تتمة الاصل السادس :
1- أبو حنيفة رحمه الله:
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله وقد روي عنه أصحابه أقوالا شتى وعبارات متنوعة كلها تؤدي إلى شيء واحد وهو وجوب الأخذ بالحديث وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة لها :
1 - ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ).( ابن عابدين في" الحاشية" 1 / 63 )
2 - ( لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه).(ابن عابدين في" حاشيته على البحر الرائق" 6 / 293 ) وفي رواية :(حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي ) زاد في رواية : ( فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا ) وفي أخرى : ( ويحك يا يعقوب_ هو أبو يوسف _ لا تكتب كل ما تسمع مني فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غدا وأرى الرأي غدا وأتركه بعد غد )
3 - ( إذا قلت قولا يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي) (الفلاني في الإيقاظ ص 50 ) .
2- مالك بن أنس رحمه الله:
وأما الإمام مالك بن أنس رحمه الله فقال :
1 - ( إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه ).( ابن عبد البر في الجامع 2 / 32 ) .
2 - (ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وسلم) ( ابن عبد البر في الجامع 2 / 91 ) .
3 - قال ابن وهب : سمعت مالكا سئل عن تخليل أصابع الرجلين في الوضوء فقال : ليس ذلك على الناس قال : فتركته حتى خف الناس فقلت له : عندنا في ذلك سنة فقال : وما هي قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحنبلي عن المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلك بخنصره ما بين أصابع رجليه . فقال : إن هذا الحديث حسن وما سمعت به قط إلا الساعة ثم سمعته بعد ذلك يسأل فيأمر بتخليل الأصابع. ( مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ص 31 - 32 ) .
3 - الشافعي رحمه الله:
وأما الإمام الشافعي رحمه الله فالنقول عنه في ذلك أكثر وأطيب وأتباعه أكثر عملا بها وأسعد فمنها :
1 - ( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قولي ) . ( تاريخ دمشق لابن عساكر 15 / 1 / 3 ) .
2 - ( أجمع المسلمون على أن من استبان له سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحل له أن يدعها لقول أحد ) . ( الفلاني ص 68 ) .
3 - ( إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت ) وفي رواية ( فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد )( النووي في المجموع 1 / 63 )
4 - ( إذا صح الحديث فهو مذهبي ) . ( النووي 1 / 63 ) .
5 - ( أنتم أعلم بالحديث والرجال مني فإذا كان الحديث الصحيح فأعلموني به أي شيء يكون : كوفيا أو بصريا أو شاميا حتى أذهب إليه إذا كان صحيحا ) . ( الخطيب في الاحتجاج بالشافعي 8 / 1 ) .
6 - ( كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي ) . ( أبو نعيم في الحلية 9 / 107 ) .
7 - (إذا رأيتموني أقول قولا وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فاعلموا أن عقلي قد ذهب) ( ابن عساكر بسند صحيح 15 / 10 / 1 ) .
8 - ( كل ما قلت فكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني ) ( ابن عساكر بسند صحيح 15 / 9 / 2 ).
9 - ( كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه مني ).(ابن أبي حاتم 93 94).
4 - أحمد بن حنبل رحمه الله
وأما الإمام أحمد فهو أكثر الأئمة جمعا للسنة وتمسكا بها حتى ( كان يكره وضع الكتب التي تشتمل على التفريع والرأي ) ولذلك قال :
1 - ( لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا ) .
( ابن القيم في إعلام الموقعين 2 / 302 ) وفي رواية : ( لا تقلد دينك أحدا من هؤلاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ثم التابعين بعد الرجل فيه مخير ) وقال مرة :( الإتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ثم هو من بعد التابعين مخير ) ( أبو داود في مسائل الإمام أحمد ص 276 - 277 )
2 - ( رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء وإنما الحجة في الآثار ) .
( ابن عبد البر في الجامع 2 / 149 ) .
3 - ( من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة ) (ابن الجوزي في المناقب).( ص 182 ) .
تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر بالتمسك بالحديث والنهي عن تقليدهم دون بصيرة وهي من الوضوح والبيان بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا وعليه فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض أقوال الأئمة لا يكون مباينا لمذهبهم ولا خارجا عن طريقتهم بل هو متبع لهم جميعا ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وليس كذلك من ترك السنة الثابتة لمجرد مخالتفها لقولهم بل هو بذلك عاص لهم ومخالف لأقوالهم المتقدمة والله تعالى يقول : {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} . وقال {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى :" فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول r وعرفه أن يبينه للأمة وينصح لهم ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة فإن أمر رسول الله r أحق أن يعظم ويقتدى به من رأى أي معظم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ومن هنا رد الصحابةy ومن بعدهم على كل مخالف سنة صحيحة وربما أغلظوا في الرد لا بغضا له بل هو محبوب عندهم معظم في نفوسهم.
لكن رسول الله أحب إليهم وأمره فوق أمر كل مخلوق فإذا تعارض أمر الرسول:r وأمر غيره فأمر الرسول أولى أن يقدم ويتبع.
ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفورا له بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر rبخلافه".أ_ه
قال:ابن القيم في نونيته الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ذاماً التقليد وأهله:إذ أجمع العلماء أن مقلدا ... للناس والأعمى هما أخوان
والعلم معرفة الهدى بدليله ... ما ذاك والتقليد مستويان
حرنا بكم والله لا أنتم مع ... العلمــاء تنقادون للبرهان
كلا ولا متعلمون فمن ترى ... تدعون نحسبكم من الثيران
لكنها والله أنفع منكم ... للأرض في حرث وفي دوران
نالت بهم خيرا ونالت منكم ... المعهــود من بغي ومن عدوان
فمن الذي خير وأنفع للورى... أنتم أم الثيران بالبرهان.
والشبهة: هي أن الشيطان أوحى إليهم أن القران والسنة لا يعرفهم ولا يفهمهم إلا المجتهد المطلق ووصفوا القرآن والسنة بالصعوبة الشديدة بحيث زعموا بأنه لا يمكن أن يفهم القرآن إلا المجتهد المطلق الذي يحفظ الناسخ والمنسوخ والعام والمطلق والعام والخاص والمقيد والمطلق ويعرف من فروع اللغة العربية كذا وكذا ويعرف من أصول الفقه كذا وكذا عددوا صفاتٍ كما قال:المؤلف لم توجد في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. إذن ما هي الفائدة من القرآن؟ يتبرك به!. إذا مات الميت يقرأ على الميت في شهر رمضان يقرأ في البيوت تبركاً يوضع في قطعة قماش خضراء على الرف نزل للبركة لا لفهمه والعمل به لان القرآن يتبرك بتلاوته ، وكتب السنة يتبرك بتلاوتها وكفى هذا هو الإسلام كله بعد ذلك يصلي أو لا يصلي على حد سواء لأن الإيمان هاهُنا الإيمان في القلب ليس بلازم الصلاة! وهذه عادة الشيطان دائماً فإنه لا يأتي للإنسان بالشر المحض ولكنه يأتي إليه بأمر فيه خير وشر فينفذ من خلاله فيضع السم في العسل.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى:"ومن كيده بهم وتحيله على إخراجهم من العلم والدين : أن ألقى على ألسنتهم أن كلام الله ورسوله ظواهر لفظية لا تفيد اليقين وأوحى إليهم أن القواطع العقلية والبراهين اليقينية في المناهج الفلسفية والطرق الكلامية فحال بينهم وبين اقتباس الهدى واليقين من مشكاة القرآن وأحالهم على منطق يونان وعلى ما عندهم من الدعاوى الكاذبة العرية عن البرهان وقال لهم : تلك علوم قديمة صقلتها العقول والأذهان ومرت عليها القرون والأزمان فانظر كيف تلطف بكيده ومكره حتى أخرجهم من الإيمان كإخراج الشعرة من العجين!"([1]).
شبهة أبعدوا بها كثيراً من المسلمين عن كتاب الله وسنة رسولهr.
والشبهة لغة:الالتباس والاختلاط وسميت شبهة لأنها تشبه الحق من وجه وتفارقه من وجه آخر وهي: عارض يعرض للقلب يمنعه من تصور الأمور على حقيقتها، فيحصل بها اشتباه والتباس، فلا يميز الذي اشتبه عليه الأمر بين الحق والباطل.
وهذه الشبهة قائمة عند أصحابها على مقدمتين:
المقدمة الأولى:دعوة بعض المنتسبين للعلم بأنه لا يعرف القران والسنة إلا من كان مجتهداً.
