وفيها مقدمة مفيدة لطالب علم الحديث
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم أما بعد :
نستفتح بحمد الله دراسة هذا المتن الذي تقرر أن يكون موضوعه في علم مصطلح الحديث وقد تم الاتفاق قبل على أن يقرر للحصة درس كتاب الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث , على الاختلاف الذي أشرت إليه سلفا في نسبة الكتاب , هل هو من تأليف الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير ؟أو أن هذا التأليف أو هذه التسمية شرح للإمام أبي الأشبال أحمد شاكر عليه رحمة الله؟
.وقد جرت سنة أهل الحديث أن يعقدوا بابا ونوعا مستقلا من أنواع علوم الحديث في كل التواليف التي ألفوها في كتب المصطلح تتعلق بأدب الطلب ومنهجهم في أخذ العلم , إذ شرف العلوم يتفاوت بشرف معلومها , ويتفاضل بتفاضل متعلقها.
ولا ريب أن دراسة هدي النبي صلى الله عليه وسلم والاشتغال بسيرته سنته وأيامه وأحواله من الأهمية بمكان, وقد أولى علماء السلف رضي الله تعالى عنهم أهمية بالغة لهذا الموضوع, ولا أدل على ذلك من تلكم الأقوال المتناثرة والآثار المروية عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ,المبثوثة والمفرقة في كتب علم الحديث, خاصة في مقدمات كتبهم كمقدمة الإمام مسلم رحمه الله ومقدمة الإمام الدارمي لكتابه المسند المطبوع باسم السنن ومقدمة سنن ابن ماجة وغيرها من الكتب التي عنيت بذكر هذه الآثار ككتاب الحافظ أبي بكر علي بن أحمد الخطيب البغدادي رحمه الله بل إن علماء المسلمين وعلماء الحديث على وجه الخصوص قد ألفوا تواليف مستقلة بخصوص هذا الموضوع لما له من أهمية قصوى فيما يتعلق بسمت الطالب وأدبه ومن أقدم المؤلفات في ذلك كتاب العلم للحافظ أبي خيثمة زهير بن حرب النسائي المتوفى عام 234هـ وكتابه مطبوع بتحقيق الشيخ محمد ناصر الدين رحمه الله مرورا بكتاب محمد بن سحنون الفقيه المالكي المعروف المتوفى عام 256هـ ثم توالت التآليف في الموضوع حتى جمع شتات متفرقها فرسا الرهان حافظ المشرق أبوبكر الخطيب البغدادي وحافظ المغرب الإمام أبو عمر يوسف بن عبد البر رحمهما الله وقد كانت وفاة الإمامين عام463هـ حافظ المشرق وحافظ المغرب .
ألف الحافظ ابن عبد البر كتابه المسمى جامع بيان العلم وفضله والحافظ الخطيب البغدادي له كتاب الفقيه والمتفقه وله شرف أصحاب الحديث وكتاب أدب الطالب والسامع والكتاب مطبوع في مجلدين .
قلت اعتنى الحافظان رحمهما الله بجمع شتات الأقوال المتناثرة للسلف رحمهم الله من الصحابة والتابعين في مايتعلق بالموضوع ثم توالت التآليف في الموضوع حتى جاء الإمام ابن جماعة و الإمام ابن جماعة المتوفى عام733هـ اعتنى كثيرا بتصنيف الخطيب وبتصنيف الحافظ ابن عبد البر فجمع شتات متفرقها وألف كتابه المسمى "تذكرة السامع والمتعلم في آداب العالم والمتعلم وقد قسم كتابه إلى ثلاثة أقسام رئيسية ولذلك امتاز كتابه من حيث عرض المادة العلمية على كتب غيره .
-فصلا في ذكر أدب الطالب في نفسه.
-فصلا في أدب الطالب مع شيخه.
-فصلا في أدب الطالب في درسه.
فامتاز كتابه بهذه المنهجية العلمية الرصينة .
قلت : قد اعتنى في كتابه هذا بجمع الأقوال المسندة التي ذكرها الحافظان واعتنى كثيرا بالآثار التي ذكرها الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة صحيحه والإمام ابن ماجة في مقدمة سننه .
موضوع طلب العلم وفضله تحدث عنه الكثير ولايخالني في حاجة إلى التذكير بفضله في عرض الآيات وسرد الأحاديث الدالة على فضل نيل العلم وحسبنا الوقوف مع آية وحديث
قال الله جل وعلا آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم :"وقل رب زدني علما" ولم يأمره بالاستزادة في شيء من أمور الدنيا إلا في طلب العلم وقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح من حديث معاوية رضي الله عنه "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" والغرض من هذا اللقاء الأول الحديث إجمالا عن هذه الآداب التي تعظم الحاجة إليها والعناية بها وضبطها لأنها سبيل تحصيل العلم ولا ريب أن أهل العلم من السلف والخلف كانوا يعتمدون منهجية علمية عملية في التلقي والأخذ إذ كانوا يقدمون طلب الأدب على العلم كما قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله طلبت الأدب ثلاثين سنة وطلبت العلم عشرين سنة وكانوا يطلبون الأدب ثم العلم ولذلك اشتهر كثير من أهل العلم بلقب المؤدب حتى صار علما عليه ومن درر قالات الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله :
أيها الطالب علما**ائت حماد بن زيد
فالتمس علما وحلما**ثم قيده بقيد
وقال بن المبارك أيضا رحمه الله تعالى "كاد الأدب أن يكون ثلثي العلم"
أما فيما يتعلق بالقسم الأول من الأقسام التي أشرت إليها ونص عليها ابن جماعة فيما يتعلق بأدب الطالب في نفسه
فأول هذه الآداب إخلاص النية لله جل وعلا على اعتبار أن العلم عبادة وقربة من أعظم القرب قال الله جل وعلا وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين
خاصة إذا تعلق الأمر بطلب علم الحديث في الآونة الأخيرة فإن الناس كثرت نياتهم منهم من يطلبه ابتغاء الرزق تحقيق الكتب لنيل النوال وقد اشتهر على ألسنة العلماء "صناعة الحديث صناعة المفاليس"
وقيل من طلب الحديث أفلس
قلت: أول هذه الآداب :إخلاص النية لله جل وعلا بأن يكون القصد رفع الجهل عن النفس ثم التفقه في دين الله عزوجل لمعرفة الله ولنفع الخلق وقد صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث الثلاثة الذين تسعر بهم النار
رجل قرأ القران وتعلم العلم فأتي به فعرفه الله نعمه فعرفها فيقال مافعلت فيها؟ فيقول يارب قرأت فيك القران وتعلمت العلم وعلمت فيقال كذبت إنما قرأت ليقال قارئ وتعلمت ليقال عالم فقد قيل فيؤمر به فيسحب على وجهه فيلقى في جهنم.
