تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 12
النتائج 21 إلى 34 من 34

الموضوع: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

  1. #21

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    ثم قال: الفن الثاني: في الحدود المفصلة
    إعلم أن الأشياء التي يمكن تحديدها لا نهاية لها لأن العلوم التصديقية غير متناهية وهي تابعة للتصورات وأقل ما يشتمل عليه التصديق تصوران وعلى الجملة فكل ما له اسم يمكن تحرير حده ورسمه أو شرح اسمه وإذا لم يكن في الاستقصاء مطمع فالأولى الاقتصار على القوانين المعرِّفة لطريقه وقد حصل ذلك بالفن الأول.
    ولكنا أوردنا حدودا مفصلة لفائدتين:
    إحداهما: أن تحصل الدربة بكيفية تحرير الحد وتأليفه فإن الامتحان والممارسة للشيء يفيد قوة عليه لا محالة.
    الثانية: أن يقع الاطلاع على معاني أسماء أطلقها الفلاسفة وقد أوردناها في كتاب تهافت الفلاسفة إذ لم يمكن مناظرتهم إلا بلغتهم وعلى حكم اصطلاحهم وإذا لم نفهم ما أوردناه من اصطلاحهم لا يمكن مناظرتهم
    فقد أوردنا ألفاظا أطلقوها في الإلهيات والطبيعات وشيئا قليلا من الرياضيات.
    فلتؤخذ هذه الحدود على أنها شرح الاسم فان قام البرهان على أن ما شرحوه هو كما شرحوه اعتقد حدا وإلا اعتقد شرحا للاسم.
    كما يقال: حد الجني حيوان هوائي ناطق مشف الجرم من شانه أن يتشكل بأشكال مختلفة. فيكون هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس فأما وجود هذا الشيء على هذا الوجه فيعرف بالبرهان فإن دل على وجوده كان حدا بحسب الذات وإن لم يدل عليه بل دل على أن الجني المراد به في الشرع موجود آخر كان هذا شرحا للاسم في تفاهم الناس.
    وكما تقول في حد الخلاء أنه بعد يمكن أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة قائم لا في مادة من شأنه أن يملأه جسم ويخلو عنه. وربما دل الدليل على أن ذلك محال فيؤخذ على أنه شرح للاسم في إطلاق النظار.
    وإنما قدمنا هذه المقدمة ليعلم أن ما نورده من الحدود شرح لما أراده الفلاسفة بالإطلاق لا حكم بأن ما ذكروه كما ذكروه فان ذلك مما يتوقف على ما يوجبه البرهان.

    أقول: سيأتي ما يتعلق بذلك في كلام الشيخ أعني الحد بحسب الاسم وبحسب الحقيقة.

  2. #22

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    قلت: ما ذكره من صعوبة الحد على الشروط التي ذكرها حق لو كان المقصود بالحد تصوير الحدود كما يدعونه وكان ذلك ممكنا لكن ما ذكروه في الحد باطل فإنه يمتنع أن يحصل بمجرد الحد تصور المحدود وما ذكروه من الفرق بين الصفات الذاتية المقومة الداخلة في الماهية والصفات الخارجة اللازمة أمر باطل لا حقيقة له وما أوجبوه من ذكر الصفتين في الحدود هو مما يحظره المتكلمون فيمتنعون منه في الحد والتحقيق أنه لا واجب ولا محظور كما قد بيناه في موضع آخر.
    وكل ما يذكرونه من الحدود فانما يفيد التمييز وإذا كان لا يحصل بالحد إلا التمييز فالتمييز قد يحصل بالفصل والخاصة فعلم أن طريقة المتكلمين أسد في تحصيل المقصود الصحيح بالحدود.
    وأما قوله: إن ذلك في غاية البعد عن التعريف لذات المحدود. فيقال: وكذلك سائر الحدود هي غير محصلة لتصوير ذات المحدود كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

    أقول: يبدأ الشيخ كلامه في الرد على الغزالي والمناطقة بمنع التفريق بين الذاتي والعرضي، وأن الفرق بينهما باطل لا يصح وأن التمييز للمحدود كما يحصل بالفصل يحصل بالخاصة. وسيأتي الكلام على إبطال الفرق بين الذاتي والعرضي مفصلا فلتنتظر فإن ذلك من أهم المطالب.

  3. #23

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    وما ذكره من الوجوه حجة عليهم.
    فإنّ ما ذكره من لزوم أخذ الجنس القريب أمر اصطلاحي وذلك أنه إذا أخذ البعيد كان الفصل يدل على القريب بالتضمن أو الالتزام كدلالة القريب على البعيد فالناطق عندهم يدل على الحيوان والمسكر على الشراب كما يدل الحيوان على الجسم وكما يدل الشراب على المائع سواء جعلوا هذه دلالة تضمن أو التزام فان كانوا يكتفون بمثل هذه الدلالة كان الفصل كافيا وإن كانوا لا يكتفون إلا بما يدل على الذاتيات بالمطابقة لم يكن ذكر الجنس القريب وحده كافيا.
    فإذا قال: مائع مسكر. كان لفظ المسكر يدل عل أنه الشراب فان المسكر ههنا أخص عندهم من الشراب ومن المائع وهو فصل كالناطق للإنسان ومعلوم حينئذ أن كل مسكر شراب كما أن كل ناطق حيوان كما أنه إذا قيل في الإنسان جسم ناطق فالناطق عندهم أخص من الجسم ومن الحيوان وهو يدل على الحيوان بالتضمن أو الالتزام ودل لفظ المائع على الجنس البعيد بالمطابقة.
    وإذا قال: شراب مسكر دلّ قوله شراب على أنه مائع بالتضمن أو الالتزام عندهم ودل على الجنس القريب بالمطابقة فصار الفرق بينهما أنه تارة يدل على الجنس البعيد بالمطابقة والقريب بالتضمن وتارة بالعكس.
    فإذا قالوا الأحسن أن يدل على القريب بالمطابقة لأنه أخص بالمحدود وكلما كان أخص كان أكثر تمييزا قيل ليس في ذلك اختصاص أحد الحدين بتصوير الماهية دون الآخر بل بأنه أتم تمييزا.
    وهذا تكلم على المعنى الذي ذكره في حد الخمر بحسب ما قاله فالخمر اسم للمسكر عند الشارع سواء كان مائعا أو جامدا طعاما أو شربا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" فلو كان الخمر جامدة وأكلها كانت خمرا باتفاق المسلمين.