المقدمة الثانية : قولهم أن هذا المجتهد له أوصاف ولعل هذه الأوصاف لا توجد إلا في أبى بكر وعمر رضي الله عنهما حتى قال: بعضهم أما الاجتهاد قد أغلق فمنعوا الاجتهاد بهذه الشروط العسيرة وكان من شروط الاجتهاد عندهم أن يكون هذا المجتهد على علم بعلم الكلام وهذا الشروط باطل.
وضد الاجتهاد التقليد والتقليد: لغة: وضع الشيء في العنق محيطاً به كالقلادة.
واصطلاحاً: إتباع من ليس قوله حجة.
فخرج بقولنا: "من ليس قوله حجة" أتباع النبي r وأتباع أهل الإجماع. وأتباع الصحابي([2]). إذا قلنا أن قوله حجة، فلا يسمى أتباع شيء من ذلك تقليداً؛ لأنه أتباع للحجة، لكن قد يسمى تقليداً على وجه المجاز والتوسع([3]) .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:"ولكن التقليد يعمي عن إدراك الحقائق فإياك والإخلاد([4]) إلى أرضه"([5]).
والاجتهاد: لغة: بذل الجهد لإدراك أمر شاق.
واصطلاحاً: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي.
والمجتهد: من بذل جهده لذلك والحق أن المجتهد المطلق هو الذي يستنبط الأحكام الشرعية من النصوص المباشرة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل والثوري وغيرهم كثير ولا يستبعد أن يوجد في المسلمين من يكون بهذه المرتبة وقد ذكر الصنعانى وقبله الوزير أن المجتهد له شروط منها :
1- أن يفهم اللغة العربية فهماً واسعاً.
2- لابد له من معرفة أصول الفقه حتى يستطيع التعامل مع نصوص الكتاب والسنة.
3- أن يعرف من علم البيان و علم المعاني ,ما يستطيع به أن يتعامل مع, الألفاظ و أن ,كان الصحيح أن هذا الشرط ليس شرط.
4- معرفة آيات الأحكام ومعرفة أحاديث الأحكام مع معرفة صحيحها من ضعيفها فان وجدت هذه الآلات في رجل قد وهبه الله قوة البصر و النظر فهو المجتهد.
5_أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
6_أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها.
قال الذهبي:"من قرأ المغنى لابن قدامة و المحلا لابن حزم و السنن الكبرى للبيهقى والتمهيد لابن عبد البر و كان عنده شىء من الذكاء فقد أدرك العلم".
قوله:(والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر..............)
وحقيقة أنها لا توجد في أبي بكر و عمر رضي الله عنهما لأنهم يشترطون أن يكون المجتهد محيطاً بسنة رسول الله r لا يغيب عنه منها شيء، وهذا ليس في أبي بكر ولا في عمر فإن أبا بكر رضي الله, عنه رجع إلى الصحابة y يسألهم عن سنة رسول الله ًr وعمر رجع إلى الصحابة يستشيرهم ويسألهم هل عندهم عن رسول الله: rخبر فهذه الشروط المطولة التي لا تنطبق على أحدٍ, من الناس فضلاً عن العلماء في متأخري, الزمان كانت, حائلاً, بين, كثيرٍ من, أهل العلم وبين ,أن يستفيدوا من, الكتاب, والسنة، فمنعت الناس من الاجتهاد، وقَصَرَتهم على تقليد المتقدمين, في أقوالهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستفيدوا من الكتاب والسنة وهذا غلطٌ كبير وهو الذي سبب إغلاق باب الاجتهاد في بعض العصور، وأصبح المجتهد كما قال المؤلف رحمه الله:(إما زنديقاً أو مجنوناً)!.
والشيخ هنا ذكر لفظة مجنون و زنديق لأنها من الكلمات التي كانت توجه إليه و يتهم بها هو و كل من كان من أهل السنة والجماعة في أهل زمانه وهكذا حال أهل الباطل في كل زمان ومكان يلقبون, أهل السنة بألقاب السوء.! ولا شك أن الاجتهاد بابه مفتوح ولكن ليس الاجتهاد أن يُعْمِلَ الإنسان الضعيف البضاعة رأيه في نصوص الكتاب والسنة, فيأتي بما لم يأتِ به الأولون([6]).