وقال عليه الصلاة والسلام من طلب علما مما يبتغى به وجه الله لايطلبه إلا لعرض الدنيا لايجد عرف الجنة ومما تجدر الإشارة إليه أن مسألة النية ومعالجتها أمر خطير شديد ولذلك يقول الإمام الثوري رحمه الله ماعالجت شيئا أشد علي من نيتي ويأبى الله إلا أن يكون طالب العلم الموفق مخلصا لله جل في علاه في طلب هذا العلم كما حكى ذلك غير واحد من أهل العلم إذ إن مثل هذا النور نور العلم ونور الهدى لايقبل المشاركة ولا يقبل المقاسمة ثم عليه ثانيا بعد إخلاص النية لله أن يجهد في تنقية نفسه وتهذيبها من الرذائل والشوائب ومن الغل والحسد ومن كل المعايب والنقائص التي تضع من قيمة الإنسان فهي ظلمات تسود قلب العبد وعلم الله جل في علاه لايجتمع مع ظلمة هذه المعاصي والأبيات المنسوبة للإمام الشافعي أدل دليل على ذلك:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي**فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال إن علم الله نور ** ونور الله لايؤتى لعاصي
ثم عليه ثالثا أن يبادر إلى الاجتهاد في طلب العلم وتحصيله في شبابه وفراغه فإن نعمة الفراغ كما قال صلى الله عليه وسلم مغبون فيها كثير من الخلق فيما صح عن نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ وعليه أن لايخدع نفسه بخدع التسويف والتأميل فكثير من الناس هم ضحايا التسويف والتأميل وقد صح من حديث رسول الله صلى ا لله عليه وسلم اغتنم خمسا قبل خمس ذكر منها صلى الله عليه وسلم فراغك قبل شغلك وشبابك قبل هرمك وقد علق الإمام البخاري في صحيحه اثر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفقهوا قبل أن تسودوا قال أبوعبد الله :وبعد أن تسودوا فإن الإنسان في هذه الدنيا خاصة إذا تحدثنا عن واقع شبيه بما نعيشه ماتنتظره أمته منه أمر كثير لا يسع وقته لأدائه ولذلك تجدر المبادرة إلى اغتنام الأوقات وصرفها في طلب العلم وقد صح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منهومان لايشبعان طالب علم وطالب الدنيا
من هذه الآداب التي تتعلق بالطالب في نفسه ترك الفضول في كل شيء في المأكل والمشرب والمنام والمنكح وغيرها فإن أعظم البلية في هذه الفضول وعليه أن يستعين بالصيام فإن أجسام العلماء نحال كما قال الإمام الشافعي رحمه الله : مارأيت سمينا قط أفلح إلا محمد بن الحسن ومما شاع عند أهل الحكمة البطنة تذهب الفطنة ثم عليه أن يستخير الله جل وعلا في اختيار الصاحب في اختيار الرفيق الذي يشد أزره ويقوي عزيمته في طلب العلم والصبر على لأوائه وتحمل مشاقه وعليه أن يهون عليه أمر العلم وأن يذاكره بالعلم وأن لاينفرد بنفسه دون خله بالفوائد الأوابد التي اقتنصها من العلم ولذلك كانت سنة العلماء السابقين رحمهم الله أن الواحد منهم متى تعرف فائدة بينها لصاحبه وقد كان مشايخ الحافظ ابن حجر رحمه الله يشتغلون بالتخريج الحافظ الهيثمي والحافظ العراقي فكان كل منهما إذا وقف على حديث يحتاجه الآخر ووقف على طريق يغلب على ظنه أن صاحبه لن يوفق إليها يقدمها له ويدله عليها ويرشده عليها عكس ماعليه كثير من الناس في هذه الأزمان تجد الواحد منهم يبخل بفائدة يقتنصها بل تجد الطالب يكتنز الكتب ولا يدل غيره على أماكن وجودها وكأن العلم شيء يكتنز فلا يحب أن يطلع غيره على تلك الكتب حتى يبقى متميزا دون غيره ومتى كانت هذه نية الطالب ومتى كان هذا فعل الطالب فاكتب على جبهته لن يفلح فإنه ماشم رائحة العلم ولاتأدب بأدب أهله وسنة الله جل وعلا أن لايوفق في نيله هذه باختصار جمل من الآداب التي يجمل بطالب العلم خاصة طالب علم الحديث أن يتأدب بها في نفسه وفي خاصته
.....