بسم الله الرحمن الرحيمقال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله:
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة لما رأيت من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه وكتبت في ذلك شيئا.
ثم لما كنت بالإسكندرية اجتمع بي من رأيته يعظم المتفلسفة بالتهويل والتقليد فذكرت له بعض ما يستحقونه من التجهيل والتضليل. واقتضى ذلك أني كتبت في قعدة بين الظهر والعصر من الكلام على المنطق ما علقته تلك الساعة، ثم تعقبته بعد ذلك في مجالس إلى أن تم. ولم يكن ذلك من همتي فإن همتي إنما كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات.
وتبين لي أن كثيرا مما ذكروه في المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات، مثل ما ذكروه من تركّب الماهيات من الصفات التي سموها ذاتيات، وما ذكروه من حصر طرق العلم فيما ذكروه من الحدود والأقيسة البرهانيات، بل فيما ذكروه من الحدود التي بها تعرف التصورات، بل ما ذكروه من صور القياس ومواده اليقينيات.
فأراد بعض الناس أن يكتب ما علقته إذ ذاك من الكلام عليهم في المنطق فأذنت في ذلك لأنه يفتح باب معرفة الحق، وإن كان ما فُتح من باب الرد عليهم يحتمل أضعاف ما علقته تلك الساعة.
أقول: هنا ثلاث وقفات:
الأولى: ما يتعلق بأهمية المنطق عند الشيخ فهو كان دائما يرى أن المنطق لا يحتاج إليه الذكي من الناس لأنه يملك القدرة على التفكير السليم والاستنتاج الصحيح، وأما البليد فلا ينتفع به لعسر مباحثه بالنسبة إليه، ولأن تطلب من البليد أن يحمل الصخور على كاهله أهون عليه من أن يجلس ساعة يفكر ويتأمل.
نعم لا يُنْكَر أن في المنطق ما قد يستفيدُ ببعضه من كان في كفرٍ وضلالٍ وتقليدٍ لمن نشأ بينهم من الجهَّال، كعوامِّ النصارى واليهود والرافضة ونحوهم، فأورثهم المنطقُ تركَ ما عليه أولئك من تلك العقائد... ففي الجملة، ما يحصلُ به لبعض الناس مِن شَحْذِ ذهنٍ أو رجوعٍ عن باطل أو تعبيرٍ عن حقٍّ، فإنما هو لكونه كان في أسوأ حال، لا لما في صناعة المنطق من الكمال. نقض المنطق ص 286.
الثانية: كان الشيخ لفترة من عمره يحسب أن جميع قضايا المنطق صحيحة وإن كانت لا تخلو من حشو وتطويل وكان الذكي لا يحتاج إليه وذلك لما رأى من صدق كثير من قضاياه.
وهذه النظرة للمنطق أعني اعتقاد صحة قضاياه في نفسها قد شاركه فيها كثير من العلماء فقد قال الشيخ: كان كثير من فضلاء المسلمين وعلمائهم يقولون: المنطق كالحساب ونحوه مما لا يعلم به صحة الإسلام ولا فساده ولا ثبوته ولا انتفاؤه. فهذا كلام من رأى ظاهره وما فيه من الكلام على الأمور المفردة لفظا ومعنى ثم على تأليف المفردات وهو القضايا ونقيضها وعكسها المستوي وعكس النقيض ثم على تأليفها بالحد والقياس وعلى مواد القياس وإلا فالتحقيق: أنه مشتمل على أمور فاسدة ودعاوى باطلة كثيرة. نقض المنطق 341.
ولعل سبب هذا أن الضلال الذي فيه إنما ينشأ من القول بلوازم بعض مسائله والتي لا تكاد تظهر إلا لكبار الحذاق، وهذا ما يجعل الكثير من الناس يدرس ويدرّس بعض مختصرات المنطق ولا يتغير حاله ولا يشعر في نفسه أنه مكذب بشيء من الحق الذي كان يعلمه من القرآن والسنة قبل معرفة المنطق وهذا ما أشار إليه الشيخ في موضع آخر حيث قال: ..قد يطعن في هذا من لم يفهم حقيقة المنطق وحقيقة لوازمه، ويظن أنه في نفسه لا يستلزم صحة الإسلام ولا فساده، ولا ثبوت حق ولا انتفاءه، وإنما هو آلة تعصم مراعاتها عن الخطأ في النظر، وليس الأمر كذلك، بل كثير مما ذكروه في المنطق يستلزم السفسطة في العقليات والقرمطة في السمعيات، ويكون من قال بلوازمه ممن قال الله تعالى فيه: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.
والكلام في هذا مبسوط في غير هذا الموضوع، وإنما يلتبس على كثير من الناس بسبب ما في ألفاظه من الإجمال والاشتراك والإبهام، فإذا فُسر المراد بتلك الألفاظ انكشفت حقيقة المعاني المعقولة. درء التعارض 1/218.
الثالثة: ذكر الشيخ أنه تبين له لاحقا أن كثيرا من مسائل المنطق هي من أصول ضلال الفلاسفة في باب الإلهيات حينما يتكلمون على الباري سبحانه، وذكر أهم تلك المسائل التي سيدير الكلام عليها وهي:
تركب الماهيات والحقائق الخارجية من الذاتيات.
حصر طرق العلم في الحدود المنطقية والبرهان الأرسطي وأنه لا يُنال المطلوب التصوري إلا بالحد، ولا ينال المطلوب التصديقي إلا بالقياس.
كون الحدود تفيد تصور الأشياء.
ما ذكروه في صور القياس كتفريقهم بين قياس الشمول وقياس التمثيل وما ذكروه في مواده البرهانية، مثلما ذكروه في مواد البرهان من قبول بعض القضايا التي سموها يقينية واعتقدوها كلية، وليس الأمر كذلك، وردهم لبعض القضايا التي سموها مشهورات ووهميات، مع كونها قد تكون أقوى من كثير من القضايا التي سموها يقينية. درء تعارض العقل والنقل. 7/344.