بل لابد أن يكون عنده حد كافٍ من أوصاف المجتهد من العلم باللغة والمعرفة بالكتاب وبالسنة، والمعرفة بقواعد الشريعة التي تمكنه من التوصل إلى الحكم، وأما هذه الشروط المطولة التي يذكرها علماء الأصول فهي نظرية فقط، ولو طبقتها على من اشترطها لم تجدها فيه؛ فإنه لا يصح ولا يسوغ.
وعلى طالب العلم إن أرد أن يرجح بين الأقوال فلابد أن يكون جديرا بهذه الدرجة وله إطلاع بأقوال أهل العلم ومن استطاع أن يعرف الحق بنفسه فالتقليد ممنوع في حقه كما قال شيخ الإسلام :" إن التقليد بمنزلة أكل الميتة فإذا استطاع أن يستخرج الدليل بنفسه فلا يحل له التقليد".
وقال:"وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة كالذين ذكر الله عنهم أنهم:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}([7]).
وقوله:(فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضاً حتماً لا شك ولا إشكال فيه ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق ، وإما مجنون لأجل صعوبة فهمهما....................)
وهذا خلاف ما أمر الله به في كتابه،فأن الله أمر في كثير من كتابه بتدبر آياته والعمل بها والانقياد ولا يقال أن النصوص التي خاطبت المؤمنيين بالتدبر خاصة بالمجتهدين.
فأن هذا مما لا دليل عليه البتة قال: الله تعالى مخاطباً عباده جميعاً:{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا }[النساء:82] . وقال سبحانه:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}[محمد:24] وقال جل وعلا:{ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ }[ص:29]. وقال تعالى:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [الرعد:4]. وكثير من نصوص الوحي تبطل هذه الدعوة العارية عن البرهان الداعية للتقليد والجمود وكل عاقل يرى أن التقليد المحض إلى أين أوصل الرافضة,والصوفي .
ثم ذكر الشيخ بعد ذلك آيات يستدل بها على من اختار لنفسه أن يكون ممن حق عليهم القول بأنهم لا يتبعون القرآن بحجة شيطانية وضعها لهم إبليس وقد تقدمت ويقدمون الآراء ولأهواء زعماً منهم أنهم بذلك معظمون للقرآن والسنة وهم في الحقيقة مضيعون لهما مفرطون في حقهما من التقديم والعمل والأتساء.
ومن أختار لنفسه تعظيم الكتاب والسنة وقدمهما على كل قول مهما كان قائله فشبه الأول بمن وضعت في عنقه الأغلال وختم على قلبه ووضع على سمعه غشاوة وهذا الحال يشبه من اتخذ التقليد له مطية يركبها.
وشبه الثاني بأنه ينتفع بالكتاب والنذارة وأنه خشي الرحمن بالغيب فكان جزاءه أن بشره بمغفرة للذنوب وأجر كريم للصالحات.
ولذلك قال رحمه الله تعالى: { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُ مْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}.
قال: العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى قوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُ مْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
الأغلال: جمع غلّ وهو الذي يجمع الأيدي إلى الأعناق. والأذقان: جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين. والمقمح بصيغة اسم المفعول وهو الرافع رأسه. والسدّ بالفتح والضمّ: هو الحاجز الذي يسدّ طريق الوصول إلى ما وراءه.
وقوله:{فَأَغْشَيْنَاهُ مْ} أي: جعلنا على أبصارهم الغشاوة وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار، ومنه قوله تعالى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}، وقوله تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}.
وقول وهو الحارث بن خالد بن العاص:
هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلمّا انجلت قطّعت نفسي ألومها.
والمراد بالآية الكريمة: أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم اللَّه المذكورين في قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}، صرفهم اللَّه عن الإيمان صرفًا عظيمًا مانعًا من وصوله إليهم؛ لأن من جعل في عنقه غلّ، وصار الغلّ إلى ذقنه، حتى صار رأسه مرفوعًا لا يقدر أن يطأطئه وجعل أمامه سدّ، وخلفه سدّ وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرّف، ولا في جلب نفع لنفسه، ولا في دفع ضرّ عنها، فالذين أشقاهم اللَّه بهذه المثابة لا يصل إليهم خير.
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جلَّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه، جاء موضحًا في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}.
وقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}. وقوله تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ}.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} وقوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقد قدّمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب،وكذلك الأغلال في الأعناق، والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم،أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان، ووصول الخير إلى القلوب أن اللَّه إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل والتمادي على الكفر، فعاقبهم اللَّه على ذلك، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها، والغشاوة على الأبصار؛ لأن من شؤم السيئات أن اللَّه جلَّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه اللَّه بذلك على كفره جزاء وفّاقًا. والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة؛ كقوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ}.
فالباء: سببيّة وفي الآية تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم وكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل، أي: فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك، وقوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}.
وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} إلى غير ذلك من الآيات، كما تقدّم إيضاحه. وقد دلَّت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيّئات، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك أن فعل الخير يؤدّي إلى التمادي في فعل الخير، وهو كذلك؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا}، وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، إلى غير ذلك من الآيات.
وقال العلامة السعدي رحمه الله تعالى:{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي: نفذ فيهم القضاء والمشيئة أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم، فقال:{ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا }.
وهي: جمع غل و الغل: ما يغل به العنق فهو للعنق بمنزلة القيد للرجل وهذه الأغلال التي في الأعناق عظيمة قد وصلت إلى أذقانهم ورفعت رءوسهم إلى فوق { فَهُمْ مُقْمَحُونَ } أي: رافعو رءوسهم من شدة الغل الذي في أعناقهم، فلا يستطيعون أن يخفضوها.
{ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } أي: حاجزا يحجزهم عن الإيمان، { فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } قد غمرهم الجهل والشقاء من جميع جوانبهم، فلم تفد فيهم النذارة.{ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُم ْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وكيف يؤمن من طبع على قلبه، ورأى الحق باطلا والباطل حقا؟!.
والقسم الثاني: الذين قبلوا النذارة، وقد ذكرهم بقوله: { إِنَّمَا تُنْذِرُ} أي: إنما تنفع نذارتك، ويتعظ بنصحك{ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي: من قصده اتباع الحق وما ذكر به { وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ }.
أي: من اتصف بهذين الأمرين، القصد الحسن في طلب الحق وخشية اللّه تعالى فهم الذين ينتفعون برسالتك ويزكون بتعليمك، وهذا الذي وفق لهذين الأمرين { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } لذنوبه { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } لأعماله الصالحة، ونيته الحسنة.
قوله رحمه الله : (فسبحان الله وبحمده..................)
فيه تنزيه الله تعالى عن أفعال المجرمين الذين حرفوا الدين وهنا الشيخ رحمه الله بدأ أصوله هذه بالتوحيد وختمها بالتنزيه ونظير هذا كثير في القرآن الكريم فانظر مثلاً سورة الكهف افتتحت بالحمد وختمت بالتوحيد والحمد والتنزيه من آثار التوحيد على قلب العبد.
وختم المؤلف بالآيات وأراد أن يشير فيها لأمر حق وهو أن الداعي إلى السنة مهما اجتهد في الدعوى فإن توفيق المدعوين هو من عند الله.
ملاحظة: أصل هذا الجمع هي دروس تذاكرت بها مع مجموعة من الأخوة في أحد المساجد نسأل الله أن ينفعنا وإياهم بها أنه ولي ذلك والقادر عليه.يا ربي أعضاء السجود أعتقتها.............م فضلك الوافي وأنت الباقي
والعتق يسري في الغني يا ذا الغنى.............فام ن على الفاني بعتق الباقي.
سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
تمت
([1]) (إغاثة اللهفان ج1_ص228)
([2]) (على القول بأن قوله حجة وفي المسألة خلاف معروف).
([3]) (الأصول من علم الأصول للعلامة ابن عثيمين).
([4]) (الإخلاد: الميل والاتجاه).
([5]) (بدائع الفوائد ج1_ص25_ط دار النفائس).
([6]) قال: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى " إياك أن تتكلم في مسالة ليس لك فيها إمام".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكل قول ينفرد به المتأخر عن المتقدمين ولم يسبقه إليه أحد منهم فانه يكون خطأ" وقال: الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن صالح السحيم "فليحذر طالب العلم أن يتكلّم في مسألة لم يُسبق إليها إلا أن تكون من الكلام على البدع والمُحدَثات التي تجد بعد الرجوع إلى قواعد الشريعة.
(إتحاف الكرام بشرح عمدة الأحكام المقدمة).
([7]) (الرد على النصارى واليهود).