    أقول: إن ما ذكروه من وجوب أخذ الجنس القريب في الحد أمر اصطلاحي تواضعي لا علاقة له بتصوير الماهية؛ وذلك أنه إذا حد النوع بالجنس البعيد والفصل؛ فإن الفصل سيدل على الجنس القريب بالالتزام أو التضمن عندهم؛ فيكون قولنا في تعريف الإنسان: جسم ناطق. دال على الحيوانية إذ كل ناطق حيوان؛ فالقريب وإن لم يذكر لفظا في الحد فهو متضمن فيه؛ فإن اكتفوا بهذه الدلالة بطل قولهم بوجوب أخذ الجنس القريب في الحد.
    وإن لم يكتفوا بهذه الدلالة وقالوا لا بد من ذكر الذاتيات بالمطابقة تفصيلا لم يكن ذكر الجنس القريب مع الفصل كافيا؛ لأنه إذا قيل في تعريف الإنسان: حيوان ناطق، فلم يذكر في التعريف الجنس البعيد وهو الجسم وهو ذاتي للإنسان، وإنما يدل الحيوان على الجسم بالتضمن أو الالتزام عندهم، فصار الفرق بينهما أنه تارة يدل على الجنس البعيد بالمطابقة والقريب بالتضمن كما في قولنا: جسم ناطق، وتارة يدل على الجنس القريب بالمطابقة وبالبعيد بالتضمن كما في قولنا: حيوان ناطق.
    فإذا قالوا الأحسن أن يدل على القريب بالمطابقة لأنه أخص بالمحدود وكلما كان أخص كان أكثر تمييزا.
    قيل ليس في ذلك اختصاص أحد الحدين بتصوير الماهية دون الآخر بل بأنه أتم تمييزا.

  4. #24

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    وأما الوجه الثاني: فقوله ":اللازم الذي لا يفارق في الوجود والوهم يشتبه بالذاتي غاية الاشتباه" كلام صحيح بل ليس بينهما في الحقيقة فرق إلا بمجرد الوضع والاصطلاح كما قد بين في غير هذا الموضع وبين أنهم في هذا الوضع المنطقي والاصطلاح المنطقي فرقوا بين المتماثلين وسووا بين المختلفين.
    وهذا وضع مخالف لصريح العقل وهو أصل صناعة الحدود الحقيقية عندهم فتكون صناعة باطلة إذ الفرق بين الحقائق لا يكون بمجرد أمر وضعي بل بما هي عليه الحقائق في نفسها وليس بين ما سموه ذاتيا وما سموه لازما للماهية في الوجود والذهن فرق حقيقي في الخارج وإنما هي فروق اعتبارية تتبع الوضع واختيار الواضع وما يفرضه في ذهنه وهذا قد بسطناه في غير هذا الموضع وذكرنا ألفاظ أئمتهم في هذا الموضع وتفسيرها.
    وإن حاصل ما عندهم أن ما يسمونه ماهية هي ما يتصوره الذهن فإن أجزاء الماهية هي تلك الأمور المتصورة فإذا تصور جسما ناميا حساسا متحركا بالإرادة ناطقا أو ضاحكا كان كل جزء من هذه الأجزاء هو المعنى المتصور وكان داخلا في هذا التصور وإن تصور حيوانا ناطقا كان أيضا كل منهما جزءا مما تصوره داخلا فيه وكان ما يلزم هذه الصورة الذهنية مثل كونه حيا وحساسا وناميا هو لازما لهذا المتصور في الذهن فالماهية بمنزلة المدلول عليه بالمطابقة وجزؤها المقوم لها الداخل فيها الذي هو وصف ذاتي لها بمنزلة المدلول عليه التضمن واللازم لها الخارج عنها بمنزلة المدلول عليه بالالتزام ومعلوم أن هذا أمر يتبع ما يتصوره الإنسان سواء كان مطابقا أو غير مطابق ليس هو تابع للحقائق في نفسها.
    وأصل غلط هؤلاء أنه اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان فالإنسان إذا حد شيئا كالإنسان مثلا بمن هو جسم حساس نام متحرك بالإرادة ناطق كان هذا القول له لفظ ومعنى فكل لفظ من ألفاظه -له معنى من هذه المعاني- جزء هذا الكلام.
    أقول: سيأتي قريبا في كلام الشيخ التعرض للذاتي والعرضي.

