونحن أخذنا عن الحي الذي لا يموت وأنتم أخذتم عن الوسائط ونحن أخذنا بالحقائق وأنتم اتبعتم الرسوم وأمثال ذلك من الكلام الذي هو كفر وإلحاد وغاية صاحبه أن يكون جاهلا يعذر بجهله(
    [12]) حتى قيل لبعض هؤلاء :ألا تذهب فتسمع الحديث من عبد الرزاق فقال : ما يصنع بالسماع من عبد الرزاق من يسمع من الملك الخلاق!.
    وهذا غاية الجهل فإن الذي سمع من الملك الخلاق موسى بن عمران كليم الرحمن وأما هذا وأمثاله فلم يحصل لهم السماع من بعض ورثة الرسول:r وهو يدعي أنه يسمع الخطاب من مرسله فيستغني به عن ظاهر العلم ولعل الذي يخاطبهم هو الشيطان أو نفسه الجاهلة أو هما مجتمعين ومنفردين.
    ومن ظن أنه يستغني عما جاء به الرسول :r بما يلقى في قلبه من الخواطر والهواجس فهو من أعظم الناس كفرا وكذلك إن ظن أنه يكتفي بهذا تارة وبهذا تارة فما يلقي في القلوب لا عبرة به ولا التفات إليه إن لم يعرض على ما جاء به الرسول:r ويشهد له بالموافقة وإلا فهو من إلقاء النفس والشيطان.
    وقد سئل عبد الله بن مسعود tعن مسئلة المفوضة(
    [13]) شهرا فقال بعد الشهر : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله برىء منه ورسوله.
    وكتب كاتب لعمر t بين يديه : هذا ما أرى الله عمر فقال : لا امحه واكتب : هذا ما رأى عمر وقال عمر t أيضا : أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله عليه السلام لرددته.
    واتهام الصحابة لآرائهم كثير مشهور وهم أبر الأمة قلوبا وأعمقها علما وأبعدها من الشيطان فكانوا أتبع الأمة للسنة وأشدهم اتهاما لآرائهم وهؤلاء ضد ذلك. وأهل الاستقامة منهم سلكوا على الجادة ولم يلتفتوا إلى شيء من الخواطر والهواجس والإلهامات حتى يقوم عليها شاهدان.
    قال الجنيد: قال أبو سليمان الداراني :ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياما فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين من الكتاب والسنة.
    وقال أبو يزيد : لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وقال أيضا : من ترك قراءة القرآن ولزوم الجماعات وحضور الجنائز وعيادة المرضى وادعى بهذا الشأن فهو مدع.
    وقال سري السقطى : من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط.
    وقال الجنيد : مذهبنا هذا مقيد بالأصول بالكتاب والسنة فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ويتفقه لا يقتدى به.
    وقال أبو بكر الدقاق : من ضيع حدود الأمر والنهي في الظاهر حرم مشاهدة القلب في الباطن"(
    [14]) .
    تعريف الكرامة والمعجزة وبيان الفرق بينهما:
    الْكَرَامَةُ لُغَةً :مَصْدَرُ كَرُمَ يُقَال: كَرُمَ الرَّجُل كَرَامَةً :
    وَفِي الاِصْطِلاَحِ تُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ: فَتُطْلَقُ أَوَّلاً: بِمَعْنَى ظُهُورِ أَمْرٍ خَارِقٍ لِلْعَادَةِ عَلَى يَدِ شَخْصٍ ظَاهِرِ الصَّلاَحِ غَيْرِ مُقَارِنٍ لِدَعْوَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَتُطْلَقُ ثَانِيًا بِمَعْنَى: الإْعْزَازِ وَالتَّفْضِيل وَالتَّشْرِيفِ وَتُطْلَقُ ثَالِثًا : بِمَعْنَى:إِكْر امِ الضَّيْفِ.
    والْمُعْجِزَةُ فِي اللُّغَةِ : هِيَ مَا يَعْجِزُ الْخَصْمُ عِنْدَ التَّحَدِّي.
    وَاصْطِلاَحًا : هِيَ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ مَقْرُونٌ بِدَعْوَى النُّبُوَّةِ قُصِدَ بِهِ إِظْهَارُ صِدْقِ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ مَعَ عَجْزِ الْمُنْكِرِينَ عَنِ الإْتْيَانِ بِمِثْلِهِ وَعَلَى هَذَا فَالْمُعْجِزَةُ أَخَصُّ مِنَ الْكَرَامَةِ.
    والمعجزة: تكون للأنبياء، والكرامة للأولياء؛ أولياء الرحمن والكهانة لأولياء الشيطان والآن المعجزة لا يمكن أن تقع لأن الرسول r آخر الأنبياء ولا يمكن أن تقع. والكرامة موجودة من قبل الرسول ومن بعد الرسول إلى يوم القيامة تكون على يد ولي صالح، إذا عرفنا أن هذا الرجل الذي جاءت هذه الكرامة على يده هو رجل مستقيم قائم بحق الله وحق العباد عرفنا أنها كرامة.
    وينظر في الرجل فإذا جاءت هذه الكرامة من كاهن يعني:من رجل غير مستقيم عرفنا أنها من الشياطين والشياطين تعين بني آدم لأغراضها أحياناً فربما يكون مثلاً من السحرة من تحمله الشياطين إلى مسافات بعيدة وترده: قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ لسليمان عليه السلام: (أَنَا آتِيكَ بِهِ).
    يعني: بعرش ملكة اليمن (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ) [النمل:39] يأتي من اليمن من أقصى الجنوب إلى الشام، قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وكان معروف أنه يقوم من مقامه في ساعة معينة.اهـ.
    مسألة:
    وقوع الخارق للعادة والكرامة ليس دليلاً على صحة الطريق ولا على أفضلية من وقعت له دائماً :
    قال:شيخ الإسلام في معرض كلامه عن نقاشه للصوفية: " ثم قلت لهم ومع هذا فلو دخلتم النار وخرجتم منها سالمين حقيقة ولو طرتم فى الهواء ومشيتم على الماء ولو فعلتم ما فعلتم لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع ولا على إبطال الشرع فان الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر وللأرض انبتى فتنبت وللخربة أخرجي كنوزك فتخرج كنوزها تتبعه ويقتل رجلا ثم يمشى بين شقيه ثم يقول له قم فيقوم ومع هذا فهو دجال كذاب ملعون لعنه الله....."(
    [15]).
    وقال:أيضاً "وذكرت قول أبى يزيد البسطامي:" لو رأيتم الرجل يطير في الهواء ويمشى على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهى". وذكرت عن يونس بن عبد الأعلى انه قال: للشافعي أتدري ما قال صاحبنا يعنى الليث بن سعد قال لو رأيت صاحب هوى يمشى على الماء فلا تغتر به فقال: الشافعي "لقد قصر الليث لو رأيت صاحب هوى يطير فى الهواء فلا تغتر به"(
    [16]).
    وقال رحمه الله تعالى:"وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الْكَرَامَاتِ قَدْ تَكُونُ بِحَسَبِ حَاجَةِ الرَّجُلِ فَإِذَا احْتَاجَ إلَيْهَا الضَّعِيفُ الْإِيمَانِ أَوْ الْمُحْتَاجُ أَتَاهُ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إيمَانَهُ وَيَسُدُّ حَاجَتَهُ وَيَكُونُ مَنْ هُوَ أَكْمَلُ وِلَايَةً لِلَّهِ مِنْهُ مُسْتَغْنِيًا عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَأْتِيه مِثْلُ ذَلِكَ لِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ وَغِنَاهُ عَنْهَا لَا لِنَقْصِ وِلَايَتِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ مَنْ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ الْخَوَارِقُ لِهَدْيِ الْخَلْقِ وَلِحَاجَتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ أَعْظَمُ دَرَجَةً"(
    [17])
    مسألة:
    هل الوَلاية أمر مكتسب أم هي اختيار واصطفاء كالنبوة؟:
    مما تقدم نعلم أن الولاية ليست مكتسبةً بالنسب ولا مكتسبةً بالجاه، ولا مكتسبةً بالوراثة ولا مكتسبة بملبسٍ معينٍ أو بانتسابٍ إلى جهة معينةٍ كمذهبٍ أو غيره، إنما تكتسب بالعمل الذي دائرته الكبرى هي اتباع النبي r، وتقوى الله، لقوله سبحانه وتعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }.والأولياء في مقدمتهم الأنبياء أنبياء الله جميعاً أولياء الله ليس كما يزعم بعض جهلة الصوفية أن الوَلاية شيء آخر غير الأنبياء وغير الرسل أي في زعم المتصوفة لا يطلق كلمة ولي أو الأولياء على الأنبياء والمرسلين هذا خطأ خطأ في التصور وهمٌ في طبيعة الأولياء في طبيعة أولياء الله تعالى الأنبياء ومن الأنبياء الرسل ومن الرسل أولوا العزم ثم سيدهم على الإطلاق سيد الأولياء سيد ولد آدم محمدٌ رسول الله r فهو سيد الأولياء وأولهم وأفضلهم على الإطلاق. ولو فهم المسلمون جميعاً معنى الوَلاية وأن أنبياء الله كلهم من أولياء الله تعالى وفي مقدمة الأولياء الأنبياء ثم أتباعهم من أصحابهم ثم الأمثل فالأمثل من العلماء الربانيين الفاهمين لدين الله تعالى والفقهاء هؤلاء هم الأولياء .
    والولاية مرة أخرى أمر مكتسب لا يخضع للوراثة وليس بالاصطفاء بخلاف النبوة فهي اصطفاء واختيار من الله تعالى ليس للعبد فيها كسب ولا اختيار إذاً الفرق بين الولاية والنبوة؟.
    أن الولاية أمر مكتسب والنبوة بالاصطفاء النبي اللهُ سبحانه وتعالى هو الذي يصطفي من شاء من عباده يصطفيهم اصطفاء ويختارهم اختياراً ويربيهم تربية خاصة فيوحي إليهم النبوة بالاصطفاء لكن الولاية بالاكتساب تكتسب أنت الولاية بصرف النظر عن أبويك وعن أصلك وفرعك قد يعيش الإنسان في أول حياته عدواً لله فيتحول إلى وليٍ لله تعالى بالاكتساب تكتسب بما تُكتسب الولاية بالإيمان الصادق الصحيح وبالعمل الصالح بالمتابعة للنبي r وتقوى الله بطلب محبة الله تعالى بأداء الفرائض وتكميلها بالنوافل بمحبة الله والجهاد في سبيله وأن لا نخاف في الله لومة لأم يتذللون لإخوانهم أعزة على الكافرين هذه الصفات من حققها كان ولياً لله سبحانه أما النبوة فلا يستطيع العبد تحصيلها بكسبه بل هي اختيار واصطفاء من الله تعالى.
    فائدة:
    النبوة هي أصل المعجزة والولاية هي أصل الكرامة فلا تحصل المعجزة الخارقة للعادة التي هي أصل الكرامة في الجنس إلا مع النبوة الصادقة، كما أنّ الكرامة الخارقة للعادة لا تحصل للولي إلا بمتابعته لشرع نبيّه فالمعجزة إذاً دليلٌ على النبوة الصادقة والكرامة دليلٌ على صدق الشاهد بالنبوة الصادقة وجامعهما: آية الله الخارقة الدالة على النبوة الصادقةفهما من جنس واحدٍ(
    [18]).
    تتمة
    قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى:"وليس من شرط ولي الله أن يكون معصوما لا يغلط ولا يخطئ بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى.
    فإن الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه فقال تعالى:{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
    وقد ثبت في الصحيحين أن الله سبحانه استجاب هذا الدعاء وقال: قد فعلت ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت هذه الآية { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
    قال: دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها قبل ذلك شيء أشد منه فقال النبي r " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } إلى قوله { أو أخطأنا }. قال الله قد فعلت: { رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال قد فعلت:{ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} قال قد فعلت وقد قال تعالى:{ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}................."(
    [19]).
    قال الشيخ رحمه الله: (يا ربنا إن نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء.................. ... )
    الهم آمين نسأل الله أن يعصمنا من هذه الأقوال الباطلة.
    والعفو من الذنوب والعافية من الوقوع في طرق أهل البدع والضلال وقوله:إنك سميع الدعاء : أي مجيب الدعاء قال تعالى:{ إن ربي لسميع الدعاء }.

