ثم قال: الفن الثاني: في الحدود المفصلة
إعلم أن الأشياء التي يمكن تحديدها لا نهاية لها لأن العلوم التصديقية غير متناهية وهي تابعة للتصورات وأقل ما يشتمل عليه التصديق تصوران وعلى الجملة فكل ما له اسم يمكن تحرير حده ورسمه أو شرح اسمه وإذا لم يكن في الاستقصاء مطمع فالأولى الاقتصار على القوانين المعرِّفة لطريقه وقد حصل ذلك بالفن الأول.
ولكنا أوردنا حدودا مفصلة لفائدتين:
إحداهما: أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه فإن الامتحان والممارسة للشيء يفيد قوة عليه لا محالة.
الثانية: أن يقع الاطلاع على معاني أسماء أطلقها الفلاسفة وقد أوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم اصطلاحهم وإذا لم نفهم ما أوردناه من اصطلاحهم لا يمكن مناظرتهم
فقد أوردنا ألفاظا أطلقوها في الإلهيات والطبيعات وشيئا قليلا من الرياضيات.
فلتؤخذ هذه الحدود على أنها شرح الاسم فان قام البرهان على أن ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا وإلا اعتقد شرحا للاسم.
كما يقال: حد الجني حيوان هوائي ناطق مشف الجرم من شانه أن يتشكل بأشكال مختلفة. فيكون هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس فأما وجود هذا الشيء على هذا الوجه فيعرف بالبرهان فإن دل على وجوده كان حدا بحسب الذات وإن لم يدل عليه بل دل على أن الجني المراد به في الشرع موجود آخر كان هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس.
وكما تقول في حد الخلاء أنه بعد يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة قائم لا في مادة من شأنه أن يملأه جسم ويخلو عنه. وربما دل الدليل على أن ذلك محال فيؤخذ على أنه شرح للاسم في إطلاق النظار.
وإنما قدمنا هذه المقدمة ليعلم أن ما نورده من الحدود شرح لما أراده الفلاسفة بالإطلاق لا حكم بأن ما ذكروه كما ذكروه فان ذلك مما يتوقف على ما يوجبه البرهان.
أقول: سيأتي ما يتعلق بذلك في كلام الشيخ أعني الحد بحسب الاسم وبحسب الحقيقة.