  5. #25

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    وأما قوله في الثالث":إنه يشترط جميع الفصول" فهذا كاشتراط الجنس وليس في ذلك ما يفيد تصوير الماهية وأما التمييز فيحصل بدون ذلك وهذا أمر وضعي والمتكلمون قد اتفقوا على أنه لا يجوز الجمع بين وصفين متساويين في العموم والخصوص ضد ما يوجبه هؤلاء فلا يجمع بين فصلين وهذا كما إذا حد الحيوان بأنه جسم نام حساس متحرك بالإرادة فالحساس والمتحرك بالإرادة فصلان والمنطقيون يوجبون ذكرهما والمتكلمون يمنعون من ذكرهما جميعا ويأمرون بالاقتصار على أحدهما.
    أقول: ذكر جميع الفصول لن يوصل لتصور الماهية كذكر الجنس معها، وتقدم أن المتكلمين قد اتفقوا على أنه لا يجوز الجمع بين وصفين متساويين كالجمع بين الحساس والمتحرك بالإرادة ويأمرون بالاقتصار على أحدهما ضد ما يوجبه هؤلاء المناطقة وتقدم أن الشيخ يرى التوسط بين الفريقين فلا الذكر واجب ولا الحذف واجب عنده.

  6. #26

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    أما الوجه الرابع: فإنه من جنس أخذ الجنس البعيد بدل القريب فإن تقسيم الجنس بالفصول الآخرية دون الأولية مثل تقويم النوع بالأجناس الأولية دون الآخرية.
    أقول: تقدم أن أخذ الجنس البعيد بدل القريب لا يضر لأن الفصل سيدل على القريب، وكذا الحال هنا فإن تقسيم الجنس بالفصول البعيدة مثل تقويم النوع بالجنس البعيد، فمتى قيل في تقسيم الجسم إلى حيوان وغير حيوان، فقد دل الحيوان على النامي بالتضمن، وهم يشترطون أن يقسم الجسم أولا إلى النامي وغيره، ثم يقسم النامي إلى الحيوان وغيره ونقول إذا قيل: جسم حساس متحرك بالإرادة فقد دل على النامي.

  7. #27

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    وقوله "رعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحد وهو في غاية العسر" فيقال:
    هذه صناعة وضعية اصطلاحية ليست من الأمور الحقيقية العلمية وهي مع ذلك مخالفة لصريح العقل ولما عليه الوجود في مواضع فتكون باطلة ليست من الأوضاع المجردة كوضع أسماء الأعلام فان تلك فيها منفعة وهي لا تخالف عقلا ولا وجودا وأما وضعهم فمخالف لصريح العقل والوجود ولو كان وضعا مجردا لم يكن ميزانا للعلوم والحقائق فان الأمور الحقيقية العلمية لا تختلف باختلاف الأوضاع والاصطلاحات كالمعرفة بصفات الأشياء وحقائقها فالعلم بأن الشيء حي أو عالم أو قادر أو مريد أو متحرك أو ساكن أو حساس أو غير حساس ليس هو من الصناعات الوضعية بل هو من الأمور الحقيقية الفطرية التي فطر الله تعالى عباده عليها كما فطرهم على أنواع الإرادات الصحيحة والحركات المستقيمة.
    لاسيما وهؤلاء يقولون: أن المنطق ميزان العلوم العقلية ومراعاته تعصم الذهن عن أن يغلط في فكره كما أن العروض ميزان الشعر والنحو والتصريف ميزان الألفاظ العربية المركبة والمفردة وآلات المواقيت موازين لها.
    ولكن ليس الأمر كذلك فان العلوم العقلية تعلم بما فطر الله عليه بني آدم من أسباب الإدراك لا تقف على ميزان وضعي لشخص معين ولا يقلد في العقليات أحد بخلاف العربية فإنها عادة لقوم لا تعرف إلا بالسماع وقوانينها لا تعرف إلا بالاستقراء بخلاف ما به يعرف مقادير المكيلات والموزونات والمذروعات والمعدودات فإنها تفتقر إلى ذلك غالبا لكن تعيين ما به يكال ويوزن بقدر مخصوص أمر عادي كعادة الناس في اللغات.
    وقد تنازع علماء المسلمين في مسمى الدرهم والدينار هل هو مقدر بالشرع أو المرجع فيه إلى العرف؟ على قولين أصحهما الثاني وعلى ذلك يبنى النصب الشرعي هل هو مائتا درهم يوزن معين أو مائتا درهم مما يتعامل بها الناس؟ باعتبار تقررها.
    وأما ما ذكروه من صناعة الحد فلا ريب أنهم وضعوها وهم معترفون بأن الواضع لها أرسطو وهم يعظمونه بذلك ويقولون لم يسبقه أحد إلى جميع أجزاء المنطق وتنازعوا هل سُبق إلى بعض أجزائه على قولين.

    أقول: يهاجم الشيخ المنطق ويعتبره صناعة وضعية اصطلاحية وليست من باب الحقائق العلمية كما أنها قد خالفت ما عليه الواقع والوجود في مواضع فتكون تلك الصناعة باطلة، وقد اتفقوا على أن أرسطو لم يسبقه أحد إلى جمع جميع أجزاء المنطق وتنازعوا هل سبقه أحد إلى بعض أجزائه على قولين.