    انتهى الأصل الخامس ويليه بإذن الله الأصل السادس.



    ([1]) (ينظر أضواء البيان).
    ([2]) (تفسير العلامة السعدي).
    ([3]) (انظر الداء والدواء ص283).
    ([4]) (انظر تفسير القرطبي).
    ([5]) (رواه الإمام أحمد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وصححه الألباني).
    ([6]) (الفوائد ص150 ط دار ابن الجوزي ترتيب الشيخ علي الحلبي).
    ([7]) (ينظر الفوائد ص131 ).
    ([8]) (الذين أمنوا بقلوبهم واتقوا بجوارحهم).
    ([9]) (قال:العلامة أحمد شاكر وهذا إسناد صحيح ينظر تفسير الطبري).
    ([10]) (قال: العلامة أحمد شاكر وهذا خبر صحيح الإسناد).
    ([11]) (حجة النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها عنه جابر رضي الله عنه ص53 الحاشية) .
    ([12]) (قال الشيخ علي الحلبي حفظه الله معلقاً :" وهو الحق لكنه لا يعفى من إثم التقصير في طلب العلم ومعرفة الحق").
    ([13]) (قال الشيخ علي الحلبي:(المفوضة) :هي التي أهملت حكم المهر"المصباح المنير"."ص483") .
    ([14]) (إغاثة اللهفان ج1_ص237).
    ([15]) (ينظر مناظرة شيخ الإسلام للبطائحية في مجموع الفتاوى"ج11_ص445").
    ([16]) (ينظر مجموع الفتاوى "ج11_ص467 ")
    ([17]) (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص230/وانظر مزيد تفصيل حول المسألة الّلآلىء البهية في شرح العقيدة الواسطية للشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله تعالى "ص407_ص432").
    ([18]) (النبوات ص24)
    ([19]) (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص85).

  10. #10

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    (الأصل السادس)
    ((رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة وإتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة وهي أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضاً حتماً لا شك ولا إشكال فيه ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق وإما مجنون لأجل صعوبة فهمهما.
    فسبحان الله وبحمده كم بين الله سبحانه شرعاً وقدراً خلقاً وأمراً في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى بلغت إلى حد الضروريات العامة ولكن أكثر الناس لا يعلمون{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُ مْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ(9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)} ( سورة يس الآيات: 7-11) .
    آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين
    ))
    هذا الأصل السادس والأخير يمثل دعوة الشيخ رحمه الله وهي دعوة إلى تدبر كتاب الله عز وجل، والإقبال على الانتفاع بسنة رسول الله: r وأن ينظر الإنسان في هذين الأصلين العظيمين اللذين يضمن لمن أخذ بهما نجاة الدنيا والآخرة ونبذ التقليد فإن الإقبال على الكتاب والسنة هو سبيل السلف الصالح و طريقهم.
    فأراد الشيخ أن يبين في هذا الأصل أمرين:
    1 _الدعوة إلى التمسك بالكتاب والسنة.
    2_أبطال الشبهة التي تمنع من الأخذ بهما.
    فهذه الشبهة منعت كثيراً من الناس من الإقبال على الكتاب السنة والشيخ رحمه الله يريد أن يفند هذه,الشبهة.
    وهذا الأصل من أهم الأصول التي ينبغي على المسلم أن يعتني بها وجعله المؤلف أخر هذه الأصول لأنه بسبب تغيير هذا الأصل حدث ما حدث للمسلمين من الإضلال والردة كأنه أراد أن هذه الأصول الخمسة الأولى واضحة وجالية وأن الناس ما دفعهم لرد هذه الأصول الخمسة الأًولى والإضلال فيها إلا أنهم ضلوا في هذا الأصل واتخذوا التقليد ديناً وأغلقوا باب الاجتهاد.
    وكذلك مراد الشيخ رحمه أن من ترك الكتاب والسنة فإن مصيره اتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة فهنا مقدمة ونتيجة فالمقدمة هي ترك الكتاب والسنة بحجة أنها لابد من فهمها لمجتهد!.
    والنتيجة هي اتباع الأهواء والآراء والفرِق والأحزاب ومن ثم الاختلاف.
    وكأنه في هذا الأصل يطلب من المسلم التزام القران والسنة لأن الشيطان لا يستطيع أن يدعوا المسلمين على لسان أوليائه من شياطين الإنس والجن أن يدعوا إلى ترك القران والسنة مباشرة فإنه لو فعل ذلك لن يطاع ولكنه جاء بمكره وكيده إلى شبهه وضعها بين الناس وجعل أوليائه ينموها وينشروها شيئاً فشيئاً حتى ُيترك القران والسنة بحجة أن القرآن والسنة لا يفهمها إلا المجتهد وهذا لخلطهم بين الاستنباط فهذا لا يكون إلا لمجتهد وبين العمل بنصوص الكتاب والسنة الظاهرة المعنى الواضحة الجلية فهناك الكثير من الأمور في القران لا تحتاج إلى مجتهد لفهمها بل يفهمها كل عاقل مثال لذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ}(لبقرة: 43). فهذا الأمر لا يحتاج لمجتهد ليفهم معناه وقال تعالى شانه:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}(القمر:22). الحكم في هذه الآية يعم كل مؤمن و مؤمنة فلا تحتاج كل آيات القران و أحاديث السنة إلى المجتهد إلا في أضيق الأمور.
    قال العلامة السعدي:" أي: ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم، ألفاظه للحفظ والأداء، ومعانيه للفهم والعلم لأنه أحسن الكلام لفظا وأصدقه معنى وأبينه تفسيرا فكل من أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهله عليه والذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال والحرام، وأحكام الأمر والنهي، وأحكام الجزاء والمواعظ والعبر، والعقائد النافعة والأخبار الصادقة.
    ولهذا كان علم القرآن حفظا وتفسيرا، أسهل العلوم، وأجلها على الإطلاق، وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه، قال بعض السلف عند هذه الآية: هل من طالب علم فيعان عليه؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله:{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}. فالله جل وعلا يسر القرآن وهؤلاء يقولون : إنه عسير! وتيسير القران هو تيسير قراءته وفهمه، وليس تيسير القراءة اللفظية فإن القراءة اللفظية على العرب في ذلك الوقت كانت من أسهل ما يكون، ولكن الكلام في تيسير الفهم وتسهيله وهذا ما تميز به القرآن فإنه يفهمه العامي ويفهمه العالم.
    لكن هذا القدر المشترك بين العامي والعالم ليس مانعاً من أن يتفاضل الناس في فهمه فمن الناس من يؤتى فهماً عميقاً في القرآن ومنهم من يقتصر على فهم اللفظ في حده الأدنى، ويشهد لهذا تفاضل الصحابة y مع أنهم أهل اللسان في فهم آي القرآن. فهذا بن عباس فهم من قول الله تعالى:{إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } ما لم يفهمهُ غيره من الصحابة y جميعاً.
    بل ما لم يفهمه كبار المهاجرين والأنصار كما جرى ذلك في قصته مع عمر t لما سأله عن هذه السورة فإنه سألهم أولاً عن السورة فقالوا : هذه سورة أمر الله فيها رسوله بالتسبيح عند حصول الفتح وهذا معنى واضح يدركه كل صاحب لسان.
    لكن الذي فهمه ابن عباس هو أمر زائد على هذا وهو أن هذه السورة نعت إلى النبي r نفسه، وأنها أخبرته بدنو أجله، وهذا فهم دقيق ما يتوصل إليه إلاّ من أعمل فكره ونظر وتأمل في هذا الكتاب العظيم، وفي سياق الكلام وسباقه.
    وقد شرح الله تعالى دليل التنازع وبينه بما لا يحتاج إلى تفسيره أحد في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } (النساء : 59) .
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:" لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل.
    واعجبا لها ! كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين ونصوص حديث نبيه المرفوع أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب وخفى عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب؟.
    واعجبا! كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها ومقبولها ومردودها وراجحها ومرجوحها وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقى الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم واستولى كلامه على الأقصى من البيان.
    كلا بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها وحيرت العقول عن طرائق قصدها يربى فيها الصغير ويهرم فيها الكبير.
    وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون والنهاية التي تنافس فيها المنافسون وتزاحموا عليها وهيهات أين السّهى من شمس الضحى؟ وأين الثرى من كواكب الجوزاء؟ وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم من النقل المصدق عن القائل المعصوم وأين الأقوال التي أعلا درجاتها أن تكون سائغة الإتباع من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر؟ وأين المذاهب التي إذا مات أربها فهي من جملة الأموات من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسماوات؟.
    سبحان الله ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا.
    درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها وأفلت كواكبه النيرة من آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها.
    خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز وقالوا مالك عندنا من عبور وإن كان ولا بد فعلى سبيل الاجتياز.
    أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان له السكة والخطبة وماله حكم نافذ ولا سلطان المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول وأهل الكتاب والسنة المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} (البقرة:13).
    حرموا والله الوصول بعدولهم عن منهج الوحي وتضييعهم الأصول وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها فخانتهم أحرص ما كانوا عليها وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها حتى إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه وقدموا على ما قدموه {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ}(الزمر:47) وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه. فيا شدّة الحسرة عند ما يعاين المبطل سعيه وكده هباءا منثورا ويا عظم المصيبة عند ما يتبين بواراق أمانيه خلبا وآماله كاذبة غرورا فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر؟ وما عذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر؟ أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال أو بالإشارات والشطحات وأنواع الخيال؟.
    هيهات والله لقد ظن أكذب الظن ومنته نفسه أبين المحال وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره وتزود التقوى وائتم بالدليل وسلك الصراط المستقيم واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم(
    [1]) .
    قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى : المسألة الثانية في الكلام على الاجتهاد: اعلم أولا: أنا قدمنا بطلان قول الظاهرية بمنع الاجتهاد مطلقا وأن من الاجتهاد ما هو صحيح موافق للشرع الكريم وبسطنا أدلة ذلك بإيضاح في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78]. وبينا طرفا منه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
    وغرضنا في هذه المسألة هو أن نبين أن تدبر القرآن وانتفاع متدبره بالعمل بما علم منه الذي دل عليه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] لا يتوقف على تحصيل الاجتهاد المطلق بشروطه المعروفة عند متأخري الأصوليين.
    اعلم أولا: أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقا إلا للمجتهدين يقولون: إن شروط الاجتهاد هي كون المجتهد بالغا عاقلا شديد الفهم طبعا عارفا بالدليل العقلي الذي هو استصحاب العدم الأصلي حتى يرد نقل صارف عنه عارفا باللغة العربية، وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية.
    وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود والرسوم، وشرائط البرهان عارفا بالأصول، عارفا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة: ولا يشترط عندهم حفظ النصوص بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث.
    عارفا بمواقع الإجماع والخلاف عارفا بشروط المتواتر والآحاد والصحيح والضعيف عارفا بالناسخ والمنسوخ عارفا بأسباب النزول عارفا بأحوال الصحابة وأحوال رواة الحديث اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس اهـ.
    ولا يخفي أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة، ولا إجماعا دالا على ذلك وإنما مستندهم في ذلك هو تحقيق المناط في ظنهم.
    وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله r وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله r لا يشترط له إلا شرط واحد، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما.
    ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد.
    ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها هو تحقيق المناط.
    لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط، أي يبينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل فاشترطوا جميع الشروط المذكورة، ظنا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها وهذا الظن فيه نظر لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا يمتنع عليه ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به.
    وسؤال أهل العلم: هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلا وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد، بل هو من نوع الاتباع. وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية.
    والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسولهr وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة.
    وسنذكر طرفا منها لنبين أنه لا يجوز تخصيصها بتحصيل الشروط المذكورة قال الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أوليَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3]، والمراد بـ{مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال.
    وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61]. فدلت هذه الآية الكريمة أن من دعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك، أنه من جملة المنافقين، لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
    وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} [النساء:59]. والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول بعد وفاته r هو الرد إلى سنته. وتعليقه الإيمان في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله.
    وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:55] ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا، والسنة مبينة له، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أولئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أولو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18]، ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله r ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر} [الأحزاب:21]، والأسوة: الاقتداء, فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله r وذلك باتباع سنته.
    وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي r في كل ما اختلفوا فيه. وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
    والاستجابة له r بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته r وهي مبينة لكتاب الله.
    وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي r لا يتبع شيئا إلا الوحي, وأن من أطاعه r فقد أطاع الله.
    قال تعالى في سورة يونس: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس:15]. وقال تعالى في الأنعام: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]. وقال تعالى في الأحقاف: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَ لابِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} وقال تعالى في الأنبياء: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} [الأنبياء:45]، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي والآيات بمثل هذا كثيرة.
    وإذا علمت منها أن طريقه r هي اتباع الوحي فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه r فهو مطيع لله كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]. ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالا في الدنيا ولا شقيا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده.
    قال تعالى في طه: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123]، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي.
    ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه وذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] . ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي، المصرح به في القرآن، لا يتحقق فيمن يقلد عالما ليس بمعصوم، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ, في حال كونه معرضا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسولهr.
    ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده، كافية مغنية، عن كتاب الله وسنة رسولهr:. والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي والعمل به، لا تكاد تحصى وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله r، لا تكاد تحصى، لأن طاعة الرسول:r طاعة الله.
    وقد قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[آل عمران:132]. وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:32]. وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء:69].
    وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء:80]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} [النساء:59]. وقال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:13-14].وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]. وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1].
    وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]. وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] {ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفآئزون}. وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أوليَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71].
    ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسولهr.
    فمنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي، وتفهمه وتعلمه والعمل به, فتخصيص تلك النصوص كلها بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به: لا يصح شيء منه إلا لخصوص المجتهدين الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين، يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه, ولا دليل على ذلك البتة.
    بل أدلة الكتاب والسنة دالة على وجوب تدبر الوحي وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه، علما صحيحا قليلا كان أو كثيرا(
    [2]).
    قال: قال ابن عباسt التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله .(
    [3])
    لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعُذر أحد فى جهالته كما صرّح بذلك ابن عباس t فيما رواه عنه ابن جرير قال: "التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله"(
    [4]). قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى:" عجبت لناس يعرفون الإسناد و صحته و يذهبون لقول الثوري"!.
    وعن جابر t قال:r" أيها الناس قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله و عترتي أهل بيتي"(
    [5]). فمن آخذ بكتاب الله عصم من الهوى والردى وكذلك من تمسك بما كان عليه أهل بيت النبوة وآخذ بسنة النبي: r فقد قال:r "قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك و من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ و عليكم بالطاعة و إن عبدا حبشيا فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما انقيد انقاد"([6]).
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:" والصواب في هذه المسألة التفصيل فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بينة لكل من سمعه لا يحتمل غير المراد فله أن يعمل به ويفتي به ولا يطلب له التزكية من قول فقيه أو إمام بل الحجة قول رسول الله: r وإن خالفه من خالفه وإن كانت دلالته خفية لا يتبين له المراد منها لم يجز له أن يعمل ولا يفتى بما يتوهمه مرادا حتى يسأل ويطلب بيان الحديث ووجهه......"(
    [7]).
    قال العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى: في مقدمة كتابه البديع "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها" (ما نصه) :
    أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها: ومن المفيد أن نسوق هنا ما وقفنا عليه منها أو بعضها لعل فيها عظة وذكرى لمن يقلدهم بل يقلد من دونهم بدرجات تقليدا أعمى ويتمسك بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء والله عز وجل يقول:{ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ }.



    ([1]) (مدارج السالكين ج1_ص40/45) ط دار طيبة.
    ([2]) (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن).
    ([3]) ( تفسير الطبري (1/ 75) وانظر تفسير ابن كثير).
    ([4]) (انظر التفسير والمفسرون المؤلف : الدكتور محمد حسين الذهبى).
    ([5]) (رواه الترمذي وصححه الألباني وانظر صحيح الجامع"2748" )
    ([6]) (رواه ابن ماجة "43" وصححه الألباني وانظر صحيح الجامع"4370 ")
    ([7]) (انظر لزاماً إعلام الموقعين عن رب العالمين ج5_ص 163 ط شيخ مشهور).

  11. #11

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    تتمة الاصل السادس :
    1- أبو حنيفة رحمه الله:
    فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها :
    1 - ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ).( ابن عابدين في" الحاشية" 1 / 63 )
    2 - ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه).(ابن عابدين في" حاشيته على البحر الرائق" 6 / 293 ) وفي رواية :(حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ) زاد في رواية : ( فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا ) وفي أخرى : ( ويحك يا يعقوب_ هو أبو يوسف _ لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد )
    3 - ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي) (الفلاني في الإيقاظ ص 50 ) .
    2- مالك بن أنس رحمه الله:
    وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال :
    1 - ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ).( ابن عبد البر في الجامع 2 / 32 ) .
    2 - (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم) ( ابن عبد البر في الجامع 2 / 91 ) .
    3 - قال ابن وهب : سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال : ليس ذلك على الناس قال : فتركته حتى خف الناس فقلت له : عندنا في ذلك سنة فقال : وما هي قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه . فقال : إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع. ( مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص 31 - 32 ) .

    3 - الشافعي رحمه الله:
    وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها :
    1 - ( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي ) . ( تاريخ دمشق لابن عساكر 15 / 1 / 3 ) .
    2 - ( أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد ) . ( الفلاني ص 68 ) .
    3 - ( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت ) وفي رواية ( فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد )( النووي في المجموع 1 / 63 )
    4 - ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) . ( النووي 1 / 63 ) .
    5 - ( أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون : كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا ) . ( الخطيب في الاحتجاج بالشافعي 8 / 1 ) .
    6 - ( كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي ) . ( أبو نعيم في الحلية 9 / 107 ) .
    7 - (إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب) ( ابن عساكر بسند صحيح 15 / 10 / 1 ) .
    8 - ( كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني ) ( ابن عساكر بسند صحيح 15 / 9 / 2 ).
    9 - ( كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني ).(ابن أبي حاتم 93 94).

    4 - أحمد بن حنبل رحمه الله
    وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكا بها حتى ( كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي ) ولذلك قال :
    1 - ( لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا ) .
    ( ابن القيم في إعلام الموقعين 2 / 302 ) وفي رواية : ( لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير ) وقال مرة :( الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير ) ( أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 276 - 277 )
    2 - ( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار ) .
    ( ابن عبد البر في الجامع 2 / 149 ) .
    3 - ( من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة ) (ابن الجوزي في المناقب).( ص 182 ) .

    تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . وقال {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
    قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى :" فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول r وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله r أحق أن يعظم ويقتدى به من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابةy ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم.
    لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول:r وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع.
    ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر rبخلافه".أ_ه
    قال:ابن القيم في نونيته الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ذاماً التقليد وأهله:
    إذ أجمع العلماء أن مقلدا ... للناس والأعمى هما أخوان
    والعلم معرفة الهدى بدليله ... ما ذاك والتقليد مستويان
    حرنا بكم والله لا أنتم مع ... العلمــاء تنقادون للبرهان
    كلا ولا متعلمون فمن ترى ... تدعون نحسبكم من الثيران
    لكنها والله أنفع منكم ... للأرض في حرث وفي دوران
    نالت بهم خيرا ونالت منكم ... المعهــود من بغي ومن عدوان
    فمن الذي خير وأنفع للورى... أنتم أم الثيران بالبرهان.
    والشبهة: هي أن الشيطان أوحى إليهم أن القران والسنة لا يعرفهم ولا يفهمهم إلا المجتهد المطلق ووصفوا القرآن والسنة بالصعوبة الشديدة بحيث زعموا بأنه لا يمكن أن يفهم القرآن إلا المجتهد المطلق الذي يحفظ الناسخ والمنسوخ والعام والمطلق والعام والخاص والمقيد والمطلق ويعرف من فروع اللغة العربية كذا وكذا ويعرف من أصول الفقه كذا وكذا عددوا صفاتٍ كما قال:المؤلف لم توجد في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. إذن ما هي الفائدة من القرآن؟ يتبرك به!. إذا مات الميت يقرأ على الميت في شهر رمضان يقرأ في البيوت تبركاً يوضع في قطعة قماش خضراء على الرف نزل للبركة لا لفهمه والعمل به لان القرآن يتبرك بتلاوته ، وكتب السنة يتبرك بتلاوتها وكفى هذا هو الإسلام كله بعد ذلك يصلي أو لا يصلي على حد سواء لأن الإيمان هاهُنا الإيمان في القلب ليس بلازم الصلاة! وهذه عادة الشيطان دائماً فإنه لا يأتي للإنسان بالشر المحض ولكنه يأتي إليه بأمر فيه خير وشر فينفذ من خلاله فيضع السم في العسل.
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:"ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين : أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشكاة القرآن وأحالهم على منطق يونان وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان وقال لهم : تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان ومرت عليها القرون والأزمان فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان كإخراج الشعرة من العجين!"(
    [1]).
    شبهة أبعدوا بها كثيراً من المسلمين عن كتاب الله وسنة رسولهr.
    والشبهة لغة:الالتباس والاختلاط وسميت شبهة لأنها تشبه الحق من وجه وتفارقه من وجه آخر وهي: عارض يعرض للقلب يمنعه من تصور الأمور على حقيقتها، فيحصل بها اشتباه والتباس، فلا يميز الذي اشتبه عليه الأمر بين الحق والباطل.
    وهذه الشبهة قائمة عند أصحابها على مقدمتين:
    المقدمة الأولى:دعوة بعض المنتسبين للعلم بأنه لا يعرف القران والسنة إلا من كان مجتهداً.
    المقدمة الثانية : قولهم أن هذا المجتهد له أوصاف ولعل هذه الأوصاف لا توجد إلا في أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قال: بعضهم أما الاجتهاد قد أغلق فمنعوا الاجتهاد بهذه الشروط العسيرة وكان من شروط الاجتهاد عندهم أن يكون هذا المجتهد على علم بعلم الكلام وهذا الشروط باطل.
    وضد الاجتهاد التقليد والتقليد: لغة: وضع الشيء في العنق محيطاً به كالقلادة.
    واصطلاحاً: إتباع من ليس قوله حجة.
    فخرج بقولنا: "من ليس قوله حجة" أتباع النبي r وأتباع أهل الإجماع. وأتباع الصحابي(
    [2]). إذا قلنا أن قوله حجة، فلا يسمى أتباع شيء من ذلك تقليداً؛ لأنه أتباع للحجة، لكن قد يسمى تقليداً على وجه المجاز والتوسع([3]) .
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى:"ولكن التقليد يعمي عن إدراك الحقائق فإياك والإخلاد(
    [4]) إلى أرضه"([5]).
    والاجتهاد: لغة: بذل الجهد لإدراك أمر شاق.
    واصطلاحاً: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي.
    والمجتهد: من بذل جهده لذلك والحق أن المجتهد المطلق هو الذي يستنبط الأحكام الشرعية من النصوص المباشرة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والثوري وغيرهم كثير ولا يستبعد أن يوجد في المسلمين من يكون بهذه المرتبة وقد ذكر الصنعانى وقبله الوزير أن المجتهد له شروط منها :
    1- أن يفهم اللغة العربية فهماً واسعاً.
    2- لابد له من معرفة أصول الفقه حتى يستطيع التعامل مع نصوص الكتاب والسنة.
    3- أن يعرف من علم البيان و علم المعاني ,ما يستطيع به أن يتعامل مع, الألفاظ و أن ,كان الصحيح أن هذا الشرط ليس شرط.
    4- معرفة آيات الأحكام ومعرفة أحاديث الأحكام مع معرفة صحيحها من ضعيفها فان وجدت هذه الآلات في رجل قد وهبه الله قوة البصر و النظر فهو المجتهد.
    5_أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
    6_أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها.
    قال الذهبي:"من قرأ المغنى لابن قدامة و المحلا لابن حزم و السنن الكبرى للبيهقى والتمهيد لابن عبد البر و كان عنده شىء من الذكاء فقد أدرك العلم".
    قوله:(والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر..............)
    وحقيقة أنها لا توجد في أبي بكر و عمر رضي الله عنهما لأنهم يشترطون أن يكون المجتهد محيطاً بسنة رسول الله r لا يغيب عنه منها شيء، وهذا ليس في أبي بكر ولا في عمر فإن أبا بكر رضي الله, عنه رجع إلى الصحابة y يسألهم عن سنة رسول الله ًr وعمر رجع إلى الصحابة يستشيرهم ويسألهم هل عندهم عن رسول الله: rخبر فهذه الشروط المطولة التي لا تنطبق على أحدٍ, من الناس فضلاً عن العلماء في متأخري, الزمان كانت, حائلاً, بين, كثيرٍ من, أهل العلم وبين ,أن يستفيدوا من, الكتاب, والسنة، فمنعت الناس من الاجتهاد، وقَصَرَتهم على تقليد المتقدمين, في أقوالهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستفيدوا من الكتاب والسنة وهذا غلطٌ كبير وهو الذي سبب إغلاق باب الاجتهاد في بعض العصور، وأصبح المجتهد كما قال المؤلف رحمه الله:(إما زنديقاً أو مجنوناً)!.
    والشيخ هنا ذكر لفظة مجنون و زنديق لأنها من الكلمات التي كانت توجه إليه و يتهم بها هو و كل من كان من أهل السنة والجماعة في أهل زمانه وهكذا حال أهل الباطل في كل زمان ومكان يلقبون, أهل السنة بألقاب السوء.! ولا شك أن الاجتهاد بابه مفتوح ولكن ليس الاجتهاد أن يُعْمِلَ الإنسان الضعيف البضاعة رأيه في نصوص الكتاب والسنة, فيأتي بما لم يأتِ به الأولون(
    [6]).
    بل لابد أن يكون عنده حد كافٍ من أوصاف المجتهد من العلم باللغة والمعرفة بالكتاب وبالسنة، والمعرفة بقواعد الشريعة التي تمكنه من التوصل إلى الحكم، وأما هذه الشروط المطولة التي يذكرها علماء الأصول فهي نظرية فقط، ولو طبقتها على من اشترطها لم تجدها فيه؛ فإنه لا يصح ولا يسوغ.
    وعلى طالب العلم إن أرد أن يرجح بين الأقوال فلابد أن يكون جديرا بهذه الدرجة وله إطلاع بأقوال أهل العلم ومن استطاع أن يعرف الحق بنفسه فالتقليد ممنوع في حقه كما قال شيخ الإسلام :" إن التقليد بمنزلة أكل الميتة فإذا استطاع أن يستخرج الدليل بنفسه فلا يحل له التقليد".
    وقال:"وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة كالذين ذكر الله عنهم أنهم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}(
    [7]).
    وقوله:(فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضاً حتماً لا شك ولا إشكال فيه ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق ، وإما مجنون لأجل صعوبة فهمهما....................)
    وهذا خلاف ما أمر الله به في كتابه،فأن الله أمر في كثير من كتابه بتدبر آياته والعمل بها والانقياد ولا يقال أن النصوص التي خاطبت المؤمنيين بالتدبر خاصة بالمجتهدين.
    فأن هذا مما لا دليل عليه البتة قال: الله تعالى مخاطباً عباده جميعاً:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا }[النساء:82] . وقال سبحانه:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] وقال جل وعلا:{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }[ص:29]. وقال تعالى:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد:4]. وكثير من نصوص الوحي تبطل هذه الدعوة العارية عن البرهان الداعية للتقليد والجمود وكل عاقل يرى أن التقليد المحض إلى أين أوصل الرافضة,والصوفي .
    ثم ذكر الشيخ بعد ذلك آيات يستدل بها على من اختار لنفسه أن يكون ممن حق عليهم القول بأنهم لا يتبعون القرآن بحجة شيطانية وضعها لهم إبليس وقد تقدمت ويقدمون الآراء ولأهواء زعماً منهم أنهم بذلك معظمون للقرآن والسنة وهم في الحقيقة مضيعون لهما مفرطون في حقهما من التقديم والعمل والأتساء.
    ومن أختار لنفسه تعظيم الكتاب والسنة وقدمهما على كل قول مهما كان قائله فشبه الأول بمن وضعت في عنقه الأغلال وختم على قلبه ووضع على سمعه غشاوة وهذا الحال يشبه من اتخذ التقليد له مطية يركبها.
    وشبه الثاني بأنه ينتفع بالكتاب والنذارة وأنه خشي الرحمن بالغيب فكان جزاءه أن بشره بمغفرة للذنوب وأجر كريم للصالحات.
    ولذلك قال رحمه الله تعالى: { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُ مْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}.
    قال: العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى قوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُ مْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
    الأغلال: جمع غلّ وهو الذي يجمع الأيدي إلى الأعناق. والأذقان: جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين. والمقمح بصيغة اسم المفعول وهو الرافع رأسه. والسدّ بالفتح والضمّ: هو الحاجز الذي يسدّ طريق الوصول إلى ما وراءه.
    وقوله:{فَأَغْشَيْنَاهُ مْ} أي: جعلنا على أبصارهم الغشاوة وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}.
    وقول وهو الحارث بن خالد بن العاص:
    هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلمّا انجلت قطّعت نفسي ألومها.
    والمراد بالآية الكريمة: أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم اللَّه المذكورين في قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، صرفهم اللَّه عن الإيمان صرفًا عظيمًا مانعًا من وصوله إليهم؛ لأن من جعل في عنقه غلّ، وصار الغلّ إلى ذقنه، حتى صار رأسه مرفوعًا لا يقدر أن يطأطئه وجعل أمامه سدّ، وخلفه سدّ وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرّف، ولا في جلب نفع لنفسه، ولا في دفع ضرّ عنها، فالذين أشقاهم اللَّه بهذه المثابة لا يصل إليهم خير.
    وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جلَّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}.
    وقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. وقوله تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ}.
    وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
    وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} والآيات بمثل ذلك كثيرة.
    وقد قدّمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب،وكذلك الأغلال في الأعناق، والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم،أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان، ووصول الخير إلى القلوب أن اللَّه إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل والتمادي على الكفر، فعاقبهم اللَّه على ذلك، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها، والغشاوة على الأبصار؛ لأن من شؤم السيئات أن اللَّه جلَّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه اللَّه بذلك على كفره جزاء وفّاقًا. والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.
    فالباء: سببيّة وفي الآية تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم وكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل، أي: فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.
    وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدّم إيضاحه. وقد دلَّت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيّئات، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك أن فعل الخير يؤدّي إلى التمادي في فعل الخير، وهو كذلك؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، إلى غير ذلك من الآيات.
    وقال العلامة السعدي رحمه الله تعالى:{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي: نفذ فيهم القضاء والمشيئة أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم، فقال:{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا }.
    وهي: جمع غل و الغل: ما يغل به العنق فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل وهذه الأغلال التي في الأعناق عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم إلى فوق { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } أي: رافعو رءوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم، فلا يستطيعون أن يخفضوها.
    { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } أي: حاجزا يحجزهم عن الإيمان، { فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم، فلم تفد فيهم النذارة.{ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وكيف يؤمن من طبع على قلبه، ورأى الحق باطلا والباطل حقا؟!.
    والقسم الثاني: الذين قبلوا النذارة، وقد ذكرهم بقوله: { إِنَّمَا تُنْذِرُ} أي: إنما تنفع نذارتك، ويتعظ بنصحك{ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي: من قصده اتباع الحق وما ذكر به { وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ }.
    أي: من اتصف بهذين الأمرين، القصد الحسن في طلب الحق وخشية اللّه تعالى فهم الذين ينتفعون برسالتك ويزكون بتعليمك، وهذا الذي وفق لهذين الأمرين { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } لذنوبه { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } لأعماله الصالحة، ونيته الحسنة.
    قوله رحمه الله : (فسبحان الله وبحمده..................)
    فيه تنزيه الله تعالى عن أفعال المجرمين الذين حرفوا الدين وهنا الشيخ رحمه الله بدأ أصوله هذه بالتوحيد وختمها بالتنزيه ونظير هذا كثير في القرآن الكريم فانظر مثلاً سورة الكهف افتتحت بالحمد وختمت بالتوحيد والحمد والتنزيه من آثار التوحيد على قلب العبد.
    وختم المؤلف بالآيات وأراد أن يشير فيها لأمر حق وهو أن الداعي إلى السنة مهما اجتهد في الدعوى فإن توفيق المدعوين هو من عند الله.

    ملاحظة: أصل هذا الجمع هي دروس تذاكرت بها مع مجموعة من الأخوة في أحد المساجد نسأل الله أن ينفعنا وإياهم بها أنه ولي ذلك والقادر عليه.
    يا ربي أعضاء السجود أعتقتها.............م فضلك الوافي وأنت الباقي
    والعتق يسري في الغني يا ذا الغنى.............فام ن على الفاني بعتق الباقي.
    سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
    تمت


    ([1]) (إغاثة اللهفان ج1_ص228)
    ([2]) (على القول بأن قوله حجة وفي المسألة خلاف معروف).
    ([3]) (الأصول من علم الأصول للعلامة ابن عثيمين).
    ([4]) (الإخلاد: الميل والاتجاه).
    ([5]) (بدائع الفوائد ج1_ص25_ط دار النفائس).
    ([6]) قال: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى " إياك أن تتكلم في مسالة ليس لك فيها إمام".
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فانه يكون خطأ" وقال: الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم "فليحذر طالب العلم أن يتكلّم في مسألة لم يُسبق إليها إلا أن تكون من الكلام على البدع والمُحدَثات التي تجد بعد الرجوع إلى قواعد الشريعة.
    (إتحاف الكرام بشرح عمدة الأحكام المقدمة).
    ([7]) (الرد على النصارى واليهود).

  12. #12

    افتراضي رد: شرح الأصو ل الستة للإمام محمد عبد الوهاب

    الشرح كاملاً بصيغة ( بي دي أف)
    http://sub5.rofof.com/011lbawu7/Dow.html

    __________________

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •