الحجة الرابعة ومبناها على ثلاثة أمور:
الأول: أن الحدود لا يكاد يسلم منها شيء بحسب مقتضى صناعتهم، إلا ما يدعيه بعضهم وينازعه فيه آخرون.
الثاني: وهذا يدل على أنه لا يحصل بها معرفة وتصور لعدم استقامتها.
الثالث: وإذا لم يحصل تصور لم يحصل تصديق فلا يكون عند بني آدم أي معرفة وهذه سفسطة عظيمة.
واعترض على الأصل الأول بأنه مبالغة من الشيخ وأنه لا توجد اختلافات بهذا الحجم الذي يصوره ابن تيمية، وأن الاختلافات إن وجدت فهي في الرسوم واختلافهم فيها اختلاف تنوع لا تضاد، وأما الحدود الحقيقية فهم متفقون عليها في علومهم.
أقول: هذه منازعة في الوجود يعذر فيها صاحبها فإنه لم يقف على تلك النزاعات وقد ذكر الشيخ شواهد عديدة، نعم قد تسلم بعض الحدود عند جماعة من أهل العلم ويتناقلونها في كتبهم لكن لا يمنع أنه ينازعه فيه آخرون ويكفي الاطلاع على شروحات الكتب القديمة وحواشيها في النحو والأصول والمنطق وغيرها لتجد النزاع وما من تعريف إلا ويتأتى فيه الاعتراض على أصول المنطق بوجه ما لاسيما على الحدود، وكما قلنا أن كثيرا من الناس يتسالمون مجموعة منها لكن هذا لا يمنع الاعتراض عليها من بعض أهل التحقيق.
وأما الاعتراض الثاني فهو في غير محله فإن الاعتراض عليها عادة يكون بأمور مفسدة للتعريف كعدم الجمع وعدم المنع أو الدور.
واعترض أيضا بأن هذا تشكيك في سائر الحدود العلمية ويبطل أصل تدوين العلوم كلها.
والجواب هذا غير مسلم بل مقصود الشيخ التشكيك بمدى فائدة الحدود المنطقية والصناعة المنطقية فحسب، وعلوم الناس غنية عن المنطق وعن تلك الاعتراضات، وقد ذكر الشيخ في موضع آخر في كتابه نقض المنطق أن أعظم كتاب في النحو في الدنيا هو كتاب سيبويه وفيه من المعارف والعلوم ما ليس في غيره ولم يجر على صناعة الحدود ولم يعرّف الاسم ولا غيره واكتفى بالمثال ونحوه مما يدل على أن حصول التصور لا يتوقف على تحرير حد جامع مانع وأن من خاض بالحدود على طريقة أهل المنطق تنازعوا تنازعا عظيما حتى أنهم ذكروا للاسم سبعين حدا لم يصح منها شيء.
واعترض أيضا بما حاصله: أن الحدود الحقيقية يتوقف عليها التصور التام فحسب فبالتالي إذا فسدت ولم تسلم فهذا لا يمنع من تصور الأشياء بوجه ما بغير الحد الحقيقي أي بالرسم، والتصديق لا يتوقف على التصور التام بل يكفي فيه أن يكون بوجه ما.
وأقول: هذا كلام صحيح ولكني أمنع أن يكون مقصود الشيخ هو: أن الحدود الحقيقية لا يسلم منها شيء عندهم، وأما الرسوم فهي صحيحة عندهم.
فإن الحدود هنا تتناول الحد الذاتي والعرضي، كما أن طبيعة الاعتراضات لم تقتصر على عدم استيفاء الذاتيات في التعريف بل تناول عدم الجامعية والمانعية والدور ونحوه مما يعود على الجميع بالإبطال، بل لقائل أن يقول إذا كانت الحدود لم تسلم وهي محط اهتمام القوم فكيف للرسوم أن تسلم!
وصورة المسألة هو شخص لم يتصور الشيء إطلاقا بل لم يسمع باسمه فذكر له حد ثم أفسد ثم ذكر له آخر ثم أفسد وآخر ثم أفسد فلن يحصل له تصور معتد به في العلوم تنبني عليه الأحكام والتصديقات، أما سائر طلاب العلوم فهم يسيرون خلف كتاب أو متن واحد فلا يجدون هذه الحيرة والاضطراب فإن ذلك موقوف على الاطلاع على النزاع، ونظير هذا ما يجده المرء في نفسه كثيرا حينما يطلع على النزاع في مسألة ما لم يحكمها وكل يسوق دليله وكل يفسد دليل الآخر ويرد على إشكالات الأول حتى يخرج وما يدري ماذا يعتقد. هكذا أفهم المقام. والله أعلم.