  8. #28

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    وأجزاء المنطق ثمانية: ١- المفردات وهى المقولات المعقولة المفردة و ٢- التركيب الأول وهو تركيب القضايا و ٣- التركيب الثاني وهو تركيب القياس من القضايا ثم ٤- البرهاني و ٥- الجدلي و ٦- الخطابي و ٧- الشعري و ٨- السفسطة.
    ويسمون الجزء الأول إيساغوجي وقد يقولون أن فرفوريوس هو الذي أدخل ذلك المنطق بعد أرسطو.
    وقد يجعلون القياس والبرهان واحدا ويجعلون أجزاءه سبعة ويقولون: هذا قول أرسطو.
    والجزء الثاني الذي يشتمل على المقدمات يسمونه هرمينياس ومعناه العبارات.
    والثالث الذي يشتمل على القياس المطلق يسمونه انولوطيقيا الأول.
    والبرهاني يسمونه انولوطيقا الثاني.
    والجدلي يسمونه طوبيقا.
    والخطابي يسمونه ديطويقا.
    والشعري يسمونه اوقيوطيقا.
    والسفسطة يسمونه سوفسطيقا.
    وهذه عبارات يونانية فإذا تكلمت بها العرب فإنها تعربها وتقربها إلى لغاتها كسائر ما تكلمت به العرب من الألفاظ المعجمة فلهذا توجد ألفاظها مختلفة.
    وقد كانت الأمم قبلهم تعرف حقائق الأشياء بدون هذا الوضع وعامة الأمم بعدهم تعرف حقائق الأشياء بدون وضعهم فان أرسطو كان وزيرا للاسكندر بن فيلبس المقدوني وليس هذا ذا القرنين المذكور في القرآن كما يظنه كثير منهم بل هذا كان قبل المسيح بنحو ثلثمائه سنة.
    وجماهير العقلاء من جميع الأمم يعرفون الحقائق من غير تعلم منهم بوضع أرسطو وهم إذا تدبروا أنفسهم وجدوا أنفسهم تعلم حقائق الأشياء بدون هذه الصناعة الوضعية.
    ثم أن هذه الصناعة زعموا أنها تفيد تعريف حقائق الأشياء ولا تعرف إلا بها وكلا هذين غلط ولما راموا ذلك لم يكن بد من أن يفرقوا بين بعض الصفات وبعض إذ جعلوا التصور بما جعلوه ذاتيا فلا بد أن يفرقوا بين ما هو ذاتي عندهم وما ليس كذلك ولا بد أن يرتبوا ذكرها على ترتيب مخصوص إذ لا تذكر على كل ترتيب فكانت الصفات الذاتية مادة الحد الوضعي والترتيب الذي ذكروه هو صورته.
    ولما كان ذلك مستلزما للتفريق بين المتماثلين أو المتقاربين كان ممتنعا أو عسرا إذ يفرقون بين صفة وصفة يجعل أحدهما ذاتية دون أخرى مع تساويهما أو تقاربهما ويفرقون بين ترتيب وترتيب بجعل أحدهما معرفا للحقيقة دون الآخر مع تساويهما أو تقاربهما وطلب الفرق بين المتماثلات طلب ما لا حقيقة له فهو ممتنع وإن كان بين المتقاربين كان عسرا فالمطلوب إما متعذرا وإما متعسرا فان كان متعذرا بطل بالكلية وإن كان متعسرا فهو بعد حصوله ليس فيه فائدة زائدة على ما كان يعرف قبل حصوله فصاروا بين أن يمتنع عليهم ما شرطوه أو ينالوه ولا يحصل به ما قصدوه وعلى التقديرين ليس ما وضعوه من الحد طريقا لتصور الحقائق في نفس من لا يتصورها بدون الحد وإن كان الحد قد يفيد من تنبيه المخاطب وتمييز المحدود ما قد تفيده الأسماء كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

    أقول: بين أجزاء المنطق المشهورة وذكر أن الناس تعرف حقائق الأشياء بدون الوضع المنطقي وأن المناطقة تكلفوا في صناعة الحد في أمرين:
    في التفريق بين الصفات المتماثلة أو المتقاربة فاختاروا بعضها واستبعدوا البعض الآخر.
    رتبوا ذكر تلك الصفات على نحو معين وألزموا الناس به وجعلوا الترتيب الذي ابتدعوه هو الموصل إلى تصور الحقيقة دون غيره من التراتيب رغم تساويهما أو تقاربهما.
    وكلا الأمرين مخالف للفطرة.

  9. #29

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    وما ذكروه من الفرق بين الحد وشرح الاسم فتلخيصه أن المحدود المميز عن غيره إذا تصورت حقيقته فقد يكون هو الموجود الخارجي وقد يكون هو المراد الذهني وقد يراد بالحد تمييز ما عناه المتكلم بالاسم وتفهيمه سواء كان ذلك المعنى الذي أراده بالاسم ثابتا في الخارج أو لم يكن وقد يراد به تمييز ما هو موجود في الخارج وهذا شأن كل من فسر كلام متكلم أو شرحه فقد يفسر مراد المتكلم ومقصودة سواء كان مطابقا للخارج أو لم يكن وقد يتبين مع ذلك أنه مطابق.
    للأمر الخارج وأنه حق في نفسه.
    وإذا كان الكلام غير حق لم يكن مطابقا للخارج فيريد المستمع أن يطابق بينه وبين الواقع فلا يطابقه ولا يوافقه حتى قد يظن الظان أن الشارح أو المستمع لم يفهم مقصود المتكلم لعسرته ولا يكون كذلك بل لأن ما ذكره من الكلام ليس بمطابق للواقع فلا يمكن مطابقته إياه وقد يكون ظن من ظنه مطابقا للخارج إحسانا للظن بالمتكلم ويكون قد ظن أنه لم يفهمه لدقته عليه فلا يكون كذلك.
    وقولهم في الحد الحقيقي أنه متعسر وإنه لا يتوقف عليه إلا آحاد الناس هو من هذا الباب فان الحد الحقيقي إذا أريد به ما زعموه فإنه لا حقيقة له في الخارج إذ يريدون به أن الموصوف في نفسه مؤلف من بعض صفاته اللازمة له التي بعضها أعم منه وبعضها مطابق له دون بعض صفاته اللازمة المساوية لتلك العامة في العموم وللمطابقة في المطابقة دون بعض وأن حقيقته هي مركبة من تلك الصفات دون غيرها وأن تلك الحقيقة يصورها الحد دون غيره فهذا ليس بحق.
    فدعواهم تأليفه من بعض الصفات اللازمة دون بعض باطلة بل دعواهم أنه مركب من الصفات باطلة ودعواهم له حقيقة ثابتة في الخارج يصورها الحد دون غيره باطلة وإنما الواقع أن المحدود الموصوف الذي ميز بالاسم أو الحد عن غيره قد يكون ثابتا في الخارج وقد يكون ثابتا في نفس المتكلم بالاسم أو الحد وهو يظن ثبوته في الخارج وليس كذلك.
    وبهذا يقال الحد يكون تارة بحسب الاسم وتارة بحسب المسمى ويقال الحد يكون تارة بحسب اسم الشيء وتارة بحسب حقيقته وإن كان الحد بحسب الاسم قد يكون مطابقا للخارج لكن المقصود أن الحد تارة يميز بين المراد باللفظ وغير المراد وتارة يميز بين الموجود في الخارج من الأعيان وبين غيره وهذا التمييز إنما يحصل بواسطة ذلك فالتمييز الذي في النفس يجب أن يكون مطابقا للتمييز في الخارج والتمييز الذي يحصل للمستمع هو بواسطة التمييز الذي في نفس المتكلم والله أعلم.

    أقول: تقدم بيان الغزالي حول هذا الأمر فقد كان واضحا وهو أنه تارة يعرف الشيء بالنظر لشرح الاسم كما تعرف العقول عند الفلاسفة فهذا شرح لمعناه عندهم وإن كنا نعلم أن هذه العقول العشرة هي خرافة يونانية فليس المقصود بالتعريف عكس الحقيقة الخارجية بل شرح مصطلح يستعمله بعض الناس، وتارة يعرف الشيء بحسب حقيقته التي هو عليها في الخارج كما يعرف المثلث مثلا.

  10. #30

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    وقد تفطن أبو عبدا لله الرازي بن الخطيب لما عليه أئمة الكلام وقرر في محصله وغيره أن التصورات لا تكون مكتسبة وهذا هو حقيقة قول القائلين أن الحد لا يفيد تصوير المحدود.
    لكنه لم يهتد هو وأمثاله إلى ما سبق إليه أئمة الكلام في هذا المقام.
    وهذا مقام شريف ينبغي أن يعرف فانه بسبب إهماله دخل الفساد في العقول والأديان على كثير من الناس إذ خلطوا ما ذكره أهل المنطق في الحدود بالعلوم النبوية التي جاءت به الرسل التي عند المسلمين واليهود والنصارى بل وسائر العلوم كالطب والنحو وغير ذلك.
    وصاروا يعظمون أمر الحدود ويدعون أنهم هم المحققون لذلك وأن ما يذكره غيرهم من الحدود إنما هي لفظية لا تفيد تعريف الماهية والحقيقة بخلاف حدودهم ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة والعبارات المتكلفة الهائلة وليس لذلك فائدة إلا تضييع الزمان وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان وشغل النفوس بما لا ينفعها بل قد يضلها عما لا بد لها منه وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب وإن ادعوا أنه أصل المعرفة والتحقيق.
    وهذا من توابع الكلام الذي كان السلف ينهون عنه وإن كان الذي نهوا عنه خيرا من هذا وأحسن إذ هو كلام في أدلة وأحكام ولم يكن قدماء المتكلمين يرضون أن يخوضوا في الحدود على طريقة المنطقيين كما دخل في ذلك متأخروهم الذين يظنون ذلك من التحقيق وإنما هو زيغ عن سواء الطريق.
    ولهذا لما كانت هذه الحدود ونحوها لا تفيد الإنسان علما لم يكن عنده وإنما تفيده كثرة كلام سموهم أهل الكلام
    وهذا - لعمرى - في الحدود التي ليس فيها باطل فأما حدود المنطقيين التي يدعون أنهم يصورون بها الحقائق فإنها باطلة يجمعون بها بين المختلفين ويفرقون بين المتماثلين.

    أقول: يقول الشيخ ويؤكد غير ما مرة: إن الحدود لا تفيد معرفة المحدود لمن لم يكن عرفه من قبل، وهنا يقول إن الرازي قد تفطن لما عليه أئمة الكلام وقرر في كتبه أن التصورات لا تكون مكتسبة بالحدود وهذا هو ما نقوله.
    وننقل كلام الرازي في الأربعين في أصول الدين في المسألة الأربعين في ضبط المقدمات التي يمكن الرجوع إليها في إثبات المطالب العقلية وهي خاتمة الكتاب ج 2 ص 312 وما بعدها قال:
    العلم إما تصور و إما تصديق. و التصورات إما أن يقال: إنها بأسرها مكتسبة، و هو باطل. لأنه يفضي إلى الدور أو التسلسل.
    و اما أن تكون كلها بديهية- و هو الذي أقول به- و إما أن يكون بعضها بديهيا و بعضها كسبيا. و الذي يدل على ما اخترته: هو أن التصور الذي يطلب اكتسابه. إن لم يكن مشعورا به أصلا، كان الذهن غافلا عنه، فيمتنع طلبه. و إن كان مشعورا به، كان تصوره حاضرا.
    ثم قال: أما القدماء. فقد احتجوا على قولهم: بأنا نجد من أنفسنا أنا نطلب تصور حقائق الأشياء. كقولنا: ما الملك؟ وما الروح؟ و ذلك يدل على أن التصورات قد تكون مكتسبة.
    واعلم: أن الجواب عنه مبني على مقدمة وهى: أنه لا يمكننا أن نتصور شيئا، إلا ما ندركه بإحدى الحواس الخمس، أو نجده من النفس، كالألم واللذة والفرح والغضب، أو ما يركبه العقل والخيال من أحد هذه الأمور كشجر من ياقوت، و بحر من زئبق.
    اذا عرفت هذا، فنقول: قول القائل: ما الملك؟ وما الروح؟ معناه: أنك تشير بهذا اللفظ إلى هذه [الصور] الحاضرة فى الذهن، فكان هذا الاستفهام فى تعيين المراد بهذا اللفظ.
    وأما التصديقات فلا شك أنها قسمان: بعضها بديهية، وبعضها كسبية. ولا شك أن المكتسب إنما يكتسب من تركيب البديهيات. اهـ.

  11. #31

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    ونحن نبين أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق وأن حدود أهل المنطق التي يسمونها حقيقية تفسد العقل والدليل على ذلك وجوه:
    أحدها: أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه فإنه إذا قال حد الإنسان مثلا أنه الحيوان الناطق أو الضاحك فهذه قضية خبرية ومجرد دعوى خلية عن حجة فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول وأما أن لا يكون فان كان عالما بذلك ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد وإن لم يكن عالما بصدقه بمجرد قول المخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله فقد تبين أنه على التقديرين ليس الحد هو الذي يفيده معرفة المحدود.
    فإن قيل: الحد ليس هو الجملة الخبرية وإنما هو مجرد قولك حيوان ناطق وهذا مفرد لا جملة وهذا السؤال وارد على أحد اصطلاحيهم فإنهم تارة يجعلون الحد هو الجملة كما يقول الغزالي وغيره وتارة يجعلون الحد هو المفرد المقيّد كالاسم وهو الذي يسمونه التركيب التقييدي كما يذكر ذلك الرازي ونحوه.
    قيل التكلم بالمفرد لا يفيد ولا يكون جوابا للسائل سواء كان موصوفا مركبا تركيبا تقييديا أو لم يكن كذلك.
    ولهذا لما مر بعض العرب بمؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله بالنصب قال: فعل ماذا.
    فإذا قيل: ما هذا قيل طعام فهذا خبر مبتدأ محذوف باتفاق الناس تقديره هذا طعام كقوله تعالى: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله} وقوله: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} إلى قوله: {قل الله} وكقوله: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} أي هم ثلاثة وهم خمسة وهم سبعة.
    ومنه قوله تعالى: {وقل الحق من ربكم} أي هذا الحق من ربكم ليس كما يظنه بعض الجهال أي قل القول الحق فان هذا لو أريد لنصب لفظ الحق والمراد إثبات أن القرآن حق ولهذا قال: {الحق من ربكم} ليس المراد ههنا بقول حق مطلق بل هذا المعنى مذكور في قوله: {وإذا قلتم فاعدلوا} وقوله: {ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق .
    ثم إذا قدر أن الحد هو المفرد فالمفرادات أسماء وغاية السائل أن يتصور مسماها لكن من أين له إذا تصور مسماها أن هذا المسمى هو المسئول عنه وأن هذا المسمى هو حقيقة المحدود؟.
    فان قيل يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك أو غير ذلك بل تصور إنسان.
    قيل فحينئذ يكون هذا كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه وهو دلالة الاسم على مسماه كما لو قيل الإنسان وهذا يحقق ما قلناه من أن دلالة الحد كدلالة الاسم وهذا هو قول أهل الصواب الذين يقولون الحد تفصيل ما دل عليه الاسم بالإجمال وحينئذ فيقال أن لا نزاع بين العقلاء أن مجرد الاسم لا يوجب تصوير المسمى لمن لم يتصوره بدون ذلك وإنما الاسم يفيد الدلالة عليه والإشارة إليه.
    أقول: أول الوجوه التي تدل على أن الحدود لا تفيد تصوير الحقائق هي: أن الحد مجرد قول الحاد ودعواه فقوله مثلا: حد الإنسان حيوان ناطق قضية خبرية ومجرد دعوى خلية عن حجة فإما أن يكون المستمع لها عالما بصدقها بدون هذا القول أو لا فإن كان الأول ثبت أنه لم يستفد هذه المعرفة بهذا الحد. وإن كان الثاني عنده فمجرد قول الخبر الذي لا دليل معه لا يفيده العلم، كيف وهو يعلم أنه ليس بمعصوم في قوله؟ فتبين على التقديرين أن الحد لا يفيد معرفة الحدود.
    فإن قيل: هذا الاعتراض إنما يرد على أحد اصطلاحي المناطقة وهو الذي يجعل الحد قضية خبرية كما يقوله الغزالي وغيره ولا يرد على من يجعل الحد هو المفرد المقيّد كالاسم وهو الذي يسمونه التركيب التقييدي كما يذكر ذلك الرازي ونحوه، وهذا هو المشهور.
    قلنا: التكلم بالمفرد لا يفيد ولا يكون جوابا لسائل ما الإنسان؟
    فإن قيل: بل يفيده مجرد تصور المسمى من غير أن يحكم أنه هو ذلك المسئول عنه مثلا أو غيره.
    قلنا: فحينئذ يكون كمجرد دلالة اللفظ المفرد على معناه وهو دلالة الاسم على مسماه كقولنا: كتاب، باب، شجرة، وهذا تحقيق ما قلناه: من أن دلالة الحد كدلالة الاسم، ومجرد الاسم لا يوجب تصور المسمى لمن لم يتصوره قبل ذلك بلا نزاع فكذلك الحد، وسيأتي مزيد بيان حول هذا.


  12. #32

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    ولهذا قالوا: إن المقصود باللغات ليس هو دلالة اللفظ المفرد على معناه وذلك لأن اللفظ المفرد لا يعرف دلالته على المعنى إن لم يعرف أنه موضوع له ولا يعرف أنه موضوع له حتى يتصور اللفظ والمعنى فلو كان المقصود بالوضع استفادة معاني الألفاظ المفردة لزم الدور.
    وإذا لم يكن المقصود من الأسماء تصوير معانيها المفردة ودلالة الحد كدلالة الاسم لم يكن المقصود من الحد تصوير معناه المفرد وإذا كان دلالة الاسم على مسماه مسبوقا بتصور مسماه وجب أن تكون دلالة الحد على المحدود مسبوقا بتصور المحدود وإذا كان كل من المحدود والمسمى متصورا بدون الاسم والحد وكان تصور المسمى والمحدود مشتركا في دلالة الحد والاسم على معناه امتنع أن تتصور المحدودات بمجرد الحدود كما يمتنع تصور المسميات بمجرد الأسماء وهذا هو المطلوب.
    ولهذا كان من المتفق عليه بين جميع أهل الأرض أن الكلام المفيد لا يكون إلا جملة تامة كاسمين أو فعل واسم.
    هذا مما اعترف به المنطقيون وقسموا الألفاظ إلى اسم وكلمة وحرف يسمى أداة وقالوا المراد ب الكلمة ما يريده النحاة بلفظ الفعل لكنهم مع هذا يناقضون ويجعلون ما هو اسم عند النحاة حرفا في اصطلاحهم فالضمائر ضمائر الرفع والنصب والجر والمتصلة والمنفصلة مثل قولك رأيته ومر بي فإن هذه أسماء ويسميها النحاة الأسماء المضمرة والمنطقيون يقولون أنها في لغة اليونان من باب الحروف ويسمونها الخوالف كأنها خلف عن الأسماء الظاهرة.
    فأما الاسم المفرد فلا يكون كلاما مفيدا عند أحد من أهل الأرض بل ولا أهل السماء وإن كان وحده كان معه غيره مضمرا أو كان المقصود به تنبيها أو إشارة كما يقصد بالأصوات التي لم توضع لمعنى لا أنه يقصد به المعاني التي تقصد بالكلام.
    ولهذا عد الناس من البدع ما يفعله بعض النساك من ذكر اسم الله وحده بدون تأليف كلام فان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله" رواه أبو حاتم في صحيحه وقال: "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" رواه مالك وغيره.
    وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعلم أمته ذكر الله تعالى بالجمل التامة مثل "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" "أفضل الكلام بعد القرآن: أربع وهي من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" رواه مسلم وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأن أقول سبحان الله والحمد لله
    ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وقال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وأمثال ذلك.
    فظن طائفة من الناس أن ذكر الاسم المفرد مشروع بل ظنه بعضهم أفضل في حق الخاصة من قول لا إله إلا الله ونحوها وظن بعضهم أن ذكر الاسم المضمر وهو (هو) هو أفضل من ذكر الاسم المظهر.
    وأخرجهم الشيطان إلى أن يقولوا لفظا لا يفيد إيمانا ولا هدى بل دخلوا بذلك في مذهب أهل الزندقة والإلحاد أهل وحده الوجود الذين يجعلون وجود المخلوقات وجود الخالق ويقول احدهم ليس إلا الله والله فقط ونحو ذلك.
    وربما احتج بعضهم عليه بقوله تعالى: {قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون} وظنوا أنه مأمور بان يقول الاسم مفردا وإنما هو جواب الاستفهام حيث قال: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} قال الله تعالى: {قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله} أي الله انزل الكتاب الذي جاء به موسى.
    وإذا عرف أن مجرد الإسم ومجرد الحد لا يفيد ما يفيده الكلام بحال علم أن الحد خبر مبتدإ محذوف لتكون جملة تامة.
    ثم قد بينا فساد قولهم سواء جعل الحد مفردا كالأسماء أو مركبا كالجمل وأنه على التقديرين لا يفيد تصوير المسمى وهو المطلوب.

    أقول: يقول العلماء إن المقصود باللغات ليس هو دلالة اللفظ المفرد على معناه.
    وذلك لأن اللفظ المفرد لا يعرف دلالته على المعنى إن لم يعرف أنه موضوع له ولا يعرف أنه موضوع له حتى يتصور اللفظ والمعنى فلو كان المقصود بالوضع استفادة معاني الألفاظ المفردة لزم الدور.
    فإذا قيل خبز، مثلا لم يكن المقصود بهذه اللفظة أن يصور معنى الخبز لم لمن يراه بل التنبيه على معناها وإخطارها في الذهن لمن يعرفه.
    وإذا لم يكن المقصود من الأسماء تصوير معانيها المفردة، وكانت دلالة الحد كدلالة الاسم، إذا لم يكن المقصود من الحد تصوير معناه المفرد.
    وإذا كان دلالة الاسم على مسماه مسبوقا بتصور مسماه، وجب أن تكون دلالة الحد على المحدود مسبوقا بتصور المحدود فيمتنع أن تتصور المحدودات بمجرد الحدود كما يمتنع تصور المسميات بمجرد الأسماء وهذا هو المطلوب.
    وإذا عرف أن مجرد الإسم ومجرد الحد لا يفيد ما يفيده الكلام المفيد بحال علم أن الحد خبر مبتدإ محذوف لتكون جملة تامة.
    ثم إنا قد بينا فساد قولهم سواء جعل الحد مركبا كالجمل-وهو الصحيح- أو مفردا كالاسم وأنه على التقديرين لا يفيد تصوير المسمى وهو المطلوب.

  13. #33

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    الثاني: أنهم يقولون الحد لا يمنع ولا يقوم عليه دليل وإنما يمكن إبطاله بالنقض والمعارضة بخلاف القياس فإنه يمكن فيه الممانعة والمعارضة.
    فيقال: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد إلا بقوله وقوله محتمل للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بقوله.
    ومن العجب أن هؤلاء يزعمون أن هذه طرق عقلية يقينية ويجعلون العلم بالمفرد أصلا للعلم بالمركب ويجعلون العمدة في ذلك على الحد الذي هو قول الحاد بلا دليل وهو خبر واحد عن أمر عقلي لا حسي يحتمل الصواب والخطأ والصدق والكذب ثم يعيبون على من يعتمد في الأمور السمعية على نقل الواحد الذي معه من القرائن ما يفيد المستمع العالم بها العلم اليقيني زاعمين أن خبر الواحد لا يفيد العلم ولا ريب أن مجرد خبر الواحد الذي لا دليل على صدقة لا يفيد العلم لكن هذا بعينه قولهم في الحد وإنه خبر واحد لا دليل على صدقه بل ولا يمكن عندهم إقامة دليل على صدقه فلم يكن الحد مفيدا لتصور المحدود.
    ولكن إن كان المستمع قد تصور المحدود قبل هذا أو تصوره معه أو بعده بدون الحد وعلم أن ذلك حده علم صدقه في حده وحينئذ فلا يكون الحد أفاد التصوير وهذا بين.
    وتلخيصه أن المحدود بالحد لا يمكن بدون العلم بصدق قول الحاد وصدق قوله لا يعلم بمجرد الخبر فلا يعلم المحدود بالحد.
    ومن قال أنا أريد بالحد المفرد لم يكن قوله مفيدا لشيء أصلا فإن التكلم بالاسم المفرد لا المستمع شيئا بل إن كان تصور المحدود بدون هذا اللفظ كان قد تصوره بدون هذا اللفظ المفرد وإن لم يكن تصوره لا قبله ولا بعده.

    أقول: يقولون إن الحد لا يمنع ولا يقام عليه دليل بل ينقض أو يعارض فقط، فحينئذ نقول: إذا لم يكن الحاد قد أقام دليلا على صحة الحد امتنع أن يعرف المستمع المحدود به إذا جوز عليه الخطأ فإنه إذا لم يعرف صحة الحد إلا بقوله وقوله محتمل للصدق والكذب امتنع أن يعرفه بمجرد قوله.

  14. #34

    افتراضي رد: تعليقات على كتاب الرد على المنطقيين (قسم التصورات)

    الثالث: أن يقال لو كان الحدُّ مفيدا لتصوّر المحدود لم يحصل ذلك إلا بعد العلم بصحة الحد، فإنه دليل التصور وطريقه وكاشفه، فمن الممتنع أن نعلم صحة المعرَّف المحدود قبل العلم بصحة المعرِّف.
    والعلم بصحة الحد لا يحصل إلا بعد العلم بالمحدود إذ الحد خبر عن مخبَرٍ [عنه] هو المحدود، فمن الممتنع أن يعلم صحة الخبر وصدقه قبل تصور المخبَر عنه من غير تقليد للمخبِر وقَبولِ قوله فيما يشترك في العلم به المخبَر والمخبِر ليس هو من باب الأخبار عن الأمور الغائبة.

    أقول: يريد أن يقول الشيخ لو كان الحد يفيد التصور فإن ذلك لن يحصل إلا بعد العلم بصحة الحد نفسه، والعلم بصحة الحد نفسه لا يحصل إلا بعد تصور المحدود، اللهم إلا إذا قلّدَ الحاد في أمر ليس هو من باب الأخبار الغائبة بل فيما يشترك في العلم به الحاد والمستمع للحد.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •