مشاهدة النسخة كاملة : تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
ابو وليد البحيرى
2020-07-09, 10:33 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (1)
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) .
لَمْ يَذْكُرْ لِحَمْدِهِ هُنَا ظَرْفًا مَكَانِيًّا وَلَا زَمَانِيًّا ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الرُّومِ أَنَّ مِنْ ظُرُوفِهِ الْمَكَانِيَّةِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي قَوْلِهِ : ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ أَنَّ مِنْ ظُرُوفِهِ الزَّمَانِيَّةِ : الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ فِي قَوْلِهِ : ( وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ) ، وَقَالَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ سَبَأٍ : ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي ( الْحَمْدُ ) لِاسْتِغْرَاقِ جَمِيعِ الْمَحَامِدِ . وَهُوَ ثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ وَفِي ضِمْنِهِ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِهِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( رَبِّ الْعَالَمِينَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا الْعَالَمُونَ ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ : ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ) [ 26 \ 23 ، 24 ] .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : اشْتِقَاقُ الْعَالَمِ مِنَ الْعَلَامَةِ ; لِأَنَّ وُجُودَ الْعَالَمِ عَلَامَةٌ لَا شَكَّ فِيهَا عَلَى وُجُودِ خَالِقِهِ مُتَّصِفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ ، قَالَ تَعَالَى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) [ 3 \ 190 ] ، وَالْآيَةُ فِي اللُّغَةِ : الْعَلَامَةُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )
مَا وَصْفَانِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَاسْمَانِ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، مُشْتَقَّانِ مِنَ الرَّحْمَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ ، وَالرَّحْمَنُ أَشَدُّ مُبَالَغَةً مِنَ الرَّحِيمِ ; لِأَنَّ الرَّحْمَنَ هُوَ ذُو الرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ فِي الدُّنْيَا ، وَلِلْمُؤْمِنِي نَ فِي الْآخِرَةِ ، وَالرَّحِيمُ ذُو الرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ . وَفِي كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ حِكَايَةُ الِاتِّفَاقِ عَلَى هَذَا . وَفِي تَفْسِيرِ بَعْضِ السَّلَفِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَيَدُلُّ لَهُ الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنْ عِيسَى كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ ، إِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : الرَّحْمَنُ رَحْمَنُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَالرَّحِيمُ رَحِيمُ [ ص: 6 ] الْآخِرَةِ . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا حَيْثُ قَالَ : ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ ) ، وَقَالَ : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) ، فَذَكَرَ الِاسْتِوَاءَ بِاسْمِهِ الرَّحْمَنُ لِيَعُمَّ جَمِيعَ خَلْقِهِ بِرَحْمَتِهِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ ) أَيْ : وَمِنْ رَحْمَانِيَّتِه ِ : لُطْفُهُ بِالطَّيْرِ ، وَإِمْسَاكُهُ إِيَّاهَا صَافَّاتٍ وَقَابِضَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ . وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) ، وَقَالَ : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيمًا ) فَخَصَّهُمْ بِاسْمِهِ الرَّحِيمِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا قَرَّرْتُمْ ، وَبَيْنَ مَا جَاءَ فِي الدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَحْمَانُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَرَحِيمُهُمَا " . فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، أَنَّ الرَّحِيمَ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِين َ كَمَا ذَكَرْنَا ، لَكِنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ ؛ بَلْ يَشْمَلُ رَحْمَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا ، فَيَكُونُ مَعْنَى : " رَحِيمُهُمَا " رَحْمَتُهُ بِالْمُؤْمِنِين َ فِيهِمَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِين َ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا : أَنَّ ذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِين َ رَحِيمًا ) لِأَنَّ صَلَاتَهُ عَلَيْهِمْ وَصَلَاةَ مَلَائِكَتِهِ وَإِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ رَحْمَةٌ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا . وَإِنْ كَانَتْ سَبَبَ الرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) [ 9 \ 117 ] فَإِنَّهُ جَاءَ فِيهِ بِالْبَاءِ الْمُتَعَلِّقَة ِ بِالرَّحِمِ الْجَارَّةِ لِلضَّمِيرِ الْوَاقِعِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرِي نَ وَالْأَنْصَارِ ، وَتَوْبَتُهُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ سَبَبَ رَحْمَةِ الْآخِرَةِ أَيْضًا . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَوْلُهُ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ )
لَمْ يُبَيِّنْهُ هُنَا ، وَبَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ : ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا ) الْآيَةَ [ 82 \ 17 ، 18 ، 19 ] .
وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ فِي الْآيَةِ الْجَزَاءُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ ) أَيْ : جَزَاءُ أَعْمَالِهِمْ بِالْعَدْلِ .
[ ص: 7 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )
أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ; لِأَنَّ مَعْنَاهَا مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ : نَفْيٌ وَإِثْبَاتٌ . فَالنَّفْيُ : خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ . وَالْإِثْبَاتُ : إِفْرَادُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ . وَقَدْ أَشَارَ إِلَى النَّفْيِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِتَقْدِيمِ الْمَعْمُولِ الَّذِي هُوَ ( إِيَّاكَ ) وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ فِي مَبْحَثِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي هُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ . وَفِي الْمَعَانِي فِي مَبْحَثِ الْقَصْرِ : أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ . وَأَشَارَ إِلَى الْإِثْبَاتِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ : ( نَعْبُدُ ) .
وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَاهَا الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) الْآيَةَ [ 2 \ 21 ] ، فَصَرَّحَ بِالْإِثْبَاتِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ : ( اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) ، وَصَرَّحَ بِالنَّفْيِ مِنْهَا فِي آخِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِقَوْلِهِ : ( فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ 2 \ 22 ] ، وَكَقَوْلِهِ : ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) فَصَرَّحَ بِالْإِثْبَاتِ بِقَوْلِهِ : ( أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ) وَبِالنَّفْيِ بِقَوْلِهِ : ( وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ، وَكَقَوْلِهِ : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) [ 2 \ 256 ] فَصَرَّحَ بِالنَّفْيِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ : ( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ) ، وَبِالْإِثْبَات ِ بِقَوْلِهِ : ( وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ ) ، وَكَقَوْلِهِ : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي ) [ 43 \ 26 ، 27 ] ، وَكَقَوْلِهِ : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) [ 21 \ 25 ] وَقَوْلِهِ : ( وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) [ 43 \ 45 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) أَيْ : لَا نَطْلُبُ الْعَوْنَ إِلَّا مِنْكَ وَحْدَكَ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ كُلُّهُ بِيَدِكَ وَحْدَكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنْهُ مَعَكَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ . وَإِتْيَانُهُ بِقَوْلِهِ : ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) بَعْدَ قَوْلِهِ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَوَكَّلَ إِلَّا عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ بِيَدِهِ الْأَمْرُ . وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا وَاضِحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ) الْآيَةَ [ 11 \ 123 ] ، وَقَوْلِهِ : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ) الْآيَةَ [ 9 \ 129 ] وَقَوْلِهِ : ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا ) [ 73 \ 9 ] وَقَوْلِهِ :
[ ص: 8 ] ( قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ) [ 67 \ 29 ] وَإِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ . وَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ : ( فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِين َ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) .
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ : يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ صِحَّةُ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَنْ أَمَرَنَا اللَّهُ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ - أَعْنِي الْفَاتِحَةَ - بِأَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُمْ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صِرَاطَهُمْ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ .
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) وَقَدْ بَيَّنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ ، فَعَدَّ مِنْهُمُ الصِّدِّيقِينَ . وَقَدْ بَيَّنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ الصِّدِّيقِينَ ، فَاتَّضَحَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، الَّذِينَ أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نَسْأَلَهُ الْهِدَايَةَ إِلَى صِرَاطِهِمْ ، فَلَمْ يَبْقَ لَبْسٌ فِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ، وَأَنَّ إِمَامَتَهُ حَقٌّ .
الثَّانِي : قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الصِّدِّيقِينَ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ صِدِّيقَةٌ فِي قَوْلِهِ : ( وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ) [ 5 \ 75 ] وَإِذَنْ فَهَلْ تَدْخُلُ مَرْيَمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) أَوْ لَا ؟
الْجَوَابُ : أَنَّ دُخُولَهَا فِيهِمْ يَتَفَرَّعُ عَلَى قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا مَعْرُوفَةٍ ، وَهِيَ : هَلْ مَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ مِنَ الْجُمُوعِ الصَّحِيحَةِ الْمُذَكَّرَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَخْتَصُّ بِجَمَاعَةِ الذُّكُورِ تَدْخُلُ فِيهِ الْإِنَاثُ أَوْ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُنَّ يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ ، وَعَلَيْهِ : فَمَرْيَمُ دَاخِلَةٌ فِي الْآيَةِ ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ : إِجْمَاعُ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى تَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ فِي الْجَمْعِ .
وَالثَّانِي : وُرُودُ آيَاتٍ تَدُلُّ عَلَى دُخُولِهِنَّ فِي الْجُمُوعِ الصَّحِيحَةِ الْمُذَكَّرَةِ وَنَحْوِهَا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ نَفْسِهَا : ( وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) [ 66 \ 12 ] ، وَقَوْلِهِ فِي امْرَأَةِ الْعَزِيزِ : [ ص: 9 ] ( يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ) [ 12 \ 29 ] ، وَقَوْلِهِ فِي بِلْقِيسَ : ( وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ) [ 27 \ 43 ] ، وَقَوْلِهِ فِيمَا كَالْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ) الْآيَةَ [ 2 \ 38 ] ; فَإِنَّهُ تَدْخُلُ فِيهِ حَوَّاءُ إِجْمَاعًا .
وَذَهَبَ كَثِيرٌ إِلَى أَنَّهُنَّ لَا يَدْخُلْنَ فِي ذَلِكَ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ . وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِآيَاتٍ كَقَوْلِهِ : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات ِ وَالْمُؤْمِنِين َ وَالْمُؤْمِنَات ِ ) إِلَى قَوْلِهِ : ( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) [ 33 \ 35 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) [ 24 \ 31 ] ، ثُمَّ قَالَ : ( وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ) الْآيَةَ [ 24 \ 31 ] ، فَعَطْفُهُنَّ عَلَيْهِمْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ دُخُولِهِنَّ . وَأَجَابُوا عَنْ حُجَّةِ أَهْلِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ تَغْلِيبَ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ فِي الْجَمْعِ لَيْسَ مَحَلَّ نِزَاعٍ . وَإِنَّمَا النِّزَاعُ فِي الَّذِي يَتَبَادَرُ مِنَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ وَنَحْوِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ . وَعَنِ الْآيَاتِ بِأَنَّ دُخُولَ الْإِنَاثِ فِيهَا إِنَّمَا عُلِمَ مِنْ قَرِينَةِ السِّيَاقِ وَدَلَالَةِ اللَّفْظِ ، وَدُخُولُهُنَّ فِي حَالَةِ الِاقْتِرَانِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ لَا نِزَاعَ فِيهِ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَمَرْيَمُ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي الْآيَةِ وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ] وَمَا شُمُولُ مَنْ لِلْأُنْثَى جَنَفُ وَفِي شَبِيهِ الْمُسْلِمِينَ اخْتَلَفُوا
وَقَوْلُهُ : ( غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) قَالَ جَمَاهِيرُ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ : ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) الْيَهُودُ ، وَ " الضَّالُّونَ " النَّصَارَى . وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ . وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَإِنْ كَانُوا ضَالِّينَ جَمِيعًا مَغْضُوبًا عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ، فَإِنَّ الْغَضَبَ إِنَّمَا خُصَّ بِهِ الْيَهُودُ ، وَإِنْ شَارَكَهُمُ النَّصَارَى فِيهِ ; لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَيُنْكِرُونَهُ ، وَيَأْتُونَ الْبَاطِلَ عَمْدًا ، فَكَانَ الْغَضَبُ أَخَصَّ صِفَاتِهِمْ . وَالنَّصَارَى جَهَلَةٌ لَا يَعْرِفُونَ الْحَقَّ ، فَكَانَ الضَّلَالُ أَخَصَّ صِفَاتِهِمْ .
وَعَلَى هَذَا فَقَدَ يُبَيِّنُ أَنَّ ( الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ) الْيَهُودَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهِمْ : ( فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ) الْآيَةَ [ 2 \ 90 ] ، وَقَوْلُهُ فِيهِمْ أَيْضًا : ( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) الْآيَةَ [ 5 \ 60 ] ، وَقَوْلُهُ : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ ) الْآيَةَ [ 7 \ 152 ] ، وَقَدْ يُبَيِّنُ أَنَّ ( الضَّالِّينَ ) النَّصَارَى قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) [ 5 \ 77 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-07-09, 10:35 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (2)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
[ ص: 10 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ )
صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ ( هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ) ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْآيَةِ - أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ الْمَعْرُوفِ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ - أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّقِينَ لَيْسَ هَذَا الْقُرْآنُ هُدًى لَهُمْ ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ) [ 41 \ 44 ] وَقَوْلِهِ : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ) وَقَوْلِهِ : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) [ 9 \ 124 ، 125 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) الْآيَتَيْنِ [ 5 \ 64 ، 68 ] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْهُدَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْهُدَى الْخَاصُّ ؛ الَّذِي هُوَ التَّفَضُّلُ بِالتَّوْفِيقِ إِلَى دِينِ الْحَقِّ ، لَا الْهُدَى الْعَامُّ ؛ الَّذِي هُوَ إِيضَاحُ الْحَقِّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )
عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ " بِمَنْ " التَّبْعِيضِيَّ ةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ يُنْفِقُ لِوَجْهِ اللَّهِ بَعْضَ مَالِهِ لَا كُلِّهِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ ، وَالَّذِي يَنْبَغِي إِمْسَاكُهُ . وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الْقَدْرَ الَّذِي يَنْبَغِي إِنْفَاقُهُ : هُوَ الزَّائِدُ عَلَى الْحَاجَةِ وَسَدِّ الْخَلَّةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا ) [ 2 \ 219 ] ، وَالْمُرَادُ بِالْعَفْوِ : الزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَاتِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( حَتَّى عَفَوْا ) [ 7 \ 95 ] ، أَيْ : كَثُرُوا ، وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ .
[ ص: 11 ] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْعَفْوُ نَقِيضُ الْجَهْدِ ، وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ مَا لَا يَبْلُغُ إِنْفَاقُهُ مِنْهُ الْجَهْدَ وَاسْتِفْرَاغَ الْوُسْعِ . وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الطَّوِيلُ ]
خُذِي الْعَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي وَلَا تَنْطِقِي فِي سَوْرَتِي حِينَ أَغْضَبُ
وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِحٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَبَقِيَّةُ الْأَقْوَالِ ضَعِيفَةٌ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) [ 17 \ 29 ] فَنَهَاهُ عَنِ الْبُخْلِ بِقَوْلِهِ : ( وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) وَنَهَاهُ عَنِ الْإِسْرَافِ بِقَوْلِهِ : ( وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) ، فَيَتَعَيَّنُ الْوَسَطُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ) [ 25 \ 67 ] فَيَجِبُ عَلَى الْمُنْفِقِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجُودِ وَالتَّبْذِيرِ ، وَبَيْنَ الْبُخْلِ وَالِاقْتِصَادِ . فَالْجُودُ غَيْرُ التَّبْذِيرِ ، وَالِاقْتِصَادُ غَيْرُ الْبُخْلِ . فَالْمَنْعُ فِي مَحَلِّ الْإِعْطَاءِ مَذْمُومٌ . وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ : ( وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ) ، وَالْإِعْطَاءُ فِي مَحَلِّ الْمَنْعِ مَذْمُومٌ أَيْضًا وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ : ( وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ) . وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : [ الْبَسِيطُ ]
لَا تَمْدَحَنَّ ابْنَ عَبَّادٍ وَإِنْ هَطَلَتْ يَدَاهُ كَالْمُزْنِ حَتَّى تَخْجَلَ الدِّيَمَا
فَإِنَّهَا فَلَتَاتٌ مِنْ وَسَاوِسِهِ يُعْطِي وَيَمْنَعُ لَا بُخْلًا وَلَا كَرَمَا
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَحْمُودَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَصْرِفُهُ الَّذِي صُرِفَ فِيهِ مِمَّا يُرْضِي اللَّهَ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالْأَقْرَبِين َ ) الْآيَةَ [ 2 \ 215 ] وَصَرَّحَ بِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ حَسْرَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِهِ : ( فَسَيُنْفِقُونَ هَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ) الْآيَةَ [ 8 \ 36 ] وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
إِنَّ الصَّنِيعَةَ لَا تُعَدُّ صَنِيعَةً حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الَّذِي قَرَّرْتُمْ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَحْمُودَ هُوَ إِنْفَاقُ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ الضَّرُورِيَّةِ ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى قَوْمٍ بِالْإِنْفَاقِ وَهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَا أَنْفَقُوا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [ 59 \ 9 ] .
[ ص: 12 ] فَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ - وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ - هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا ، فَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَكُونُ الْإِيثَارُ مَمْنُوعًا . وَذَلِكَ كَمَا إِذَا كَانَتْ عَلَى الْمُنْفِقِ نَفَقَاتٌ وَاجِبَةٌ ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَنَحْوِهَا فَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ ، وَتَرَكَ الْفَرْضَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ " وَكَأَنْ يَكُونَ لَا صَبْرَ عِنْدَهُ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ فَيُنْفِقُ مَالَهُ وَيَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ يَسْأَلُهُمْ مَالَهُمْ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ ، وَالْإِيثَارُ فِيمَا إِذَا كَانَ لَمْ يُضَيِّعْ نَفَقَةً وَاجِبَةً وَكَانَ وَاثِقًا مِنْ نَفْسِهِ بِالصَّبْرِ وَالتَّعَفُّفِ وَعَدَمِ السُّؤَالِ .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) يَعْنِي بِهِ الزَّكَاةَ ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) الْآيَةَ ، لَا يَخْفَى أَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ :
( وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ) مُحْتَمِلَةٌ فِي الْحَرْفَيْنِ أَنْ تَكُونَ عَاطِفَةً عَلَى مَا قَبْلِهَا ، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافِيَّ ةً ، وَلَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ هُنَا ، وَلَكِنْ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ قَوْلَهُ ( وَعَلَى سَمْعِهِمْ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ ( عَلَى قُلُوبِهِمْ ) ، وَأَنَّ قَوْلَهُ ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ ) اسْتِئْنَافٌ ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ ( غِشَاوَةٌ ) وَسَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالنَّكِرَةِ فِيهِ اعْتِمَادُهَا عَلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ قَبْلَهَا ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ تَقْدِيمُ هَذَا الْخَبَرِ ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَوَّغَ الِابْتِدَاءَ بِالْمُبْتَدَأِ كَمَا عَقَدَهُ فِي [ الْخُلَاصَةِ ] بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
وَنَحْوَ عِنْدِي دِرْهَمٌ وَلِي وَطَرْ مُلْتَزَمٌ فِيهِ تَقُدُّمُ الْخَبَرْ
فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْخَتْمَ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ ، وَأَنَّ الْغِشَاوَةَ عَلَى الْأَبْصَارِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) [ 45 \ 23 ] ، وَالْخَتْمُ : الِاسْتِيثَاقُ مِنَ الشَّيْءِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْهُ دَاخِلٌ فِيهِ وَلَا يَدْخُلَ فِيهِ خَارِجٌ عَنْهُ ، وَالْغِشَاوَةُ : الْغِطَاءُ عَلَى الْعَيْنِ يَمْنَعُهَا مِنَ الرُّؤْيَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ : [ الطَّوِيلُ ]
هَوَيْتُكِ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أَلُومُهَا
وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ نَصَبَ " غِشَاوَةٌ " فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ ( وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ) [ 45 \ 23 ] ، كَمَا فِي سُورَةِ " الْجَاثِيَةِ " وَهُوَ كَقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
[ ص: 13 ] وَقَوْلِ الْآخَرِ : [ مُرَفَّلُ الْكَامِلِ ]
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
وَقَوْلِ الْآخَرِ : [ الْوَافِرُ ]
إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعَيُونَا
كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي النَّحْوِ ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ كَوْنَهُ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ الْمَجْرُورِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَكُونُ الطَّبْعُ عَلَى الْأَبْصَارِ أَيْضًا ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ) [ الْآيَةَ 108 ] .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الطَّبْعَ عَلَى الْأَبْصَارِ الْمَذْكُورَ فِي آيَةِ النَّحْلِ : هُوَ الْغِشَاوَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالْجَاثِيَةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا بَيَانًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ ، وَصَرَّحَ بِذِكْرِ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ ) [ 9 \ 101 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنِ اسْتِهْزَائِهِ بِهِمْ ، وَذَكَرَ بَعْضَهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ فِي قَوْلِهِ : ( قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا ) [ 57 \ 13 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ) الْآيَةَ ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ مُتَّصِفُونَ بِالصَّمَمِ ، وَالْبُكْمِ ، وَالْعَمَى . وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَعْنَى صَمَمِهِمْ ، وَبُكُمِهِمْ ، وَعِمَاهُمْ ، هُوَ عَدَمُ انْتِفَاعِهِمْ بِأَسْمَاعِهِمْ ، وَقُلُوبِهِمْ ، وَأَبْصَارِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا : ( وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) [ 46 \ 26 ] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ ) الْآيَةَ ، الصَّيِّبُ : الْمَطَرُ ، وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَثَلًا لِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْهُدَى ، وَالْعِلْمِ بِالْمَطَرِ ; لِأَنَّ بِالْعِلْمِ وَالْهُدَى حَيَاةَ الْأَرْوَاحِ ، كَمَا أَنَّ بِالْمَطَرِ حَيَاةَ الْأَجْسَامِ .
وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِ ضَرْبِ هَذَا الْمَثَلِ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا : ( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ) [ 7 \ 58 ] .
[ ص: 14 ] وَقَدْ أَوْضَحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَثَلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا . فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادَبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْهَا ، وَسَقَوْا وَزَرَعُوا ، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً ، وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً . فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ اللَّهُ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ ؛ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ " .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فِيهِ ظُلُمَاتٌ ) ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَثَلَ لِمَا يَعْتَرِي الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ مِنَ الشُّبَهِ وَالشُّكُوكِ فِي الْقُرْآنِ ، بِظُلُمَاتِ الْمَطَرِ الْمَضْرُوبِ مَثَلًا لَلْقُرْآنِ ، وَبَيَّنَ بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي هِيَ كَالظُّلْمَةِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهَا تَزِيدُهُمْ عَمًى فِي آيَاتٍ أُخَرَ لِقَوْلِهِ : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ) [ 2 \ 143 ] ; لِأَنَّ نَسْخَ الْقِبْلَةِ يَظُنُّ بِسَبَبِهِ ضِعَافُ الْيَقِينِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِ حَيْثُ يَسْتَقْبِلُ يَوْمًا جِهَةً ، وَيَوْمًا آخَرَ جِهَةً أُخْرَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ) [ 2 \ 142 ] .
وَصَرَّحَ تَعَالَى بِأَنَّ نَسْخَ الْقِبْلَةِ كَبِيرٌ عَلَى غَيْرِ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ ، وَقَوَّى يَقِينَهُ بِقَوْلِهِ : ( وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ) وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) [ 17 \ 60 ] ; لِأَنَّ مَا رَآهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ مِنَ الْغَرَائِبِ وَالْعَجَائِبِ ، كَانَ سَبَبًا لِاعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاذِبٌ ; لِزَعْمِهِمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ بِهِ لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ . فَهُوَ سَبَبٌ لِزِيَادَةِ الضَّالِّينَ ضَلَالًا . وَكَذَلِكَ الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ فِي الْقُرْآنِ الَّتِي هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فَهِيَ سَبَبٌ أَيْضًا لِزِيَادَةِ ضَلَالِ الضَّالِّينَ مِنْهُمْ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ : ( إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) [ 37 \ 64 ] قَالُوا : ظَهَرَ كَذِبُهُ ; لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الْيَابِسَةِ فَكَيْفَ يَنْبُتُ فِي أَصْلِ النَّارِ ؟ !
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) [ 74 \ 31 ] ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى : ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) [ 74 \ 31 ] .
[ ص: 15 ] قَالَ بَعْضُ رِجَالِ قُرَيْشٍ : هَذَا عَدَدٌ قَلِيلٌ فَنَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى قَتْلِهِمْ ، وَاحْتِلَالِ الْجَنَّةِ بِالْقُوَّةِ ; لِقِلَّةِ الْقَائِمِينَ عَلَى النَّارِ الَّتِي يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّا سَنَدْخُلُهَا . وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ اخْتِبَارًا وَابْتِلَاءً ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَرَعْدٌ ) ضَرَبَ اللَّهُ الْمَثَلَ بِالرَّعْدِ لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الزَّوَاجِرِ الَّتِي تَقْرَعُ الْآذَانَ ، وَتُزْعِجُ الْقُلُوبَ . وَذَكَرَ بَعْضًا مِنْهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً ) الْآيَةَ [ 41 \ 13 ] ، وَكَقَوْلِهِ : ( مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا ) الْآيَةَ [ 4 \ 47 ] ، وَكَقَوْلِهِ : ( إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) [ 34 \ 46 ] .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الطُّورِ مِنْ حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) [ 52 \ 35 ] إِلَى قَوْلِهِ ( الْمُسَيْطِرُون َ ) كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَزَوَاجِرِهِ الَّتِي خَوَّفَتِ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : ( يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ) [ 63 \ 4 ] ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ ، فَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَبَرْقٌ ) ضَرَبَ تَعَالَى الْمَثَلَ بِالْبَرْقِ ; لِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نُورِ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ .
وَقَدْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نُورٌ يَكْشِفُ اللَّهُ بِهِ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالشِّرْكِ ، كَمَا تُكْشَفُ بِالنُّورِ الْحِسِّيِّ ظُلُمَاتُ الدُّجَى كَقَوْلِهِ : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ) [ 4 \ 174 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) [ 42 \ 52 ] وَقَوْلِهِ : ( وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ) [ 7 \ 157 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : ( مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) أَيْ : مُهْلِكُهُمْ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ) [ 12 \ 66 ] أَيْ : تُهْلَكُوا عَنْ آخِرِكُمْ . وَقِيلَ : تُغْلَبُوا . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ ; لِأَنَّ الْهَالِكَ لَا يَهْلَكُ حَتَّى يُحَاطَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْجَوَانِبِ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَنْفَذٌ لِلسَّلَامَةِ يَنْفُذُ [ ص: 16 ] مِنْهُ وَكَذَلِكَ الْمَغْلُوبُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الطَّوِيلُ ]
أَحَطْنَا بِهِمْ حَتَّى إِذَا مَا تَيَقَّنُوا بِمَا قَدْ رَأَوْا مَالُوا جَمِيعًا إِلَى السِّلْمِ
وَمِنْهُ أَيْضًا : بِمَعْنَى الْهَلَاكِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) الْآيَةَ [ 18 \ 42 ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) الْآيَةَ [ 10 \ 22 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-07-09, 10:37 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (3)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (2)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ )
أَيْ : يَكَادُ نُورُ الْقُرْآنِ لِشِدَّةِ ضَوْئِهِ يُعْمِي بَصَائِرَهُمْ ، كَمَا أَنَّ الْبَرْقَ الْخَاطِفَ الشَّدِيدَ النُّورِ يَكَادُ يَخْطَفُ بَصَرَ نَاظِرِهِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْبَصَرُ ضَعِيفًا ; لِأَنَّ الْبَصَرَ كُلَّمَا كَانَ أَضْعَفَ كَانَ النُّورُ أَشَدَّ إِذْهَابًا لَهُ . كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الْكَامِلُ ]
مِثْلَ النَّهَارِ يَزِيدُ أَبْصَارَ الْوَرَى نُورًا وَيُعْمِي أَعْيُنَ الْخُفَّاشِ
وَقَالَ الْآخَرُ : [ الطَّوِيلُ ]
خَفَافِيشُ أَعْمَاهَا النَّهَارُ بِضَوْئِهِ وَوَافَقَهَا قِطَعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ
وَبَصَائِرُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِي نَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ . فَشِدَّةُ ضَوْءِ النُّورِ تَزِيدُهَا عَمًى . وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْعَمَى فِي قَوْلِهِ : ( أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ) [ 13 \ 19 ] وَقَوْلِهِ : ( وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ) إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ؛ أَيْ : يَكَادُ مُحْكَمُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُنَافِقِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) ضَرَبَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَثَلَ لِلْمُنَافِقِين َ بِأَصْحَابِ هَذَا الْمَطَرِ إِذَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِي ضَوْئِهِ ، وَإِذَا أَظْلَمَ وَقَفُوا ، كَمَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ إِذَا كَانَ الْقُرْآنُ مُوَافِقًا لِهَوَاهُمْ وَرَغْبَتِهِمْ عَمِلُوا بِهِ ، كَمُنَاكَحَتِهِ مْ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَإِرْثِهِمْ لَهُمْ ، وَالْقَسْمِ لَهُمْ مِنْ غَنَائِمِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعِصْمَتِهِمْ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ مَعَ كُفْرِهِمْ فِي الْبَاطِنِ ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُوَافِقٍ لِهَوَاهُمْ كَبَذْلِ الْأَنْفُسِ ، وَالْأَمْوَالِ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ وَقَفُوا وَتَأَخَّرُوا . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ : ( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ) [ 24 \ 48 ، 49 ] .
[ ص: 17 ] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : ( كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ) أَيْ : إِذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْمَالِ وَالْعَافِيَةِ قَالُوا : هَذَا الدِّينُ حَقٌّ ، مَا أَصَابَنَا مُنْذُ تَمَسَّكْنَا بِهِ إِلَّا الْخَيْرَ ( وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ) أَيْ : وَإِنْ أَصَابَهُمْ فَقْرٌ أَوْ مَرَضٌ أَوْ وُلِدَتْ لَهُمُ الْبَنَاتُ دُونَ الذُّكُورِ قَالُوا : مَا أَصَابَنَا هَذَا إِلَّا مِنْ شُؤْمِ هَذَا الدِّينِ وَارْتَدُّوا عَنْهُ . وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) [ 22 \ 11 ] .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِضَاءَتُهُ لَهُمْ مَعْرِفَتَهُمْ بَعْضَ الْحَقِّ مِنْهُ ، وَإِظْلَامُهُ عَلَيْهِمْ مَا يَعْرِضُ لَهُمْ مِنَ الشَّكِّ فِيهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ )
أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَبَيَّنَهَا مُفَصَّلَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ : الْأَوَّلُ : خَلْقُ النَّاسِ أَوَّلًا الْمُشَارُ إِلَيْهِ بُقُولِهِ ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ; لِأَنَّ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ أَعْظَمُ بُرْهَانٍ عَلَى الْإِيجَادِ الثَّانِي ، وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) الْآيَةَ [ 30 \ 27 ] ، وَقَوْلِهِ : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ) [ 21 \ 104 ] ، وَكَقَوْلِهِ : ( فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) [ 36 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ : ( قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ) ، وَقَوْلِهِ : ( أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ ) الْآيَةَ [ 50 \ 15 ] ، وَكَقَوْلِهِ : ( يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) [ 22 \ 5 ] ، وَكَقَوْلِهِ : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى ) الْآيَةَ [ 56 \ 62 ] .
وَلِذَا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ فَقَدْ نَسِيَ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : ( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ ) الْآيَةَ [ 36 \ 78 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) [ 19 \ 67 ، 68 ] ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الدَّلِيلَ بِقَوْلِهِ : ( فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُ مْ ) الْآيَةَ [ 19 \ 68 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
الْبُرْهَانُ الثَّانِي : خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ) [ ص: 18 ] لِأَنَّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ الْأَعْظَمِ فَهُوَ عَلَى غَيْرِهِ قَادِرٌ مِنْ بَابٍ أَحْرَى . وَأَوْضَحَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْبُرْهَانَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ) [ 40 \ 57 ] ، وَقَوْلِهِ : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) [ 36 \ 81 ] ، وَقَوْلِهِ : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى ) [ 46 \ 33 ] ، وَقَوْلِهِ : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) [ 17 \ 99 ] ، وَقَوْلِهِ : ( أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ) الْآيَةَ [ 79 \ 27 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
الْبُرْهَانُ الثَّالِثُ : إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا ; فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، كَمَا أَشَارَ لَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ : ( وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ) وَأَوْضَحَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ 41 \ 39 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ) [ 50 \ 11 ] ، يَعْنِي : خُرُوجُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ أَنْ كُنْتُمْ عِظَامًا رَمِيمًا . وَقَوْلِهِ : ( وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ) [ 30 \ 19 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [ 7 \ 57 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ) لَمْ يُصَرِّحْ هَنَا بَاسِمِ هَذَا الْعَبْدِ الْكَرِيمِ ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ، وَصَرَّحَ بِاسْمِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ) [ 47 \ 2 ] صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )
هَذِهِ الْحِجَارَةُ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : إِنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهَا الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا . وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَبِشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ )
[ ص: 19 ] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَنْوَاعَ هَذِهِ الْأَنْهَارِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) [ 47 \ 15 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ )
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا صِفَاتِ تِلْكَ الْأَزْوَاجِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ صِفَاتِهِنَّ الْجَمِيلَةَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ) [ 37 \ 48 ] ، وَقَوْلِهِ : ( كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ) [ 55 \ 58 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ ) [ 56 \ 22 ، 23 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ) [ 78 \ 33 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِجَمِيلِ صِفَاتِهِنَّ ، وَالْأَزْوَاجُ : جَمْعُ زَوْجٍ بِلَا هَاءٍ فِي اللُّغَةِ الْفُصْحَى ، وَالزَّوْجَةُ بِالْهَاءِ لُغَةٌ : لَا لَحْنَ كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ .
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّهَا زَوْجَتِي " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَمِنْ شَوَاهِدِهِ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ : [ الطَّوِيلُ ]
وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي كَسَاعٍ إِلَى أَسَدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ : [ الْكَامِلُ ]
فَبَكَى بَنَاتِي شَجْوُهُنَّ وَزَوْجَتِي وَالظَّاعِنُونَ إِلَيَّ ثُمَّ تَصَدَّعُوا
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ )
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ مِنْهُ الْأَرْحَامَ بِقَوْلِهِ : ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) [ 47 \ 22 ] .
وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الرُّسُلِ ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعُ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضِهِمُ الْآخَرِ . وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ) [ 4 \ 150 ، 151 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) ظَاهِرُهُ : أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا خُلِقَ بِالْفِعْلِ قَبْلَ السَّمَاءِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِخَلْقِهِ قَبْلَ السَّمَاءِ ، تَقْدِيرُهُ ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي التَّقْدِيرَ خَلْقًا كَقَوْلِ زُهَيْرٍ :
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
[ ص: 20 ] وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا ) [ 41 \ 10 ] ، ثُمَّ قَالَ : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) الْآيَةَ [ 2 \ 29 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) الْآيَةَ فِي قَوْلِهِ : ( خَلِيفَةً ) وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ أَبُونَا آدَمُ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ; لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فِي تَنْفِيذِ أَوَامِرِهِ . وَقِيلَ : لِأَنَّهُ صَارَ خَلَفًا مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ كَانُوا يَسْكُنُونَ الْأَرْضَ قَبْلَهُ ، وَعَلَيْهِ فَالْخَلِيفَةُ : فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ ، وَقِيلَ : لِأَنَّهُ إِذَا مَاتَ يَخْلُفُهُ مَنْ بَعْدَهُ ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ فَعِيلَةٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ . وَكَوْنُ الْخَلِيفَةِ هُوَ آدَمُ هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : ( خَلِيفَةً ) مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ ؛ أَيْ : خَلَائِفُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنُ كَثِيرٍ . وَالْمُفْرَدُ إِنْ كَانَ اسْمَ جِنْسٍ يَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إِطْلَاقُهُ مُرَادًا بِهِ الْجَمْعُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ) [ 54 \ 54 ] يَعْنِي " وَأَنْهَارٍ " بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) الْآيَةَ [ 47 \ 15 ] . وَقَوْلِهِ : ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) [ 25 \ 74 ] ، وَقَوْلِهِ : ( فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا ) [ 4 \ 4 ] وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَقِيلِ بْنِ عُلَّفَةَ الْمُرِّيِّ : [ الْوَافِرُ ]
وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ عَمٍّ وَكُنْتَ لَهُمْ كَشَرٍّ بَنِي الْأَخِينَا
وَقَوْلُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ : [ الْوَافِرُ ]
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ وَقَدْ سَلَمَتْ مِنَ الْإِحَنِ الصُّدُورُ
وَأَنْشَدَ لَهُ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ التَّمِيمِيِّ : [ الطَّوِيلُ ]
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا فَبِيضٌ وَأَمَا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
وَقَوْلَ الْآخَرِ : [ الْوَافِرُ ]
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعُفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنُ خَمِيصُ
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ . فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ أُخَرُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ : الْخَلَائِفُ مِنْ آدَمَ وَبَنِيهِ لَا آدَمُ [ ص: 21 ] نَفْسُهُ وَحْدَهُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) الْآيَةَ [ 2 \ 30 ] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْسَ مِمَّنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَلَا مِمَّنْ يَسْفِكُ الدِّمَاءَ ، وَكَقَوْلِهِ : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ ) الْآيَةَ [ 35 \ 39 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ ) الْآيَةَ [ 6 \ 165 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ ) الْآيَةَ [ 27 \ 62 ] . وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ آدَمُ ، وَأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَ الْمَلَائِكَةَ أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ الْفَسَادَ ، وَسَفْكَ الدِّمَاءِ . فَقَالُوا مَا قَالُوا ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِخِلَافَةِ آدَمَ الْخِلَافَةُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَبِخِلَافَةِ ذُرِّيَّتِهِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَذْهَبُ مِنْهُمْ قَرْنٌ وَيَخْلُفُهُ قَرْنٌ آخَرُ .
تَنْبِيهٌ
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي نَصْبِ إِمَامٍ وَخَلِيفَةٍ ; يُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ ; لِتَجْتَمِعَ بِهِ الْكَلِمَةُ وَتُنَفَّذَ بِهِ أَحْكَامُ الْخَلِيفَةِ ، وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ ، وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْأَصَمِّ ؛ حَيْثُ كَانَ عَنِ الشَّرِيعَةِ أَصَمَّ . إِلَى أَنْ قَالَ : وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [ 2 \ 30 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ) [ 38 \ 26 ] . وَقَالَ : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ ) [ 24 \ 55 ] أَيْ : يَجْعَلُ مِنْهُمْ خُلَفَاءَ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ .
وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ الصِّدِّيقِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فِي التَّعْيِينِ حَتَّى قَالَتِ الْأَنْصَارُ : مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ، فَدَفَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْمُهَاجِرُو نَ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالُوا لَهُمْ : إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَدِينُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَرَوُوا لَهُمُ الْخَبَرَ فِي ذَلِكَ فَرَجَعُوا وَأَطَاعُوا لِقُرَيْشٍ . فَلَوْ كَانَ فَرْضُ الْإِمَامَةِ غَيْرَ وَاجِبٍ لَا فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ ، لَمَا سَاغَتْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُحَاوَرَة ُ عَلَيْهَا . وَلَقَالَ قَائِلٌ : إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ لَا فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ . فَمَا لِتَنَازُعِكُمْ وَجْهٌ وَلَا فَائِدَةَ فِي أَمْرٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، ثُمَّ إِنَّ الصَّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى عُمَرَ فِي الْإِمَامَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ لَهُ أَحَدٌ : هَذَا أَمْرٌ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْنَا وَلَا [ ص: 22 ] عَلَيْكَ . فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا ، وَأَنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ الَّذِي بِهِ قَوَامُ الْمُسْلِمِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : مِنَ الْوَاضِحِ الْمَعْلُومِ مِنْ ضَرُورَةِ الدِّينِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ نَصْبُ إِمَامٍ تَجْتَمِعُ بِهِ الْكَلِمَةُ ، وَتُنَفَّذُ بِهِ أَحْكَامُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي هَذَا إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَأَبِي بَكْرٍ الْأَصَمِّ الْمُعْتَزِلِيّ ِ ، الَّذِي تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ ، وَكَضِرَارٍ وَهِشَامٍ الْفُوَطِيِّ وَنَحْوِهِمْ .
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْإِمَامَةِ الْكُبْرَى بِطَرِيقِ الشَّرْعِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَة ُ وَأَشْبَاهُهَا وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ) ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ) فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى إِعْمَالِ السَّيْفِ عِنْدَ الْإِبَاءِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ .
وَقَالَتِ الْإِمَامِيَّةُ : إِنَّ الْإِمَامَةَ وَاجِبَةٌ بِالْعَقْلِ لَا بِالشَّرْعِ .
وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْجَاحِظِ وَالْبَلْخِيِّ : أَنَّهَا تَجِبُ بِالْعَقْلِ وَالشَّرْعِ مَعًا ، وَاعْلَمْ أَنَّمَا تَتَقَوَّلُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنَ الْمُفْتَرِيَات ِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَمَا تَتَقَوَّلُهُ فِي الِاثْنَيْ عَشَرَ إِمَامًا ، وَفِي الْإِمَامِ الْمُنْتَظَرِ الْمَعْصُومِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ خُرَافَاتِهِمْ ، وَأَكَاذِيبِهِم ُ الْبَاطِلَةِ كُلُّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَإِذَا أَرَدْتَ الْوُقُوفَ عَلَى تَحْقِيقِ ذَلِكَ : فَعَلَيْكَ بِكِتَابِ " مِنْهَاجِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي نَقْضِ كَلَامِ الشِّيعَةِ الْقَدَرِيَّةِ " لِلْعَلَّامَةِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ تَيْمِيَّةَ ، فَإِنَّهُ جَاءَ فِيهِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ ، وَالْبَرَاهِينِ السَّاطِعَةِ عَلَى إِبْطَالِ جَمِيعِ تِلْكَ الْخُرَافَاتِ الْمُخْتَلَقَةِ ، فَإِذَا حَقَّقْتَ وُجُوبَ نَصْبِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَةَ تَنْعَقِدُ لَهُ بِأَحَدِ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ : مَا لَوْ نَصَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ فُلَانًا هُوَ الْإِمَامُ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ لَهُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ; لِأَنَّ تَقْدِيمَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ وَهِيَ أَهَمُّ شَيْءٍ ، فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى التَّقْدِيمِ لِلْإِمَامَةِ الْكُبْرَى وَهُوَ ظَاهِرٌ . [ ص: 23 ] الثَّانِي : هُوَ اتِّفَاقُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ عَلَى بَيْعَتِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ إِمَامَةَ أَبِي بَكْرٍ مِنْهُ ; لِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْخِلَافِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِعَدَمِ رِضَى بَعْضِهِمْ ، كَمَا وَقَعَ مِنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ عَدَمِ قَبُولِهِ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَعْهَدَ إِلَيْهِ الْخَلِيفَةُ الَّذِي قَبْلَهُ ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ جَعْلُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخِلَافَةَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ .
الرَّابِعُ : أَنْ يَتَغَلَّبَ عَلَى النَّاسِ بِسَيْفِهِ ، وَيَنْزِعَ الْخِلَافَةَ بِالْقُوَّةِ حَتَّى يَسْتَتِبَّ لَهُ الْأَمْرُ ، وَتَدِينَ لَهُ النَّاسُ لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قِيَامُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَقَتْلِهِ إِيَّاهُ فِي مَكَّةَ عَلَى يَدِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ ، فَاسْتَتَبَّ الْأَمْرُ لَهُ . كَمَا قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " .
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : تَنْعَقِدُ لَهُ الْإِمَامَةُ بِبَيْعَةِ وَاحِدٍ ، وَجَعَلُوا مِنْهُ مُبَايَعَةَ عُمَرَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَمَالَ إِلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ . وَحَكَى عَلَيْهِ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ وَقِيلَ : بِبَيْعَةِ أَرْبَعَةٍ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِيمَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى . وَمُقْتَضَى كَلَامِ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ تَيْمِيَّةَ فِي " الْمِنْهَاجِ " أَنَّهَا إِنَّمَا تَنْعَقِدُ بِمُبَايَعَةِ مَنْ تَقْوَى بِهِ شَوْكَتُهُ ، وَيَقْدِرُ بِهِ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِ الْإِمَامَةِ ; لِأَنَّ مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ كَآحَادِ النَّاسِ لَيْسَ بِإِمَامٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ الْأَعْظَمَ تُشْتَرَطُ فِيهِ شُرُوطٌ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ قُرَشِيًّا ، وَقُرَيْشٌ أَوْلَادُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ ، وَقِيلَ : أَوْلَادُ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ . فَالْفِهْرِيُّ قُرَشِيٌّ بِلَا نِزَاعٍ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ أَوْ أَوْلَادِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ ؛ فِيهِ خِلَافٌ هَلْ هُوَ قُرَشِيٌّ أَوْ لَا ؟ وَمَا كَانَ مِنْ أَوْلَادِ كِنَانَةَ مِنْ غَيْرِ النَّضْرِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ بِلَا نِزَاعٍ .
[ ص: 24 ] قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي ذِكْرِ شَرَائِطِ الْإِمَامِ . الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ قُرَيْشٍ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ " وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذَا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الِاخْتِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ قُرَشِيًّا ضَعِيفٌ . وَقَدْ دَلَّتِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ عَلَى تَقْدِيمِ قُرَيْشٍ فِي الْإِمَامَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ ، وَدَعْوَى الْإِجْمَاعِ تَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ مَا أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ عُمَرَ ؛ بِسَنَدٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ أَنَّهُ قَالَ : " إِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَأَبُو عُبَيْدَةَ حَيٌّ اسْتَخْلَفْتُهُ " . فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَفِيهِ : " فَإِنْ أَدْرَكَنِي أَجَلِي وَقَدْ مَاتَ أَبُو عُبَيْدَةَ اسْتَخْلَفْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ " .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُعَاذًا غَيْرَ قُرَشِيٍّ وَتَأْوِيلُهُ بِدَعْوَى انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ عُمَرَ أَوْ تَغْيِيرِ رَأْيِهِ إِلَى مُوَافَقَةِ الْجُمْهُورِ . فَاشْتِرَاطُ كَوْنِهِ قُرَشِيًّا هُوَ الْحَقُّ ، وَلَكِنَّ النُّصُوصَ الشَّرْعِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيمَ الْوَاجِبَ لَهُمْ فِي الْإِمَامَةِ مَشْرُوطٌ بِإِقَامَتِهِمُ الدِّينَ وَإِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَإِنْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ فَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يُطِيعُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُنَفِّذُ أَوَامِرَهُ أَوْلَى مِنْهُمْ .
فَمِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ مُعَاوِيَةَ حَيْثُ قَالَ : بَابُ الْأُمَرَاءِ مِنْ قُرَيْشٍ . حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ فَغَضِبَ ، فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَلَا تُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ ، فَإِيَّاكُمْ وَالْأَمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا ; فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ مَا أَقَامُوا الدِّينَ " . انْتَهَى مِنْ " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " بِلَفْظِهِ .
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا أَقَامُوا الدِّينَ " لِأَنَّ لَفْظَةَ " مَا " فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ ، مُقَيِّدَةٌ لِقَوْلِهِ : " إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ " ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى : إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ مُدَّةَ إِقَامَتِهِمُ الدِّينَ ، وَمَفْهُومُهُ : أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يُقِيمُوهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ . وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ .
ابو وليد البحيرى
2020-07-09, 10:40 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (4)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
[ ص: 25 ] وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ هَذَا مَا نَصُّهُ : وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَظِيرَ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ ، ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ ، فَذَكَرَ قِصَّةَ سَقِيفَةَ بَنِي سَاعِدَةَ وَبَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ ، وَفِيهَا : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ مَا أَطَاعُوا اللَّهَ ، وَاسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِهِ . وَقَدْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ : الْأَوَّلُ : وَعِيدُهُمْ بِاللَّعْنِ إِذَا لَمْ يُحَافِظُوا عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ . كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ حَيْثُ قَالَ : " الْأُمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ مَا فَعَلُوا ثَلَاثًا : مَا حَكَمُوا فَعَدَلُوا " ، الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ : " فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ " وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي خُرُوجُ الْأَمْرِ عَنْهُمْ .
الثَّانِي : وَعِيدُهُمْ بِأَنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُبَالِغُ فِي أَذِيَّتِهِمْ . فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَفَعَهُ : " إِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الْأَمْرِ مَا لَمْ تُحْدِثُوا ، فَإِذَا غَيَّرْتُمْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى الْقَضِيبُ " . وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ إِلَّا أَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنْ عَمِّ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَلَمْ يُدْرِكْهُ ، هَذِهِ رِوَايَةُ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَخَالَفَهُ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ ، فَرَوَاهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ وَلَفْظُهُ : " لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِيكُمْ وَأَنْتُمْ وُلَاتُهُ " الْحَدِيثَ .
وَفِي سَمَاعِ عُبَيْدِ اللَّهِ مِنْ أَبِي مَسْعُودٍ نَظَرٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي سَنَةِ وَفَاتِهِ ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طَرِيقِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ إِلَى عَطَاءٍ ، وَلَفْظُهُ : قَالَ لِقُرَيْشٍ : " أَنْتُمْ أَوْلَى بِهَذَا الْأَمْرِ مَا كُنْتُمْ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا أَنْ تَعْدِلُوا عَنْهُ فَتُلْحَوْنَ كَمَا تُلْحَى هَذِهِ الْجَرِيدَةُ " وَلَيْسَ فِي هَذَا تَصْرِيحٌ بِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْهُمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ إِشْعَارٌ بِهِ .
الثَّالِثُ : الْإِذْنُ فِي الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ وَقِتَالِهِمْ ، وَالْإِيذَانُ بِخُرُوجِ الْأَمْرِ عَنْهُمْ كَمَا أَخْرَجَهُ الطَّيَالِسِيُّ ، وَالطَّبَرَانِي ُّ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَفَعَهُ : " اسْتَقِيمُوا لِقُرَيْشٍ مَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَقِيمُوا فَضَعُوا سُيُوفَكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ ، فَأَبِيدُوا خَضْرَاءَهُمْ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَكُونُوا زَرَّاعِينَ أَشْقِيَاءَ " . وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا ; لِأَنَّ رِوَايَةَ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ ثَوْبَانَ ، وَلَهُ شَاهِدٌ فِي الطَّبَرَانِيِّ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ بِمَعْنَاهُ .
[ ص: 26 ] وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ ذِي مِخْبَرٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهُمَا رَاءٌ - وَهُوَ ابْنُ أَخِي النَّجَاشِيِّ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حِمْيَرَ فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ ، وَصَيَّرَهُ فِي قُرَيْشٍ ، وَسَيَعُودُ لَهُمْ " وَسَنَدُهُ جَيِّدٌ ، وَهُوَ شَاهِدٌ قَوِيٌّ لِحَدِيثِ الْقَحْطَانِيِّ ; فَإِنَّ حِمْيَرَ يَرْجِعُ نَسَبُهَا إِلَى قَحْطَانَ ، وَبِهِ يَقْوَى أَنَّ مَفْهُومَ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ : " مَا أَقَامُوا الدِّينَ " أَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يُقِيمُوا الدِّينَ خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْهُمْ . انْتَهَى .
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ ، إِنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ إِذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَعْنِي بِهِ الْقَحْطَانِيَّ الَّذِي صَحَّتِ الرِّوَايَةُ بِمُلْكِهِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ لِثُبُوتِ أَمْرِهِ فِي الصَّحِيحِ ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطَانَ يَسُوقُ النَّاسَ بِعَصَاهُ " . أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي " كِتَابِ الْفِتَنِ " فِي " بَابِ تَغَيُّرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ " ، وَفِي " كِتَابِ الْمَنَاقِبِ " فِي " بَابِ ذِكْرِ قَحْطَانَ " ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " كِتَابِ الْفِتَنِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ " فِي " بَابٍ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ ، فَيَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مَكَانَ الْمَيِّتِ مِنَ الْبَلَاءِ " وَهَذَا الْقَحْطَانِيُّ لَمْ يُعْرَفِ اسْمُهُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : اسْمُهُ جَهْجَاهُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ : اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ صَالِحٍ ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ الْقَحْطَانِيِّ هَذَا مَا نَصُّهُ : وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَجِّ أَنَّ الْبَيْتَ يُحَجُّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ : وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ : " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ ، وَأَنَّ الْكَعْبَةَ يُخَرِّبُهَا ذُو السُّوَيْقَتَيْ نِ مِنَ الْحَبَشَةِ " فَيَنْتَظِمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْحَبَشَةَ إِذَا خَرَّبَتِ الْبَيْتَ خَرَجَ عَلَيْهِمُ الْقَحْطَانِيُّ فَأَهْلَكَهُمْ ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَ ذَلِكَ يَحُجُّونَ فِي زَمَنِ عِيسَى بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهَلَاكِهِمْ ، وَأَنَّ الرِّيحَ الَّتِي تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ تَبْدَأُ بِمَنْ بَقِيَ بَعْدَ عِيسَى وَيَتَأَخَّرُ أَهْلُ الْيَمَنِ بَعْدَهَا .
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِمَّا يُفَسِّرُ بِهِ قَوْلُهُ : " الْإِيمَانُ يَمَانٌ " أَيْ : يَتَأَخَّرُ الْإِيمَانُ بِهَا بَعْدَ فَقْدِهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ . وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ حَدِيثَ الْقَحْطَانِيِّ عَقِبَ حَدِيثِ تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ ذُو السُّوَيْقَتَيْ نِ فَلَعَلَّهُ رَمَزَ إِلَى هَذَا . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمِ إِلَيْهِ أَسْلَمُ .
الثَّانِي : مِنْ شُرُوطِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ : كَوْنُهُ ذَكَرًا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، [ ص: 27 ] وَيَدُلُّ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ فَارِسًا مَلَّكُوا ابْنَةَ كِسْرَى قَالَ : " لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً " .
الثَّالِثُ : مِنْ شُرُوطِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ كَوْنُهُ حُرًّا . فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْعَبْدِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي [ صَحِيحِهِ ] مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ " .
وَلِمُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْحُصَيْنِ : اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا ، وَلَوِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ .
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ أُطِيعَ وَأَسْمَعَ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ . فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ قَدْ يُضْرَبُ الْمَثَلُ بِمَا لَا يَقَعُ فِي الْوُجُودِ ، فَإِطْلَاقُ الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ لِأَجْلِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ شَرْعًا أَنْ يَلِيَ ذَلِكَ ، ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا الْجَوَابَ عَنِ الْخَطَّابِيِّ ، وَيُشْبِهُ هَذَا الْوَجْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى : ( قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) [ 43 \ 81 ] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَاتِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِاسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ أَنْ يَكُونَ مُؤَمَّرًا مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ وَهُوَ أَظْهَرُهَا ، فَلَيْسَ هُوَ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْعَبْدِ ; نَظَرًا لِاتِّصَافِهِ بِذَلِكَ سَابِقًا مَعَ أَنَّهُ وَقْتَ التَّوْلِيَةِ حُرٌّ ، وَنَظِيرُهُ إِطْلَاقُ الْيُتْمِ عَلَى الْبَالِغِ بِاعْتِبَارِ اتِّصَافِهِ بِهِ سَابِقًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) الْآيَةَ [ 4 \ 2 ] ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاخْتِيَارِ . أَمَّا لَوْ تَغَلَّبَ عَبْدٌ حَقِيقَةً بِالْقُوَّةِ فَإِنَّ طَاعَتَهُ تَجِبُ ; إِخْمَادًا لِلْفِتْنَةِ ، وَصَوْنًا لِلدِّمَاءِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَعْصِيَةٍ كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ .
وَالْمُرَادُ بِالزَّبِيبَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَاحِدَةُ الزَّبِيبِ الْمَأْكُولِ الْمَعْرُوفِ الْكَائِنِ مِنَ الْعِنَبِ إِذَا جَفَّ ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ : التَّحْقِيرُ وَتَقْبِيحُ الصُّورَةِ ; لِأَنَّ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ إِذَا وَجَبَا لِمَنْ كَانَ كَذَلِكَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي الْمَعْصِيَةِ كَمَا [ ص: 28 ] يَأْتِي ، وَيُشْبِهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَأَنَّهُ زَبِيبَةٌ " قَوْلَ الشَّاعِرِ يَهْجُو شَخْصًا أَسْوَدَ :
دَنِسُ الثِّيَابِ كَأَنَّ فَرْوَةَ رَأْسِهِ غُرِسَتْ فَأَنْبَتَ جَانِبَاهَا فُلْفُلَا
الرَّابِعُ : مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا ، فَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ الصَّبِيِّ إِجْمَاعًا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ .
الْخَامِسُ : أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا ، فَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ الْمَجْنُونِ ، وَلَا الْمَعْتُوهِ ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ .
السَّادِسُ : أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ، فَلَا تَجُوزُ إِمَامَةُ فَاسِقٍ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) [ 2 \ 124 ] وَيَدْخُلُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ ; لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ غَيْرَ مُسْلِمٍ .
السَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ ، مُجْتَهِدًا يُمْكِنُهُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ اسْتِفْتَاءِ غَيْرِهِ فِي الْحَوَادِثِ .
الثَّامِنُ : أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ زَمِنٍ وَلَا أَعْمَى وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَيْنَ الشَّرْطَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ ، أَعْنِي : الْعِلْمَ وَسَلَامَةَ الْجِسْمِ ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي طَالُوتَ : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) [ 2 \ 247 ] .
التَّاسِعُ : أَنْ يَكُونَ ذَا خِبْرَةٍ وَرَأْيٍ حَصِيفٍ بِأَمْرِ الْحَرْبِ ، وَتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ ، وَسَدِّ الثُّغُورِ ، وَحِمَايَةِ بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَرَدْعِ الْأُمَّةِ ، وَالِانْتِقَامِ مِنَ الظَّالِمِ ، وَالْأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ . كَمَا قَالَ لَقِيطٌ الْإِيَادِيُّ : [ الْبَسِيطُ ]
وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمْ رَحْبَ الذِّرَاعِ بِأَمْرِ الْحَرْبِ مُطَّلِعَا
الْعَاشِرُ : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا تَلْحَقُهُ رِقَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ ، وَلَا فَزَعَ مِنْ ضَرْبِ الرِّقَابِ وَلَا قَطْعِ الْأَعْضَاءِ ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ . قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
مَسَائِلُ :
الْأُولَى : إِذَا طَرَأَ عَلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فِسْقٌ ، أَوْ دَعْوَةٌ إِلَى بِدْعَةٍ . هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ [ ص: 29 ] سَبَبًا لِعَزْلِهِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ أَوْ لَا ؟ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِذَا صَارَ فَاسِقًا ، أَوْ دَاعِيًا إِلَى بِدْعَةٍ جَازَ الْقِيَامُ عَلَيْهِ لِخَلْعِهِ . وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقِيَامُ عَلَيْهِ لِخَلْعِهِ إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ كُفْرًا بَوَاحًا عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ .
فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا ، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا ، وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ ، قَالَ : " إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ " .
وَفِي " صَحِيحٍ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُم ْ ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُ مْ ، وَتَلْعَنُونَهُ مْ وَيَلْعَنُونَكُ مْ " قَالُوا : قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : " لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ ، لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ ، إِلَّا مِنْ وَلِيَ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا يَأْتِي مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَلَا يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ " .
وَفِي " صَحِيحٍ مُسْلِمٍ " أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ ، وَلَكِنْ مِنْ رِضِيَ وَتَابَعَ " . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ : " لَا مَا صَلَّوْا " .
وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ .
فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى مَنْعِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ مُرْتَكِبًا لِمَا لَا يَجُوزُ ، إِلَّا إِذَا ارْتَكَبَ الْكُفْرَ الصَّرِيحَ الَّذِي قَامَ الْبُرْهَانُ الشَّرْعِيُّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ [ ص: 30 ] كُفْرٌ بَوَاحٌ ؛ أَيْ : ظَاهِرٌ بَادٍ لَا لَبْسَ فِيهِ .
وَقَدْ دَعَا الْمَأْمُونُ وَالْمُعْتَصِمُ وَالْوَاثِقُ إِلَى بِدْعَةِ الْقَوْلِ : بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، وَعَاقَبُوا الْعُلَمَاءَ مِنْ أَجْلِهَا بِالْقَتْلِ ، وَالضَّرْبِ ، وَالْحَبْسِ ، وَأَنْوَاعِ الْإِهَانَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِوُجُوبِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ . وَدَامَ الْأَمْرُ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةٍ حَتَّى وَلِيَ الْمُتَوَكِّلُ الْخِلَافَةَ ، فَأَبْطَلَ الْمِحْنَةَ ، وَأَمَرَ بِإِظْهَارِ السُّنَّةِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِإِمَامٍ وَلَا غَيْرِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى . وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا ، وَلَا مَطْعَنَ كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ " أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَأَبُو دَاوُدَ .
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ أَمِيرُهُمْ أَنْ يَدْخُلُوا فِي النَّارِ : " لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا ; إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ " وَفِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ : ( وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ) [ 60 \ 12 ] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَلْ يَجُوزُ نَصْبُ خَلِيفَتَيْنِ كِلَاهُمَا مُسْتَقِلٌّ دُونَ الْآخَرِ ؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَوْلُ الْكَرَّامِيَّة ِ بِجَوَازِ ذَلِكَ مُطْلَقًا مُحْتَجِّينَ بِأَنَّ عَلِيًّا وَمُعَاوِيَةَ كَانَا إِمَامَيْنِ وَاجِبَيِ الطَّاعَةِ كِلَاهُمَا عَلَى مَنْ مَعَهُ ، وَبِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقْوَمَ بِمَا لَدَيْهِ وَأَضْبَطَ لِمَا يَلِيهِ . وَبِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَعْثُ نَبِيَّيْنِ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يُؤَدِّ ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ النُّبُوَّةِ كَانَتِ الْإِمَامَةُ أَوْلَى .
الْقَوْلُ الثَّانِي : قَوْلُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعَدُّدُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ ، بَلْ يَجِبُ كَوْنُهُ وَاحِدًا ، وَأَنْ لَا يَتَوَلَّى عَلَى قُطْرٍ مِنَ الْأَقْطَارِ إِلَّا أُمَرَاؤُهُ الْمُوَلَّوْنَ مِنْ قَبَلِهِ ، مُحْتَجِّينَ بِمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا " .
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا : مِنْ حَدِيثِ عَرْفَجَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ أَوْ يُفَرِّقَ [ ص: 31 ] جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ " . وَفِي رِوَايَةٍ : " فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ " .
وَلِمُسْلِمٍ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ " ثُمَّ قَالَ : سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَعَاهُ قَلْبِي .
وَأَبْطَلُوا احْتِجَاجَ الْكَرَّامِيَّة ِ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ نِزَاعِهِ مَعَ عَلِيٍّ لَمْ يَدَّعِ الْإِمَامَةَ لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا ادَّعَى وِلَايَةَ الشَّامِ بِتَوْلِيَةِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ : إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ فِي عَصْرِهِمَا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ لَا كُلٌّ مِنْهُمَا . وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُمَا أَقَوْمَ بِمَا لَدَيْهِ ، وَأَضْبَطَ لِمَا يَلِيهِ ، وَبِجَوَازِ بَعْثِ نَبِيَّيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، يَرُدُّهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا " ; وَلِأَنَّ نَصْبَ خَلِيفَتَيْنِ يُؤَدِّي إِلَى الشِّقَاقِ وَحُدُوثِ الْفِتَنِ .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ : التَّفْصِيلُ ، فَيُمْنَعُ نَصْبُ إِمَامَيْنِ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ وَالْبِلَادِ الْمُتَقَارِبَة ِ ، وَيَجُوزُ فِي الْأَقْطَارِ الْمُتَنَائِيَة ِ كَالْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ : لَكِنْ إِنْ تَبَاعَدَتِ الْأَقْطَارُ وَتَبَايَنَتْ كَالْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ ، جَازَ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ فِي كَلَامِهِ : نَصْبُ خَلِيفَتَيْنِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ : الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَالْقُرْطُبِيّ ُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ .
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : قُلْتُ : وَهَذَا يُشْبِهُ حَالَ الْخُلَفَاءِ ؛ بَنِي الْعَبَّاسِ بِالْعِرَاقِ ، وَالْفَاطِمِيِّ ينَ بِمِصْرَ ، وَالْأُمَوِيِّي نَ بِالْمَغْرِبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ ؟
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَهُ ذَلِكَ . قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَهُ عَزْلَ نَفْسِهِ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَقِيلُونِي أَقِيلُونِي ، وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : لَا نُقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ . قَدَّمَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا فَمَنْ ذَا يُؤَخِّرُكَ ، رَضِيَكَ [ ص: 32 ] رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاكَ ؟
قَالَ : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لَأَنْكَرَتِ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَلَقَالَتْ لَهُ : لَيْسَ لَكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَيْسَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ تَقَلَّدَ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ لَهُ التَّخَلِّي عَنْهَا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : إِنْ كَانَ عَزْلُهُ لِنَفْسِهِ لِمُوجَبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ كَإِخْمَادِ فِتْنَةٍ كَانَتْ سَتَشْتَعِلُ لَوْ لَمْ يَعْزِلْ نَفْسَهُ ، أَوْ لِعِلْمِهِ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنِ الْقِيَامِ بِأَعْبَاءِ الْخِلَافَةِ ، فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ عَزْلِ نَفْسِهِ . وَلِذَا أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى سِبْطِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بِعَزْلِ نَفْسِهِ وَتَسْلِيمِهِ الْأَمْرَ إِلَى مُعَاوِيَةَ ، بَعْدَ أَنْ بَايَعَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ ; حَقْنًا لِدِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ قَبْلَ وُقُوعِهِ جَدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ : " إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَلْ يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَى عَقْدِ الْإِمَامَةِ ؟
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يَجِبُ ; لِأَنَّ إِيجَابَ الْإِشْهَادِ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مِنَ النَّقْلِ . وَهَذَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْهُ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَجِبُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ ; لِئَلَّا يَدَّعِيَ مُدَّعٍ أَنَّ الْإِمَامَةَ عُقِدَتْ لَهُ سِرًّا ، فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى الشِّقَاقِ وَالْفِتْنَةِ .
وَالَّذِينَ قَالُوا بِوُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى عَقْدِ الْإِمَامَةِ ، قَالُوا : يَكْفِي شَاهِدَانِ خِلَافًا لِلْجُبَّائِيِّ فِي اشْتِرَاطِهِ أَرْبَعَةَ شُهُودٍ وَعَاقِدًا وَمَعْقُودًا لَهُ ، مُسْتَنْبِطًا ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ عُمَرَ الْأَمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ فَوَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى عَاقِدٍ ، وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَمَعْقُودٍ لَهُ ، وَهُوَ عُثْمَانُ وَبَقِيَ الْأَرْبَعَةُ الْآخَرُونَ شُهُودًا ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الِاسْتِنْبَاطِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ) يَعْنِي مُسَمَّيَاتِ الْأَسْمَاءِ لَا الْأَسْمَاءَ كَمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ .
وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا الْمُسَمَّيَاتُ بِقَوْلِهِ : ( أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ ) الْآيَةَ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
[ ص: 33 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي كَانُوا يَكْتُمُونَ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هُوَ مَا كَانَ يُضْمِرُهُ إِبْلِيسُ مِنَ الْكِبْرِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ أَوْ بَعْدَ خَلْقِهِ ؟ وَقَدْ صَرَّحَ فِي سُورَةِ " الْحِجْرِ " وَ " ص " بِأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ . فَقَالَ فِي " الْحِجْرِ " : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) [ الْآيَةَ 28 ، 29 ] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ " ص " : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) [ الْآيَةَ 71 ، 72 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مُوجِبَ اسْتِكْبَارِهِ فِي زَعْمِهِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) [ 7 \ 12 ] ، وَقَوْلِهِ : ( قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) [ 15 \ 33 ] .
تَنْبِيهٌ
مِثْلُ قِيَاسِ إِبْلِيسَ نَفْسَهُ عَلَى عُنْصُرِهِ ، الَّذِي هُوَ النَّارُ وَقِيَاسِهِ آدَمَ عَلَى عُنْصُرِهِ ، الَّذِي هُوَ الطِّينُ وَاسْتِنْتَاجُه ُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ . وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْمَرَ بِالسُّجُودِ لِمَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، مَعَ وُجُودِ النَّصِّ الصَّرِيحِ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( اسْجُدُوا لِآدَمَ ) يُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّين َ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ . وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]
وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى
فَكُلُّ مَنْ رَدَّ نُصُوصَ الْوَحْيِ بِالْأَقْيِسَةِ فَسَلَفُهُ فِي ذَلِكَ إِبْلِيسُ ، وَقِيَاسُ إِبْلِيسَ هَذَا لَعَنَهُ اللَّهُ بَاطِلٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ; لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ الصَّرِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا .
الثَّانِي : أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ ، بَلِ الطِّينُ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ ; لِأَنَّ طَبِيعَتَهَا الْخِفَّةُ وَالطَّيْشُ وَالْإِفْسَادُ وَالتَّفْرِيقُ ، وَطَبِيعَتَهُ الرَّزَانَةُ وَالْإِصْلَاحُ فَتُودِعُهُ الْحَبَّةَ [ ص: 34 ] فَيُعْطِيكَهَا سُنْبُلَةً ، وَالنَّوَاةَ فَيُعْطِيكَهَا نَخْلَةً .
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ الطِّينِ فَانْظُرْ إِلَى الرِّيَاضِ النَّاضِرَةِ ، وَمَا فِيهَا مِنَ الثِّمَارِ اللَّذِيذَةِ ، وَالْأَزْهَارِ الْجَمِيلَةِ ، وَالرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ تَعْلَمُ أَنَّ الطِّينَ خَيْرٌ مِنَ النَّارِ .
الثَّالِثُ : أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا أَنَّ النَّارَ خَيْرٌ مِنَ الطِّينِ ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ إِبْلِيسَ خَيْرٌ مِنْ آدَمَ ; لِأَنَّ شَرَفَ الْأَصْلِ لَا يَقْتَضِي شَرَفَ الْفَرْعِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْأَصْلُ رَفِيعَ الْفَرْعِ وَضِيعًا ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الْبَسِيطُ ]
إِذَا افْتَخَرْتَ بِآبَاءٍ لَهُمْ شَرَفٌ قُلْنَا صَدَقْتَ وَلَكِنْ بِئْسَ مَا وَلَدُوا
وَقَالَ الْآخَرُ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
وَمَا يَنْفَعُ الْأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ إِذَا كَانَتِ النَّفْسُ مِنْ بَاهِلَهْ
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٌ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " ، بِقَوْلِهِ : ( قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ الْآيَةَ 23 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ النِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : ( وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ) [ 2 \ 57 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ) [ 28 \ 5 ، 6 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا عَهْدُهُ وَمَا عَهْدُهُمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّ كُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) [ 5 \ 12 ] فَعَهْدُهُمْ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : ( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوه ُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ) وَعَهْدُهُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : ( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ) .
[ ص: 35 ] وَأَشَارَ إِلَى عَهْدِهِمْ أَيْضًا بِقَوْلِهِ : ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ) [ 3 \ 187 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ) الْحَقُّ الَّذِي لَبَسُوهُ بِالْبَاطِلِ هُوَ إِيمَانُهُمْ بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ ، وَالْبَاطِلُ الَّذِي لَبَسُوا بِهِ الْحَقَّ هُوَ كُفْرُهُمْ بِبَعْضِ مَا فِي التَّوْرَاةِ ، وَجَحْدُهُمْ لَهُ ، كَصِفَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرِهَا مِمَّا كَتَمُوهُ وَجَحَدُوهُ ، وَهَذَا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) الْآيَةَ [ 2 \ 85 ] وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ) الِاسْتِعَانَةُ بِالصَّبْرِ عَلَى أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهَا ، وَأَمَّا نَتِيجَةُ الِاسْتِعَانَةِ بِالصَّلَاةِ ، فَقَدْ أَشَارَ لَهَا تَعَالَى فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ، فَذَكَرَ أَنَّ مِنْ نَتَائِجِ الِاسْتِعَانَةِ بِهَا النَّهْيَ عَمَّا لَا يَلِيقُ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [ 29 \ 45 ] ، وَأَنَّهَا تَجْلِبُ الرِّزْقَ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ) ، وَلِذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ بَادَرَ إِلَى الصَّلَاةِ .
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ : أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يُنَاجِيهِ ، وَيَتْلُو كِتَابَهُ هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللَّهِ وَرَهْبَةً مِنْهُ ، فَيَتَبَاعَدُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرْضِي اللَّهَ فَيَرْزُقُهُ اللَّهُ وَيَهْدِيهِ .
ابو وليد البحيرى
2020-07-09, 10:42 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (5)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُوا رَبِّهِمْ ) ، الْمُرَادُ بِالظَّنِّ هُنَا : الْيَقِينُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ) [ 2 \ 4 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) [ 23 \ 60 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ) الْآيَةَ ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمُ قَبُولِ الشَّفَاعَةِ مُطْلَقًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْمَنْفِيَّةَ هِيَ الشَّفَاعَةُ لِلْكُفَّارِ ، وَالشَّفَاعَةُ لِغَيْرِهِمْ بِدُونِ إِذْنِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .
أَمَّا الشَّفَاعَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِذْنِهِ فَهِيَ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ . فَنَصَّ عَلَى عَدَمِ الشَّفَاعَةِ لِلْكَفَّارِ بِقَوْلِهِ : ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ) [ 21 \ 28 ] ، وَقَدْ قَالَ : ( وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ) [ 39 \ 7 ] ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ مُقَرِّرًا لَهُ : ( فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ ) [ 26 \ 100 ] [ ص: 36 ] وَقَالَ : ( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) [ 74 \ 48 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي الشَّفَاعَةِ بِدُونِ إِذْنِهِ : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) [ 2 \ 255 ] ، وَقَالَ : ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ) [ 53 \ 26 ] ، وَقَالَ : ( يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ) [ 20 \ 109 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَادِّعَاءُ شُفَعَاءَ عِنْدَ اللَّهِ لِلْكُفَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إِذْنِهِ ، مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا ) [ 10 \ 18 ] .
تَنْبِيهٌ
هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لِلْكُفَّارِ مُسْتَحِيلَةٌ شَرْعًا مُطْلَقًا ، يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَفَاعَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فِي نَقْلِهِ مِنْ مَحَلٍّ مِنَ النَّارِ إِلَى مَحَلٍّ آخَرَ مِنْهَا ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ ، فَهَذِهِ الصُّورَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا مِنْ تَخْصِيصِ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ) الْآيَةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُ مْ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ فَرْقِ الْبَحْرِ بِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) [ 26 \ 63 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا ) الْآيَةَ [ 20 \ 77 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِغْرَاقِهِمْ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ) [ 26 \ 60 إِلَى 66 ] ، وَقَوْلِهِ : ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ) [ 20 \ 78 ] .
وَقَوْلِهِ : ( وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ ) [ 44 \ 24 ] ، وَقَوْلِهِ : ( رَهْوًا ) ، [ ص: 37 ] أَيْ : سَاكِنًا عَلَى حَالَةِ انْفِلَاقِهِ حَتَّى يَدْخُلُوا فِيهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ وَاعَدَهُ إِيَّاهَا مُجْتَمِعَةً أَوْ مُتَفَرِّقَةً ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّهَا مُتَفَرِّقَةٌ ، وَأَنَّهُ وَاعَدَهُ أَوَّلًا ثَلَاثِينَ ، ثُمَّ أَتَمَّهَا بِعَشْرٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَ ا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) [ 7 \ 124 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
لظَّاهِرُ فِي مَعْنَاهُ : أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى ، وَأَنَّمَا عَطَفَ عَلَى نَفْسِهِ تَنْزِيلًا لِتَغَايُرِ الصِّفَاتِ مَنْزِلَةَ تَغَايُرِ الذَّوَاتِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ مَوْصُوفٌ بِأَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مَكْتُوبٌ كَتَبَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ فُرْقَانٌ ؛ أَيْ : فَارَقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، فَعَطَفَ الْفُرْقَانَ عَلَى الْكِتَابِ ، مَعَ أَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ نَظَرًا لِتَغَايُرِ الصِّفَتَيْنِ ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحِمِ
بَلْ رُبَّمَا عَطَفَتِ الْعَرَبُ الشَّيْءَ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ فَقَطْ ، فَاكْتَفُوا بِالْمُغَايَرَة ِ فِي اللَّفْظِ . كَقَوْلِ الشَّاعِرِ : [ الْبَسِيطُ ]
إِنِّي لَأَعْظُمُ فِي صَدْرِ الْكَمِيِّ عَلَى مَا كَانَ فِيَّ مِنَ التَّجْدِيرِ وَالْقِصَرِ
الْقِصَرُ : هُوَ التَّجْدِيرُ بِعَيْنِهِ ، وَقَوْلُ الْآخَرِ : [ الْوَافِرُ ]
وَقَدَّدْتُ الْأَدِيمَ لِرَاهِشِيهِ وَأَلْفَى قَوْلُهَا كَذِبًا وَمَيْنَا
وَالْمَيْنُ : هُوَ الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ ، وَقَوْلُ الْآخَرِ : [ الطَّوِيلُ ]
أَلَا حَبَّذَا هِنْدٌ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ
وَالْبُعْدُ : هُوَ النَّأْيُ بِعَيْنِهِ ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ : [ الْكَامِلُ ]
حُيِّيتَ مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ
وَالْإِقْفَارُ : هُوَ الْإِقْوَاءُ بِعَيْنِهِ .
وَالدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى . قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ) الْآيَةَ [ 21 \ 48 ] .
[ ص: 38 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هَذَا الْعِجْلُ الْمَعْبُودُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ) [ 7 \ 148 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ ) [ 20 \ 87 ، 88 ] وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ لِلِاتِّخَاذِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ ، وَتَقْدِيرُهُ : بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إِلَهًا ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي سُورَةِ " طَهَ " بِقَوْلِهِ : ( فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى ) [ 87 \ 88 ] ، قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ) [ 2 \ 63 ] ، أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ : ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ) [ 7 \ 171 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ) [ 2 \ 63 ] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي آتَاهُمْ مَا هُوَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ الْكِتَابُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) [ 2 \ 53 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ) أَجْمَلَ قِصَّتَهُمْ هُنَا وَفَصَّلَهَا فِي سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " فِي قَوْلِهِ : ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ) [ الْآيَاتِ 163 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنُ لَنَا مَا هِيَ ) لَمْ يُبَيِّنْ مَقْصُودَهُمْ بِقَوْلِهِمْ : ( مَا هِيَ ) إِلَّا أَنَّ جَوَابَ سُؤَالِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ ( مَا هِيَ ) أَيْ : مَا سِنُّهَا ؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : ( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ ) الْآيَةَ . وَأَنَّ مُرَادَهُمْ بِقَوْلِهِمْ ( مَا هِيَ ) فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ هَلْ هِيَ عَامِلَةٌ أَوْ لَا ؟ وَهَلْ فِيهَا عَيْبٌ أَوْ لَا ؟ وَهَلْ فِيهَا وَشْيٌ مُخَالِفٌ لِلَوْنِهَا أَوْ لَا ؟ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : ( قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ) [ 2 \ 71 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ) لَمْ يُصَرِّحْ هَلْ هَذِهِ النَّفْسُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى ؟ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا ذَكَرٌ بِقَوْلِهِ : ( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ) [ 2 \ 73 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ )
الْآيَةَ ، أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى أَنَّ إِحْيَاءَ قَتِيلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ دَلِيلٌ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ ; لِأَنَّ مَنْ أَحْيَا نَفْسًا [ ص: 39 ] وَاحِدَةً بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ جَمِيعِ النُّفُوسِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي قَوْلِهِ : ( مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) [ 31 \ 28 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ ) الْآيَةَ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) [ 5 \ 13 ] ، وَقَوْلِهِ : ( فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) الْآيَةَ [ 57 \ 16 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ ) اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ ( بِالْأَمَانِيِّ ) هُنَا عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمْنِيَةِ الْقِرَاءَةُ ؛ أَيْ : لَا يَعْلَمُونَ مِنَ الْكِتَابِ إِلَّا قِرَاءَةَ أَلْفَاظٍ دُونَ إِدْرَاكِ مَعَانِيهَا . وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَتَنَاسَبُ مَعَ قَوْلِهِ ( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ ) ; لِأَنَّ الْأُمِّيَّ لَا يَقْرَأُ .
الثَّانِي : أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ ، وَالْمَعْنَى لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ، لَكِنْ يَتَمَنَّوْنَ أَمَانِيَّ بَاطِلَةً ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ : قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ) [ 2 \ 111 ] ، وَقَوْلِهِ : ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ) [ 4 \ 123 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ) الْآيَةَ ، يَعْنِي : تَقْتُلُونَ إِخْوَانَكُمْ ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ ، كَثْرَةُ وُرُودِهِ كَذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ قَوْلِهِ : ( وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ) [ 49 \ 11 ] أَيْ : لَا يَلْمِزْ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ وَقَوْلِهِ : ( لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات ُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ) [ 24 \ 12 ] أَيْ : بِإِخْوَانِهِمْ وَقَوْلِهِ : ( فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ) [ 2 \ 54 ] أَيْ : بِأَنْ يَقْتُلَ الْبَرِيءُ مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ مَنْ عَبَدَهُ مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ إِذَا أُصِيبَ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ )
يَتَبَيَّنُ مِمَّا قَبْلَهُ أَنَّ الْبَعْضَ الَّذِي آمَنُوا بِهِ هُوَ فِدَاءُ الْأَسَارَى مِنْهُمْ ، وَالْبَعْضَ الَّذِي كَفَرُوا بِهِ هُوَ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَقَتْلِهِمْ وَمُظَاهَرَةِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ كَفَرُوا بِغَيْرِ هَذَا مِنَ الْكِتَابِ وَآمَنُوا بِغَيْرِهِ مِنْهُ .
[ ص: 40 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ) [ 3 \ 49 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) هُوَ جِبْرِيلُ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ) [ 26 \ 193 ] ، وَقَوْلِهِ : ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ) الْآيَةَ [ 19 \ 17 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ )
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الْبَيِّنَاتُ وَبَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ ) [ 7 \ 133 ] ، وَقَوْلِهِ : ( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ ) الْآيَةَ [ 26 \ 32 - 33 ] ، وَقَوْلِهِ : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ) الْآيَةَ [ 26 \ 63 ] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ) الْآيَةَ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هُوَ مِنَ السَّمْعِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : سَمْعًا وَطَاعَةً ؛ أَيْ : إِجَابَةً وَطَاعَةً ، وَمِنْهُ : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ - فِي الصَّلَاةِ - أَيْ : أَجَابَ دُعَاءَ مَنْ حَمِدَهُ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ : ( إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ) [ 24 \ 51 ] وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، وَقِيلَ : إِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ( وَاسْمَعُوا ) أَيْ : بِآذَانِكُمْ وَلَا تَمْتَنِعُوا مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمَاعِ .
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ : أَنَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ رُبَّمَا امْتَنَعَ مِنْ أَصْلِ الِاسْتِمَاعِ خَوْفَ أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ الْأَنْبِيَاءِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ مَعَ قَوْمِهِ : ( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ) [ 71 \ 7 ] .
وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) [ 41 \ 26 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ) [ 22 \ 72 ]
ابو وليد البحيرى
2020-07-16, 03:52 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (6)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (5)
[ ص: 41 ] وَقَوْلِهِ : ( قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ) [ 2 \ 93 ] ; لِأَنَّ السَّمْعَ الَّذِي لَا يُنَافِي الْعِصْيَانَ هُوَ السَّمْعُ بِالْآذَانِ دُونَ السَّمْعِ بِمَعْنَى الْإِجَابَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ )
مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ أَحَدَ الْمَذْكُورِينَ يَتَمَنَّى أَنْ يَعِيشَ أَلْفَ سَنَةٍ ، وَطُولُ عُمُرِهِ لَا يُزَحْزِحُهُ ، أَيْ : لَا يُبْعِدُهُ عَنِ الْعَذَابِ ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ : ( أَنْ يُعَمَّرَ ) فَاعِلُ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ مُزَحْزِحُهُ عَلَى أَصَحِّ الْأَعَارِيبِ ، وَفِي " لَوْ " مِنْ قَوْلِهِ : ( لَوْ يُعَمَّرُ ) ، وَجْهَانِ : الْأَوَّلُ : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَنَّهَا حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ ، وَهِيَ وَصِلَتُهَا فِي تَأْوِيلِ مَفْعُولٍ بِهِ لِـ " يَوَدُّ " وَالْمَعْنَى : ( يَوَدُّ أَحَدُهُمْ ) أَيْ : يَتَمَنَّى تَعْمِيرَ أَلْفِ سَنَةٍ ، وَ " لَوْ " : قَدْ تَكُونُ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا لِقَوْلِ قَتِيلَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ :
مَا كَانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَّنَتْ وَرُبَّمَا مَنَّ الْفَتَى وَهُوَ الْمَغِيظُ الْمُحْنَقُ
أَيْ : مَا كَانَ ضَرَّكَ مِنْهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ ( لَوْ ) هُنَا هِيَ الشَّرْطِيَّةُ ، وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ : لَوْ يُعَمَّرْ أَلْفَ سَنَةٍ ، لَكَانَ ذَلِكَ أَحَبَّ شَيْءٍ إِلَيْهِ ، وَحُذِفَ جَوَابُ ( لَوْ ) مَعَ دَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ وَاقِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ ؛ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ) [ 102 \ 5 ] أَيْ : لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَمَا ( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ) [ 102 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ) [ 13 \ 31 ] أَيْ : لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَوْ لَكَفَرْتُمْ بِالرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
أَيْ : لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ سِوَاكَ لَدَفَعْنَاهُ . إِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى الْآيَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى مُبَيِّنًا أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ مُتِّعَ مَا مُتِّعَ مِنَ السِّنِينَ ، ثُمَّ انْقَضَى ذَلِكَ الْمَتَاعُ وَجَاءَهُ الْعَذَابُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَتَاعَ الْفَائِتَ لَا يَنْفَعُهُ ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا بَعْدَ انْقِضَائِهِ وَحُلُولِ الْعَذَابِ مَحِلَّهُ . وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) [ 26 \ 205 ، 206 ، 207 ] وَهَذِهِ هِيَ [ ص: 42 ] أَعْظَمُ آيَةٍ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي هُوَ طُولُ الْأَمَلِ . كَفَانَا اللَّهُ وَالْمُؤْمِنِين َ شَرَّهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جِبْرِيلَ أَلْقَى الْقُرْآنَ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ سَمَاعِ قِرَاءَةٍ ، وَنَظِيرُهَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ ) الْآيَةَ [ 26 \ 193 ، 194 ] وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْمَعَهُ مِنْهُ ، فَتَصِلُ مَعَانِيهِ إِلَى قَلْبِهِ بَعْدَ سَمَاعِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى تَنْزِيلِهِ عَلَى قَلْبِهِ ، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) [ 75 \ 16 ، 19 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) [ 20 \ 114 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الْفَاسِقُونَ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ ) ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْيَهُودَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْمُعَاهِدُ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُنْقِضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ) [ 8 \ 55 ، 56 ] ، وَصَرَّحَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُمْ أَهْلُ خِيَانَةٍ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ) [ 5 \ 13 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ) الْآيَةَ ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ نَبَذُوا كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْكِتَابِ هُمُ الْأَكْثَرُ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) [ 3 \ 110 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ مَا هُوَ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ) الْآيَةَ [ 4 \ 153 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ ) هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا [ ص: 43 ] هُوَ وَاضِحٌ مِنَ السِّيَاقِ ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ ( بِأَمْرِهِ ) .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هُوَ وَاحِدُ الْأَوَامِرِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ وَاحِدُ الْأُمُورِ ، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : بِأَنَّهُ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ ; فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمَذْكُورَ هُوَ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) [ 9 \ 29 ] . وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ وَاحِدُ الْأُمُورِ : فَهُوَ مَا صَرَّحَ اللَّهُ بِهِ فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِالْيَهُودِ مِنَ الْقَتْلِ وَالتَّشْرِيدِ كَقَوْلِهِ : ( فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ ) الْآيَةَ [ 59 \ 2 ، 3 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَالْآيَةُ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ عَلَى التَّحْقِيقِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ) . الْآيَةَ
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : نَزَلَتْ فِي صَدِّ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : فَالْخَرَابُ مَعْنَوِيٌّ ، وَهُوَ خَرَابُ الْمَسَاجِدِ بِمَنْعِ الْعِبَادَةِ فِيهَا . وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) الْآيَةَ [ 48 \ 25 ] .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْخَرَابُ الْمَذْكُورُ هُوَ الْخَرَابُ الْحِسِّيُّ . وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيمَنْ خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ بُخْتَنَصَّرُ أَوْ غَيْرُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا : ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) [ 17 \ 7 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) هَذَا الْوَلَدُ الْمَزْعُومُ عَلَى زَاعِمِهِ لَعَائِنُ اللَّهِ ، قَدْ جَاءَ مُفَصَّلًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) [ 9 \ 30 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ ) الْآيَةَ [ 16 \ 57 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدَيِ الظَّالِمِينَ ) يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنَّ مِنْ [ ص: 44 ] ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ظَالِمِينَ . وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ بِأَنَّ مِنْهُمْ ظَالِمًا وَغَيْرَ ظَالِمٍ كَقَوْلِهِ : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ) ، وَقَوْلِهِ : ( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) الْآيَةَ [ 43 \ 28 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ ) ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَفْعُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ لِقَوَاعِدِ الْبَيْتِ ، وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ " الْحَجِّ " أَنَّهُ أَرَاهُ مَوْضِعَهُ بِقَوْلِهِ : ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ) [ 22 \ 26 ] أَيْ : عَيَّنَّا لَهُ مَحِلَّهُ وَعَرَّفْنَاهُ بِهِ . قِيلَ : دَلَّهُ عَلَيْهِ بِمُزْنَةٍ كَانَ ظِلُّهَا قَدْرَ مِسَاحَتِهِ . وَقِيلَ : دَلَّهُ عَلَيْهِ بِرِيحٍ تُسَمَّى الْخُجُوجُ كَنَسَتْ عَنْهُ حَتَّى ظَهَرَ اسْمُهُ الْقَدِيمُ فَبَنَى عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ )
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الَّتِي أَجَابَ اللَّهُ بِهَا دُعَاءَ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا هَذَا الرَّسُولَ الْمَسْؤُولَ بَعَثَهُ فِيهِمْ مَنْ هُوَ ؟ وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّ تِلْكَ الْأُمَّةَ الْعَرَبُ ، وَالرَّسُولَ هُوَ سَيِّدُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) [ 62 \ 2 ، 3 ] ; لِأَنَّ الْأُمِّيِّينَ الْعَرَبُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَالرَّسُولَ الْمَذْكُورَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِجْمَاعًا ، وَلَمْ يُبْعَثْ رَسُولٌ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِلَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ الَّذِي دَعَا بِهِ إِبْرَاهِيمُ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ عُمُومَ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ) الْآيَةَ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [ 6 \ 161 ] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّهَا دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَكَذَا فِي قَوْلِهِ : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ) الْآيَةَ [ 16 \ 123 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ )
أَشَارَ إِلَى أَنَّهُ دِينُ الْإِسْلَامِ هُنَا بِقَوْلِهِ : ( فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ) [ ص: 45 ] [ 3 \ 19 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [ 3 \ 85 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ " الْأَعْلَى " أَنَّهُ صُحُفٌ ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي تِلْكَ الصُّحُفِ : ( بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) [ 87 \ 16 - 17 ] وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) [ 87 \ 18 ، 19 ] .
وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا أُوتِيَهُ مُوسَى وَعِيسَى ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، فَذَكَرَ أَنَّ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى هُوَ التَّوْرَاةُ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالصُّحُفِ فِي قَوْلِهِ : ( صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ : ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ) [ 6 \ 154 ] وَهُوَ التَّوْرَاةُ بِالْإِجْمَاعِ ، وَذَكَرَ أَنَّ مَا أُوتِيَهُ عِيسَى هُوَ الْإِنْجِيلُ كَمَا فِي قَوْلِهِ : ( وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ ) [ 57 \ 27 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) أَمَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِين َ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُوتِيَهُ جَمِيعُ النَّبِيِّينَ ، وَأَنْ لَا يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، حَيْثُ قَالَ : ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ) إِلَى قَوْلِهِ : ( وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا هَلْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَوْ لَا ؟ وَلَمْ يَذْكُرْ جَزَاءَهُمْ إِذَا فَعَلُوهُ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُمُ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُون َ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ) [ 2 \ 285 ] وَذَكَرَ جَزَاءَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) [ 4 \ 152 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) [ 1 \ 7 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) الْآيَةَ ؛ أَيْ : خِيَارًا عُدُولًا ، وَيَدُلُّ لِأَنَّ الْوَسَطَ الْخِيَارُ الْعُدُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [ 3 \ 110 ] وَذَلِكَ
ابو وليد البحيرى
2020-07-16, 04:01 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (7)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (6)
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) الْآيَةَ ؛ أَيْ : خِيَارًا عُدُولًا ، وَيَدُلُّ لِأَنَّ الْوَسَطَ الْخِيَارُ الْعُدُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ) [ 3 \ 110 ] وَذَلِكَ [ ص: 46 ] مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ :
هُمُ وَسْطٌ يَرْضَى الْأَنَامُ لِحُكْمِهِمْ إِذَا نَزَلَتْ إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هُوَ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَوِ الْآخِرَةِ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّهُ شَهِيدٌ عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا ) [ 4 \ 41 ، 42 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ ) الْآيَةَ ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَدْ يَتَوَهَّمُ مِنْهُ الْجَاهِلُ أَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - بَلْ هُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِالِاخْتِبَارِ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ بِقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا : ( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) [ 3 \ 154 ] فَقَوْلُهُ : ( وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) بَعْدَ قَوْلِهِ : ( لِيَبْتَلِيَ ) دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ بِالِاخْتِبَارِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ; لِأَنَّ الْعَلِيمَ بِذَاتِ الصُّدُورِغَنِي ٌّ عَنِ الِاخْتِبَارِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانٌ عَظِيمٌ لِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي يَذْكُرُ اللَّهُ فِيهَا اخْتِبَارَهُ لِخَلْقِهِ ، وَمَعْنَى ( إِلَّا لِنَعْلَمَ ) أَيْ : عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَفَائِدَةُ الِاخْتِبَارِ ظُهُورُ الْأَمْرِ لِلنَّاسِ . أَمَّا عَالِمُ السِّرِّ وَالنَّجْوَى فَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا سَيَكُونُ كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَوْلِهِ : ( مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ ) أَشَارَ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ مُخَاطِبًا لَهُ : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ) الْآيَةَ ; لِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ لَهُ إِجْمَاعًا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ ) أَيْ : صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَيَسْتَرْوِحُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهُ : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا ) وَلَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَةِ الِاقْتِرَانِ ، وَالْخِلَافُ فِيهَا مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَلَنُوَلِّيَنّ َكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ) بَيَّنَهُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) الْآيَةَ [ 2 \ 144 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( أَوَلَئِكَ يَلْعَنَهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنَهُمُ اللَّاعِنُونَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا اللَّاعِنُونَ ، [ ص: 47 ] وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) [ 2 \ 161 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) الْآيَةَ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا وَجْهَ كَوْنِهِمَا آيَةً ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : ( أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ) [ 50 \ 6 ، 7 ، 8 ] ، وَقَوْلِهِ : ( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ) [ 67 \ 3 ، 4 ، 5 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الْأَرْضِ : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) [ 67 \ 15 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا وَجْهَ كَوْنِ اخْتِلَافِهِمَا آيَةً ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [ 28 \ 71 ، 72 ، 73 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ تَسْخِيرِهِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [ 7 \ 57 ] ، وَقَوْلِهِ : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ) [ 24 \ 43 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ ) الْآيَةَ ، الْمُرَادُ بِالَّذِينَ ظَلَمُوا الْكُفَّارُ ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ : ( وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) [ 167 ] وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ : ( يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) [ 31 \ 31 ] .
[ ص: 48 ] قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا : ( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [ 2 \ 254 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ ) [ 10 \ 106 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ) الْآيَةَ ، أَشَارَ هُنَا إِلَى تَخَاصُمِ أَهْلِ النَّارِ ، وَقَدْ بَيَّنَ مِنْهُ غَيْرَ مَا ذُكِرَ هُنَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا ) [ 34 \ 31 ، 32 ، 33 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) لَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اتِّبَاعِ خُطُوَاتِهِ مِنَ الضَّرَرِ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ " النُّورِ " بِقَوْلِهِ : ( وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) الْآيَةَ [ 24 \ 21 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يَقُولُونَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي يَقُولُونَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ؛ هُوَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْبَحَائِرَ وَالسَّوَائِبَ وَنَحْوَهَا ، وَأَنَّ لَهُ أَوْلَادًا ، وَأَنَّ لَهُ شُرَكَاءَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا - فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَمْ يُحَرِّمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ) [ 5 \ 103 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ) الْآيَةَ [ 6 \ 140 ] ، وَقَوْلِهِ : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ) الْآيَةَ [ 10 \ 59 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ) [ 16 \ 116 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الشُّرَكَاءِ الْمَزْعُومَةِ بِقَوْلِهِ : ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) [ 10 \ 18 وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْأَوْلَادِ الْمَزْعُومَةِ بِقَوْلِهِ : ( قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ ) [ 2 \ 116 ] وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ فَظَهَرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَفْصِيلُ ( مَا ) أُجْمِلَ فِي اسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ ( مَا ) مِنْ قَوْلِهِ : ( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) .
[ ص: 49 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : ( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ ) الْآيَةَ ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ حَرَامٌ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ خَارِجَةٌ عَنْ ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) الْآيَةَ [ 5 \ 96 ] ، إِذْ لَيْسَ لِلْبَحْرِ طَعَامٌ غَيْرُ الصَّيْدِ إِلَّا مَيْتَتُهُ . وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ قَدِيدُهُ الْمُجَفَّفُ بِالْمِلْحِ مَثَلًا ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِصَيْدِهِ الطَّرِيُّ مِنْهُ ، فَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ ; لِأَنَّ الْقَدِيدَ مِنْ صَيْدِهِ فَهُوَ صَيْدٌ جُعِلَ قَدِيدًا ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِطَعَامِهِ مَيْتَتُهُ مِنْهُمْ : أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ وَعِكْرِمَةُ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ غَيْرَ الْمَسْفُوحِ مِنَ الدِّمَاءِ لَيْسَ بِحَرَامٍ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ) [ 6 \ 145 ] فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْمَسْفُوحِ كَالْحُمْرَةِ الَّتِي تَعْلُو الْقِدْرَ مِنْ أَثَرِ تَقْطِيعِ اللَّحْمِ لَيْسَ بِحَرَامٍ ، إِذْ لَوْ كَانَ كَالْمَسْفُوحِ لَمَا كَانَ فِي التَّقْيِيدِ بِقَوْلِهِ : ( مَسْفُوحًا ) .
فَائِدَةٌ
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ مَيْتَتَيْنِ وَدَمَيْنِ ، أَمَّا الْمَيْتَتَانِ : فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ ، وَأَمَّا الدَّمَانِ : فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْأَنْعَامِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ " هُوَ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " أَخْرَجَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُ " السُّنَنِ " وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ وَالدَّارَقُطْن ِيُّ فِي سُنَنِهِمَا ، وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " ، وَابْنُ الْجَارُودِ فِي " الْمُنْتَقَى " ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْبُخَارِيُّ .
وَظَاهِرُ عُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ وَعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَطَعَامُهُ ) يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ مُطْلَقًا ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَكَلَ مِنَ الْعَنْبَرِ ، وَهُوَ حُوتٌ أَلْقَاهُ الْبَحْرُ مَيْتًا وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ .
وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ عَلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ ، وَإِنْ أُخْرِجَ مِنْهُ مَاتَ كَالْحُوتِ ، وَقِسْمٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ ، كَالضَّفَادِعِ وَنَحْوِهَا .
أَمَّا الَّذِي لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ كَالْحُوتِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ ، [ ص: 50 ] وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِيمَا مَاتَ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ ، وَطَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَقَالَ فِيهِ : هُوَ مَكْرُوهُ الْأَكْلِ ، بِخِلَافِ مَا قَتَلَهُ إِنْسَانٌ أَوْ حَسِرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَمَاتَ ، فَإِنَّهُ مُبَاحُ الْأَكْلِ عِنْدَهُ .
وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ : كَالضَّفَادِعِ وَالسُّلَحْفَاة ِ وَالسَّرَطَانِ وَتُرْسِ الْمَاءِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ؛ فَذَهَبَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إِلَى أَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ مُبَاحَةُ الْأَكْلِ ، وَسَوَاءٌ مَاتَ بِنَفْسِهِ أَوْ وُجِدَ طَافِيًا أَوْ بِاصْطِيَادٍ ، أَوْ أُخْرِجَ حَيًّا ، أَوْ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، أَوْ دُسَّ فِي طِينٍ .
وَقَالَ ابْنُ نَافِعٍ ، وَابْنُ دِينَارٍ : مَيْتَةُ الْبَحْرِ مِمَّا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ نَجِسَةٌ .
وَنَقَلَ ابْنُ عَرَفَةَ قَوْلًا ثَالِثًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ فِي الْمَاءِ ، فَيَكُونُ طَاهِرًا ، أَوْ فِي الْبَرِّ فَيَكُونُ نَجِسًا ، وَعَزَاهُ لِعِيسَى ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ . وَالضَّفَادِعُ الْبَحْرِيَّةُ عِنْدَ مَالِكٍ مُبَاحَةُ الْأَكْلِ ، وَإِنْ مَاتَتْ فِيهِ .
وَفِي " الْمُدَوَّنَةِ " : وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّفَادِعِ وَإِنْ مَاتَتْ ; لِأَنَّهَا مِنْ صَيْدِ الْمَاءِ . ا ه .
أَمَّا مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ فَهِيَ حَرَامٌ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ ، وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ مَنْعُ الضَّفَادِعِ مُطْلَقًا وَلَوْ ذُكِّيَتْ ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
أَمَّا كَلْبُ الْمَاءِ وَخِنْزِيرُهُ فَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِيهِمَا الْكَرَاهَةُ .
قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " عَاطِفًا عَلَى مَا يُكْرَهُ ، وَكَلْبُ مَاءٍ وَخِنْزِيرُهُ .
وَقَالَ الْبَاجِيُّ : أَمَّا كَلْبُ الْبَحْرِ وَخِنْزِيرُهُ ، فَرَوَى ابْنُ شَعْبَانَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَقَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " : لَمْ يَكُنْ مَالِكٌ يُجِيبُنَا فِي خِنْزِيرِ الْمَاءِ بِشَيْءٍ ، وَيَقُولُ : أَنْتُمْ تَقُولُونَ خِنْزِيرًا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَأَنَا أَتَّقِيهِ وَلَوْ أَكَلَهُ رَجُلٌ لَمْ أَرَهُ حَرَامًا ، هَذَا هُوَ حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَحُجَّتَهُ فِي إِبَاحَةِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْبَحْرِيِّ كَانَ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ أَوْ لَا .
ابو وليد البحيرى
2020-07-16, 04:07 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (8)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) [ 5 \ 96 ] وَلَا طَعَامَ لَهُ غَيْرُ صَيْدِهِ إِلَّا مَيْتَتُهُ ، كَمَا قَالَهُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الْحَقُّ وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ : [ ص: 51 ] " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " وَقَدْ قَدَّمْنَا ثُبُوتَ هَذَا الْحَدِيثِ وَفِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ حَلَالٌ ، وَهُوَ فَصْلٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُفْرَدَ إِذَا أُضِيفَ إِلَى مَعْرِفَةٍ كَانَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ . كَقَوْلِهِ : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) [ 24 \ 63 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ) [ 14 \ 34 ] .
وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ : [ الرَّجَزُ ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَمَا مُعَرَّفًا بِأَلْ قَدْ وُجِدَا
أَوْ بِإِضَافَةٍ إِلَى مُعَرَّفٍ إِذَا تَحَقَّقَ الْخُصُوصُ قَدْ نَفَى
وَبِهِ نَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مَيْتَتُهُ " يَعُمُّ بِظَاهِرِهِ كُلَّ مَيْتَةٍ مِمَّا فِي الْبَحْرِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ أَنَّ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ بِلَا خِلَافٍ ، سَوَاءً كَانَ طَافِيًا عَلَى الْمَاءِ أَمْ لَا .
وَأَمَّا الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِيهِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي " الْأُمِّ " وَ " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ " ، وَاخْتِلَافِ الْعِرَاقِيِّين ِ : أَنَّ مَيْتَتَهُ كُلَّهُ حَلَالٌ ; لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا آنِفًا ، وَمُقَابِلُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَنْعُ مَيْتَةِ الْبَحْرِيِّ الَّذِي يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مُطْلَقًا .
الثَّانِي : التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ ، كَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ فَتُبَاحُ مَيْتَةُ الْبَحْرِيِّ مِنْهُ ، وَبَيْنَ مَا لَا يُؤْكَلُ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ كَالْخِنْزِيرِ وَالْكَلْبِ فَتُحْرَمُ مَيْتَةُ الْبَحْرِيِّ مِنْهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حُجَّةَ الْأَوَّلِ أَظْهَرُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَطَعَامُهُ ) كَمَا تَقَدَّمَ .
وَأَمَّا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ أَنْ كُلَّ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْمَاءِ فَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ ، وَالطَّافِي مِنْهُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ ، وَأَمَّا مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ فَمَيْتَتُهُ عِنْدَهُ حَرَامٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذَكَاتِهِ إِلَّا مَا لَا دَمَ فِيهِ ، كَالسَّرَطَانِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ ، وَاحْتَجَّ لِعَدَمِ إِبَاحَةِ مَيْتَةِ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ ; بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فَلَمْ يَبُحْ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ ، كَالطَّيْرِ . وَحَمَلَ الْأَدِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَلَى خُصُوصِ مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ . ا ه .
وَكَلْبُ الْمَاءِ عِنْدَهُ إِذَا ذُكِّيَ حَلَالٌ ، وَلَا يُخْفَى أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَدِلَّةِ الْعَامَّةِ يَحْتَاجُ [ ص: 52 ] إِلَى نَصٍّ ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ أَظْهَرُ دَلِيلًا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كُلَّ مَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ لَا يُؤْكَلُ الْبَحْرِيُّ مِنْهُ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ ، وَأَمَّا مَا لَا يَعِيشُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ وَهُوَ الْحُوتُ بِأَنْوَاعِهِ فَمَيْتَتُهُ عِنْدَهُ حَلَالٌ ، إِلَّا إِذَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فِي الْبَحْرِ وَطَفَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ عِنْدَهُ ، فَمَا قَتَلَهُ إِنْسَانٌ ، أَوْ حَسَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَمَاتَ ؛ حَلَالٌ عِنْدَهُ ، بِخِلَافِ الطَّافِي عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ ، وَحُجَّتُهُ فِيمَا يَعِيشُ فِي الْبَرِّ مِنْهُ : أَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : ( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ) [ 7 \ 157 ] وَحُجَّتُهُ فِي كَرَاهَةِ السَّمَكِ الطَّافِي مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبَدَةَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ ، وَمَا مَاتَ فِيهِ وَطَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ " ا ه .
قَالَ أَبُو دَاوُدَ : رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَأَيُّوبُ ، وَحَمَّادٌ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَوْقَفُوهُ عَلَى جَابِرٍ . وَقَدْ أُسْنِدَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ا ه .
وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنِ الِاحْتِجَاجِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ أَلْفَاظَ النُّصُوصِ عَامَّةٌ فِي مَيْتَةِ الْبَحْرِ ، وَأَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ الْعَامِّ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمُطْلَقُ ادِّعَاءِ أَنَّهُ خَبِيثٌ لَا يَرُدُّ بِهِ عُمُومَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي عُمُومِ مَيْتَةِ الْبَحْرِ ، وَعَنِ الِاحْتِجَاجِ الثَّانِي بِتَضْعِيفِ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " مَا نَصُّهُ : وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ ، فَهُوَ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ لَوْ لَمْ يُعَارِضْهُ شَيْءٌ ، فَكَيْفَ وَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - الْمُنْتَشِرَةِ ؟
وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيِّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ ، قَالَ : وَقَدْ رَوَاهُ [ ص: 53 ] غَيْرُهُ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ مَوْقُوفًا عَلَى جَابِرٍ قَالَ : وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : لَيْسَ هُوَ بِمَحْفُوظٍ ، وَيُرْوَى عَنْ جَابِرٍ خِلَافُهُ قَالَ : وَلَا أَعْرِفُ لِأَثَرِ ابْنِ أُمَيَّةَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ شَيْئًا .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَقَدْ رَوَاهُ أَيْضًا يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَرْفُوعًا ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ مَتْرُوكٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، قَالَ : وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، قَالَ : وَرَوَاهُ بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا ، وَلَا يُحْتَجُّ بِمَا يَنْفَرِدُ بِهِ بَقِيَّةُ ، فَكَيْفَ بِمَا يُخَالِفُ ؟ قَالَ : وَقَوْلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ جَابِرٍ مَعَ مَا رَوَيْنَاهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " ا ه .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ " مَنْ كَرِهَ أَكْلَ الطَّافِي " مَا نَصُّهُ : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ فَيْرُوزَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْحَسَّانِيُّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " مَا ضَرَبَ بِهِ الْبَحْرُ ، أَوْ جَزَرَ عَنْهُ ، أَوْ صِيدَ فِيهِ فَكُلْ ، وَمَا مَاتَ فِيهِ ، ثُمَّ طَفَا فَلَا تَأْكُلْ " وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ أَبُو أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِي ُّ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَزُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ مَوْقُوفًا ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ ، وَأَبُو عَاصِمٍ ، وَمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا ، وَخَالَفَهُمْ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ فَرَوَاهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَرْفُوعًا وَهُوَ وَاهِمٌ فِيهِ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ ، أَنْبَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ اللَّخْمِيُّ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ الْأَصْبَهَانِي ُّ ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِذَا طَفَا السَّمَكُ عَلَى الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْهُ ، وَإِذَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَكُلْهُ ، وَمَا كَانَ عَلَى حَافَّتِهِ فَكُلْهُ " قَالَ سُلَيْمَانُ : لَمْ يَرْفَعْ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سُفْيَانَ إِلَّا أَبُو أَحْمَدَ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ هَذَا الْكَلَامِ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الَّذِي قَدَّمْنَا ، وَالْكَلَامُ الَّذِي نَقَلْنَاهُ عَنِ النَّوَوِيِّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - فَتَحَصَّلَ : أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ فِي النَّهْيِ عَنْ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَضْعِيفِهِ وَعَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ . وَحَكَى النَّوَوِيُّ اتِّفَاقَ الْحُفَّاظِ عَلَى ضَعْفِهِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ ، وَحَكَمُوا بِأَنَّ وَقْفَهُ عَلَى جَابِرٍ أَثْبَتُ . وَإِذَنْ فَهُوَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ مُعَارَضٌ بِأَقْوَالِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ : أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - [ ص: 54 ] وَبِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ . وَقَدْ يَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ أَنَّ صِنَاعَةَ عِلْمِ الْحَدِيثِ وَالْأُصُولِ لَا تَقْتَضِي الْحُكْمَ بَرَدِّ حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ رَفْعَهُ جَاءَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَبَعْضِهَا صَحِيحٌ ، فَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ لَهُ مَرْفُوعًا الَّتِي قَدَّمْنَا ضَعَّفُوهَا بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهَا يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيَّ ، وَأَنَّهُ سَيِّئُ الْحِفْظِ .
وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ مَرْفُوعًا مَعَ أَنَّ يَحْيَى بْنَ سُلَيْمٍ الْمَذْكُورَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " ، وَرِوَايَةُ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ لَهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَرْفُوعًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالدَّارْقُطْن ِيِّ ، ضَعَّفُوهَا بِأَنَّهُ وَاهِمٌ فِيهَا ، قَالُوا : خَالَفَهُ فِيهَا وَكِيعٌ وَغَيْرُهُ ، فَرَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ مَوْقُوفًا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيَّ الْمَذْكُورَ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ دِرْهَمٍ الْأَسْدِيُّ ثِقَةٌ ثَبَتٌ ، وَإِنْ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : إِنَّهُ قَدْ يُخْطِئُ فِي حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ بِرَفْعِهِ تُعَضِّدَانِ بِرِوَايَةِ بَقِيَّةِ بْنِ الْوَلِيدِ لَهُ مَرْفُوعًا عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ ، وَبَقِيَّةُ الْمَذْكُورُ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ . وَيَعْتَضِدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِرِوَايَةِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ لَهُ ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا .
وَرِوَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ لَهُ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا ، وَإِنْ كَانَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَيَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ الْمَذْكُورَانِ ضَعِيفَيْنِ ؛ لِاعْتِضَادِ رِوَايَتِهِمَا بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ ، وَيَعْتَضِدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِرِوَايَةِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ لَهُ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكُمَ عَلَى حَدِيثِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ بِأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ ; لِمَا رَأَيْتَ مِنْ طُرُقِ الرَّفْعِ الَّتِي رُوِيَ بِهَا وَبَعْضِهَا صَحِيحٌ ، كَرِوَايَةِ أَبِي أَحْمَدَ الْمَذْكُورَةِ ، وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ .
قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]
وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ
إِلَخْ . . . نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ ; لِأَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَحْرِ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " أَقْوَى مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ هَذَا ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ اعْتِضَادُهُ بِالْقِيَاسِ ; لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْقِيَاسِ بَيْنَ الطَّافِي وَغَيْرِهِ . وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ لَا يَتَعَارَضُ عَامٌّ وَخَاصٌّ ، [ ص: 55 ] وَحَدِيثُ جَابِرٍ فِي خُصُوصِ الطَّافِي فَهُوَ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ أَدِلَّةِ الْإِبَاحَةِ .
فَالدَّلِيلُ عَلَى كَرَاهَةِ أَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي لَا يَخْلُو مِنْ بَعْضِ قُوَّةٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ . وَالْمُرَادُ بِالسَّمَكِ الطَّافِي هُوَ الَّذِي يَمُوتُ فِي الْبَحْرِ ، فَيَطْفُو عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَكُلُّ مَا عَلَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ ، وَلَمْ يَرْسُبْ فِيهِ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ طَافِيًا . وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : [ الْوَافِرُ ]
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَ
وَيُحْكَى فِي نَوَادِرِ الْمَجَانِينِ أَنَّ مَجْنُونًا مَرَّ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَنِي طُفَاوَةَ يَخْتَصِمُونَ فِي غُلَامٍ ، فَقَالَ لَهُمُ الْمَجْنُونُ : أَلْقُوا الْغُلَامَ فِي الْبَحْرِ فَإِنْ رَسَبَ فِيهِ فَهُوَ مِنْ بَنِي رَاسِبٍ ، وَإِنْ طَفَا عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ مِنْ بَنِي طُفَاوَةَ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ ) [ 5 \ 96 ] . قَالَ عُمَرُ : صَيْدُهُ مَا اصْطِيدَ ، وَطَعَامُهُ مَا رَمَى بِهِ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : الطَّافِي حَلَالٌ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذُرَتْ مِنْهَا ، وَالْجَرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ .
وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ ، وَقَالَ عَطَاءٌ : أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ نَذْبَحَهُ .
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قُلْتُ لِعَطَاءٍ : صَيْدُ الْأَنْهَارِ وَقِلَاتُ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ثُمَّ تَلَا : ( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) [ 35 \ 12 ] وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ . وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُم ْ . وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاة ِ بَأْسًا .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٍّ أَوْ يَهُودِيٍّ أَوْ مَجُوسِيٍّ . وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِيِّ : ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ . انْتَهَى مِنَ الْبُخَارِيِّ بِلَفْظِهِ . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ إِلَّا مَا كَانَ صَحِيحًا ثَابِتًا عِنْدَهُ .
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْمُعَلَّقَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبُخَارِيُّ مَا نَصُّهُ : قَوْلُهُ : قَالَ عُمَرُ - هُوَ ابْنُ الْخَطَّابِ - " صَيْدُهُ " مَا اصْطِيدَ ، وَ " طَعَامُهُ " مَا رَمَى بِهِ . وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي " التَّارِيخِ " وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيقِ [ ص: 56 ] عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا قَدِمْتُ الْبَحْرَيْنِ سَأَلَنِي أَهْلُهَا عَمَّا قَذَفَ الْبَحْرُ ؟ فَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ ، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ فَذَكَرَ قِصَّةً قَالَ : فَقَالَ عُمَرُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) [ 5 \ 96 ] فَصَيْدُهُ : مَا صِيدَ ، وَطَعَامُهُ : مَا قَذَفَ بِهِ . قَوْلُهُ : وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ - هُوَ الصَّدِّيقُ - : الطَّافِي حَلَالٌ ، وَصَلَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَالطَّحَاوِيُّ وَالدَّارَقُطْن ِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَشِيرٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ : السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ حَلَالٌ . زَادَ الطَّحَاوِيُّ : لِمَنْ أَرَادَ أَكْلَهُ ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَكَذَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، وَالطَّبَرِيُّ مِنْهَا . وَفِي بَعْضِهَا أَشْهَدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ أَكَلَ السَّمَكَ الطَّافِي عَلَى الْمَاءِ ، وَلِلدَّارَقُطْ نِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ : أَنَّ اللَّهَ ذَبَحَ لَكُمْ مَا فِي الْبَحْرِ فَكُلُوهُ كُلُّهُ فَإِنَّهُ ذَكِيٌّ .
قَوْلُهُ : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : طَعَامُهُ مَيْتَتُهُ إِلَّا مَا قَذِرْتَ مِنْهَا ، وَصَلَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ ) ، قَالَ طَعَامُهُ : مَيْتَتُهُ . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ صَيْدَ الْبَحْرِ : لَا تَأْكُلْ مِنْهُ طَافِيًا ، فِي سَنَدِهِ الْأَجْلَحُ وَهُوَ لَيِّنٌ ، وَيُوَهِّنُهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاضِي قَبْلَهُ ، قَوْلُهُ : وَالْجَرِّيُّ لَا تَأْكُلُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ ، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْجَرِّيِّ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ كَرِهَتْهُ الْيَهُودُ . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ وَكِيعٍ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ بِهِ ، وَقَالَ فِي رِوَايَتِهِ : سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْجَرِّيِّ ، فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ; إِنَّمَا تُحَرِّمُهُ الْيَهُودُ وَنَحْنُ نَأْكُلُهُ ، وَهَذَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ . وَأَخْرَجَ عَنْ عَلِيٍّ وَطَائِفَةٍ نَحْوَهُ . وَالْجَرِّيُّ بِفَتْحِ الْجِيمِ قَالَ ابْنُ التِّينِ : وَفِي نُسْخَةٍ بِالْكَسْرِ ، وَهُوَ ضَبْطُ الصِّحَاحِ ، وَكَسْرُ الرَّاءِ الثَّقِيلَةِ قَالَ : وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : الْجَرِّيتُ وَهُوَ مَا لَا قِشْرَ لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : إِنَّمَا أَكْرَهُهُ ; لِأَنَّهُ يُقَالُ : إِنَّهُ مِنَ الْمَمْسُوخِ . وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ : الْجَرِّيتُ نَوْعٌ مِنَ السَّمَكِ يُشْبِهُ الْحَيَّاتِ . وَقِيلَ : سَمَكٌ لَا قِشْرَ لَهُ ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : الْمَرْمَاهِيُّ ، وَالسَّلُّورُ مِثْلُهُ . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هُوَ ضَرْبٌ مِنَ السَّمَكِ يُشْبِهُ الْحَيَّاتِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : نَوْعٌ عَرِيضُ الْوَسَطِ ، دَقِيقُ الطَّرَفَيْنِ . قَوْلُهُ : وَقَالَ شُرَيْحٌ صَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ ، وَقَالَ عَطَاءٌ : أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ ، وَصَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي " التَّارِيخِ " وَابْنُ مَنْدَهْ فِي [ ص: 57 ] " الْمَعْرِفَةِ " مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا سَمِعَا شُرَيْحًا صَاحِبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : كُلُّ شَيْءٍ فِي الْبَحْرِ مَذْبُوحٌ . قَالَ : فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَطَاءٍ . فَقَالَ : أَمَّا الطَّيْرُ فَأَرَى أَنْ تَذْبَحَهُ ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي " الصَّحَابَةِ " مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ شُرَيْحٍ ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ .
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي الْأَطْعِمَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، سَمِعْتُ شَيْخًا كَبِيرًا يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا فِي الْبَحْرِ دَابَّةٌ إِلَّا قَدْ ذَبَحَهَا اللَّهُ لِبَنِي آدَمَ ، وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِي ُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسٍ رَفَعَهُ : " أَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَبَحَ كُلَّ مَا فِي الْبَحْرِ لِبَنِي آدَمَ " وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ ، وَالطَّبَرَانِي ُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَفَعَهُ نَحْوَهُ ، وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بِسَنَدَيْنِ جَيِّدَيْنِ عَنْ عُمَرَ ، ثُمَّ عَنْ عَلِيٍّ : الْحُوتُ ذَكِيٌّ كُلُّهُ ، قَوْلُهُ ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قُلْتُ لِعَطَاءٍ : صَيْدُ الْأَنْهَارِ وَقِلَاتُ السَّيْلِ أَصَيْدُ بَحْرٍ هُوَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، ثُمَّ تَلَا : ( هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ) [ 35 \ 12 ] ، وَصَلَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي " التَّفْسِيرِ " عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهَذَا سَوَاءٌ ، وَأَخْرَجَهُ الْفَاكِهِيُّ فِي كِتَابِ " مَكَّةَ " مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ أَبِي رَوَّادٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا ، وَفِيهِ : وَسَأَلْتُهُ عَنْ حِيتَانِ بِرْكَةِ الْقُشَيْرِيِّ - وَهِيَ بِئْرٌ عَظِيمَةٌ فِي الْحَرَمِ - أَتُصَادُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَسَأَلْتُهُ عَنِ ابْنِ الْمَاءِ وَأَشْبَاهِهِ أَصَيْدُ بَحْرٍ أَمْ صَيْدُ بَرٍّ ؟ فَقَالَ : حَيْثُ يَكُونُ أَكْثَرَ فَهُوَ صَيْدٌ .
وَقِلَاتٌ : بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ وَآخِرُهُ مُثَنَّاةٌ ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْأَصِيلِيِّ مُثَلَّثَةٌ . وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ : جَمْعُ قَلْتٍ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ مِثْلَ : بَحْرٌ وَبِحَارٌ ، وَهُوَ النَّقْرَةُ فِي الصَّخْرَةِ ، يُسْتَنْقَعُ فِيهَا الْمَاءُ . قَوْلُهُ : وَرَكِبَ الْحَسَنُ عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : لَوْ أَنَّ أَهْلِي أَكَلُوا الضَّفَادِعَ لَأَطْعَمْتُهُم ْ ، وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بِالسُّلَحْفَاة ِ بَأْسًا . أَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ الْأَوَّلِ فَقِيلَ إِنَّهُ ابْنُ عَلِيٍّ ، وَقِيلَ : الْبَصْرِيُّ ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ وَقَعَ فِي رِوَايَةٍ : وَرَكِبَ الْحَسَنُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَوْلِهِ : عَلَى سَرْجٍ مِنْ جُلُودٍ ، أَيْ : مُتَّخَذٍ مِنْ جُلُودِ كِلَابِ الْمَاءِ . وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ : فَالضَّفَادِعُ جَمْعُ ضِفْدَعٍ ، بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَفَتَحِ الدَّالِ وَبِكَسْرِهَا أَيْضًا ، وَحُكِيَ ضَمُّ أَوَّلِهِ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ ، وَالضَّفَادِي بِغَيْرِ عَيْنٍ لُغَةٌ فِيهِ ، قَالَ ابْنُ التِّينِ : لَمْ يُبَيِّنِ الشَّعْبِيُّ هَلْ تُذَكَّى أَمْ لَا ؟ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهَا تُؤْكَلُ بِغَيْرِ تَذْكِيَةٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ مَا مَأْوَاهُ الْمَاءُ وَغَيْرُهُ ، وَعَنِ الْحَنَفِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنِ الشَّافِعِيِّ : لَا بُدَّ مِنَ التَّذْكِيَةِ .
[ ص: 58 ] قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : مَيْتَةُ الضَّفَادِعِ الْبَرِّيَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي نَجَاسَتِهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) [ 5 \ 3 ] وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ ; لِأَنَّهَا بَرِّيَّةٌ ، كَمَا صَرَّحَ عَبْدُ الْحَقِّ بِأَنَّ مَيْتَتَهَا نَجِسَةٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ . نَقَلَهُ عَنْهُ الْحَطَّابُ وَالْمَوَّاقُ وَغَيْرُهُمَا فِي شَرْحِ قَوْلِ خَلِيلٍ : وَالْبَحْرِيُّ وَلَوْ طَالَتْ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ السَّابِقِ : وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فِي السُّلَحْفَاةِ فَوَصَلَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُسَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بِأَكْلِ السُّلَحْفَاةِ بَأْسًا ، وَمِنْ طَرِيقِ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا ، وَالسُّلَحْفَاة ُ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا فَاءٌ ثُمَّ أَلِفٌ ثُمَّ هَاءٌ ، وَيَجُوزُ بَدَلُ الْهَاءِ هَمْزَةً حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ ، وَهِيَ رِوَايَةُ عَبْدُوسٍ .
وَحُكِيَ أَيْضًا فِي الْمُحْكَمِ : بِسُكُونِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْحَاءِ .
وَحُكِيَ أَيْضًا : سُلَحْفِيَةٌ كَالْأَوَّلِ لَكِنْ بِكَسْرِ الْفَاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ مَفْتُوحَةٌ .
قَوْلُهُ : وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كُلْ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ .
قَالَ الْكِرْمَانِيُّ : كَذَا فِي النُّسَخِ الْقَدِيمَةِ وَفِي بَعْضِهَا " مَا صَادَهُ " قَبْلَ لَفْظِ " نَصْرَانِيٌّ " . قُلْتُ : وَهَذَا التَّعْلِيقُ وَصَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . قَالَ : كُلْ مَا أَلْقَى الْبَحْرُ وَمَا صِيدَ مِنْهُ ؛ صَادَهُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ .
قَالَ ابْنُ التِّينِ : مَفْهُومُهُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يُؤْكَلُ إِنْ صَادَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ قَوْمٍ .
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَطَاءٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَبِسَنَدٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَاهِيَةَ صَيْدِ الْمَجُوسِيِّ السَّمَكَ . انْتَهَى مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي " بِلَفْظِهِ .
وَقَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ : فِي الْمُرْيِ ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ فِي لَفْظِهِ أَنَّ ذَبَحَ فِعْلٌ مَاضٍ ، وَالْخَمْرَ مَفْعُولٌ بِهِ ، وَالنِّينَانُ فَاعِلُ ذَبَحَ ، وَالشَّمْسُ بِالرَّفْعِ مَعْطُوفٌ عَلَى الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ النِّينَانُ ، وَهِيَ جَمْعُ نُونٍ وَهُوَ : الْحُوتُ وَالْمُرْيُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ بَعْدَهَا تَحْتَانِيَّةٌ عَلَى الصَّحِيحِ ، خِلَافًا لِصَاحِبِ " الصِّحَاحِ " وَ " النِّهَايَةِ " فَقَدْ ضَبَطَاهُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ نِسْبَةً إِلَى الْمُرِّ وَهُوَ الطَّعْمُ الْمَشْهُورُ ، وَالْمُرْيُ الْمَذْكُورُ طَعَامٌ كَانَ يُعْمَلُ بِالشَّامِ ، يُؤْخَذُ الْخَمْرُ فَيُجْعَلُ فِيهِ الْمِلْحُ وَالسَّمَكُ ، وَيُوضَعُ فِي [ ص: 59 ] الشَّمْسِ فَيَتَغَيَّرُ عَنْ طَعْمِ الْخَمْرِ وَيَصِيرُ خَلًّا ، وَتَغْيِيرُ الْحُوتِ وَالْمِلْحِ وَالشَّمْسِ لَهُ عَنْ طَعْمِ الْخَمْرِ إِزَالَةُ الْإِسْكَارِ عَنْهُ ، هُوَ مُرَادُ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِذَبْحِ الْحِيتَانِ وَالشَّمْسِ لَهُ ، فَاسْتَعَارَ الذَّبْحَ لِإِذْهَابِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الَّتِي بِهَا الْإِسْكَارُ ، وَأَثَرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ هَذَا وَصَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لَهُ ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، فَذَكَرَهُ سَوَاءً .
وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرَى إِبَاحَةَ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ مَنْعَ تَخْلِيلِهَا ، فَإِنْ تَخَلَّلَتْ بِنَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَهِيَ حَلَالٌ إِجْمَاعًا ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ : وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٌ يَأْكُلُونَ هَذَا الْمُرْيَ الْمَعْمُولَ بِالْخَمْرِ . وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي طَهَارَةِ صَيْدِ الْبَحْرِ ، يُرِيدُ أَنَّ السَّمَكَ طَاهِرٌ حَلَالٌ ، وَأَنَّ طَهَارَتَهُ وَحِلَّهُ يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ كَالْمِلْحِ حَتَّى يَصِيرَ الْحَرَامُ النَّجِسُ بِإِضَافَتِهَا إِلَيْهِ طَاهِرًا حَلَالًا ، وَهَذَا رَأْيُ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْلِيلَ الْخَمْرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَجَمَاعَةٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَالظَّاهِرُ مَنْعُ أَكْلِ الضَّفَادِعِ مُطْلَقًا ; لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ : أَنَّ طَبِيبًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهَا .
وَقَالَ النَّسَائِيُّ فِي " سُنَنِهِ " : أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ ، أَنَّ طَبِيبًا ذَكَرَ ضِفْدَعًا فِي دَوَاءٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِهِ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : وَأَمَّا حَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الضِّفْدَعِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ، وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيِّ الصَّحَابِيِّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ، قَالَ : سَأَلَ طَبِيبٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ضِفْدَعٍ يَجْعَلُهَا فِي دَوَاءٍ فَنَهَاهُ عَنْ قَتْلِهَا ، وَسَيَأْتِي لِتَحْرِيمِ أَكْلِ الضِّفْدَعِ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ " الْأَنْعَامِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : ( قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ ) الْآيَةَ [ 6 \ 145 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-07-16, 04:13 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (9)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (8)
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ تَحْرِيمِ الضِّفْدَعِ مُطْلَقًا قَالَ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، وَنَقَلَ الْعَبْدَرِيُّ ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ [ ص: 60 ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَنَّ جَمِيعَ مَيْتَاتِ الْبَحْرِ كُلَّهَا حَلَالٌ إِلَّا الضِّفْدَعَ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التِّمْسَاحَ لَا يُؤْكَلُ ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنِ اشْتَهَاهُ .
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ : لَا يُؤْكَلُ التِّمْسَاحُ وَلَا الْكَوْسَجُ ; لِأَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ النَّاسَ . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِ : أَنَّهُ قَالَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَحْرِ كَمَا يَكْرَهُونَ سِبَاعَ الْبَرِّ ، وَذَلِكَ لِنَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ .
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ النَّجَّادُ : مَا حَرُمَ نَظِيرُهُ فِي الْبَرِّ فَهُوَ حَرَامٌ فِي الْبَحْرِ كَكَلْبِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ وَإِنْسَانِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ إِلَّا فِي الْكَلْبِ ; فَإِنَّهُ يَرَى إِبَاحَةَ كَلْبِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " وَمَنَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَكْلَ السُّلَحْفَاةِ الْبَحْرِيَّةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
تَنْبِيهٌ
الدَّمُ أَصْلُهُ دَمِيَ ، يَائِيُّ اللَّامِ وَهُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الَّتِي حَذَفَتِ الْعَرَبُ لَامَهَا ، وَلَمْ تُعَوِّضْ عَنْهَا شَيْئًا ، وَأَعْرَبَتْهَا عَلَى الْعَيْنِ ، وَلَامُهُ تَرْجِعُ عِنْدَ التَّصْغِيرِ ، فَتَقُولُ : دُمَيٌّ بِإِدْغَامِ يَاءِ التَّصْغِيرِ فِي يَاءِ لَامِ الْكَلِمَةِ ، وَتَرْجِعُ أَيْضًا فِي جَمْعِ التَّكْسِيرِ ، فَالْهَمْزَةُ فِي الدِّمَاءِ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْيَاءِ الَّتِي هِيَ لَامُ الْكَلِمَةِ ، وَرُبَّمَا ثَبَتَتْ أَيْضًا فِي التَّثْنِيَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ سُحَيْمٍ الرِّيَاحِيِّ : [ الْوَافِرِ ]
وَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذَبَحْنَا جَرَى الدَّمَيَانِ بِالْخَبَرِ الْيَقِينِ
وَكَذَلِكَ تَثْبُتُ لَامُهُ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ ، وَالْوَصْفِ فِي حَالَةِ الِاشْتِقَاقِ مِنْهُ فَتَقُولُ : فِي الْمَاضِي دَمِيَتْ يَدُهُ كَرَضِيَ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : [ الرَّجَزِ ]
هَلْ أَنْتَ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ
وَتَقُولُ فِي الْمُضَارِعِ : يَدْمَى بِإِبْدَالِ الْيَاءِ أَلِفًا كَمَا فِي يَرْضَى ، وَيَسْعَى ، وَيَخْشَى ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الطَّوِيلِ ]
وَلَسْنَا عَلَى الْأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا تَقْطُرُ الدَّمَا
وَتَقُولُ فِي الْوَصْفِ : أَصْبَحَ جُرْحُهُ دَامِيًا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ : [ الرَّاجِزِ ]
نَرُدُّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا نَرُدُّهَا دَامِيَةً كُلَاهَا
[ ص: 61 ] وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ لَامَهُ أَصْلُهَا يَاءٌ ، وَقِيلَ أَصْلُهَا : وَاوٌ وَإِنَّمَا أُبْدِلَتْ يَاءً فِي الْمَاضِي ; لِتَطَرُّفِهَا بَعْدَ الْكَسْرِ كَمَا فِي قَوِيَ ، وَرَضِيَ ، وَشَجِيَ ، الَّتِي هِيَ وَاوِيَّاتُ اللَّامِ فِي الْأَصْلِ ; لِأَنَّهَا مِنَ الرِّضْوَانِ ، وَالْقُوَّةِ ، وَالشَّجْوِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمُ : الْأَصْلُ فِيهِ دَمَى بِفَتْحِ الْمِيمِ ، وَقِيلَ : بِإِسْكَانِهَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ ) ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ اضْطِرَارِهِ ، وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي وَالْعَادِي ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ سَبَبَ الِاضْطِرَارِ الْمَذْكُورَ الْمَخْمَصَةُ ، وَهِيَ الْجُوعُ وَهُوَ قَوْلُهُ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ) [ 5 \ 3 ] وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَاغِي وَالْعَادِي الْمُتَجَانِفُ لِلْإِثْمِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ ) . وَالْمُتَجَانِف ُ : الْمَائِلُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى : [ الطَّوِيلِ ]
تَجَانَفُ عَنْ حَجَرِ الْيَمَامَةِ نَاقَتِي وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسِوَائِكَا
فَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْبَاغِي وَالْعَادِي كِلَاهُمَا مُتَجَانِفٌ لِإِثْمٍ ، وَهَذَا غَايَةُ مَا يُفْهَمُ مِنْهَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْإِثْمُ الَّذِي تَجَانَفَ إِلَيْهِ الْبَاغِي : هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ اسْمُ الْبَغْيِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْإِمَامِ ، وَالْإِثْمُ الَّذِي تَجَانَفَ إِلَيْهِ الْعَادِي : هُوَ إِخَافَةُ الطَّرِيقِ وَقَطْعُهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ كُلُّ سَفَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ . ا ه .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِثْمُ الْبَاغِي وَالْعَادِي أَكْلُهُمَا الْمُحَرَّمَ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ كَالتَّأْكِيدِ لِقَوْلِهِ : ( فَمَنِ اضْطُرَّ ) [ 2 \ 173 ] ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ لِقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ خَافَا الْهَلَاكَ مَا لَمْ يَتُوبَا ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لَهُمَا لِقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْخَارِجِ عَلَى الْإِمَامِ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ خَافَا الْهَلَاكَ مَا لَمْ يَتُوبَا ، وَعَلَى الثَّانِي يَجُوزُ لَهُمَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ إِنْ خَافَا الْهَلَاكَ ، وَإِنْ لَمْ يَتُوبَا .
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ الْمَعْنَى ( غَيْرَ بَاغٍ ) أَيْ : فِي أَكْلِهِ فَوْقَ حَاجَتِهِ ( وَلَا عَادٍ ) ، بِأَنْ يَجِدَ عَنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ مَنْدُوحَةً وَيَأْكُلُهَا .
وَنَقَلَ أَيْضًا عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْمَعْنَى ( غَيْرَ بَاغٍ ) فِي أَكْلِهَا شَهْوَةً وَتَلَذُّذًا ( وَلَا عَادٍ ) [ ص: 62 ] بِاسْتِيفَاءِ الْأَكْلِ إِلَى حَدِّ الشِّبَعِ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُمَا : الْمَعْنَى ( غَيْرَ بَاغٍ ) عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، ( وَلَا عَادٍ ) عَلَيْهِمْ ، فَيَدْخُلُ فِي الْبَاغِي وَالْعَادِي قُطَّاعُ الطَّرِيقِ ، وَالْخَارِجُ عَلَى السُّلْطَانِ ، وَالْمُسَافِرُ فِي قَطْعِ الرَّحِمِ ، وَالْغَارَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَمَا شَاكَلَهُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ; فَإِنَّ أَصْلَ الْبَغْيِ فِي اللُّغَةِ قَصْدُ الْفَسَادِ ، يُقَالُ : بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا فَجَرَتْ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ ) [ 24 \ 33 ] وَرُبَّمَا اسْتُعْمِلَ الْبَغْيُ فِي طَلَبِ غَيْرِ الْفَسَادِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : خَرَجَ الرَّجُلُ فِي بِغَاءِ إِبِلٍ لَهُ ؛ أَيْ : فِي طَلَبِهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ مُرَفَّلِ الْكَامِلِ ]
لَا يَمْنَعَنَّكَ مِنْ بِغَا ءِ الْخَيْرِ تَعْقَادُ الرَّتَائِمْ
إِنَّ الْأَشَائِمَ كَالْأَيَا مِنِ وَالْأَيَامِنَ كَالْأَشَائِمْ
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاضْطِرَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : الْإِكْرَاهُ عَلَى أَكْلِ الْمُحَرَّمِ ، كَالرَّجُلِ يَأْخُذُهُ الْعَدُوُّ ، فَيُكْرِهُونَهُ عَلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَكَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمَخْمَصَةُ الَّتِي هِيَ الْجُوعُ كَمَا ذَكَرْنَا .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ آيَةَ ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ) [ 5 \ 3 ] ، مُبَيِّنَةٌ لِذَلِكَ ، وَحُكْمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَكْلِ مَا ذُكِرَ يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : ( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ) [ 16 \ 106 ] بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَحَدِيثِ : " إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " .
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالِاضْطِرَارِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ مَا يَسُدُّ رَمَقَهُ وَيُمْسِكُ حَبَّاتِهِ ، وَأَجْمَعُوا أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْسِ الشِّبَعِ هَلْ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَوْ لَيْسَ لَهُ مُجَاوَزَةُ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ ، وَيَأْمَنُ مَعَهُ الْمَوْتَ .
[ ص: 63 ] فَذَهَبَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْمَيْتَةِ ، وَيَتَزَوَّدَ مِنْهَا ، قَالَ فِي " مُوَطَّئِهِ " : إِنَّ أَحَسَنَ مَا سُمِعَ فِي الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ ، أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهَا حَتَّى يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدُ مِنْهَا ، فَإِنْ وَجَدَ عَنْهَا غِنًى طَرَحَهَا .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : حُجَّةُ مَالِكٍ أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَيْسَ مِمَّنْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ الْمَيْتَةُ ، فَإِذَا كَانَتْ حَلَالًا لَهُ أَكَلَ مِنْهَا مَا شَاءَ حَتَّى يَجِدَ غَيْرَهَا فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا إِلَّا قَدْرَ مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ وَيُمْسِكُ الْحَيَاةَ ، وَحُجَّتُهُمَا : أَنَّ الْمَيْتَةَ لَا تُبَاحُ إِلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَإِذَا حَصَلَ سَدُّ الرَّمَقِ انْتَفَتِ الضَّرُورَةُ فِي الزَّائِدِ عَلَى ذَلِكَ .
وَعَلَى قَوْلِهِمَا دَرَجَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " حَيْثُ قَالَ : وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرُ آدَمِيٍّ .
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَمَحَلٌّ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ فِيمَا إِذَا كَانَتِ الْمَخْمَصَةُ نَادِرَةً ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ دَائِمَةً فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشِّبَعِ مِنْهَا .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي الْقَوْلَيْنِ كَحُجَّةِ الْمَالِكِيَّةِ فِيهِمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا . وَالْقَوْلَانِ الْمَذْكُورَانِ مَشْهُورَانِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ .
وَاخْتَارَ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ لَا يُجَاوِزُ سَدَّ الرَّمَقِ ، وَرَجَّحَهُ الْقَفَّالُ وَكَثِيرُونَ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : إِنَّهُ الصَّحِيحُ . وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الْإِفْصَاحِ ، وَالرُّويَانِيّ ُ وَغَيْرُهُمَا حِلَّ الشِّبَعِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ أَيْضًا .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ لِلشَّافِعِيَّة ِ وَهُوَ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَعِيدًا مِنَ الْعُمْرَانِ حَلَّ الشِّبَعُ وَإِلَّا فَلَا ، وَذَكَرَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلًا فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ : أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بَادِيَةٍ وَخَافَ إِنْ تَرَكَ الشِّبَعَ أَلَّا يَقْطَعَهَا وَيَهْلَكَ ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ يَشْبَعُ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ وَتَوَقَّعَ طَعَامًا طَاهِرًا قَبْلَ عَوْدِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الْقَطْعُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ حُصُولُ طَعَامٍ طَاهِرٍ وَأَمْكَنَ الْحَاجَةُ إِلَى الْعَوْدِ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إِنْ لَمْ يَجِدِ الطَّاهِرَ ، فَهَذَا مَحَلُّ الْخِلَافِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْإِمَامُ وَالْغَزَالِيُّ تَفْصِيلٌ حَسَنٌ وَهُوَ الرَّاجِحُ ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا .
[ ص: 64 ] قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : وَفِي الشِّبَعِ رِوَايَتَانِ : أَظْهَرُهُمَا : لَا يُبَاحُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ مَالِكٍ ، وَأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ .
قَالَ الْحَسَنُ : يَأْكُلُ قَدْرَ مَا يُقِيمُهُ ; لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ ، وَاسْتَثْنَى مَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ فَإِذَا انْدَفَعَتِ الضَّرُورَةُ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ كَحَالَةِ الِابْتِدَاءِ . وَلِأَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ الرَّمَقِ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فَلَمْ يَحِلَّ لَهُ الْأَكْلُ لِلْآيَةِ . يُحَقِّقُهُ : أَنَّهُ بَعْدَ سَدِّ رَمَقِهِ كَهُوَ قَبْلَ أَنْ يَضْطَرَّ ، وَثَمَّ لَمْ يُبَحْ لَهُ الْأَكْلُ كَذَا هَاهُنَا .
وَالثَّانِيَةُ : يُبَاحُ لَهُ الشِّبَعُ . اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ ; لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ ، فَنَفَقَتْ عِنْدَهُ نَاقَةٌ ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : أَسْلُخُهَا حَتَّى نُقَدِّدَ شَحْمَهَا وَلَحْمَهَا وَنَأْكُلَهُ . فَقَالَ : حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ : " هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ " ؟ قَالَ : لَا . قَالَ : " فَكُلُوهَا "، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ .
وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا حَدِيثُ الْفُجَيْعِ الْعَامِرِيِّ عِنْدَهُ : أَنَّ النَّبِيَّ أَذِنَ لَهُ فِي الْمَيْتَةِ مَعَ أَنَّهُ يَغْتَبِقُ وَيَصْطَبِحُ ، فَدَلَّ عَلَى أَخْذِ النَّفْسِ حَاجَتَهَا مِنَ الْقُوتِ مِنْهَا ; وَلِأَنَّ مَا جَازَ سَدُّ الرَّمَقِ مِنْهُ جَازَ الشِّبَعُ مِنْهُ كَالْمُبَاحِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الضَّرُورَةُ مُسْتَمِرَّةً ، وَبَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ مَرْجُوَّةَ الزَّوَالِ ، فَمَا كَانَتْ مُسْتَمِرَّةً كَحَالَةِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَازَ الشِّبَعُ ; لِأَنَّهُ إِذَا اقْتَصَرَ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ عَادَتِ الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ عَنْ قُرْبٍ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنَ الْبُعْدِ عَنِ الْمَيْتَةِ مَخَافَةَ الضَّرُورَةِ الْمُسْتَقْبِلَ ةِ وَيُفْضِي إِلَى ضَعْفِ بَدَنِهِ ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَلَفِهِ ، بِخِلَافِ الَّتِي لَيْسَتْ مُسْتَمِرَّةً ، فَإِنَّهُ يَرْجُو الْغِنَى عَنْهَا بِمَا يَحِلُّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى مِنَ الْمَعْنَى بِلَفْظِهِ .
وَقَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَلَيْسَ مَعْنَى الشِّبَعِ أَنْ يَمْتَلِئَ حَتَّى لَا يَجِدَ مُسَاغًا ، وَلَكِنْ إِذَا انْكَسَرَتْ سَوْرَةُ الْجُوعِ بِحَيْثُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ جَائِعٍ أَمْسَكَ . ا ه . قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : حَدُّ الِاضْطِرَارِ الْمُبِيحِ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ ، وَهُوَ الْخَوْفُ مِنَ الْهَلَاكِ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا .
قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي " الْمُوَطَّأِ " فِيمَنْ يُضْطَرُّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ ا ه .
وَحَدُّ الِاضْطِرَارِ أَنْ يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْهَلَاكَ عِلْمًا أَوْ ظَنًّا ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَصِيرَ إِلَى حَالٍ يُشْرِفُ مَعَهَا عَلَى الْمَوْتِ ، فَإِنَّ الْأَكْلَ عِنْدَ ذَلِكَ يُفِيدُ .
[ ص: 65 ] وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : الثَّانِيَةُ فِي حَدِّ الضَّرُورَةِ .
قَالَ أَصْحَابُنَا : لَا خِلَافَ أَنَّ الْجُوعَ الْقَوِيَّ لَا يَكْفِي لِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا ، قَالُوا : وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِامْتِنَاعُ إِلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ ; فَإِنَّ الْأَكْلَ حِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُ ، وَلَوِ انْتَهَى إِلَى تِلْكَ الْحَالِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهَا ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ الْأَكْلِ إِذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ جُوعٍ أَوْ ضَعْفٍ عَنِ الْمَشْيِ أَوْ عَنِ الرُّكُوبِ ، وَيَنْقَطِعُ عَنْ رُفْقَتِهِ وَيَضِيعُ وَنَحْوُ ذَلِكَ .
فَلَوْ خَافَ حُدُوثَ مَرَضٍ مُخَوِّفٍ فِي جِنْسِهِ فَهُوَ كَخَوْفِ الْمَوْتِ ، وَإِنْ خَافَ طُولَ الْمَرَضِ فَكَذَلِكَ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ ، وَقِيلَ : إِنَّهُمَا قَوْلَانِ ، وَلَوْ عِيلَ صَبْرُهُ ، وَأَجْهَدَهُ الْجُوعُ فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ الْمَيْتَةُ وَنَحْوُهَا أَمْ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَصِلَ إِلَى أَدْنَى الرَّمَقِ ؟ فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُ ، أَصَحُّهُمَا : الْحِلُّ .
قَالَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ : وَلَا يُشْتَرَطُ فِيمَا يَخَافُهُ تَيَقُّنُ وُقُوعِهِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ ، بَلْ يَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " : إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الْمُبِيحَةَ هِيَ الَّتِي يَخَافُ التَّلَفَ بِهَا إِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ ، قَالَ أَحْمَدُ : إِذَا كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ سَوَاءً كَانَ مِنَ الْجُوعِ أَوْ يَخَافُ إِنْ تَرَكَ الْأَكْلَ عَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ ، وَانْقَطَعَ عَنِ الرُّفْقَةِ فَهَلَكَ ، أَوْ يَعْجِزُ عَنِ الرُّكُوبِ فَيَهْلِكُ ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِزَمَنٍ مَحْصُورٍ .
وَحَدُّ الِاضْطِرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ : أَنْ يَخَافَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ يَقِينًا كَانَ أَوْ ظَنًّا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا إِنْ خَافَ الْهَلَاكَ ، أَوْ يُبَاحُ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ الْوُجُوبُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [ 2 \ 195 ] ، وَقَوْلِهِ : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) [ 4 \ 29 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-07-16, 04:19 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (10)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (9)
وَمِنْ هُنَا قَالَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ : إِنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ لَوْ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِلشَّافِعِيَّة ِ ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَيْضًا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَقَالَ مَسْرُوقٌ : مَنِ اضْطُرَّ إِلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ ، وَالدَّمِ ، وَلَحْمِ [ ص: 66 ] الْخِنْزِيرِ فَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ ، إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِالْكِيَا : وَلَيْسَ أَكْلُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةً بَلْ هُوَ عَزِيمَةٌ وَاجِبَةٌ ، وَلَوِ امْتَنَعَ مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَةِ كَانَ عَاصِيًا ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَمِمَّنِ اخْتَارَ عَدَمَ الْوُجُوبِ وَلَوْ أَدَّى عَدَمُ الْأَكْلِ إِلَى الْهَلَاكِ أَبُو إِسْحَاقَ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَأَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَغَيْرُهُمْ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ لَهُ غَرَضًا صَحِيحًا فِي تَرْكِهِ وَهُوَ اجْتِنَابُ النَّجَاسَةِ ، وَالْأَخْذُ بِالْعَزِيمَةِ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " فِي وَجْهِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ ، مَا نَصُّهُ : وَهَلْ يَجِبُ الْأَكْلُ مِنَ الْمَيْتَةِ عَلَى الْمُضْطَرِّ ؛ فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَجِبُ وَهُوَ قَوْلُ مَسْرُوقٍ ، وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ .
قَالَ الْأَثْرَمُ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْمُضْطَرِّ يَجِدُ الْمَيْتَةَ وَلَمْ يَأْكُلْ ، فَذَكَرَ قَوْلَ مَسْرُوقٍ : مَنِ اضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ دَخَلَ النَّارَ . وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) ، وَتَرْكُ الْأَكْلِ مَعَ إِمْكَانِهِ فِي هَذَا الْحَالِ إِلْقَاءٌ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ) [ 4 \ 29 ] وَلِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ نَفْسِهِ بِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ فَلَزِمَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَ مَعَهُ طَعَامٌ حَلَالٌ .
وَالثَّانِي : لَا يَلْزَمُهُ ; لِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ طَاغِيَةَ الرُّومِ حَبَسَهُ فِي بَيْتٍ ، وَجَعَلَ مَعَهُ خَمْرًا مَمْزُوجًا بِمَاءٍ ، وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ مَشْوِيٍّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَالَ رَأْسُهُ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَخَشَوْا مَوْتَهُ ، فَأَخْرَجُوهُ فَقَالَ : قَدْ كَانَ اللَّهُ أَحَلَّهُ لِي ; لِأَنِّي مُضْطَرٌّ ، وَلَكِنْ لَمْ أَكُنْ لِأُشْمِتُكَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ ; وَلِأَنَّ إِبَاحَةَ الْأَكْلِ رُخْصَةٌ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ كَسَائِرِ الرُّخَصِ ; وَلِأَنَّ لَهُ غَرَضًا فِي اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ وَالْأَخْذِ بِالْعَزِيمَةِ ، وَرُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَفَارَقَ الْحَلَالَ فِي الْأَصْلِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنْ أَظْهَرَ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا ؛ وُجُوبُ تَنَاوُلِ مَا يُمْسِكُ الْحَيَاةَ ; لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ إِهْلَاكُ نَفْسِهِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَلْ يُقَدِّمُ الْمُضْطَرُّ الْمَيْتَةَ أَوْ مَالَ الْغَيْرِ ؟
[ ص: 67 ] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ : فَذَهَبَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ مَالَ الْغَيْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ أَنْ يُجْعَلَ سَارِقًا وَيُحْكَمَ عَلَيْهِ بِالْقَطْعِ . فَفِي " مُوَطَّئِهِ " مَا نَصُّهُ : وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الرَّجُلِ يُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ أَيَأْكُلُ مِنْهَا وَهُوَ يَجِدُ ثَمَرًا لِقَوْمٍ ، أَوْ زَرْعًا ، أَوْ غَنَمًا بِمَكَانِهِ ذَلِكَ ؟ قَالَ مَالِكٌ : إِنْ ظَنَّ أَنَّ أَهْلَ ذَلِكَ الثَّمَرِ ، أَوِ الزَّرْعِ ، أَوِ الْغَنَمِ يُصَدِّقُونَهُ بِضَرُورَتِهِ حَتَّى لَا يُعَدَّ سَارِقًا فَتُقْطَعُ يَدُهُ ، رَأَيْتُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ وَجَدَ مَا يَرُدُّ جُوعَهُ ، وَلَا يَحْمِلُ مِنْهُ شَيْئًا ، وَذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ . وَإِنْ هُوَ خَشِيَ أَلَّا يُصَدِّقُوهُ ، وَأَنْ يُعَدَّ سَارِقًا بِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ ; فَإِنْ أَكْلَ الْمَيْتَةِ خَيْرٌ لَهُ عِنْدِي ، وَلَهُ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سَعَةٌ ، مَعَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ يَعْدُوَ عَادٍ مِمَّنْ لَمْ يُضْطَرَّ إِلَى الْمَيْتَةِ يُرِيدُ اسْتِجَازَةَ أَمْوَالِ النَّاسِ وَزُرُوعِهِمْ ، وَثِمَارِهِمْ بِذَلِكَ بِدُونِ اضْطِرَارٍ . قَالَ مَالِكٌ : وَهَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ . ا ه .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : إِنْ حَضَرَ صَاحِبُ الْمَالِ فَحَقَّ عَلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي الْأَكْلِ ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَجَائِزٌ لِلَّذِي خَافَ الْمَوْتَ أَنْ يُقَاتِلَهُ ; حَتَّى يَصِلَ إِلَى أَكْلِ مَا يَرُدُّ نَفْسَهُ .
الْبَاجِيُّ : يُرِيدُ أَنَّهُ يَدْعُوهُ أَوَّلًا إِلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ أَبَى اسْتَطْعَمَهُ ، فَإِنْ أَبَى ، أَعْلَمَهُ أَنَّهُ يُقَاتِلُهُ عَلَيْهِ .
وَقَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " الَّذِي قَالَ فِيهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى عَاطِفًا عَلَى مَا يُقْدِمُ الْمُضْطَرُّ عَلَى الْمَيْتَةِ وَطَعَامِ غَيْرٍ إِنْ لَمْ يَخَفِ الْقَطْعَ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ . هَذَا هُوَ حَاصِلُ الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا : هُوَ مَا ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " بِقَوْلِهِ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ ، وَهُوَ غَائِبٌ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ ، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَصَحُّهَا يَجِبُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَالثَّانِي : يَجِبُ أَكْلُ الطَّعَامِ ، وَالثَّالِثُ : يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا .
وَأَشَارَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْخِلَافِ فِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحَقِّ الْآدَمِيِّ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الطَّعَامِ حَاضِرًا ، فَإِنْ بَذَلَهُ بِلَا عِوَضٍ ، أَوْ بِثَمَنِ مِثْلِهِ ، أَوْ بِزِيَادَةٍ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهَا وَمَعَهُ ثَمَنُهُ ، أَوْ رَضِيَ بِذِمَّتِهِ لَزِمَهُ الْقَبُولُ ، وَلَمْ يَجُزْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ كَثِيرَةٍ فَالْمَذْهَبُ وَالَّذِي قَطَعَ بِهِ الْعِرَاقِيُّون َ ، وَالطَّبَرِيُّو نَ ، وَغَيْرُهُمْ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ ، وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُ الشِّرَاءُ فَهُوَ كَمَا إِذَا لَمْ يَبْذُلْهُ أَصْلًا ، وَإِذَا لَمْ [ ص: 68 ] يَبْذُلْهُ لَمْ يُقَاتِلْهُ عَلَيْهِ الْمُضْطَرُّ إِنْ خَافَ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ خَافَ هَلَاكَ الْمَالِكِ فِي الْمُقَاتَلَةِ ، بَلْ يَعْدِلُ إِلَى الْمَيْتَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخَافُ ; لِضَعْفِ الْمَالِكِ ، وَسُهُولَةِ دَفْعِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ فِيمَا إِذَا كَانَ غَائِبًا ، هَذَا كُلُّهُ تَفْرِيعٌ عَلَى الْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ .
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ : يَشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ الْغَالِي ، وَلَا يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، ثُمَّ يَجِيءُ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى أَوْ ثَمَنُ الْمِثْلِ ، قَالَ : وَإِذَا لَمْ يَبْذُلْ أَصْلًا وَقُلْنَا طَعَامُ الْغَيْرِ أَوْلَى مِنَ الْمَيْتَةِ يَجُوزُ أَنْ يُقَاتِلَهُ ، وَيَأْخُذَهُ قَهْرًا ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
حَاصِلُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ عَلَى طَعَامِ الْغَيْرِ .
قَالَ الْخِرَقِيُّ فِي " مُخْتَصَرِهِ " : وَمَنِ اضْطُرَّ فَأَصَابَ الْمَيْتَةَ وَخُبْزًا لَا يَعْرِفُ مَالِكَهُ أَكَلَ الْمَيْتَةَ . اه .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْكَلَامِ مَا نَصُّهُ : وَبِهَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إِنْ كَانُوا يُصَدِّقُونَهُ أَنَّهُ مُضْطَرٌّ أَكَلَ مِنَ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ ، وَشَرِبَ اللَّبَنَ ، وَإِنْ خَافَ أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ أَوْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ أَكَلَ الْمَيْتَةَ ، وَلِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ ; لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلَالِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ .
وَلَنَا أَنَّ أَكْلَ الْمَيْتَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَمَالُ الْآدَمِيِّ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، وَالْعُدُولُ إِلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْلَى ; وَلِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَالْمُسَاهَلَة ِ ، وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ ; وَلِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيِّ تَلْزَمُهُ غَرَامَتَهُ ، وَحَقُّ اللَّهِ لَا عِوَضَ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا كَانَ الْمُضْطَرُّ إِلَى الْمَيْتَةِ مُحْرِمًا وَأَمْكَنَهُ الصَّيْدُ فَهَلْ يُقَدِّمَ الْمَيْتَةَ أَوِ الصَّيْدَ ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَذَهَبَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ : إِلَى أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ .
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَوْلٌ بِتَقْدِيمِ الصَّيْدِ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ : بِأَنَّ الْمُحْرِمَ إِنْ ذَكَّى صَيْدًا لَمْ يَكُنْ مَيْتَةً .
[ ص: 69 ] وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَكَاةَ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ لَغْوٌ وَيَكُونُ مَيْتَةً ، وَالْمَيْتَةُ أَخَفُّ مِنَ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ ; لِأَنَّهُ يُشَارِكُهَا فِي اسْمِ الْمَيْتَةِ وَيَزِيدُ بِحُرْمَةِ الِاصْطِيَادِ ، وَحُرْمَةِ الْقَتْلِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ زِيَادَةُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " .
وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ الصَّيْدِ لِلْمُحْرِمِ عَلَى الْمَيْتَةِ أَبُو يُوسُفَ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّيْدَ يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَمَعَ جَوَازِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَنْتَفِي الضَّرُورَةُ فَلَا تَحِلُّ الْمَيْتَةُ .
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّ حِلَّ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَإِبَاحَةَ الصَّيْدِ لِلضَّرُورَةِ مُجْتَهَدٌ فِيهَا ، وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَوْلَى ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمُضْطَرُّ إِلَّا صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَلَهُ ذَبْحُهُ وَأَكْلُهُ ، وَلَهُ الشِّبَعُ مِنْهُ عَلَى التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّهُ بِالضَّرُورَةِ وَعَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ صَارَ مُذَكًّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً طَاهِرًا حَلَالًا فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ ، وَلِذَا تَجِبُ ذَكَاتُهُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَالْأَكْلُ مِنْهُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ .
وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً ، وَلَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ لَحْمَ إِنْسَانٍ مَيِّتٍ ، فَالظَّاهِرُ تَقْدِيمُ الْمَيْتَةِ عَلَى الْخِنْزِيرِ وَلَحْمِ الْآدَمِيِّ .
قَالَ الْبَاجِيُّ : إِنْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً ، وَخِنْزِيرًا فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ ; لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مَيْتَةٌ وَلَا يُبَاحُ بِوَجْهٍ ، وَكَذَلِكَ يُقَدِّمُ الصَّيْدَ عَلَى الْخِنْزِيرِ وَالْإِنْسَانِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَلَمْ يَجُزْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَكْلُ الْإِنْسَانِ لِلضَّرُورَةِ مُطْلَقًاوَقَتْ لُ الْإِنْسَانِ الْحَيِّ الْمَعْصُومِ الدَّمِ لِأَكْلِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا ، سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا . وَإِنْ وُجِدَ إِنْسَانٌ مَعْصُومٌ مَيِّتًا فَهَلْ يَجُوزُ لَحْمُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، أَوْ لَا يَجُوزُ ؟ مَنَعَهُ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَة ُ ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيَّةُ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ .
وَاحْتَجَّ الْحَنَابِلَةُ لِمَنْعِهِ لِحَدِيثِ : " كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِ عَظْمِ الْحَيِّ " وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْهُمْ جَوَازَ أَكْلِهِ ، وَقَالَ : لَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ هَاهُنَا ; لِأَنَّ الْأَكْلَ مِنَ اللَّحْمِ لَا مِنَ الْعَظْمِ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ التَّشْبِيهُ فِي أَصْلِ الْحُرْمَةِ لَا فِي مِقْدَارِهَا بِدَلِيلِ اخْتِلَافِهِمَا فِي الضَّمَانِ وَالْقِصَاصِ ، وَوُجُوبُ صِيَانَةِ الْحَيِّ بِمَا لَا يَجِبُ بِهِ صِيَانَةُ الْمَيِّتِ ، قَالَهُ فِي " الْمُغْنِي " .
وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ آدَمِيًّا غَيْرَ مَعْصُومٍ كَالْحَرْبِيِّ ، وَالْمُرْتَدِّ فَلَهُ قَتْلُهُ ، وَالْأَكْلُ مِنْهُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَبِهِ قَالَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّبَاعِ . وَاللَّهُ [ ص: 70 ] تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : هَلْ يَجُوزُ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَدْفَعَ ضَرُورَتَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ ؟ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْمَنْعُ مُطْلَقًا .
الثَّانِي : الْإِبَاحَةُ مُطْلَقًا .
الثَّالِثُ : الْإِبَاحَةُ فِي حَالَةِ الِاضْطِرَارِ إِلَى التَّدَاوِي بِهَا دُونَ الْعَطَشِ .
الرَّابِعُ : عَكْسُهُ .
وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَنْعُ مُطْلَقًا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الظَّاهِرُ أَنَّ التَّدَاوِيَ بِالْخَمْرِ لَا يَجُوزُ ; لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلَهُ طَارِقُ بْنُ سُوَيْدٍ الْجُعْفِيُّ عَنِ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ ، أَوْ كَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا فَقَالَ : إِنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ ، فَقَالَ : " إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ وَلَكِنَّهُ دَاءٌ " وَالظَّاهِرُ إِبَاحَتُهَا ; لِإِسَاغَةِ غُصَّةٍ خِيفَ بِهَا الْهَلَاكُ ; وَعَلَيْهِ جُلُّ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إِسَاغَةِ الْغُصَّةِ وَبَيْنَ شُرْبِهَا لِلْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ أَنَّ إِزَالَتَهَا لِلْغُصَّةِ مَعْلُومَةٌ ، وَأَنَّهَا لَا يَتَيَقَّنُ إِزَالَتُهَا لِلْجُوعِ أَوِ الْعَطَشِ .
قَالَ الْبَاجِيُّ : وَهَلْ لِمَنْ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَنْ يَشْرَبَ لِجُوعِهِ أَوْ عَطَشِهِ الْخَمْرَ ؟ قَالَ مَالِكٌ : لَا يَشْرَبُهَا وَلَنْ تَزِيدَهُ إِلَّا عَطَشًا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ ، وَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَلَا يَقْرُبُ ضَوَالَّ الْإِبِلِ ، وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : مَنْ غُصَّ بِطَعَامٍ ، وَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُجَوِّزَهُ بِالْخَمْرِ ، وَقَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ .
ابو وليد البحيرى
2020-07-23, 04:25 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (11)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (10)
أما التداوي بها فمشهور المذهب أنه لا يحل : وإذا قلنا : إنه لا يجوز التداوي بها ، ويجوز استعمالها لإساغة الغصة فالفرق أن التداوي بها لا يتيقن به البرء من الجوع والعطش . اه . بنقل المواق في شرح قول خليل : وخمر لغصة ، وما نقلنا عن مالك من أن الخمر لا تزيد إلا عطشا ، نقل نحوه النووي عن الشافعي ، قال : وقد نقل الروياني أن الشافعي - رحمه الله - نص على المنع من شربها [ ص: 71 ] للعطش ; معللا بأنها تجيع وتعطش .
وقال القاضي أبو الطيب : سألت من يعرف ذلك فقال : الأمر كما قال الشافعي : إنها تروي في الحال ، ثم تثير عطشا عظيما .
وقال القاضي حسين في " تعليقه " : قالت الأطباء : الخمر تزيد في العطش وأهل الشرب يحرصون على الماء البارد ، فجعل بما ذكرناه أنها لا تنفع في دفع العطش .
وحصل بالحديث الصحيح السابق في هذه المسألة أنها لا تنفع في الدواء فثبت تحريمها مطلقا ، والله تعالى أعلم . ا ه من " شرح المهذب " .
وبه تعلم أن ما اختاره الغزالي ، وإمام الحرمين من الشافعية ، والأبهري من المالكية من جوازها للعطش خلاف الصواب ، وما ذكره إمام الحرمين والأبهري من أنها تنفع في العطش خلاف الصواب أيضا ، والعلم عند الله تعالى .
ومن مر ببستان لغيره فيه ثمار وزرع ، أو بماشية فيها لبن ، فإن كان مضطرا اضطرارا يبيح الميتة فله الأكل بقدر ما يرد جوعه إجماعا ، ولا يجوز له حمل شيء منه ، وإن كان غير مضطر فقد اختلف العلماء في جواز أكله منه .
فقيل : له أن يأكل في بطنه من غير أن يحمل منه شيئا ، وقيل ليس له ذلك ، وقيل بالفرق بين المحوط عليه فيمنع ، وبين غيره فيجوز ، وحجة من قال بالمنع مطلقا ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من عموم قوله : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا " وعموم قوله تعالى : ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) [ 4 \ 29 ] ونحو ذلك من الأدلة .
وحجة من قال بالإباحة مطلقا ما أخرجه أبو داود عن الحسن ، عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أتى أحدكم على ماشية ، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه ، فإن أذن فليحتلب وليشرب ، وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا ، فإن أجاب فليستأذنه ، فإن أذن له وإلا فليحتلب وليشرب ، ولا يحمل " ا ه .
وما رواه الترمذي ، عن يحيى بن سليم ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من دخل حائطا فليأكل ، ولا يتخذ خبنة " قال : هذا حديث غريب ، لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سليم . وما رواه الترمذي أيضا من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الثمر المعلق فقال : " من أصاب منه من ذي [ ص: 72 ] حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه " قال فيه : حديث حسن .
وما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " إذا مر أحدكم بحائط فليأكل منه ، ولا يتخذ ثبانا " .
قال أبو عبيد : قال أبو عمرو : هو يحمل الوعاء الذي يحمل فيه الشيء ، فإن حملته بين يديك فهو ثبان ، يقال : قد تثبنت ثبانا ، فإن حملته على ظهرك فهو الحال ، يقال : منه قد تحولت كسائي ، إذا جعلت فيه شيئا ثم حملته على ظهرك ، فإن جعلته في حضنك فهو خبنة ، ومنه حديث عمرو بن شعيب المرفوع : " ولا يتخذ خبنة " يقال : فيه خبنت أخبن خبنا ، قاله القرطبي .
وما روي عن أبي زينب التيمي ، قال : سافرت مع أنس بن مالك ، وعبد الرحمن بن سمرة ، وأبي بردة ، فكانوا يمرون بالثمار ، فيأكلون بأفواههم ، نقله صاحب " المغني " ، وحمل أهل القول الأول هذه الأحاديث والآثار على حال الضرورة ، ويؤيده ما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح عن عباد بن شرحبيل اليشكري الغبري - رضي الله عنه - قال : أصابتنا عاما مخمصة فأتيت المدينة ، فأتيت حائطا من حيطانها ، فأخذت سنبلا ففركته وأكلته ، وجعلته في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني ، وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبرته فقال : " ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا " ، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق من طعام ، أو نصف وسق ، فإن في هذا الحديث الدلالة على أن نفي القطع والأدب إنما هو من أجل المخمصة .
وقال القرطبي في " تفسيره " عقب نقله لما قدمنا عن عمر - رضي الله عنه - قال أبو عبيد : وإنما يوجه هذا الحديث أنه رخص فيه للجائع المضطر ، الذي لا شيء معه يشتري به ، ألا يحمل إلا ما كان في بطنه قدر قوته ، ثم قال : قلت : لأن الأصل المتفق عليه تحريم مال الغير إلا بطيب نفس منه .
فإن كانت هناك عادة بعمل ذلك كما كان في أول الإسلام أو كما هو الآن في بعض البلدان فذلك جائز . ويحمل ذلك على أوقات المجاعة والضرورة ، كما تقدم ، والله أعلم . ا ه منه .
وحجة من قال بالفرق بين المحوط وبين غيره ، أن إحرازه بالحائط دليل على شح [ ص: 73 ] صاحبه به وعدم مسامحته فيه ، وقول ابن عباس : إن كان عليها حائط فهو حرام فلا تأكل ، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس ، نقله صاحب " المغني " وغيره ، وما ذكره بعض أهل العلم من الفرق بين مال المسلم فيجوز عند الضرورة ، وبين مال الكتابي ( الذمي ) فلا يجوز بحال غير ظاهر .
ويجب حمل حديث العرباض بن سارية عند أبي داود الوارد في المنع من دخول بيوت أهل الكتاب ، ومنع الأكل من ثمارهم إلا بإذن على عدم الضرورة الملجئة إلى أكل الميتة ، والعلم عند الله تعالى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ) الْآيَةَ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ هَذَا الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى ( مَنْ أَتَى الْمَالَ ) ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا ، أَوْ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الْمَالِ ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَصْدَرَ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ ، وَأَنَّ الْمَعْنَى ( عَلَى حُبِّهِ ) أَيْ : حُبِّ مُؤْتِي الْمَالَ لِذَلِكَ الْمَالِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ) [ 3 \ 92 ] وَلَا يَخْفَى أَنَّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ تَلَازُمًا فِي الْمَعْنَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَحِينَ الْبَأْسِ ) ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا الْمُرَادُ بِالْبَأْسِ ؟ وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْبَأْسَ الْقِتَالُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا ) [ 33 \ 18 ] كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ )
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وَعَاشُورَاءُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ هِيَ رَمَضَانُ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ بَيَّنَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ : ( شَهْرُ رَمَضَانَ ) الْآيَةَ [ 2 \ 185 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ أُنْزِلَ فِي اللَّيْلِ مِنْهُ أَوِ النَّهَارِ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) [ 97 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) [ ص: 74 ] [ 44 \ 3 ] ; لِأَنَّ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ عَلَى التَّحْقِيقِ ، وَفِي مَعْنَى إِنْزَالِهِ وَجْهَانِ :
لْأَوَّلُ : أَنَّهُ أُنْزِلَ فِيهَا جُمْلَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَالثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى إِنْزَالِهِ فِيهَا ابْتِدَاءُ نُزُولِهِ كَمَا قَالَ بِهِ بَعْضُهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ )
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَرِيبٌ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي وَبَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى تَعْلِيقَ ذَلِكَ عَلَى مَشِيئَتِهِ جَلَّ وَعَلَا وَهِيَ قَوْلُهُ : ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ ) الْآيَةَ [ 6 \ 41 ] .
وَقَالَ بَعْضُهُمُ : التَّعْلِيقُ بِالْمَشِيئَةِ فِي دُعَاءِ الْكُفَّارِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ سِيَاقِ الْآيَةِ ، وَالْوَعْدُ الْمُطْلَقُ فِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَعَلَيْهِ فَدُعَاؤُهُمْ لَا يُرَدُّ ، إِمَّا أَنْ يُعْطُوا مَا سَأَلُوا أَوْ يُدَّخَرَ لَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُ أَوْ يُدْفَعَ عَنْهُمْ مِنَ السُّوءِ بِقَدْرِهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ الْعِبَادَةُ ، وَبِالْإِجَابَة ِ الثَّوَابُ ، وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ : ( مِنَ الْفَجْرِ ) [ 2 \ 187 ] وَالْعَرَبُ تُسَمِّي ضَوْءَ الصُّبْحِ خَيْطًا ، وَظَلَامَ اللَّيْلِ الْمُخْتَلِطَ بِهِ خَيْطًا ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي دُوَادَ الْإِيَادِيِّ : [ الْمُتَقَارِبِ ]
فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سُدْفَةٌ وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
وَقَوْلُ الْآخَرِ : [ الْبَسِيطِ ]
الْخَيْطُ الْأَبَيْضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ وَالْخَيْطُ الْأَسْوَدُ جُنْحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى )
لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالْمُرَادِ بِمَنِ اتَّقَى ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) [ 2 \ 177 ] وَالْكَلَامُ فِي الْآيَةِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ؛ أَيْ : وَلَكِنَّ ذَا الْبِرِّ مَنِ اتَّقَى ، وَقِيلَ وَلَكِنَّ الْبِرَّ بِرُّ مَنِ اتَّقَى ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ : [ الْبَسِيطِ ] [ ص: 75 ]
لَا تَسْأَمِ الدَّهْرَ مِنْهُ كُلَّمَا ذَكَرَتْ فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أَيْ : ذَاتُ إِقْبَالٍ ، وَقَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْمُتَقَارِبِ ]
وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
أَيْ : كَخِلَالَةِ أَبِي مَرْحَبٍ . وَقَوْلُ الْآخَرِ : [ الطَّوِيلِ ] لَعَمْرُكَ مَا الْفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى وَلَكِنَّمَا الْفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدَى
أَيْ : لَيْسَ الْفِتْيَانُ فِتْيَانَ نَبَاتِ اللِّحَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ ) فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلْعُلَمَاءِ :
لْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ - بِالَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ مِنْ شَأْنِهِمُ الْقِتَالُ ؛ أَيْ : دُونَ غَيْرِهِمْ ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالشُّيُوخِ الْفَانِيَةِ وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ الدَّالَّةِ عَلَى قِتَالِهِمْ مُطْلَقًا .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَهْيِيجُ الْمُسْلِمِينَ وَتَحْرِيضُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْكُفَّارِ ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالِهِمْ ، هُمْ خُصُومُكُمْ وَأَعْدَاؤُكُمُ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُم ْ ، وَأَظْهَرُهَا الْأَوَّلُ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ فَالْمَعْنَى يُبَيِّنُهُ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُم ْ كَافَّةً ) [ 9 \ 36 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ صَدُّ الْعَدُوِّ الْمُحْرِمِ ، وَمَنْعُهُ إِيَّاهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ .
وَقَالَ قَوْمٌ : الْمُرَادُ بِهِ حَبْسُ الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ .
وَقَالَ قَوْمٌ : الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْجَمِيعَ مِنْ عَدُوٍّ وَمَرَضٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَكِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا : ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ ) [ 2 \ 196 ] يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ هُنَا صَدُّ الْعَدُوِّ الْمُحْرِمِ ; لِأَنَّ الْأَمْنَ إِذَا أُطْلِقَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ انْصَرَفَ إِلَى الْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ لَا إِلَى الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرِ الشَّيْءُ الَّذِي مِنْهُ الْأَمْنُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِحْصَارِ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ الْخَوْفُ مِنَ الْعَدُوِّ ، فَمَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْأَمْنَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَمْنِ مِنَ الْمَرَضِ ، كَمَا فِي حَدِيثِ " مَنْ [ ص: 76 ] سَبَقَ الْعَاطِسَ بِالْحَمْدِ أَمِنَ مِنَ الشَّوْصِ ، وَاللَّوْصِ ، وَالْعِلَّوْصِ " أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْأَمْنَ فِيهِ مُقَيَّدٌ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمَرَضِ ، فَلَوْ أُطْلِقَ لَانْصَرَفَ إِلَى الْأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ . وَقَدْ يُجَابُ أَيْضًا بِأَنَّهُ يَخَافُ وُقُوعَ الْمَذْكُورِ مِنَ الشَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ السِّنِّ ، وَاللَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الْأُذُنِ ، وَالْعِلَّوْصِ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الْبَطْنِ ; لِأَنَّهُ قَبْلَ وُقُوعِهَا بِهِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَائِفٌ مِنْ وُقُوعِهَا ، فَإِذَا أَمِنَ مِنْ وُقُوعِهَا بِهِ فَقَدْ أَمِنَ مِنْ خَوْفٍ .
أَمَّا لَوْ كَانَتْ وَقَعَتْ بِهِ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ أَمِنَ مِنْهَا ; لَأَنَّ الْخَوْفَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ هُوَ الْغَمُّ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبِلٍ لَا وَاقِعٍ بِالْفِعْلِ ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ زَعْمَ إِمْكَانِ إِطْلَاقِ الْأَمْنِ عَلَى الشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ خِلَافُ الظَّاهِرِ . وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَبْحَثَيْنِ : الْأَوَّلُ : فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ .
الثَّانِي : فِي تَحْقِيقِ الْمُرَادِ بِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَأَدِلَّتِهَا فِي ذَلِكَ ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ يَقُولُونَ : إِنَّ الْإِحْصَارَ هُوَ مَا كَانَ عَنْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ ، قَالُوا : تَقُولُ الْعَرَبُ : أَحْصَرَهُ الْمَرَضُ يُحْصِرُهُ بِضَمِّ الْيَاءِ ، وَكَسْرِ الصَّادِ إِحْصَارًا ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ فَهُوَ الْحَصْرُ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : حَصَرَ الْعَدُوُّ يَحْصُرُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الصَّادِ حَصْرًا بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْحَصْرِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ) وَمِنْ إِطْلَاقِ الْإِحْصَارِ عَلَى غَيْرِ الْعَدُوِّ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) الْآيَةَ [ 2 \ 273 ] وَقَوْلُ ابْنِ مَيَّادَةَ : [ الطَّوِيلِ ]
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شَغُولُ
وَعَكَسَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ . فَقَالَ : الْإِحْصَارُ مِنَ الْعَدُوِّ ، وَالْحَصْرُ مِنَ الْمَرَضِ ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي " الْمُجْمَلِ " نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَنَقَلَ الْبَغَوِيُّ نَحْوَهُ عَنْ ثَعْلَبٍ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ : إِنَّ الْإِحْصَارَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجَمِيعِ ، وَكَذَلِكَ الْحَصْرُ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِاسْتِعْمَالِ الْإِحْصَارِ فِي الْجَمِيعِ الْفَرَّاءُ ، وَمِمَّنْ قَالَ : بِأَنَّ الْحَصْرَ [ ص: 77 ] وَالْإِحْصَارَ يُسْتَعْمَلَانِ فِي الْجَمِيعِ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا شَكَّ فِي جَوَازِ إِطْلَاقِ الْإِحْصَارِ عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ كَمَا سَتَرَى تَحْقِيقَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي مَعْنَى الْإِحْصَارِ . وَأَمَّا الْمُرَادُ بِهِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ حَصْرُ الْعَدُوِّ خَاصَّةً دُونَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ مَرْوَانُ ، وَإِسْحَاقُ وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ خَاصَّةً ، فَمَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ ، وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيَسْعَى ، فَيَكُونُ مُتَحَلِّلًا بِعُمْرَةٍ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مُتَرَكِّبَةٌ مِنْ أَمْرَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) [ 2 \ 196 ] نَزَلَتْ فِي صَدِّ الْمُشْرِكِينَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ بِعُمْرَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَامَ سِتٍّ بِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ فَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهَا بِمُخَصَّصٍ ، فَشُمُولُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ ، الَّذِي هُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا قَطْعِيٌّ ، فَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنَ الْآيَةِ بِوَجْهٍ ، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ ظَنِّيَّةُ الدُّخُولِ لَا قَطْعِيَّتُهُ ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَاجْزِمْ بِإِدْخَالِ ذَوَاتِ السَّبَبِ وَارْوِ عَنِ الْإِمَامِ ظَنًّا تُصِبِ
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ إِطْلَاقَ الْإِحْصَارِ بِصِيغَةِ الرُّبَاعِيِّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَدُوٍّ صَحِيحٌ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ بِلَا شَكَّ كَمَا تَرَى ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي هُوَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الْفَصَاحَةِ وَالْإِعْجَازِ .
الْأَمْرُ الثَّانِي : مَا وَرَدَ مِنَ الْآثَارِ فِي أَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَا يَتَحَلَّلُ إِلَّا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " وَالْبَيْهَقِيّ ُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرَ الْعَدُوِّ .
ابو وليد البحيرى
2020-07-23, 04:27 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (12)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (11)
[ ص: 78 ] قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا ابْنُ حَجَرٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالنَّسَائِيُّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : " أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا " وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : " الْمُحْصَرُ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَإِذَا اضْطُرَّ إِلَى لُبْسِ شَيْءٍ مِنَ الثِّيَابِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْهَا أَوِ الدَّوَاءِ صَنَعَ ذَلِكَ وَافْتَدَى " وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَالْبَيْهَقِيّ ُ أَيْضًا عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِي ِّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ كَانَ قَدِيمًا أَنَّهُ قَالَ : خَرَجْتُ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ كُسِرَتْ فَخِذِي ، فَأَرْسَلْتُ إِلَى مَكَّةَ وَبِهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَالنَّاسُ فَلَمْ يُرَخِّصْ لِي أَحَدٌ أَنْ أُحِلَّ ، فَأَقَمْتُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ حَتَّى أَحْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ . وَالرَّجُلُ الْبَصْرِيُّ الْمَذْكُورُ الَّذِي أَبْهَمَهُ مَالِكٌ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هُوَ أَبُو قِلَابَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الْجَرْمِيُّ شَيْخُ أَيُّوبَ ، وَمُعَلِّمُهُ كَمَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدِ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طُرَقٍ ، وَسَمَّى الرَّجُلَ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَالْبَيْهَقِيّ ُ أَيْضًا عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ : " أَنَّ سَعِيدَ بْنَ حُزَابَةَ الْمَخْزُومِيَّ صُرِعَ بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، فَسَأَلَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ ، فَوَجَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، وَمَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ ، فَذَكَرَ لَهُمُ الَّذِي عَرَضَ لَهُ فَكُلُّهُمْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَدَاوَى بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، وَيَفْتَدِيَ فَإِذَا صَحَّ اعْتَمَرَ فَحَلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ حَجٌّ قَابِلُ ، وَيَهْدِي مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ " .
قَالَ مَالِكٌ : وَعَلَى هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَنَا فِيمَنْ أُحْصِرَ بِغَيْرِ عَدُوٍّ ، وَقَدْ أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ وَهَبَّارَ بْنَ الْأَسْوَدِ حِينَ فَاتَهُمَا الْحَجُّ وَأَتَيَا يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَحِلَّا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَرْجِعَا حَلَالًا ، ثُمَّ يَحُجَّانِ عَامًا قَابِلًا وَيَهْدِيَانِ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ ، وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " وَالْبَيْهَقِيّ ُ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ : " الْمُحْرِمُ لَا يُحِلُّهُ إِلَّا الْبَيْتُ " وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَعْنِي غَيْرَ الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ الزَّرْقَانِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُوَطَّأِ " هَذَا هُوَ حَاصِلُ أَدِلَّةِ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا كَانَ مِنْ خُصُوصِ الْعَدُوِّ دُونَ مَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ .
[ ص: 79 ] الْقَوْلُ الثَّانِي : فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ أَنَّهُ يَشْمَلُ مَا كَانَ مِنْ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ ، وَمَا كَانَ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ ، مِنْ جَمِيعِ الْعَوَائِقِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْحَرَمِ . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَلْقَمَةُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُدُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ جِهَةِ شُمُولِهِ لِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ قَدْ تَقَدَّمَتْ فِي حُجَّةِ الَّذِي قَبْلَهُ .
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ شُمُولِهِ لِلْإِحْصَارِ بِمَرَضٍ فَهِيَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَقَدْ حَلَّ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى " فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَا : صَدَقَ .
وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ : " مَنْ عَرِجَ ، أَوْ كُسِرَ ، أَوْ مَرِضَ " فَذَكَرَ مَعْنَاهُ .
وَفِي رِوَايَةٍ ذَكَرَهَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ : " مَنْ حُبِسَ بِكَسْرٍ أَوْ مَرَضٍ " هَذَا الْحَدِيثُ سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ ، وَالْمُنْذِرِيّ ُ ، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ هَذَا : رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيّ ُ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ قُوَّةَ حُجَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ ، وَرَدَّ الْمُخَالِفُونَ الِاحْتِجَاجَ بِحَدِيثِ عِكْرِمَةَ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " قَالَ : وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنْ صَحَّ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ بَعْدَ فَوَاتِهِ بِمَا يَحِلُّ بِهِ مَنْ يَفُوتُهُ الْحَجُّ بِغَيْرِ مَرَضٍ . فَقَدْ رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ثَابِتًا عَنْهُ ، قَالَ : لَا حَصْرَ إِلَّا حَصْرُ عَدُوٍّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ حَمْلُ حِلِّهِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ فِي إِحْرَامِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ بِالْعُذْرِ ، وَالتَّحْقِيقُ : جَوَازُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ بِأَنْ يُحْرِمَ وَيَشْتَرِطَ أَنَّ مَحِلَّهُ حَيْثُ حَبَسَهُ اللَّهُ ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَنْ مَنَعَ الِاشْتِرَاطَ ; لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ ، فَقَالَ لَهَا : " لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الْحَجَّ ؟ " قَالَتْ : وَاللَّهِ مَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً . فَقَالَ لَهَا : " حُجِّي وَاشْتَرِطِي ، وَقُولِي : اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي " وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ .
[ ص: 80 ] وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَأَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنْ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ ثَقِيلَةٌ ، وَإِنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي أَأُهِلُّ ؟ قَالَ : " أَهِلِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي " ، قَالَ : فَأَدْرَكَتْ .
وَلِلنَّسَائِيّ ِ فِي رِوَايَةٍ : وَقَالَ : " فَإِنَّ لَكَ عَلَى رَبِّكِ مَا اسْتَثْنَيْتِ " .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ : فِي الْمُرَادِ بِالْإِحْصَارِ أَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْمَرَضِ وَنَحْوِهِ خَاصَّةً ، دُونَ مَا كَانَ مِنَ الْعَدُوِّ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ الْمَنْقُولُ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَإِنَّمَا جَازَ التَّحَلُّلُ مِنْ إِحْصَارِ الْعَدُوِّ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّهُ مِنْ إِلْغَاءِ الْفَارِقِ وَأَخْذِ حُكْمِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ ، فَإِحْصَارُ الْعَدُوِّ عِنْدَهُمْ مُلْحَقٌ بِإِحْصَارِ الْمَرَضِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ .
وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ هَذَا الْقَوْلِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ نَزَلَتْ فِي إِحْصَارِ الْعَدُوِّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَأَنَّ صُورَةَ سَبَبِ النُّزُولِ قَطْعِيَّةُ الدُّخُولِ ، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ وَهُوَ الْحَقُّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ مِنَ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِحْصَارِ فِي الْآيَةِ إِحْصَارُ الْعَدُوِّ ، وَأَنَّ مَنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ نَحْوُهُ لَا يَحِلُّ إِلَّا بِعُمْرَةٍ ; لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِذَا أَمِنْتُمْ ) [ 2 \ 196 ] .
وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَدَّى مَحِلَّهَا ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَلَا تَنْهَضُ بِهِ حُجَّةٌ ; لِتَعَيُّنِ حَمْلِهِ عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ; بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ ، وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ : " حُجِّي وَاشْتَرِطِي " وَلَوْ كَانَ التَّحَلُّلُ جَائِزًا دُونَ شَرْطٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو لَمَا كَانَ لِلِاشْتِرَاطِ فَائِدَةٌ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ بِالِاشْتِرَاطِ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ] [ ص: 81 ]
وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَا إِلَّا فَلِلْأَخِيرِ نَسْخٌ بَيِّنَا
وَهُوَ مُمْكِنٌ فِي الْحَدِيثَيْنِ بِحَمْلِ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو عَلَى مَا إِذَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ ، فَيَتَّفِقُ مَعَ الْحَدِيثَيْنِ الثَّابِتَيْنِ فِي الصَّحِيحِ ، فَإِنْ قِيلَ : يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِغَيْرِ هَذَا ، وَهُوَ حَمْلُ أَحَادِيثِ الِاشْتِرَاطِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَلْزَمَهُ حُجَّةً أُخْرَى ، وَحُمِلَ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يَحِلُّ ، وَعَلَيْهِ حُجَّةٌ أُخْرَى ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ أَنَّ أَحَادِيثَ الِاشْتِرَاطِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ حَجَّةٍ أُخْرَى .
وَحَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَقَدْ حَلَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى " .
فَالْجَوَابُ أَنَّ وُجُوبَ الْبَدَلِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى أَوْ عُمْرَةٍ أُخْرَى لَوْ كَانَ يَلْزَمُ ، لَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَقْضُوا عُمْرَتَهُمُ الَّتِي صَدَّهُمْ عَنْهَا الْمُشْرِكُونَ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فِي بَابِ " مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ " مَا نَصُّهُ : وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ يَنْحَرُ هَدْيَهُ ، وَيَحْلِقُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَ ةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا ، وَلَا يَعُودُوا لَهُ وَالْحُدَيْبِيَ ةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " إِنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَ ةِ ، فَنَحَرُوا الْهَدْيَ ، وَحَلَقُوا رُءُوسَهُمْ ، وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْهَدْيُ ، ثُمَّ لَمْ يُعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَلَا مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا ، وَلَا يَعُودُوا لِشَيْءٍ . انْتَهَى بِلَفْظِهِ مِنَ [ الْمُوَطَّأِ ] . وَلَا يُعَارَضُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ فِي الْمَغَازِي مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِمَا ، قَالُوا : أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يَعْتَمِرُوا فَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ قُتِلَ بِخَيْبَرَ ، أَوْ مَاتَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مُعْتَمِرِينَ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدُوا الْحُدَيْبِيَةَ ، وَكَانَتْ عِدَّتُهُمْ أَلْفَيْنِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ : وَالَّذِي أَعْقِلُهُ فِي أَخْبَارِ أَهْلِ الْمَغَازِي شَبِيهٌ بِمَا ذَكَرْتُ ; لِأَنَّا عَلِمْنَا مِنْ مُتَوَاطِئِ أَحَادِيثِهِمْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ عَامُ الْحُدَيْبِيَةِ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ ، ثُمَّ اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ ، فَتَخَلَّفَ بَعْضُهُمْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ ، ا ه .
فَهَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَزَمَ بِأَنَّهُمْ تَخَلَّفَ مِنْهُمْ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فِي نَفْسٍ وَلَا مَالٍ . وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُثْبِتَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي .
[ ص: 82 ] وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " : وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا إِنْ صَحَّ وَبَيْنَ الَّذِي قَبْلَهُ ، بِأَنَّ الْأَمْرَ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ جَازِمٌ بِأَنَّ جَمَاعَةً تَخَلَّفُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ : إِنَّمَا سُمِّيَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ وَالْقَضِيَّةِ لِلْمُقَاضَاةِ الَّتِي وَقَعَتْ بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ ، لَا عَلَى أَنَّهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَضَاءُ تِلْكَ الْعُمْرَةِ ، ا ه .
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ نَحْوَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " فِي الْبَابِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ : " وَقَالَ رَوْحٌ ، عَنْ شِبْلٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ، وَلَا يَرْجِعُ " . انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُ هَذَا بِإِسْنَادٍ آخَرَ أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ ، وَفِيهِ : فَإِنْ كَانَتْ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ، ا ه . فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا وَعَلِمْتَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِمَّنْ رَوَى عَنْهُ عِكْرِمَةُ الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو ، وَأَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِ ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ الَّذِي دَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ ، وَهُوَ مُصَرِّحٌ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَمْرٍو وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى ، مَحِلُّهُ فِيمَا إِذَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، تَعْلَمُ أَنَّ الْجَمْعَ الْأَوَّلَ الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ ، وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ عُلَمَاءِ الشَّافِعِيَّةِ ، وَأَنَّ الْجَمْعَ الْأَخِيرَ لَا يَصِحُّ ; لِتَعَيُّنِ حَمْلِ الْحَجَّةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، ا ه .
وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ لَا إِحْصَارَ إِلَّا بِالْعَدُوِّ خَاصَّةً ، وَأَنَّ الْمُحْصَرَ بِمَرَضٍ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَبْرَأَ ، وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ يَحِلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا ، فَيَهْدِي أَوْ يَصُومُ ، إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا كَمَا ثَبَتَ فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ " مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَهُوَ مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْمَرِيضَ عِنْدَهُمْ غَيْرُ مُحْصَرٍ ، فَهُوَ كَمَنْ أَحْرَمَ وَفَاتَهُ وُقُوفُ عَرَفَةَ يَطُوفُ وَيَسْعَى وَيَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ ، وَيَهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا ، ا ه .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ رَابِعٌ : وَهُوَ أَنَّهُ لَا إِحْصَارَ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعُذْرٍ كَائِنًا مَا كَانَ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَلَا مُعَوَّلَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي [ ص: 83 ] الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَسْخٌ ، فَادِّعَاءُ دَفْعِهِ بِلَا دَلِيلٍ وَاضِحُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ، هَذَا هُوَ خُلَاصَةُ الْبَحْثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ) [ 2 \ 196 ] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شَاةٌ فَمَا فَوْقَهَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَبِهِ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ طَاوُسٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ وَغَيْرُهُمْ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ الْمُرَادَ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ إِنَّمَا هُوَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ دُونَ الْغَنَمِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَسَالِمٍ ، وَالْقَاسِمِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمْ .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسْتَنَدَ هَؤُلَاءِ فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ قِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ ; فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ ذَبَحَ فِي تَحَلُّلِهِ ذَلِكَ شَاةً ، وَإِنَّمَا ذَبَحُوا الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ .
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ : " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَقَرَةٍ " .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَخْفَى أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ مَا تَيَسَّرَ مِمَّا يُسَمَّى هَدْيًا ، وَذَلِكَ شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَنْعَامِ : مِنْ إِبِلٍ ، وَبَقَرٍ ، وَغَنَمٍ ، فَإِنْ تَيَسَّرَتْ شَاةٌ أَجْزَأَتْ ، وَالنَّاقَةُ وَالْبَقَرَةُ أَوْلَى بِالْإِجْزَاءِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : " أَهْدَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً غَنَمًا " .
فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
الْفَرْعُ الْأَوَّلِ : إِذَا كَانَ مَعَ الْمُحْصَرِ هَدْيٌ لَزِمَهُ نَحْرُهُ إِجْمَاعًا ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَنْحَرُهُ فِي الْمَحِلِّ الَّذِي حُصِرَ فِيهِ ، حِلًّا كَانَ أَوْ حَرَمَا ، وَقَدْ نَحَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَ ةِ ، وَجَزَمَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحَرُوا فِيهِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنَ الْحِلِّ لَا مِنَ الْحَرَمِ ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِدَلِيلٍ وَاضِحٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) [ 48 \ 25 ] فَهُوَ نَصٌّ [ ص: 84 ] صَرِيحٌ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْهَدْيَ لَمْ يَبْلُغْ مَحِلَّهُ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحَرَمِ لَكَانَ بَالِغًا مَحِلَّهُ ، وَرَوَى يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ مِنْ طَرِيقِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " لَمَّا حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ نَحَرُوا بِالْحُدَيْبِيَ ةِ ، وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَحَمَلَتْ شُعُورَهُمْ ، فَأَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ " وَعَقَدَهُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَنَحَرُوا وَحَلَّقُوا وَحَمَلَتْ شُعُورَهُمْ لِلْبَيْتِ رِيحٌ قَدْ غَلَتْ
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " الِاسْتِذْكَارِ " : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ نَحَرُوا فِي الْحِلِّ ، وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " : بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا أَرْسَلُوا هَدْيَهُمْ مَعَ مَنْ يَنْحَرُهُ فِي الْحَرَمِ ، قَالَ : وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ جُنْدَبِ بْنِ جُنْدَبٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْعَثْ مَعِي الْهَدْيَ حَتَّى أَنْحَرَهُ فِي الْحَرَمِ . أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ ، عَنْ مَجْزَأَةَ بْنِ زَاهِرٍ ، عَنْ نَاجِيَةَ ، وَأَخْرَجَهُ الطَّحَاوِيُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، عَنْ إِسْرَائِيلَ ، لَكِنْ قَالَ عَنْ نَاجِيَةَ ، عَنْ أَبِيهِ : لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ هَذَا وُجُوبُهُ ، بَلْ ظَاهِرُ الْقِصَّةِ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ نَحَرَ فِي مَكَانِهِ وَكَانُوا فِي الْحِلِّ ، وَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ . انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ . وَخَالَفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُمْهُورَ ، وَقَالَ : لَا يَنْحَرُ الْمُحْصَرُ هَدْيَهُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إِلَى الْحَرَمِ ، فَإِذَا بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ حَلَّ ، وَقَالَ : إِنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي نَحَرَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ طَرَفِ الْحَرَمِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) [ 2 \ 196 ] وَرُدَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ نَحَرَ فِي الْحِلِّ ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) ، لَا عَلَى قَوْلِهِ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَحِلِّهِ الْمَحِلُّ الَّذِي يَجُوزُ نَحْرَهُ فِيهِ ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُحْصَرِ حَيْثُ أُحْصِرَ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْحِلِّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ التَّفْصِيلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَهُوَ أَنَّهُ إِنِ اسْتَطَاعَ إِرْسَالَ الْهَدْيِ إِلَى الْحَرَمِ أَرْسَلَهُ وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، إِذْ لَا وَجْهَ لِنَحْرِ الْهَدْيِ فِي الْحِلِّ مَعَ تَيَسُّرِ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ إِرْسَالَهُ إِلَى الْحَرَمِ نَحَرَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ مِنَ الْحِلِّ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي [ صَحِيحِهِ ] فِي " بَابِ مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ " مَا نَصُّهُ : [ ص: 85 ] وَقَالَ رَوْحٌ ، عَنْ شِبْلٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ ، وَلَا يَرْجِعُ " وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ، ا ه ، مَحِلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ ; لِظُهُورِ وَجْهِهِ كَمَا تَرَى .
الْفَرْعُ الثَّانِي : إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الْمُحْصَرِ هَدْيٌ ، فَهَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْهَدْيَ وَلَا يَحِلَّ حَتَّى يَهْدِيَ ، أَوْ لَهُ أَنْ يَحِلَّ بِدُونِ هَدْيٍ ؟ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْهَدْيَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَوَافَقَ الْجُمْهُورَ أَشْهَبُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَخَالَفَ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ الْجُمْهُورَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَا : لَا هَدْيَ عَلَى الْمُحْصَرِ إِنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَهُ مَعَهُ قَبْلَ الْإِحْصَارِ .
وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ وَاضِحَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) فَتَعْلِيقُهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ عَلَى الْإِحْصَارِ تَعْلِيقُ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ ، يَدُلُّ عَلَى لُزُومِ الْهَدْيِ بِالْإِحْصَارِ لِمَنْ أَرَادَ التَّحَلُّلَ بِهِ ، دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ كَمَا تَرَى ، فَإِنْ عَجَزَ الْمُحْصَرُ عَنِ الْهَدْيِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ بَدَلٌ عَنْهُ أَوْ لَا ؟
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا بَدَلَ إِنْ عَجَزَ عَنْهُ ، وَمِمَّنْ قَالَ لَا بَدَلَ لِهَدْيِ الْمُحْصَرِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ; فَإِنَّ الْمُحْصَرَ عِنْدَهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَبْقَى مُحْرِمًا حَتَّى يَجِدَ هَدْيًا ، أَوْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ .
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا بَدَلَ لَهُ : إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا حَلَّ بِدُونِهِ ، وَإِنْ تَيَسَّرَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ هَدْيٌ أَهْدَاهُ .
ابو وليد البحيرى
2020-07-23, 04:29 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (13)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (12)
وَقَالَ جَمَاعَةٌ : إِنْ لَمْ يَجِدِ الْهَدْيَ فَلَهُ بَدَلٌ ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ فِي بَدَلِ الْهَدْيِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ قِيَاسًا عَلَى مَنْ عَجَزَ عَمَّا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فِي التَّمَتُّعِ ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَاتِ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ فِي بَدَلِ هَدْيِ الْمُحْصَرِ أَنَّهُ بِالْإِطْعَامِ ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي " كِتَابِ الْأَوْسَطِ " فَتُقَوَّمُ الشَّاةُ وَيَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهَا طَعَامًا ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَقِيلَ إِطْعَامٌ كَإِطْعَامِ فِدْيَةِ الْأَذَى وَهُوَ ثَلَاثَةُ آصُعٍ لِسِتَّةِ مَسَاكِينَ ، وَقِيلَ : بَدَلُهُ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، [ ص: 86 ] وَقِيلَ : بَدَلُهُ صَوْمٌ بِالتَّعْدِيلِ ، تُقَوَّمُ الشَّاةُ وَيُعْرَفُ قَدْرُ مَا تُسَاوِي قِيمَتُهَا مِنَ الْأَمْدَادِ ، فَيَصُومُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا ، وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ ، وَأَقْرَبُهَا قِيَاسُهُ عَلَى التَّمَتُّعِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْفَرْعُ الثَّالِثُ : هَلْ يَلْزَمُ الْمُحْصَرُ إِذَا أَرَادَ التَّحَلُّلَ حَلْقٌ أَوْ تَقْصِيرٌ ، أَوْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذَا ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّهُ لَا حَلْقَ عَلَيْهِ وَلَا تَقْصِيرَ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) وَلَمْ يَذْكُرِ الْحَلْقَ وَلَوْ كَانَ لَازِمًا لَبَيَّنَهُ ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ لِعَدَمِ لُزُومِ الْحَلْقِ ; بِأَنَّ الْحَلْقَ لَمْ يُعْرَفْ كَوْنُهُ نُسُكًا إِلَّا بَعْدَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ ، وَقَبْلُهُ جِنَايَةٌ ، فَلَا يُؤْمَرُ بِهِ ، وَلِهَذَا الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ إِذَا مَنَعَهُمَا السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ لَا يُؤْمَرَانِ بِالْحَلْقِ إِجْمَاعًا .
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ فِي حَلْقِ الْمُحْصَرِ رِوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَلْقِ ، هَلْ هُوَ نُسُكٌ أَوْ إِطْلَاقٌ مِنْ مَحْظُورٍ ؟ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : إِلَى أَنَّ الْمُحْصَرَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ : هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ مِنْ لُزُومِ الْحَلْقِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) .
وَلِمَا ثَبَتَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ حَلَقَ لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا ، وَقَالَ : " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ " قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِي نَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ " قَالُوا : وَالْمُقَصِّرِي نَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " وَالْمُقَصِّرِي نَ " .
فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى عَدَمِ سُقُوطِ الْحَلْقِ عَنِ الْمُحْصَرِ . وَقِيَاسُ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ اللُّزُومِ الْحَلْقَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ النُّسُكِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ، وَالسَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مَثَلًا ، كُلُّ ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْصَرُ وَصُدَّ عَنْهُ ، فَسَقَطَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَمُنِعَ مِنْهُ .
وَأَمَّا الْحِلَاقُ فَلَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ ; فَلَا وَجْهَ لِسُقُوطِهِ ، وَلَا [ ص: 87 ] شَكَّ أَنَّ الَّذِي تَدُلُّ نُصُوصُ الشَّرْعِ عَلَى رُجْحَانِهِ ، أَنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ عَلَى مَنْ أَتَمَّ نُسُكَهُ ، وَعَلَى مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِعَدُوٍّ ، وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِمَرَضٍ .
وَعَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّ الْحِلَاقَ نُسُكٌ ، فَالْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : وَهِيَ النِّيَّةُ ، وَذَبْحُ الْهَدْيِ ، وَالْحِلَاقُ . وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ يَتَحَلَّلُ بِالنِّيَّةِ وَالذَّبْحِ .
الْفَرْعُ الرَّابِعُ : قَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَدَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ النَّحْرَ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْحَجِّ " : ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) [ الْآيَةَ : 28 ] .
فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ ) الْآيَةَ [ 22 \ 34 ] ذِكْرُ اسْمِهِ تَعَالَى عِنْدَ نَحْرِ الْبُدْنِ إِجْمَاعًا ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهُ عَاطِفًا بِثُمَّ الَّتِي هِيَ لِلتَّرْتِيبِ ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) [ 22 \ 29 ] . وَقَضَاءُ التَّفَثِ يَدْخُلُ فِيهِ بِلَا نِزَاعٍ إِزَالَةُ الشَّعْرِ بِالْحَلْقِ ، فَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْأَمْرِ بِتَقْدِيمِ النَّحْرِ عَلَى الْحَلَقِ ، وَمِنْ إِطْلَاقِ التَّفَثِ عَلَى الشَّعْرِ وَنَحْوِهِ ، قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ : [ الْبَسِيطِ ]
حَفُّوا رُؤُوسَهُمُ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا وَلَمْ يَسَلُّوا لَهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا
وَرَوَى بَعْضُهُمْ بَيْتَ أُمَيَّةَ الْمَذْكُورِ هَكَذَا : [ الْبَسِيطِ ]
سَاخِينَ آبَاطِهِمْ لَمْ يَقْذِفُوا تَفَثًا وَيَنْزِعُوا عَنْهُمْ قَمْلًا وَصِئْبَانًا
وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ : [ الْوَافِرِ ]
قَضَوْا تَفَثًا وَنَحْبًا ثُمَّ سَارُوا إِلَى نَجْدٍ وَمَا انْتَظَرُوا عَلِيًّا
فَهَذِهِ النُّصُوصُ تَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ بَعْدَ النَّحْرِ ، وَلَكِنْ إِذَا عَكَسَ الْحَاجُّ أَوِ الْمُعْتَمِرُ ، فَحَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنَّ ذَلِكَ لَا حَرَجَ فِيهِ ، وَالتَّعْبِيرُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ يَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى سُقُوطِ الْإِثْمِ وَالدَّمِ مَعًا ، وَقِيلَ فِيمَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحِرَ مُحْصَرًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ : إِنَّهُ عَلَيْهِ دَمٌ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، قَالَ : عَلَيْهِ دَمٌ . قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ . ذَكَرَهُ فِي الْمُحْصَرِ .
[ ص: 88 ] قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَالظَّاهِرُ عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ ; لِعَدَمِ الدَّلِيلِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الظَّاهِرُ : أَنَّ الدَّلِيلَ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ هُوَ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا صَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ نَحَرَ قَبْلَ الْحَلْقِ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ ، عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ فِي حَدِيثِ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالصُّلْحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : " قُومُوا فَانْحَرُوا ، ثُمَّ احْلِقُوا " .
وَلِلْبُخَارِيّ ِ عَنِ الْمِسْوَرِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ ، ا هـ . فَدَلَّ فِعْلُهُ وَأَمْرُهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ اللَّازِمُ لِلْمُحْصَرِ ، وَمَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى النَّحْرِ فَقَدْ عَكَسَ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَنْ أَخَلَّ بِنُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ نُصُوصُ السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ أَنَّ النَّحْرَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَلْقِ ، وَلَكِنْ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ إِثْمٍ وَلَا دَمٍ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ مَنْ سَأَلَهُ ، بِأَنَّهُ ظَنَّ الْحَلْقَ قَبْلَ النَّحْرِ فَنَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ ، بِأَنْ قَالَ لَهُ : " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ " .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي " صَحِيحَيْهِمَا " أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ ، وَالْحَلْقِ ، وَالرَّمْيِ ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَقَالَ : " لَا حَرَجَ " .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ، وَأَبِي دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيِّ ، وَابْنِ مَاجَهْ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ : حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ، قَالَ : " اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ " ، وَقَالَ : رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ ، فَقَالَ : " افْعَلْ وَلَا حَرَجَ " .
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ ، قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ ، قَالَ : " لَا حَرَجَ " ، قَالَ : حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ ، قَالَ : " لَا حَرَجَ " ، وَالْأَحَادِيثُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ . وَهِيَ تَدُلُّ دَلَالَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ إِثْمٍ وَلَا فِدْيَةَ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : " لَا حَرَجَ " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ رُكِّبَتْ مَعَ لَا فَبُنِيَتْ عَلَى الْفَتْحِ ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ فَهِيَ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي الْعُمُومِ ، فَالْأَحَادِيثُ إِذَنْ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي عُمُومِ النَّفْيِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحَرَجِ مِنْ إِثْمٍ وَفِدْيَةٍ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَلَا يَتَّضِحُ حَمْلُ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا ، وَإِنْ كَانَ سِيَاقُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّائِلَ جَاهِلٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ [ ص: 89 ] تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي الصَّحِيحِ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ النِّسْيَانِ وَلَا الْجَهْلِ ، فَيَجِبُ اسْتِصْحَابُ عُمُومِهَا حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى التَّخْصِيصِ بِالنِّسْيَانِ وَالْجَهْلِ . وَقَدْ تَقَرَّرَ أَيْضًا فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ جَوَابَ الْمَسْئُولِ لِمَنْ سَأَلَهُ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَنْطُوطِ بِالذِّكْرِ لِمُطَابَقَةِ الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ كَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي مَبْحَثِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَهُ : [ الرَّجَزِ ]
أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبْ لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ
كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ) الْآيَةَ [ 2 \ 229 ] وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ وَصْفَ عَدَمِ الشُّعُورِ الْوَارِدِ فِي السُّؤَالِ لَا مَفْهُومَ لَهُ .
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي نَيْلِ الْأَوْطَارِ : وَتَعْلِيقُ سُؤَالِ بَعْضِهِمْ بِعَدَمِ الشُّعُورِ لَا يَسْتَلْزِمُ سُؤَالَ غَيْرِهِ بِهِ حَتَّى يُقَالَ : إِنَّهُ يَخْتَصُّ الْحُكْمَ بِحَالَةِ عَدَمِ الشُّعُورِ ، وَلَا يَجُوزُ اطِّرَاحُهَا بِإِلْحَاقِ الْعَمْدِ بِهَا .
وَلِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ التَّعْوِيلَ فِي التَّخْصِيصِ عَلَى وَصْفِ عَدَمِ الشُّعُورِ الْمَذْكُورِ فِي سُؤَالِ بَعْضِ السَّائِلِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِلْمَطْلُوبِ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الْفَضْلُ الَّذِي لَا جُنَاحَ فِي ابْتِغَائِهِ أَثْنَاءَ الْحَجِّ . وَأَشَارَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ إِلَى أَنَّهُ رِبْحُ التِّجَارَةِ كَقَوْلِهِ : ( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) [ 62 \ 10 ] لِأَنَّ الضَّرْبَ فِي الْأَرْضِ عِبَارَةٌ عَنِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ ، فَمَعْنَى الْآيَةِ يُسَافِرُونَ يَطْلُبُونَ رِبْحَ التِّجَارَةِ . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) [ 62 \ 9 ] أَيْ : بِالْبَيْعِ وَالتِّجَارَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ : ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) [ 92 \ 9 ] أَيْ : فَإِذَا انْقَضَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ فَاطْلُبُوا الرِّبْحَ الَّذِي كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْكُمْ عِنْدَ النِّدَاءِ لَهَا .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ غَلَبَةَ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْمُعَيَّنِ فِي الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الْغَالِبِ أَوْلَى ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَضْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ رِبْحُ التِّجَارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ) [ 2 \ 199 ] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْمَكَانَ الْمَأْمُورَ بِالْإِفَاضَةِ مِنْهُ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظَةِ [ ص: 90 ] ( حَيْثُ ) الَّتِي هِيَ كَلِمَةٌ تَدُلُّ عَلَى الْمَكَانِ ، كَمَا تَدُلُّ " حِينَ " عَلَى الزَّمَانِ .
وَلَكِنَّهُ يُبَيِّنُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ) [ 2 \ 198 ] وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا يَقِفُونَ يَوْمَ عَرَفَةَ بِالْمُزْدَلِفَ ةِ ، وَيَقُولُونَ : نَحْنُ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ ، وَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ عَرَفَاتَ خَارِجٌ عَنِ الْحَرَمِ وَعَامَّةُ النَّاسِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ ، فَأَمَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِين َ ، أَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ، وَهُوَ عَرَفَاتٌ لَا مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ كَفِعْلِ قُرَيْشٍ .
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ ، وَعَلَيْهِ فَلَفْظَةُ " ثُمَّ " لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ بِمَعْنَى عَطْفِ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ ، وَتَرْتِيبِهَا عَلَيْهَا فِي مُطْلَقِ الذِّكْرِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [ 90 \ 13 ، 14 ، 15 ، 16 ، 17 ] .
وَقَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْخَفِيفِ ]
إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ثُمَّ أَفِيضُوا الْآيَةَ ؛ أَيْ : مِنْ مُزْدَلِفَةَ إِلَى مِنًى ، وَعَلَيْهِ فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ إِبْرَاهِيمُ .
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ : وَلَوْلَا إِجْمَاعُ الْحُجَّةِ عَلَى خِلَافِهِ لَكَانَ هُوَ الْأَرْجَحَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) [ 2 \ 212 ] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سُخْرِيَةَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا الضَّحِكُ مِنْهُمْ وَالتَّغَامُزُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [ 83 \ 34 ، 35 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا فَوْقِيَّةَ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ [ 83 \ 34 ، 35 ] .
وَقَوْلِهِ : أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [ 7 \ 49 ] .
[ ص: 91 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) لَمْ يَصِفْ هَذَا الْخَيْرَ هُنَا بِالْكَثْرَةِ وَقَدْ وَصَفَهُ بِهَا فِي قَوْلِهِ : فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنّ َ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [ 4 \ 19 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُم ْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ) [ 2 \ 217 ] ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ اسْتَطَاعُوا ذَلِكَ أَوْ لَا ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَسْتَطِيعُوا ، وَأَنَّهُمْ حَصَلَ لَهُمُ الْيَأْسُ مِنْ رَدِّ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ الْآيَةَ [ 5 \ 3 ] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مُظْهِرٌ دِينَ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ دِينٍ كَقَوْلِهِ فِي " بَرَاءَةٌ " وَ " الصَّفِّ " ، وَ " الْفَتْحِ " هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [ 9 \ 33 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الْإِثْمُ الْكَبِيرُ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إِيقَاعُ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَهُمْ ، وَالصَّدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [ 5 \ 91 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ ) الْآيَةَ ، ظَاهِرُ عُمُومِهِ شُمُولُ الْكِتَابِيَّات ِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْكِتَابِيَّات ِ لَسْنَ دَاخِلَاتٍ فِي هَذَا التَّحْرِيمِ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمُحْصَنَات ُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [ 5 \ 5 ] فَإِنْ قِيلَ : الْكِتَابِيَّات ُ لَا يَدْخُلْنَ فِي اسْمِ الْمُشْرِكَاتِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ [ 98 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِين َ [ 98 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [ 2 \ 105 ] ، وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ دَاخِلُونَ فِي اسْمِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [ 9 \ 30 ، 31 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْمَكَانَ [ ص: 92 ] الْمَأْمُورَ بِالْإِتْيَانِ مِنْهُ ، الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِلَفْظَةِ " حَيْثُ " وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْإِتْيَانُ فِي الْقُبُلِ فِي آيَتَيْنِ :
إِحْدَاهُمَا : هِيَ قَوْلُهُ هُنَا : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ [ 2 \ 223 ] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : ( فَأْتُوا ) أَمْرٌ بِالْإِتْيَانِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ ، وَقَوْلِهِ : ( حَرْثَكُمْ ) ، يُبَيِّنُ أَنَّ الْإِتْيَانَ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ يَعْنِي بَذْرَ الْوَلَدِ بِالنُّطْفَةِ ، وَذَلِكَ هُوَ الْقُبُلُ دُونَ الدُّبُرِ كَمَا لَا يَخْفَى ; لِأَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ مَحَلُّ بَذْرٍ لِلْأَوْلَادِ ، كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ .
الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ 2 \ 187 ] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمُ الْوَلَدُ ، عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ ، وَقَدْ نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَكَمِ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالسُّدِّيِّ ، وَالرَّبِيعِ وَالضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ إِنَّمَا هُوَ بِالْجِمَاعِ فِي الْقُبُلِ . فَالْقُبُلُ إِذَنْ هُوَ الْمَأْمُورُ بِالْمُبَاشَرَة ِ فِيهِ بِمَعْنَى الْجِمَاعِ ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَلْتَكُنْ تِلْكَ الْمُبَاشَرَةُ فِي مَحَلِّ ابْتِغَاءِ الْوَلَدِ ، الَّذِي هُوَ الْقُبُلُ دُونَ غَيْرِهِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [ 2 \ 187 ] ، يَعْنِي الْوَلَدَ .
وَيَتَّضِحُ لَكَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّى شِئْتُمْ [ 2 \ 223 ] يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ فِي مَحَلِّ الْحَرْثِ عَلَى أَيِّ حَالَةٍ شَاءَ الرَّجُلُ ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُسْتَلْقِيَةً ، أَوْ بَارِكَةً ، أَوْ عَلَى جَنْبٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : كَانَتِ الْيَهُودُ تَقُولُ : إِذَا جَامَعَهَا مِنْ وَرَائِهَا جَاءَ الْوَلَدُ أَحْوَلَ ، فَنَزَلَتْ نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ .
فَظَهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَرَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : فَأْتُوهُنَّ فِي الْقُبُلِ عَلَى أَيَّةِ حَالَةٍ شِئْتُمْ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ وَرَائِهَا .
وَالْمُقَرَّرُ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ أَنَّ تَفْسِيرَ الصَّحَابِيِّ الَّذِي لَهُ تَعَلُّقٌ بِسَبَبِ النُّزُولِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ كَمَا عَقَدَهُ صَاحِبُ " طَلْعَةِ الْأَنْوَارِ " ، بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
تَفْسِيرُ صَاحِبٍ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالسَّبَبِ الرَّفْعُ لَهُ مُحَقِّقٌ
وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مَا نَصُّهُ : وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُخَالِفُ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَّى شِئْتُمْ شَامِلٌ لِلْمَسَالِكِ بِحُكْمِ عُمُومِهَا ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا ; إِذْ هِيَ مُخَصَّصَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَبِأَحَادِيثَ صَحِيحَةٍ حِسَانٍ [ ص: 93 ] شَهِيرَةٍ ، رَوَاهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثْنَا عَشَرَ صَحَابِيًّا ، بِمُتُونٍ مُخْتَلِفَةٍ ، كُلُّهَا مُتَوَارِدَةٌ عَلَى تَحْرِيمِ إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي الْأَدْبَارِ ، ذَكَرَهَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي " مُسْنَدِهِ " وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَغَيْرُهُمْ .
وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ بِطُرُقِهَا فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ " تَحْرِيمُ الْمَحَلِّ الْمَكْرُوهِ " .
وَلِشَيْخِنَا أَبِي الْعَبَّاسِ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جُزْءٌ سَمَّاهُ " إِظْهَارُ إِدْبَارِ مَنْ أَجَازَ الْوَطْءَ فِي الْأَدْبَارِ " قُلْتُ : وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الْمُتَّبَعُ ، وَالصَّحِيحُ فِي الْمَسْأَلَةِ .
وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَعْرُجَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ عَلَى زَلَّةِ عَالِمٍ بَعْدَ أَنْ تَصِحَّ عَنْهُ ، وَقَدْ حَذَّرْنَا مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ . وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ خِلَافُ هَذَا ، وَتَكْفِيرُ مَنْ فَعَلَهُ وَهَذَا هُوَ اللَّائِقُ بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ كَذَّبَ نَافِعٌ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِذَلِكَ ، كَمَا ذَكَرَ النَّسَائِيُّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَالِكٌ وَاسْتَعْظَمَهُ ، وَكَذَّبَ مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَيْهِ ، وَرَوَى الدَّارِمِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : مَا تَقُولُ فِي الْجَوَارِي حِينَ أُحَمِّضُ لَهُنَّ ؟ قَالَ : وَمَا التَّحْمِيضُ ؟ فَذَكَرْتُ لَهُ الدُّبُرَ . فَقَالَ : هَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؟ وَأَسْنَدَ عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْحَقِّ ، لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ " وَمِثْلَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ طَلْقٍ ، وَأَسْنَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " .
وَرُوِيَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " تِلْكَ اللُّوطِيَّةُ الصُّغْرَى " يَعْنِي إِتْيَانَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا . وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ بِدْءُ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانَ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَإِذَا ثَبَتَ الشَّيْءُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَغْنَى بِهِ عَمَّا سِوَاهُ ، مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ . وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا مَا نَصُّهُ : وَقَالَ مَالِكٌ لِابْنِ وَهْبٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ زِيَادٍ ، لَمَّا أَخْبَرَاهُ أَنَّ نَاسًا بِمِصْرَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجِيزُ ذَلِكَ ، فَنَفَرَ مِنْ ذَلِكَ وَبَادَرَ إِلَى تَكْذِيبِ النَّاقِلِ ، فَقَالَ : كَذَبُوا عَلَيَّ ، كَذَبُوا عَلَيَّ ، كَذَبُوا عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبًا ؟ أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ تَعَالَى : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ، وَهَلْ يَكُونُ الْحَرْثُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْمَنْبَتِ ؟ مِنْهُ بِلَفْظِهِ أَيْضًا .
[ ص: 94 ] وَمِمَّا يُؤَيِّدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِتْيَانُ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ ، أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْفَرْجَ فِي الْحَيْضِ ; لِأَجْلِ الْقَذَرِ الْعَارِضِ لَهُ ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ الْقَذَرَ هُوَ عِلَّةُ الْمَنْعِ بِقَوْلِهِ : قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [ 2 \ 222 ] فَمِنْ بَابِ أَوْلَى تَحْرِيمُ الدُّبُرِ لِلْقَذَرِ وَالنَّجَاسَةِ اللَّازِمَةِ ، وَلَا يَنْتَقِضُ ذَلِكَ بِجَوَازِ وَطْءِ الْمُسْتَحَاضَة ِ ; لِأَنَّ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ لَيْسَ فِي الِاسْتِقْذَارِ كَدَمِ الْحَيْضِ ، وَلَا كَنَجَاسَةِ الدُّبُرِ ; لِأَنَّهُ دَمُ انْفِجَارِ الْعِرْقِ فَهُوَ كَدَمِ الْجُرْحِ ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَنْعَ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ إِطْبَاقُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا مَعِيبَةٌ تُرَدُّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، إِلَّا شَيْئًا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مِنْ وَجْهٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ أَنَّ الرَّتْقَاءَ لَا تُرَدُّ بِالرَّتْقِ . وَالْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَفِي إِجْمَاعِهِمْ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ بِمَوْضِعِ وَطْءٍ وَلَوْ كَانَ مَوْضِعًا لِلْوَطْءِ مَا رُدَّتْ مَنْ لَا يُوصَلُ إِلَى وَطْئِهَا فِي الْفَرْجِ ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَكُونُ رَدُّ الرَّتْقَاءِ لِعِلَّةِ عَدَمِ النَّسْلِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا تُوطَأُ فِي الدُّبُرِ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعُقْمَ لَا يُرَدُّ بِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ عِلَّةُ رَدِّ الرَّتْقَاءِ عَدَمَ النَّسْلِ لَكَانَ الْعُقْمُ مُوجِبًا لِلرَّدِّ .
وَقَدْ حَكَى الْقُرْطُبِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْعُقْمَ لَا يُرَدُّ بِهِ ، فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ وَطْءَ الْمَرْأَةِ فِي دُبُرِهَا حَرَامٌ فَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ ذَلِكَ كَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي سَعِيدٍ وَجَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُتَقَدِّمِي نَ وَالْمُتَأَخِّر ِينَ ، يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ مَرَادَهُمْ بِالْإِتْيَانِ فِي الدُّبُرِ إِتْيَانُهَا فِي الْفَرْجِ مِنْ جِهَةِ الدُّبُرِ ، كَمَا يُبَيِّنُهُ حَدِيثُ جَابِرٍ ، وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ مَا نَصُّهُ : قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الدَّارِمِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ يَعْقُوبَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَبِي الْحُبَابِ ، قَالَ : قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ : مَا تَقُولُ فِي الْجَوَارِي أَيُحَمَّضُ لَهُنَّ ؟ قَالَ : وَمَا التَّحْمِيضُ ؟ فَذَكَرَ الدُّبُرَ ، فَقَالَ : وَهَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؟ وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٌ ، وَقُتَيْبَةُ ، عَنِ اللَّيْثِ .
وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَنَصٌّ صَرِيحٌ مِنْهُ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ ، فَكُلُّ مَا وَرَدَ عَنْهُ مِمَّا يُحْتَمَلُ ، وَيُحْتَمَلُ فَهُوَ مَرْدُودٌ إِلَى هَذَا الْمُحْكَمِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ قَوْلَهُ : أَنَّى شِئْتُمْ ، [ ص: 95 ] لَا دَلِيلَ فِيهِ لِلْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ; لِأَنَّهُ مُرَتَّبٌ بِالْفَاءِ التَّعْقِيبِيَّ ةِ ، عَلَى قَوْلِهِ : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدُّبُرَ لَيْسَ مَحَلَّ حَرْثٍ ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِجَوَازِ الْجِمَاعِ فِي عُكَنِ الْبَطْنِ ، وَفِي الْفَخِذَيْنِ ، وَالسَّاقَيْنِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ الْكُلَّ لَيْسَ مَحَلَّ حَرْثٍ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى اسْتِمْنَاءً لَا جِمَاعًا . وَالْكَلَامُ فِي الْجِمَاعِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِتْيَانِ فِي قَوْلِهِ : فَأْتُوا حَرْثَكُمْ الْجِمَاعُ ، وَالْفَارِقُ مَوْجُودٌ ; لِأَنَّ عُكَنَ الْبَطْنِ وَنَحْوَهَا لَا قَذَرَ فِيهَا ، وَالدُّبُرُ فِيهِ الْقَذَرُ الدَّائِمُ ، وَالنَّجَسُ الْمُلَازِمُ .
وَقَدْ عَرَفْنَا مِنْ قَوْلِهِ : قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ [ 2 \ 222 ] أَنَّ الْوَطْءَ فِي مَحَلِّ الْأَذَى لَا يَجُوزُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَعْنَى قَوْلِهِ : مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ، أَيْ : مِنَ الْمَكَانِ الَّذِي أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَجَنُّبِهِ ; لِعَارِضِ الْأَذَى وَهُوَ الْفَرْجُ وَلَا تَعْدُوهُ إِلَى غَيْرِهِ ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالرَّبِيعِ وَغَيْرِهِمْ ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ : مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يُبَيِّنُهُ : قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ الْآيَةَ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَحَلَّ الْأَذَى الَّذِي هُوَ الْحَيْضُ إِنَّمَا هُوَ الْقُبُلُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ ; لِأَنَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ أَمَرَ بِضِدِّهِ ، وَلِذَا تَصِحُّ الْإِحَالَةُ فِي قَوْلِهِ : أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَلَى النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَالْخِلَافُ فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ هُوَ أَمْرٌ بِضِدِّهِ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ ، وَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَالنَّهْيُ فِيهِ غَابِرُ الْخِلَافِ أَوْ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِائْتِلَافِ
وَقِيلَ لَا قَطْعًا كَمَا فِي الْمُخْتَصَرْ وَهُوَ لَدَى السُّبْكِيِّ رَأْيٌ مَا انْتَصَرَ
وَمُرَادُهُ بِغَابِرِ الْخِلَافِ : هُوَ مَا ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا مِنَ الْخِلَافِ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ ، هَلْ هُوَ عَيْنُ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ ، أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ أَوْ لَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ ؟ يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْخِلَافَ أَيْضًا فِي النَّهْيِ عَنِ الشَّيْءِ هَلْ هُوَ عَيْنُ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ ؟ أَوْ ضِدٌّ مِنْ أَضْدَادِهِ إِنْ تَعَدَّدَتْ ؟ أَوْ مُسْتَلْزِمٌ لِذَلِكَ ؟ أَوْ لَيْسَ عَيْنَهُ وَلَا مُسْتَلْزِمًا لَهُ ؟ وَزَادَ فِي النَّهْيِ قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ أَمَرَ بِالضِّدِّ اتِّفَاقًا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا بِهِ قَطْعًا ، وَعَزَا الْأَخِيرَ لِابْنِ الْحَاجِبِ فِي " مُخْتَصَرِهِ " ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السُّبْكِيَّ فِي " جَمْعِ الْجَوَامِعِ " ذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ ذَلِكَ الْقَوْلَ لِغَيْرِ ابْنِ الْحَاجِبِ .
[ ص: 96 ] وَقَالَ الزَّجَّاجُ : مَعْنَى مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَيْ : مِنَ الْجِهَاتِ الَّتِي يَحِلُّ فِيهَا أَنْ تُقْرَبَ الْمَرْأَةُ ، وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ لَا يَحِلُّ ، كَمَا إِذَا كُنَّ صَائِمَاتٍ ، أَوْ مُحْرِمَاتٍ ، أَوْ مُعْتَكِفَاتٍ .
وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ : مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ يَعْنِي طَاهِرَاتٍ غَيْرِ حُيَّضٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
ابو وليد البحيرى
2020-07-23, 04:30 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (14)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ )
لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِالْمُرَادِ بِمَا كَسَبَتْهُ قُلُوبُهُمْ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ إِذَا حَنِثَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا كَسَبَتِ الْقُلُوبُ ، هُوَ عَقْدُ الْيَمِينِ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ اللَّازِمَ فِي ذَلِكَ إِذَا حَنِثَ كَفَّارَةٌ ، هِيَ : إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، وَمَنْ عَجَزَ عَنْ وَاحِدٍ مِنَ الثَّلَاثَةِ فَصَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ الْآيَةَ [ 5 \ 89 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ شُمُولُهَا لِجَمِيعِ الْمُطَلَّقَاتِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ خُرُوجَ بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ ، كَالْحَوَامِلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَنَّ عِدَّتَهُنَّ وَضْعُ الْحَمْلِ ، فِي قَوْلِهِ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ 65 \ 4 ] وَكَالْمُطَلَّق َاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ الْمَنْصُوصِ عَلَى أَنَّهُنَّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ أَصْلًا ، بِقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [ 33 \ 49 ] .
أَمَّا اللَّوَاتِي لَا يَحِضْنَ ، لِكِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ عِدَّتَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ فِي قَوْلِهِ : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [ 65 \ 4 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فِيهِ إِجْمَالٌ ; لِأَنَّ الْقُرْءَ يُطْلَقُ لُغَةً عَلَى الْحَيْضِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " . وَيُطْلَقُ الْقُرْءُ لُغَةً أَيْضًا عَلَى الطُّهْرِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى : [ الطَّوِيلِ ]
أَفِي كُلِّ يَوْمٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لِأَقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا
[ ص: 97 ]
مُوَرِّثَةٍ مَالًا وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَرْءَ الَّذِي يَضِيعُ عَلَى الْغَازِي مِنْ نِسَائِهِ هُوَ الطُّهْرُ دُونَ الْحَيْضِ ، وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْقُرُوءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، هَلْ هُوَ الْأَطْهَارُ أَوِ الْحَيْضَاتُ ؟
وَسَبَبُ الْخِلَافِ اشْتِرَاكُ الْقَرْءِ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَرْءِ فِي الْآيَةِ الطُّهْرُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ ، وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَمِمَّنْ قَالَ : بِأَنَّ الْقُرُوءَ الْحَيْضَاتُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْأَرْبَعَةُ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَأَبُو مُوسَى ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعَيْنِ وَغَيْرُهُمْ ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَحْمَدَ .
وَاحْتَجَّ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّنَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ نُرَجِّحُ مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ دَلِيلَهُ أَرْجَحُ أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا الْقُرُوءُ الْحَيْضَاتُ ، فَاحْتَجُّوا بِأَدِلَّةٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ قَالُوا : فَتَرْتِيبُ الْعِدَّةِ بِالْأَشْهُرِ عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ ، وَالْأَشْهُرُ بَدَلٌ مِنَ الْحَيْضَاتِ عِنْدَ عَدَمِهَا ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ [ 2 \ 228 ] .
قَالُوا : هُوَ الْوَلَدُ أَوِ الْحَيْضُ ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " قَالُوا : إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُبَيِّنُ الْوَحْيِ وَقَدْ أَطْلَقَ الْقَرْءَ عَلَى الْحَيْضِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ اعْتِدَادِ الْأَمَةِ بِحَيْضَتَيْنِ ، وَحَدِيثِ اسْتِبْرَائِهَا بِحَيْضَةٍ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : الْقُرُوءُ الْأَطْهَارُ ، فَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ 65 \ 1 ] قَالُوا : عِدَّتُهُنَّ الْمَأْمُورُ بِطَلَاقِهِنَّ لَهَا ، الطُّهْرُ لَا الْحَيْضُ كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَ ا طَاهِرًا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ " قَالُوا : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَهُوَ نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ دَلِيلَ هَؤُلَاءِ هَذَا - فَصْلٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ - [ ص: 98 ] لِأَنَّ مَدَارَ الْخِلَافِ هَلِ الْقُرُوءُ الْحَيْضَاتُ أَوِ الْأَطْهَارُ ؟ وَهَذِهِ الْآيَةُ وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلَّا عَلَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ .
وَلَا يُوجَدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ يُقَاوِمُ هَذَا الدَّلِيلَ ، لَا مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الصَّرَاحَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ بَيَانِ مَعْنَى آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَدْ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، بِقَوْلِهِ : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، فَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فَتِلْكَ الْعِدَّةُ " رَاجِعَةٌ إِلَى حَالِ الطُّهْرِ الْوَاقِعِ فِيهِ الطَّلَاقُ ; لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَلْيُطَلِّقْهَ ا طَاهِرًا " أَيْ : فِي حَالِ كَوْنِهَا طَاهِرًا ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْحَالَ الَّذِي هُوَ الطُّهْرُ هُوَ الْعِدَّةُ مُصَرِّحًا بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُرَادُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ . وَأَنَّثَ بِالْإِشَارَةِ لِتَأْنِيثِ الْخَبَرِ ، وَلَا تَخَلُّصَ مِنْ هَذَا الدَّلِيلِ لِمَنْ يَقُولُ هِيَ الْحَيْضَاتُ إِلَّا إِذَا قَالَ : الْعِدَّةُ غَيْرُ الْقُرُوءِ ، وَالنِّزَاعُ فِي خُصُوصِ الْقُرُوءِ كَمَا قَالَ بِهَذَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ .
وَهَذَا الْقَوْلُ يَرُدُّهُ إِجْمَاعُ أَهْلِ الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ ، عَلَى أَنَّ عِدَّةَ مَنْ تَعْتَدُّ بِالْقُرُوءِ هِيَ نَفْسُ الْقُرُوءِ لَا شَيْءَ آخَرَ زَائِدٌ عَلَى ذَلِكَ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [ 65 \ 1 ] وَهِيَ زَمَنُ التَّرَبُّصِ إِجْمَاعًا ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ ، الَّتِي هِيَ مَعْمُولُ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَتَرَبَّصْنَ [ 2 \ 228 ] فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ شَيْئًا يُسَمَّى الْعِدَّةَ زَائِدًا عَلَى ثَلَاثَةِ الْقُرُوءِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْبَتَّةَ ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ .
وَفِي الْقَامُوسِ : وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا ، وَأَيَّامُ إِحْدَادِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَهُوَ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِأَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ نَفْسُ الْقُرُوءِ لَا شَيْءَ زَائِدٌ عَلَيْهَا ، وَفِي اللِّسَانِ : وَعِدَّةُ الْمَرْأَةِ أَيَّامُ أَقْرَائِهَا ، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا أَيَّامُ إِحْدَادِهَا عَلَى بَعْلِهَا ، وَإِمْسَاكُهَا عَنِ الزِّينَةِ شُهُورًا كَانَ أَوْ أَقْرَاءً أَوْ وَضْعُ حَمْلٍ حَمَلَتْهُ مِنْ زَوْجِهَا .
فَهَذَا بَيَانٌ بَالِغٌ مِنَ الصِّحَّةِ وَالْوُضُوحِ وَالصَّرَاحَةِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، مَا لَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى كَلَامٍ آخَرَ . وَتُؤَيِّدُهُ قَرِينَةُ زِيَادَةِ التَّاءِ فِي قَوْلِهِ : ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِدَلَالَتِهَا عَلَى تَذْكِيرِ الْمَعْدُودِ وَهُوَ الْأَطْهَارُ ; لِأَنَّهَا مُذَكَّرَةٌ وَالْحَيْضَاتُ مُؤَنَّثَةٌ .
وَجَوَابُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا بِأَنَّ لَفْظَ الْقُرْءِ مُذَكَّرٌ وَمُسَمَّاهُ مُؤَنَّثٌ وَهُوَ الْحَيْضَةُ ، [ ص: 99 ] وَأَنَّ التَّاءَ إِنَّمَا جِيءَ بِهَا مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لَا لِلْمَعْنَى الْمُؤَنَّثِ .
يُقَالُ فِيهِ : إِنَّ اللَّفْظَ إِذَا كَانَ مُذَكَّرًا ، وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا لَا تَلْزَمُ التَّاءُ فِي عَدَدِهِ ، بَلْ تَجُوزُ فِيهِ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى ، فَيُجَرَّدُ الْعَدَدُ مِنَ التَّاءِ كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ : [ الطَّوِيلِ ]
وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أَتَّقِي ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمَعْصِرُ
فَجَرَّدَ لَفْظَ الثَّلَاثِ مِنَ التَّاءِ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ مُسَمَّى الْعَدَدِ نِسَاءً ، مَعَ أَنَّ لَفْظَ الشَّخْصِ الَّذِي أَطْلَقَهُ عَلَى الْأُنْثَى مُذَكَّرٌ ، وَقَوْلِ الْآخَرِ : [ الطَّوِيلِ ]
وَإِنَّ كِلَابًا هَذِهِ عَشْرُ أَبْطُنٍ وَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلِهَا الْعَشْرِ
فَمُجَرَّدُ الْعَدَدِ مِنَ التَّاءِ مَعَ أَنَّ الْبَطْنَ مُذَكَّرٌ ; نَظَرًا إِلَى مَعْنَى الْقَبِيلَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ ، كَقَوْلِهِ : [ الْوَافِرِ ]
ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ لَقَدْ عَالَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
فَإِنَّهُ قَدْ ذَكَرَ لَفْظَ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّ الْأَنْفُسَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا ; نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْفُسُ ذُكُورٍ ، وَتَجُوزُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ فَيُجَرَّدُ مِنَ التَّاءِ فِي الْأَخِيرِ ، وَتَلْحَقُهُ التَّاءُ فِي الْأَوَّلِ ، وَلُحُوقُهَا إِذَنْ مُطْلَقُ احْتِمَالٍ ، وَلَا يَصِحُّ الْحَمْلُ عَلَيْهِ دُونَ قَرِينَةٍ تُعِينُهُ ، بِخِلَافِ عَدَدِ الْمُذَكَّرِ لَفْظًا وَمَعْنًى ، كَالْقُرْءِ بِمَعْنَى الطُّهْرِ ، فَلُحُوقُهَا لَهُ لَازِمٌ بِلَا شَكٍّ ، وَاللَّازِمُ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنَ الْمُحْتَمَلِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ بَدَلًا عَنْهُ ، وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ كَمَا تَرَى .
فَإِنْ قِيلَ ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي تَذْكِيرِ وَاحِدِ الْمَعْدُودِ وَتَأْنِيثِهِ إِنَّمَا هِيَ بِاللَّفْظِ ، وَلَا تَجُوزُ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى إِلَّا إِذَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ ، أَوْ كَانَ قَصَدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَثِيرًا ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ ، قَالَ الْأَشْمُونِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ : [ الرَّجَزِ ]
ثَلَاثَةٌ بِالتَّاءِ قُلْ لِلْعَشَرَهْ فِي عَدِّ مَا آحَادُهُ مُذَكَّرَهْ
فِي الضِّدِّ جَرِّدْ إِلَخْ . . . مَا نَصُّهُ : الثَّانِي اعْتِبَارُ التَّأْنِيثِ فِي وَاحِدِ الْمَعْدُودِ إِنْ كَانَ اسْمًا فَبِلَفْظِهِ ، تَقُولُ : ثَلَاثَةُ أَشْخُصٍ ، قَاصِدًا " نِسْوَةٍ " ، وَثَلَاثُ أَعْيُنٍ قَاصِدًا " رِجَالٍ " ; لِأَنَّ لَفْظَ شَخْصٍ مُذَكَّرٌ ، وَلَفْظُ عَيْنٍ مُؤَنَّثٌ ، هَذَا مَا لَمْ يَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ مَا يُقَوِّي الْمَعْنَى ; أَوْ يَكْثُرْ فِيهِ قَصْدُ الْمَعْنَى . فَإِنِ اتَّصَلَ بِهِ ذَلِكَ جَازَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى ، فَالْأَوَّلُ كَقَوْلِهِ : [ ص: 100 ]
ثَلَاثُ شُخُوصٍ كَاعِبَانِ وَمُعْصِرُ
وَكَقَوْلِهِ : وَإِنَّ كِلَابًا . . الْبَيْتَ .
وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ :
ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَثَلَاثُ ذَوْدٍ
. ا هـ مِنْهُ .
وَقَالَ الصَّبَّانُ فِي " حَاشِيَتِهِ " عَلَيْهِ : وَبِمَا ذَكَرَهُ الشَّارِحُ يَرُدُّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [ 2 \ 228 ] . بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [ 24 \ 4 ] عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْأَطْهَارُ لَا الْحَيْضُ ، وَعَلَى أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ; لِأَنَّ الْحَيْضَ جَمْعُ حَيْضَةٍ ; فَلَوْ أُرِيدَ الْحَيْضُ لَقِيلَ ثَلَاثٌ ، وَلَوْ أُرِيدَ النِّسَاءُ لَقِيلَ بِأَرْبَعٍ .
وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا اللَّفْظُ ، وَلَفْظُ قُرْءٍ وَشَهِيدٍ مُذَكَّرَيْنَ ، مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
فَالْجَوَابُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا خِلَافَ التَّحْقِيقِ ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ اسْتِقْرَاءُ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ جَوَازُ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى مُطْلَقًا ، وَجَزَمَ بِجَوَازِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى فِي لَفْظِ الْعَدَدِ ابْنُ هِشَامٍ ، نَقَلَهُ عَنْهُ السُّيُوطِيُّ ، بَلْ جَزَمَ صَاحِبُ " التَّسْهِيلِ " وَشَارِحُهُ الدَّمَامِينِيّ ُ : بِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى فِي وَاحِدِ الْمَعْدُودِ مُتَعَيِّنَةٌ .
قَالَ الصَّبَّانُ فِي " حَاشِيَتِهِ " ، مَا نَصُّهُ : قَوْلُهُ فَبِلَفْظِهِ ظَاهِرُهُ : أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ ، وَيُخَالِفُهُ مَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَنَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ مُذَكَّرًا ، وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا ، أَوْ بِالْعَكْسِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ ا ه .
وَيُخَالِفُهُ أَيْضًا مَا فِي " التَّسْهِيلِ " وَشَرْحِهِ لِلدَّمَامِينِي ِّ . وَعِبَارَةُ " التَّسْهِيلِ " تَحْذِفُ تَاءَ الثَّلَاثَةِ وَأَخَوَاتِهَا ، إِنْ كَانَ وَاحِدُ الْمَعْدُودِ مُؤَنَّثَ الْمَعْنَى حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا .
قَالَ الدَّمَامِينِيّ ُ : اسْتُفِيدَ مِنْهُ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْوَاحِدِ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ ، فَلِهَذَا يُقَالُ : ثَلَاثَةُ طَلَحَاتٍ ، ثُمَّ قَالَ فِي " التَّسْهِيلِ " وَرُبَّمَا أُوِّلَ مُذَكَّرٌ بِمُؤَنَّثٍ ، وَمُؤَنَّثٌ بِمُذَكَّرٍ ، فَجِيءَ بِالْعَدَدِ عَلَى حَسَبِ التَّأْوِيلِ ، وَمَثَّلَ الدَّمَامِينِيّ ُ الْأَوَّلَ بِنَحْوِ ثَلَاثِ شُخُوصٍ ، يُرِيدُ نِسْوَةً وَعَشْرِ وَأَبْطُنَ يُرِيدُ قَبَائِلَ .
وَالثَّانِي بِنَحْوِ ثَلَاثَةِ أَنْفُسٍ ؛ أَيْ : أَشْخَاصٍ وَتِسْعَةِ وَقَائِعَ أَيْ : مَشَاهِدَ ، فَتَأَمَّلْ . انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ " التَّسْهِيلِ " وَشَارِحُهُ ، مِنْ تَعَيُّنِ مُرَاعَاةِ الْمَعْنَى ، يَلْزَمُ عَلَيْهِ تَعَيُّنُ كَوْنِ الْقُرْءِ فِي الْآيَةِ هُوَ الطُّهْرُ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
وَفِي " حَاشِيَةِ الصَّبَّانِ " أَيْضًا مَا نَصُّهُ : قَوْلُهُ جَازَ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى فِي التَّوْضِيحِ أَنَّ [ ص: 101 ] ذَلِكَ لَيْسَ قِيَاسِيًّا ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ هِشَامٍ وَغَيْرِهِ ، مِنْ أَنَّ مَا كَانَ لَفْظُهُ مُذَكَّرًا وَمَعْنَاهُ مُؤَنَّثًا أَوْ بِالْعَكْسِ ، يَجُوزُ فِيهِ وَجْهَانِ ؛ أَيْ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مُرَجِّحٌ لِلْمَعْنَى ، وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ [ التَّسْهِيلِ ] وَشَرْحِهِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْمَعْنَى ، فَتَأَمَّلْ . ا ه مِنْهُ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّهَا الْحَيْضَاتُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ الْآيَةَ [ 65 \ 4 ] ، فَيُقَالُ فِيهِ : إِنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّ الْقُرُوءَ الْحَيْضَاتُ ; لِأَنَّ الْأَقْرَاءَ لَا تُقَالُ فِي الْأَطْهَارِ إِلَّا فِي الْأَطْهَارِ الَّتِي يَتَخَلَّلُهَا حَيْضٌ ، فَإِنْ عُدِمَ الْحَيْضُ عُدِمَ مَعَهُ اسْمُ الْأَطْهَارِ ، وَلَا مَانِعَ إِذَنْ مِنْ تَرْتِيبِ الِاعْتِدَادِ بِالْأَشْهَرِ عَلَى عَدَمِ الْحَيْضِ مَعَ كَوْنِ الْعِدَّةِ بِالطُّهْرِ ; لِأَنَّ الطُّهْرَ الْمُرَادَ يَلْزَمُهُ وُجُودُ الْحَيْضِ وَإِذَا انْتَفَى اللَّازِمُ انْتَفَى الْمَلْزُومُ ، فَانْتِفَاءُ الْحَيْضِ يَلْزَمُهُ انْتِفَاءُ الْأَطْهَارِ فَكَأَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَشْهُرِ مُرَتَّبَةٌ أَيْضًا عَلَى انْتِفَاءِ الْأَطْهَارِ ، الْمَدْلُولُ عَلَّهُ بِانْتِفَاءِ الْحَيْضِ . وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِآيَةٍ : وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ كَوْنَ الْقُرُوءِ الْأَطْهَارُ لَا يُبِيحُ لِلْمُعْتَدَّةِ كَتْمَ الْحَيْضِ ; لِأَنَّ الْعِدَّةَ بِالْأَطْهَارِ لَا تُمَكَّنُ إِلَّا بِتَخَلُّلِ الْحَيْضِ لَهَا ، فَلَوْ كَتَمَتِ الْحَيْضَ لَكَانَتْ كَاتِمَةً انْقِضَاءَ الطُّهْرِ ، وَلَوِ ادَّعَتْ حَيْضًا لَمْ يَكُنْ كَانَتْ كَاتِمَةً ; لِعَدَمِ انْقِضَاءِ الطُّهْرِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " فَيُقَالُ فِيهِ : إِنَّهُ لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ الْبَتَّةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ يُطْلَقُ عَلَى الْحَيْضِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ .
أَمَّا كَوْنُهُ يَدُلُّ عَلَى مَنْعِ إِطْلَاقِ الْقُرْءِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى الطُّهْرِ فَهَذَا بَاطِلٌ بِلَا نِزَاعٍ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ : بِوُقُوعِ الِاشْتِرَاكِ فِي : أَنَّ إِطْلَاقَ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ فِي مَوْضِعٍ ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ مَنْعُ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَاصِرَةِ وَالْجَارِيَةِ مَثَلًا ، فَهَلْ تَقُولُ إِنَّ إِطْلَاقَهُ تَعَالَى لَفْظَ الْعَيْنِ عَلَى الْبَاصِرَةِ فِي قَوْلِهِ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ الْآيَةَ [ 5 \ 45 ] يَمْنَعُ إِطْلَاقَ الْعَيْنِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَى الْجَارِيَةِ ، كَقَوْلِهِ : فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ [ 88 \ 12 ] .
وَالْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مَعْنَيَيْهِ ، أَوْ مَعَانِيهِ فِي الْحَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِذَلِكَ ، وَالْقُرْءُ فِي حَدِيثِ " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " مُنَاسِبٌ لِلْحَيْضِ [ ص: 102 ] دُونَ الطُّهْرِ ; لِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تُتْرَكُ فِي وَقْتِ الْحَيْضِ دُونَ وَقْتِ الطُّهْرِ .
وَلَوْ كَانَ إِطْلَاقُ الْمُشْتَرَكِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ يُفِيدُ مَنْعَ إِطْلَاقِهِ عَلَى مَعْنَاهُ الْآخَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، لَمْ يَكُنْ فِي اللُّغَةِ اشْتَرَاكٌ أَصْلًا ; لِأَنَّهُ كُلُّ مَا أَطْلَقَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَنَعَ إِطْلَاقَهُ لَهُ عَلَى الْآخَرِ ، فَيُبْطِلُ اسْمَ الِاشْتِرَاكِ مِنْ أَصْلِهِ مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا تَصْرِيحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " بِأَنَّ الطُّهْرَ هُوَ الْعِدَّةُ " وَكُلُّ هَذَا عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ حَدِيثِ " دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " لِأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ ضَعَّفَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَهُ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ طُرُقِهِ لَا يَقِلُّ عَنْ دَرَجَةِ الْقَبُولِ ، إِلَّا أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ .
وَلَوْ كَانَ فِيهِ لَكَانَ مَرْدُودًا بِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَصْرَحُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَهُوَ مَا قَدَّمْنَا . وَكَذَلِكَ اعْتِدَادُ الْأَمَةِ بِحَيْضَتَيْنِ عَلَى تَقْرِيرِ ثُبُوتِهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَا يُعَارِضُ مَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْهُ وَأَصْرَحُ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَاسْتِبْرَاؤُه َا بِحَيْضَةٍ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى ; لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعِدَّةِ لَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ . وَرَدَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الدَّالَّيْنِ عَلَى أَنَّهَا الْأَطْهَارُ ، بِأَنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الِاعْتِدَادُ بِالطُّهْرِ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ كَمَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْقَائِلِينَ : بِأَنَّ الْقُرُوءَ الْأَطْهَارُ ، فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ كَوْنُ الْعِدَّةِ قُرْءَيْنِ وَكَسْرًا مِنَ الثَّالِثِ ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهَا ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَامِلَةٍ مَرْدُودٌ بِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا تُعَارَضُ بِهِ نُصُوصُ الْوَحْيِ الصَّرِيحَةُ ، وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ إِطْلَاقُ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ عَلَى اثْنَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ : الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ وَالْمُرَادُ شَهْرَانِ وَكَسْرٍ .
وَادِّعَاءُ أَنَّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ فِي أَسْمَاءِ الْعَدَدِ يُقَالُ فِيهِ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي ذَكَرَ إِنَّ بَقِيَّةَ الطُّهْرِ الْوَاقِعِ فِيهِ الطَّلَاقُ عِدَّةٌ ، مُبَيِّنًا أَنَّ ذَلِكَ مُرَادُ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْآيَةَ وَالْحَدِيثَ الْمَذْكُورَيْن ِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ الْحَيْضَاتُ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ كَمَا تَرَى .
بَلْ لَفْظُ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْن ِ صَرِيحٌ فِي نَقِيضِهِ ، هَذَا هُوَ مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، وَنِسْبَةُ الْعِلْمُ إِلَيْهِ أَسْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا [ 2 \ 228 ] ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَزْوَاجَ كَلِّ الْمُطَلَّقَاتِ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ رَجْعِيَّةٍ وَغَيْرِهَا .
[ ص: 103 ] وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ الْبَائِنَ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ 33 \ 49 ] .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ بَائِنٌ ، كَمَا أَنَّهُ أَشَارَ هُنَا إِلَى أَنَّهَا إِذَا بَانَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ : ( ذَلِكَ ) رَاجِعَةٌ إِلَى زَمَنِ الْعِدَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِـ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ .
وَاشْتَرَطَ هُنَا فِي كَوْنِ بُعُولَةِ الرَّجْعِيَّاتِ أَحَقَّ بِرَدِّهِنَّ إِرَادَتَهُمُ الْإِصْلَاحَ بِتِلْكَ الرَّجْعَةِ ، فِي قَوْلِهِ : إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَفْهُومِ هَذَا الشَّرْطِ هُنَا ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ زَوْجَ الرَّجْعِيَّةِ إِذَا ارْتَجَعَهَا لَا بِنْيَةَ الْإِصْلَاحِ بَلْ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ بِهَا ; لِتُخَالِعَهُ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، أَنَّ رَجْعَتَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ ، كَمَا هُوَ مَدْلُولُ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [ 2 \ 231 ] .
فَالرَّجْعَةُ بِقَصْدِ الْإِضْرَارِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَفْهُومُ الشَّرْطِ الْمُصَرَّحِ بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا الْآيَةَ ، وَصِحَّةُ رَجَعَتِهِ حِينَئِذٍ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْأَمْرِ ، فَلَوْ صَرَّحَ لِلْحَاكِمِ بِأَنَّهُ ارْتَجَعَهَا بِقَصْدِ الضَّرَرِ ، لَأَبْطَلَ رَجَعَتَهُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذِهِ الدَّرَجَةُ الَّتِي لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لَهَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [ 4 \ 34 ] فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الرَّجُلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرْأَةِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ شَرَفٌ وَكَمَالٌ ، وَالْأُنُوثَةَ نَقْصٌ خَلْقِيٌّ طَبِيعِيٌّ ، وَالْخَلْقُ كَأَنَّهُ مُجْمِعٌ عَلَى ذَلِكَ ; لِأَنَّ الْأُنْثَى يَجْعَلُ لَهَا جَمِيعُ النَّاسِ أَنْوَاعَ الزِّينَةِ وَالْحُلِيِّ ، وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِجَبْرِ النَّقْصِ الْخُلُقِيِّ الطَّبِيعِيِّ الَّذِي هُوَ الْأُنُوثَةُ ، بِخِلَافِ الذَّكَرِ فَجَمَالُ ذُكُورَتَهِ يَكْفِيهِ عَنِ الْحُلِيِّ وَنَحْوِهِ .
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى نَقْصِ الْمَرْأَةِ وَضَعْفِهَا الْخُلُقِيَّيْن ِ الطَّبِيعِيَّيْ نِ بِقَوْلِهِ : أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [ 43 \ 18 ] [ ص: 104 ] لِأَنَّ نَشْأَتَهَا فِي الْحِلْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى نَقْصِهَا الْمُرَادُ جَبْرُهُ وَالتَّغْطِيَةُ عَلَيْهِ بِالْحُلِيِّ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الطَّوِيلِ ]
وَمَا الْحَلْيُ إِلَّا زِينَةً مِنْ نَقِيصَةٍ يُتَمِّمُ مِنْ حُسْنٍ إِذَا الْحَسَنُ قَصَّرَا
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفَّرًا كَحُسْنِكِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى أَنْ يُزَوَّرَا
وَلِأَنَّ عَدَمَ إِبَانَتِهَا فِي الْخِصَامِ إِذَا ظُلِمَتْ دَلِيلٌ عَلَى الضَّعْفِ الْخَلْقِيِّ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الطَّوِيلِ ]
بِنَفْسِي وَأَهْلِي مَنْ إِذَا عَرَضُوا لَهُ بِبَعْضِ الْأَذَى لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُجِيبُ
فَلَمْ يَعْتَذِرْ عُذْرَ الْبَرِيءِ وَلَمْ تَزَلْ بِهِ سَكْتَةٌ حَتَّى يُقَالَ مُرِيبٌ
وَلَا عِبْرَةَ بِنَوَادِرِ النِّسَاءِ ; لِأَنَّ النَّادِرَ لَا حُكْمَ لَهُ .
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ : وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَى أَنَّ الْكَامِلَ فِي وَصْفِهِ وَقُوَّتِهِ وَخِلْقَتِهِ يُنَاسِبُ حَالَهُ ، أَنْ يَكُونَ قَائِمًا عَلَى الضَّعِيفِ النَّاقِصِ خِلْقَةً .
وَلِهَذِهِ الْحِكْمَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا جُعِلَ مِيرَاثُهُ مُضَاعَفًا عَلَى مِيرَاثِهَا ; لِأَنَّ مَنْ يَقُومُ عَلَى غَيْرِهِ مُتَرَقِّبٌ لِلنَّقْصِ ، وَمَنْ يَقُومُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مُتَرَقِّبٌ لِلزِّيَادَةِ ، وَإِيثَارُ مُتَرَقِّبِ النَّقْصِ عَلَى مُتَرَقِّبِ الزِّيَادَةِ ظَاهِرُ الْحِكْمَةِ .
كَمَا أَنَّهُ أَشَارَ إِلَى حِكْمَةِ كَوْنِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ إِذْنِ الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّ حَقْلَهُ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلزِّرَاعَةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْغَمَ عَلَى الِازْدِرَاعِ فِي حَقْلٍ لَا يُنَاسِبُ الزِّرَاعَةَ . وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ آلَةَ الِازْدِرَاعِ بِيَدِ الرَّجُلِ ، فَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَقَاءِ مَعَ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ فِيهَا حَتَّى تَرْضَى بِذَلِكَ ، فَإِنَّهَا إِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُجَامِعَهُ لَا يَقُومُ ذَكَرُهُ وَلَا يَنْتَشِرُ إِلَيْهَا ، فَلَمْ تَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ النَّسْلِ مِنْهُ ، الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْغَرَضِ مِنَ النِّكَاحِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ ; فَإِنَّهُ يُوَلِّدُهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ كَمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ) ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الطَّلَاقَ كُلَّهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْمَرَّتَيْنِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْمُنْحَصِرَ فِي الْمَرَّتَيْنِ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ لَا مُطْلَقًا ، وَذَلِكَ بِذِكْرِهِ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ بَعْدَهَا الْمُرَاجَعَةُ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ [ 2 \ 230 ] ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ 2 \ 229 ] يَعْنِي بِهِ عَدَمَ الرَّجْعَةِ .
[ ص: 105 ] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَرُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
تَنْبِيهٌ
ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ يُؤْخَذُ مِنْهَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَأَشَارَ الْبُخَارِيُّ بِقَوْلِهِ : " بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ ; لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ( الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ) .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الدَّلَالَةِ الْمُرَادَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ هُوَ مَا قَالَهُ الْكِرْمَانِيُّ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [ 2 \ 229 ] عَلِمْنَا أَنَّ إِحْدَى الْمَرَّتَيْنِ جَمَعَ فِيهَا بَيْنَ تَطْلِيقَتَيْنِ ، وَإِذَا جَازَ جَمْعُ التَّطْلِيقَتَي ْنِ دَفْعَةً ، جَازَ جَمْعُ الثَّلَاثِ ، وَرَدَّ ابْنُ حَجَرٍ هَذَا بِأَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ ، وَجَعَلَ الْآيَةَ دَلِيلًا لِنَقِيضِ ذَلِكَ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الظَّاهِرُ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالْآيَةِ غَيْرُ نَاهِضٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ حَصْرَ الطَّلَاقِ كُلَّهُ فِي الْمَرَّتَيْنِ حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فِي إِحْدَى التَّطْلِيقَتَي ِنِ كَمَا ذَكَرَ ، بَلِ الْمُرَادُ بِالطَّلَاقِ الْمَحْصُورِ هُوَ خُصُوصُ الطَّلَاقِ الَّذِي تُمْلَكُ بَعْدَهُ الرَّجْعَةُ كَمَا ذَكَرْنَا ، وَكَمَا فَسَّرَ بِهِ الْآيَةَ جَمَاهِيرُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ . وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَجْهُ الدَّلِيلِ فِي الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ ، وَلَكِنَّ كَوْنَ الْآيَةِ لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، لَا يُنَافِي أَنْ تَقُومَ عَلَى ذَلِكَ أَدِلَّةٌ ، وَسَنَذْكُرُ أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَأَدِلَّةَ مَنْ خَالَفَ فِيهِ ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ إِيضَاحِ خُلَاصَةِ الْبَحْثِ كُلِّهِ فِي آخِرِ الْكَلَامِ إِيضَاحًا تَامًّا .
فَنَقُولُ وَبِاللَّهِ نَسْتَعِينُ : اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ، الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ لِعَانِ عُوَيْمِرٍ الْعَجْلَانِيِّ وَزَوْجِهِ ; فَإِنَّ فِيهِ : " فَلَمَّا فَرَغَا قَالَ عُوَيْمِرٌ : كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَكَانَتْ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَي ْنِ " .
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَة ِ عَنْهُ ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنْهُ : أَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَدَّ الْمُخَالِفُ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ ; بِأَنَّ الْمُفَارَقَةَ وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَلَمْ [ ص: 106 ] يُصَادِفْ تَطْلِيقَهُ الثَّلَاثَ مَحَلًّا ، وَرَدَّ هَذَا الِاعْتِرَاضَ ; بِأَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْحَدِيثِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ مَجْمُوعَةً ، فَلَوْ كَانَ مَمْنُوعًا لَأَنْكَرَهُ ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَبِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا بِنَفْسِ اللِّعَانِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ صَرِيحَةٌ وَلَا إِجْمَاعٌ ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ .
فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِلِعَانِ الزَّوْجَيْنِ مَعًا ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ . وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، وَتَقَعُ عِنْدَ فَرَاغِ الزَّوْجِ مِنْ أَيْمَانِهِ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ .
وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُمَ ا إِلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ حَتَّى يُوقِعَهَا الْحَاكِمُ ; وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ مَا وَقَعَ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَّقَ بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ قَذَفَهَا ، وَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " . وَأَخْرَجَ أَيْضًا فِي " صَحِيحِهِ " عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ إِنَّهُ قَالَ : " لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا " وَرَوَاهُ بَاقِي الْجَمَاعَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ : إِنَّ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ " فَرَّقَ " بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَي ْنِ خَطَأٌ ، يَعْنِي فِي خُصُوصِ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ الْمُتَقَدِّمِ ، لَا مُطْلَقًا ، بِدَلِيلِ ثُبُوتِهَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ كَمَا تَرَى . قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : إِنْ أَرَادَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ فَسَهْلٌ ، وَإِلَّا فَمَرْدُودٌ . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " مَا نَصُّهُ : وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ إِطْلَاقَ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ وَغَيْرِهِ تَخْطِئَةَ الرِّوَايَةِ بِلَفْظِ " فَرَّقَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَي ْنِ " إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ بِخُصُوصِهِ ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَقَالَ بَعْدَهُ لَمْ يُتَابِعِ ابْنَ عُيَيْنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدٌ ، ثُمَّ أَخْرَجَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ " ا ه ، مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ : " فَكَانَتْ سُنَةُ الْمُتَلَاعِنَي ْنِ " .
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا اللَّفْظِ هَلْ هُوَ مُدْرَجٌ مِنْ كَلَامِ الزُّهْرِيِّ فَيَكُونُ مُرْسَلًا ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ؟ أَوْ هُوَ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مُتَّصِلٌ ؟ وَيُؤَيِّدُ كَوْنَهُ مِنْ كَلَامِ سَهْلٍ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ : فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ مَا صُنِعَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُنَّةً .
ابو وليد البحيرى
2020-07-23, 04:32 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (15)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (14)
قَالَ سَهْلٌ : حَضَرْتُ هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَي ْنِ ، أَنْ [ ص: 107 ] يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا .
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا سَكَتَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الْحَسَنُ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ ظَاهِرَةٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَبِهَا تَعْلَمُ أَنَّ احْتِجَاجَ الْبُخَارِيِّ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ سَهْلٍ الْمَذْكُورِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ ; لِأَنَّ الْمُطَّلِعَ عَلَى غَوَامِضِ إِشَارَاتِ الْبُخَارِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَفْهَمُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ الثَّابِتَ فِي " سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " مُطَابِقٌ لِتَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ ، وَأَنَّهُ أَشَارَ بِالتَّرْجَمَةِ إِلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَلَمْ يُخَرِّجْهَا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى شَرْطِهِ ، فَتَصْرِيحُ هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الثَّابِتَةِ : " بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْفَذَ طَلَاقَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً " يَبْطُلُ بِإِيضَاحٍ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِسُكُوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيرِهِ لَهُ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ كَمَا تَرَى .
وَذَهَبَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ الْبَصْرِيُّ ، أَحَدُ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ فُقَهَاءِ التَّابِعِينَ إِلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَقَعُ حَتَّى يُوقِعَهَا الزَّوْجُ ، وَذَهَبَ أَبُو عُبَيْدٍ إِلَى أَنَّهَا تَقَعُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ كَوْنَ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَيْسَ أَمْرًا قَطْعِيًّا ، حَتَّى تَرِدَ بِهِ دَلَالَةُ تَقْرِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ ، عَلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ ذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ وَقَعَ فِي حَدِيثٍ لِأَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَضَى أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قُوتٌ وَلَا سُكْنَى ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَا مُتَوَفًّى عَنْهَا .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِعَدَمِ إِيجَابِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ; لِلْمُلَاعَنَةِ بِعَدَمِ طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَيْسَ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ذَكَرَ الْعِلَّةَ لِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَدَمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ، وَأَرَاهُ اجْتِهَادَهُ أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عَدَمُ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعِلَّةَ الصَّحِيحَةَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى هِيَ الْبَيْنُونَةُ بِمَعْنَاهَا الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْ وُقُوعِهَا بِالطَّلَاقِ أَوْ بِالْفَسْخِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْبَائِنَ بِالطَّلَاقِ لَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى عَلَى أَصَحِّ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا .
فَعُلِمَ أَنَّ عَدَمَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ .
وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ فِي ذَلِكَ مَا صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ [ ص: 108 ] عَنْهَا : " أَنَّهَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ ، وَهُوَ نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ فِي أَنَّ الْبَائِنَ بِالطَّلَاقِ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَلَا سُكْنَى ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ .
وَصَرَّحَ الْأَئِمَّةُ بِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنَ السُّنَّةِ مَا يُخَالِفُ حَدِيثَ فَاطِمَةَ هَذَا ، وَمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ لَهَا : " السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ " . فَقَالَ : قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : لَا يَصِحُّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ : السُّنَّةُ بِيَدِ فَاطِمَةَ قَطْعًا ، وَأَيْضًا تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَمَوْلِدُهُ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِسَنَتَيْنِ .
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : وَنَحْنُ نَشْهَدُ بِاللَّهِ شَهَادَةً نُسْأَلُ عَنْهَا إِذَا لَقِينَاهُ ، أَنَّهَا كَذِبٌ عَلَى عُمَرَ ، وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِذَا حُقِّقَتْ أَنَّ السُّنَّةَ مَعَهَا وَأَنَّهَا صَاحِبَةُ الْقِصَّةِ ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ قَوْلَ عُمَرَ لَا نَتْرُكُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِ امْرَأَةٍ ، لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا حَفِظَتْ أَوْ نَسِيَتْ ، قَالَتْ : بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ . قَالَ اللَّهُ : فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [ 65 \ 1 ] ، حَتَّى قَالَ : لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [ 65 \ 1 ] . فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَمُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ . فَتَحَصَّلَ أَنَّ السُّنَّةَ بِيَدِهَا وَكِتَابَ اللَّهِ مَعَهَا .
وَهَذَا الْمَذْهَبُ بِحَسَبِ الدَّلِيلِ هُوَ أَوْضَحُ الْمَذَاهِبِ وَأَصْوَبُهَا . وَلِلْعُلَمَاءِ فِي نَفَقَةِ الْبَائِنِ وَسُكْنَاهَا أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهُمَا مَعًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ السُّكْنَى دُونَ النَّفَقَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ فَاطِمَةَ هَذَا يَرُدُّ تَعْلِيلَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ ، وَأَنَّهُ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِهِ ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عَدَمِ الطَّلَاقِ ، بَلْ يَكُونُ مَعَ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ ، وَأَيْضًا فَالتَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً فِي الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ حُجَّةً عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْ ، وَهَذَا الصَّحَابِيُّ حَفِظَ إِنْفَاذَ الثَّلَاثِ ، وَالْمُثْبَتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي .
فَإِنْ قِيلَ : إِنْفَاذُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّلَاثَ دَفْعَةً مِنَ الْمُلَاعِنِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي غَيْرِ اللِّعَانِ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ تَجِبُ فِيهِ الْفُرْقَةُ الْأَبَدِيَّةُ . فَإِنْفَاذُ الثَّلَاثِ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ [ ص: 109 ] بِخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي غَيْرِ اللِّعَانِ .
وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ مِنْ إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً فِي غَيْرِ اللِّعَانِ ، وَقَالَ : " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ ! " كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، فَالْجَوَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : الْكَلَامُ فِي حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ مِنْ جِهَتَيْنِ : الْأُولَى : أَنَّهُ مُرْسَلٌ ; لِأَنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ كَانَتْ وِلَادَتُهُ فِي عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَذِكْرُهُ فِي الصَّحَابَةِ مِنْ أَجْلِ الرُّؤْيَةِ ، وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَأَخْرَجَ لَهُ عِدَّةَ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ صَرَّحَ فِيهِ بِالسَّمَاعِ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ النَّسَائِيَّ قَالَ بَعْدَ تَخْرِيجِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ غَيْرُ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ يَعْنِي ابْنَ الْأَشَجِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، وَرِوَايَةُ مَخْرَمَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ ، قَالَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ : سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ قَلِيلًا ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِيهِ وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ ، قَالَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَقَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ : سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ قَلِيلًا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الْإِعْلَالُ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّهُ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَمَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ لَهَا حُكْمُ الْوَصْلِ ، وَمَحْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ الْمَذْكُورُ جُلُّ رِوَايَتِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " وَغَيْرِهِ .
وَالْإِعْلَالُ الثَّانِي بِأَنَّ رِوَايَةَ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ وِجَادَةٌ مِنْ كِتَابِهِ فِيهِ أَنَّ مُسْلِمًا أَخْرَجَ فِي " صَحِيحِهِ " عِدَّةَ أَحَادِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَخْرَمَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، وَالْمُسْلِمُون َ مُجْمِعُونَ عَلَى قَبُولِ أَحَادِيثِ مُسْلِمٍ إِلَّا بِمُوجِبٍ صَرِيحٍ يَقْتَضِي الرَّدَّ ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْحَدِيثَ ثَابِتٌ إِلَّا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهِ يَرُدُّهُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنْ حَدِيثَ مَحْمُودٍ لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ الثَّلَاثَ ، وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُنْفِذْهَا ، وَحَدِيثُ سَهْلٍ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ أَنْفَذَهَا ، وَالْمُبَيَّنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُجْمَلِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ بَلْ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ احْتَجَّ لِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، بِحَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذَا .
وَوَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ بِهِ أَنَّهُ طَلَّقَ ثَلَاثًا يَظُنُّ لُزُومَهَا ، فَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ لَازِمَةٍ لِبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ ص: 110 ] أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ ; لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّ إِمَامَ الْمُحَدِّثِينَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَخْرَجَ حَدِيثَ سَهْلٍ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ : " بَابُ مَنْ جَوَّزَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ " وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ اللِّعَانِ وَغَيْرِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِإِنْفَاذِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً .
الْوَجْهُ الرَّابِعُ : هُوَ مَا سَيَأْتِي مِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لَا يَخْلُو مِنْ كَلَامٍ . وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ اللِّعَانَ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ : أَبُو حَنِيفَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، وَحَمَّادٌ ، وَصَحَّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، كَمَا نَقَلَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " وَعَنِ الضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ : إِذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ رُدَّتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ .
وَبِهَذَا كُلِّهِ تَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الِاحْتِجَاجِ بِتَقْرِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُوَيْمِرَ الْعَجْلَانِيَّ ، عَلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً ، بِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ اللِّعَانِ فَإِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سُكُوتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا دَلِيلَ فِيهِ ، بَلْ نَقُولُ : لَوْ كَانَتْ لَا تَقَعُ دَفْعَةً لَبَيَّنَ أَنَّهَا لَا تَقَعُ دَفْعَةً ، وَلَوْ كَانَتِ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ اللِّعَانِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ فِي قِصَّةِ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ وَامْرَأَتِهِ ، فَإِنَّ فِيهِ : " فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! إِنْ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي " الْحَدِيثَ . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمُتَقَدِّمَة ِ ، فَإِنَّ قَوْلَهَا " فَبَتَّ طَلَاقِي " ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ نَاهِضٍ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ مُرَادَهَا بِقَوْلِهَا : فَبَتَّ طَلَاقِي ؛ أَيْ : بِحُصُولِ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ .
وَيُبَيِّنُهُ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْأَدَبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهَا قَالَتْ : طَلَّقَنِي آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُبَيِّنُ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهَا فَبَتَّ طَلَاقِي ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ حَدِيثُ عَائِشَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ أَيْضًا : " أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَتَزَوَّجَتْ فَطَلَّقَ ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ؟ قَالَ : " لَا ، حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا كَمَا ذَاقَ الْأَوَّلُ " فَإِنَّ قَوْلَهُ ثَلَاثًا ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مَجْمُوعَةً ، وَاعْتَرَضَ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ قِصَّةِ رِفَاعَةَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قَرِيبًا أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ مُفَرَّقَةٌ لَا مَجْمُوعَةٌ ، وَرَدَّ هَذَا [ ص: 111 ] الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ غَيْرَ رِفَاعَةَ قَدْ وَقَعَ لَهُ مَعَ امْرَأَتِهِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ لِرِفَاعَةَ ، فَلَا مَانِعَ مِنَ التَّعَدُّدِ ، وَكَوْنُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ فِي قِصَّةٍ أُخْرَى كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجْرٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ رِفَاعَةَ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا مَا نَصُّهُ : وَهَذَا الْحَدِيثُ إِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَالْوَاضِحُ مِنْ سِيَاقِهِ أَنَّهَا قِصَّةٌ أُخْرَى ، وَأَنَّ كُلًّا مِنْ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ ، وَرِفَاعَةَ النَّضْرِيِّ وَقَعَ لَهُ مَعَ زَوْجَةٍ لَهُ طَلَاقٌ ، فَتَزَوَّجَ كُلًّا مِنْهُمَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا ، فَالْحُكْمُ فِي قِصَّتِهِمَا مُتَّحِدٌ مَعَ تَغَايُرِ الْأَشْخَاصِ . وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ خَطَأُ مَنْ وَحَّدَ بَيْنَهُمَا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ رِفَاعَةَ بْنَ سَمَوْأَلٍ هُوَ رَفَاعَةُ بْنُ وَهْبٍ . ا ه ، مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ : " أُخْبِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا ، فَقَامَ مُغْضَبًا ، فَقَالَ : " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ؟ ! " وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ مِنْهُ : أَنَّ الْمُطَلِّقَ يَظُنُّ الثَّلَاثَ الْمَجْمُوعَةَ وَاقِعَةً ، فَلَوْ كَانَتْ لَا تَقَعُ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا لَا تَقَعُ ; لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي حَدِيثِ مَحْمُودٍ هَذَا : إِنَّ إِسْنَادَهُ جَيِّدٌ ، وَقَالَ الْحَافِظُ فِي " بُلُوغِ الْمَرَامِ " : رُوَاتُهُ مُوَثَّقُونَ ، وَقَالَ فِي " الْفَتْحِ " : رِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، فَإِنْ قِيلَ : غَضِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَصْرِيحُهُ بِأَنَّ ذَلِكَ الْجَمْعَ لِلطَّلَقَاتِ لَعِبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقَعُ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ " ، وَفِي رِوَايَةِ " مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " ، فَالْجَوَابُ أَنَّ كَوْنَهُ مَمْنُوعًا ابْتِدَاءً لَا يُنَافِي وُقُوعَهُ بَعْدَ الْإِيقَاعِ ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ لِمَنْ سَأَلَهُ : وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكِ ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ : إِنَّهُ مَرْفُوعٌ ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي الصَّحِيحِ ، وَيُؤَيِّدُهُ مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَرِيبًا مِنْ حَدِيثِهِ الْمَرْفُوعِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِي ِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةٌ " وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ ثَلَاثٍ أَوْقَعَهَا دَفْعَةً : " إِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلُ لَكَ مَخْرَجًا ، عَصَيْتَ رَبَّكَ ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ " .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُنَاسِبُ لِمُرْتَكِبِ الْمَعْصِيَةِ التَّشْدِيدُ لَا التَّخْفِيفُ بِعَدَمِ الْإِلْزَامِ ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِنَّهُ قَالَ : فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا ؟ قَالَ : " لَا ، كَانَتْ [ ص: 112 ] تَبِينُ مِنْكَ وَتَكُونُ مَعْصِيَةٌ " وَفِي إِسْنَادِهِ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَقَدْ وَثَّقَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَقَالَ النَّسَائِيُّ ، وَأَبُو حَاتِمٍ : لَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَّبَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : لَيْسَ فِيمَنْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَنْ يَسْتَحِقُّ التَّرْكَ غَيْرُهُ ، وَقَالَ شُعْبَةُ : كَانَ نَسِيًّا ، وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ : كَانَ مِنْ خِيَارِ عِبَادِ اللَّهِ ، غَيْرَ أَنَّهُ كَثِيرُ الْوَهْمِ سَيِّئُ الْحِفْظِ ، يُخْطِئُ وَلَا يَدْرِي ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ فِي رِوَايَتِهِ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ . وَأَيْضًا الزِّيَادَةُ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْحُجَّةِ مِنَ الْحَدِيثِ أَعْنِي قَوْلَهُ : " أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا " إِلَخْ ، مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ عَطَاءٌ الْمَذْكُورُ . وَقَدْ شَارَكَهُ الْحُفَّاظُ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا الزِّيَادَةَ الْمَذْكُورَةَ . وَفِي إِسْنَادِهَا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ الشَّامِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَأَعَلَّ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ هَذَا الْحَدِيثَ ، بِأَنَّ فِي إِسِنَادِهِ مُعَلَّى بْنَ مَنْصُورٍ ، وَقَالَ : رَمَاهُ أَحْمَدُ بِالْكَذِبِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " وَأَمَّا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : ثِقَةٌ سُنِّيٌّ فَقِيهٌ طُلِبَ لِلْقَضَاءِ فَامْتَنَعَ ، أَخْطَأَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْمَدَ رَمَاهُ بِالْكَذِبِ ، أَخْرَجَ لَهُ الشَّيْخَانِ وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ . وَأَمَّا شُعَيْبُ بْنُ زُرَيْقٍ أَبُو شَيْبَةَ الشَّامِيِّ فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ يُخْطِئُ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ مَرْدُودَ الْحَدِيثِ ، لَا سِيَّمَا وَقَدِ اعْتَضَدَتْ رِوَايَتُهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ ، وَبِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَإِنَّهُ قَالَ فِي [ السُّنَنِ الْكُبْرَى ] مَا نَصُّهُ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَانَ : أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الصَّفَّارِ ، أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ الرَّازِيُّ ، أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قَيْسٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ ، قَالَ : كَانَتْ عَائِشَةُ الْخَثْعَمِيَّة ُ عِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَلَمَّا قُتِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَتْ : لِتَهْنِكَ الْخِلَافَةُ ، قَالَ : بِقَتْلِ عَلِيٍّ تُظْهِرِينَ الشَّمَاتَةَ ، اذْهَبِي فَأَنْتِ طَالِقٌ ، يَعْنِي ثَلَاثًا قَالَ : فَتَلَفَّعَتْ بِثِيَابِهَا ، وَقَعَدَتْ حَتَّى قَضَتْ عِدَّتَهَا ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا بِبَقِيَّةٍ بَقِيَتْ لَهَا مِنْ صَدَاقِهَا وَعَشَرَةِ آلَافٍ صَدَقَةً ، فَلَمَّا جَاءَهَا الرَّسُولُ قَالَتْ : مَتَاعٌ قَلِيلٌ مِنْ حَبِيبٍ مُفَارِقٍ ، فَلَمَّا بَلَغَهُ قَوْلُهَا بَكَى ، ثُمَّ قَالَ : لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ جَدِّي أَوْ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ جَدِّي يَقُولُ : " أَيُّمَا رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا عِنْدَ الْأَقْرَاءِ " أَوْ " ثَلَاثًا مُبْهَمَةً لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " لَرَاجَعْتُهَا .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شَمِرٍ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ مُسْلِمٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ . ا ه مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَضِعْفُ هَذَا الْإِسْنَادِ بِأَنَّ فِيهِ مُحَمَّدَ بْنَ [ ص: 113 ] حُمَيْدِ بْنِ حَيَّانَ الرَّازِيَّ ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : حَافِظٌ ضَعِيفٌ ، وَكَانَ ابْنُ مَعِينٍ حَسَنَ الرَّأْيِ فِيهِ ، أَنَّ فِيهِ أَيْضًا سَلَمَةَ بْنَ الْفَضْلِ الْأَبْرَشَ ، مَوْلَى الْأَنْصَارِ قَاضِي الرَّيِّ قَالَ فِيهِ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ كَثِيرُ الْخَطَأِ وَرُوِيَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَرَوَى نَحْوَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ ، وَضَعَّفَ الْحَدِيثَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، وَيُؤَيِّدُ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورَ أَيْضًا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ إِنَّهُ قَالَ : " وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ ، وَعَصَيْتَ اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ " . وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ : إِنَّهُ مَرْفُوعٌ ، وَعَلَى ثُبُوتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ ، فَهُوَ ظَاهِرٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ .
فَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ ; بِنَاءً عَلَى حَمْلِهِ عَلَى كَوْنِ الثَّلَاثِ مُفَرَّقَةً لَا مُجْتَمِعَةً ، فَهُوَ بَعِيدٌ . وَالْحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِي كَوْنِهَا مُجْتَمِعَةً ; لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ لَا يَسْأَلُ عَنِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَة ِ إِذْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَلَيْسَ مَحَلُّ نِزَاعٍ . وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي " مُصَنَّفِهِ " ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، قَالَ : " طَلَّقَ جَدِّي امْرَأَةً لَهُ أَلْفَ تَطْلِيقَةٍ ، فَانْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا اتَّقَى اللَّهَ جَدُّكَ ، أَمَّا ثَلَاثٌ فَلَهُ ، وَأَمَّا تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ فَعُدْوَانٌ وَظُلْمٌ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ " . وَفِي رِوَايَةٍ : " إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَيَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا ، بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثٍ عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ ، وَتِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعٌ وَتِسْعُونَ إِثْمٌ فِي عُنُقِهِ " وَفِي إِسْنَادِهِ يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ .
وَقَدْ رَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ . وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ : قُلْتُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ : حَدِّثِينِي عَنْ طَلَاقِكِ ، قَالَتْ : طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا ، وَهُوَ خَارِجٌ إِلَى الْيَمَنِ ، فَأَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي أُسَامَةَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوِّجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا ، فَأَخَافُ أَنْ يَقْتَحِمَ عَلَيَّ فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ " .
وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أَبَا حَفْصِ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الْيَمَنِ إِلَخْ . . . وَفِيهِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا أَنَّهَا قَالَتْ : " فَطَلَّقَنِي الْبَتَّةَ " .
قَالُوا : فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ ظَاهِرَةٌ فِي أَنَّ الطَّلَاقَ كَانَ بِالثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ ، وَلَا سِيَّمَا [ ص: 114 ] حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ ; لِقَوْلِهَا فِيهِ : فَأَجَازَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْإِخْبَارِ بِإِجَازَتِهِ إِلَّا الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ ، وَرَدَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ ، كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ أَيْضًا : أَنَّ فَاطِمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ أَبِي عَمْرِو بْنِ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَطَلَّقَهَا آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ .
فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُفَسِّرُ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَة ِ ، وَتُظْهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ مُفَرَّقًا لَا دَفْعَةً ، وَرَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا الِاعْتِرَاضَ بِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ تَفْرِيقِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْن ِ بَيْنَ صِيَغِ الْبَيْنُونَةِ الثَّلَاثِ ، يَعْنُونَ لَفْظَ الْبَتَّةَ وَالثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ ، وَالثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَة ِ ; لِتَعْبِيرِهَا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ بِلَفْظِ طَلَّقَنِي ثَلَاثًا ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ : طَلَّقَنِي الْبَتَّةَ ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظٍ : فَطَلَّقَنِي آخِرَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ . فَلَمْ تَخُصَّ لَفْظًا مِنْهَا عَنْ لَفْظٍ ; لِعِلْمِهَا بِتَسَاوِي الصِّيَغِ .
وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّ بَعْضَهَا لَا يَحْرُمُ لَاحْتَرَزَتْ مِنْهُ .
قَالُوا : وَالشَّعْبِيُّ قَالَ لَهَا : حَدِّثِينِي عَنْ طَلَاقِكِ ، أَيْ : عَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَحَالِهِ . فَكَيْفَ يَسْأَلُ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ وَيَقْبَلُ الْجَوَابَ بِمَا فِيهِ عِنْدَهُ إِجْمَالٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَفْسِرَ عَنْهُ ، وَأَبُو سَلَمَةَ رَوَى عَنْهَا الصِّيَغَ الثَّلَاثَ ، فَلَوْ كَانَ بَيْنَهُ عِنْدَهُ تَفَاوُتٌ لَاعْتَرَضَ عَلَيْهَا بِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِهَا ، وَتَثَبَّتَ حَتَّى يَعْلَمَ مِنْهَا بِأَيِّ الصِّيَغِ وَقَعَتْ بَيْنُونَتُهَا ، فَتَرْكُهُ لِذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى تَسَاوِي الصِّيَغِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَجِلَّاءِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا إِجْمَالٌ بَيَّنَتْهَا الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ الْأُخْرَى كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ وَقَالَ : قَالَ أَبُو دَاوُدَ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ عَنْ رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ سُهَيْمَةَ الْبَتَّةَ ، فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ . فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَاللَّهِ مَا أَرَدْتَ إِلَّا وَاحِدَةً " ؟ فَقَالَ رُكَانَةُ : وَاللَّهِ مَا أَرَدْتُ إِلَّا وَاحِدَةً ، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَطَلَّقَهَا الثَّانِيَةَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَالثَّالِثَةَ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ ، فَهَذَا الْحَدِيثُ صَحَّحَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ .
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ مَاجَهْ : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ : مَا أَشْرَفَ هَذَا الْحَدِيثِ .
[ ص: 115 ] وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : قَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَلَهُ طُرُقٌ أُخَرُ ، فَهُوَ حَسَنٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ . وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ تَحْلِيفَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرُكَانَةَ مَا أَرَادَ بِلَفْظِ الْبَتَّةَ إِلَّا وَاحِدَةً دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ بِهَا أَكْثَرَ مِنَ الْوَاحِدَةِ لَوَقَعَ ، وَالثَّلَاثُ أَصْرَحُ فِي ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْبَتَّةَ ; لِأَنَّ الْبَتَّةَ كِنَايَةٌ وَالثَّلَاثَ صَرِيحٌ ، وَلَوْ كَانَ لَا يَقَعُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ ، لَمَا كَانَ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى مَعَ اعْتِضَادِ هَذَا الْحَدِيثِ بِمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ ، وَبِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ لَا يَخْلُو مِنْ كَلَامٍ ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ تَكَلَّمَ فِيهِ : بِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ الزُّبَيْرَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الْهَاشِمِيَّ .
قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : لَيِّنُ الْحَدِيثِ ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ . وَقِيلَ : إِنَّهُ مَتْرُوكٌ ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنْ أَنَّهُ لَيِّنُ الْحَدِيثِ .
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُضْطَرِبٌ فِيهِ . يُقَالُ ثَلَاثًا ، وَتَارَةً قِيلَ وَاحِدَةً . وَأَصَحُّهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ ، وَأَنَّ الثَّلَاثَ ذُكِرَتْ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّمْهِيدِ " : تَكَلَّمُوا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا آنِفًا تَصْحِيحَ أَبِي دَاوُدَ ، وَابْنِ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمِ لَهُ ، وَأَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ : إِنَّهُ حَسَنٌ ، وَإِنَّهُ مُعْتَضِدٌ بِالْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَهُ ، كَحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِي ِّ ، وَحَدِيثِ الْحَسَنِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ ، وَحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ السَّاعِدِيِّ فِي لِعَانِ عُوَيْمِرٍ وَزَوْجِهِ ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى رِوَايَةِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيَعْتَضِدُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : قُلْتُ لِأَيُّوبَ : هَلْ عَلِمْتَ أَحَدًا قَالَ فِي أَمْرِكَ بِيَدِكَ إِنَّهَا ثَلَاثٌ غَيْرَ الْحَسَنِ ؟ قَالَ : لَا ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ غُفْرًا إِلَّا مَا حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ كَثِيرٍ - مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ - عَنْ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " ثَلَاثٌ " . فَلَقِيتُ كَثِيرًا فَسَأَلْتُهُ فَلَمْ يَعْرِفْهُ ، فَرَجَعْتُ إِلَى قَتَادَةَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : نَسِيَ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، وَتَكَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ : الْأُولَى : أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يَعْرِفْهُ مَرْفُوعًا ، وَقَالَ إِنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُجَابُ عَنْ هَذَا : بِأَنَّ الرَّفْعَ زِيَادَةٌ ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ ، وَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، عَنْ [ ص: 116 ] حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ مَرْفُوعًا ، وَجَلَالَتُهُمَ ا مَعْرُوفَةٌ .
قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزِ ]
وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزِيدَ اللَّفْظُ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ
الثَّانِيَةُ : أَنَّ كَثِيرًا نَسِيَهُ ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ نِسْيَانَ الشَّيْخِ لَا يُبْطِلُ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى عَنْهُ ; لِأَنَّهُ يَقِلُّ رَاوٍ يَحْفَظُ طُولَ الزَّمَانِ مَا يَرْوِيهِ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَقَدْ رَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ وَنَسِيَهُ ، فَكَانَ يَقُولُ : حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ عَنِّي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَإِنْ يُرِدْهُ بِلَا أَذْكُرُ أَوْ مَا يَقْتَضِي نِسْيَانَهُ فَقَدْ رَأَوْا
الْحُكْمَ لِلذَّاكِرِ عِنْدَ الْمُعْظَمِ وَحُكِيَ الْإِسْقَاطُ عَنْ بَعْضِهِمُ
كَقِصَّةِ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ إِذْ نَسِيَهُ سُهَيْلٌ الَّذِي أَخَذْ
عَنْهُ فَكَانَ بَعْدُ عَنْ رَبِيعِهِ عَنْ نَفْسِهِ يَرْوِيهِ لَنْ يُضِيعَهُ
الثَّالِثَةُ : تَضْعِيفُهُ بِكَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ ، كَمَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ إِنَّهُ مَجْهُولٌ ، وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ ابْنَ حَجَرٍ قَالَ فِي " التَّقْرِيبِ " : إِنَّهُ مَقْبُولٌ ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ مِنْ حَدِيثِ زَاذَانَ ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلًا طَلَّقَ الْبَتَّةَ فَغَضِبَ ، وَقَالَ : " أَتَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ؟ أَوْ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا ، أَوْ لَعِبًا ؟ مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّةَ أَلْزَمْنَاهُ ثَلَاثًا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ " وَفِيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ ، قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِي ُّ : كُوفِيٌّ ضَعِيفٌ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " يَا مُعَاذُ مَنْ طَلَّقَ لِلْبِدْعَةِ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَلْزَمْنَاهُ بِدَعَتَهُ " وَفِي إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ الذَّارِعُ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا . فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ فَإِنَّ كَثْرَتَهَا وَاخْتِلَافَ طُرُقِهَا ، وَتَبَايُنَ مَخَارِجِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا ، وَالضِّعَافُ الْمُعْتَبَرُ بِهَا إِذَا تَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا شَدَّ بَعْضُهَا بَعْضًا فَصَلَحَ مَجْمُوعَهَا لِلِاحْتِجَاجِ ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ مِنْهَا مَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَحَدِيثِ طَلَاقِ رُكَانَةَ الْبَتَّةَ ، وَحَسَّنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ ، وَهُوَ رِوَايَةُ إِنْفَاذِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَاقَ عُوَيْمِرٍ ثَلَاثًا ، [ ص: 117 ] مَجْمُوعَةً عِنْدٍ أَبِي دَاوُدَ .
وَقَدْ عَلِمْتَ مُعَارَضَةَ تَضْعِيفِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِي ِّ مِنْ جِهَةِ عَطَاءِ الْخُرَاسَانِيّ ِ ، وَمُعَلَّى بْنِ مَنْصُورٍ ، وَشُعَيْبِ بْنِ زُرَيْقٍ ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ : [ الْخَفِيفِ ]
لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " مَا نَصُّهُ : وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [ 65 \ 1 ] .
قَالُوا : مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكَهُ ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ ، فَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ هَذَا إِلَّا رَجْعِيًّا ، فَلَا يَنْدَمُ . ا ه مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ الْقُرْآنِيَّ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَرُدُّهَا إِلَيْهِ ، فَقَالَ : يَنْطَلِقُ أَحَدُكُمْ فَيَرْكَبُ الْأُحْمُوقَةَ ، ثُمَّ يَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، إِنَّ اللَّهَ قَالَ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [ 65 \ 2 ] وَإِنَّكَ لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ ، فَلَا أَجِدُ لَكَ مَخْرَجًا ، عَصَيْتَ رَبَّكَ ، وَبَانَتْ مِنْكَ امْرَأَتُكَ . وَأَخْرَجَ لَهُ أَبُو دَاوُدَ مُتَابَعَاتٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِهِ ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِلْآيَةِ بِأَنَّهَا يَدْخُلُ فِي مَعْنَاهَا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ وَلَمْ يَجْمَعِ الطَّلَاقَ فِي لَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ يَجْعَلُ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ ، وَمَنْ لَمْ يَتَّقِهِ فِي ذَلِكَ بِأَنْ جَمَعَ الطَّلَقَاتِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا بِالرَّجْعَةِ ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ بِهَا مُجْتَمِعَةً ، هَذَا هُوَ مَعْنَى كَلَامِهِ ، الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ . وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّهُ مُفَسِّرٌ بِهِ قُرْآنًا ، وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ " وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جُلُّ الصَّحَابَةِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةِ . وَحَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ ، وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِأَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ ؛ الْأَوَّلُ : حَدِيثُ ابْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي يَعْلَى ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ : طَلَّقَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَحَزِنَ عَلَيْهَا حُزْنًا شَدِيدًا فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَيْفَ طَلَّقْتَهَا " ؟ قَالَ : ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا تِلْكَ وَاحِدَةٌ ، فَارْتَجِعْهَا إِنْ شِئْتَ " فَارْتَجَعَهَا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَرْدُودٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : [ ص: 118 ] الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ الْبَتَّةَ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ عَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ ، لَا بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ ، وَلَا بِدَلَالَةِ التَّضَمُّنِ ، وَلَا بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الْمَتْنِ أَنَّ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثَ وَاقِعَةٌ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَوْنُهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، فَادِّعَاءُ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فِي غَايَةِ الْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى ; إِذْ لَمْ يَدُلَّ كَوْنُهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عَلَى كَوْنِهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بِنَقْلٍ وَلَا عَقْلٍ وَلَا لُغَةٍ ، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، بَلِ الْحَدِيثُ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، إِذْ لَوْ كَانَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ؛ لَقَالَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَتَرَكَ ذِكْرَ الْمَجْلِسِ ; إِذْ لَا دَاعِيَ لِتَرْكِ الْأَخَصِّ وَالتَّعْبِيرِ بِالْأَعَمِّ بِلَا مُوجِبٍ كَمَا تَرَى .
وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا الدَّلِيلُ يُقْدَحُ فِيهِ بِالْقَادِحِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ بِالْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ ، فَيُقَالُ : سَلَّمْنَا أَنَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَلَكِنَّ مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَافْهَمْ . وَسَتَرَى تَمَامَ هَذَا الْمَبْحَثِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ .
الثَّانِي : أَنَّ دَاوُدَ بْنَ الْحُصَيْنِ الَّذِي هُوَ رَاوِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ بِثِقَةٍ فِي عِكْرِمَةَ .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ الْأُمَوِيُّ مَوْلَاهُمْ أَبُو سُلَيْمَانَ الْمَدَنِيُّ ثِقَةٌ إِلَّا فِي عِكْرِمَةَ ، وَرُمِيَ بِرَأْيِ الْخَوَارِجِ ا ه . وَإِذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فِي عِكْرِمَةَ كَانَ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ ثِقَةٍ . مَعَ أَنَّهُ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ .
الثَّالِثُ : مَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ : الثَّالِثُ : أَنَّ أَبَا دَاوُدَ رَجَّحَ أَنَّ رُكَانَةَ إِنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ كَمَا أَخْرَجَهُ هُوَ مِنْ طَرِيقِ آلِ بَيْتِ رُكَانَةَ ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ قَوِيٌّ ; لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ رُوَاتِهِ حَمَلَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ ، فَقَالَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، فَبِهَذِهِ النُّكْتَةِ يَقِفُ الِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ . ا ه مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
يَعْنِي حَدِيثَ ابْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ الْمَذْكُورِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، مَعَ أَنَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ أَصْلًا عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَبِمَا ذَكَرْنَا يَظْهَرُ سُقُوطُ الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْمَذْكُورِ .
ابو وليد البحيرى
2020-07-29, 04:15 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (16)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (15)
الحديث الثاني من الأحاديث الأربعة التي استدل بها من جعل الثلاث واحدة : هو [ ص: 119 ] ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر ، من أنه طلق امرأته في الحيض ثلاثا ، فاحتسب بواحدة ، ولا يخفى سقوط هذا الاستدلال ، وأن الصحيح أنه إنما طلقها واحدة ، كما جاء في الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره .
وقال النووي في " شرح مسلم " ما نصه : وأما حديث ابن عمر فالروايات الصحيحة التي ذكرها مسلم وغيره أنه طلقها واحدة .
وقال القرطبي في " تفسيره " ما نصه : والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض .
قال عبد الله : وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة . وكذلك قال صالح بن كيسان ، وموسى بن عقبة ، وإسماعيل بن أمية ، وليث بن سعد ، وابن أبي ذئب ، وابن جريج ، وجابر ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن نافع ، أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة .
وكذا قال الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، ويونس بن جبير والشعبي والحسن . اه منه بلفظه . فسقوط الاستدلال بحديث ابن عمر في غاية الظهور .
الْحَدِيثُ الثَّالِثُ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ : هُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرْنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : طَلَّقَ عَبْدُ يَزِيدَ أَبُو رُكَانَةَ وَإِخْوَتُهُ أُمَّ رُكَانَةَ ، وَنَكَحَ امْرَأَةً مِنْ مُزَيْنَةَ ، فَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ : مَا يُغْنِي عَنِّي إِلَّا كَمَا تُغْنِي هَذِهِ الشَّعْرَةُ - لِشَعْرَةٍ أَخَذَتْهَا مِنْ رَأْسِهَا - فَفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ . فَأَخَذَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمِيَّةٌ ، فَدَعَا بِرُكَانَةَ وَإِخْوَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِجُلَسَائِهِ : " أَتَرَوْنَ فُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا مِنْ عَبْدِ يَزِيدَ ؟ وَفُلَانًا يُشْبِهُ مِنْهُ كَذَا وَكَذَا " ؟ قَالُوا : نَعَمْ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " طَلِّقْهَا " فَفَعَلَ ، فَقَالَ : " رَاجِعِ امْرَأَتَكَ أُمَّ رُكَانَةَ " فَقَالَ : إِنِّي طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " قَدْ عَلِمْتُ رَاجِعْهَا " وَتَلَا : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [ 65 \ 1 ] " .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَالِاسْتِدْلَا لُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي بَعْضُ بَنِي أَبِي رَافِعٍ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ مَجْهُولٍ لَا يُدْرَى مَنْ هُوَ ، فَسُقُوطُهَا كَمَا تَرَى . وَلَا شَكَّ أَنَّ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ هَذَا الَّذِي لَا خِلَافَ فِي [ ص: 120 ] ضَعْفِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْلَفَهُ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى نُفُوذِ الطَّلَقَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْحَدِيثُ الرَّابِعُ هُوَ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " : حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ ، وَاللَّفْظُ لِابْنِ رَافِعٍ ، قَالَ إِسْحَاقُ : أَخْبَرَنَا وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، وَحَدَّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ وَاللَّفْظُ لَهُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَتَعْلَمُ إِنَّمَا كَانَتِ الثَّلَاثُ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَثَلَاثًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : نَعَمْ .
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِي ِّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ ، عَنْ طَاوُسٍ ، أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : هَاتِ مِنْ هَنَاتِكَ ، أَلَمْ يَكُنِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ تَتَايَعَ النَّاسُ فِي الطَّلَاقِ فَأَجَازَهُ عَلَيْهِمْ ، هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ فِي " صَحِيحِهِ " .
وَهَذِهِ الطَّرِيقُ الْأَخِيرَةُ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَيْسَرَةَ .
وَقَالَ بَدَلَهُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، وَلَفْظُ الْمَتْنِ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ؟
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلَى ، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ - يَعْنِي عُمَرَ - قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا ، قَالَ : أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ ، وَلِلْجُمْهُورِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا عِدَّةُ أَجْوِبَةٍ :
[ ص: 121 ] الْأَوَّلُ : أَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَلَفْظُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ لُغَةً وَلَا عَقْلًا وَلَا شَرْعًا أَنْ تَكُونَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، فَطَلَاقُهُ هَذَا طَلَاقُ الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالطَّلَاقِ فِيهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَإِذَا قِيلَ لِمَنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ إِيقَاعُ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ كَوْنَهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ فَهَلْ فِي لَفْظٍ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ أَنَّهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ وَهَلْ يَمْنَعُ إِطْلَاقُ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ عَلَى الطَّلَاقِ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ؟ فَإِنْ قَالَ : لَا . يُقَالُ لَهُ طَلَاقُ الثَّلَاثِ إِلَّا إِذَا كَانَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ دَعْوَاهُ هَذِهِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ ، وَإِنِ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَقَالَ : يَجُوزُ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَا أَوْقَعَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَعَلَى مَا أَوْقَعَ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، وَهُوَ أَشَدُّ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ ، قِيلَ لَهُ : وَإِذَنْ فَجَزْمُكَ بِكَوْنِهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا وَجْهَ لَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي الْحَدِيثِ كَوْنُ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ أَصْلِهِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ لَفْظِ طَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ كَوْنُهَا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيَّ مَعَ جَلَالَتِهِ وَعِلْمِهِ وَشِدَّةِ فَهْمِهِ مَا فَهِمَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِطَلَاقِ الثَّلَاثِ فِيهِ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، بِتَفْرِيقِ الطَّلَقَاتِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِ أَظْهَرُ فِي إِيقَاعِ الطَّلَاقِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلِذَا تَرْجَمَ فِي " سُنَنِهِ " لِرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : " بَابُ طَلَاقِ الثَّلَاثِ الْمُتَفَرِّقَة ِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالزَّوْجَةِ " ثُمَّ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ سَيْفٍ قَالَ : حَدَّثْنَا أَبُو عَاصِمٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ ، عَنْ أَبِيهِ : أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ جَاءَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فَقَالَ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ تُرَدُّ إِلَى الْوَاحِدَةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَتَرَى هَذَا الْإِمَامَ الْجَلِيلَ صَرَّحَ بِأَنَّ طَلَاقَ الثَّلَاثِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَيْسَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا فَهِمَهُ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " زَادِ الْمَعَادِ " فِي الرَّدِّ عَلَى مَنِ اسْتَدَلَّ لِوُقُوعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً بِحَدِيثِ عَائِشَةَ : أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ . الْحَدِيثَ . فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ مَا نَصُّهُ : وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ ؟ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَقَالَ : ثَلَاثًا ، إِلَّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ ، كَمَا يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا . ا ه مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
[ ص: 122 ] وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِصِحَّةِ مَا فَهِمَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنَ الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ لَفْظَ الثَّلَاثِ فِي جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ أَظْهَرُ فِي أَنَّهَا طَلَقَاتٌ ثَلَاثٌ وَاقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ الْمَذْكُورِ آنِفًا .
وَمِمَّنْ قَالَ : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ ، الثَّلَاثُ الْمُفَرَّقَةُ بِأَلْفَاظٍ نَحْوَ أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، ابْنُ سُرَيْجٍ فَإِنَّهُ قَالَ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي تَكْرِيرِ اللَّفْظِ ، كَأَنْ يَقُولَ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . وَكَانُوا أَوَّلًا عَلَى سَلَامَةِ صُدُورِهِمْ ، يُقْبَلُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّأْكِيدَ ، فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ فِي زَمَنِ عُمَرَ ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْخِدَاعُ وَنَحْوُهُ ; مِمَّا يَمْنَعُ قَبُولُ مَنِ ادَّعَى التَّأْكِيدَ حَمَلَ عُمَرُ اللَّفْظَ عَلَى ظَاهِرِ التَّكْرَارِ فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ . قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " وَقَالَ : إِنَّ هَذَا الْجَوَابَ ارْتَضَاهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَقَوَّاهُ بِقَوْلِ عُمَرَ : إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٌ " مَا نَصُّهُ : وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي جَوَابِهِ وَتَأْوِيلِهِ ، فَالْأَصَحُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِذَا قَالَ لَهَا : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَمْ يَنْوِ تَأْكِيدًا وَلَا اسْتِئْنَافًا يَحْكُمُ بِوُقُوعِ طَلْقَةٍ ; لِقِلَّةِ إِرَادَتِهِمُ الِاسْتِئْنَافَ بِذَلِكَ ، فَحَمَلَ عَلَى الْغَالِبِ الَّذِي هُوَ إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ . فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَثُرَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِهَذِهِ الصِّيغَةِ ، وَغَلَبَ مِنْهُمْ إِرَادَةُ الِاسْتِئْنَافِ بِهَا ، حُمِلَتْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى الثَّلَاثِ ; عَمَلًا بِالْغَالِبِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْوَجْهُ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِجَوَازِ تَغَيُّرِ الْحَالِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْقَصْدِ ; لِأَنَّ " الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ " وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَظَاهِرُ اللَّفْظِ يَدُلُّ لِهَذَا كَمَا قَدَّمْنَا .
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَادِّعَاءُ الْجَزْمِ بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ادِّعَاءٌ خَالٍ مِنْ دَلِيلٍ كَمَا رَأَيْتَ ، فَلْيَتَّقِ اللَّهَ مَنْ تَجَرَّأَ عَلَى عَزْوِ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ كَوْنُ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ مِنَ اللُّغَةِ ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ ، وَلَا مِنَ الْعَقْلِ كَمَا تَرَى .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَيَدُلُّ لِكَوْنِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ أَحْمَدَ ، وَأَبِي يَعْلَى مِنْ قَوْلِهِ : طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " كَيْفَ طَلَّقْتَهَا " ؟ [ ص: 123 ] قَالَ : ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ الْمَجْلِسِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، إِذْ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ وَاحِدًا لَقَالَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى ذِكْرِ الْمَجْلِسِ ، إِذْ لَا دَاعِيَ لِذِكْرِ الْوَصْفِ الْأَعَمِّ وَتَرْكِ الْأَخَصِّ بِلَا مُوجِبٍ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْجَوَابِ الثَّانِي عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هُوَ : أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الطَّلَاقَ الْوَاقِعَ فِي زَمَنِ عُمَرَ ثَلَاثًا كَانَ يَقَعُ قَبْلَ ذَلِكَ وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَسْتَعْمِلُونَ الثَّلَاثَ أَصْلًا ، أَوْ يَسْتَعْمِلُونَ هَا نَادِرًا . وَأَمَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ فَكَثُرَ اسْتِعْمَالُهُم ْ لَهَا .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، أَنَّهُ صَنَعَ فِيهِ مِنَ الْحُكْمِ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مَا كَانَ يُصْنَعُ قَبْلَهُ ، وَرَجَّحَ هَذَا التَّأْوِيلَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ . وَكَذَا أَوْرَدَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدِي إِنَّمَا تُطَلِّقُونَ أَنْتُمْ ثَلَاثًا ، كَانُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً . قَالَ النَّوَوِيُّ : وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ الْخَبَرُ وَقَعَ عَنِ اخْتِلَافِ عَادَةِ النَّاسِ خَاصَّةً ، لَا عَنْ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ [ 2 \ 229 ] عَنِ الْمُحَقِّقِ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ ، وَالْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ ، وَالْكِيَا الطَّبَرِيِّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْجَوَابِ مِنَ التَّعَسُّفِ ، وَإِنْ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ .
الْجَوَابُ الثَّالِثُ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ ، وَأَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى النَّسْخِ إِلَّا فِي عَهْدِ عُمَرَ ، فَقَدْ نَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ مَنْ جَعَلَ الثَّلَاثَ وَاحِدَةً عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ مَا نَصُّهُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً ؛ يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالَّذِي يُشْبِهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْئًا فَنُسِخَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ ؟ قِيلَ : لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافٌ . قَالَ الشَّيْخُ : وَرِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ مَضَتْ فِي النَّسْخِ وَفِيهَا تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ . قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قِيلَ : فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قِيلَ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يُخَالِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَفِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْ نِ ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافُهُ ؟ ا ه [ ص: 124 ] مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنَ الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِهِ .
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " مَا نَصُّهُ : الْجَوَابُ الثَّالِثُ دَعْوَى النَّسْخِ ، فَنَقَلَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلِمَ شَيْئًا نَسَخَ ذَلِكَ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَيُقَوِّيهِ مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ . وَالتَّرْجَمَةُ الَّتِي ذَكَرَ تَحْتَهَا أَبُو دَاوُدَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ هِيَ قَوْلُهُ : " بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ " .
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ آنِفًا مَا نَصُّهُ : وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيَى ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بِهِ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ يَعْنِي : ابْنَ سُلَيْمَانَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : لَا أُطَلِّقُكِ أَبَدًا ، وَلَا آوِيكِ أَبَدًا ، قَالَتْ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ : أُطَلِّقُ حَتَّى إِذَا دَنَا أَجَلُكِ رَاجَعْتُكِ ، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ قَالَ : فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ مَنْ كَانَ طَلَّقَ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ طَلَّقَ ، وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ مَوْلَى الزُّبَيْرِ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ : فَذَكَرَهُ بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ ، عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ ، عَنْ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلًا وَقَالَ : هَذَا أَصَحُّ . وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي " مُسْتَدْرَكِهِ " مِنْ طَرِيقِ يَعْقُوبَ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ شَبِيبٍ بِهِ ، وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ .
ثُمَّ قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : لَمْ يَكُنْ لِلطَّلَاقِ وَقْتٌ ، يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثُمَّ يُرَاجِعُهَا ، مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ ، وَكَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَبَيْنَ أَهْلِهِ بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ ، فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَتْرُكَنَّكِ لَا أَيِّمًا ، وَلَا ذَاتَ زَوْجٍ ، فَجَعَلَ يُطَلِّقُهَا حَتَّى إِذَا كَادَتِ الْعِدَّةُ أَنْ تَنْقَضِيَ رَاجَعَهَا ، فَفَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَوَقَّتَ الطَّلَاقَ ثَلَاثًا لَا رَجْعَةَ فِيهِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ، حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ . وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا ، ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ [ ص: 125 ] وَابْنُ جَرِيرٍ كَذَلِكَ وَاخْتَارَ أَنَّ هَذَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ . ا ه مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ .
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ لِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، وَإِنْكَارُ الْمَازِرِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ادِّعَاءَ النَّسْخِ مَرْدُودٌ بِمَا رَدَّهُ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فَإِنَّهُ لَمَّا نَقَلَ عَنِ الْمَازَرِيِّ إِنْكَارَهُ لِلنَّسْخِ مِنْ أَوْجُهٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، قَالَ بَعْدَهُ مَا نَصُّهُ : قُلْتُ : نَقَلَ النَّوَوِيُّ هَذَا الْفَصْلَ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " وَأَقَرَّهُ ، وَهُوَ مُتَعَقَّبٌ فِي مَوَاضِعَ : أَحُدُهَا : أَنَّ الَّذِي ادَّعَى نَسْخَ الْحُكْمِ لَمْ يَقُلْ : إِنَّ عُمَرَ هُوَ الَّذِي نَسَخَ حَتَّى يَلْزَمَ مِنْهُ مَا ذَكَرَ ، وَإِنَّمَا قَالَ مَا تَقَدَّمَ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَلِمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نُسِخَ ؛ أَيِ : اطَّلَعَ عَلَى نَاسِخٍ لِلْحُكْمِ الَّذِي رَوَاهُ مَرْفُوعًا ، وَلِذَلِكَ أَفْتَى بِخِلَافِهِ ، وَقَدْ سَلَّمَ الْمَازَرِيُّ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ أَنَّ إِجْمَاعَهُمْ يَدُلُّ عَلَى نَاسِخٍ ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ مَنِ ادَّعَى النَّسْخَ .
الثَّانِي : إِنْكَارُهُ الْخُرُوجَ عَنِ الظَّاهِرِ عَجِيبٌ ; فَإِنَّ الَّذِي يُحَاوِلُ الْجَمْعَ بِالتَّأْوِيلِ يَرْتَكِبُ خِلَافَ الظَّاهِرِ حَتْمًا .
الثَّالِثُ : أَنَّ تَغْلِيطَهُ مَنْ قَالَ : الْمُرَادُ ظُهُورُ النَّسْخِ عَجِيبٌ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِظُهُورِهِ انْتِشَارُهُ ، وَكَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ ، فَلَا يَلْزَمُ مَا ذَكَرَ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ . ا ه مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي " بِلَفْظِهِ ، وَلَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الصَّحَابَةِ اطَّلَعَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، فَأَبُو بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مِيرَاثِ الْجَدَّةِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ، وَعُمَرُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دِيَةِ الْجَنِينِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الْمَذْكُورَانِ قَبْلُ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ أَخْذِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَلَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا ، حَتَّى أَخْبَرَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ، وَعُثْمَانُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْجَبَ السُّكْنَى لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ ، حَتَّى أَخْبَرَتْهُ فُرَيْعَةُ بِنْتُ مَالِكٍ .
وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَفَاطِمَةُ الزَّهْرَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا عِلْمٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّا مَعَاشِرُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ " الْحَدِيثَ ، حَتَّى طَلَبَا مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَأَوْضَحُ دَلِيلٍ يُزِيلُ الْإِشْكَالَ عَنِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ الْمَذْكُورِ وُقُوعُ مِثْلِهِ ، وَاعْتِرَافُ الْمُخَالِفِ بِهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ جَابِرٍ [ ص: 126 ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ مُتْعَةَ النِّسَاءِ كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ، قَالَ : ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا وَهَذَا مِثْلُ مَا وَقَعَ فِي طَلَاقِ الثَّلَاثِ طِبْقًا " مَا أَشْبَهَ اللَّيْلَةَ بِالْبَارِحَةِ " : [ الطَّوِيلِ ]
فَإِلَّا يَكُنْهَا أَوْ تَكُنْهُ فَإِنَّهُ أَخُوهَا غَذَتْهُ أُمُّهُ بِلِبَانِهَا
فَمِنَ الْغَرِيبِ أَنْ يُسَلِّمَ مُنْصِفٌ إِمْكَانَ النَّسْخِ فِي إِحْدَاهُمَا ، وَيَدَّعِي اسْتِحَالَتَهُ فِي الْأُخْرَى ، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا رَوَى مُسْلِمٌ فِيهَا عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ : أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ كَانَ يُفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ، فِي مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوجِ ثُمَّ غَيَّرَهُ عُمَرُ .
وَمَنْ أَجَازَ نَسْخَ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَأَحَالَ نَسْخَ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، يُقَالُ لَهُ : مَا لِبَائِكَ تَجُرُّ وَبَائِي لَا تَجُرُّ ؟ فَإِنْ قِيلَ : نِكَاحُ الْمُتْعَةِ صَحَّ النَّصُّ بِنَسْخِهِ قُلْنَا : قَدْ رَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَة َ بِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِنَسْخِ جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَرَأَى أَنَّ جَعْلَهَا وَاحِدَةً إِنَّمَا هُوَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ يَرْتَجِعُ فِيهِ بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَأَكْثَرَ ، قَالَ فِي " سُنَنِهِ " : " بَابُ نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ " ثُمَّ سَاقَ بِسَنَدِهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 228 ] وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَنُسِخَ ذَلِكَ ، وَقَالَ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ . وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ النَّسَائِيُّ وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ ، قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ يَهِمُ ، وَرَوَى مَالِكٌ فِي " الْمُوَطَّأِ " عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ، ثُمَّ ارْتَجَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا أَلْفَ مَرَّةٍ فَعَمَدَ رَجُلٌ إِلَى امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا حَتَّى إِذَا أَشْرَفَتْ عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا رَاجَعَهَا ، ثُمَّ قَالَ : لَا آوِيكِ وَلَا أُطَلِّقُكِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الطَّلَاقَ جَدِيدًا مِنْ يَوْمِئِذٍ ، مَنْ كَانَ طَلَّقَ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُطَلِّقْ .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيقَاعَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً مَعَ كَثْرَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ ، وَوَرَعِهِمْ ، وَيُؤَيِّدُهُ : أَنَّ كَثِيرًا جِدًّا مِنَ الصَّحَابَةِ الْأَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ صَحَّ عَنْهُمُ الْقَوْلُ بِذَلِكَ ، كَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعُمَرَ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَخَلْقٍ لَا يُحْصَى .
[ ص: 127 ] وَالنَّاسِخُ الَّذِي نَسَخَ الْمُرَاجَعَةَ بَعْدَ الثَّلَاثِ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي الرِّوَايَاتِ الْمُتَقَدِّمَة ِ ، وَلَا مَانِعَ عَقْلًا وَلَا عَادَةً مِنْ أَنْ يَجْهَلَ مِثْلَ هَذَا النَّاسِخِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَى خِلَافَةِ عُمَرَ ، مَعَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَّحَ بِنَسْخِهَا وَتَحْرِيمِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ ، وَفِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَيْضًا ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ .
وَمَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالسُّرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) [ 23 \ 5 ، 6 ] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْمُتَمَتَّعَ بِهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ وَلَا سُرِّيَّةٍ كَمَا يَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ الْآيَةَ [ 4 \ 24 ] وَالَّذِينَ قَالُوا : بِالنَّسْخِ قَالُوا : فِي مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ : إِنَّ النَّاسَ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَنَاةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَنَّوْنَ فِي الطَّلَاقِ فَلَا يُوقِعُونَ الثَّلَاثَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ . وَمَعْنَى اسْتِعْجَالِهِم ْ أَنَّهُمْ صَارُوا يُوقِعُونَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ هُوَ مَعْنَاهُ ، وَإِمْضَاؤُهُ لَهُ عَلَيْهِمْ إِذَنْ هُوَ اللَّازِمُ ، وَلَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ ، يَعْنِي أَلْزَمْنَاهُمْ بِمُقْتَضَى مَا قَالُوا ، وَنَظِيرُهُ : قَوْلُ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ : فَنَهَانَا عَنْهَا عُمَرُ . فَظَاهِرُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّهُ اجْتِهَادٌ مِنْ عُمَرَ ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِيهِمَا مَعًا كَمَا رَأَيْتَ ، وَلَيْسَتِ الْأَنَاةُ فِي الْمَنْسُوخِ ، وَإِنَّمَا هِيَ فِي عَدَمِ الِاسْتِعْجَالِ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ دَفْعَةً . وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالثَّلَاثِ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . فَالظَّاهِرُ فِي إِمْضَائِهِ لَهَا عَلَيْهِمْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ تَغَيَّرَ قَصْدُهُمْ مِنَ التَّأْكِيدِ إِلَى التَّأْسِيسِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ .
أَمَّا كَوْنُ عُمَرَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْعَلُ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً ، فَتَعَمَّدَ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعَلَهَا ثَلَاثًا ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْجَوَابُ الرَّابِعُ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رِوَايَةَ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخَالِفَةٌ لِمَا رَوَاهُ عَنْهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَدْ رَوَى عَنْهُ لُزُومَ الثَّلَاثِ دَفْعَةً سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَمَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِيَاسِ بْنِ الْبُكَيْرِ ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ الْأَنْصَارِيُّ ، كَمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " وَالْقُرْطُبِيّ ُ وَغَيْرُهُمَا .
ابو وليد البحيرى
2020-07-29, 04:16 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (17)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (16)
[ ص: 128 ] وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " : إِنَّ الْبُخَارِيَّ لَمْ يُخَرِّجْ هَذَا الْحَدِيثَ ; لِمُخَالَفَةِ هَؤُلَاءِ لِرِوَايَةِ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَقَالَ الْأَثْرَمُ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : كَانَ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، بِأَيِّ شَيْءٍ تَدْفَعُهُ ؟ قَالَ : بِرِوَايَةِ النَّاسِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ وُجُوهٍ خِلَافَهُ ، وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ ، قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : فَهَذَا إِمَامُ الْمُحَدِّثِينَ وَسَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَصْرِهِ الَّذِي تَدَارَكَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا كَادَ تَتَزَلْزَلُ قَوَاعِدُهُ ، وَتُغَيَّرُ عَقَائِدُهُ ، أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ لِلْأَثْرَمِ وَابْنِ مَنْصُورٍ : إِنَّهُ رَفَضَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ قَصْدًا ; لِأَنَّهُ يَرَى عَدَمَ الِاحْتِجَاجِ بِهِ فِي لُزُومِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ; لِرِوَايَةِ الْحُفَّاظِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ، وَهَذَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ ، وَهُوَ هُوَ ، ذَكَرَ عَنْهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْحَدِيثَ عَمْدًا ; لِذَلِكَ الْمُوجِبِ الَّذِي تَرَكَهُ مِنْ أَجْلِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا مَا تَرَكَاهُ إِلَّا لِمُوجِبٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ ، فَإِنْ قِيلَ : رِوَايَةُ طَاوُسٍ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ ، وَرِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورِينَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْمَرْفُوعُ لَا يُعَارَضُ بِالْمَوْقُوفِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إِذَا خَالَفَ مَا رُوِيَ ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ : وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْأُولَى : أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِالْحَدِيثِ ; لِأَنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ رَاوِيهِ وَقَدْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ ، وَهُوَ عَدْلٌ عَارِفٌ ، وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلَا إِشْكَالَ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى الَّتِي هِيَ الْمَشْهُورَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِرِوَايَتِهِ لَا بِقَوْلِهِ . فَإِنَّهُ لَا تُقَدَّمُ رِوَايَتُهُ إِلَّا إِذَا كَانَتْ صَرِيحَةَ الْمَعْنَى ، أَوْ ظَاهِرَةً فِيهِ ظُهُورًا يَضْعُفُ مَعَهُ احْتِمَالُ مُقَابِلِهِ ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِغَيْرِ ذَلِكَ الْمَعْنَى احْتِمَالًا قَوِيًّا فَإِنَّ مُخَالَفَةَ الرَّاوِي لِمَا رَوَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْمُحْتَمَلَ الَّذِي تُرِكَ لَيْسَ هُوَ مَعْنَى مَا رَوَى ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لَفْظَ طَلَاقِ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ مُحْتَمِلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا لِأَنْ تَكُونَ الطَّلَقَاتُ مُفَرَّقَةً ، كَمَا جَزَمَ بِهِ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيّ ُ وَابْنُ سُرَيْجٍ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَرْكَ ابْنِ عَبَّاسٍ لِجَعْلِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً ؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ لَيْسَ [ ص: 129 ] كَوْنَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَمَا سَتَرَى بَيَانَهُ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الْجَوَابِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ أَنَّهُ أَفْتَى فِي الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ ، وَمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِفَمٍ وَاحِدٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، فَهُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ نَفْسُهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ لَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَتُرَجَّحُ رِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى رِوَايَةِ حَمَّادٍ بِمُوَافَقَةِ الْحُفَّاظِ لِإِسْمَاعِيلَ ، فِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَجْعَلُهَا ثَلَاثًا لَا وَاحِدَةً .
الْجَوَابُ الْخَامِسُ : هُوَ ادِّعَاءُ ضَعْفِهِ وَمِمَّنْ حَاوَلَ تَضْعِيفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالْقُرْطُبِيّ ُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ : زَلَّ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَقَالُوا : إِنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ لَا يَلْزَمُ ، وَجَعَلُوهُ وَاحِدَةً وَنَسَبُوهُ إِلَى السَّلَفِ الْأَوَّلِ فَحَكَوْهُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَزَوْهُ إِلَى الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ الضَّعِيفِ الْمَنْزِلَةِ ، الْمَغْمُورِ الْمَرْتَبَةِ ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ ، وَغَوَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْمَسَائِلِ فَتَتَبَّعُوا الْأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةَ فِيهِ وَقَالُوا : إِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا كَذِبٌ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ ثَلَاثًا ، كَمَا لَوْ قَالَ : طَلَّقْتُ ثَلَاثًا وَلَمْ يُطَلِّقْ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَكَمَا لَوْ قَالَ : أَحْلِفُ ثَلَاثًا كَانَتْ يَمِينًا وَاحِدَةً .
وَلَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ ، وَلَقِيتُ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِسْلَامِ ، وَأَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ كُلَّ صَادِقٍ ، فَمَا سَمِعْتُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِخَبَرٍ ، وَلَا أَحْسَسْتُ لَهَا بِأَثَرٍ ، إِلَّا الشِّيعَةَ الَّذِينَ يَرَوْنَ نِكَاحَ الْمُتْعَةِ جَائِزًا ، وَلَا يَرَوْنَ الطَّلَاقَ وَاقِعًا ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمُ ابْنُ سُكَّرَةَ الْهَاشِمِيُّ : [ السَّرِيعِ ]
يَا مَنْ يَرَى الْمُتْعَةَ فِي دِينِهِ حِلًّا وَإِنْ كَانَتْ بِلَا مَهْرٍ وَلَا يَرَى تِسْعِينَ تَطْلِيقَةً
تُبِينُ مِنْهُ رَبَّةُ الْخِدْرِ مِنْ هَاهُنَا طَابَتْ مَوَالِيدُكُمْ
فَاغْتَنِمُوهَا يَا بَنِي الْفِطْرِ
وَقَدِ اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ ، وَأَرْبَابُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فِي الْأَحْكَامِ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ فِي كَلِمَةٍ ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ ، وَبِدْعَةً فِي قَوْلِ الْآخَرِينَ ، لَازِمٌ . وَأَيْنَ هَؤُلَاءِ الْبُؤَسَاءُ مِنْ عَالِمِ الدِّينِ ، وَعَلَمِ الْإِسْلَامِ ، مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ ، وَقَدْ قَالَ فِي [ ص: 130 ] " صَحِيحِهِ " : " بَابُ جَوَازِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ " ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ .
وَذَكَرَ حَدِيثَ اللِّعَانِ : فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُغَيِّرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ ; وَلِأَنَّهُ جَمَعَ مَا فَسَحَ لَهُ فِي تَفْرِيقِهِ ، فَأَلْزَمَتْهُ الشَّرِيعَةُ حُكْمَهُ وَمَا نَسَبُوهُ إِلَى الصَّحَابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ ، لَا أَصْلَ لَهُ فِي كِتَابٍ وَلَا رِوَايَةَ لَهُ عَنْ أَحَدٍ .
وَقَدْ أَدْخَلَ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ الْحَرَامَ ثَلَاثٌ لَازِمَةٌ فِي كَلِمَةٍ ، فَهَذَا فِي مَعْنَاهَا ، فَكَيْفَ إِذَا صَرَّحَ بِهَا . وَأَمَّا حَدِيثُ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فَغَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْمِلَّةِ ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَفِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْمَذْكُورِ ، قُلْنَا : هَذَا لَا مُتَعَلِّقَ فِيهِ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ فَكَيْفَ يُقَدَّمُ عَلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ ؟ وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ إِلَّا عَنْ قَوْمٍ انْحَطُّوا عَنْ رُتْبَةِ التَّابِعِينَ وَقَدْ سَبَقَ الْعَصْرَانِ الْكَرِيمَانِ وَالِاتِّفَاقُ عَلَى لُزُومِ الثَّلَاثِ ، فَإِنْ رَوَوْا ذَلِكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَقْبَلُونَ مِنْكُمْ : نَقْلُ الْعَدْلِ عَنِ الْعَدْلِ . وَلَا تَجِدْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَنْسُوبَةً إِلَى أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ أَبَدًا .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يُرْوَ إِلَّا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ إِلَّا مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ مَا لَمْ يَرْوِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا وَاحِدٌ وَمَا لَمْ يَرْوِهِ عَنْ ذَلِكَ الصَّحَابِيِّ إِلَّا وَاحِدٌ ؟ وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَسَكَتُوا عَنْهُ إِلَّا ابْنَ عَبَّاسٍ ؟ وَكَيْفَ خَفِيَ عَلَى أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا طَاوُسًا ؟ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَرِوَايَةُ طَاوُسٍ وَهْمٌ وَغَلَطٌ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِالْحِجَازِ ، وَالشَّامِ ، وَالْعِرَاقِ ، وَالْمَشْرِقِ ، وَالْمَغْرِبِ . وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ لَا يُعْرَفُ فِي مَوَالِي ابْنِ عَبَّاسٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : إِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ تَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ الْأَئِمَّةَ كَمَعْمَرٍ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا رَوَوْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ إِمَامٌ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرَوَاهُ عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ ، وَهُوَ ثِقَةٌ حَافِظٌ . وَانْفِرَادُ الصَّحَابِيِّ لَا يَضُرُّ وَلَوْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَصْلًا إِلَّا وَاحِدٌ ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي " أَلْفِيَّتِهِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
فِي الصَّحِيحِ أَخْرَجَا الْمُسَيَّبَا وَأَخْرَجَ الْجُعْفِيُّ لِابْنِ تَغْلِبَا
[ ص: 131 ] يَعْنِي : أَنَّ الشَّيْخَيْنِ أَخْرَجَا حَدِيثَ الْمُسَيَّبِ بْنِ حَزْنٍ ، وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ أَحَدٌ غَيْرُ ابْنِهِ سَعِيدٍ .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ تَغْلِبَ النَّمَرِيِّ ، وَيُقَالُ الْعَبْدِيُّ وَلَمْ يَرْوِ عَنْهُ غَيْرُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ هَذَا مُرَادُهُ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ تَغْلِبَ رَوَى عَنْهُ أَيْضًا الْحَكَمُ بْنُ الْأَعْرَجِ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرُهُمَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ ثَابِتٌ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَضْعِيفُهُ إِلَّا بِأَمْرٍ وَاضِحٍ ، نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ خَبَرَ الْآحَادِ إِذَا كَانَتِ الدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةً إِلَى نَقْلِهِ وَلَمْ يَنْقُلْهُ إِلَّا وَاحِدٌ وَنَحْوُهُ ، أَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ . وَوَجْهُهُ أَنَّ تَوَفُّرَ الدَّوَاعِي يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ النَّقْلَ تَوَاتُرًا وَالِاشْتِهَارَ ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ ; لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُقَرَّرَةٌ فِي الْأُصُولِ ، أَشَارَ إِلَيْهَا فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا يُحْكَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ : [ الرَجَزِ ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَخَبَرُ الْآحَادِ فِي السُّنِّيِّ حَيْثُ دَوَاعِي نَقْلِهِ تَوَاتُرًا
نَرَى لَهَا لَوْ قَالَهُ تَقَرُّرَا
وَجَزَمَ بِهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأُصُولِيِّين َ ، وَقَالَ صَاحِبُ " جَمْعِ الْجَوَامِعِ " عَاطِفًا عَلَى مَا يُجْزَمُ فِيهِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الْخَبَرِ . وَالْمَنْقُولُ آحَادًا فِيمَا تَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ خِلَافًا لِلرَّافِضَةِ . اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَمُرَادُهُ أَنَّ مِمَّا يُجْزَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ الْخَبَرُ الْمَنْقُولُ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ .
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي " مُخْتَصَرِهِ الْأُصُولِيِّ " مَسْأَلَةٌ : إِذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ فِيمَا يَتَوَفَّرُ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ ، وَقَدْ شَارَكَهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ . كَمَا لَوِ انْفَرَدَ وَاحِدٌ بِقَتْلِ خَطِيبٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي مَدِينَةٍ فَهُوَ كَاذِبٌ قَطْعًا خِلَافًا لِلشِّيعَةِ . اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَفِي الْمَسْأَلَةِ مُنَاقَشَاتٌ وَأَجْوِبَةٌ عَنْهَا مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا شَكَّ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ غَيَّرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُون َ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ أَوْ جُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ . فَالدَّوَاعِي إِلَى نَقْلٍ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُون َ مِنْ بَعْدِهِ ، مُتَوَفِّرَةٌ تَوَفُّرًا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ ، لِأَنْ يَرُدَّ بِذَلِكَ التَّغْيِيرِ الَّذِي أَحْدَثَهُ [ ص: 133 ] عُمَرُ فَسُكُوتُ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ عَنْهُ وَكَوْنُ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ مِنْهُ حَرْفٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، بَلْ بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَكَمَا جَزَمَ بِهِ النَّسَائِيُّ ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ وَالْقُرْطُبِيّ ُ وَابْنُ سُرَيْجٍ . وَعَلَيْهِ فَلَا إِشْكَالَ ; لِأَنَّ تَغْيِيرَ عُمَرَ لِلْحُكْمِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَغْيِيرِ قَصْدِهِمْ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " فَمَنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، وَنَوَى التَّأْكِيدَ فَوَاحِدَةٌ ، وَإِنْ نَوَى الِاسْتِئْنَافَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ فَثَلَاثٌ . وَاخْتِلَافُ مَحَامِلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ نِيَّاتِ اللَّافِظِينَ بِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ; لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ غَيْرَ مَحْكُومٍ بِصِحَّتِهِ لِنَقْلِهِ آحَادًا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي إِلَى نَقْلِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى وَأَخَفُّ مِنَ الثَّانِي ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ : وَظَاهِرُ سِيَاقِهِ يَقْتَضِي عَنْ جَمِيعِهِمْ أَنَّ مُعْظَمَهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ ذَلِكَ ، وَالْعَادَةُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَفْشُوَ الْحُكْمُ وَيَنْتَشِرَ فَكَيْفَ يَنْفَرِدُ بِهِ وَاحِدٌ عَنْ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : فَهَذَا الْوَجْهُ يَقْتَضِي التَّوَقُّفَ عَنِ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ ، إِنْ لَمْ يَقْتَضِ الْقَطْعَ بِبُطْلَانِهِ . اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " عَنْهُ ، وَهُوَ قَوِيٌّ جِدًّا بِحَسَبِ الْمُقَرَّرِ فِي الْأُصُولِ كَمَا تَرَى .
الْجَوَابُ السَّادِسُ : عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - هُوَ حَمْلُ لَفْظِ الثَّلَاثِ فِي الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْبَتَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي حَدِيثِ رُكَانَةَ ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ مَا نَصُّهُ : وَهُوَ قَوِيٌّ وَيُؤَيِّدُهُ إِدْخَالُ الْبُخَارِيِّ فِي هَذَا الْبَابِ ، الْآثَارَ الَّتِي فِيهَا الْبَتَّةَ ، وَالْأَحَادِيثَ الَّتِي فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالثَّلَاثِ ، كَأَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى عَدَمِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَأَنَّ الْبَتَّةَ إِذَا أُطْلِقَتْ حُمِلَ عَلَى الثَّلَاثِ إِلَّا إِنْ أَرَادَ الْمُطَلِّقُ وَاحِدَةً فَيُقْبَلُ ، فَكَأَنَّ بَعْضَ رُوَاتِهِ حَمَلَ لَفْظَ الْبَتَّةَ عَلَى الثَّلَاثِ ; لِاشْتِهَارِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا ، فَرَوَاهَا بِلَفْظِ الثَّلَاثِ . وَإِنَّمَا الْمُرَادُ لَفْظَةُ الْبَتَّةَ ، وَكَانُوا فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ يَقْبَلُونَ مِمَّنْ قَالَ أَرَدْتُ بِالْبَتَّةِ وَاحِدَةً ، فَلَمَّا كَانَ عَهْدُ عُمَرَ أَمْضَى الثَّلَاثَ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ . اهـ مِنْ " فَتْحِ الْبَارِي " بِلَفْظِهِ ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ كَمَا لَا يَخْفَى ، وَمَا يَذْكُرُهُ كُلٌّ مِمَّنْ قَالَ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ لُزُومِهَا مِنَ الْأُمُورِ النَّظَرِيَّةِ لِيُصَحِّحَ بِهِ كُلٌّ مَذْهَبَهُ ، لَمْ نُطِلْ بِهِ الْكَلَامَ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ سُقُوطُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ [ ص: 133 ] تَحْقِيقُهَا مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ ، وَقِيَاسُ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى أَيْمَانِ اللِّعَانِ فِي أَنَّهُ لَوْ حَلَفَهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجُزْ ، قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ ; لَأَنَّ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةِ اللِّعَانِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَمَا لَوْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَصْلًا ، بِخِلَافِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا اعْتُبِرَتْ إِجْمَاعًا ، وَحَصَلَتْ بِهَا الْبَيْنُونَةُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِجْمَاعًا .
الْجَوَابُ السَّابِعُ : هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ حَدِيثَ طَاوُسٍ الْمَذْكُورَ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَهُ ، وَالدَّلِيلُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا عَلِمَ بِهِ وَأَقَرَّهُ ، لَا فِيمَا لَمْ يَعْلَمْ فِيهِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْجَوَابِ ; لِأَنَّ جَمَاهِيرَ الْمُحَدِّثِينَ ، وَالْأُصُولِيِّ ينَ عَلَى أَنَّ مَا أَسْنَدَهُ الصَّحَابِيُّ إِلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ حُكْمُ الْمَرْفُوعِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّهُ بَلَغَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَرَّهُ .
الْجَوَابُ الثَّامِنُ : أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورَ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ إِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ بَانَتْ بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ ، فَلَوْ قَالَ ثَلَاثًا لَمْ يُصَادِفْ لَفْظُ الثَّلَاثِ مَحِلًّا ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ قَبْلَهَا . وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ بَعْضَ الرِّوَايَاتِ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ جَاءَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ هُوَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزِ ]
وَحَمْلُ مُطْلَقٍ عَلَى ذَاكَ وَجَبَ إِنْ فِيهِمَا اتَّحَدَ حُكْمٌ وَالسَّبَبُ
وَمَا ذَكَرَهُ الْأَبِّيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْإِطْلَاقَ وَالتَّقْيِيدَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَدِيثَيْنِ ، أَمَّا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقَيْنِ فَمِنْ زِيَادَةِ الْعَدْلِ فَمَرْدُودٌ ; بِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا . وَمَا ذَكَرَهُ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الَّتِي فِيهَا التَّقْيِيدُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الرِّوَايَاتِ الْعَامَّةِ ، وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ ، لَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ مَسَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ ، لَا مِنْ مَسَائِلِ ذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ ، فَالرِّوَايَاتُ الَّتِي أَخْرَجَهَا مُسْلِمٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ قَيْدِ عَدَمِ الدُّخُولِ ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مُقَيَّدَةٌ بِعَدَمِ الدُّخُولِ كَمَا تَرَى ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَلَا سِيَّمَا إِنِ اتَّحَدَ الْحُكْمُ وَالسَّبَبُ كَمَا هُنَا . نَعَمْ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّ كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَ وَارِدٌ عَلَى سُؤَالِ أَبِي الصَّهْبَاءِ ، وَأَبُو الصَّهْبَاءِ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا عَنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا ، فَجَوَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ; لِأَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لِمُطَابَقَةِ [ ص: 134 ] الْجَوَابِ لِلسُّؤَالِ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ الْخِطَابِ أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ ، كَوْنَ الْكَلَامِ وَارِدًا جَوَابًا لِسُؤَالٍ ; لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْمَنْطُوقِ بِالذِّكْرِ لِمُطَابَقَةِ السُّؤَالِ فَلَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهُ لِإِخْرَاجِ حُكْمِ الْمَفْهُومِ عَنِ الْمَنْطُوقِ . وَأَشَارَ إِلَيْهِ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي ذِكْرِ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ :
أَوْ جَهْلُ الْحُكْمِ أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبَ
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ : أَوِ النُّطْقِ انْجَلَبَ لِلسُّؤْلِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ رِوَايَةَ أَبِي دَاوُدَ الْمَذْكُورَةَ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِي ِّ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، عَنْ طَاوُسٍ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ رَوَى عَنْهُمْ أَيُّوبُ مَجْهُولُونَ ، وَمَنْ لَمْ يُعْرَفْ مَنْ هُوَ ، لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِرِوَايَتِهِ . وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " مَا نَصُّهُ : وَأَمَّا هَذِهِ الرِّوَايَةُ الَّتِي لِأَبِي دَاوُدَ فَضَعِيفَةٌ ، رَوَاهَا أَيُّوبُ عَنْ قَوْمٍ مَجْهُولِينَ ، عَنْ طَاوُسٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَلَا يُحْتَجُّ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَقَالَ الْمُنْذِرِيُّ فِي " مُخْتَصَرِ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ " بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ مَا نَصُّهُ : الرُّوَاةُ عَنْ طَاوُسٍ مَجَاهِيلُ ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ ، وَضَعْفُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ هَذِهِ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى لِلْجَهْلِ بِمَنْ رَوَى عَنْ طَاوُسٍ فِيهَا ، وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي " زَادِ الْمَعَادِ " بَعْدَ أَنْ سَاقَ لَفْظَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا نَصُّهُ : وَهَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَهُوَ بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ فَانْظُرْهُ مَعَ مَا تَقَدَّمَ . هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا صَوَابُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ فِيهَا دَائِرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ كَوْنُ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَلَمْ يَشْتَهِرِ الْعِلْمُ بِنَسْخِهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ ، كَمَا وَقَعَ نَظِيرُهُ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ .
أَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَدْ نَقَلَ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " مَا نَصُّهُ : فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الثَّلَاثَ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاحِدَةً ، يَعْنِي أَنَّهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَالَّذِي يُشْبِهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ أَنْ كَانَ شَيْءٌ [ ص: 135 ] فَنُسِخَ ، فَإِنْ قِيلَ : فَمَا دَلَّ عَلَى مَا وَصَفْتَ ؟ قِيلَ : لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرْوِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا ثُمَّ يُخَالِفُهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَعْلَمْهُ ، كَانَ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافٌ .
قَالَ الشَّيْخُ : رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ مَضَتْ فِي النَّسْخِ وَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِصِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، قَالَ الشَّافِعِيُّ : فَإِنْ قِيلَ فَلَعَلَّ هَذَا شَيْءٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ بِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قِيلَ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُخَالِفُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، وَفِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْ نِ ، وَفِي بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَغَيْرِهِ ، فَكَيْفَ يُوَافِقُهُ فِي شَيْءٍ يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافُ مَا قَالَ ؟ اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَمَعْنَاهُ وَاضِحٌ فِي أَنَّ الْحَقَّ دَائِرٌ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ كَانَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ . . . إِلَخْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ ، وَعَلَى أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا ثَلَاثٌ بِفَمٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَعْلِهَا وَاحِدَةً ، فَالَّذِي يُشْبِهُ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا ، وَنَحْنُ نَقُولُ : إِنَّ الظَّاهِرَ لَنَا دَوَرَانُ الْحَقِّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ أَنَّ الثَّلَاثَ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ بِنَسَقٍ وَاحِدٍ كَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ تَدْخُلُ لُغَةً فِي مَعْنَى طَلَاقِ الثَّلَاثِ دُخُولًا لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ الَّتِي جَزَمَ ابْنُ الْقَيِّمِ بِأَنَّ إِسْنَادَهَا أَصَحُّ إِسْنَادًا ، فَإِنَّ لَفْظَهَا : أَنَّ أَبَا الصَّهْبَاءِ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : بَلَى ! كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ قَدْ تَتَايِعُوا فِيهَا قَالَ : أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ بِلَفْظِ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي كَوْنِهَا مُتَفَرِّقَةً بِثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي رَدِّهِ الِاسْتِدْلَالَ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ . فَقَدْ قَالَ فِي " زَادِ الْمَعَادَ " مَا نَصُّهُ : وَأَمَّا اسْتِدْلَالُكُم ْ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ ، فَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَلْ تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ؟ قَالَ : " لَا ، حَتَّى تَذُوقَ الْعُسَيْلَةَ " فَهَذَا مِمَّا لَا نُنَازِعُكُمْ فِيهِ ، نَعَمْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَنِ اكْتَفَى بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الثَّانِي . وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ طَلَّقَ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ ؟ بَلِ الْحَدِيثُ حُجَّةٌ لَنَا ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا ، وَقَالَ ثَلَاثًا ، إِلَّا مَنْ فَعَلَ وَقَالَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ فِي لُغَاتِ الْأُمَمِ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ ، كَمَا يُقَالُ قَذَفَهُ ثَلَاثًا ، وَشَتَمَهُ ثَلَاثًا ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
[ ص: 136 ] وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ لَفْظَ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ مُوَافِقٌ لِلَفْظِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ ابْنُ الْقَيِّمِ ، بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ بِفَمٍ وَاحِدٍ ، بَلْ دَلَالَتُهُ عَلَى أَنَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ مُتَعَيِّنَةٍ فِي جَمِيعِ لُغَاتِ الْأُمَمِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " قَالَ مَا نَصُّهُ : وَذَهَبَ أَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا قَالَ لِلْبِكْرِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . كَانَتْ وَاحِدَةً فَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَهَا ثَلَاثًا ، قَالَ الشَّيْخُ : وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِي ِّ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَرِوَايَةُ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَةُ هِيَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ وَهِيَ الْمُطَابِقُ لَفْظُهَا حَدِيثَ عَائِشَةَ الَّذِي جَزَمَ فِيهِ ابْنُ الْقَيِّمِ ، بِأَنَّهُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى أَنَّ الطَّلَقَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ بِفَمٍ وَاحِدٍ ، بَلْ وَاقِعَةٌ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَهِيَ وَاضِحَةٌ جِدًّا فِيمَا ذَكَرْنَا ، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ نَقَلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ بِأَلْفَاظٍ مُتَتَابِعَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، مُبَيِّنٌ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي تَكُونُ وَاحِدَةً هِيَ الْمَسْرُودَةُ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; لِأَنَّهَا تَأْكِيدٌ لِلصِّيغَةِ الْأُولَى .
فَفِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " لِلْبَيْهَقِيِّ مَا نَصُّهُ : قَالَ الشَّيْخُ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ إِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا تَتْرَى ، رَوَى جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، قَالَ عُقْدَةٌ كَانَتْ بِيَدِهِ أَرْسَلَهَا جَمِيعًا . وَإِذَا كَانَتْ تَتْرَى فَلَيْسَ بِشَيْءٍ . قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ تَتْرَى يَعْنِي أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ ، أَنْتِ طَالِقٌ . فَإِنَّهَا تَبِينُ بِالْأَوْلَى ، وَالثِّنْتَانِ لَيْسَتَا بِشَيْءٍ ، وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ . فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ لَيْسَتْ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، بَلْ مَسْرُودَةٌ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ النَّسَائِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ ، وَالْقُرْطُبِيّ ُ ، وَابْنُ سُرَيْجٍ ، وَأَبُو يَحْيَى السَّاجِيُّ ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَتُؤَيِّدُهُ رِوَايَةُ أَيُّوبَ الَّتِي صَحَّحَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَأَوْضَحْنَاهُ آنِفًا مَعَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ دَلِيلٌ يُعَيِّنُ كَوْنَ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ الْمَذْكُورِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، لَا مِنْ وَضْعِ اللُّغَةِ ، وَلَا مِنَ الْعُرْفِ ، وَلَا مِنَ الشَّرْعِ ، وَلَا مِنَ الْعَقْلِ ; لِأَنَّ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَةَ وَاقِعَةٌ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَمُجَرَّدُ لَفْظِ الثَّلَاثِ ، أَوْ طَلَاقُ الثَّلَاثِ ، أَوِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثِ ، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِصِدْقِ كُلِّ تِلْكَ الْعِبَارَاتِ عَلَى الثَّلَاثِ الْوَاقِعَةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا [ ص: 137 ] رَأَيْتَ ، وَنَحْنُ لَا نُفَرِّقُ فِي هَذَا بَيْنَ الْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ، وَلَا بَيْنَ زَمَنٍ وَزَمَنٍ ، وَإِنَّمَا نُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ نَوَى التَّأْكِيدَ ، وَمَنْ نَوَى التَّأْسِيسَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ ، وَنَقُولُ : الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ مَا فَعَلَهُ عُمَرُ إِنَّمَا هُوَ لِمَا عَلِمَ مِنْ كَثْرَةِ قَصْدِ التَّأْسِيسِ فِي زَمَنِهِ ، بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي الزَّمَنِ الَّذِي قَبْلَهُ قَصْدُ التَّأْكِيدِ هُوَ الْأَغْلَبَ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَتَغْيِيرُ مَعْنَى اللَّفْظِ لِتَغَيُّرِ قَصْدِ اللَّافِظِينَ بِهِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ ، فَقُوَّةُ هَذَا الْوَجْهِ وَاتِّجَاهُهُ وَجَرَيَانُهُ عَلَى اللُّغَةِ ، مَعَ عَدَمِ إِشْكَالٍ فِيهِ كَمَا تَرَى . وَبِالْجُمْلَةِ بِلَفْظِ رِوَايَةِ أَيُّوبَ الَّتِي أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : إِنَّهَا بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ مُطَابِقٍ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " ، الَّذِي فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى يَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا الثَّانِي كَمَا ذَاقَهَا الْأَوَّلُ . وَبِهِ تُعْرَفُ أَنَّ جَعْلَ الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُتَفَرِّقَةً فِي أَوْقَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ ، وَجَعْلَهَا فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ تَفْرِيقٌ لَا وَجْهَ لَهُ مَعَ اتِّحَادِ لَفْظِ الْمَتْنِ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ، وَمَعَ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِرَدِّ الثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ إِلَى وَاحِدَةٍ لَا يَجِدُونَ فَرْقًا فِي الْمَعْنَى بَيْنَ رِوَايَةِ أَيُّوبَ وَغَيْرِهَا مِنْ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ .
وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْقَائِلِينَ بِرَدِّ الثَّلَاثِ إِلَى وَاحِدَةٍ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الثَّلَاثِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَحَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّهَا مُجْتَمِعَةٌ أَوْ مُفَرَّقَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً فَحَدِيثُ عَائِشَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الثَّلَاثَ تُحَرِّمُهَا وَلَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فَلَا حُجَّةَ لَكُمْ أَصْلًا فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ; لِأَنَّ النِّزَاعَ فِي خُصُوصِ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ . أَمَّا جَعْلُكُمُ الثَّلَاثَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ مُفَرَّقَةً ، وَفِي حَدِيثِ طَاوُسٍ مُجْتَمِعَةً فَلَا وَجْهَ لَهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَا سِيَّمَا أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِهِ مُطَابِقٌ لَفْظُهُ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَ فَرْقًا بَيْنَ مَعَانِي أَلْفَاظِ رِوَايَاتِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً لَا مُتَفَرِّقَةً .
وَأَمَّا عَلَى كَوْنِ مَعْنَى حَدِيثِ طَاوُسٍ أَنَّ الثَّلَاثَ الَّتِي كَانَتْ تُجْعَلُ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ ، هِيَ الْمَجْمُوعَةُ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ عَلَى هَذَا يَتَعَيَّنُ النَّسْخُ كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ ، وَقَالَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ رَأَيْتَ النُّصُوصَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّسْخِ الَّتِي تُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِجَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، أَنَّهُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي كَانَ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ وَاحِدَةٍ وَثَلَاثٍ ، وَلَوْ مُتَفَرِّقَةً ; لِجَوَازِ الرَّجْعَةِ وَلَوْ بَعْدَ مِائَةِ تَطْلِيقَةٍ ، مُتَفَرِّقَةً كَانَتْ أَوْ لَا . وَأَنَّ الْمُرَادَ بِمَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ هُوَ مَنْ [ ص: 138 ] لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ ، وَفِي زَمَنِ عُمَرَ اشْتُهِرَ النَّسْخُ بَيْنَ الْجَمِيعِ . وَادِّعَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصِحُّ يَرُدُّهُ بِإِيضَاحٍ وُقُوعُ مِثْلِهِ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، فَإِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مُسْلِمًا رَوَى عَنْ جَابِرٍ أَنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَفِي بَعْضٍ مِنْ زَمَنِ عُمَرَ قَالَ : فَنَهَانَا عَنْهَا عُمَرُ . وَهَذِهِ الصُّورَةُ هِيَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَادِّعَاءُ إِمْكَانِ إِحْدَاهُمَا وَاسْتِحَالَةِ الْأُخْرَى فِي غَايَةِ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، رَوَى فِيهَا مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ صَحَابِيٍّ جَلِيلٍ ، أَنَّ مَسْأَلَةً تَتَعَلَّقُ بِالْفُرُوجِ كَانَتْ تُفْعَلُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عُمَرَ ، ثُمَّ غَيَّرَ حُكْمَهَا عُمَرُ ، وَالنَّسْخُ ثَابِتٌ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا . وَأَمَّا غَيْرُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ ; لِأَنَّ نِسْبَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَخَلْقٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَاءُوا بِمَا يُخَالِفُهُ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ عَمْدًا غَيْرُ لَائِقٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ .
وَقَدْ حَكَى غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَجْمَعُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى نُفُوذِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ الْمُدَّعِي لِهَذَا الْإِجْمَاعِ هُوَ الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ ، مَعَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ . وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ بْنِ الْعَرَبِيِّ الْقَائِلِ : بِأَنَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَذِبٌ بَحْتٌ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعْلَ الثَّلَاثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَاحِدَةً ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ عُمَرَ إِنَّمَا أَوْقَعَ عَلَيْهِمُ الثَّلَاثَ مُجْتَمِعَةً عُقُوبَةً لَهُمْ ، مَعَ أَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمُسْلِمُون َ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَالظَّاهِرُ عَدَمُ نُهُوضِهِ ; لِأَنَّ عُمَرَ لَا يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُحَرِّمَ فَرْجًا أَحَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبِيحُ ذَلِكَ الْفَرْجَ بِجَوَازِ الرَّجْعَةِ ، وَيَتَجَرَّأُ هُوَ عَلَى مَنْعِهِ بِالْبَيْنُونَة ِ الْكُبْرَى ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [ 95 \ 7 ] ، وَيَقُولُ : آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ 01 \ 95 ] ، وَيَقُولُ : أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [ 24 \ 12 ] .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ فِي عُقُوبَةِ مَنْ فَعَلَ مَا لَا يَجُوزُ مِنَ الطَّلَاقِ هُوَ التَّعْزِيرُ الشَّرْعِيُّ الْمَعْرُوفُ ، كَالضَّرْبِ . أَمَّا تَحْرِيمُ الْمُبَاحِ مِنَ الْفُرُوجِ فَلَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرَاتِ ; لِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى حُرْمَتِهِ عَلَى مَنْ أَحَلَّهُ اللَّهُ لَهُ وَإِبَاحَتُهُ لِمَنْ حَرَّمُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ أُكْرِهَ عَلَى إِبَانَتِهَا [ ص: 139 ] وَهِيَ غَيْرُ بَائِنٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ زَوْجَهَا لَمْ يُبِنْهَا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ وَفَتْوَاهُ لَا يُحِلُّ الْحَرَامَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ أَمِّ سَلَمَةَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَإِنَّ فِيهِ : " فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ فَلَا يَأْخُذْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا ، فَكَأَنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ " وَيُشِيرُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [ 33 ] ; لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكْهَا اخْتِيَارًا لِقَضَائِهِ وَطَرَهُ مِنْهَا مَا حَلَّتْ لِغَيْرِهِ .
وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " مَا نَصُّهُ : وَفِي الْجُمْلَةِ فَالَّذِي وَقَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرُ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتْعَةِ سَوَاءٌ ، أَعْنِيَ قَوْلَ جَابِرٍ ، إِنَّهَا كَانَتْ تُفْعَلُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَبِي بَكْرٍ ، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ ، قَالَ : ثُمَّ نَهَانَا عُمَرُ عَنْهَا فَانْتَهَيْنَا ، فَالرَّاجِحُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ تَحْرِيمُ الْمُتْعَةِ وَإِيقَاعُ الثَّلَاثِ لِلْإِجْمَاعِ الَّذِي انْعَقَدَ فِي عَهْدِ عُمَرَ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَا يُحْفَظُ أَنَّ أَحَدًا فِي عَهْدِ عُمَرَ خَالَفَهُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَقَدْ دَلَّ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُودِ نَاسِخٍ وَإِنْ كَانَ خَفِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى ظَهَرَ لِجَمِيعِهِمْ فِي عَهْدِ عُمَرَ ، فَالْمُخَالِفُ بَعْدَ هَذَا الْإِجْمَاعِ مِنَّا بِذِلَّةٍ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ مَنْ أَحْدَثَ الِاخْتِلَافَ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ . اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
ابو وليد البحيرى
2020-07-29, 04:17 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (18)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (17)
وَحَاصِلُ خُلَاصَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْبَحْثَ فِيهَا مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ : الْأُولَى : مِنْ جِهَةِ دَلَالَةِ النَّصِّ الْقَوْلِيِّ أَوِ الْفِعْلِيِّ الصَّرِيحِ .
الثَّانِيَةُ : مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ ، وَالْأُصُولِ .
الثَّالِثَةُ : مِنْ جِهَةِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا ، أَمَّا أَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ وَأَتْبَاعَهُمْ ، وَجُلَّ الصَّحَابَةِ ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى نُفُوذِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَادَّعَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ نَصٍّ صَرِيحٍ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِعْلِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ مِنْ لَفْظِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنْ فِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى جَعْلِ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً ، وَقَدْ مَرَّ لَكَ أَنْ أَثْبَتَ مَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ طَلَاقِ رُكَانَةَ أَنَّهُ بِلَفْظِ الْبَتَّةَ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ حَلَّفَهُ مَا أَرَادَ إِلَّا وَاحِدَةً ، وَلَوْ كَانَ لَا يَلْزَمُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لَمَا كَانَ لِتَحْلِيفِهِ مَعْنًى . وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِي ِّ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقْتُهَا ثَلَاثًا أَكَانَ يَحِلُّ لِي أَنْ أُرَاجِعَهَا ؟ قَالَ : " لَا ، كَانَتْ تَبِينُ مِنْكَ ، وَتَكُونُ مَعْصِيَةً " .
[ ص: 140 ] وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيّ َ ، وَشُعَيْبَ بْنَ زُرَيْقٍ الشَّامِيَّ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عَطَاءً الْمَذْكُورَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ ، وَأَنَّ شُعَيْبًا الْمَذْكُورَ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ يُخْطِئُ ، وَأَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا يُعْتَضَدُ بِمَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي " الصَّحِيحِ " مِنْ أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهَا ثَلَاثًا فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ ، وَعَصِيتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ .
وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ الْحَاكِمِ : إِنَّهُ مَرْفُوعٌ وَيُعْتَضَدُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ ; لِتَحْلِيفِهِ رُكَانَةَ وَبِحَدِيثِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْمُتَقَدِّمِ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ وَالطَّبَرَانِي ِّ ، وَبِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ ، فِي لِعَانِ عُوَيْمِرٍ وَزَوْجِهِ ، وَلَا سِيَّمَا رِوَايَةَ فَأَنْفَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي الثَّلَاثَ الْمُجْتَمِعَةَ وَبِبَقِيَّةِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَقَدِّمَة ِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ كَثْرَةَ طُرُقِهَا وَاخْتِلَافَ مَنَازِعِهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا وَأَنْ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا فَيَصْلُحُ الْمَجْمُوعُ لِلِاحْتِجَاجِ . وَلَا سِيَّمَا أَنْ بَعْضَهَا صَحَّحَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَحَسَّنَهُ بَعْضُهُمْ ، كَحَدِيثِ رُكَانَةَ الْمُتَقَدِّمِ . وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ حَدِيثَ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى تَقْدِيرِ ثُبُوتِهِ ، فَإِذَا حَقَّقْتَ أَنَّ الْمُرْوَيَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ يَدُلُّ إِلَّا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ مُجْتَمِعَةً ، فَاعْلَمْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً وَاحِدَةً ; لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ آيَةُ ذِكْرِ الثَّلَاثِ الْمُجْتَمِعَةِ ، وَأَحْرَى آيَةٍ تُصَرِّحُ بِعَدَمِ لُزُومِهَا .
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ النَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا عَلَى وُقُوعِ الثَّلَاثِ دُفْعَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [ 65 \ 1 ] ، قَالُوا مَعْنَاهُ : أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَدْ يَحْدُثُ لَهُ نَدَمٌ فَلَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ ; لِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ فَلَوْ كَانَتِ الثَّلَاثُ لَا تَقَعُ ، لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ إِلَّا رَجْعِيًّا ، فَلَا يَنْدَمُ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا ثَبَتَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّهَا تَلْزَمُ مُجْتَمِعَةً ، وَأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا ، فَاتَّضَحَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي صَرِيحِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِعْلِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ الثَّلَاثِ .
أَمَّا مِنْ جِهَةِ صِنَاعَةِ عِلْمِ الْحَدِيثِ ، وَالْأُصُولِ ، فَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ; لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ كَانَ يُفْعَلُ كَذَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّ ينَ .
وَقَدْ عَلِمْتَ أَوْجُهَ الْجَوَابِ عَنْهُ بِإِيضَاحٍ . وَرَأَيْتَ الرِّوَايَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِنَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ [ ص: 141 ] بَعْدَ " لِثَلَاثٍ " ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ جَمِيعَ رِوَايَاتِ حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الطَّلْقَاتِ الثَّلَاثَ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ بَعْضَ رِوَايَاتِهِ مُوَافِقَةٌ لِلَفْظِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ ، وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثَ مَجْمُوعَةٌ فَحَدِيثُ عَائِشَةَ أَصَحُّ ، وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ تِلْكَ الْمُطَلَّقَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ . وَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهَا بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، فَلَا دَلِيلَ إِذَنْ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَإِنْ قِيلَ : أَنْتُمْ تَارَةً تَقُولُونَ : إِنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْسُوخٌ ، وَتَارَةً تَقُولُونَ : لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، بَلْ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِنَا : أَنَّ الطَّلَقَاتِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ لَا يَتَعَيَّنُ كَوْنُهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، فَجَعْلُهَا وَاحِدَةً مَنْسُوخٌ هَذَا هُوَ مَا ظَهَرَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ وَنِسْبَةُ الْعَلَمِ إِلَيْهِ أَسْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ لَمْ يُبَيِّنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا فِي غَيْرِهَا مِنْ آيَاتِ الطَّلَاقِ حِكْمَةَ كَوْنِ الطَّلَاقِ بِيَدِ الرَّجُلِ دُونَ إِذْنِ الْمَرْأَةِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ حَقْلٌ تُزْرَعُ فِيهِ النُّطْفَةُ كَمَا يُزْرَعُ الْبَذْرُ فِي الْأَرْضِ ، وَمَنْ رَأَى أَنَّ حَقْلَهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلزِّرَاعَةِ فَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي أَنْ لَا يُرْغَمَ عَلَى الِازْدِرَاعِ فِيهِ ، وَأَنْ يَتْرُكَ وَشَأْنُهُ ; لِيَخْتَارَ حَقْلًا صَالِحًا لِزِرَاعَتِهِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ [ 2 \ 223 ] ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، فَإِنْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَحِلُّ لَهُ الرُّجُوعُ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى زَوْجَتَهُ ، إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْخُلْعِ ، إِذَا خَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ، فِيمَا بَيْنَهُمَا ، فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا إِذَنْ فِي الْخُلْعِ . أَيْ : لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا هِيَ فِي الدَّفْعِ ، وَلَا عَلَيْهِ هُوَ فِي الْأَخْذِ .
وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِالنَّهْيِ عَنِ الرُّجُوعِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَعْطَى الْأَزْوَاجُ زَوْجَاتِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْطَى قِنْطَارًا وَبَيَّنَ أَنَّ أَخْذَهُ بُهْتَانٌ وَإِثْمٌ مُبِينٌ ، وَبَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُ هُوَ أَنَّهُ أَفْضَى إِلَيْهَا بِالْجِمَاعِ . وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [ 4 \ 20 ، 21 ] .
وَبَيِّنَ [ ص: 142 ] فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ مِنَ الْمَرْأَةِ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [ 4 \ 4 ] . وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ [ 4 \ 24 ] .
تَنْبِيهٌ
أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَا يُعَدُّ طَلَاقًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخُلْعَ بِقَوْلِهِ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ 2 \ 229 ] ; لَمْ يَعْتَبِرْهُ طَلَاقًا ثَالِثًا ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ بِقَوْلِهِ : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ [ 2 \ 230 ] .
وَبِهَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ ، وَطَاوُسٍ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَابْنِ عُمَرَ ، وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَدَ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَا يُعَدُّ طَلَاقًا لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي ; لِمَا تَقَدَّمَ مَرْفُوعًا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ، وَهُوَ مُرْسَلٌ حَسَنٌ .
قَالَ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " : وَالْأَخْذُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَوْلَى ، فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ حَسَنٌ يَعْتَضِدُ بِمَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ ، قَالَ : " إِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي الثَّالِثَةِ ، فَإِمَّا أَنْ يُمْسِكَهَا فَيُحْسِنَ صُحْبَتَهَا ، أَوْ يُسَرِّحَهَا فَلَا يَظْلِمَهَا مِنْ حَقِّهَا شَيْئًا " .
وَعَلَيْهِ فَفِرَاقُ الْخُلْعِ الْمَذْكُورُ لَمْ يُرَدْ مِنْهُ إِلَّا بَيَانُ مَشْرُوعِيَّةِ الْخُلْعِ عِنْدَ خَوْفِهِمَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ ذُكِرَ بَعْدَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ . وَقَوْلُهُ : فَإِنْ طَلَّقَهَا إِنَّمَا كَرَّرَهُ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ، الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ : فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ الْآيَةَ . وَلَوْ فَرَّعْنَا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [ 2 \ 229 ] ، يُرَادُ بِهِ عَدَمُ الرَّجْعَةِ ، وَأَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ : فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ الْآيَةَ [ 2 \ 230 ] ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا عَدَمُ عَدِّ الْخُلْعُ طَلَاقًا ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخُلْعَ فِي مَعْرِضِ مَنْعِ الرُّجُوعِ فِيمَا يُعْطَاهُ الْأَزْوَاجُ . فَاسْتَثْنَى مِنْهُ صُورَةً جَائِزَةً ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عَدَمُ اعْتِبَارِهَا [ ص: 143 ] طَلَاقًا ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْخُلْعَ يُعَدُّ طَلَاقًا بَائِنًا مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ، وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَالْحَسَنُ ، وَعَطَاءٌ ، وَشُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَأَبُو عُثْمَانَ الْبَتِّيُّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ .
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مَتَى نَوَى الْمُخَالِعُ بِخُلْعِهِ تَطْلِيقَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ ، أَوْ أَطْلَقَ فَهُوَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ، وَإِنْ نَوَى ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ ، وَلِلشَّافِعِيّ ِ قَوْلٌ آخَرُ فِي الْخُلْعِ وَهُوَ : أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَعُرِّيَ عَنِ النِّيَّةِ فَلَيْسَ هُوَ بِشَيْءٍ بِالْكُلِّيَّةِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
وَمِمَّا احْتَجَّ بِهِ أَهْلُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَهْمَانَ مَوْلَى الْأَسْلَمِيِّي نَ ، عَنْ أُمِّ بَكْرٍ الْأَسْلَمِيَّة ِ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَبْدِ اللَّهِ خَالِدِ بْنِ أُسَيْدٍ ، فَأَتَيَا عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَطْلِيقَةٌ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ سَمَّيْتَ شَيْئًا فَهُوَ مَا سَمَّيْتَ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَلَا أَعْرِفُ جَهْمَانَ ، وَكَذَا ضَعَّفَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ هَذَا الْأَثَرَ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ ، وَتُكَلِّمُ فِيهِ بِأَنَّ فِي سَنَدِهِ ابْنَ أَبِي لَيْلَى ، وَأَنَّهُ سَيْئُ الْحِفْظِ ، وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَضَعَّفَهُ ابْنُ حَزْمٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
فَرَوْعٌ :
الْأَوَّلُ : ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخُلْعَ يَجُوزُ بِأَكْثَرَ مِنَ الصَّدَاقِ ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ بِمَا الْمَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ 2 \ 229 ] ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِّمَوْصُولَات ِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ; لِأَنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ صَلَاتُهَا كَمَا عَقَدَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
صِيَغُهُ كُلُّ أَوِ 2 ( 212 ) الْجَمِيعُ وَقَدْ تَلَا الَّذِي الَّتِي الْفُرُوعُ
وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ : وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَادِيَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا .
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ .
[ ص: 144 ] وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ ، أَخْبَرْنَا أَيُّوبُ عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ : أَنَّ عُمَرَ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ نَاشِزٍ فَأَمَرَ بِهَا إِلَى بَيْتِ كَثِيرِ الزِّبْلِ ، ثُمَّ دَعَاهَا فَقَالَ : كَيْفَ وَجَدْتِ ؟ فَقَالَتْ : مَا وَجَدْتُ رَاحَةً مُنْذُ كُنْتُ عِنْدَهُ إِلَّا هَذِهِ اللَّيْلَةَ الَّتِي كُنْتَ حَبَسْتَنِي . فَقَالَ لِزَوْجِهَا : اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمِرٍ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى ابْنِ سَمُرَةَ فَذَكَرَ مِثْلَهُ ، وَزَادَ فَحَبَسَهَا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عُرُوبَةَ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَشَكَتْ زَوْجَهَا فَأَبَاتَهَا فِي بَيْتِ الزِّبْلِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ قَالَ لَهَا : كَيْفَ وَجَدَتْ مَكَانَكَ ؟ قَالَتْ : مَا كُنْتُ عِنْدَهُ لَيْلَةً أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ هَذِهِ اللَّيْلَةِ . فَقَالَ : خُذْ وَلَوْ عِقَاصَهَا .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْخُلْعَ دُونَ عِقَاصِ رَأْسِهَا .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ : أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ : أَنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ حَدَّثَتْهُ قَالَتْ : كَانَ لِي زَوْجٌ يَقِلُّ عَلَيَّ الْخَيْرَ إِذَا حَضَرَنِي ، وَيَحْرِمُنِي إِذَا غَابَ ، قَالَتْ : فَكَانَتْ مِنِّي زَلَّةٌ يَوْمًا ، فَقُلْتُ لَهُ : أَخْتَلِعُ مِنْكَ بِكُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَتْ : فَفَعَلَتْ ، قَالَتْ : فَخَاصَمَ عَمِّي مُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجَازَ الْخُلْعَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِقَاصَ رَأْسِي ، فَمَا دُونَهُ ، أَوْ قَالَتْ مَا دُونُ عِقَاصِ الرَّأْسِ .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا كُلُّ مَا بِيَدِهَا مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَلَا يَتْرُكُ لَهَا سِوَى عِقَاصِ شِعْرِهَا ، وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخْعِيُّ ، وَقَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ ، وَالْحُسْنُ بْنُ صَالِحٍ ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ .
وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَاللَّيْثِ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ . وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ إِنْ كَانَ الْإِضْرَارُ مِنْ قِبَلِهَا جَازَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا أَعْطَاهَا ، وَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، فَإِنِ ازْدَادَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْإِضْرَارُ مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا ، فَإِنْ أَخَذَ جَازَ فِي الْقَضَاءِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ ، وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ .
[ ص: 145 ] وَقَالَ مَعْمَرٌ وَالْحَكَمُ : كَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ : لَا يَأْخُذُ مِنَ الْمُخْتَلِعَةِ فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا . وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : الْقُضَاةُ لَا يُجِيزُونَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا سَاقَ إِلَيْهَا ، قُلْتُ : وَيُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ رِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا الْحَدِيقَةَ وَلَا يَزْدَادَ ، وَبِمَا رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ حَيْثُ قَالَ : أَخْبَرَنَا قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عَطَاءٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا ، يَعْنِي : الْمُخْتَلِعَةَ ، وَحَمَلُوا مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ، أَيْ : مِنَ الَّذِي أَعْطَاهَا ; لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ : وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [ 2 \ 229 ] ، أَيْ : مِنْ ذَلِكَ وَهَكَذَا كَانَ يَقْرَؤُهَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ مِنْهُ ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ 2 \ 229 ] . اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِهِ .
الْفَرْعُ الثَّانِي : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ : فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ إِنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ ، كَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ مِنْهُمْ : مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمَا ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَبِهِ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ ، وَعُرْوَةُ ، وَسَالِمٌ ، وَأَبُو سَلَمَةَ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَالْحَسَنُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَأَبُو عِيَاضٍ ، وَخِلَاسُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقَتَادَةُ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَأَبُو الْعُبَيْدِ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَمَأْخَذُهُمْ فِي هَذَا : أَنَّ الْخُلْعَ طَلَاقٌ فَتُعْتَدُّ كَسَائِرِ الْمُطَلَّقَاتِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
ابو وليد البحيرى
2020-07-29, 04:18 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (19)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (18)
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَكَوْنُ الْخُلْعِ طَلَاقًا ظَاهِرٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَبْذُولَ لِلزَّوْجِ مِنْ جِهَتِهَا إِنَّمَا بَذَلَتْهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَمْلِكُهُ الزَّوْجُ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ ; لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لَهَا فِرَاقًا شَرْعًا إِلَّا بِالطَّلَاقِ ، فَالْعِوَضُ فِي مُقَابَلَتِهِ . وَيَدُلُّ لَهُ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي قِصَّةِ مُخَالَعَةِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ زَوْجَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ، أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ مِنْ خُلُقٍ وَلَا دِينٍ ، وَلَكِنِّي [ ص: 146 ] أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ " قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " فَإِنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِوَضَ مَبْذُولٌ فِي الطَّلَاقِ الَّذِي هُوَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ عَقِبَ سَوْقِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ .
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : لَا يُتَابَعُ فِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . لَا يُسْقِطُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ ; لِأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّ أَزْهَرَ بْنَ جَمِيلٍ لَا يُتَابِعُهُ غَيْرُهُ فِي ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، بَلْ أَرْسَلَهُ غَيْرُهُ وَمُرَادُهُ بِذَلِكَ : خُصُوصُ طَرِيقِ خَالِدِ الْحَذَّاءِ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، وَلِهَذَا عَقَّبَهُ بِرِوَايَةِ خَالِدٍ وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ عَنْ خَالِدٍ ، وَهُوَ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا ، ثُمَّ بِرِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ مُرْسَلًا ، وَعَنْ أَيُّوبَ مَوْصُولًا . وَرِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ الْمَوْصُولَةُ ، وَصَلَهَا الْإِسْمَاعِيلِ يُّ ، قَالَهُ الْحَافِظُ فِي " الْفَتْحِ " ، فَظَهَرَ اعْتِضَادُ الطُّرُقِ الْمُرْسَلَةِ بَعْضِهَا بِبِضْعٍ ، وَبِالطُّرُقِ الْمَوْصُولَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ أَيُّوبَ الْمَوْصُولَةِ وَأَمَرَهُ فَفَارَقَهَا يَظْهَرُ فِيهَا أَنَّ مُرَادَهُ بِالْفِرَاقِ الطَّلَاقُ فِي مُقَابَلَةِ الْعِوَضِ ; بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى بِذِكْرِ التَّطْلِيقَةِ ، وَالرِّوَايَاتُ بَعْضُهَا يُفَسِّرُ بَعْضًا ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ .
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ الْمُخَالِعَ إِذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فَسْخًا فَهُوَ بَعِيدٌ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ . وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُفَارَقَةَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ طَلَاقٌ لَا فَسْخٌ . وَالِاسْتِدْلَا لُ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ بِإِيجَابِ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فِي عِدَّةِ الْمُخْتَلِعَةِ فِيهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُخْتَلِعَةَ تَعْتَدُّ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ الْفَسْخِ وَالِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةٍ ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَهُوَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ : إِنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ لَا طَلَاقٌ ، وَيَقُولُ فِي أَشْهَرَ الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ أَيْضًا : إِنَّ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَالْمُطَلَّقَة ِ ، فَظَهَرَ عَدَمُ الْمُلَازَمَةِ عِنْدَهُ ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِعَ إِذَا صَرَّحَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَانَ طَلَاقًا ، وَلَكِنْ إِذَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالطَّلَاقِ فِي الْخُلْعِ فَلَا يَكُونُ الْخُلْعُ طَلَاقًا ، فَالْجَوَابُ : أَنَّ مُرَادَنَا بِالِاسْتِدْلَا لِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً " : أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ [ ص: 147 ] مِنْ قِبَلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ عِوَضُ الْمَالِ إِذْ لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مِنَ الْفِرَاقِ غَيْرَ الطَّلَاقِ . فَالْعِوَضُ مَدْفُوعٌ لَهُ عَمَّا يَمْلِكُهُ كَمَا يَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ دَلَالَةً وَاضِحَةً .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : تَعْتَدُّ الْمُخْتَلِعَةُ بِحَيْضَةٍ ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَالرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ ، وَعَمِّهَا ، وَهُوَ صَحَابِيٌّ وَأَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ ، وَالطَّبَرَانِي ُّ مَرْفُوعًا وَالظَّاهِرُ أَنَّ بَعْضَ أَسَانِيدِهِ أَقَلُّ دَرَجَاتِهَا الْقَبُولُ ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْحَدِيثِ بِذَلِكَ فَلَا كَلَامَ . وَلَوْ خَالَفَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَدَمَ الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ كَوْنِهِ فَسْخًا ، وَبَيْنَ الِاعْتِدَادِ بِحَيْضَةٍ فَالِاسْتِدْلَا لُ بِهِ عَلَيْهِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ، وَمَا وَجَّهَهُ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْعِدَّةَ إِنَّمَا جُعِلَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ لِيُطَوِّلَ زَمَنَ الرَّجْعَةِ وَيَتَرَوَّى الزَّوْجُ وَيَتَمَكَّنَ مِنَ الرَّجْعَةِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ فَالْمَقْصُودُ مُجَرَّدُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا مِنَ الْحَمْلِ . وَذَلِكَ يَكْفِي فِيهِ حَيْضَةٌ كَالِاسْتِبْرَا ءِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ أَيْضًا ; لِأَنَّ حِكْمَةَ جَعْلِ الْعِدَّةِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي تَطْوِيلِ زَمَنِ الرَّجْعَةِ ، بَلِ الْغَرَضُ الْأَعْظَمُ مِنْهَا : الِاحْتِيَاطُ لِمَاءِ الْمُطَلِّقِ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ بِتَكَرُّرِ الْحَيْضِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، أَنَّ الرَّحِمَ لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى حَمْلٍ مِنْهُ . وَدَلَالَةُ ثَلَاثِ حِيَضٍ عَلَى ذَلِكَ أَبْلَغَ مِنْ دَلَالَةِ حَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ لَا رَجْعَةَ بَعْدَهَا إِجْمَاعًا .
فَلَوْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ مَا ذُكِرَ لَكَانَتِ الْعِدَّةُ مِنَ الطَّلْقَةِ الثَّالِثَةِ حَيْضَةً وَاحِدَةً ، وَمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ بَابَ الطَّلَاقِ جُعِلَ حُكْمُهُ وَاحِدًا فَجَوَابُهُ أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ وَاحِدًا إِلَّا لِأَنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ وَاحِدَةٌ ، وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُطَلِّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا عِدَّةَ لَهُ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ إِجْمَاعًا ، بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [ 33 \ 49 ] ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يَنْدَمُ عَلَى الطَّلَاقِ كَمَا يَنْدَمُ الْمُطَلِّقُ بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَلَوْ كَانَتِ الْحِكْمَةُ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ مُجَرَّدَ تَمْكِينِ الزَّوْجِ مِنَ الرَّجْعَةِ ، لَكَانَتِ الْعِدَّةُ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَلَمَّا كَانَتِ الْحِكْمَةُ الْكُبْرَى فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ هِيَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ مِنْ مَاءِ الْمُطَلِّقِ ; صِيَانَةً لِلْأَنْسَابِ ، كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا عِدَّةَ فِيهِ أَصْلًا ; لِأَنَّ الرَّحِمَ لَمْ يَعْلَقْ بِهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءِ الْمُطَلِّقِ حَتَّى تَطْلُبَ بَرَاءَتَهَا مِنْهُ بِالْعِدَّةِ ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا وَجْهُ اعْتِدَادِ الْمُخْتَلِعَةِ بِحَيْضَةٍ ؟ قُلْنَا : إِنْ كَانَ ثَابِتًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالطَّبَرَانِي ُّ فَهُوَ تَفْرِيقٌ مِنَ الشَّارِعِ بَيْنَ الْفِرَاقِ الْمَبْذُولِ فِيهِ عِوَضٌ ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي قَدْرِ الْعِدَّةِ ، وَلَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ . كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ الْمَوْتِ قَبْلَ [ ص: 148 ] الدُّخُولِ فَأَوْجَبَ فِيهِ عِدَّةَ الْوَفَاةِ . وَبَيْنَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَمْ يُوجِبْ فِيهِ عِدَّةً أَصْلًا ، مَعَ أَنَّ الْكُلَّ فِرَاقٌ قَبْلَ الدُّخُولِ . وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِرَاقِ بَعِوَضٍ ، وَالْفِرَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ظَاهِرٌ فِي الْجُمْلَةِ ، فَلَا رَجْعَةَ فِي الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الثَّانِي .
الْفَرْعُ الثَّالِثُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُخَالَعَةِ هَلْ يَلْحَقُهَا طَلَاقٌ مِنْ خَالِعِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ ; لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا وَبَانَتْ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ الْخُلْعِ ، وَبِهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعِكْرِمَةَ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلَ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إِنْ أَتْبَعَ الْخُلْعَ طَلَاقًا مِنْ غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَهُمَا وَقَعَ ، وَإِنْ سَكَتَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَقَعْ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَهَذَا يُشْبِهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِهِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِي ِّ ، وَبِهِ يَقُولُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَشُرَيْحٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَلَيْسَ ذَلِكَ بِثَابِتٍ عَنْهُمَا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ بِحَسْبِ النَّظَرِ أَبْعَدُ الْأَقْوَالِ ; لِأَنَّ الْمُخَالَعَةَ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ صِيغَةِ الْخُلْعِ تَبِينُ مِنْهُ ، وَالْبَائِنُ أَجْنَبِيَّةٌ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقٌ ; لِأَنَّهُ لَا طَلَاقَ لِأَحَدٍ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْفَرْعُ الرَّابِعُ : لَيْسَ لِلْمُخَالِعِ أَنْ يُرَاجِعَ الْمُخْتَلِعَةَ فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا عِنْدَ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكَتْ نَفْسَهَا بِمَا بَذَلَتْ لَهُ مِنَ الْعَطَاءِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، وَمَاهَانَ الْحَنَفِيِّ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا : إِنَّ رَدَّ إِلَيْهَا الَّذِي أَعْطَتْهُ جَازَ لَهُ رَجْعَتُهَا فِي الْعِدَّةِ بِغَيْرِ رِضَاهَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي ثَوْرٍ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : إِنْ كَانَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَهُوَ فُرْقَةٌ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ سَمَّى طَلَاقًا فَهُوَ أَمْلَكُ لَرَجْعَتِهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ، وَبِهِ يَقُولُ دَاوُدُ بْنُ [ ص: 149 ] عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ . اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ .
الْفَرْعُ الْخَامِسُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْمُخْتَلِعِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فِي الْعِدَّةِ ، وَمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَنَّهُمْ مَنَعُوا تَزْوِيجَهَا لِمَنْ خَالَعَهَا ، كَمَا يَمْنَعُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ بِحَالٍ . كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ الْآيَةَ ، ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [ 2 \ 236 ] ، انْقِضَاءُ عِدَّتِهِنَّ بِالْفِعْلِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لَا رَجْعَةَ إِلَّا فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ خَاصَّةً ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَبُعُولَتُهُنّ َ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ [ 2 \ 228 ] ; لِأَنَّ الْإِشَارَةَ فِي قَوْلِهِ : ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إِلَى زَمَنِ الْعِدَّةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ [ 2 \ 228 ] . فَاتَّضَحَ مِنْ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَى فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ . أَيْ : قَارَبْنَ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ ، وَأَشْرَفْنَ عَلَى بُلُوغِ أَجَلِهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا الْآيَةَ . صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِالنَّهْيِ عَنْ إِمْسَاكِ الْمَرْأَةِ مُضَارَّةً لَهَا ; لِأَجْلِ الْاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا بِأَخْذِهِ مَا أَعْطَاهَا ; لِأَنَّهَا إِذَا طَالَ عَلَيْهَا الْإِضْرَارُ افْتَدَتْ مِنْهُ ; ابْتِغَاءَ السَّلَامَةِ مِنْ ضَرَرِهِ . وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهَا إِذَا أَتَتْ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ جَازَ لَهُ عَضْلُهَا ، حَتَّى تَفْتَدِيَ مِنْهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [ 4 \ 19 ] ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْفَاحِشَةِ الْمُبَيِّنَةِ .
فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ هِيَ : الزِّنَا ، وَقَالَ قَوْمٌ هِيَ : النُّشُوزُ وَالْعِصْيَانُ وَبَذَاءُ اللِّسَانِ . وَالظَّاهِرُ شُمُولُ الْآيَةِ لِلْكُلِّ كَمَا اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : إِنَّهُ جَيِّدٌ ، فَإِذَا زَنَتْ أَوْ أَسَاءَتْ بِلِسَانِهَا ، أَوْ نَشَزَتْ جَازَتْ مُضَاجَرَتُهَا ; لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَا أَعْطَاهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ . ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ لِوَلَدِهِ مُرْضِعَةً غَيْرَ أُمِّهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، إِذَا سَلَّمَ الْأُجْرَةَ الْمُعَيَّنَةَ فِي الْعَقْدِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْوَجْهَ الْمُوجِبَ لِذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [ 65 \ 6 ] ، وَالْمُرَادُ بِتَعَاسُرِهِمْ : امْتِنَاعُ الرَّجُلِ مِنْ دَفْعِ مَا تَطْلُبُهُ الْمَرْأَةُ ، وَامْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبُولِ الْإِرْضَاعِ بِمَا [ ص: 150 ] يَبْذُلُهُ الرَّجُلُ وَيَرْضَى بِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ مُتَوَفَّى عَنْهَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ مَحَلَّ ذَلِكَ مَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا ، فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا كَانَتْ عِدَّتُهَا وَضْعَ حَمْلِهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [ 65 \ 4 ] ، وَيَزِيدُهُ إِيضَاحًا مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ إِذْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّة َ فِي الزَّوَاجِ بِوَضْعِ حَمْلِهَا بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِأَيَّامٍ ، وَكَوْنُ عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا بِوَضْعِ حَمْلِهَا هُوَ الْحَقُّ ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : تَعْتَدُّ بِأَقْصَى الْأَجَلَيْنِ . وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
تَنْبِيهَانِ
الْأَوَّلُ : هَاتَانِ الْآيَتَانِ ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَقَوْلَهُ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مِنْ بَابِ تَعَارُضِ الْأَعَمَّيْنِ مِنْ وَجْهٍ ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا ، وَالرَّاجِحُ مِنْهُمَا يُخَصَّصُ بِهِ عُمُومُ الْمَرْجُوحِ كَمَا عَقَدَهُ فِي " الْمَرَاقِي " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ] وَإِنْ يَكِ الْعُمُومُ مِنْ وَجْهٍ ظَهَرْ فَالْحُكْمُ بِالتَّرْجِيحِ حَتْمًا مُعْتَبَرْ
وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ أَنَّ عُمُومَ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ مُخَصَّصٌ لِعُمُومِ : وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ الْآيَةَ . مَعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْأُصُولِيِّين َ ذَكَرُوا أَنَّ الْجُمُوعَ الْمُنْكَرَةَ لَا عُمُومَ لَهَا ، وَعَلَيْهِ فَلَا عُمُومَ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا جَمْعُ مُنْكَرٍ فَلَا يَعُمُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ ، فَإِنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مُعَرَّفٍ بِأَلْ ، وَالْمُضَافُ إِلَى الْمُعَرَّفِ بِهَا مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ ، كَمَا عَقَدَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ : [ الرَّجَزِ ]
. . . . . . . . وَمَا مُعَرَّفًا بِأَلْ قَدْ وُجِدَا أَوْ بِإِضَافَةٍ إِلَى مُعَرَّفٍ
إِذَا تَحَقَّقَ الْخُصُوصُ قَدْ نَفَى
الثَّانِي : الضَّمِيرُ الرَّابِطُ لِلْجُمْلَةِ بِالْمَوْصُولِ مَحْذُوفٌ ; لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ أَيْ : وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُوَنَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بَعْدَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَقَوْلِ الْعَرَبِ : [ ص: 151 ] السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ ، أَيْ : مَنَوَانِ مِنْهُ بِدِرْهَمٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُتْعَةَ حَقٌّ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ عَلَى مُطَلَّقِهَا الْمُتَّقِي ، سَوَاءٌ أَطُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ لَا ؟ فَرَضَ لَهَا صَدَاقٌ أَمْ لَا ؟ وَيَدُلُّ لِهَذَا الْعُمُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنّ َ سَرَاحًا جَمِيلًا [ 33 \ 21 ] ، مَعَ قَوْلِهِ : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [ 33 \ 21 ] ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُمُّ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأَمَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى الْخُصُوصِ كَمَا عَقَدَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ]
وَمَا بِهِ قَدْ خُوطِبَ النَّبِيُّ تَعْمِيمُهُ فِي الْمَذْهَبِ السُّنِّيِّ
وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ الْقَائِلِ بِخُصُوصِهِ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى الْعُمُومِ ، كَمَا بَيَّنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ : أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ مَفْرُوضٌ لَهُنَّ وَمَدْخُولٌ بِهِنَّ ، وَقَدْ يُفْهَمُ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْمُتْعَةَ لِخُصُوصِ الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَفَرْضِ الصَّدَاقِ مَعًا ; لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَ الدُّخُولِ تَسْتَحِقُّ الصَّدَاقَ ، وَالْمُطَلَّقَة ُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ فَرْضِ الصَّدَاقِ تَسْتَحِقُّ نِصْفَ الصَّدَاقِ . وَالْمُطَلَّقَة ُ قَبْلَهُمَا لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا ، فَالْمُتْعَةُ لَهَا خَاصَّةً لِجَبْرِ كَسْرِهَا وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ [ 2 \ 236 ] ، ثُمَّ قَالَ : وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [ 2 \ 237 ] ، فَهَذِهِ الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ مَعْقُولٌ .
وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالْمُتْعَةِ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ مَفْرُوضًا لَهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُن َّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [ 33 \ 49 ] ; لِأَنَّ ظَاهِرَ عُمُومِهَا يَشْمَلُ الْمَفْرُوضَ لَهَا الصَّدَاقُ وَغَيْرَهَا ، وَبِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْأَحْوَطُ الْأَخْذُ بِالْعُمُومِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى الْأَمْرِ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّالِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَعَقَدَهُ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزِ ] [ ص: 152 ]
وَنَاقِلٌ وَمُثْبِتٌ وَالْآمِرُ بَعْدَ النَّوَاهِي ثُمَّ هَذَا الْآخَرِ
عَلَى إِبَاحَةٍ إِلَخْ . . .
فَقَوْلُهُ ثُمَّ هَذَا الْآخَرُ عَلَى إِبَاحَةِ ، يَعْنِي : أَنَّ النَّصَّ الدَّالَّ عَلَى أَمْرٍ مُقَدَّمٍ عَلَى النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى إِبَاحَةٍ ، لِلِاحْتِيَاطِ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَدْرَ الْمُتْعَةِ لَا تَحْدِيدَ فِيهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ، فَإِنْ تَوَافَقَا عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، وَإِنِ اخْتَلَفَا فَالْحَاكِمُ يَجْتَهِدُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ ، فَيُعَيِّنُ الْقَدْرَ عَلَى ضَوْءِ قَوْلِهِ تَعَالَى : عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ الْآيَةَ ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ : وَمَتِّعُوهُنَّ ، وَقَوْلُهُ : وَلِلْمُطَلَّقَ اتِ مَتَاعٌ [ 2 \ 241 ] ، يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمُتْعَةِ فِي الْجُمْلَةِ خِلَافًا لِمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ أَصْلًا ، وَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [ 2 \ 236 ] ، وَقَالَ : حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [ 2 \ 241 ] ، قَالُوا : فَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَكَانَتْ حَقًّا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ، وَبِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَعَيَّنَ فِيهَا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا لَا يَنْهَضُ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَ عَلَى الْمُتَّقِينَ تَأْكِيدٌ لِلْوُجُوبِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لَسْتُ مُتَّقِيًا مَثَلًا ; لِوُجُوبِ التَّقْوَى عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَتِّعُوهُنَّ الْآيَةَ مَا نَصُّهُ : وَقَوْلُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ تَأْكِيدٌ لِإِيجَابِهَا ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ ، وَمَعَاصِيهِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ : هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [ 2 ] ، وَقَوْلُهُمْ لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَعَيَّنَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ فِيهَا ، ظَاهِرُ السُّقُوطِ . فَنَفَقَةُ الْأَزْوَاجِ وَالْأَقَارِبِ وَاجِبَةٌ وَلَمْ يُعَيِّنْ فِيهَا الْقَدْرَ اللَّازِمَ ، وَذَلِكَ النَّوْعُ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ ، الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، تَشْجِيعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ بِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْمَوْتِ لَا يُنْجِي ، فَإِذَا عَلِمَ الْإِنْسَانُ أَنَّ فِرَارَهُ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ لَا يُنْجِيهِ ، هَانَتْ عَلَيْهِ مُبَارَزَةُ الْأَقْرَانِ ، وَالتَّقَدُّمُ فِي الْمَيْدَانِ . وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا هُوَ مُرَادُهُ بِالْآيَةِ [ ص: 153 ] حَيْثُ أَتْبَعَهَا بِقَوْلِهِ : وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [ 2 \ 244 ] ، وَصَرَّحَ بِمَا أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا فِي قَوْلِهِ : قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا [ 33 \ 16 ] ، وَهَذِهِ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي التَّشْجِيعِ عَلَى الْقِتَالِ ; لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الْقَتْلِ لَا يُنْجِي مِنْهُ ، وَلَوْ فُرِضَ نَجَاتُهُ مِنْهُ فَهُوَ مَيِّتٌ عَنْ قَرِيبٍ ، كَمَا قَالَ قُعْنُبُ ابْنُ أُمِّ صَاحِبٍ : [ الْمُتَقَارِبِ ]
إِذَا أَنْتَ لَاقَيْتَ فِي نَجْدَةٍ فَلَا تَتَهَيَّبْكَ أَنْ تُقْدِمَا فَإِنَّ الْمَنِيَّةَ مَنْ يَخْشَهَا
فَسَوْفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا وَإِنْ تَتَخَطَّكَ أَسْبَابُهَا
فَإِنَّ قُصَارَاكَ أَنْ تَهْرَمَا
وَقَالَ زُهَيْرٌ : [ الطَّوِيلِ ]
رَأَيْتُ الْمَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
وَقَالَ أَبُو الطِّيبِ : [ الْخَفِيفِ ]
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَوْتِ بُدٌّ فَمِنَ الْعَجْزِ أَنْ تَكُونَ جَبَانًا
وَلَقَدْ أَجَادَ مَنْ قَالَ : [ الْبَسِيطِ ]
فِي الْجُبْنِ عَارٌ وَفِي الْإِقْدَامِ مَكْرُمَةٌ وَالْمَرْءُ فِي الْجُبْنِ لَا يَنْجُو مِنَ الْقَدَرِ
وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَمُ جَوَازِ الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ إِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتِ فِيهَا ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّهْيُ عَنِ الْفِرَارِ مِنَ الطَّاعُونِ ، وَعَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي هُوَ فِيهَا إِذَا كُنْتَ خَارِجًا عَنْهَا .
تَنْبِيهٌ
لَمْ تَأْتِ لَفْظَةُ أَلَمْ تَرَ وَنَحْوُهَا فِي الْقُرْآنِ مِمَّا تَقَدَّمَهُ لَفْظُ أَلَمْ ، مُعَدَّاةً إِلَّا بِالْحَرْفِ الَّذِي هُوَ إِلَى . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ ، وَالتَّحْقِيقُ عَدَمُ لُزُومِهِ وَجَوَازُ تَعْدِيَتِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ حَرْفِ الْجَرِّ ، كَمَا يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلِ ]
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تَطَيَّبِ
ابو وليد البحيرى
2020-07-29, 04:19 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (20)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (19)
قَوْلُهُ تَعَالَى : مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا قَدْرَ هَذِهِ الْأَضْعَافِ الْكَثِيرَةِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهَا تَبْلُغُ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ وَتَزِيدُ [ ص: 154 ] عَنْ ذَلِكَ . وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ [ 2 \ 162 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِمَّا عَلَّمَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ كَقَوْلِهِ : وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [ 21 \ 80 ] الْآيَةَ ، وَقَوْلُهُ : وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [ 34 \ 11 ، 10 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَإِنَّكَ لِمَنَ الْمُرْسَلِينَ يُفْهَمُ مِنْ تَأْكِيدِهِ هُنَا بَأَنَّ وَاللَّامِ أَنَّ الْكُفَّارَ يُنْكِرُونَ رِسَالَتَهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي قَوْلِهِ : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا [ 13 \ 43 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي كَلَّمَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ مِنْهُمْ مُوسَى عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِقَوْلِهِ : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ 4 \ 164 ] ، وَقَوْلُهُ : إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [ 7 \ 144 ] .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ، يَعْنِي مُوسَى وَمُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَسَلَّمَ ، وَكَذَلِكَ آدَمُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ فِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : تَكْلِيمُ آدَمَ الْوَارِدُ فِي " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [ 2 \ 35 ] ، وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَاتِ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ الْمَلَكِ ، وَيَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ نَهْيُ حَوَّاءَ عَنِ الشَّجَرَةِ عَلَى لِسَانِهِ ، فَهُوَ رَسُولٌ إِلَيْهَا بِذَلِكَ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ، مَا نَصُّهُ : وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آدَمَ أَنَبِيٌّ مُرْسَلٌ هُوَ ؟ فَقَالَ : " نَعَمْ نَبِيٌّ مُكَلَّمٌ " ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَقَدْ تَأَوَّلَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ تَكْلِيمَ آدَمَ كَانَ فِي الْجَنَّةِ ، فَعَلَى هَذَا تَبْقَى خَاصِّيَّةُ مُوسَى اهـ .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [ 2 \ 38 ] ، فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " مَا نَصُّهُ : لِأَنَّ آدَمَ كَانَ هُوَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيَّامَ حَيَاتِهِ ، بَعْدَ أَنْ أُهْبِطَ إِلَى [ ص: 155 ] الْأَرْضِ ، وَالرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِلَى وَلَدِهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا وَهُوَ ، الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ، أَيْ : رُسُلٌ اهـ مَحَلُّ الْحُجَّةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ وَفِيهِ وَفِي كَلَامِ ابْنِ كَثِيرٍ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ " صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ " التَّصْرِيحُ بِأَنَّ آدَمَ رَسُولٌ وَهُوَ مُشْكِلٌ مَعَ مَا ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَّلُ الرُّسُلِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [ 4 \ 163 ] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِلْجَمْعِ إِلَّا مِنْ وَجْهَيْنِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ لِزَوْجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ فِي الْجَنَّةِ ، وَنُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ فِي الْأَرْضِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْجَمْعِ مَا ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ " وَغَيْرِهِمَا ، وَيَقُولُ : " وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا فَإِنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ " ، الْحَدِيثَ . فَقَوْلُهُ : " إِلَى أَهْلِ " الْأَرْضِ ، لَوْ لَمْ يُرَدْ بِهِ الِاحْتِرَازُ عَنْ رَسُولٍ بُعِثَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْأَرْضِ ، لَكَانَ ذَلِكَ الْكَلَامُ حَشْوًا ، بَلْ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ مَا ذَكَرْنَا . وَيَتَأَنَّسُ لَهُ بِكَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ الَّذِي قَدَّمْنَا نَقْلَ الْقُرْطُبِيِّ لَهُ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ آدَمَ أُرْسِلَ إِلَى ذُرِّيَّتِهِ وَهُمْ عَلَى الْفِطْرَةِ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُمْ كُفْرٌ فَأَطَاعُوهُ ، وَنُوحٌ هُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ أُرْسِلَ لِقَوْمٍ كَافِرِينَ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَيَأْمُرُهُمْ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً الْآيَةَ [ 10 \ 19 ] . أَيْ : عَلَى الدِّينِ الْحَنِيفِ ، أَيْ حَتَّى كَفَرَ قَوْمُ نُوحٍ ، وَقَوْلُهُ : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ [ 2 \ 213 ] . وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ، أَشَارَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَقَوْلِهِ : عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [ 17 \ 79 ] ، أَوْ قَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الْآيَةَ [ 34 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ 7 \ 158 ] ، وَقَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 25 ] ، وَأَشَارَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمَ كَقَوْلِهِ : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [ 4 \ 125 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [ 2 \ 124 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ دَاوُدَ وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [ 17 ] ، وَأَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ إِدْرِيسَ [ ص: 156 ] وَهُوَ قَوْلُهُ : وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ 19 \ 57 ] ، وَأَشَارَ هُنَا إِلَى أَنَّ مِنْهُمْ عِيسَى بِقَوْلِهِ : وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ [ 2 \ 87 ] .
تَنْبِيهٌ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى : تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْآيَةَ ، إِشْكَالٌ قَوِيٌّ مَعْرُوفٌ . وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى ; فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَفِيقُ ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ ، فَلَا أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى اللَّهُ " ، وَثَبَتَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ ; فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " الْحَدِيثَ ، وَفِي رِوَايَةٍ : " لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ " ، وَفِي رِوَايَةٍ : " لَا تُخَيِّرُونِي مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ " .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ : وَهَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ ، وَالْأَحَادِيثُ ثَابِتَةٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا تُخَيِّرُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ " ، رَوَاهَا الْأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ ، أَيْ : لَا تَقُولُوا فُلَانٌ خَيْرٌ مِنْ فُلَانٍ ، وَلَا فُلَانٌ أَفْضَلُ مِنْ فُلَانٍ ، اهـ .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مَا نَصُّهُ : وَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِالتَّفْضِيلِ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا قَالَهُ مِنْ بَابِ الْهَضْمِ وَالتَّوَاضُعِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا نَهْيٌ عَنِ التَّفْضِيلِ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَالِ الَّتِي تَحَاكَمُوا فِيهَا عِنْدَ التَّخَاصُمِ وَالتَّشَاجُرِ .
الرَّابِعُ : لَا تُفَضِّلُوا بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالْعَصَبِيَّة ِ .
الْخَامِسُ : لَيْسَ مَقَامُ التَّفْضِيلِ إِلَيْكُمْ ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَعَلَيْكُمُ الِانْقِيَادُ وَالتَّسْلِيمُ لَهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ ، اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " أَجْوِبَةً كَثِيرَةً عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ ، وَاخْتَارَ أَنَّ مَنْعَ التَّفْضِيلِ فِي خُصُوصِ النُّبُوَّةِ ، وَجَوَازَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ ، وَالْخُصُوصِ ، وَالْكَرَامَاتِ فَقَدْ قَالَ مَا نَصُّهُ : قُلْتُ : وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْمَنْعَ مِنَ التَّفْضِيلِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ النُّبُوَّةِ هُوَ الَّتِي هِيَ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَفَاضُلَ فِيهَا ، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ [ ص: 157 ] فِي زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ وَالْخُصُوصِ ، وَالْكَرَامَاتِ ، وَالْأَلْطَافِ ، وَالْمُعْجِزَات ِ الْمُتَبَايِنَا تِ .
وَأَمَّا النُّبُوَّةُ فِي نَفْسِهَا فَلَا تَتَفَاضَلُ ، وَإِنَّمَا تَتَفَاضَلُ بِأُمُورٍ أُخَرَ زَائِدَةٍ عَلَيْهَا ، وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُلٌ وَأُولُو عَزْمٍ ، وَمِنْهُمْ مَنِ اتُّخِذَ خَلِيلًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [ 17 ] ، قُلْتُ : وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ ، فَإِنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْآيِ وَالْأَحَادِيثِ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ ، وَالْقَوْلُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، إِنَّمَا هُوَ بِمَا مَنَحَ مِنَ الْفَضَائِلِ وَأَعْطَى مِنَ الْوَسَائِلِ ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى هَذَا فَقَالَ : إِنِ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ ، فَقَالُوا : بِمَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَضَّلَهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ ؟ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [ 21 \ 29 ] ، وَقَالَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [ 48 ] ، قَالُوا : فَمَا فَضْلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ؟ قَالَ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [ 14 \ 4 ] ، وَقَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 34 \ 28 ] ، فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : خَيْرُ بَنِي آدَمَ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ، وَهَذَا نَصٌّ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي التَّعْيِينِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أُرْسِلَ أَفْضَلُ مِمَّنْ لَمْ يُرْسَلْ ; فَإِنَّ مَنْ أُرْسِلَ فَضُلَ عَلَى غَيْرِهِ بِالرِّسَالَةِ ، وَاسْتَوُوا فِي النُّبُوَّةِ إِلَى مَا يَلْقَاهُ الرُّسُلُ مِنْ تَكْذِيبِ أُمَمِهِمْ وَقَتْلِهِمْ إِيَّاهُمْ ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِهِ . اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّ وَجْهَ الْجَمْعِ جَوَازُ التَّفْضِيلِ إِجْمَالًا كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ " ، وَلَمْ يُعَيِّنْ وَمَنَعَ التَّفْضِيلَ عَلَى طَرِيقِ الْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ : " لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى " ، وَقَوْلِهِ : " لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى " ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَنْ أَتْبَعَ إِنْفَاقَهُ الْمَنَّ وَالْأَذَى لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الثَّوَابَ الْمَذْكُورَ هُنَا فِي قَوْلِهِ : مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [ 2 \ 262 ] . وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَفْهُومِ فِي [ ص: 158 ] قَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى الْآيَةَ [ 2 \ 264 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ 2 \ 257 ] ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّ اللَّهَ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ، وَصَرَّحَ فِي آيَةٍ أُخْرَى بِأَنَّهُ وَلِيُّهُمْ ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِيُّهُمْ ، وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [ 5 ] ، وَقَالَ : وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ 9 \ 71 ] ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِخُصُوصِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكَافِرِينَ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [ 47 \ 11 ] ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِين َ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [ 33 \ 6 ] ، وَبَيَّنَ فِي آيَةِ " الْبَقَرَةِ " هَذِهِ ، ثَمَرَةَ وِلَايَتِهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَهِيَ إِخْرَاجُهُ لَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [ 2 \ 257 ] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ مِنْ ثَمَرَةِ وِلَايَتِهِ إِذْهَابَ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ ، وَبَيَّنَ أَنَّ وِلَايَتَهُمْ لَهُ تَعَالَى بِإِيمَانِهِنَّ وَتَقْوَاهُمْ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [ 10 \ 62 ، 63 ] ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ تَعَالَى وَلِيُّ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّهُ أَيْضًا يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [ 7 \ 196 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ الْمُرَادُ بِالظُّلُمَاتِ الضَّلَالَةُ ، وَبِالنُّورِ الْهُدَى ، وَهَذِهِ الْآيَةُ يُفْهَمُ مِنْهَا أَنَّ طُرُقَ الضَّلَالِ مُتَعَدِّدَةٌ ; لِجَمْعِهِ الظُّلُمَاتِ وَأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ وَاحِدَةٌ ; لِإِفْرَادِهِ النُّورَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُنَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [ 6 \ 153 ] .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، مَا نَصُّهُ : وَلِهَذَا وَحَّدَ تَعَالَى لَفْظَ النُّورِ وَجَمَعَ الظُّلُمَاتِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْكُفْرَ أَجْنَاسٌ كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا بَاطِلَةٌ كَمَا قَالَ : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [ 6 ] ، وَقَالَ تَعَالَى : عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ [ 70 \ 37 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي لَفْظِهَا إِشْعَارٌ بِتَفَرُّدِ [ ص: 159 ] الْحَقِّ وَانْتِشَارِ الْبَاطِلِ وَتَعَدُّدِهِ وَتَشَعُّبِهِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ الْآيَةَ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [ 3 \ 175 ] ، أَيْ يُخَوِّفُكُمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [ 4 ] ، وَقَوْلُهُ : أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ الْآيَةَ [ 18 \ 50 ] ، وَقَوْلُهُ : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ الْآيَةَ [ 7 ] ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ كُلَّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَهُوَ طَاغُوتٌ وَالْحَظُّ الْأَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [ 36 \ 60 ] ، وَقَالَ : إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا [ 4 \ 117 ] ، وَقَالَ عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ : يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ الْآيَةَ [ 19 \ 44 ] ، وَقَالَ : وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُم ْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [ 6 \ 121 ] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ بَيِّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِـ الَّذِي الَّذِينَ بِقَوْلِهِ : لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [ 2 \ 264 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ [ 2 \ 273 ] لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ فَقْرِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " أَنَّ سَبَبَ فَقْرِهِمْ هُوَ إِخْرَاجُ الْكُفَّارِ لَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ بِقَوْلِهِ : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ الْآيَةَ [ 59 \ 8 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ
الْآيَةَ ، مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ مَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ يَزْجُرُهُ بِهَا عَنْ أَكْلِ الرِّبَا فَانْتَهَى أَيْ : تَرَكَ الْمُعَامَلَةَ بِالرِّبَا ; خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَامْتِثَالًا لِأَمْرِهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ : مَا مَضَى قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ مِنْ أَمْوَالِ الرِّبَا ، وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْإِنْسَانَ بِفِعْلِ أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُحَرِّمَهُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، فَقَدْ قَالَ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ ، وَيَأْكُلُونَ مَالَ الْمَيْسِرِ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ : لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا الْآيَةَ [ 5 \ 93 ] .
[ ص: 160 ] وَقَالَ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَزَوَّجُونَ أَزْوَاجَ آبَائِهِمْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ : وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ [ 4 \ 22 ] ، أَيْ : لَكِنْ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [ 4 \ 23 ] .
وَقَالَ فِي الصَّيْدِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ : عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ الْآيَةَ [ 5 \ 95 ] .
وَقَالَ فِي الصَّلَاةِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ نَسْخِ اسْتِقْبَالِهِ : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [ 2 \ 143 ] ، أَيْ : صَلَاتَكُمْ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَبْلَ النَّسْخِ .
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِين َ لَمَّا اسْتَغْفَرُوا لِقُرَبَائِهِمُ الْمَوْتَى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [ 9 \ 113 ] ، وَنَدِمُوا عَلَى اسْتِغْفَارِهِم ْ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [ 9 \ 115 ] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا يُضِلُّهُمْ بِفِعْلِ أَمْرٍ إِلَّا بَعْدَ بَيَانِ اتِّقَائِهِ .
ابو وليد البحيرى
2020-08-11, 04:12 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (21)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (20)
[ مبحث في الربا ]
قوله تعالى : يمحق الله الربا ، صرح في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي : يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به كما قاله ابن كثير وغيره ، وما ذكر هنا من محق الربا ، أشار إليه في مواضع أخر كقوله : وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله [ 30 \ 39 ] ، وقوله : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث الآية [ 5 \ 100 ] ، وقوله : ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم ، كما أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسير هذه الآية .
واعلم أن الله صرح بتحريم الربا بقوله : وحرم الربا [ 2 \ 235 ] ، وصرح بأن المتعامل بالربا محارب الله بقوله : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون [ 2 \ 278 ، 279 ] .
وصرح بأن آكل الربا لا يقوم أي : من قبره يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس بقوله : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا [ 2 \ 275 ] [ ص: 161 ] والأحاديث في ذلك كثيرة جدا .
واعلم أن الربا منه ما أجمع المسلمون على منعه ولم يخالف فيه أحد وذلك كربا الجاهلية ، وهو أن يزيده في الأجل على أن يزيده الآخر في قدر الدين ، وربا النساء بين الذهب والذهب ، والفضة والفضة ، وبين الذهب والفضة ، وبين البر والبر ، وبين الشعير والشعير ، وبين التمر والتمر ، وبين الملح والملح ، وكذلك بين هذه الأربعة بعضها مع بعض .
وكذلك حكى غير واحد الإجماع على تحريم ربا الفضل ، بين كل واحد من الستة المذكورة فلا يجوز الفضل بين الذهب والذهب ، ولا بين الفضة والفضة ، ولا بين البر والبر ، ولا بين الشعير والشعير ، ولا بين التمر والتمر ، ولا بين الملح والملح ، ولو يدا بيد .
والحق الذي لا شك فيه منع ربا الفضل في النوع الواحد من الأصناف الستة المذكورة ، فإن قيل : ثبت في " الصحيح " عن ابن عباس ، عن أسامة بن زيد ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ربا إلا في النسيئة " وثبت في " الصحيح " عن أبي المنهال أنه قال : سألت البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم عن الصرف فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصرف ، فقال : " ما كان منه يدا بيد فلا بأس ، وما كان منه نسيئة فلا " ، فالجواب من أوجه : الأول : أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بجواز الفضل ومنع النسيئة فيما رواه عنه أسامة ، والبراء ، وزيد ، إنما هو في جنسين مختلفين ، بدليل الروايات الصحيحة المصرحة بأن ذلك هو محل جواز التفاضل ، وأنه في الجنس الواحد ممنوع .
واختار هذا الوجه البيهقي في " السنن الكبرى " ، فإنه قال بعد أن ساق الحديث الذي ذكرنا آنفا عن البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، ما نصه : رواه البخاري في الصحيح عن أبي عاصم ، دون ذكر عامر بن مصعب ، وأخرجه من حديث حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، مع ذكر عامر بن مصعب ، وأخرجه مسلم بن الحجاج ، عن محمد بن حاتم بن ميمون ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي المنهال ، قال : باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج ، فذكره وبمعناه رواه البخاري [ ص: 162 ] عن علي بن المديني ، عن سفيان ، وكذلك رواه أحمد بن روح عن سفيان ، وروي عن الحميدي عن سفيان عن عمرو بن دينار ، عن أبي المنهال ، قال : باع شريك لي بالكوفة دراهم بدراهم بينهما فضل .
عندي أن هذا خطأ ، والصحيح ما رواه علي بن المديني ، ومحمد بن حاتم ، وهو المراد بما أطلق في رواية ابن جريج ، فيكون الخبر واردا في بيع الجنسين ، أحدهما بالآخر ، فقال : " ما كان منه يدا بيد فلا بأس ، وما كان منه نسيئة فلا " ، وهو المراد بحديث أسامة ، والله أعلم .
والذي يدل على ذلك أيضا ما أخبرنا به أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد : أنا أبو سهل بن زياد القطان ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي ، حدثنا أبو عمر ، حدثنا شعبة ، أخبرني حبيب هو ابن أبي ثابت ، قال : سمعت أبا المنهال قال : سألت البراء وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الورق بالذهب دينا ، رواه البخاري في " الصحيح " عن أبي عمر حفص بن عمر ، وأخرجه مسلم من وجه آخر عن شعبة اهـ من البيهقي بلفظه ، وهو واضح جدا فيما ذكرنا من أن المراد بجواز الفضل المذكور كونه في جنسين لا جنس واحد .
وفي تكملة " المجموع " بعد أن ساق الكلام الذي ذكرنا عن البيهقي ما نصه : ولا حجة لمتعلق فيهما ; لأنه يمكن حمل ذلك على أحد أمرين ، إما أن يكون المراد بيع دراهم بشيء ليس ربويا ، ويكون الفساد لأجل التأجيل بالموسم أو الحج ، فإنه غير محرر ولا سيما على ما كانت العرب تفعل .
والثاني : أن يحمل ذلك على اختلاف الجنس ويدل له رواية أخرى عن أبي المنهال ، قال : سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف فكلاهما يقول : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الذهب بالورق دينا ، رواه البخاري ومسلم ، وهذا لفظ البخاري ومسلم بمعناه . وفي لفظ مسلم عن بيع الورق بالذهب دينا ، فهو يبين أن المراد صرف الجنس بجنس آخر .
وهذه الرواية ثابتة من حديث شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي المنهال ، والروايات الثلاث الأول رواية الحميدي ، واللتان في " الصحيح " وكلها أسانيدها في غاية الجودة .
[ ص: 163 ] ولكن حصل الاختلاف في سفيان فخالف الحميدي علي بن المديني ، ومحمد بن حاتم ، ومحمد بن منصور ، وكل من الحميدي وعلي بن المديني في غاية الثبت . ويترجح ابن المديني هنا بمتابعة محمد بن حاتم ، ومحمد بن منصور له ، وشهادة ابن جريج لروايته ، وشهادة رواية حبيب بن أبي ثابت لرواية شيخه ، ولأجل ذلك قال البيهقي رحمه الله : إن رواية من قال إنه باع دراهم بدراهم خطأ عنده . اهـ منه بلفظه .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " ما نصه : وقال الطبري معنى حديث أسامة : " لا ربا إلا في النسيئة " إذا اختلفت أنواع البيع . اهـ محل الغرض منه بلفظه ، وهو موافق لما ذكر . وقال في " فتح الباري " أيضا ما نصه :
تنبيه
وقع في نسخة الصغاني هنا قال أبو عبد الله : يعني البخاري سمعت سليمان بن حرب يقول : لا ربا إلا في النسيئة ، هذا عندنا في الذهب بالورق ، والحنطة بالشعير ، متفاضلا ولا بأس به يدا بيد ، ولا خير فيه نسيئة . قلت : وهذا موافق . ا هـ منه بلفظه .
وعلى هامش النسخة أن بعد قوله : وهذا موافق بياضا بالأصل ، وبهذا الجواب الذي ذكرنا تعلم أن حديث البراء وزيد لا يحتاج بعد هذا الجواب إلى شيء ; لأنه قد ثبت في " الصحيح " عنهما تصريحهما باختلاف الجنس فارتفع الإشكال ، والروايات يفسر بعضها بعضا ، فإن قيل : هذا لا يكفي في الحكم على الرواية الثابتة في الصحيح بجواز التفاضل بين الدراهم والدراهم أنها خطأ ; إذ لقائل أن يقول لا منافاة بين الروايات المذكورة ، فإن منها ما أطلق فيه الصرف ومنها ما بين أنها دراهم بدراهم ، فيحمل المطلق على المقيد ، جمعا بين الروايتين ، فإن إحداهما بينت ما أبهمته الأخرى ، ويكون حديث حبيب بن أبي ثابت حديثا آخر واردا في الجنسين ، وتحريم النساء فيهما ، ولا تنافي في ذلك ولا تعارض .
فالجواب على تسليم هذا بأمرين : أحدهما : أن إباحة ربا الفضل منسوخة .
والثاني : أن أحاديث تحريم ربا الفضل أرجح ، وأولى بالاعتبار على تقدير عدم النسخ من أحاديث إباحته .
[ ص: 164 ] ومما يدل على النسخ ما ثبت في " الصحيح " عن أبي المنهال قال : باع شريك لي ورقا بنسيئة إلى الموسم أو إلى الحج ، فجاء إلي فأخبرني فقلت : هذا أمر لا يصح ، قال : قد بعته في السوق فلم ينكر ذلك علي أحد ، فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال : قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونحن نبيع هذا البيع ، فقال : " ما كان يدا بيد فلا بأس به ، وما كان نسيئة فهو ربا " ، وأتيت زيد بن أرقم فإنه أعظم تجارة مني ، فأتيته فسألته فقال مثل ذلك . هذا لفظ مسلم في " صحيحه " وفيه التصريح بأن إباحة ربا الفضل المذكورة في حديث البراء بن عازب وزيد بن أرقم كانت مقارنة لقدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرا .
وفي بعض الروايات الصحيحة في تحريم ربا الفضل أنه - صلى الله عليه وسلم - صرح بتحريمه في يوم خيبر ، وفي بعض الروايات الصحيحة تحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر أيضا ، فقد ثبت في " الصحيح " من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري - رضي الله عنه - قال : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب ، وهي من المغانم تباع ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب وزنا بوزن " هذا لفظ مسلم في " صحيحه " ، وفي لفظ له في " صحيحه " أيضا عن فضالة بن عبيد قال : اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارا فيها ذهب وخرز ففصلتها ، فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارا ، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا تباع حتى تفصل " ، وفي لفظ له في " صحيحه " أيضا عن فضالة - رضي الله عنه - قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر نبايع اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب بالذهب ، إلا وزنا بوزن " . وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة ، وأبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر ، فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " قال : لا والله يا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان " هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وفي لفظ لهما عن أبي هريرة وأبي سعيد أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر فجاء بتمر جنيب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " قال : لا والله يا رسول الله ، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فلا تفعل بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا " والأحاديث بمثله كثيرة ، وهي نص صريح في [ ص: 165 ] تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بتحريم ربا الفضل بعد فتح خيبر ، فقد اتضح لك من هذه الروايات الثابتة في " الصحيح " : أن إباحة ربا الفضل كانت زمن قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة مهاجرا ، وأن الروايات المصرحة بالمنع صرحت به في يوم خيبر وبعده ، فتصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم ربا الفضل بعد قدومه المدينة بنحو ست سنين وأكثر منها ، يدل دلالة لا لبس فيها على النسخ ، وعلى كل حال فالعبرة بالمتأخر ، وقد كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث .
وأيضا فالبراء ، وزيد - رضي الله عنهما - كانا غير بالغين في وقت تحملهما الحديث المذكور عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الجماعة من الصحابة الذين رووا عنه تحريم ربا الفضل ; فإنهم بالغون وقت التحمل ، ورواية البالغ وقت التحمل أرجح من رواية من تحمل وهو صبي ; للخلاف فيها دون رواية المتحمل بالغا ، وسن البراء وزيد وقت قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، نحو عشر سنين ; لما ذكره ابن عبد البر عن منصور بن سلمة الخزاعي : أنه روى بإسناده إلى زيد بن حارثة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استصغره يوم أحد ، والبراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأبا سعيد الخدري ، وسعد بن حبتة ، وعبد الله بن عمر ، وعن الواقدي أن أول غزوة شهداها يوم الخندق .
وممن قال : بأن حديث البراء وزيد منسوخ ، راويه الحميدي . وناهيك به علما واطلاعا . وقول راوي الحديث : إنه منسوخ ، في كونه يكفي في النسخ خلاف معروف عند أهل الأصول ، وأكثر المالكية والشافعية لا يكفي عندهم . فإن قيل : ما قدمتم من كون تحريم ربا الفضل واقعا بعد إباحته ، يدل على النسخ في حديث البراء وزيد ، لعلم التاريخ فيهما ، وأن حديث التحريم هو المتأخر ، ولكن أين لكم معرفة ذلك في حديث أسامة ؟ ومولد أسامة مقارب لمولد البراء وزيد ; لأن سن أسامة وقت وفاته - صلى الله عليه وسلم - عشرون سنة ، وقيل : ثمان عشرة ، وسن البراء وزيد وقت وفاته - صلى الله عليه وسلم - نحو العشرين ، كما قدمنا ما يدل عليه .
فالجواب : أنه يكفي في النسخ معرفة أن إباحة ربا الفضل وقعت قبل تحريمه ، والمتأخر يقضي على المتقدم .
الجواب الثاني : عن حديث أسامة أنه رواية صحابي واحد ، وروايات منع ربا الفضل عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رووها صريحة عنه صلى الله عليه وسلم ، ناطقة بمنع ربا الفضل ، منهم : أبو سعيد ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وأبو هريرة ، وهشام بن عامر ، وفضالة بن عبيد ، وأبو بكرة ، وابن عمر ، وأبو الدرداء ، وبلال ، وعبادة بن الصامت ، [ ص: 166 ] ومعمر بن عبد الله وغيرهم وروايات جل من ذكرنا ثابتة في " الصحيح " كرواية : أبي هريرة ، وأبي سعيد ، وفضالة بن عبيد ، وعمر بن الخطاب ، وأبي بكرة ، وعبادة بن الصامت ، ومعمر بن عبد الله ، وغيرهم . وإذا عرفت ذلك فرواية الجماعة من العدول أقوى وأثبت وأبعد من الخطأ من رواية الواحد .
وقد تقرر في الأصول أن كثرة الرواة من المرجحات ، وكذلك كثرة الأدلة كما عقده في " مراقي السعود " ، في مبحث الترجيح ، باعتبار حال المروي بقوله : [ الرجز ]
وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية
والقول بعدم الترجيح بالكثرة ضعيف ، وقد ذكر سليم الداري أن الشافعي أومأ إليه ، وقد ذهب إليه بعض الشافعية والحنفية .
الجواب الثالث : عن حديث أسامة أنه دل على إباحة ربا الفضل ، وأحاديث الجماعة المذكورة دلت على منعه في الجنس الواحد من المذكورات ، وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، وقد قدمناه عن صاحب " المراقي " ، وهو الحق خلافا للغزالي ، وعيسى بن أبان وأبي هاشم ، وجماعة من المتكلمين حيث قالوا : هما سواء .
الجواب الرابع : عن حديث أسامة أنه عام بظاهره في الجنس والجنسين ، وأحاديث الجماعة أخص منه ; لأنها مصرحة بالمنع مع اتحاد الجنس ، وبالجواز مع اختلاف الجنس ، والأخص مقدم على الأعم ; لأنه بيان له ولا يتعارض عام وخاص ، كما تقرر في الأصول . ومن مرجحات أحاديث منع ربا الفضل على حديث أسامة الحفظ ; فإن في رواته أبا هريرة ، وأبا سعيد ، وغيرهما ، ممن هو مشهور بالحفظ ، ومنها غير ذلك .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " ما نصه : واتفق العلماء على صحة حديث أسامة ، واختلفوا في الجمع بينه وبين حديث أبي سعيد ، فقيل : منسوخ لكن النسخ لا يثبت بالاحتمال ، وقيل : المعنى في قوله : " لا ربا " ، الربا الأغلظ الشديد التحريم ، المتوعد عليه بالعقاب الشديد ، كما تقول العرب : لا عالم في البلد إلا زيدا ، مع أن فيها علماء غيره وإنما القصد نفي الأكمل لا نفي الأصل ، وأيضا فنفي تحريم ربا الفضل من حديث أسامة إنما هو بالمفهوم . فيقدم عليه حديث أبي سعيد ; لأن دلالته بالمنطوق .
[ ص: 167 ] ويحمل حديث أسامة على الربا الأكبر كما تقدم ، والله أعلم . اهـ منه .
وقوله : النسخ لا يثبت بالاحتمال مردود بما قدمنا من الروايات المصرحة بأن التحريم بعد الإباحة ومعرفة المتأخر كافية في الدلالة على النسخ ، وقد روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما رجعا عن القول بإباحة ربا الفضل ، قال البيهقي في " السنن الكبرى " ما نصه : " باب ما يستدل به على رجوع من قال من الصدر الأول لا ربا إلا في النسيئة عن قوله ونزوعه عنه " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ : أنا أبو الفضل بن إبراهيم ، حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنا عبد الأعلى ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، قال : سألت ابن عمر وابن عباس عن الصرف فلم يريا به بأسا ، وإني لقاعد عند أبي سعيد الخدري فسألته عن الصرف ، فقال : ما زاد فهو ربا ، فأنكرت ذلك ، لقولهما ، فقال : لا أحدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاءه صاحب نخلة بصاع من تمر طيب ، وكان تمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الدون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " أنى لك هذا ؟ " قال : انطلقت بصاعين واشتريت به هذا الصاع ; فإن سعر هذا بالسوق كذا ، وسعر هذا بالسوق كذا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربيت ؟ إذا أردت ذلك فبع تمرك بسلعة ، ثم اشتر بسلعتك أي تمر شئت " ، فقال أبو سعيد : فالتمر بالتمر أحق أن يكون ربا ، أم الفضة بالفضة ؟ قال : فأتيت ابن عمر بعد فنهاني ، ولم آت ابن عباس قال : فحدثني أبو الصهباء أنه سأل ابن عباس فكرهه ، رواه مسلم في " الصحيح " عن إسحاق بن إبراهيم ، وقال : وكان تمر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا اللون .
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن الحسين أبو علي الماسرجسي ، حدثنا جدي أبو العباس أحمد بن محمد ، وهو ابن بنت الحسن بن عيسى ، حدثنا جدي الحسن بن عيسى ، أنا ابن المبارك ، أنا يعقوب بن أبي القعقاع ، عن معروف بن سعد ، أنه سمع أبا الجوزاء يقول : كنت أخدم ابن عباس تسع سنين إذ جاء رجل فسأله عن درهم بدرهمين ، فصاح ابن عباس وقال : إن هذا يأمرني أن أطعمه الربا ، فقال ناس حوله : إن كنا لنعمل هذا بفتياك ، فقال ابن عباس : قد كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبو سعيد ، وابن عمر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه فأنا أنهاكم عنه ، وفي نسختنا من " سنن البيهقي " في هذا الإسناد ابن المبارك ، والظاهر : أن الأصل أبو المبارك كما يأتي .
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد ، أنا عبد الله بن جعفر بن درستويه ، [ ص: 168 ] حدثنا يعقوب بن سفيان ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعد بن إياس ، عن عبد الله بن مسعود : أن رجلا من بني شمخ بن فزارة ، سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته ، فطلق امرأته ; ليتزوج أمها ، قال : لا بأس فتزوجها الرجل ، وكان عبد الله على بيت المال ، وكان يبيع نفاية بيت المال يعطي الكثير ، ويأخذ القليل ، حتى قدم المدينة ، فسأل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : لا يحل لهذا الرجل هذه المرأة ، ولا تصح الفضة إلا وزنا بوزن ; فلما قدم عبد الله انطلق إلى الرجل فلم يجده ، ووجد قومه فقال : إن الذي أفتيت به صاحبكم لا يحل ، فقالوا : إنها قد نثرت له بطنها قال : وإن كان ، وأتى الصيارفة فقال : يا معشر الصيارفة ، إن الذي كنت أبايعكم لا يحل ، لا تحل الفضة بالفضة ، إلا وزنا بوزن . اهـ من البيهقي بلفظه ، وفيه التصريح برجوع ابن عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود عن القول بإباحة ربا الفضل .
وقال ابن حجر في الكلام على حديث أسامة المذكور ما نصه : وخالف فيه يعني : منع ربا الفضل ابن عمر ثم رجع ، وابن عباس ، واختلف في رجوعه ، وقد روى الحاكم من طريق حيان العدوي وهو بالمهملة والتحتانية ، سألت أبا مجلز عن الصرف فقال : كان ابن عباس لا يرى به بأسا زمانا من عمره ، ما كان منه عينا بعين ، يدا بيد ، وكان يقول : إنما الربا في النسيئة ، فلقيه أبو سعيد فذكر القصة والحديث ، وفيه التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، مثلا بمثل ، فما زاد فهو ربا ، فقال ابن عباس : أستغفر الله وأتوب إليه ، فكان ينهى عنه أشد النهي . ا هـ من " فتح الباري " بلفظه . وفي " تكملة المجموع " لتقي الدين السبكي بعد أن ساق حديث حيان هذا ما نصه : رواه الحاكم في " المستدرك " ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ، وفي حكمه عليه بالصحة نظر ; فإن حيان بن عبيد الله المذكور ، قال ابن عدي : عامة ما يرويه إفرادات يتفرد بها ، وذكر ابن عدي في ترجمته حديثه في الصرف هذا بسياقه ، ثم قال : وهذا الحديث من حديث أبي مجلز عن ابن عباس ، تفرد به حيان ، قال البيهقي : وحيان تكلموا فيه ، واعلم أن هذا الحديث ينبغي الاعتناء بأمره ، وتبيين صحته من سقمه ; لأمر غير ما نحن فيه ، وهو قوله : وكذلك ما يكال ويوزن ، وقد تكلم فيه بنوعين من الكلام أحدهما تضعيف الحديث جملة ، وإليه أشار البيهقي ، [ ص: 169 ] وممن ذهب إلى ذلك ابن حزم ، أعله بشيء أنبه عليه ، لئلا يغتر به : وهو أنه أعله بثلاثة أشياء : أحدها : أنه منقطع ; لأن أبا مجلز لم يسمع من أبي سعيد ، ولا من ابن عباس .
والثاني : لذكره أن ابن عباس رجع ، واعتقاد ابن حزم : أن ذلك باطل ; لمخالفة سعيد بن جبير .
والثالث : أن حيان بن عبيد الله مجهول .
فأما قوله : إنه منقطع فغير مقبول ; لأن أبا مجلز أدرك ابن عباس ، وسمع منه ، وأدرك أبا سعيد ومتى ثبت ذلك لا تسمع دعوى عدم السماع إلا بثبت ، وأما مخالفة سعيد بن جبير فسنتكلم عليها في هذا الفصل إن شاء الله تعالى ، وأما قوله إن حيان بن عبيد الله مجهول ، فإن أراد مجهول العين فليس بصحيح بل هو رجل مشهور ، روى عنه حديث الصرف هذا محمد بن عبادة ، ومن جهته أخرجه الحاكم ، وذكره ابن حزم ، وإبراهيم بن الحجاج الشامي ، ومن جهته رواه ابن عدي ، ويونس بن محمد ، ومن جهته رواه البيهقي ، وهو حيان بن عبيد الله بن حيان بن بشر بن عدي ، بصري سمع أبا مجلز لاحق بن حميد والضحاك ، وعن أبيه ، وروى عن عطاء ، وابن بريدة ، روى عنه موسى بن إسماعيل ، ومسلم بن إبراهيم ، وأبو داود ، وعبيد الله بن موسى ، عقد له البخاري ، وابن أبي حاتم ترجمة ، فذكر كل منهما بعض ما ذكرته ، وله ترجمة في كتاب ابن عدي أيضا ، كما أشرت إليه ، فزال عنه جهالة العين ، وإن أراد جهالة الحال فهو قد رواه من طريق إسحاق بن راهويه .
فقال في إسناده : أخبرنا روح ، قال : حدثنا حيان بن عبيد الله ، وكان رجل صدق ، فإن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة ، فروح محدث ، نشأ في الحديث عارف به ، مصنف متفق على الاحتجاج به ، بصري بلدي المشهود له فتقبل شهادته له ، وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ، ومن يثني عليه إسحاق . وقد ذكر ابن أبي حاتم حيان بن عبيد الله هذا .
وذكر جماعة من المشاهير ممن رووا عنه وممن روى عنهم ، وقال : إنه سأل أباه عنه فقال : صدوق ، ثم قال : وعن سليمان بن علي الربعي ، عن أبي الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي ، قال سمعته يأمر بالصرف ، يعني ابن عباس ، وتحدث ذلك عنه ، ثم [ ص: 170 ] بلغني أنه رجع عن ذلك فلقيته بمكة ، فقلت : إنه بلغني أنك رجعت ، قال : نعم ، إنما كان ذلك رأيا مني ، وهذا أبو سعيد حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الصرف ، رويناه في سنن ابن ماجه ، ومسند الإمام أحمد ، بإسناد رجاله على شرط الصحيحين ، إلى سليمان بن علي ، وسليمان بن علي روى له مسلم .
وقال ابن حزم : إنه مجهول لا يدرى من هو ؟ وهو غير مقبول منه ; لما تبين . ثم قال : وعن أبي الجوزاء قال : كنت أخدم ابن عباس - رضي الله عنهما - تسع سنين ، ثم ساق حديث أبي الجوزاء عن ابن عباس ، الذي قدمنا عن البيهقي ، ثم قال : رواه البيهقي في " السنن الكبرى " بإسناد فيه أبو المبارك ، وهو مجهول .
ثم قال : وروينا عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، بضم النون وإسكان العين : أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس ، فشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، مثلا بمثل ، فمن زاد فقد أربى " فقال ابن عباس : أتوب إلى الله مما كنت أفتي به ، ثم رجع . رواه الطبراني بإسناد صحيح ، وعبد الرحمن بن أبي نعم تابعي ، ثقة متفق عليه ، معروف بالرواية عن أبي سعيد ، وابن عمر ، وغيرهما من الصحابة ، وعن أبي الجوزاء قال : سألت ابن عباس عن الصرف عن الدرهم بالدرهمين ، يدا بيد ، فقال : لا أرى فيما كان يدا بيد بأسا ، ثم قدمت مكة من العام المقبل وقد نهى عنه ، رواه الطبراني بإسناد حسن . وعن أبي الشعثاء قال : سمعت ابن عباس يقول : اللهم إني أتوب إليك من الصرف ; إنما هذا من رأيي ، وهذا أبو سعيد الخدري يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، رواه الطبراني ورجاله ثقات ، مشهورون مصرحون بالتحديث فيه من أولهم إلى آخرهم .
عن عطية العوفي بإسكان الواو وبالفاء قال : قال أبو سعيد لابن عباس : تب إلى الله تعالى ، فقال : أستغفر الله وأتوب إليه ، قال : ألم تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، وقال : " إني أخاف عليكم الربا " ، قال فضيل بن مرزوق : قلت لعطية : ما الربا ؟ قال : الزيادة والفضل بينهما ، رواه الطبراني بسند صحيح ، إلى عطية . وعطية من رجال السنن . قال يحيى بن معين : صالح وضعفه غيره ، فالإسناد بسببه ليس بالقوي .
وعن بكر بن عبد الله المزني : أن ابن عباس جاء من المدينة إلى مكة وجئت معه ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنه لا بأس بالصرف ، ما كان منه يدا [ ص: 171 ] بيد إنما الربا في النسيئة ، فطارت كلمته في أهل المشرق والمغرب ، حتى إذا انقضى الموسم دخل عليه أبو سعيد الخدري ، وقال له : يا ابن عباس أكلت الربا وأطعمته ؟ قال : أوفعلت ؟ ! قال : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، مثلا بمثل : تبره وعينه . فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " ، حتى إذا كان العام المقبل جاء ابن عباس وجئت معه ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إني تكلمت عام أول بكلمة من رأيي ، وإني أستغفر الله تعالى منه ، وأتوب إليه ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الذهب بالذهب ، وزنا بوزن ، مثلا بمثل ، تبره وعينه ، فمن زاد واستزاد فقد أربى " ، وأعاد عليهم هذه الأنواع الستة ، رواه الطبراني بسند فيه مجهول ، وإنما ذكرناه متابعة لما تقدم . وهكذا وقع في روايتنا : فمن زاد واستزاد بالواو لا بأو والله أعلم .
وروى أبو جابر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي في كتاب " المعاني والآثار " بإسناد حسن إلى أبي سعيد قال : قلت لابن عباس : أرأيت الذي يقول الدينار بالدينار ؟ وذكر الحديث ، ثم قال : قال أبو سعيد ونزع عنها ابن عباس وروى الطحاوي أيضا عن نصر بن مرزوق بإسناد لا بأس به عن أبي الصهباء : أن ابن عباس نزل عن الصرف وهذا أصرح من رواية مسلم ، وروى الطحاوي عن أبي أمية بإسناد حسن ، إلى عبد الله بن حسين : أن رجلا من أهل العراق قال لعبد الله بن عمر : إن ابن عباس قال وهو علينا أمير : من أعطى بالدرهم مائة درهم فليأخذها وذكر حديثا إلى أن قال : فقيل لابن عباس : ما قال ابن عمر ؟ قال : فاستغفر ربه ، وقال : إنما هو رأي مني .
وعن أبي هاشم الواسطي واسمه يحيى بن دينار عن زياد قال : كنت مع ابن عباس بالطائف فرجع عن الصرف قبل أن يموت بسبعين يوما ، ذكره ابن عبد البر في " الاستذكار " ، وذكر أيضا عن أبي حرة قال : سأل رجل ابن سيرين عن شيء فقال : لا علم لي به . فقال الرجل : أن يكون فيه برأيك . فقال : إني أكره أن أقول فيه برأيي ثم يبدو لي غيره فأطلبك فلا أجدك ، إن ابن عباس قد رأى في الصرف رأيا ، ثم رجع ، وذكر أيضا عن ابن سيرين عن الهذيل بالذال المعجمة ، ابن أخت محمد بن سيرين قال : سألت ابن عباس عن الصرف فرجع عنه فقلت : إن الناس يقولون فقال : الناس يقولون ما شاءوا . اهـ من " تكملة المجموع " ، ثم قال بعد هذا : فهذه عدة روايات صحيحة وحسنة من جهة خلق من أصحاب ابن عباس تدل على رجوعه ، وقد روي في [ ص: 172 ] رجوعه أيضا غير ذلك ، وفيما ذكرته غنية إن شاء الله تعالى .
وفي " تكملة المجموع " أيضا قبل هذا ما نصه : وروى عن أبي الزبير المكي ، واسمه محمد بن تدرس بفتح التاء ودال ساكنة وراء مضمومة وسين مهملة ، قال : سمعت أبا أسيد الساعدي ، وابن عباس يفتي الدينار بالدينارين فقال له أبو أسيد الساعدي وأغلظ له قال : فقال ابن عباس : ما كنت أظن أن أحدا يعرف قرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول مثل هذا يا أبا أسيد ؟ فقال أبو أسيد : أشهد لسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الدينار بالدينار ، وصاع حنطة بصاع حنطة ، وصاع شعير بصاع شعير ، وصاع ملح بصاع ملح لا فضل بينهما في شيء من ذلك " .
فقال ابن عباس : إنما هذا شيء كنت أقوله برأيي ولم أسمع فيه بشيء ، رواه الحاكم في " المستدرك " ، وقال : إنه صحيح على شرط مسلم - رحمه الله - وفي سنده عتيق بن يعقوب الزبيري ، قال الحاكم : إنه شيخ قرشي من أهل المدينة وأبو أسيد بضم الهمزة .
وروينا في " معجم الطبراني " من حديث أبي صالح ذكوان أنه سأل ابن عباس عن بيع الذهب والفضة فقال : هو حلال بزيادة أو نقصان إذا كان يدا بيد ، قال أبو صالح : فسألت أبا سعيد بما قال ابن عباس ، وأخبرت ابن عباس بما قال أبو سعيد ، والتقيا وأنا معهما فابتدأه أبو سعيد الخدري فقال : يا ابن عباس ما هذه الفتيا التي تفتي بها الناس في بيع الذهب والفضة تأمرهم أن يشتروه بنقصان أو بزيادة يدا بيد ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ما أنا بأقدمكم صحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا زيد بن أرقم والبراء بن عازب يقولان : سمعنا النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه الطبراني بإسناد حسن وقد قدمنا رجوع ابن عمر وابن مسعود عن ذلك ، وقد قدمنا الجواب عما روي عن البراء بن عازب ، وزيد بن أرقم ، وأسامة بن زيد رضي الله عنهم - وثبت عن سعيد بن جبير أن ابن عباس لم يرجع وهي شهادة على نفي مطلق ، والمثبت مقدم على النافي ; لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه النافي ، وقال ابن عبد البر : رجع ابن عباس أو لم يرجع ، في السنة كفاية عن قول كل واحد ، ومن خالفها رد إليها ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ردوا الجهالات إلى السنة . اهـ .
وقال العلامة الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " ما نصه : وأما ما أخرجه مسلم ، عن ابن عباس أنه لا ربا فيما كان يدا بيد كما تقدم ، فليس ذلك مرويا عن [ ص: 173 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى تكون دلالته على نفي ربا الفضل منطوقة ، ولو كان مرفوعا ، لما رجع ابن عباس واستغفر ، لما حدثه أبو سعيد بذلك كما تقدم ، وقد روى الحازمي رجوع ابن عباس واستغفاره عند أن سمع عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله يحدثان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يدل على تحريم ربا الفضل ، وقال : حفظتما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم أحفظ ، وروى عنه الحازمي أيضا أنه قال : كان ذلك برأيي .
وهذا أبو سعيد الخدري يحدثني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتركت رأيي إلى حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى تسليم أن ذلك الذي قاله ابن عباس مرفوع فهو عام مخصص بأحاديث الباب ; لأنها أخص منه مطلقا . اهـ منه بلفظه ، وقد ذكر غير واحد أن الإجماع انعقد بعد هذا الخلاف على منع ربا الفضل .
قال : في " تكملة المجموع " ما نصه : الفصل الثالث في بيان انقراض الخلاف في ذلك ودعوى الإجماع فيه ، قال ابن المنذر : أجمع علماء الأمصار مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة ، وسفيان الثوري ومن وافقه من أهل العراق ، والأوزاعي ومن قال بقوله من أهل الشام ، والليث بن سعد ومن وافقه من أهل مصر ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان ويعقوب ومحمد بن علي ، أنه لا يجوز بيع ذهب بذهب ، ولا فضة بفضة ، ولا بر ببر ، ولا شعير بشعير ، ولا تمر بتمر ، ولا ملح بملح ، متفاضلا يدا بيد ، ولا نسيئة ، وأن من فعل ذلك فقد أربى والبيع مفسوخ . اهـ محل الغرض منه بلفظه .
ونقل النووي في " شرح مسلم " إجماع المسلمين على ترك العمل بظاهر حديث أسامة قال : وهذا يدل على نسخه ، وقد استدل ابن عبد البر على صحة تأويله لحديث أسامة بإجماع الناس ، ما عدا ابن عباس عليه . اهـ ، وعلى فرض أن ابن عباس لم يرجع عن ذلك فهل ينعقد الإجماع مع مخالفته ؟ فيه خلاف معروف في الأصول ، هل يلغي الواحد والاثنان أو لا بد من اتفاق كل وهو المشهور ، وهل إذا مات وهو مخالف ثم انعقد الإجماع بعده يكون إجماعا ؟ وهو الظاهر ، أو لا يكون إجماعا ; لأن المخالف الميت لا يسقط قوله بموته ، خلاف معروف في الأصول أيضا .
ابو وليد البحيرى
2020-08-11, 04:13 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (22)
سُورَةُ الْبَقَرَةِ (21)
وإذا عرفت أن من قال بإباحة ربا الفضل رجع عنها ، وعلمت أن الأحاديث الصحيحة المتفق عليها مصرحة بكثرة بمنعه ، علمت أن الحق الذي لا شك فيه تحريم ربا الفضل بين كل جنس واحد من الستة مع نفسه ، وجواز الفضل بين الجنسين المختلفين [ ص: 174 ] يدا بيد ، ومنع النساء بين الذهب والفضة مطلقا ، وبين التمر والبر ، والشعير والملح مطلقا ، ولا يمنع طعام بنقد نسيئة كالعكس ، وحكى بعض العلماء على ذلك الإجماع ، ويبقى غير هذه الأصناف الستة المنصوص عليها في الحديث ، فجماهير العلماء على أن الربا لا يختص بالستة المذكورة .
والتحقيق أن علة الربا في النقدين كونهما جوهرين نفيسين . هما ثمن الأشياء غالبا في جميع أقطار الدنيا ، وهو قول مالك والشافعي ، والعلة فيهما قاصرة عليهما عندهما ، وأشهر الروايات عن أحمد أن العلة فيهما كون كل منهما موزون جنس ، وهو مذهب أبي حنيفة . وأما البر والشعير والتمر والملح فعلة الربا فيها عند مالك الاقتيات والادخار ، وقيل وغلبة العيش فلا يمنع ربا الفضل عند مالك وعامة أصحابه إلا في الذهب بالذهب والفضة بالفضة ، والطعام المقتات المدخر بالطعام المقتات المدخر ، وقيل يشترط مع الاقتيات والادخار غلبة العيش ، وإنما جعل مالك العلة ما ذكر ; لأنه أخص أوصاف الأربعة المذكورة ، ونظم بعض المالكية ما فيه ربا النساء وربا الفضل عند مالك في بيتين وهما : [ الطويل ]
رباء نسا في النقد حرم ومثله
طعام وإن جنساهما قد تعددا
وخص ربا فضل بنقد ومثله
طعام الربا إن جنس كل توحدا
وقد كنت حررت مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة في نظم لي طويل في فروع مالك بقولي : [ الرجز ]
وكل ما يذاق من طعام ربا النسا فيه من الحرام
مقتاتا أو مدخرا أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف
وإن يكن يطعم للدواء مجردا فالمنع ذو انتفاء
ولربا الفضل شروط يحرم بها وبانعدامها ينعدم
هي اتحاد الجنس فيما ذكرا مع اقتياته وأن يدخرا
وما لحد الادخار مدة والتادلي بستة قد حده
والخلف في اشتراط كونه اتخذ للعيش عرفا ، وبالإسقاط أخذ
تظهر فائدته في أربع غلبة العيش بها لم تقع
والأربع التي حوى ذا البيت بيض وتين وجراد زيت
في البيض والزيت الربا قد انحظر رعيا لكون شرطها لم يعتبر
[ ص: 175 ]
وقد رعي اشتراطها في المختصر في التين وحده ففيه ما حظر
ورعي خلف في الجراد باد لذكره الخلاف في الجراد
وحبة بحبتين تحرم إذ الربا قليله محرم
ثم ذكرت بعد ذلك الخلاف في ربوية البيض بقولي : [ الرجز ]
وقول إن البيض ما فيه الربا إلى ابن شعبان الإمام نسبا
وأصح الروايات عن الشافعي أن علة الربا في الأربعة الطعم ، فكل مطعوم يحرم فيه عنده الربا كالأقوات ، والإدام ، والحلاوات ، والفواكه ، والأدوية . واستدل على أن العلة الطعم بما رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " الحديث . والطعام اسم لكل ما يؤكل ، قال تعالى : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الآية [ 3 \ 93 ] ، وقال تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا الآية [ 80 \ 24 \ 28 ] ، وقال تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ 5 \ 5 ] ، والمراد : ذبائحهم .
وقالت عائشة رضي الله عنها : مكثنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة ما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء ، وعن أبي ذر - رضي الله عنه - في حديثه الطويل في قصه إسلامه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فمن كان يطعمك ؟ " قلت : ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني ، قال : " إنها مباركة ، إنها طعام طعم " رواه مسلم .
وقال لبيد : [ الكامل ]
لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب لا يمن طعامها
يعني بطعامها الفريسة ، قالوا : والنبي - صلى الله عليه وسلم - علق في هذا الحديث الربا على اسم الطعام ، والحكم إذا علق على اسم مشتق دل على أنه علته ، كالقطع في السرقة في قوله : والسارق والسارقة الآية [ 5 \ 38 ] ، قالوا : ولأن الحب ما دام مطعوما يحرم فيه الربا ، فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعوما لم يحرم فيه الربا ، فإذا انعقد الحب وصار مطعوما حرم فيه الربا ، فدل على أن العلة فيه كونه مطعوما ، ولذا كان الماء يحرم فيه الربا على أحد الوجهين عند الشافعية ; لأن الله تعالى قال : إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني [ 2 \ 249 ] [ ص: 176 ] ولقول عائشة المتقدم : ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر ، ولقول الشاعر : [ الطويل ]
فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
والنقاخ : الماء البارد ، هذا هو حجة الشافعية في أن علة الربا في الأربعة الطعم ، فألحقوا بها كل مطعوم ; للعلة الجامعة بينهما .
قال مقيده عفا الله عنه : الاستدلال بحديث معمر المذكور على أن علة الربا الطعم لا يخلو عندي من نظر ، والله تعالى أعلم ; لأن معمرا المذكور لما قال : قد كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " . قال عقبه : وكان طعامنا يومئذ الشعير كما رواه عنه أحمد ومسلم ، وهذا صريح في أن الطعام في عرفهم يومئذ الشعير ، وقد تقرر في الأصول أن العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام ، وعقده في " مراقي السعود " بقوله في مبحث المخصص المنفصل عاطفا على ما يخصص العموم : [ الرجز ]
والعرف حيث قارن الخطابا ودع ضمير البعض والأسبابا
وأشهر الروايات عن أحمد أن علة الربا في الأربعة كونها مكيلة جنس ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وعليه يحرم الربا في كل مكيل ، ولو غير طعام كالجص والنورة والأشنان . واستدلوا بما رواه الدارقطني عن عبادة وأنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما وزن مثلا بمثل إذا كان نوعا واحدا وما كيل فمثل ذلك ، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به " ، قال العلامة الشوكاني في " نيل الأوطار " : حديث أنس وعبادة أشار إليه في " التلخيص " ولم يتكلم عليه ، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره ، وضعفه جماعة ، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا ، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا وغيره من الأحاديث . اهـ منه بلفظه .
واستدلوا أيضا بما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد ، وأبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر ، فجاءهم بتمر جنيب ، فقال : " أكل تمر خيبر هكذا " قال : إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة ، فقال : " لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جنيبا " ، وقال : في الميزان مثل ذلك ، ووجه [ ص: 177 ] الدلالة منه ، أن قوله في الميزان ، يعني في الموزون ; لأن نفس الميزان ليست من أموال الربا ، واستدلوا أيضا بحديث أبي سعيد المتقدم الذي أخرجه الحاكم من طريق حيان بن عبيد الله ، فإن فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، عينا بعين ، مثلا بمثل ، فمن زاد فهو ربا " ، ثم قال : " وكذلك ما يكال أو يوزن أيضا " وأجيب من جهة المانعين بأن حديث الدارقطني لم يثبت ، وكذلك حديث الحاكم ، وقد بينا سابقا ما يدل على ثبوت حديث حيان المذكور ، وقد ذكرنا آنفا كلام الشوكاني في أن حديث الدارقطني أخرجه البزار أيضا ، وأنه يشهد لصحته حديث عبادة بن الصامت وغيره من الأحاديث ، وأن الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره ، وضعفه جماعة ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق سيئ الحفظ ، وكان عابدا مجاهدا ، ومراد الشوكاني بحديث عبادة المذكور ، هو ما أخرجه عنه مسلم ، والإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم " اهـ . فإن قوله صلى الله عليه وسلم : " سواء بسواء ، مثلا بمثل " يدل على الضبط بالكيل والوزن ، وهذا القول أظهرها دليلا .
وأجابوا عن حديث أبي سعيد المتفق عليه بثلاثة أجوبة :
الأول : جواب البيهقي قال : وقد قيل : إن قوله وكذلك الميزان ، من كلام أبي سعيد الخدري موقوف عليه .
الثاني : جواب القاضي أبي الطيب وآخرين أن ظاهر الحديث غير مراد ; لأن الميزان نفسه لا ربا فيه ، وأضمرتم فيه الموزون ، ودعوى العموم في المضمرات لا تصح .
الثالث : حمل الموزون على الذهب والفضة جمعا بين الأدلة ، والظاهر أن هذه الإجابات لا تنهض ; لأن وقفه على أبي سعيد خلاف الظاهر ، وقصد ما يوزن بقوله : وكذلك الميزان لا لبس فيه ، وحمل الموزون على الذهب والفضة فقط خلاف الظاهر ، والله تعالى أعلم .
وفي علة الربا في الأربعة مذاهب أخر غير ما ذكرنا عن الأئمة الأربعة ومن [ ص: 178 ] وافقهم :
الأول : مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم أنه لا ربا أصلا في غير الستة ، ويروى هذا القول عن طاوس ، ومسروق ، والشعبي ، وقتادة ، وعثمان البتي .
الثاني : مذهب أبي بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم أن العلة فيها كونها منتفعا بها ، حكاه عنه القاضي حسين .
الثالث : مذهب ابن سيرين ، وأبي بكر الأودني من الشافعية أن العلة الجنسية ; فيحرم الربا في كل شيء بيع بجنسه كالتراب بالتراب متفاضلا ، والثوب بالثوبين ، والشاة بالشاتين .
الرابع : مذهب الحسن البصري أن العلة المنفعة في الجنس ، فيجوز عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار ، ويحرم بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته دينارين .
الخامس : مذهب سعيد بن جبير أن العلة تقارب المنفعة في الجنس ، فحرم التفاضل في الحنطة بالشعير ، والباقلي بالحمص ، والدخن بالذرة مثلا .
السادس : مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمن أن العلة كونه جنسا تجب فيه الزكاة ; فحرم الربا في كل جنس تجب فيه الزكاة كالمواشي والزرع وغيرها .
السابع : مذهب سعيد بن المسيب وقول الشافعي في القديم : إن العلة كونه مطعوما يكال أو يوزن ونفاه عما سواه ، وهو كل ما لا يؤكل ولا يشرب ، أو يؤكل ولا يكال ولا يوزن كالسفرجل والبطيخ ، وقد تركنا الاستدلال لهذه المذاهب والمناقشة فيها خوف الإطالة المملة .
فروع
الفرع الأول : الشك في المماثلة كتحقق المفاضلة ، فهو حرام في كل ما يحرم فيه ربا الفضل ، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم ، والنسائي عن جابر قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر .
الفرع الثاني : لا يجوز التراخي في قبض ما يحرم فيه ربا النساء ، ودليل ذلك : ما أخرجه البخاري ، ومسلم من حديث مالك بن أوس - رضي الله عنه - قال : أقبلت ؟ أقول : من يصطرف الدراهم ، فقال طلحة : أرنا الذهب حتى يأتي الخازن ، ثم تعال فخذ [ ص: 179 ] ورقك ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كلا ، والذي نفسي بيده لتردن إليه ذهبه ، أو لتنقدنه ورقه ، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الذهب بالورق ربا إلا ها وها ، والبر بالبر ربا إلا ها وها ، والشعير بالشعير ربا إلا ها وها ، والتمر بالتمر ربا إلا ها وها " .
الفرع الثالث : لا يجوز أن يباع ربوي بربوي كذهب بذهب ، ومع أحدهما شيء آخر . ودليل ذلك : ما رواه مسلم في " صحيحه " عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري قال : أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب ، وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة فنزع ، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب وزنا بوزن " .
وروى مسلم نحوه أيضا عن أبي بكر بن شيبة ، وقتيبة بن سعيد من حديث فضالة بن عبيد - رضي الله عنه - ونحوه . أخرجه النسائي ، وأبو داود ، والترمذي وصححه .
وقال العلامة الشوكاني - رحمه الله تعالى - في " نيل الأوطار " ، عند ذكر صاحب " المنتقى " : لحديث فضالة بن عبيد المذكور ما نصه ، الحديث .
قال في " التلخيص " : له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدا في بعضها قلادة فيها خرز وذهب ، وفي بعضها ذهب وجوهر ، وفي بعضها خرز معلقة بذهب ، وفي بعضها باثني عشر دينارا ، وفي بعضها بتسعة دنانير ، وفي أخرى بسبعة دنانير . وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف ، بأنها كانت بيوعا شهدها فضالة .
قال الحافظ : والجواب المسدد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفا ، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه ، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل ، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب .
وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم ، فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة ، وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في " صحيح مسلم " و " سنن أبي داود " ، اهـ منه بلفظه . وقد قدمنا بعض روايات مسلم .
الفرع الرابع : لا يجوز بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بجنسه بأكثر من وزنه ، ودليل ذلك : ما صح عن جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه - صلى الله عليه وسلم - صرح بتحريم بيع [ ص: 180 ] الفضة بالفضة ، والذهب بالذهب ، إلا مثلا بمثل ، وأن من زاد أو استزاد فقد أربى .
وقد أخرج البيهقي في " السنن الكبرى " عن مجاهد أنه قال : كنت أطوف مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال : يا أبا عبد الرحمن ، إني أصوغ الذهب ، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه ، فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي فيه ، فنهاه عبد الله بن عمر عن ذلك ، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد الله بن عمر ينهاه ، حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابته يريد أن يركبها .
ثم قال عبد الله بن عمر : الدينار بالدينار ، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما ، هذا عهد نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلينا وعهدنا إليكم .
ثم قال البيهقي : وقد مضى حديث معاوية حيث باع سقاية ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فنهاه أبو الدرداء ، وما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في النهي عن ذلك .
وروى البيهقي أيضا عن أبي رافع ، أنه قال : قلت لعمر بن الخطاب : إني أصوغ الذهب فأبيعه بوزنه وآخذ لعمالة يدي أجرا ، قال : لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنا بوزن ، ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن ، ولا تأخذ فضلا " ا هـ منه .
وما ذكره البيهقي - رحمه الله - أنه ما قدمه من نهي أبي الدرداء وعمر لمعاوية ، هو قوله : أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق ، وأبو بكر بن الحسن وغيرهما ، قالوا : حدثنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنا مالك ، وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا عبد الله يعني القعنبي عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار : أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها ، فقال له أبو الدرداء : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن مثل هذا إلا مثلا بمثل . فقال معاوية : ما أرى بهذا بأسا . فقال له أبو الدرداء : من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها ، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي الله عنه - فذكر له ذلك فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلا بمثل ووزنا بوزن ، ولم يذكر الربيع عن الشافعي في هذا قدوم أبي الدرداء على عمر ، وقد ذكره الشافعي في رواية المزني . اهـ منه بلفظه .
ونحو هذا أخرجه مسلم في " الصحيح " من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله [ ص: 181 ] عنه - من رواية أبي الأشعث قال : غزونا غزاة وعلى الناس معاوية ، فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس ، فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ، فقام فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا سواء بسواء عينا بعين ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى . فرد الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال : لنحدثن بما سمعنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كره معاوية أو قال : وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء . قال حماد هذا أو نحوه . اهـ .
هذا لفظ مسلم في " صحيحه " وهذه النصوص الصحيحة تدل على أن الصناعة الواقعة في الذهب أو الفضة لا أثر لها ، ولا تبيح المفاضلة بقدر قيمة الصناعة كما ذكرنا . وهذا هو مذهب الحق الذي لا شك فيه . وأجاز مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - للمسافر أن يعطي دار الضرب نقدا وأجرة صياغته ويأخذ عنهما حليا قدر وزن النقد بدون الأجرة ; لضرورة السفر كما أشار إليه خليل بن إسحاق في " مختصره " بقوله : بخلاف تبر يعطيه المسافر وأجرته دار الضرب ليأخذ زنته .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر من نصوص السنة الصحيحة أن هذا لا يجوز ; لضرورة السفر كما استظهر عدم جوازه ابن رشد ، وإليه الإشارة بقول صاحب " المختصر " : والأظهر خلافه يعني : ولو اشتدت الحاجة إليه إلا لضرر يبيح الميتة ، كما قرره شراح " المختصر " .
الفرع الخامس : اختلف الناس في الأوراق المتعامل بها هل يمنع الربا بينها وبين النقدين نظرا إلى أنها سند ، وأن المبيع الفضة التي هي سند بها فيمنع بيعها ولو يدا بيد مثلا بمثل ، ويمنع بيعها بالذهب أيضا ولو يدا بيد ; لأنه صرف ذهب موجود أو فضة موجودة بالفضة غائبة ، وإنما الموجود سند بها فقط فيمنع فيها لعدم المناجزة ; بسبب عدم حضور أحد النقدين أو لا يمنع فيها شيء من ذلك ; نظرا إلى أنها بمثابة عروض التجارة ، فذهب كثير من المتأخرين إلى أنها كعروض التجارة ، فيجوز الفضل والنساء بينها وبين الفضة والذهب ، وممن أفتى بأنها كعروض التجارة العالم المشهور عليش المصري صاحب " النوازل " ، و " شرح مختصر خليل " ، وتبعه في فتواه بذلك كثير من متأخري [ ص: 182 ] علماء المالكية .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنها ليست كعروض التجارة ، وأنها سند بفضة وأن المبيع الفضة التي هي سند بها . ومن قرأ المكتوب عليها فهم صحة ذلك ، وعليه فلا يجوز بيعها بذهب ولا فضة ولو يدا بيد ; لعدم المناجزة بسبب غيبة الفضة المدفوع سندها ; لأنها ليست متمولة ولا منفعة في ذاتها أصلا . فإن قيل لا فرق بين الأوراق وبين فلوس الحديد ; لأن كلا منهما ليس متمولا في ذاته مع أنه رائج بحسب ما جعله له السلطان من المعاملة فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أنا إذا حققنا أن الفلوس الحديدية الحالية لا منفعة فيها أصلا ، وأن حقيقتها سند بفضة ، فما المانع من أن نمنع فيها الربا مع النقد ، والنصوص صريحة في منعه بين النقدين ، وليس هناك إجماع يمنع إجراء النصوص على ظواهرها بل مذهب مالك أن فلوس الحديد لا تجوز بأحد النقدين نسيئة ، فسلم الدراهم في الفلوس كالعكس ممنوع عندهم .
وما ورد عن بعض العلماء مما يدل على أنه لا ربا بين النقدين وبين فلوس الحديد فإنه محمول على أن ذلك الحديد الذي منه تلك الفلوس فيه منافع الحديد المعروفة المشار إليها بقوله تعالى : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس [ 57 \ 25 ] ، فلو جمعت تلك الفلوس وجعلت في النار لعمل منها ما يعمل من الحديد من الأشياء المنتفع بها ، ولو كانت كفلوسنا الحالية على تسليم أنها لا منفعة فيها أصلا ، لما قالوا بالجواز ; لأن ما هو سند لا شك أن المبيع فيه ما هو سند به لا نفس السند . ولذا لم يختلف الصدر الأول في أن المبيع في بيع الصكاك الذي ذكره مسلم في " الصحيح " وغيره أنه الرزق المكتوب فيها لا نفس الصكاك التي هي الأوراق التي هي سند بالأرزاق .
الثاني : أن هناك فرقا بينهما في الجملة وهو أن الفلوس الحديدية لا يتعامل بها بالعرف الجاري قديما وحديثا ، إلا في المحقرات فلا يشترى بها شيء له بال بخلاف الأوراق ، فدل على أنها أقرب للفضة من الفلوس .
الثالث : أنا لو فرضنا أن كلا من الأمرين محتمل فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، ويقول : " فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ، ويقول : [ ص: 183 ] " والإثم ما حاك في النفس " الحديث . وقال الناظم
وذو احتياط في أمور الدين من فر من شك إلى يقين
وقد قدمنا مرارا أن ما دل على التحريم مقدم على ما دل على الإباحة ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، ولا سيما تحريم الربا الذي صرح الله تعالى بأن مرتكبه محارب الله ، وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنه . ومن أنواع الربا ما اختلف العلماء في منعه ، كما إذا كان البيع ظاهره الحلية ، ولكنه يمكن أن يكون مقصودا به التوصل إلى الربا الحرام عن طريق الصورة المباحة في الظاهر كما لو باع سلعة بثمن إلى أجل ، ثم اشترى تلك السلعة بعينها بثمن أقل من الأول نقدا ، أو لأقرب من الأجل الأول ، أو بأكثر لأبعد فظاهر العقدين الإباحة ; لأنه بيع سلعة بدراهم إلى أجل في كل منهما وهذا لا مانع منه ، ولكنه يجوز أن يكون مقصود المتعاقدين دفع دراهم وأخذ دراهم أكثر منها لأجل أن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة ، فيئول الأمر إلى أنه دفع دراهم وأخذ أكثر منها لأجل ، وهو عين الربا الحرام ومثل هذا ممنوع عند مالك ، وأحمد ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، والحسن بن صالح ، وروي عن الشعبي والحكم وحماد كما في " الاستذكار " ، وأجازه الشافعي .
واستدل المانعون بما رواه البيهقي ، والدارقطني عن عائشة أنها أنكرت ذلك على زيد بن أرقم ، وقالت : أبلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب .
وقال الشافعي : إن زيد بن أرقم مخالف لعائشة ، وإذا اختلف صحابيان في شيء رجحنا منهما من يوافقه القياس ، والقياس هنا موافق لزيد ; لأنهما عقدان كل منهما صحيح في نفسه .
وقال الشافعي أيضا : لو كان هذا ثابتا عن عائشة فإنها إنما عابت التأجيل بالعطاء ; لأنه أجل غير معلوم والبيع إليه لا يجوز . واعترضه بعض العلماء بأن الحديث ثابت عن عائشة ، وبأن ابن أبي شيبة ذكر في مصنفه أن أمهات المؤمنين كن يشترين إلى العطاء والله تعالى أعلم . وبأن عائشة لا تدعي بطلان الجهاد بمخالفة رأيها ، وإنما تدعيه بأمر علمته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا البيع الذي ذكرنا تحريمه هو المراد عند العلماء ببيع العينة ويسميه المالكية بيوع الآجال ، وقد نظمت ضابطه في نظمي الطويل في فروع مالك بقولي :
[ الرجز ] [ ص: 184 ]
بيوع الآجال إذا كان الأجل أو ثمن كأخويهما تحل
وإن يك الثمن غير الأول وخالف الأجل وقت الأجل
فانظر إلى السابق بالإعطاء هل عاد له أكثر أو عاد أقل
فإن يكن أكثر مما دفعه فإن ذاك سلف بمنفعة
وإن يكن كشيئه أو قلا عن شيئه المدفوع قبل حلا
قوله تعالى : ويربي الصدقات الآية . ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى ويربي الصدقات ، وبين في موضع آخر أن هذا الإرباء مضاعفة الأجر ، وأنه يشترط في ذلك إخلاص النية لوجه الله تعالى ، وهو قوله تعالى : وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [ 30 \ 39 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة ; لأن الأمر من الله يدل على الوجوب ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة الآية ; لأن الرهن لا يجب إجماعا وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبا وصرح بعدم الوجوب بقوله : فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته الآية ، فالتحقيق أن الأمر في قوله : فاكتبوه للندب والإرشاد ; لأن لرب الدين أن يهبه ويتركه إجماعا ، فالندب إلى الكتابة فيه إنما هو على جهة الحيطة للناس ، قاله القرطبي .
وقال بعضهم : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة ابن عطية ، وهذا القول هو الصحيح قاله القرطبي أيضا .
وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله : فإن أمن ناسخ لأمره بالكتب ، وحكى نحوه ابن جريج ، وقاله ابن زيد ، وروي عن أبي سعيد الخدري وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ ثم خففه الله تعالى بقوله : فإن أمن بعضكم بعضا ، وتمسك جماعة بظاهر الأمر في قوله : فاكتبوه ، فقالوا : إن كتب الدين واجب فرض بهذه الآية بيعا كان أو قرضا ; لئلا يقع فيه نسيان أو جحود وهو اختيار ابن جرير الطبري في " تفسيره " .
[ ص: 185 ] وقال ابن جريج : من أدان فليكتب ومن باع فليشهد . اهـ من القرطبي وسيأتي له زيادة بيان إن شاء الله قريبا .
تنبيه :
أخذ بعض العلماء من قوله تعالى : وإن كنتم على سفر الآية . أن الرهن لا يكون مشروعا إلا في السفر كما قاله مجاهد ، والضحاك ، وداود والتحقيق جوازه في الحضر .
وقد ثبت في " الصحيحين " عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير . وفي " الصحيحين " أنها درع من حديد .
وروى البخاري ، وأحمد ، والنسائي ، وابن ماجه عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - رهن درعا عند يهودي بالمدينة ، وأخذ منه شعيرا لأهله . ولأحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس مثل حديث عائشة فدل الحديث الصحيح على أن قوله : وإن كنتم على سفر ، لا مفهوم مخالفة له ; لأنه جرى على الأمر الغالب ، إذ الغالب أن الكاتب لا يتعذر في الحضر وإنما يتعذر غالبا في السفر ، والجري على الغالب من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كما ذكرناه في هذا الكتاب مرارا والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم ، ظاهر هذا الأمر الوجوب أيضا فيجب على من باع أن يشهد وبهذا قال أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وسعيد بن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وداود بن علي وابنه أبو بكر ، وعطاء ، وإبراهيم قاله القرطبي ، وانتصر له ابن جرير الطبري غاية الانتصار ، وصرح بأن من لم يشهد مخالف لكتاب الله ، وجمهور العلماء على أن الإشهاد على المبايعة وكتاب الدين أمر مندوب إليه لا واجب ، ويدل لذلك قوله تعالى : فإن أمن بعضكم بعضا الآية .
وقال ابن العربي المالكي : إن هذا قول الكافة قال : وهو الصحيح ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك قال : وقد باع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتب قال : ونسخة كتابه : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ، ولا غائلة ، ولا خبثة ، بيع المسلم للمسلم " . وقد باع ولم يشهد ، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد ، ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة . اهـ .
[ ص: 186 ] قال القرطبي بعد أن ساق كلام ابن العربي هذا ما نصه : قلت : قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني ، وأبو داود وكان إسلامه بعد الفتح وحنين ، وهو القائل : قاتلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا . ثم أسلم فحسن إسلامه . ذكره أبو عمر وذكر حديثه هذا .
وقال في آخره : قال الأصمعي : سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال : الإباق ، والسرقة ، والزنا ، وسألته عن الخبثة فقال : بيع أهل عهد المسلمين .
وقال الإمام أبو محمد بن عطية : والوجوب في ذلك قلق أما في الوثائق فصعب شاق ، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يستحى من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه فيدخل ذلك كله في الائتمان ، ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا ، وحكى المهدوي ، والنحاس ، ومكي عن قوم أنهم قالوا : وأشهدوا إذا تبايعتم ، منسوخ بقوله : فإن أمن بعضكم بعضا ، وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدري وأنه تلا : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، إلى قوله : فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ، قال : نسخت هذه الآية ما قبلها .
قال النحاس : وهذا قول الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد .
قال الطبري : وهذا لا معنى له ; لأن هذا حكم غير الأول وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا .
قال الله عز وجل : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا ، أي فلم يطالبه برهن ، فليؤد الذي اؤتمن أمانته ، قال : ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول ، لجاز أن يكون قوله عز وجل : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط الآية [ 4 \ 43 ] ، ناسخا لقوله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية [ 5 \ 6 ] ، ولجاز أن يكون قوله عز وجل : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [ 4 \ 92 ] ، ناسخا لقوله عز وجل : فتحرير رقبة .
وقال بعض العلماء إن قوله تعالى : فإن أمن بعضكم بعضا ، لم يتبين بآخر [ ص: 187 ] نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد بل وردا معا ، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة ، قال : وقد روي عن ابن عباس أنه لما قيل له إن آية الدين منسوخة قال : لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ ، قال : والإشهاد إنما جعل للطمأنينة ، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا منها الكتاب ، ومنها الرهن ، ومنها الإشهاد ، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب ، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد ، وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا ، وبرا وبحرا ، وسهلا وجبلا من غير إشهاد ، مع علم الناس بذلك من غير نكير . ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه ، قلت : هذا كله استدلال حسن وأحسن منه ما جاء في صريح السنة في ترك الإشهاد ، وهو ما أخرجه الدارقطني عن طارق بن عبد الله المحاربي - رضي الله عنه - قال : أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا ، فبينما نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه فقال : " من أين القوم ؟ " فقلنا : من الربذة وجنوب الربذة ، قال : ومعنا جمل أحمر ، فقال : " تبيعوني جملكم هذا ؟ " فقلنا : نعم ، قال : " بكم ؟ " قلنا : بكذا وكذا صاعا من تمر ، قال : فما استوضعنا شيئا ، وقال : " قد أخذته " ، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة ، فتوارى عنا فتلاومنا بيننا وقلنا : أعطيتم جملكم من لا تعرفونه ، فقالت الظعينة : لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه ، فلما كان العشاء أتانا رجل ، فقال : السلام عليكم أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا ، وتكتالوا ، حتى تستوفوا قال : فأكلنا حتى شبعنا ، واكتلنا حتى استوفينا . وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرسا من أعرابي الحديث وفيه : فطفق الأعرابي يقول :
هلم شاهدا يشهد أني بعتك ، قال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك بعته ، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال : " بم تشهد ؟ " قال : بتصديقك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين . أخرجه النسائي وغيره . اهـ من القرطبي بلفظه .
قال مقيده عفا الله عنه : وفيما نقلنا الدلالة الواضحة على أن الإشهاد والكتابة مندوب إليهما لا فرضان واجبان كما قاله ابن جرير وغيره ، ولم يبين الله تعالى في هذه الآية أعني : قوله جل وعلا : وأشهدوا إذا تبايعتم ، اشتراط العدالة في الشهود ، [ ص: 188 ] ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله : ممن ترضون من الشهداء ، وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 ] . وقد تقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيد كما بيناه في غير هذا الموضع .
قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا ؟ وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به الآية [ 33 \ 5 ] ، وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، فإنه ظاهر في أنه قبل الذكرى لا إثم عليه في ذلك ، ولا يقدح في هذا أن آية : وإما ينسينك الشيطان مكية ; وآية : لا تؤاخذنا إن نسينا ، مدنية إذ لا مانع من بيان المدني بالمكي كعكسه .
وقد ثبت في " صحيح مسلم " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، قال الله تعالى : نعم .
قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين ، لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا ؟ ولم يبين الإصر الذي كان محمولا على من قبلنا ، وبين أنه أجاب دعاءهم هذا في مواضع أخر كقوله : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ 7 \ 157 ] ، وقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، وقوله : يريد الله بكم اليسر الآية [ 2 \ 185 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأشار إلى بعض الإصر الذي حمل على من قبلنا بقوله : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم [ 2 \ 54 ] ; لأن اشتراط قتل النفس في قبول التوبة من أعظم الإصر ، والإصر الثقل في التكليف ومنه قول النابغة :
[ البسيط ]
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعدما عرفوا
ابو وليد البحيرى
2020-08-11, 04:15 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (23)
سورة آل عمران (1)
[ ص: 189 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة آل عمران
قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله ، يحتمل أن المراد بالتأويل في هذه الآية الكريمة التفسير وإدراك المعنى ، ويحتمل أن المراد به حقيقة أمره التي يئول إليها وقد قدمنا في مقدمة هذا الكتاب أن من أنواع البيان التي ذكرنا أن كون أحد الاحتمالين هو الغالب في القرآن . يبين أن ذلك الاحتمال الغالب هو المراد ; لأن الحمل على الأغلب أولى من الحمل على غيره . وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الغالب في القرآن إطلاق التأويل على حقيقة الأمر التي يئول إليها كقوله : هذا تأويل رؤياي من قبل [ 12 \ 100 ] ، وقوله : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله الآية [ 10 \ 39 ] ، وقوله : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله [ 10 \ 39 ] ، وقوله : ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . قال ابن جرير الطبري : وأصل التأويل من آل الشيء إلى كذا إذا صار إليه ، ورجع يئول أو لا ، وأولته أنا صيرته إليه ، وقال : وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى :
[ الطويل ]
على أنها كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا
قال : ويعني بقوله : تأول حبها مصير حبها ومرجعه ، وإنما يريد بذلك أن حبها كان صغيرا في قلبه فآل من الصغر إلى العظم ، فلم يزل ينبت حتى أصحب فصار قديما كالسقب الصغير الذي لم يزل يشب حتى أصحب ، فصار كبيرا مثل أمه . قال وقد ينشد هذا البيت :
[ الطويل ]
على أنها كانت توابع حبها توالي ربعي السقاب فأصحبا
اهـ . وعليه فلا شاهد فيه ، والربعي السقب الذي ولد في أول النتاج ، ومعنى أصحب انقاد لكل من يقوده ، ومنه قول امرئ القيس :
[ المتقارب ]
ولست بذي رثية إمر إذا قيد مستكرها أصحبا
[ ص: 190 ] والرثية : وجع المفاصل ، والإمر : بكسر الهمزة وتشديد الميم مفتوحة بعدها راء ، هو الذي يأتمر لكل أحد ; لضعفه . وأنشد بيت الأعشى المذكور الأزهري و " صاحب اللسان " :
[ الطويل ]
ولكنها كانت نوى أجنبيه توالي ربعي السقاب فأصحبا
وأطالا في شرحه وعليه فلا شاهد فيه أيضا .
تنبيه :
اعلم أن التأويل يطلق ثلاثة إطلاقات :
الأول : هو ما ذكرنا من أنه الحقيقة التي يئول إليها الأمر ، وهذا هو معناه في القرآن .
الثاني : يراد به التفسير والبيان ، ومنه بهذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في ابن عباس : " اللهم فقهه في الدين ، وعلمه التأويل " . وقول ابن جرير وغيره من العلماء ، القول في تأويل قوله تعالى : كذا وكذا أي : تفسيره وبيانه . وقول عائشة الثابت في الصحيح : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي " يتأول القرآن تعني يمتثله ويعمل به ، والله تعالى أعلم .
الثالث : هو معناه المتعارف في اصطلاح الأصوليين ، وهو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك ، وحاصل تحرير مسألة التأويل عند أهل الأصول أنه لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح :
الأولى : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك ، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح ، والتأويل القريب كقوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح : " الجار أحق بصقبه " ، فإن ظاهره المتبادر منه ثبوت الشفعة للجار ، وحمل الجار في هذا الحديث على خصوص الشريك المقاسم حمل له على محتمل مرجوح ، إلا أنه دل عليه الحديث الصحيح المصرح بأنه إذا صرفت الطرق وضربت الحدود ، فلا شفعة .
الحالة الثانية : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلا وليس بدليل في نفس الأمر ، وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد ، والتأويل البعيد ، ومثل [ ص: 191 ] له الشافعية ، والمالكية ، والحنابلة بحمل الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ، باطل " على المكاتبة ، والصغيرة ، وحمله أيضا - رحمه الله - لمسكين في قوله : ستين مسكينا على المد ، فأجاز إعطاء ستين مدا لمسكين واحد .
الحالة الثالثة : أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلا ، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعبا ، كقول بعض الشيعة : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة [ 2 \ 67 ] ، يعني عائشة - رضي الله عنها - وأشار في " مراقي السعود " إلى حد التأويل ، وبيان الأقسام الثلاثة بقوله معرفا للتأويل : [ الرجز ]
حمل لظاهر على المرجوح واقسمه للفاسد والصحيح صحيحه وهو القريب ما حمل
مع قوة الدليل عند المستدل
وغيره الفاسد والبعيد
وما خلا فلعبا يفيد
إلى أن قال : [ الرجز ]
فجعل مسكين بمعنى المد عليه لائح سمات البعد
كحمل امرأة على الصغيرة وما ينافي الحرة الكبيرة
وحمل ما ورد في الصيام على القضاء مع الالتزام
أما التأويل في اصطلاح خليل بن إسحاق المالكي الخاص به في " مختصره " ، فهو عبارة عن اختلاف شروح " المدونة " في المراد عند مالك - رحمه الله - وأشار له في " المراقي " بقوله : [ الرجز ]
والخلف في فهم الكتاب صير إياه تأويلا لدى المختصر
والكتاب في اصطلاح فقهاء المالكية " المدونة " .
قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به الآية [ 3 \ 7 ] ، لا يخفى أن هذه الواو محتملة للاستئناف ، فيكون قوله : والراسخون في العلم مبتدأ ، وخبره يقولون ، وعليه فالمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله وحده ، والوقف على هذا تام على لفظة الجلالة ومحتملة لأن تكون عاطفة ، فيكون قوله : والراسخون معطوفا على لفظ الجلالة ، وعليه فالمتشابه يعلم تأويله : الراسخون في العلم أيضا ، وفي الآية إشارات تدل على أن الواو استئنافية لا عاطفة .
[ ص: 192 ] قال ابن قدامة في روضة الناظر ما نصه : ولأن في الآية قرائن تدل على أن الله سبحانه متفرد بعلم المتشابه ، وأن الوقف الصحيح عند قوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله لفظا ومعنى ، أما اللفظ فلأنه لو أراد عطف الراسخين لقال : ويقولون آمنا به بالواو ، أما المعنى فلأنه ذم مبتغي التأويل ، ولو كان ذلك للراسخين معلوما لكان مبتغيه ممدوحا لا مذموما ; ولأن قولهم آمنا به يدل على نوع تفويض وتسليم لشيء لم يقفوا على معناه سيما إذا تبعوه بقولهم : كل من عند ربنا فذكرهم ربهم هاهنا يعطي الثقة به والتسليم لأمره ، وأنه صدر من عنده ، كما جاء من عنده المحكم ; *********ولأن لفظة أما لتفصيل الجمل فذكره لها في الذين في قلوبهم زيغ مع وصفه إياهم باتباع المتشابه وابتغاء تأويله يدل على قسم آخر يخالفهم في هذه الصفة ، وهم الراسخون . ولو كانوا يعلمون تأويله لم يخالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل ، وإذ قد ثبت أنه غير معلوم التأويل لأحد فلا يجوز حمله على غير ما ذكرنا . اهـ من " الروضة " بلفظه .
ومما يؤيد أن الواو استئنافية لا عاطفة ، دلالة الاستقراء في القرآن أنه تعالى إذا نفى عن الخلق شيئا وأثبته لنفسه ، أنه لا يكون له في ذلك الإثبات شريك كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، وقوله : لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] ، وقوله : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] ، فالمطابق لذلك أن يكون قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ، معناه : أنه لا يعلمه إلا هو وحده كما قاله الخطابي وقال : لو كانت الواو في قوله : والراسخون في العلم للنسق ، لم يكن لقوله : كل من عند ربنا فائدة : والقول بأن الوقف تام على قوله : إلا الله ، وأن قوله : والراسخون ابتداء كلام هو قول جمهور العلماء للأدلة القرآنية التي ذكرنا .
وممن قال بذلك عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وعروة بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن مسعود ، وأبي بن كعب ، نقله عنهم القرطبي وغيره ، ونقله ابن جرير عن يونس ، عن أشهب ، عن مالك بن أنس ، وهو مذهب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد .
وقال أبو نهيك الأسدي : إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم : آمنا به كل من عند ربنا ، والقول بأن الواو عاطفة مروي [ ص: 193 ] أيضا عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد والربيع ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والقاسم بن محمد وغيرهم . وممن انتصر لهذا القول وأطال فيه ابن فورك ونظير الآية في احتمال الاستئناف والعطف قول الشاعر :
[ مرفل الكامل ]
الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه
فيحتمل أن يكون والبرق مبتدأ ، والخبر يلمع كالتأويل الأول ، فيكون مقطوعا مما قبله ، ويحتمل أن يكون معطوفا على الريح ، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي : لامعا .
واحتج القائلون بأن الواو عاطفة بأن الله - سبحانه وتعالى - مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم بذلك وهم جهال .
قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمرو : هذا القول هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع . انتهى منه بلفظه .
قال مقيده عفا الله عنه : يجاب عن كلام شيخ القرطبي المذكور بأن رسوخهم في العلم هو السبب الذي جعلهم ينتهون حيث انتهى علمهم ويقولون فيما لم يقفوا على علم حقيقته من كلام الله جل وعلا : آمنا به كل من عند ربنا بخلاف غير الراسخين فإنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، وهذا ظاهر .
وممن قال بأن الواو عاطفة الزمخشري في تفسيره " الكشاف " . والله تعالى أعلم ونسبة العلم إليه أسلم .
وقال بعض العلماء : والتحقيق في هذا المقام أن الذين قالوا : هي عاطفة جعلوا معنى التأويل التفسير وفهم المعنى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم علمه التأويل " ، أي : التفسير وفهم معاني القرآن ، والراسخون يفهمون ما خوطبوا به وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه . والذين قالوا : هي استئنافية جعلوا معنى التأويل حقيقة ما يئول إليه الأمر وذلك لا يعلمه إلا الله ، وهو تفصيل جيد ولكنه يشكل عليه أمران :
الأول قول ابن عباس رضي الله عنهما : التفسير على أربعة أنحاء : تفسير : لا [ ص: 194 ] يعذر أحد في فهمه ، وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله . فهذا تصريح من ابن عباس أن هذا الذي لا يعلمه إلا الله بمعنى التفسير لا ما تئول إليه حقيقة الأمر .
وقوله هذا ينافي التفصيل المذكور .
الثاني : أن الحروف المقطعة في أوائل السور لا يعلم المراد بها إلا الله إذ لم يقم دليل على شيء معين أنه هو المراد بها من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ولا من لغة العرب . فالجزم بأن معناها كذا على التعيين تحكم بلا دليل .
تنبيهان
الأول : اعلم أنه على القول بأن الواو عاطفة فإن إعراب جملة " يقولون " مستشكل من ثلاث جهات :
الأولى أنها حال من المعطوف وهو الراسخون ، دون المعطوف عليه وهو لفظ الجلالة . والمعروف إتيان الحال من المعطوف والمعطوف عليه معا كقولك : جاء زيد وعمرو راكبين .
وقوله تعالى : وسخر لكم الشمس والقمر دائبين [ 14 \ 33 ] .
وهذا الإشكال ساقط ; لجواز إتيان الحال من المعطوف فقط دون المعطوف عليه ، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، فقوله صفا حال من المعطوف وهو الملك ، دون المعطوف عليه وهو لفظة : ربك . وقوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا الآية [ 59 \ 10 ] ، فجملة يقولون حال من واو الفاعل في قوله : الذين جاءوا ، وهو معطوف على قوله : للفقراء المهاجرين [ 59 \ 8 ] ، وقوله : والذين تبوءوا الدار والإيمان [ 59 \ 9 ] ، فهو حال من المعطوف دون المعطوف عليه كما بينه ابن كثير وغيره .
الجهة الثانية من جهات الإشكال المذكورة هي ما ذكره القرطبي عن الخطابي قال عنه : واحتج له بعض أهل اللغة ، فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين : [ ص: 195 ] آمنا ، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال ، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه ; لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا ، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل ، فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال ، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكبا يعني : أقبل عبد الله راكبا ، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس ، فكان يصلح حالا له كقول الشاعر أنشدنيه أبو عمر قال : أنشدنا أبو العباس ثعلب :
[ الرجز ]
أرسلت فيها قطما لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا
أي يقصر ماشيا وهذا الإشكال أيضا ساقط ; لأن الفعل العامل في الحال المذكورة غير مضمر ; لأنه مذكور في قوله يعلم ولكن الحال من المعطوف دون المعطوف عليه ، كما بينه العلامة الشوكاني في " تفسيره " وهو واضح .
الجهة الثالثة من جهات الإشكال المذكورة هي : أن المعروف في اللغة العربية أن الحال قيد لعاملها ووصف لصاحبها ، فيشكل تقييد هذا العامل الذي هو يعلم بهذه الحال التي هي يقولون آمنا ; إذ لا وجه لتقييد علم الراسخين بتأويله بقولهم آمنا به ; لأن مفهومه أنهم في حال عدم قولهم آمنا به لا يعلمون تأويله وهو باطل ، وهذا الإشكال قوي وفيه الدلالة على منع الحالية في جملة يقولون على القول بالعطف .
التنبيه الثاني : إذا كانت جملة يقولون : لا يصح أن تكون حالا لما ذكرنا فما وجه إعرابها على القول بأن الواو عاطفة . الجواب : والله تعالى أعلم أنها معطوفة بحرف محذوف والعطف بالحرف المحذوف ، أجازه ابن مالك وجماعة من علماء العربية . والتحقيق جوازه ، وأنه ليس مختصا بضرورة الشعر كما زعمه بعض علماء العربية ، والدليل على جوازه وقوعه في القرآن ، وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرآن قوله تعالى : وجوه يومئذ ناعمة الآية [ 88 \ 8 ] ، فإنه معطوف بلا شك على قوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة [ 88 ] ، بالحرف المحذوف الذي هو الواو ويدل له إثبات الواو في نظيره في قوله تعالى في سورة " القيامة " : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة الآية [ 22 ، 24 ] ، وقوله تعالى في " عبس " : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة الآية [ 40 \ 38 ] .
وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت [ ص: 196 ] الآية [ 9 \ 92 ] ، قال : يعني وقلت : بالعطف بواو محذوفة وهو أحد احتمالات ذكرها ابن هشام في [ المغني ] ، وجعل بعضهم منه : إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، على قراءة فتح همزة إن قال : هو معطوف بحرف محذوف على قوله : شهد الله أنه لا إله إلا هو [ 3 \ 18 ] ، أي : وشهد أن الدين عند الله الإسلام وهو أحد احتمالات ذكرها صاحب " المغني " أيضا ومنه حديث : " تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره " يعني ومن درهمه ومن صاع إلخ .
حكاه الأشموني وغيره ، والحديث المذكور أخرجه مسلم ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن ومن شواهد حذف حرف العطف قول الشاعر :
[ الخفيف ]
كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد الكريم
يعني : وكيف أمسيت وقول الحطيئة : [ البسيط ] إن امرأ رهطه بالشام منزله برمل يبرين جار شد ما اغتربا
أي : ومنزله برمل يبرين .
وقيل : الجملة الثانية صفة ثانية لا معطوفة وعليه فلا شاهد في البيت ، وممن أجاز العطف بالحرف المحذوف الفارسي وابن عصفور خلافا لابن جني والسهيلي .
ولا شك أن في القرآن أشياء لا يعلمها إلا الله كحقيقة الروح ; لأن الله تعالى يقول : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي الآية [ 17 \ 85 ] ، وكمفاتح الغيب التي نص على أنها لا يعلمها إلا هو بقوله : وعنده مفاتح الغيب الآية [ 6 \ 59 ] .
وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية [ 31 ] . وكالحروف المقطعة في أوائل السور وكنعيم الجنة لقوله تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 32 \ 17 ] ، وفيه أشياء يعلمها الراسخون في العلم دون غيرهم كقوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 94 ] ، وقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، مع قوله : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، وقوله : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وكقوله : وروح منه [ 4 \ 171 ] ، والرسوخ والثبوت . ومنه قول الشاعر :
[ الطويل ] [ ص: 197 ]
لقد رسخت في القلب مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا
قوله تعالى : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم شيئا ، وذكر أنهم وقود النار أي : حطبها الذي تتقد فيه ، ولم يبين هنا هل نفيه لذلك تكذيب لدعواهم أن أموالهم وأولادهم تنفعهم ، وبين في مواضع أخر أنهم ادعوا ذلك ظنا منهم أنه ما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك ، وأن الآخرة كالدنيا يستحقون فيها ذلك أيضا فكذبهم في آيات كثيرة ، فمن الآيات الدالة على أنهم ادعوا ذلك قوله تعالى : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله تعالى : أفرأيت الذي كفر بآياتنا [ 19 \ 77 ] ، وقال : لأوتين مالا وولدا ، يعني في الآخرة كما أوتيته في الدنيا . وقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، أي : بدليل ما أعطاني في الدنيا ، وقوله : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] ، قياسا منه للآخرة على الدنيا ورد الله عليهم هذه الدعوى في آيات كثيرة كقوله هنا : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم الآية [ 3 \ 116 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 56 ] ، وقوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى [ 34 \ 37 ] ، وقوله : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقوله : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 ، 45 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وصرح في موضع آخر أن كونهم وقود النار المذكور هنا على سبيل الخلود وهو قوله : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 3 \ 116 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-08-11, 04:16 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (24)
سورة آل عمران (2)
قوله تعالى : كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ، لم يبين هنا من هؤلاء الذين من قبلهم وما ذنوبهم التي أخذهم الله بها .
وبين في مواضع أخر أن منهم قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، [ ص: 198 ] وقوم شعيب ; وأن ذنوبهم التي أخذهم بها هي الكفر بالله ، وتكذيب الرسل وغير ذلك من المعاصي ، كعقر ثمود للناقة ، وكلواط قوم لوط ، وكتطفيف قوم شعيب للمكيال والميزان ، وغير ذلك كما جاء مفصلا في آيات كثيرة كقوله في نوح وقومه : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 29 \ 14 ] ، ونحوها من الآيات وكقوله في قوم هود : إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم الآية [ 51 \ 41 ] ، ونحوها من الآيات . وكقوله في قوم صالح : وأخذ الذين ظلموا الصيحة الآية [ 11 \ 67 ] ، ونحوها من الآيات . وكقوله في قوم لوط : فجعلنا عاليها سافلها الآية [ 15 ] ، ونحوها من الآيات . وكقوله في قوم شعيب : فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم [ 26 \ 189 ] ، ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : قد كان لكم آية في فئتين التقتا الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن وقعة بدر آية أي : علامة على صحة دين الإسلام إذ لو كان غير حق لما غلبت الفئة القليلة الضعيفة المتمسكة به الفئة الكثيرة القوية التي لم تتمسك به .
وصرح في موضع آخر أن وقعة بدر بينة أي : لا لبس في الحق معها وذلك في قوله : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة [ 8 \ 42 ] .
وصرح أيضا بأن وقعة بدر فرقان فارق بين الحق والباطل ، وهو قوله : وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان الآية [ 8 \ 41 ] .
قوله تعالى : والخيل المسومة والأنعام ، لم يبين هنا كم يدخل تحت لفظ الأنعام من الأصناف .
ولكنه قد بين في مواضع أخر أنها ثمانية أصناف هي الجمل ، والناقة ، والثور ، والبقرة ، والكبش ، والنعجة ، والتيس ، والعنز كقوله تعالى : ومن الأنعام حمولة وفرشا [ 6 \ 142 ] ، ثم بين الأنعام بقوله : ثمانية أزواج من الضأن اثنين [ 6 \ 143 ] ، يعني الكبش والنعجة : ومن المعز اثنين ، يعني : التيس والعنز إلى قوله : ومن الإبل اثنين [ 6 \ 144 ] يعني : الجمل والناقة ، ومن البقر اثنين ، يعني : الثور والبقرة وهذه الثمانية هي المرادة بقوله : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] ، وهي المشار إليها بقوله : فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا [ ص: 199 ] الآية [ 42 \ 11 ] .
تنبيه :
ربما أطلقت العرب لفظ النعم على خصوص الإبل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " من حمر النعم " يعني : الإبل . وقول حسان رضي الله عنه : [ الوافر ]
وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء
أي : إبل وشاء .
قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية . صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن اتباع نبيه موجب لمحبته جل وعلا ذلك المتبع ، وذلك يدل على أن طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هي عين طاعته تعالى ، وصرح بهذا المدلول في قوله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، وقال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
تنبيه :
يؤخذ من هذه الآية الكريمة أن علامة المحبة الصادقة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - هي اتباعه صلى الله عليه وسلم ، فالذي يخالفه ويدعي أنه يحبه فهو كاذب مفتر ; إذ لو كان محبا له لأطاعه ، ومن المعلوم عند العامة أن المحبة تستجلب الطاعة ، ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وقول ابن أبي ربيعة المخزومي : [ المتقارب ]
ومن لو نهاني من حبه عن الماء عطشان لم أشرب
وقد أجاد من قال : [ البسيط ]
قالت : وقد سألت عن حال عاشقها بالله صفه ولا تنقص ولا تزد
فقلت : لو كان رهن الموت من ظمأ وقلت : قف عن ورود الماء لم يرد
قوله تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر ، لم يبين هنا القدر الذي بلغ من الكبر ، ولكنه بين في سورة " مريم " أنه بلغ من الكبر عتيا ، وذلك في قوله تعالى عنه : وقد بلغت من الكبر عتيا [ 19 \ 8 ] ، والعتي : اليبس والقحول في المفاصل [ ص: 200 ] والعظام من شدة الكبر .
وقال ابن جرير في " تفسيره " : وكل متناه إلى غايته في كبر أو فساد أو كفر فهو عات ، وعاس . قوله تعالى عن زكريا : امرأتي عاقرا [ 19 \ 8 ] ، لم يبين هنا هل كانت كذلك أيام شبابها ، ولكنه بين في سورة " مريم " أنها كانت كذلك قبل كبرها بقوله عنه : وكانت امرأتي عاقرا الآية .
قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة ، لم يبين هل المانع له من كلام الناس بكم طرأ له ، أو آفة تمنعه من ذلك ، أو لا مانع له إلا الله وهو صحيح لا علة له .
ولكنه بين في سورة " مريم " أنه لا بأس عليه وأن انتفاء التكلم عنه لا لبكم ، ولا مرض وذلك في قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا [ 19 \ 10 ] ; لأن قوله سويا حال من فاعل تكلم مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة ، لا لاعتقال اللسان بمرض ، أي : يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه ، في حال كونك سوي الخلق سليم الجوارح ، ما بك شائبة بكم ولا خرس ، وهذا ما عليه الجمهور ، ويشهد له قوله تعالى : واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار [ 3 \ 41 ] .
وعن ابن عباس : أن سويا عائد إلى الليالي . أي : كاملات مستويات ، فيكون صفة الثلاث ، وعليه فلا بيان بهذه الآية لآية " آل عمران " .
قوله تعالى : إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه الآية ، لم يبين هنا هذه الكلمة التي أطلقت على عيسى ; لأنها هي السبب في وجوده من إطلاق السبب وإرادة مسببه ، ولكنه بين في موضع آخر أنها لفظة كن ، وذلك في قوله : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن [ 3 \ 59 ] ، وقيل : الكلمة بشارة الملائكة لها بأنها ستلده واختاره ابن جرير ، والأول قول الجمهور .
قوله تعالى : ويكلم الناس في المهد ، لم يبين هنا ما كلمهم به في المهد ، ولكنه بينه في سورة " مريم " بقوله : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [ 19 \ 29 \ 33 ] .
[ ص: 201 ] قوله تعالى : قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، أشار في هذه الآية إلى قصة حملها بعيسى وبسطها مبينة في سورة " مريم " بقوله : واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا الآية [ 16 \ 17 ] . إلى آخر القصة وبين النفخ فيها في سورة " التحريم " و " الأنبياء " ، معبرا في التحريم بالنفخ في فرجها ، وفي " الأنبياء " بالنفخ فيها .
قوله تعالى : فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله الآية ، لم يبين هنا الحكمة في ذكر قصة الحواريين مع عيسى ، ولكنه بين في سورة " الصف " أن حكمة ذكر قصتهم هي أن تتأسى بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في نصرة الله ودينه ، وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله الآية [ 14 ] .
قوله تعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ، لم يبين هنا مكر اليهود بعيسى ، ولا مكر الله باليهود ، ولكنه بين في موضع آخر أن مكرهم به محاولتهم قتله ، وذلك في قوله : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [ 4 \ 157 ، 158 ] ، وبين أن مكره بهم إلقاؤه الشبه على غير عيسى وإنجاؤه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وذلك في قوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [ 4 \ 157 ] ، وقوله : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه الآية [ 157 \ 158 ] .
قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك الآية .
قال بعض العلماء : أي منجيك ورافعك إلي في تلك النومة ويستأنس لهذا التفسير بالآيات التي جاء فيها إطلاق الوفاة على النوم ، كقوله : وهو الذي يتوفاكم بالليل الآية [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] .
قوله تعالى : يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم لم يبين هنا ما وجه محاجتهم في إبراهيم ، ولكنه بين في موضع آخر أن محاجتهم في إبراهيم هي قول اليهود : إنه يهودي ، والنصارى : إنه نصراني ، وذلك في قوله : أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله [ 2 \ 140 ] ، [ ص: 202 ] وأشار إلى ذلك هنا بقوله : والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا الآية [ 3 \ 66 \ 67 ] .
قوله تعالى : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم .
قال بعض العلماء : يعني إذا أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ ، وهذا التفسير يشهد له قوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 \ 18 ] . وقد تقرر في الأصول حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا .
وقال بعض العلماء : معنى لن تقبل توبتهم لن يوفقوا للتوبة حتى تقبل منهم ويشهد له قوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 137 ] ، فعدم غفرانه لهم لعدم هدايتهم السبيل الذي يغفر لصاحبه ونظيرها قوله تعالى : لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ، 169 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-08-11, 04:17 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (25)
سورة آل عمران (3)
قوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا الآية ، صرح في هذه الآية الكريمة أن الكفار يوم القيامة لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به .
وصرح في مواضع أخر أنه لو زيد بمثله لا يقبل منه أيضا كقوله : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم [ 5 \ 36 ] ، وبين في مواضع أخر ، أنه لا يقبل فداء في ذلك اليوم منهم بتاتا كقوله : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا [ 57 \ 15 ] ، وقوله : وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها [ 6 \ 70 ] ، وقوله : ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة [ 2 \ 123 ] ، والعدل : الفداء .
قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ، صرح في هذه الآية ، أنه غني عن خلقه ، وأن كفر من كفر منهم لا يضره شيئا ، وبين هذا المعنى في مواضع متعددة ، كقوله عن نبيه موسى : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] ، [ ص: 203 ] وقوله : إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] ، وقوله : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] ، وقوله : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني [ 10 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فالله تبارك وتعالى يأمر الخلق وينهاهم لا لأنه تضره معصيتهم ، ولا تنفعه طاعتهم ، بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم ، كما قال تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها [ 17 \ 7 ] ، وقال : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ 41 \ 46 ] ، وقال : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] .
وثبت في " صحيح مسلم " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه أنه قال : " يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ، يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا " الحديث .
تنبيه :
قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ، بعد قوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، يدل على أن من لم يحج كافر ، والله غني عنه .
وفي المراد بقوله : ومن كفر أوجه للعلماء . الأول : أن المراد بقوله : ومن كفر أي : ومن جحد فريضة الحج ، فقد كفر والله غني عنه ، وبه قال : ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد قاله ابن كثير . ويدل لهذا الوجه ما روي عن عكرمة ومجاهد من أنهما قالا لما نزلت : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ 3 \ 85 ] ، قالت اليهود : فنحن مسلمون .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبوا أن يحجوا " . قال الله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .
[ ص: 204 ] الوجه الثاني : أن المراد بقوله : ومن كفر [ 3 \ 97 ] ، أي : ومن لم يحج على سبيل التغليظ البالغ في الزجر عن ترك الحج مع الاستطاعة كقوله للمقداد الثابت في " الصحيحين " حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب : " لا تقتله ، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله ، وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال " .
الوجه الثالث : حمل الآية على ظاهرها وأن من لم يحج مع الاستطاعة فقد كفر .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من ملك زادا وراحلة ، ولم يحج بيت الله فلا يضره ، مات يهوديا ، أو نصرانيا ; وذلك بأن الله قال : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " [ 3 \ 97 ] .
روى هذا الحديث الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، كما نقله عنهم ابن كثير وهو حديث ضعيف ضعفه غير واحد بأن في إسناده هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي ، وهلال هذا . قال الترمذي : مجهول ، وقال البخاري : منكر الحديث ، وفي إسناده أيضا الحارث الذي رواه عن علي - رضي الله عنه - قال الترمذي : إنه يضعف في الحديث . وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ . انتهى بالمعنى من ابن كثير .
وقال ابن حجر : في " الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف " : في هذا الحديث أخرجه الترمذي من رواية هلال بن عبد الله الباهلي ، حدثنا أبو إسحاق عن الحارث ، عن علي رفعه : " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ، ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا " .
وقال : غريب وفي إسناده مقال ، وهلال بن عبد الله مجهول ، والحارث يضعف ، وأخرجه البزار من هذا الوجه ، وقال : لا نعلمه عن علي إلا من هذا الوجه ، وأخرجه ابن عدي ، والعقيلي في ترجمة هلال ، ونقلا عن البخاري أنه منكر الحديث .
وقال البيهقي في " الشعب " : تفرد به هلال وله شاهد من حديث أبي أمامة ، أخرجه الدارمي بلفظ : " من لم يمنعه عن الحج حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائر ، أو مرض حابس ، فمات فليمت إن شاء يهوديا ، أو إن شاء نصرانيا " ، أخرجه من رواية شريك عن ليث بن أبي سليم ، عن عبد الرحمن بن سابط عنه ، ومن هذا الوجه أخرجه [ ص: 205 ] البيهقي في " الشعب " ، وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص ، عن ليث ، عن عبد الرحمن مرسلا لم يذكر أبا أمامة وأورده ابن الجوزي في " الموضوعات " من طريق ابن عدي ، وابن عدي وأورده في " الكامل " في ترجمة أبي المهزوم يزيد بن سفيان عن أبي هريرة مرفوعا نحوه ، ونقل عن القلاس أنه كذب أبا المهزوم ، وهذا من غلط ابن الجوزي في تصرفه ; لأن الطريق إلى أبي أمامة ليس فيها من اتهم بالكذب .
وقد صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : من أطاق الحج فلم يحج فسواء مات يهوديا أو نصرانيا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته الآية أكثر العلماء على أنها منسوخة بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] .
وقال بعضهم : هي مبينة للمراد منها فقوله : حق تقاته ، أي : بقدر الطاقة ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، لم يبين هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة ، ولكنه بين في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرا عظيما حتى لو أنفق ما في الأرض كله ; لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئا وذلك في قوله : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم [ 8 \ 62 \ 63 ] .
قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ، لم يبين هنا ما بلغته معاداتهم من الشدة ، ولكنه بين في موضع آخر أن معاداتهم بلغت من الشدة أمرا عظيما حتى لو أنفق ما في الأرض كله ; لإزالتها وللتأليف بين قلوبهم لم يفد ذلك شيئا وذلك في قوله : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم [ 8 \ 62 \ 63 ] .
قوله تعالى : وتسود وجوه بين في هذه الآية الكريمة أن من أسباب اسوداد الوجوه يوم القيامة الكفر بعد الإيمان ، وذلك في قوله : فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم الآية [ 3 \ 106 ] .
وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكذب على الله تعالى وهو قوله تعالى : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة [ 39 \ 60 ] . وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك اكتساب السيئات ، وهو قوله : والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما [ 10 \ 27 ] ، وبين في موضع آخر أن من أسباب ذلك الكفر والفجور وهو [ ص: 206 ] قوله تعالى : ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة [ 80 \ 40 \ 42 ] .
وهذه الأسباب في الحقيقة شيء واحد عبر عنه بعبارات مختلفة ، وهو الكفر بالله تعالى ، وبين في موضع آخر شدة تشويه وجوههم بزرقة العيون ، وهو قوله : ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [ 20 \ 102 ] ، وأقبح صورة أن تكون الوجوه سودا والعيون زرقا ، ألا ترى الشاعر لما أراد أن يصور علل البخيل في أقبح صورة ، وأشوهها اقترح لها زرقة العيون ، واسوداد الوجوه في قوله :
وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود
قوله تعالى : من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، ذكر هنا من صفات هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب أنها قائمة ، أي : مستقيمة على الحق وأنها تتلو آيات الله آناء الليل ، وتصلي ، وتؤمن بالله ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
وذكر في موضع آخر أنها تتلو الكتاب حق تلاوته وتؤمن بالله ، وهو قوله : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به [ 2 \ 121 ] .
وذكر في موضع آخر أنهم يؤمنون بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليهم ، وأنهم خاشعون لله لا يشترون بآياته ثمنا قليلا ، وهو قوله : وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا [ 3 \ 199 ] . وذكر في موضع آخر أنهم يفرحون بإنزال القرآن ، وهو قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك [ 13 \ 36 ] . وذكر في موضع آخر أنهم يعلمون أن إنزال القرآن من الله حق ، وهو قوله : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق الآية [ 6 \ 114 ] ، وذكر في موضع آخر أنهم إذا تلي عليهم القرآن خروا لأذقانهم سجدا ، وسبحوا ربهم ، وبكوا ، وهو قوله : إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا [ 17 \ 107 \ 109 ] .
وقال في بكائهم عند سماعه أيضا : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [ 5 \ 83 ] ، [ ص: 207 ] وذكر في موضع آخر أن هذه الطائفة من أهل الكتاب ، تؤتى أجرها مرتين ، وهو قوله : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا [ 28 \ 51 \ 54 ] .
قوله تعالى : وتؤمنون بالكتاب كله الآية ، يعني : وتؤمنون بالكتب كلها كما يدل له قوله تعالى : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] ، وقوله : كل آمن بالله وملائكته وكتبه الآية [ 2 \ 285 ] .
قوله تعالى : وجنة عرضها السماوات والأرض يعني : عرضها كعرض السماوات والأرض كما بينه قوله تعالى في سورة الحديد : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض [ 57 \ 21 ] ، وآية " آل عمران " هذه تبين أن المراد بالسماء في آية " الحديد " جنسها الصادق بجميع السماوات كما هو ظاهر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ، المراد بالقرح الذي مس المسلمين هو ما أصابهم يوم أحد من القتل والجرح ، كما أشار له تعالى في هذه السورة الكريمة في مواضع متعددة كقوله : ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون [ 3 \ 143 ] ، وقوله : ويتخذ منكم شهداء الآية [ 3 \ 140 ] ، وقوله : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم [ 3 \ 152 ] ، وقوله : إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم [ 3 \ 153 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وأما المراد بالقرح الذي مس القوم المشركين فيحتمل أنه هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والأسر ، وعليه فإليه الإشارة بقوله : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب [ 8 \ 12 \ 13 ] .
[ ص: 208 ] ويحتمل أيضا أنه هزيمة المشركين أولا يوم أحد ، كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ، وقد أشار إلى القرحين معا بقوله : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها [ 3 \ 165 ] ، فالمراد بمصيبة المسلمين القرح الذي مسهم يوم أحد ، والمراد بمصيبة الكفار بمثليها قبل القرح الذي مسهم يوم بدر ; لأن المسلمين يوم أحد قتل منهم سبعون ، والكفار يوم بدر قتل منهم سبعون ، وأسر سبعون .
وهذا قول الجمهور وذكر بعض العلماء أن المصيبة التي أصابت المشركين هي ما أصابهم يوم أحد من قتل وهزيمة ، حيث قتل حملة اللواء من بني عبد الدار ، وانهزم المشركون في أول الأمر هزيمة منكرة ، وبقي لواؤهم ساقطا حتى رفعته عمرة بنت علقمة الحارثية ، وفي ذلك يقول حسان : [ الطويل ]
فلولا لواء الحارثية أصبحوا يباعون في الأسواق بيع الجلائب
وعلى هذا الوجه : فالقرح الذي أصاب القوم المشركين يشير إليه قوله تعالى : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه الآية [ 3 \ 152 ] . ومعنى تحسونهم : تقتلونهم ، وتستأصلونهم ، وأصله من الحس الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه أذهب حسه بالقتل ، ومنه قول جرير :
[ الوافر ]
تحسهم السيوف كما تسامى حريق النار في أجم الحصيد
وقول الآخر : [ الطويل ]
حسسناهم بالسيف حسا فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبددوا
وقول رؤبة : [ الرجز ]
إذا شكونا سنة حسوسا تأكل بعد الأخضر اليبيسا
يعني بالسنة الحسوس : السنة المجدبة التي تأكل كل شيء ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن الآية قد يكون فيها احتمالان ، وكل منهما يشهد له قرآن ، وكلاهما حق فنذكرهما معا ، وما يشهد لكل واحد منهما .
قال بعض العلماء : وقرينة السياق تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم أحد ; لأن الكلام في وقعة أحد ولكن التثنية في قوله : مثليها تدل على أن القرح الذي أصاب المشركين ما وقع بهم يوم بدر ; لأنه لم ينقل أحد أن الكفار يوم [ ص: 209 ] أحد أصيبوا بمثلي ما أصيب به المسلمون ، ولا حجة في قوله : تحسونهم ; لأن ذلك الحس والاستئصال في خصوص الذي قتلوا من المشركين ، وهم أقل ممن قتل من المسلمين يوم أحد ، كما هو معلوم .
فإن قيل : ما وجه الجمع بين الإفراد في قوله : قرح مثله [ 3 \ 140 ] ، وبين التثنية في قوله : قد أصبتم مثليها ، فالجواب والله تعالى أعلم أن المراد بالتثنية قتل سبعين وأسر سبعين يوم بدر في مقابلة سبعين يوم أحد ، كما عليه جمهور العلماء .
والمراد بإفراد المثل : تشبيه القرح بالقرح في مطلق النكاية والألم ، والقراءتان السبعيتان في قوله : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح [ 3 \ 140 ] ، بفتح القاف وضمها في الحرفين معناهما واحد فهما لغتان كالضعف والضعف .
وقال الفراء : القرح بالفتح الجرح وبالضم ألمه اهـ . ومن إطلاق العرب القرح على الجرح قول متمم بن نويرة التميمي :
[ الطويل ]
قعيدك ألا تسمعيني ملامة ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا
ابو وليد البحيرى
2020-08-19, 04:36 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (26)
سورة آل عمران (4)
قوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ، أنكر الله في هذه الآية على من ظن أنه يدخل الجنة دون أن يبتلى بشدائد التكاليف التي يحصل بها الفرق بين الصابر المخلص في دينه ، وبين غيره وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله :أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [ 2 \ 214 ] ، وقوله : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون [ 9 \ 16 ] ، وقوله : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [ 29 ] .
وفي هذه الآيات سر لطيف وعبرة وحكمة ، وذلك أن أبانا آدم كان في الجنة يأكل منها رغدا حيث شاء في أتم نعمة وأكمل سرور ، وأرغد عيش . كما قال له ربه : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 118 \ 119 ] ، ولو [ ص: 210 ] تناسلنا فيها لكنا في أرغد عيش وأتم نعمة ، ولكن إبليس عليه لعائن الله احتال بمكره وخداعه على أبوينا حتى أخرجهما من الجنة ، إلى دار الشقاء والتعب .
وحينئذ حكم الله تعالى أن جنته لا يدخلها أحد إلا بعد الابتلاء بالشدائد وصعوبة التكاليف . فعلى العاقل منا معاشر بني آدم أن يتصور الواقع ويعلم أننا في الحقيقة سبي سباه إبليس بمكره وخداعه من وطنه الكريم إلى دار الشقاء والبلاء ، فيجاهد عدوه إبليس ونفسه الأمارة بالسوء حتى يرجع إلى الوطن الأول الكريم ، كما قال ابن القيم : [ الطويل ]
ولكننا سبي العدو فهل ترى نرد إلى أوطاننا ونسلم
ولهذه الحكمة أكثر الله تعالى في كتابه من ذكر قصة إبليس مع آدم لتكون نصب أعيننا دائما .
قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية ، هذه الآية الكريمة على قراءة من قرأ قتل بالبناء للمفعول يحتمل نائب الفاعل فيها أن يكون لفظة ربيون وعليه فليس في قتل ضمير أصلا ، ويحتمل أن يكون نائب الفاعل ضميرا عائدا إلى النبي ، وعليه فمعه خبر مقدم وربيون مبتدأ مؤخر سوغ الابتداء به اعتماده على الظرف قبله ووصفه بما بعده والجملة حالية والرابط الضمير ، وسوغ إتيان الحال من النكرة التي هي نبي وصفه بالقتل ظلما ، وهذا هو أجود الأعاريب المذكورة في الآية على هذا القول ، وبهذين الاحتمالين في نائب الفاعل المذكور يظهر أن في الآية إجمالا . والآيات القرآنية مبينة أن النبي المقاتل غير مغلوب بل هو غالب ، كما صرح تعالى بذلك في قوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، وقال قبل هذا : أولئك في الأذلين [ 58 \ 20 ] ، وقال بعده : إن الله قوي عزيز .
وأغلب معاني الغلبة في القرآن الغلبة بالسيف والسنان كقوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا [ 8 \ 65 ] ، وقوله : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين ، وقوله : الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين [ 30 \ 40 ] ، وقوله : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة [ 2 \ 249 ] ، وقوله : قل للذين كفروا ستغلبون [ 3 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 211 ] وبين تعالى أن المقتول ليس بغالب بل هو قسم مقابل للغالب بقوله : ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب [ 4 \ 74 ] ، فاتضح من هذه الآيات أن القتل ليس واقعا على النبي المقاتل ; لأن الله كتب وقضى له في أزله أنه غالب ، وصرح بأن المقتول غير غالب .
وقد حقق العلماء أن غلبة الأنبياء على قسمين : غلبة بالحجة والبيان ، وهي ثابتة لجميعهم ، وغلبة بالسيف والسنان ، وهي ثابتة لخصوص الذين أمروا منهم بالقتال في سبيل الله ; لأن من لم يؤمر بالقتال ليس بغالب ولا مغلوب ; لأنه لم يغالب في شيء وتصريحه تعالى ، بأنه كتب إن رسله غالبون شامل لغلبتهم من غالبهم بالسيف ، كما بينا أن ذلك هو معنى الغلبة في القرآن ، وشامل أيضا لغلبتهم بالحجة والبيان ، فهو مبين أن نصر الرسل المذكور في قوله : إنا لننصر رسلنا الآية [ 40 \ 51 ] ، وفي قوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون [ 37 \ 171 \ 172 ] ، أنه نصر غلبة بالسيف والسنان للذين أمروا منهم بالجهاد ; لأن الغلبة التي بين أنها كتبها لهم أخص من مطلق النصر ; لأنها نصر خاص ، والغلبة لغة القهر والنصر لغة إعانة المظلوم ، فيجب بيان هذا الأعم بذلك الأخص .
وبهذا تعلم أن ما قاله الإمام الكبير ابن جرير - رحمه الله - ومن تبعه في تفسير قوله : إنا لننصر الآية ، من أنه لا مانع من قتل الرسول المأمور بالجهاد ، وأن نصره المنصوص في الآية ، حينئذ يحمل على أحد أمرين :
أحدهما : أن الله ينصره بعد الموت ، بأن يسلط على من قتله من ينتقم منه ، كما فعل بالذين قتلوا يحيى وزكرياء وشعيا من تسليط بختنصر عليهم ، ونحو ذلك .
الثاني : حمل الرسل في قوله : إنا لننصر رسلنا على خصوص نبينا - صلى الله عليه وسلم - وحده ، أنه لا يجوز حمل القرآن عليه لأمرين :
أحدهما : أنه خروج بكتاب الله عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل من كتاب ، ولا سنة ولا إجماع ، والحكم بأن المقتول من المتقاتلين هو المنصور بعيد جدا ، غير معروف في لسان العرب ، فحمل القرآن عليه بلا دليل غلط ظاهر ، وكذلك حمل الرسل على نبينا وحده - صلى الله عليه وسلم - فهو بعيد جدا أيضا ، والآيات الدالة على عموم الوعد بالنصر لجميع الرسل كثيرة ، لا نزاع فيها .
[ ص: 212 ] الثاني : أن الله لم يقتصر في كتابه على مطلق النصر الذي هو في اللغة إعانة المظلوم ، بل صرح بأن ذلك النصر المذكور للرسل نصر غلبة بقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي الآية ، وقد رأيت معنى الغلبة في القرآن ومر عليك أن الله جعل المقتول قسما مقابلا للغالب في قوله : ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب ، وصرح تعالى بأن ما وعد به رسله لا يمكن تبديله بقوله جل وعلا : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ 6 \ 34 ] ، ولا شك أن قوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 21 ] ، من كلماته التي صرح بأنها لا مبدل لها وقد نفى جل وعلا عن المنصور أن يكون مغلوبا نفيا باتا بقوله : إن ينصركم الله فلا غالب لكم [ 3 \ 160 ] ، وذكر مقاتل أن سبب نزول قوله تعالى : كتب الله لأغلبن الآية [ 58 \ 21 ] أن بعض الناس قال : أيظن محمد وأصحابه أن يغلبوا الروم وفارس ، كما غلبوا العرب زاعما أن الروم وفارس لا يغلبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لكثرتهم ، وقوتهم فأنزل الله الآية ، وهو يدل على أن الغلبة المذكورة فيها غلبة بالسيف والسنان ; لأن صورة السبب لا يمكن إخراجها ، ويدل له قوله قبله : أولئك في الأذلين [ 58 \ 20 ] ، وقوله بعده : إن الله قوي عزيز .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أننا نستشهد للبيان بالقراءة السبعية بقراءة شاذة ، فيشهد للبيان الذي بينا به ، أن نائب الفاعل ربيون ، وأن بعض القراء غير السبعة قرأ قتل معه ربيون بالتشديد ; لأن التكثير المدلول عليه بالتشديد يقتضي أن القتل واقع على الربيين .
ولهذه القراءة رجح الزمخشري ، والبيضاوي ، وابن جني ; أن نائب الفاعل ربيون ، ومال إلى ذلك الألوسي في " تفسيره " مبينا أن دعوى كون التشديد لا ينافي وقوع القتل على النبي ; لأن : كأين إخبار بعدد كثير أي : كثير من أفراد النبي قتل خلاف الظاهر ، وهو كما قال ، فإن قيل : قد عرفنا أن نائب الفاعل المذكور محتمل لأمرين ، وقد ادعيتم أن القرآن دل على أنه ربيون لا ضمير النبي لتصريحه بأن الرسل غالبون ، والمقتول غير غالب ، ونحن نقول دل القرآن في آيات أخر ، على أن نائب الفاعل ضمير النبي ، لتصريحه في آيات كثيرة بقتل بعض الرسل كقوله : ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون [ 2 \ 87 ] ، وقوله : قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم [ ص: 213 ] الآية [ 3 \ 183 ] ، فما وجه ترجيح ما استدللتم به على أن النائب ربيون ، على ما استدللنا به على أن النائب ضمير النبي فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن ما استدللنا به أخص مما استدللتم به ، والأخص مقدم على الأعم ، ولا يتعارض عام وخاص ، كما تقرر في الأصول ، وإيضاحه أن دليلنا في خصوص نبي أمر بالمغالبة في شيء ، فنحن نجزم بأنه غالب فيه تصديقا لربنا في قوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ، سواء أكانت تلك المغالبة في الحجة والبيان ، أم بالسيف والسنان ، ودليلكم فيما هو أعم من هذا ; لأن الآيات التي دلت على قتل بعض الرسل ، لم تدل على أنه في خصوص جهاد ، بل ظاهرها أنه في غير جهاد ، كما يوضحه .
الوجه الثاني : وهو أن جميع الآيات الدالة على أن بعض الرسل قتلهم أعداء الله كلها في قتل بني إسرائيل أنبياءهم ، في غير جهاد ، ومقاتلة إلا موضع النزاع وحده .
الوجه الثالث : أن ما رجحناه من أن نائب الفاعل ربيون ، تتفق عليه آيات القرآن اتفاقا واضحا ، لا لبس فيه على مقتضى اللسان العربي في أفصح لغاته ، ولم تتصادم منه آيتان ، حيث حملنا الرسول المقتول على الذي لم يؤمر بالجهاد ، فقتله إذن لا إشكال فيه ، ولا يؤدي إلى معارضة آية واحدة من كتاب الله ; لأن الله حكم للرسل بالغلبة ، والغلبة لا تكون إلا مع مغالبة ، وهذا لم يؤمر بالمغالبة في شيء ، ولو أمر بها في شيء لغلب فيه ، ولو قلنا بأن نائب الفاعل ضمير النبي لصار المعنى أن كثيرا من الأنبياء المقاتلين قتلوا في ميدان الحرب ، كما تدل عليه صيغة وكأين المميزة بقوله : من نبي ، وقتل الأعداء هذا العدد الكثير من الأنبياء المقاتلين في ميدان الحرب مناقض مناقضة صريحة لقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي ، وقد عرفت معنى الغلبة في القرآن ، وعرفت أنه تعالى بين أن المقتول غير الغالب كما تقدم ، وهذا الكتاب العزيز ما أنزل ليضرب بعضه بعضا ، ولكن أنزل ; ليصدق بعضه بعضا ، فاتضح أن القرآن دل دلالة واضحة على أن نائب الفاعل ربيون ، وأنه لم يقتل رسول في جهاد ، كما جزم به الحسن البصري وسعيد بن جبير ، والزجاج ، والفراء ، وغير واحد ، وقصدنا في هذا الكتاب البيان بالقرآن ، لا بأقوال العلماء ، ولذا لم ننقل أقوال من رجح ما ذكرنا .
وما رجح به بعض العلماء كون نائب الفاعل ضمير النبي من أن سبب النزول يدل على ذلك ; لأن سبب نزولها أن الصائح صاح قتل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن قوله : أفإن مات أو قتل [ ص: 214 ] [ 3 \ 144 ] ، يدل على ذلك وأن قوله : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله [ 3 \ 146 ] ، يدل على أن الربيين لم يقتلوا ; لأنهم لو قتلوا لما قال عنهم : فما وهنوا لما أصابهم الآية ، فهو كلام كله ساقط وترجيحات لا معول عليها فالترجيح بسبب النزول فيه أن سبب النزول لو كان يقتضي تعيين ذكر قتل النبي لكانت قراءة الجمهور قاتل بصيغة الماضي من المفاعلة جارية على خلاف المتعين وهو ظاهر السقوط كما ترى والترجيح بقوله : أفإن مات أو قتل ، ظاهر السقوط ; لأنهما معلقان بأداة الشرط والمعلق بها لا بدل على وقوع نسبة أصلا لا إيجابا ، لا سلبا حتى يرجح بها غيرها .
وإذا نظرنا إلى الواقع في نفس الأمر وجدنا نبيهم - صلى الله عليه وسلم - في ذلك الوقت لم يقتل ، ولم يمت والترجيح بقوله : فما وهنوا ، سقوطه كالشمس في رابعة النهار وأعظم دليل قطعي على سقوطه قراءة حمزة والكسائي : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] ، كل الأفعال من القتل لا من القتال ، وهذه القراءة السبعية المتواترة فيها . فإن قتلوكم بلا ألف بعد القاف فعل ماض من القتل فاقتلوهم أفتقولون هذا لا يصح ; لأن المقتول لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله . بل المعنى قتلوا بعضكم وهو معنى مشهور في اللغة العربية يقولون : قتلونا وقتلناهم ، يعنون وقوع القتل على البعض كما لا يخفى . وقد أشرنا إلى هذا البيان في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا مات بعض إخوانهم يقولون : لو أطاعونا فلم يخرجوا إلى الغزو ما قتلوا ، ولم يبين هنا هل يقولون لهم ذلك قبل السفر إلى الغزو ليثبطوهم أو لا ؟ ونظير هذه الآية : قوله تعالى : الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا [ 3 \ 168 ] ، ولكنه بين في آيات أخر أنهم يقولون لهم ذلك قبل الغزو ليثبطوهم كقوله : وقالوا لا تنفروا في الحر الآية [ 9 \ 81 ] ، وقوله : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا [ 33 \ 18 ] ، وقوله : وإن منكم لمن ليبطئن [ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المقتول في الجهاد والميت كلاهما ينال [ ص: 215 ] مغفرة من الله ، ورحمة خيرا له مما يجمعه من حطام الدنيا ، وأوضح وجه ذلك في آية أخرى بين فيها أن الله اشترى منه حياة قصيرة فانية منغصة بالمصائب ، والآلام بحياة أبدية لذيذة لا تنقطع ولا يتأذى صاحبها بشيء واشترى منه مالا قليلا فانيا بملك لا ينفد ولا ينقضي أبدا ، وهي قوله : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ 9 \ 111 ] ، وقال تعالى : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا [ 76 \ 20 ] ، وبين في آية أخرى أن فضل الله ، ورحمته خير مما يجمعه أهل الدنيا من حطامها وزاد فيها الأمر بالفرح بفضل الله ورحمته دون حطام الدنيا ، وهي قوله تعالى : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ 10 \ 58 ] ، وتقديم المعمول يؤذن بالحصر أعني قوله : فبذلك فليفرحوا ، أي : دون غيره فلا يفرحوا بحطام الدنيا الذي يجمعونه .
وقال تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 ] .
قوله تعالى : فاعف عنهم واستغفر الآية . قد قدمنا في سورة " الفاتحة " في الكلام على قوله تعالى : صراط الذين أنعمت عليهم [ 1 \ 7 ] ، أن الجموع المذكرة ونحوها مما يختص بجماعة العقلاء من الذكور إذا وردت في كتاب الله تعالى ، أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - اختلف العلماء فيها هل يدخل النساء أو لا يدخلن ؟ إلا بدليل على دخولهن وبذلك تعلم أن قوله تعالى : واستغفر لهم يحتمل دخول النساء فيه وعدم دخولهن بناء على الاختلاف المذكور ، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أنهن داخلات في جملة من أمره - صلى الله عليه وسلم - بالاستغفار لهم ، وهو قوله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات [ 47 \ 19 ] .
قوله تعالى : أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله الآية ، ذكر في هذه الآية أن من اتبع رضوان الله ليس كمن باء بسخط منه ; لأن همزة الإنكار بمعنى النفي ولم يذكر هنا صفة من اتبع رضوان الله ، ولكن أشار إلى بعضها في موضع آخر وهو قوله : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم [ ص: 216 ] [ 3 \ 173 \ 174 ] .
وأشار إلى بعض صفات من باء بسخط من الله بقوله : ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون [ 5 \ 80 ] ، وبقوله هنا : ومن يغلل يأت بما غل الآية [ 3 \ 161 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-08-19, 04:37 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (27)
سورة آل عمران (5)
قوله تعالى : أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن ما أصاب المسلمين يوم أحد إنما جاءهم من قبل أنفسهم ، ولم يبين تفصيل ذلك هنا ولكنه فصله في موضع آخر وهو قوله : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم [ 3 \ 152 ] ، وهذا هو الظاهر في معنى الآية ; لأن خير ما يبين به القرآن القرآن .
وأما على القول الآخر فلا بيان بالآية ، وهو أن معنى : قل هو من عند أنفسكم ، أنهم خيروا يوم بدر بين قتل أسارى بدر ، وبين أسرهم وأخذ الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل قدر الأسارى ، فاختاروا الفداء على أن يستشهد منهم في العام القابل سبعون قدر أسارى بدر ، كما رواه الإمام أحمد ، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب ، وعقده أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي بقوله : [ الرجز ]
والمسلمون خيروا بين الفدا وقدرهم في قابل يستشهدا
وبين قتلهم فمالوا للفدا
لأنه على القتال عضدا
وأنه أدى إلى الشهادة
وهي قصارى الفوز والسعادة
ونظمه هذا للمغازي جل اعتماده فيه على " عيون الأثر " لابن سيد الناس اليعمري ، قال في مقدمته : [ الرجز ]
أرجوزة على عيون الأثر جل اعتماد نظمها في السير
وذكر شارحه أن الألف في قوله يستشهدا مبدلة من نون التوكيد الخفيفة وأنها في البيت كقوله : [ المديد ] ربما أوفيت في علم ترفعن ثوبي شمالات
[ ص: 217 ] وعلى هذا القول : فالمعنى قل هو من عند أنفسكم حيث اخترتم الفداء واستشهاد قدر الأسارى منكم .
قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية . نهى الله تبارك وتعالى في هذه الآية عن ظن الموت بالشهداء ، وصرح بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . ولم يبين هنا هل حياتهم هذه في البرزخ يدرك أهل الدنيا حقيقتها أو لا ؟ ولكنه بين في سورة " البقرة " أنهم لا يدركونها بقوله : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون [ 2 \ 154 ] ; لأن نفي الشعور يدل على نفي الإدراك من باب أولى كما هو ظاهر .
قوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الآية .
قال جماعة من العلماء : المراد بالناس القائلين : إن الناس قد جمعوا لكم ، نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع ويدل لهذا توحيد المشار إليه في قوله تعالى : إنما ذلكم الشيطان الآية [ 3 \ 175 ] .
قال صاحب " الإتقان " قال الفارسي : ومما يقوي أن المراد به واحد قوله : إنما ذلكم الشيطان ، فوقعت الإشارة بقوله : " ذلكم " إلى واحد بعينه ، ولو كان المعنى جمعا لقال : إنما أولئكم الشيطان . فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ . اهـ منه بلفظه .
قوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يملي للكافرين ويمهلهم لزيادة الإثم عليهم ، وشدة العذاب . وبين في موضع آخر أنه لا يمهلهم متنعمين هذا الإمهال إلا بعد أن يبتليهم بالبأساء والضراء ، فإذا لم يتضرعوا أفاض عليهم النعم وأمهلهم حتى يأخذهم بغتة ، كقوله : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 ] ، وقوله : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا إلى قوله : أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] .
[ ص: 218 ] وبين في موضع آخر : أن ذلك الاستدراج من كيده المتين ، وهو قوله : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 44 \ 45 \ 68 ] .
وبين في موضع آخر : أن الكفار يغترون بذلك الاستدراج فيظنون أنه من المسارعة لهم في الخيرات ، وأنهم يوم القيامة يؤتون خيرا من ذلك الذي أوتوه في الدنيا ، كقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 \ 56 ] ، وقوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقوله : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] ، وقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا الآية [ 34 \ 35 ] . كما تقدم ، والبأساء : الفقر والفاقة ، والضراء : المرض على قول الجمهور ، وهما مصدران مؤنثان لفظا بألف التأنيث الممدودة .
قوله تعالى : لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ذكر في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين سيبتلون في أموالهم وأنفسهم ، وسيسمعون الأذى الكثير من أهل الكتاب والمشركين ، وأنهم إن صبروا على ذلك البلاء والأذى واتقوا الله ، فإن صبرهم وتقاهم من عزم الأمور ، أي : من الأمور التي ينبغي العزم والتصميم عليها لوجوبها .
وقد بين في موضع آخر أن من جملة هذا البلاء : الخوف والجوع وأن البلاء في الأنفس والأموال هو النقص فيها ، وأوضح فيه نتيجة الصبر المشار إليها هنا بقوله : فإن ذلك من عزم الأمور ، وذلك الموضع هو قوله تعالى : : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ 2 \ 155 \ 157 ] ، وبقوله : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ 64 \ 11 ] ، ويدخل في قوله : ومن يؤمن بالله ، الصبر عند الصدمة الأولى ، بل فسره بخصوص ذلك بعض العلماء ، ويدل على دخوله فيه قوله قبله : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله .
[ ص: 219 ] وبين في موضع آخر أن خصلة الصبر لا يعطاها إلا صاحب حظ عظيم وبخت كبير ، وهو قوله : وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 \ 35 ] ، وبين في موضع آخر أن جزاء الصبر لا حساب له ، وهو قوله : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ 39 \ 10 ] .
قوله تعالى : ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ، ذكر في هذه الآية أن من جملة ما يقوله أولو الألباب تنزيه ربهم عن كونه خلق السماوات والأرض باطلا لا لحكمة ، سبحانه تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وصرح في موضع آخر بأن الذين يظنون ذلك هم الكفار ، وهددهم على ذلك الظن السيئ بالويل من النار ، وهو قوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] .
قوله تعالى : وما عند الله خير للأبرار ، لم يبين هنا ما عنده للأبرار ، ولكنه بين في موضع آخر أنه النعيم ، وهو قوله : إن الأبرار لفي نعيم [ 82 \ 13 ] ، وبين في موضع آخر أن من جملة ذلك النعيم الشرب من كأس ممزوجة بالكافور ، وهو قوله : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] .
[ ص: 220 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء
قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم الآية . أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة بإيتاء اليتامى أموالهم ، ولم يشترط هنا في ذلك شرطا ، ولكنه بين هذا أن هذا الإيتاء المأمور به مشروط بشرطين :
الأول : بلوغ اليتامى .
والثاني : إيناس الرشد منهم ، وذلك في قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ 4 \ 6 ] .
وتسميتهم يتامى في الموضعين ، إنما هي باعتبار يتمهم الذي كانوا متصفين به قبل البلوغ ، إذ لا يتم بعد البلوغ إجماعا ، ونظيره قوله تعالى : وألقي السحرة ساجدين [ 7 \ 120 ] ، يعني الذين كانوا سحرة ، إذ لا سحر مع السجود لله .
وقال بعض العلماء : معنى إيتائهم أموالهم إجراء النفقة والكسوة زمن الولاية عليهم .
وقال أبو حنيفة : إذا بلغ خمسا وعشرين سنة أعطي ماله على كل حال ; لأنه يصير جدا ، ولا يخفى عدم اتجاهه ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن أكل أموال اليتامى حوب كبير ، أي : إثم عظيم ، ولم يبين مبلغ هذا الحوب من العظم ، ولكنه بينه في موضع آخر وهو قوله : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [ 4 \ 10 ] .
قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء
الآية لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية الكريمة من عدم ظهور وجه الربط بين هذا الشرط ، وهذا الجزاء ، وعليه ، ففي الآية نوع إجمال ، والمعنى كما قالت أم المؤمنين [ ص: 221 ] عائشة رضي الله عنها : أنه كان الرجل تكون عنده اليتيمة في حجره ، فإن كانت جميلة ، تزوجها من غير أن يقسط في صداقها ، وإن كانت دميمة رغب عن نكاحها وعضلها أن تنكح غيره ; لئلا يشاركه في مالها ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن ، أي : كما أنه يرغب عن نكاحها إن كانت قليلة المال ، والجمال ، فلا يحل له أن يتزوجها إن كانت ذات مال وجمال إلا بالإقساط إليها ، والقيام بحقوقها كاملة غير منقوصة ، وهذا المعنى الذي ذهبت إليه أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - يبينه ويشهد له قوله تعالى : ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن [ 4 \ 127 ] ، وقالت رضي الله عنها : إن المراد بما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية ، فتبين أنها يتامى النساء بدليل تصريحه بذلك في قوله : يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن الآية ، فظهر من هذا أن المعنى وإن خفتم ألا تقسطوا في زواج اليتيمات فدعوهن ، وانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن ، وجواب الشرط دليل واضح على ذلك ; لأن الربط بين الشرط والجزاء يقتضيه ، وهذا هو أظهر الأقوال ; لدلالة القرآن عليه ، وعليه فاليتامى جمع يتيمة على القلب ، كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم لما عرف أن جمع الفعلية فعائل ، وهذا القلب يطرد في معتل اللام كقضية ، ومطية ، ونحو ذلك ويقصر على السماع فيما سوى ذلك .
قال ابن خويز منداد : يؤخذ من هذه الآية جواز اشتراء الوصي وبيعه من مال اليتيم لنفسه بغير محاباة ، وللسلطان النظر فيما وقع من ذلك ، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية أن الولي إذا أراد نكاح من هو وليها جاز أن يكون هو الناكح والمنكح وإليه ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والثوري ، وأبو ثور ، وقاله من التابعين : الحسن ، وربيعة وهو قول الليث .
وقال زفر ، والشافعي : لا يجوز له أن يتزوجها إلا بإذن السلطان ، أو يزوجها ولي آخر أقرب منه أو مساو له .
وقال أحمد في إحدى الروايتين : يوكل رجلا غيره فيزوجها منه ، وروي هذا عن المغيرة بن شعبة ، كما نقله القرطبي ، وغيره .
وأخذ مالك بن أنس من تفسير عائشة لهذه الآية ، كما ذكرنا الرد إلى صداق المثل [ ص: 222 ] فيما فسد من الصداق ، أو وقع الغبن في مقداره ; لأن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق " ، فدل على أن للصداق سنة معروفة لكل صنف من الناس على قدر أحوالهم ، وقد قال مالك : للناس مناكح عرفت لهم ، وعرفوا لها يعني مهورا وأكفاء .
ويؤخذ أيضا من هذه الآية جواز تزويج اليتيمة إذا أعطيت حقوقها وافية ، وما قاله كثير من العلماء من أن اليتيمة لا تزوج حتى تبلغ ، محتجين بأن قوله تعالى : ويستفتونك في النساء ، اسم ينطلق على الكبار دون الصغار ، فهو ظاهر السقوط ; لأن الله صرح بأنهن يتامى ، بقوله : في يتامى النساء ، وهذا الاسم أيضا قد يطلق على الصغار ، كما في قوله تعالى : يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم [ 2 \ 49 ] ، وهن إذ ذاك رضيعات فالظاهر المتبادر من الآية جواز نكاح اليتيمة مع الإقساط في الصداق ، وغيره من الحقوق .
ودلت السنة على أنها لا تجبر ، فلا تزوج إلا برضاها ، وإن خالف في تزويجها خلق كثير من العلماء .
ابو وليد البحيرى
2020-08-19, 04:38 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (28)
سورة النساء (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء
تنبيه
قال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : واتفق كل من يعاني العلوم على أن قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، ليس له مفهوم إذ قد أجمع المسلمون على أن من لم يخف القسط في اليتامى له أن ينكح أكثر من واحدة ، اثنتين ، أو ثلاثا ، أو أربعا ، كمن خاف فدل على أن الآية نزلت جوابا لمن خاف ذلك وأن حكمها أعم من ذلك . ا هـ منه بلفظه .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر في الآية على ما فسرتها به عائشة ، وارتضاه القرطبي ، وغير واحد من المحققين ودل عليه القرآن : أن لها مفهوما معتبرا ; لأن معناها : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات فانكحوا ما طاب لكم من سواهن ، ومفهومه أنهم إن لم يخافوا عدم القسط لم يؤمروا بمجاوزتهن إلى غيرهن ، بل يجوز لهم حينئذ الاقتصار عليهن وهو واضح كما ترى ، إلا أنه تعالى لما أمر بمجاوزتهن إلى غيرهن عند خوفهم أن لا يقسطوا فيهن ، أشار إلى القدر الجائز من تعدد الزوجات ، ولا إشكال في [ ص: 223 ] ذلك ، والله أعلم .
وقال بعض العلماء : معنى الآية وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ، أي : إن خشيتم ذلك فتحرجتم من ظلم اليتامى ، فاخشوا أيضا وتحرجوا من ظلم النساء بعدم العدل بينهن ، وعدم القيام بحقوقهن ، فقللوا عدد المنكوحات ولا تزيدوا على أربع ، وإن خفتم عدم إمكان ذلك مع التعدد فاقتصروا على الواحدة ; لأن المرأة شبيهة باليتيم ، لضعف كل واحد منهما وعدم قدرته على المدافعة عن حقه فكما خشيتم من ظلمه فاخشوا من ظلمها .
وقال بعض العلماء : كانوا يتحرجون من ولاية اليتيم ولا يتحرجون من الزنى ، فقيل لهم في الآية : إن خفتم الذنب في مال اليتيم فخافوا ذنب الزنى ، فانكحوا ما طاب لكم من النساء ولا تقربوا الزنا . وهذا أبعد الأقوال فيما يظهر والله تعالى أعلم .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أيضا : أن من كان في حجره يتيمة لا يجوز له نكاحها إلا بتوفيته حقوقها كاملة ، وأنه يجوز نكاح أربع ويحرم الزيادة عليها ، كما دل على ذلك أيضا إجماع المسلمين قبل ظهور المخالف الضال ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان بن سلمة : " اختر منهن أربعا وفارق سائرهن " . وكذا قال للحارث بن قيس الأسدي وأنه مع خشية عدم العدل لا يجوز نكاح غير واحدة ، والخوف في الآية ، قال بعض العلماء : معناه الخشية ، وقال بعض العلماء : معناه العلم ، أي : وإن علمتم ألا تقسطوا الآية ، ومن إطلاق الخوف بمعنى العلم قول أبي محجن الثقفي : [ الطويل ]
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
فقوله أخاف : يعني أعلم .
تنبيه
عبر تعالى عن النساء في هذه الآية بما التي هي لغير العاقل في قوله : فانكحوا ما طاب لكم [ 4 \ 3 ] ، ولم يقل من طاب ; لأنها هنا أريد بها الصفات لا الذوات . أي : ما طاب لكم من بكر أو ثيب ، أو ما طاب لكم لكونه حلالا ، وإذا كان المراد الوصف عبر عن العاقل بما كقولك ما زيد في الاستفهام تعني أفاضل ؟ .
[ ص: 224 ] وقال بعض العلماء : عبر عنهن بـ ( ما ) إشارة إلى نقصانهن وشبههن بما لا يعقل حيث يؤخذ بالعوض ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ، لم يبين هنا قدر هذا النصيب الذي هو للرجال والنساء مما ترك الوالدان والأقربون ، ولكنه بينه في آيات المواريث كقوله : يوصيكم الله في أولادكم الآيتين [ 4 \ 11 ] ، وقوله في خاتمة هذه السورة الكريمة : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية [ 4 \ 176 ] .
قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ، لم يبين هنا حكمة تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث مع أنهما سواء في القرابة ، ولكنه أشار إلى ذلك في موضع آخر وهو قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم [ 4 ] ; لأن القائم على غيره المنفق ماله عليه مترقب للنقص دائما ، والمقوم عليه المنفق عليه المال مترقب للزيادة دائما ، والحكمة في إيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة جبر لنقصة المترقبة ظاهرة جدا .
قوله تعالى : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف الآية ، صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن البنات إن كن ثلاثا فصاعدا ، فلهن الثلثان وقوله : فوق اثنتين يوهم أن الاثنتين ليستا كذلك ، وصرح بأن الواحدة لها النصف ، ويفهم منه أن الاثنتين ليستا كذلك أيضا ، وعليه ففي دلالة الآية على قدر ميراث البنتين إجمال .
وقد أشار تعالى في موضعين إلى أن هذا الظرف لا مفهوم مخالفة له ، وأن للبنتين الثلثين أيضا :
الأول قوله تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين ، إذ الذكر يرث مع الواحدة الثلثين بلا نزاع ، فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة ، وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين ; لأن الثلثين ليسا بحظ لهما أصلا ، لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع ، إذ ما من صورة يجتمع فيها الابنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان ، فتعين أن تكون صورة انفرادهما عن الذكر . واعتراض بعضهم هذا الاستدلال بلزوم الدور قائلا : إن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة تتوقف على معرفة حظ الأنثيين ; لأنه ما علم من [ ص: 225 ] الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثتين ، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور ساقط ; لأن المستخرج هو الحظ المعين للأنثيين وهو الثلثان ، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا ، فلا دور لانفكاك الجهة ، واعترضه بعضهم أيضا بأن للابن مع البنتين النصف ، فيدل على أن فرضهما النصف ، ويؤيد الأول أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إن انفردتا عنه ، استحقتا أكثر من ذلك ; لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعدما كانت معه تأخذ الثلث ، ويزيده إيضاحا أن البنت تأخذ مع الابن الذكر الثلث بلا نزاع ، فلأن تأخذه مع الابنة الأنثى أولى .
فبهذا يظهر أنه جل وعلا أشار إلى ميراث البنتين بقوله : للذكر مثل حظ الأنثيين ، كما بينا ، ثم ذكر حكم الجماعة من البنات ، وحكم الواحدة منهن بقوله : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ، ومما يزيده إيضاحا ، أنه تعالى فرعه عليه بالفاء في قوله : فإن كن ، إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها كما هو ظاهر .
الموضع الثاني : هو قوله تعالى في الأختين : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك [ 4 \ 176 ] ; لأن البنت أمس رحما ، وأقوى سببا في الميراث من الأخت بلا نزاع .
فإذا صرح تعالى : بأن للأختين الثلثين ، علم أن البنتين كذلك من باب أولى ، وأكثر العلماء على أن فحوى الخطاب ، أعني : مفهوم الموافقة الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق ، من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل القياس ، خلافا للشافعي وقوم ، كما علم في الأصول فالله تبارك وتعالى لما بين أن للأختين الثلثين أفهم بذلك أن البنتين كذلك من باب أولى .
وكذلك لما صرح أن لما زاد على الاثنتين من البنات الثلثين فقط ، ولم يذكر حكم ما زاد على الاثنتين من الأخوات ، أفهم أيضا من باب أولى أنه ليس لما زاد من الأخوات غير الثلثين ; لأنه لما لم يعط للبنات علم أنه لا تستحقه الأخوات ، فالمسكوت عنه في الأمرين أولى بالحكم من المنطوق به ، وهو دليل على أنه قصد أخذه منه ، ويزيد ما ذكرنا إيضاحا ما أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه عن جابر - رضي الله [ ص: 226 ] عنه - قال : جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد ، وإن عمهما أخذ مالهما ، ولم يدع لهما مالا ، ولا ينكحان إلا ولهما مال فقال صلى الله عليه وسلم : " يقضي الله تعالى في ذلك " فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما ، فقال : " أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأعط أمهما الثمن ، وما بقي فهو لك " .
وما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من أنه قال : للبنتين النصف ; لأن الله تعالى قال : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ، فصرح بأن الثلثين إنما هما لما فوق الاثنتين فيه أمور :
الأول : أنه مردود بمثله ; لأن الله قال أيضا : وإن كانت واحدة فلها النصف ، فصرح بأن النصف للواحدة جاعلا كونها واحدة شرطا معلقا عليه فرض النصف .
وقد تقرر في الأصول أن المفاهيم إذا تعارضت قدم الأقوى منها ، ومعلوم أن مفهوم الشرط أقوى من مفهوم الظرف ; لأن مفهوم الشرط لم يقدم عليه من المفاهيم ، إلا ما قال فيه بعض العلماء : إنه منطوق لا مفهوم وهو النفي والإثبات ، وإنما من صيغ الحصر والغاية ، وغير هذا يقدم عليه مفهوم الشرط ، قال في " مراقي السعود " مبينا مراتب مفهوم المخالفة : [ الرجز ]
أعلاه لا يرشد إلا العلما فما لمنطوق بضعف انتمى فالشرط فالوصف الذي يناسب
فمطلق الوصف الذي يقارب فعدد ثمت تقديم يلي
وهو حجة على النهج الجلي
وقال صاحب " جمع الجوامع " ما نصه : مسألة الغاية قيل : منطوق والحق مفهوم يتلوه الشرط ، فالصفة المناسبة ، فمطلق الصفة غير العدد ، فالعدد ، فتقديم المعمول إلخ .
وبهذا تعلم أن مفهوم الشرط في قوله : وإن كانت واحدة فلها النصف أقوى من مفهوم الظرف في قوله : فإن كن نساء فوق اثنتين .
الثاني : دلالة الآيات المتقدمة على أن للبنتين الثلثين .
الثالث : تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حديث جابر المذكور آنفا .
[ ص: 227 ] الرابع : أنه روي عن ابن عباس الرجوع عن ذلك .
قال الألوسي في " تفسيره " ما نصه : وفي " شرح الينبوع " نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في " شرح فرائض الوسيط " : صح رجوع ابن عباس - رضي الله عنهما - عن ذلك فصار إجماعا . ا هـ منه بلفظه .
تنبيهان
الأول : ما ذكره بعض العلماء وجزم به الألوسي في " تفسيره " من أن المفهوم في قوله : وإن كانت واحدة فلها النصف مفهوم عدد غلط . والتحقيق هو ما ذكرنا من أنه مفهوم شرط ، وهو أقوى من مفهوم العدد بدرجات كما رأيت فيما تقدم .
قال في " نشر البنود على مراقي السعود " في شرح قوله :
وهو ظرف علة وعدد ومنه شرط غاية تعتمد
ما نصه : والمراد بمفهوم الشرط ما فهم من تعليق حكم على شيء بأداة شرط كإن وإذا ، وقال في شرح هذا البيت أيضا قبل هذا ما نصه : ومنها الشرط نحو : وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن [ 65 \ 6 ] ، مفهوم انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط ، أي : فغير أولات حمل لا يجب الإنفاق عليهن ونحو : من تطهر صحت صلاته . اهـ منه بلفظه .
فكذلك قوله : وإن كانت واحدة فلها النصف ، علق فيه فرض النصف على شرط هو كون البنت واحدة ، ومفهومه أنه إن انتفى الشرط الذي هو كونها واحدة انتفى المشروط الذي هو فرض النصف كما هو ظاهر ، فإن قيل : كذلك المفهوم في قوله : فإن كن نساء فوق اثنتين ; لتعليقه بالشرط فالجواب من وجهين :
الأول : أن حقيقة الشرط كونهن نساء ، وقوله فوق اثنتين وصف زائد ، وكونها واحدة هو نفس الشرط لا وصف زائد ، وقد عرفت تقديم مفهوم الشرط على مفهوم الصفة ظرفا كانت أو غيره .
الثاني : أنا لو سلمنا جدليا أنه مفهوم شرط لتساقط المفهومان لاستوائهما ويطلب الدليل من خارج ، وقد ذكرنا الأدلة على كون البنتين ترثان الثلثين كما تقدم .
الثاني : إن قيل : فما الفائدة في لفظة فوق اثنتين إذا كانت الاثنتان كذلك ؟ [ ص: 228 ] فالجواب من وجهين :
الأول : هو ما ذكرنا من أن حكم الاثنتين أخذ من قوله قبله : للذكر مثل حظ الأنثيين ، كما تقدم وإذن قوله : فوق اثنتين تنصيص على حكم الثلاث فصاعدا كما تقدم .
الثاني : أن لفظة فوق ذكرت ; لإفادة أن البنات لا يزدن على الثلثين ولو بلغ عددهن ما بلغ .
وأما ادعاء أن لفظة فوق زائدة وادعاء أن فوق اثنتين معناه اثنتان فما فوقهما فكله ظاهر السقوط كما ترى ، والقرآن ينزه عن مثله وإن قال به جماعة من أهل العلم .
ابو وليد البحيرى
2020-08-19, 04:39 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (29)
سورة النساء (2)
قوله تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث المراد في هذه الآية بالإخوة الذين يأخذ المنفرد منهم السدس وعند التعدد يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم ، سواء أخوة الأم بدليل بيانه تعالى أن الإخوة من الأب أشقاء أو لا ، يرث الواحد منهم كل المال ، وعند اجتماعهم يرثون المال كله للذكر مثل حظ الأنثيين .
وقال في المنفرد منهم وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ، وقال في جماعتهم : وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين . وقد أجمع العلماء على أن هؤلاء الإخوة من الأب ، كانوا أشقاء أو لأب . كما أجمعوا أن قوله : وإن كان رجل يورث كلالة الآية ، أنها في إخوة الأم ، وقرأ سعد بن أبي وقاص وله أخ أو أخت من أم . والتحقيق أن المراد بالكلالة عدم الأصول والفروع ، كما قال الناظم : [ الرجز ]
ويسألونك عن الكلالة هي انقطاع النسل لا محالة لا والد يبقى ولا مولود
فانقطع الأبناء والجدود
وهذا قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وأكثر الصحابة وهو الحق إن شاء الله تعالى . واعلم أن الكلالة تطلق على القرابة من غير جهة الولد والوالد ، وعلى الميت الذي لم يخلف والدا ولا ولدا ، وعلى الوارث الذي ليس بوالد ولا ولد ، وعلى المال الموروث عمن ليس بوالد ولا ولد ; إلا أنه استعمال غير شائع واختلف في اشتقاق الكلالة .
واختار كثير من العلماء أن أصلها من تكلله إذا أحاط به ومنه الإكليل لإحاطته بالرأس ، والكل لإحاطته [ ص: 229 ] بالرأس ، والكل لإحاطته بالعدد ; لأن الورثة فيها محيطة بالميت من جوانبه لا من أصله ولا فرعه .
وقال بعض العلماء : أصلها من الكلال بمعنى الإعياء ; لأن الكلالة أضعف من قرابة الآباء والأبناء .
وقال بعض العلماء : أصلها من الكل بمعنى الظهر وعليه فهي ما تركه الميت وراء ظهره ، واختلف في إعراب قوله كلالة . فقال بعض العلماء : هي حال من نائب فاعل يورث على حذف مضاف ، أي : يورث في حال كونه ذا كلالة أي قرابة غير الآباء والأبناء ، واختاره الزجاج وهو الأظهر ، وقيل : هي مفعول له ، أي : يورث لأجل الكلالة أي القرابة ، وقيل : هي خبر كان ، ويورث صفة لرجل ، أي : كان رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد ، وقيل غير ذلك ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا لم يبين هنا هل جعل لهن سبيلا أو لا ؟ ولكنه بين في مواضع أخر أنه جعل لهن السبيل بالحد كقوله في البكر : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 \ 2 ] ، ، وقوله في الثيب : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ) ; لأن هذه الآية باقية الحكم كما صح عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه وإن كانت منسوخة التلاوة .
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن حكم الرجم مأخوذ أيضا من آية أخرى محكمة غير منسوخة التلاوة ، وهي قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ، فإنها نزلت في اليهودي واليهودية اللذين زنيا وهما محصنان ورجمهما النبي - صلى الله عليه وسلم - فذمه تعالى في هذا الكتاب للمعرض عما في التوراة من رجم الزاني المحصن ، دليل قرآني واضح على بقاء حكم الرجم ، ويوضح ما ذكرنا من أنه تعالى جعل لهن السبيل بالحد ، قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح : " خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا " الحديث .
قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نكاح المرأة التي نكحها الأب ، ولم يبين ما المراد بنكاح الأب [ ص: 230 ] هل هو العقد أو الوطء ؟ ولكنه بين في موضع آخر أن اسم النكاح يطلق على العقد وحده ، وإن لم يحصل مسيس وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [ 33 \ 49 ] ، فصرح بأنه نكاح وأنه لا مسيس فيه .
وقد أجمع العلماء على أن من عقد عليها الأب حرمت على ابنه ، وإن لم يمسها الأب ، وكذلك عقد الابن محرم على الأب إجماعا ، وإن لم يمسها وقد أطلق تعالى النكاح في آية أخرى مريدا به الجماع بعد العقد ، وذلك في قوله : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ; لأن المراد بالنكاح هنا ليس مجرد العقد ، بل لا بد معه من الوطء ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - لامرأة رفاعة القرظي : " لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " يعني الجماع ولا عبرة بما يروى من المخالفة عن سعيد بن المسيب ; لوضوح النص الصريح الصحيح في عين المسألة .
ومن هنا قال بعض العلماء : لفظ النكاح مشترك بين العقد والجماع ، وقال بعضهم : هو حقيقة في الجماع مجاز في العقد ; لأنه سببه وقال بعضهم بالعكس .
تنبيه
قال بعض العلماء : إن لفظة ما من قوله : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم [ 4 \ 22 ] ، مصدرية وعليه فقوله من النساء متعلق بقوله : تنكحوا لا بقوله نكح ، وتقرير المعنى على هذا القول ولا تنكحوا من النساء نكاح آبائكم ، أي : لا تفعلوا ما كان يفعله آباؤكم من النكاح الفاسد ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، والذي يظهر وجزم به غير واحد من المحققين أن ما موصولة واقعة على النساء التي نكحها الآباء ، كقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] ، وقد قدمنا وجه ذلك ; لأنهم كانوا ينكحون نساء آبائهم كما يدل له سبب النزول ، فقد نقل ابن كثير عن أبي حاتم أن سبب نزولها أنه لما توفي أبو قيس بن الأسلت خطب ابنه امرأته ، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك فقال : " ارجعي إلى بيتك " ، فنزلت : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية .
قال مقيده عفا الله عنه : نكاح زوجات الآباء كان معروفا عند العرب ، وممن فعل ذلك أبو قيس بن الأسلت المذكور ، فقد تزوج أم عبيد الله وكانت تحت الأسلت أبيه ، [ ص: 231 ] وتزوج الأسود بن خلف ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت تحت أبيه خلف ، وتزوج صفوان بن أمية فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت تحت أبيه أمية ، كما نقله ابن جرير عن عكرمة قائلا : إنه سبب نزول الآية ، وتزوج عمرو بن أمية زوجة أبيه بعده ، فولدت له مسافرا وأبا معيط ، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره ، فكانوا إخوة مسافر وأبي معيط وأعمامهما ، وتزوج منظور بن زبان بن سيار الفزاري زوجة أبيه مليكة بنت خارجة ، كما نقله القرطبي وغيره ، ومليكة هذه هي التي قال فيها منظور المذكور بعد أن فسخ نكاحها منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
[ الطويل ]
ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر إذا منعت مني مليكة والخمر فإن تك قد أمست بعيدا مزارها
فحي ابنة المري ما طلع الفجر
وأشار إلى تزويج منظور هذا زوجة أبيه ناظم عمود النسب بقوله في ذكر مشاهير فزارة :
[ الرجز ]
منظور الناكح مقتا وحلف خمسين ما له على منع وقف
وقوله : وحلف إلخ .
قال شارحه : إن معناه أن عمر بن الخطاب حلفه خمسين يمينا بعد العصر في المسجد أنه لم يبلغه نسخ ما كان عليه أهل الجاهلية من نكاح أزواج الآباء ، وذكر السهيلي وغيره أن كنانة بن خزيمة تزوج زوجة أبيه خزيمة فولدت له النضر بن كنانة ، قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ولدت من نكاح لا من سفاح " فدل على أن ذلك كان سائغا لهم .
قال ابن كثير وفيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، وأشار إلى تضعيف ما ذكره السهيلي ناظم عمود النسب بقوله :
[ الرجز ]
وهند بنت مر أم حارثة شخيصة وأم عنز ثالثة
برة أختها عليها خلفا كنانة خزيمة وضعفا
أختهما عاتكة ونسلها عذرة التي الهوى يقتلها
وذكر شارحه أن الذي ضعف ذلك هو السهيلي نفسه ، خلافا لظاهر كلام ابن كثير ومعنى الأبيات أن هند بنت مر أخت تميم بن مر بن أدبن طابخة بن إلياس هي أم ثلاثة [ ص: 232 ] من أولاد وائل بن قاسط وهم الحارث وشخيص وعنز ، وأن أختها برة بنت مر كانت زوجة خزيمة بن مدركة ، فتزوجها بعد ابنه كنانة ، وأن ذلك مضعف ، وأن أختهما عاتكة بنت مر هي أم عذرة أبي القبيلة المشهورة بأن الهوى يقتلها ، وقد كان من مختلقات العرب في الجاهلية إرث الأقارب أزواج أقاربهم ، كان الرجل منهم إذا مات وألقى ابنه أو أخوه مثلا ثوبا على زوجته ورثها وصار أحق بها من نفسها ، إن شاء نكحها بلا مهر وإن شاء أنكحها غيره وأخذ مهرها ، وإن شاء عضلها حتى تفتدي منه ، إلى أن نهاهم الله عن ذلك بقوله : ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها الآية [ 4 \ 19 ] ، وأشار إلى هذا ناظم عمود النسب بقوله :
[ الرجز ]
القول فيما اختلفوا واخترقوا ولم يقد إليه إلا النزق
ثم شرع يعدد مختلقاتهم ، إلى أن قال :
[ الرجز ]
وأن من ألقى على زوج أبيه ونحوه بعد التوى ثوبا يريه
أولى بها من نفسها إن شاء نكح أو أنكح أو أساء
بالعضل كي يرثها أو تفتدى ومهرها في النكحتين للردى
وأظهر الأقوال في قوله تعالى : إلا ما قد سلف [ 4 \ 23 ] ، أن الاستثناء منقطع ، أي لكن ما مضى من ارتكاب هذا الفعل قبل التحريم فهو معفو عنه كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم الآية يفهم منه أن حليلة دعيه الذي تبناه لا تحرم عليه ، وهذا المفهوم صرح به تعالى في قوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا [ 33 \ 37 ] ، وقوله : وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم [ 33 \ 4 ] ، وقوله : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية [ 33 \ 40 ] .
أما تحريم منكوحة الابن من الرضاع فهو مأخوذ من دليل خارج وهو تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم اعلم أولا أن لفظ المحصنات أطلق في القرآن ثلاثة إطلاقات :
[ ص: 233 ] الأول : المحصنات العفائف ، ومنه قوله تعالى : محصنات غير مسافحات [ 4 \ 25 ] أي : عفائف غير زانيات .
الثاني : المحصنات الحرائر ، ومنه قوله تعالى : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، أي : على الإماء نصف ما على الحرائر من الجلد .
الثالث : أن يراد بالإحصان التزوج ، ومنه على التحقيق قوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة الآية ، أي : فإذا تزوجن . وقول من قال من العلماء : إن المراد بالإحصان في قوله : فإذا أحصن الإسلام خلاف الظاهر من سياق الآية ; لأن سياق الآية في الفتيات المؤمنات حيث قال : ومن لم يستطع منكم طولا الآية .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية ما نصه : والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج ; لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، والله أعلم . والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : فإذا أحصن أي : تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره . اهـ محل الغرض منه بلفظه .
فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى : والمحصنات من النساء الآية ، أوجه من التفسير هي أقوال للعلماء ، والقرآن يفهم منه ترجيح واحد معين منها .
قال بعض العلماء : المراد بالمحصنات هنا أعم من العفائف والحرائر والمتزوجات أي : حرمت عليكم جميع النساء إلا ما ملكت أيمانكم بعقد صحيح أو ملك شرعي بالرق ، فمعنى الآية على هذا القول تحريم النساء كلهن إلا بنكاح صحيح أو تسر شرعي ، وإلى هذا القول ذهب سعيد بن جبير ، وعطاء ، والسدي ، وحكي عن بعض الصحابة واختاره مالك في " الموطأ " .
وقال بعض العلماء : المراد بالمحصنات في الآية الحرائر ، وعليه فالمعنى وحرمت عليكم الحرائر غير الأربع ، وأحل لكم ما ملكت أيمانكم من الإماء ، وعليه فالاستثناء منقطع .
وقال بعض العلماء : المراد بالمحصنات : المتزوجات ، وعليه فمعنى الآية [ ص: 234 ] وحرمت عليكم المتزوجات ; لأن ذات الزوج لا تحل لغيره إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار ، فإن السبي يرفع حكم الزوجية الأولى في الكفر وهذا القول هو الصحيح ، وهو الذي يدل القرآن لصحته ; لأن القول الأول فيه حمل ملك اليمين على ما يشمل ملك النكاح ، وملك اليمين لم يرد في القرآن إلا بمعنى الملك بالرق ، كقوله : فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، وقوله : وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك [ 33 \ 50 ] ، وقوله : والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] ، وقوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 5 ، 6 ] ، في الموضعين ، فجعل ملك اليمين قسما آخر غير الزوجية . وقوله : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم [ 24 \ 33 ] ، فهذه الآيات تدل على أن المراد بما ملكت أيمانكم الإماء دون المنكوحات كما هو ظاهر ، وكذلك الوجه الثاني غير ظاهر ; لأن المعنى عليه : وحرمت عليكم الحرائر إلا ما ملكت أيمانكم ، وهذا خلاف الظاهر من معنى لفظ الآية كما ترى .
وصرح ابن القيم بأن هذا القول مردود لفظا ومعنى ، فظهر أن سياق الآية يدل على المعنى الذي اخترنا ، كما دلت عليه الآيات الأخر التي ذكرنا ، ويؤيده سبب النزول ; لأن سبب نزولها كما أخرجه مسلم في " صحيحه " والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وعبد الرزاق عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : أصبنا سبيا من سبي أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 24 ] ، فاستحللنا فروجهن .
وروى الطبراني عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر ، ونظير هذا التفسير الصحيح قول الفرزدق :
[ الطويل ]
وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق
ابو وليد البحيرى
2020-08-19, 04:41 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (30)
سورة النساء (3)
تنبيه
فإن قيل : عموم قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم ، لا يختص بالمسبيات ، بل ظاهر هذا العموم أن كل أمة متزوجة إذا ملكها رجل آخر فهي تحل له بملك اليمين ويرتفع حكم الزوجية بذلك الملك ، والآية وإن نزلت في خصوص المسبيات كما ذكرنا ، [ ص: 235 ] فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، فالجواب : أن جماعة من السلف قالوا بظاهر هذا العموم ، فحكموا بأن بيع الأمة مثلا يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم هذه الآية ، ويروى هذا القول عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ومعمر ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره ، ولكن التحقيق في هذه المسألة هو ما ذكرنا من اختصاص هذا الحكم بالمسبيات دون غيرها من المملوكات بسبب آخر غير السبي ، كالبيع مثلا وليس من تخصيص العام بصورة سببه . وأوضح دليل في ذلك قصة بريرة المشهورة مع زوجها مغيث .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية بعد ذكره أقوال الجماعة التي ذكرنا في أن البيع طلاق ، ما نصه : وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها ; لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة ، وباعها مسلوبة عنه ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في " الصحيحين " وغيرهما ، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها ، وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما خيرها دل على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط ، والله أعلم . اهـ منه لفظه .
فإن قيل : إن كان المشتري امرأة لم ينفسخ النكاح ; لأنها لا تملك الاستمتاع ببضع الأمة ، بخلاف الرجل ، وملك اليمين أقوى من ملك النكاح ، كما قال بهذا جماعة ، ولا يرد على هذا القول حديث بريرة ، فالجواب هو ما حرره ابن القيم ، وهو أنها إن لم تملك الاستمتاع ببضع أمتها ، فهي تملك المعاوضة عليه وتزويجها وأخذ مهرها ، وذلك كملك الرجل وإن لم تستمتع بالبضع ، فإذا حققت ذلك علمت أن التحقيق في معنى الآية وحرمت عليكم المحصنات أي : المتزوجات ، إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من الكفار ، فلا منع في وطئهن بملك اليمين بعد الاستبراء ; لانهدام الزوجية الأولى بالسبي كما قررنا ، وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث - رضي الله عنها - متزوجة برجل اسمه مسافع ، فسبيت في غزوة بني المصطلق وقصتها معروفة . قال ناظم قرة الأبصار في جويرية رضي الله عنها :
[ الرجز ]
وقد سباها في غزاة المصطلق من بعلها مسافع بالمنزلق
ومراده بالمنزلق السيف ، ثم إن العلماء اختلفوا في السبي ، هل يبطل حكم الزوجية [ ص: 236 ] الأولى مطلقا ولو سبي الزوج معها ، وهو ظاهر الآية أو لا يبطله إلا إذا سبيت وحدها دونه ؟ فإن سبي معها فحكم الزوجية باق ، وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن الآية ، يعني : كما أنكم تستمتعون بالمنكوحات فأعطوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، وهذا المعنى تدل له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض الآية [ 4 \ 21 ] ، فإفضاء بعضهم إلى بعض المصرح بأنه سبب لاستحقاق الصداق كاملا ، هو بعينه الاستمتاع المذكور هنا في قوله : فما استمتعتم به منهن الآية [ 4 \ 24 ] ، وقوله : وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [ 4 \ 4 ] ، وقوله : ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا الآية [ 2 \ 229 ] . فالآية في عقد النكاح ، لا في نكاح المتعة كما قال به من لا يعلم معناها ، فإن قيل : التعبير بلفظ الأجور يدل على أن المقصود الأجرة في نكاح المتعة ; لأن الصداق لا يسمى أجرا ، فالجواب أن القرآن جاء في تسمية الصداق أجرا في موضع لا نزاع فيه ; لأن الصداق لما كان في مقابلة الاستمتاع بالزوجة كما صرح به تعالى في قوله : وكيف تأخذونه الآية ، صار له شبه قوي بأثمان المنافع فسمي أجرا ، وذلك الموضع هو قوله تعالى : فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن الآية [ 4 \ 25 ] ، أي : مهورهن بلا نزاع ، ومثله قوله تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن الآية [ 5 \ 5 ] . أي : مهورهن فاتضح أن الآية في النكاح لا في نكاح المتعة ، فإن قيل : كان ابن عباس وأبي بن كعب ، وسعيد بن جبير ، والسدي يقرءون : فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى ، وهذا يدل على أن الآية في نكاح المتعة ، فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قولهم إلى أجل مسمى لم يثبت قرآنا ; لإجماع الصحابة على عدم كتبه في المصاحف العثمانية ، وأكثر الأصوليين على أن ما قرأه الصحابي على أنه قرآن ، ولم يثبت كونه قرآنا لا يستدل به على شيء ; لأنه باطل من أصله ; لأنه لما لم ينقله إلا على أنه قرآن فبطل كونه قرآنا ظهر بطلانه من أصله .
الثاني : أنا لو مشينا على أنه يحتج به كالاحتجاج بخبر الآحاد كما قال به قوم ، أو على أنه تفسير منهم للآية بذلك ، فهو معارض بأقوى منه ; لأن جمهور العلماء على [ ص: 237 ] خلافه ; ولأن الأحاديث الصحيحة الصريحة قاطعة بكثرة بتحريم نكاح المتعة ، وصرح - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك التحريم دائم إلى يوم القيامة ، كما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - أنه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة . فقال : " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع في النساء ، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " .
وفي رواية لمسلم في حجة الوداع : ولا تعارض في ذلك ; لإمكان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك يوم فتح مكة ، وفي حجة الوداع أيضا والجمع واجب إذا أمكن ، كما تقرر في علم الأصول وعلوم الحديث .
الثالث : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الآية تدل على إباحة نكاح المتعة فإن إباحتها منسوخة كما صح نسخ ذلك في الأحاديث المتفق عليها عنه - صلى الله عليه وسلم - وقد نسخ ذلك مرتين الأولى يوم خيبر كما ثبت في الصحيح ، والآخرة يوم فتح مكة ، كما ثبت في الصحيح أيضا .
وقال بعض العلماء : نسخت مرة واحدة يوم الفتح ، والذي وقع في خيبر تحريم لحوم الحمر الأهلية فقط ، فظن بعض الرواة أن يوم خيبر ظرف أيضا لتحريم المتعة .
واختار هذا القول ابن القيم ، ولكن بعض الروايات الصحيحة ، صريحة في تحريم المتعة يوم خيبر أيضا ، فالظاهر أنها حرمت مرتين كما جزم به غير واحد ، وصحت الرواية به . والله تعالى أعلم .
الرابع : أنه تعالى صرح بأنه يجب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية في قوله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] ، في الموضعين ، ثم صرح بأن المبتغى وراء ذلك من العادين بقوله : فمن ابتغى وراء ذلك الآية [ 23 \ 7 ] .
ومعلوم أن المستمتع بها ليست مملوكة ولا زوجة ، فمبتغيها إذن من العادين بنص القرآن ، أما كونها غير مملوكة فواضح ، وأما كونها غير زوجة فلانتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث ، والعدة ، والطلاق ، والنفقة ، ولو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ووجبت لها النفقة ، كما هو ظاهر ، فهذه الآية التي هي : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ ص: 238 ] [ 23 \ 75 - 29 ، 31 ] ، صريحة في منع الاستمتاع بالنساء الذي نسخ . وسياق الآية التي نحن بصددها يدل دلالة واضحة على أن الآية في عقد النكاح كما بينا لا في نكاح المتعة ; لأنه تعالى ذكر المحرمات التي لا يجوز نكاحها بقوله تعالى : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] الخ . . .
ثم بين أن غير تلك المحرمات حلال بالنكاح بقوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [ 4 \ 24 ] ، ثم بين أن من نكحتم منهن واستمتعتم بها يلزمكم أن تعطوها مهرها ، مرتبا لذلك بالفاء على النكاح بقوله : فما استمتعتم به منهن الآية [ 4 \ 24 ] ، كما بيناه واضحا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن الأمة لا يجوز نكاحها ، ولو عند الضرورة إلا إذا كانت مؤمنة بدليل قوله : من فتياتكم المؤمنات [ 4 \ 25 ] ، فمفهوم مخالفته أن غير المؤمنات من الإماء لا يجوز نكاحهن على كل حال ، وهذا المفهوم يفهم من مفهوم آية أخرى وهي قوله تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [ 5 \ 5 ] ، فإن المراد بالمحصنات فيها الحرائر على أحد الأقوال ، ويفهم منه أن الإماء الكوافر لا يحل نكاحهن ولو كن كتابيات ، وخالف الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - فأجاز نكاح الأمة الكافرة ، وأجاز نكاح الإماء لمن عنده طول ينكح به الحرائر ; لأنه لا يعتبر مفهوم المخالفة كما عرف في أصوله رحمه الله .
أما وطء الأمة الكافرة بملك اليمين ، فإنها إن كانت كتابية فجمهور العلماء على إباحة وطئها بالملك ، لعموم قوله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم الآية [ 23 \ 6 ] ، ولجواز نكاح حرائرهم فيحل التسري بالإماء منهم . وأما إن كانت الأمة المملوكة له مجوسية أو عابدة وثن ممن لا يحل نكاح حرائرهم ; فجمهور العلماء على منع وطئها بملك اليمين .
قال ابن عبد البر : وعليه جماعة فقهاء الأمصار وجمهور العلماء ، وما خالفه فهو شذوذ لا يعد خلافا ، ولم يبلغنا إباحة ذلك إلا عن طاوس .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر من جهة الدليل والله تعالى أعلم جواز وطء الأمة بملك اليمين وإن كانت عابدة وثن أو مجوسية ; لأن أكثر السبايا في عصره - صلى الله عليه وسلم - من [ ص: 239 ] كفار العرب وهم عبدة أوثان ، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حرم وطأهن بالملك لكفرهن ولو كان حراما لبينه ، بل قال صلى الله عليه وسلم : " لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة " ، ولم يقل حتى يسلمن ولو كان ذلك شرطا لقاله وقد أخذ الصحابة سبايا فارس وهن مجوس ، ولم ينقل أنهم اجتنبوهن حتى أسلمن .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : ودل هذا القضاء النبوي على جواز وطء الإماء الوثنيات بملك اليمين ، فإن سبايا أوطاس لم يكن كتابيات ، ولم يشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وطئهن إسلامهن ، ولم يجعل المانع منه إلا الاستبراء فقط ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع مع أنهم حديثو عهد بالإسلام ويخفى عليهم حكم هذه المسألة وحصول الإسلام من جميع السبايا ، وكن عدة آلاف بحيث لم يتخلف منهن عن الإسلام جارية واحدة مما يعلم أنه في غاية البعد ، فإنهن لم يكرهن على الإسلام ، ولم يكن لهن من البصيرة والرغبة والمحبة في الإسلام ما يقتضي مبادرتهن إليه جميعا ، فمقتضى السنة وعمل الصحابة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعده جواز وطء المملوكات على أي دين كن ، وهذا مذهب طاوس وغيره ، وقواه صاحب " المغني " فيه ورجح أدلته ، وبالله التوفيق . ا هـ كلام ابن القيم بلفظه وهو واضح جدا .
قوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، لم يبين هنا هذا العذاب الذي على المحصنات وهن الحرائر الذي نصفه على الإماء ، ولكنه بين في موضع آخر أنه جلد مائة بقوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، فيعلم منه أن على الأمة الزانية خمسين جلدة ويلحق بها العبد الزاني فيجلد خمسين ، فعموم الزانية مخصوص بنص قوله تعالى : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، وعموم الزاني مخصوص بالقياس على المنصوص ; لأنه لا فارق البتة بين الحرة والأمة إلا الرق ، فعلم أنه سبب تشطير الجلد فأجرى في العبد لاتصافه بالرق الذي هو مناط تشطير الجلد ، وهذه الآية عند الأصوليين من أمثلة تخصيص عموم النص بالقياس ، بناء على أن نوع تنقيح المناط المعروف بإلغاء الفارق يسمى قياسا ، والخلاف في كونه قياسا معروف في الأصول . أما الرجم فمعلوم أنه لا يتشطر ، فلم يدخل في المراد بالآية .
تنبيه
قد علمت مما تقدم أن التحقيق في معنى أحصن أن المراد به تزوجن ، وذلك هو [ ص: 240 ] معناه على كلتا القراءتين قراءته بالبناة للفاعل والمفعول ، خلافا لما اختاره ابن جرير من أن معنى قراءة أحصن بفتح الهمزة والصاد مبنيا للفاعل أسلمن ، وأن معنى أحصن بضم الهمزة وكسر الصاد مبنيا للمفعول زوجن ، وعليه فيفهم من مفهوم الشرط في قوله : فإذا أحصن [ 4 \ 25 ] أن الأمة التي لم تتزوج لا حد عليها إذا زنت ; لأنه تعالى علق حدها في الآية بالإحصان ، وتمسك بمفهوم هذه الآية ابن عباس ، وطاوس ، وعطاء ، وابن جريج ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي في رواية فقالوا : لا حد على مملوكة حتى تتزوج ، والجواب عن هذا - والله أعلم - أن مفهوم هذه الآية فيه إجمال وقد بينته السنة الصحيحة ، وإيضاحه أن تعليق جلد الخمسين المذكور في الآية على إحصان الأمة ، يفهم منه أن الأمة التي لم تحصن ليست كذلك فقط ، فيحتمل أنها لا تجلد ، ويحتمل أنها تجلد أكثر من ذلك أو أقل أو ترجم إلى غير ذلك من المحتملات ، ولكن السنة الصحيحة دلت على أن غير المحصنة من الإماء كذلك ، لا فرق بينها وبين المحصنة ، والحكمة في التعبير بخصوص المحصنة دفع توهم أنها ترجم كالحرة ، فقد أخرج الشيخان في " صحيحيهما " عن أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - قالا : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمة إذا زنت ، ولم تحصن قال : " إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " .
قال ابن شهاب : لا أدري أبعد الثالثة ، أو الرابعة ، وحمل الجلد في الحديث على التأديب غير ظاهر ، لا سيما وفي بعض الروايات التصريح بالحد ، فمفهوم هذه الآية هو بعينه الذي سئل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأجاب فيه بالأمر بالجلد في هذا الحديث المتفق عليه ، والظاهر أن السائل ما سأله إلا لأنه أشكل عليه مفهوم هذه الآية فالحديث نص في محل النزاع ، ولو كان جلد غير المحصنة أكثر أو أقل من جلد المحصنة لبينه صلى الله عليه وسلم .
وبهذا تعلم أن الأقوال المخالفة لهذا لا يعول عليها ، كقول ابن عباس ومن وافقه المتقدم آنفا ، وكالقول بأن غير المحصنة تجلد مائة ، وهو المشهور عن داود بن علي الظاهري ، ولا يخفى بعده وكالقول بأن الأمة المحصنة ترجم وغير المحصنة تجلد خمسين ، وهو قول أبي ثور ، ولا يخفى شدة بعده والعلم عند الله تعالى .
ابو وليد البحيرى
2020-08-26, 04:43 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (31)
سورة النساء (4)
قوله تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن النشوز قد يحصل من النساء ، ولم يبين هل يحصل من الرجال نشوز أو لا ؟ ولكنه بين في موضع آخر [ ص: 241 ] أن النشوز أيضا قد يحصل من الرجال ، وهو قوله تعالى : وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا الآية [ 4 \ 128 ] ، وأصل النشوز في اللغة الارتفاع ، فالمرأة الناشز كأنها ترتفع عن المكان الذي يضاجعها فيه زوجها ، وهو في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج ، وكأن نشوز الرجل ارتفاعه أيضا عن المحل الذي فيه الزوجة وتركه مضاجعتها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها الآية ، لم يبين في هذه الآية الكريمة أقل ما تضاعف به الحسنة ولا أكثره ولكنه بين في موضع آخر أن أقل ما تضاعف به عشر أمثالها ، وهو قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] .
وبين في موضع آخر أن المضاعفة ربما بلغت سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، وهو قوله : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل الآية [ 2 \ 261 ] كما تقدم .
قوله تعالى : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض الآية ، على القراءات الثلاث معناه أنهم يتمنون أن يستووا بالأرض ، فيكونوا ترابا مثلها على أظهر الأقوال ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .
قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا بين في موضع آخر أن عدم الكتم المذكور هنا ، إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا عند الختم على أفواههم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وهو قوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] ، فلا يتنافى قوله : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] ، مع قوله عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله عنهم أيضا : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله عنهم : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 ] ، للبيان الذي ذكرنا والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون بين تعالى في هذه الآية زوال السكر بأنه هو أن يثوب للسكران عقله ، حتى يعلم معنى الكلام الذي يصدر منه بقوله : حتى تعلموا ما تقولون [ 4 \ 43 ] .
[ ص: 242 ] قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل الآية . ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب مع اشترائهم الضلالة يريدون إضلال المسلمين أيضا .
وذكر في موضع آخر أنهم كثير ، وأنهم يتمنون ردة المسلمين ، وأن السبب الحامل لهم على ذلك إنما هو الحسد وأنهم ما صدر منهم ذلك إلا بعد معرفتهم الحق وهو قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين [ 2 \ 109 ] .
وذكر في موضع آخر أن هذا الإضلال الذي يتمنونه للمسلمين لا يقع من المسلمين ، وإنما يقع منهم أعني المتمنين الضلال للمسلمين وهو قوله : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون [ 3 ] .
قوله تعالى : أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ، لم يبين هنا كيفية لعنه لأصحاب السبت ، ولكنه بين في غير هذا الموضع أن لعنه لهم هو مسخهم قردة ومن مسخه الله قردا غضبا عليه ملعون بلا شك ، وذلك قوله تعالى : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 2 \ 65 ] ، وقوله : فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 7 \ 166 ] ، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بعطفه عليه في قوله : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [ 5 \ 60 ] ، لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية ، كما قاله الألوسي في " تفسيره " وهو ظاهر واللعنة في اللغة : الطرد والإبعاد ، والرجل الذي طرده قومه وأبعدوه لجناياته تقول له العرب رجل لعين ، ومنه قول الشاعر :
[ الوافر ]
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين
وفي اصطلاح الشرع : اللعنة : الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، ومعلوم أن المسخ من أكبر أنواع الطرد والإبعاد .
قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [ ص: 243 ] ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثما عظيما .
وذكر في مواضع أخر : أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك ، فإن تاب غفر له كقوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا الآية [ 25 \ 70 ] ، فإن الاستثناء راجع لقوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ 25 \ 68 ] ، وما عطف عليه ; لأن معنى الكل جمع في قوله : ومن يفعل ذلك يلق أثاما الآية [ 25 \ 68 ] وقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] . وذكر في موضع آخر : أن من أشرك بالله قد ضل ضلالا بعيدا عن الحق ، وهو قوله في هذه السورة الكريمة أيضا : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا [ 4 \ 116 ] ، وصرح بأن من أشرك بالله فالجنة عليه حرام ومأواه النار بقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [ 5 ] ، وقوله : ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [ 7 \ 50 ] .
وذكر في موضع آخر أن المشرك لا يرجى له خلاص ، وهو قوله : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ 22 \ 31 ] ، وصرح في موضع آخر : بأن الإشراك ظلم عظيم بقوله عن لقمان مقررا له : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] .
وذكر في موضع آخر أن الأمن التام والاهتداء ، إنما هما لمن لم يلبس إيمانه بشرك ، وهو قوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] ، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن معنى بظلم بشرك .
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء الآية ، أنكر تعالى عليهم في هذه الآية تزكيتهم أنفسهم بقوله : ألم تر إلى الذين [ 4 \ 49 ] ، وبقوله : انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا [ 4 \ 50 ] ، وصرح بالنهي العام عن تزكية النفس وأحرى نفس الكافر التي هي أخس شيء وأنجسه بقوله : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 ] ، [ ص: 244 ] ولم يبين هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم .
ولكنه بين ذلك في مواضع أخر ، كقوله عنهم : نحن أبناء الله وأحباؤه [ 5 \ 18 ] ، وقوله : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [ 2 \ 111 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وندخلهم ظلا ظليلا ، وصف في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل ، ووصفه في آية أخرى بأنه دائم ، وهي قوله : أكلها دائم وظلها [ 13 \ 35 ] ، ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود ، وهي قوله : وظل ممدود [ 56 ] ، وبين في موضع آخر أنها ظلال متعددة ، وهو قوله : إن المتقين في ظلال وعيون الآية [ 77 \ 41 ] .
وذكر في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك وهو قوله : هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 56 ] ، والأرائك : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة ، والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة ، وبين أن ظل أهل النار ليس كذلك بقوله : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 29 ، 30 ] ، وقوله : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم [ 56 \ 41 ، 44 ] .
قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين ، وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ; لأنه تعالى قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، وأوضح هذا المأمور به هنا بقوله : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخا للمتحاكمين إلى غير كتاب الله ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - مبينا أن الشيطان أضلهم ضلالا بعيدا عن الحق بقوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] ، وأشار إلى أنه لا يؤمن أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] .
[ ص: 245 ] ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك ، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان ; لأن الإيمان بالله هو العروة الوثقى ، والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان بالله ; لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله أو ركن منه ، كما هو صريح قوله : فمن يكفر بالطاغوت الآية [ 2 \ 256 ] .
تنبيه
استدل منكرو القياس بهذه الآية الكريمة ، أعني قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية ، على بطلان القياس قالوا : لأنه تعالى أوجب الرد إلى خصوص الكتاب والسنة دون القياس ، وأجاب الجمهور بأنه لا دليل لهم في الآية ; لأن إلحاق غير المنصوص بالمنصوص لوجود معنى النص فيه لا يخرج عن الرد إلى الكتاب والسنة ، بل قال بعضهم : الآية متضمنة لجميع الأدلة الشرعية ، فالمراد بإطاعة الله العمل بالكتاب ، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة ، وبالرد إليهما القياس ; لأن رد المختلف فيه غير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه ، إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه ، وليس القياس شيئا وراء ذلك .
وقد علم من قوله تعالى : فإن تنازعتم أنه عند عدم النزاع يعمل بالمتفق عليه ، وهو الإجماع قاله الألوسي في " تفسيره " .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا دعوا إلى ما أنزل الله ، وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصدون عن ذلك صدودا أي : يعرضون إعراضا .
وذكر في موضع آخر أنهم إذا دعوا إليه صلى الله عليه وسلم ; ليستغفر لهم لووا رءوسهم ، وصدوا واستكبروا ، وهو قوله : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون [ 63 \ 5 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-08-26, 04:44 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (32)
سورة النساء (5)
قوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة بنفسه [ ص: 246 ] الكريمة المقدسة ، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور ، ثم ينقاد لما حكم به ظاهرا وباطنا ويسلمه تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، وبين في آية أخرى أن قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي ، والانقياد التام ظاهرا وباطنا لما حكم به صلى الله عليه وسلم ، وهي قوله تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا الآية [ 24 \ 51 ] .
قوله تعالى : فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا سمعوا بأن المسلمين أصابتهم مصيبة أي : من قتل الأعداء لهم ، أو جراح أصابتهم ، أو نحو ذلك يقولون : إن عدم حضورهم معهم من نعم الله عليهم .
وذكر في مواضع أخر أنهم يفرحون بالسوء الذي أصاب المسلمين ، كقوله تعالى : وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها [ 3 \ 120 ] ، وقوله : وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون [ 9 \ 50 ] .
قوله تعالى : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ، ذكر في هذه الآية الكريمة ، أن المنافقين إذا سمعوا أن المسلمين أصابهم فضل من الله أي : نصر وظفر وغنيمة تمنوا أن يكونوا معهم ; ليفوزوا بسهامهم من الغنيمة .
وذكر في مواضع أخر أن ذلك الفضل الذي يصيب المؤمنين يسوءهم لشدة عداوتهم الباطنة لهم ، كقوله تعالى : إن تمسسكم حسنة تسؤهم [ 3 \ 120 ] ، وقوله : إن تصبك حسنة تسؤهم [ 9 \ 50 ] .
قوله تعالى : ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أنه سوف يؤتي المجاهد في سبيله أجرا عظيما سواء أقتل في سبيل الله ، أم غلب عدوه ، وظفر به .
وبين في موضع آخر أن كلتا الحالتين حسنى ، وهو قوله : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين [ 9 \ 52 ] ، والحسنى صيغة تفضيل ; لأنها تأنيث الأحسن .
قوله تعالى : حرض المؤمنين الآية [ 4 \ 84 ] ، لم يصرح هنا بالذي يحرض عليه [ ص: 247 ] المؤمنين ما هو ، وصرح في موضع آخر بأنه القتال ، وهو قوله : حرض المؤمنين على القتال ، وأشار إلى ذلك هنا بقوله في أول الآية : فقاتل في سبيل الله ، وقوله في آخرها : عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا الآية .
قوله تعالى : أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ، أنكر تعالى في هذه الآية الكريمة على من أراد أن يهدي من أضله الله وصرح فيها بأن من أضله الله لا يوجد سبيل إلى هداه ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] ، وقوله : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، ويؤخذ من هذه الآيات أن العبد ينبغي له كثرة التضرع والابتهال إلى الله تعالى أن يهديه ولا يضله ; فإن من هداه الله لا يضل ، ومن أضله لا هادي له ، ولذا ذكر عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا الآية [ 3 \ 8 ] .
قوله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ذكر في هذه الآية الكريمة أنه فضل المجاهدين في سبيل الله بأموالهم ، وأنفسهم على القاعدين درجة وأجرا عظيما ، ولم يتعرض لتفضيل بعض المجاهدين على بعض ، ولكنه بين ذلك في موضع آخر وهو قوله : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى [ 57 \ 10 ] ، وقوله في هذه الآية الكريمة غير أولي الضرر ، يفهم من مفهوم مخالفته أن من خلفه العذر إذا كانت نيته صالحة يحصل ثواب المجاهد .
وهذا المفهوم صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الثابت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " ، قالوا وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر " ، وفي هذا المعنى قال الشاعر :
[ البسيط ]
يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وعن قدر
ومن أقام على عذر فقد راحا
[ ص: 248 ] تنبيه
يؤخذ من قوله في هذه الآية الكريمة : وكلا وعد الله الحسنى ، أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين ; لأن القاعدين لو كانوا تاركين فرضا لما ناسب ذلك وعده لهم الصادق بالحسنى ; وهي الجنة والثواب الجزيل .
قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا
الآية .
قال بعض العلماء : المراد بالقصر في قوله : أن تقصروا في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها ، ومعنى قصر كيفيتها أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن ، كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة ، ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى ، وكصلاتهم إيماء رجالا وركبانا وغير متوجهين إلى القبلة ، فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها .
قوله تعالى بعده يليه مبينا له : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم الآية [ 4 \ 102 ] ، وقوله تعالى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ 2 \ 239 ] ، ويزيده إيضاحا أنه قال هنا : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ 4 ] ، وقال في آية البقرة : فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون [ 2 \ 239 ] ; لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف .
وعلى هذا التفسير الذي دل له القرآن فشرط الخوف في قوله : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ 4 \ 101 ] ، معتبر أي : وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها ، بل صلوها على أكمل الهيئات ، كما صرح به في قوله : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ 4 ] ، وصرح باشتراط الخوف أيضا لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ، ثم قال : فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم الآية يعني : فإذا أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتكم بركوعها وسجودها ، وقيامها وقعودها على أكمل هيئة وأتمها ، وخير ما يبين القرآن القرآن ، [ ص: 249 ] ويدل على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا ، أن البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله : باب صلاة الخوف ، وقول الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا [ 4 \ 101 ، 102 ] ، وما ذكره ابن حجر وغيره من أن البخاري ساق الآيتين في الترجمة ; ليشير إلى خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولا ، وبالسنة فعلا ، لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، ويؤيده أيضا أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن ، كما وقع في حجة الوداع وغيرها ، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة : " أتموا فإنا قوم سفر " .
وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية : مجاهد ، والضحاك ، والسدي ، نقله عنهم ابن كثير وهو قول أبي بكر الرازي الحنفي . ونقل ابن جرير نحوه عن ابن عمر ولما نقل ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال : واعتضدوا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر " .
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا : " فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية ؟ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة .
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد ، حدثنا وكيع ، وسفيان ، [ ص: 250 ] وعبد الرحمن عن زبيد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر - رضي الله عنه - قال : " صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم " .
وهكذا رواه النسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " من طرق عن زبيد اليامي به ، وهذا إسناد على شرط مسلم ، وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر ، وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وغيره وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، وإن كان يحيى بن معين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه .
وعلى هذا أيضا فقال : فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي ، من طريق الثوري عن زبيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن الثقة عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عجرة ، عن عمر فالله أعلم .
وقد روى مسلم في " صحيحه " ، وأبو داود والنسائي ، وابن ماجه من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري زاد مسلم ، والنسائي ، وأيوب بن عائذ ، كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن عبد الله بن عباس قال : " فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلى في السفر " .
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد عن طاوس نفسه فهذا ثابت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها ; لأنها أخبرت " أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع " ، كما قاله ابن عباس ، والله أعلم .
ولكن اتفق حديث ابن عباس ، وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر - رضي الله عنه - واعلم أن حديث عائشة المذكور تكلم فيه من ثمان جهات :
الأولى : أنه معارض بالإجماع . قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه المسمى " بالقبس " . قال علماؤنا هذا الحديث مردود بالإجماع .
الثانية : أنها هي خالفته ، والراوي من أعلم الناس بما روى فهي رضي الله عنها [ ص: 251 ] كانت تتم في السفر ، قالوا : ومخالفتها لروايتها توهن الحديث .
الثالثة : إجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم .
الرابعة : أن غيرها من الصحابة خالفها ، كعمر ، وابن عباس ، وجبير بن مطعم ، فقالوا : " إن الصلاة فرضت في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة " ، وقد قدمنا رواية مسلم وغيره له عن ابن عباس .
الخامسة : دعوى أنه مضطرب ; لأنه رواه ابن عجلان ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ركعتين " ، وقال فيه الأوزاعي ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة ، قالت : " فرض الله الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ركعتين " الحديث . قالوا : فهذا اضطراب .
السادسة : أنه ليس على ظاهره ; لأن المغرب ، والصبح لم يزد فيهما ، ولم ينقص .
السابعة : أنه من قول عائشة لا مرفوع .
الثامنة : قول إمام الحرمين : لو صح لنقل متواترا .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذه الاعتراضات الموردة على حديث عائشة المذكور كلها ساقطة ، أما معارضته بالإجماع فلا يخفى سقوطها ; لأنه لا يصح فيه إجماع وذكر ابن العربي نفسه الخلاف فيه .
وقال القرطبي بعد ذكر دعوى ابن العربي الإجماع المذكور قلت : وهذا لا يصح ، وقد ذكر هو وغيره الخلاف والنزاع فلم يصح ما ادعوه من الإجماع .
وأما معارضته بمخالفة عائشة له فهي أيضا ظاهرة السقوط ; لأن العبرة بروايتها لا برأيها كما هو التحقيق عند الجمهور ، وقد بيناه في سورة " البقرة " في الكلام على حديث طاوس المتقدم في الطلاق .
وأما معارضته بإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم ، فجوابه أن فقهاء الأمصار لم يجمعوا على ذلك ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن المسافر لا يصح اقتداؤه بالمقيم لمخالفتهما في العدد ، والنية ، واحتجوا [ ص: 252 ] بحديث : " لا تختلفوا على إمامكم " وممن ذهب إلى ذلك الشعبي وطاوس وداود الظاهري وغيرهم .
وأما معارضته بمخالفة بعض الصحابة لها كابن عباس ، فجوابه ما قدمناه آنفا عن ابن كثير من أن صلاة الحضر لما زيد فيها واستقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قال ابن عباس .
وأما تضعيفه بالاضطراب فهو ظاهر السقوط ; لأنه ليس فيه اضطراب أصلا ، ومعنى فرض الله وفرض رسول الله واحد ; لأن الله هو الشارع والرسول هو المبين ، فإذا قيل فرض رسول الله كذا فالمراد أنه مبلغ ذلك عن الله فلا ينافي أن الله هو الذي فرض ذلك كما قال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، ونظيره حديث : " إن إبراهيم حرم مكة " مع حديث : " إن مكة حرمها الله " الحديث .
وأما رده بأن المغرب والصبح لم يزد فيهما فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن المراد بالحديث الصلوات التي تقصر خاصة كما هو ظاهر ، مع أن بعض الروايات عن عائشة عند ابن خزيمة ، وابن حبان ، والبيهقي . قالت : " فرضت صلاة السفر والحضر ركعتين ركعتين ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة واطمأن زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان ، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب ; لأنها وتر النهار " وعند أحمد من طريق ابن كيسان في حديث عائشة المذكور " إلا المغرب فإنها كانت ثلاثا " .
وهذه الروايات تبين أن المراد خصوص الصلوات التي تقصر ، وأما رده بأنه غير مرفوع فهو ظاهر السقوط ; لأنه مما لا مجال فيه للرأي فله حكم المرفوع ، ولو سلمنا أن عائشة لم تحضر فرض الصلاة فإنها يمكن أن تكون سمعت ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمنها معه ، ولو فرضنا أنها لم تسمعه منه فهو مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لها حكم الوصل .
وأما قول إمام الحرمين إنه لو ثبت لنقل متواترا فهو ظاهر السقوط ; لأن مثل هذا لا يرد بعدم التواتر ، فإذا عرفت مما تقدم أن صلاة السفر فرضت ركعتين كما صح به الحديث عن عائشة وابن عباس وعمر - رضي الله عنهم - فاعلم أن ابن كثير بعد أن ساق الحديث عن عمر ، وابن عباس ، وعائشة قال ما نصه :
وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله : فليس عليكم جناح [ 4 \ 101 ] ، أن [ ص: 253 ] تقصروا من الصلاة قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ; ولهذا قال : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا الآية . ولهذا قال بعدها : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الأية [ 4 \ 102 ] . فبين المقصود من القصر هاهنا ، وذكر صفته وكيفيته . اه محل الغرض منه بلفظه وهو واضح جدا فيما ذكرنا وهو اختيار ابن جرير .
ابو وليد البحيرى
2020-08-26, 04:45 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (33)
سورة النساء (6)
وعلى هذا القول ، فالآية في صلاة الخوف وقصر الصلاة في السفر عليه مأخوذ من السنة لا من القرآن ، وفي معنى الآية الكريمة أقوال أخر :
أحدها : أن معنى أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ 4 \ 101 ] ، الاقتصار على ركعة واحدة في صلاة الخوف كما قدمنا آنفا من حديث ابن عباس عند مسلم ، والنسائي ، وأبي داود ، وابن ماجه ، وقدمنا أنه رواه ابن ماجه عن طاوس .
وقد روى نحوه أبو داود ، والنسائي من حديث حذيفة قال : " فصلى بهؤلاء ركعة ، وهؤلاء ركعة ولم يقضوا " ورواه النسائي أيضا من حديث زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وممن قال بالاقتصار في الخوف على ركعة واحدة ، الثوري وإسحاق ومن تبعهما . وروي عن أحمد بن حنبل وعطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد ، والضحاك .
وقال بعضهم : يصلى الصبح في الخوف ركعة ، وإليه ذهب ابن حزم ، ويحكى عن محمد بن نصر المروزي وبالاقتصار على ركعة واحدة في الخوف .
قال أبو هريرة وأبو موسى الأشعري وغير واحد من التابعين ومنهم من قيده بشدة الخوف .
وعلى هذا القول ، فالقصر في قوله تعالى : أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] ، قصر كمية .
وقال جماعة : إن المراد بالقصر في قوله : أن تقصروا من الصلاة ، هو قصر الصلاة في السفر . قالوا : ولا مفهوم مخالفة للشرط الذي هو قوله : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ; لأنه خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ [ ص: 254 ] الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة .
وقد تقرر في الأصول ، أن من الموانع لاعتبار مفهوم المخالفة خروج المنطوق مخرج الغالب ، ولذا لم يعتبر الجمهور مفهوم المخالفة في قوله : اللاتي في حجوركم [ 4 \ 23 ] ; لجريانه على الغالب .
قال في " مراقي السعود " : في ذكر موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
واستدل من قال : إن المراد بالآية قصر الرباعية في السفر بما أخرجه مسلم في " صحيحه " ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة ، عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، فقد أمن الناس ، قال : عجبت ما عجبت منه ، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .
فهذا الحديث الثابت في " صحيح مسلم " ، وغيره يدل على أن يعلى بن أمية ، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - كانا يعتقدان أن معنى الآية قصر الرباعية في السفر ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقر عمر على فهمه لذلك ، وهو دليل قوي ، ولكنه معارض بما تقدم عن عمر من أنه قال : " صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - " ويؤيده حديث عائشة ، وحديث ابن عباس المتقدمان .
وظاهر الآيات المتقدمة الدالة على أن المراد بقوله أن تقصروا من الصلاة قصر الكيفية في صلاة الخوف ، كما قدمنا ، والله تعالى أعلم ، وهيئات صلاة الخوف كثيرة ، فإن العدو تارة يكون إلى جهة القبلة ، وتارة إلى غيرها ، والصلاة قد تكون رباعية ، وقد تكون ثلاثية ، وقد تكون ثنائية ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم القتال ، فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى رجالا ، وركبانا مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها ، وكل هيئات صلاة الخوف الواردة في الصحيح جائزة ، وهيئاتها ، وكيفياتها مفصلة في كتب الحديث والفروع ، وسنذكر ما ذهب إليه الأئمة الأربعة منها إن شاء الله .
أما مالك بن أنس ، فالصورة التي أخذ بها منها هي أن الطائفة الأولى تصلي مع الإمام ركعة في الثنائية ، وركعتين في الرباعية والثلاثية ، ثم تتم باقي الصلاة ، وهو اثنتان في الرباعية ، وواحدة في الثنائية والثلاثية ، ثم يسلمون ويقفون وجاه العدو ، وتأتي [ ص: 255 ] الطائفة الأخرى فيجدون الإمام قائما ينتظرهم ، وهو مخير في قيامه بين القراءة ، والدعاء ، والسكوت إن كانت ثنائية ، وبين الدعاء والسكوت إن كانت رباعية أو ثلاثية ، وقيل : ينتظرهم في الرباعية والثلاثية جالسا فيصلي بهم باقي الصلاة ، وهو ركعة في الثنائية ، والثلاثية ، وركعتان في الرباعية ، ثم يسلم ويقضون ما فاتهم بعد سلامه ، وهو ركعة في الثنائية ، وركعتان في الرباعية والثلاثية . فتحصل أن هذه الصورة ، أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعة أو اثنتين ، ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ، ويقفون في وجه العدو ، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الباقي ، ويسلم ويتمون لأنفسهم .
قال ابن يونس في هذه الصورة التي ذكرنا : وحديث القاسم أشبه بالقرآن ، وإلى الأخذ به رجع مالك . اهـ .
قال مقيده - عفا الله عنه - : مراد ابن يونس ، أن الحديث الذي رواه مالك في " الموطأ " ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة ، بالكيفية التي ذكرنا ، هو الذي رجع إليه مالك ، ورجحه أخيرا على ما رواه ، أعني مالكا ، عن يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف . الحديث ، والفرق بين رواية القاسم بن محمد ، وبين رواية يزيد بن رومان ، أن رواية يزيد بن رومان فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالطائفة الأخرى الركعة التي بقيت من صلاته ، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وقد عرفت أن رواية القاسم عند مالك في " الموطأ " ، أنه يصلي بالطائفة الأخرى الركعة الباقية ثم يسلم فيتمون بعد سلامه لأنفسهم .
قال ابن عبد البر مشيرا إلى الكيفية التي ذكرنا ، وهي رواية القاسم بن محمد ، عند مالك ، وهذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن رومان ، وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات : إن الإمام لا ينتظر المأموم ، وإن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام ، وحديث القاسم هذا الذي أخرجه مالك في ( الموطأ ) موقوف على سهل ، إلا أن له حكم الرفع ; لأنه لا مجال للرأي فيه والتحقيق أنه مرسل صحابي ; لأن سهلا كان صغيرا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجزم الطبري ، وابن حبان ، وابن السكن ، وغيرهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وسهل المذكور ابن ثمان سنين ، وزعم ابن حزم أنه لم يرد عن أحد من السلف القول بالكيفية التي ذكرنا أنها رجع إليها مالك ، ورواها في " موطئه " عن القاسم بن محمد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في كيفية صلاة الخوف . [ ص: 256 ] قال أولا : بأن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ، ثم تتم لأنفسها ، ثم تسلم ، ثم يصلي بقية الصلاة بالطائفة الأخرى وينتظرها حتى تتم ، ثم يسلم بها ورجع إلى أن الإمام يسلم إذا صلى بقية صلاته مع الطائفة الأخرى ، ولا ينتظرهم حتى يسلم بهم بل يتمون لأنفسهم بعد سلامه ، كما بينا .
والظاهر أن المبهم في رواية يزيد بن رومان في قول صالح بن خوات ، عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث ، أنه أبوه خوات بن جبير الصحابي ، رضي الله عنه ، لا سهل بن أبي حثمة ، كما قاله بعضهم .
قال الحافظ في " الفتح " : ولكن الراجح أنه أبوه خوات بن جبير ; لأن أبا أويس ، روى هذا الحديث ، عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه فقال : عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، أخرجه ابن منده في " معرفة الصحابة " من طريقه ، وكذلك أخرجه البيهقي ، من طريق عبيد الله بن عمر ، عن القاسم بن محمد ، عن صالح بن خوات ، عن أبيه ، وجزم النووي في " تهذيبه " بأنه أبوه خوات ، وقال : إنه محقق من رواية مسلم وغيره ، قلت : وسبقه إلى ذلك الغزالي ، فقال إن صلاة ذات الرقاع في رواية خوات بن جبير . اه محل الغرض منه بلفظه .
ولم يفرق المالكية بين كون العدو إلى جهة القبلة وبين كونه إلى غيرها ، وأما إذا اشتد الخوف والتحم القتال ، ولم يمكن لأحد منهم ترك القتال فإنهم يصلونها رجالا وركبانا إيماء مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، كما نص عليه تعالى بقوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا الآية [ 2 \ 239 ] .
وأما الشافعي رحمه الله فإنه اختار من هيئات صلاة الخوف أربعا :
إحداها : هي التي ذكرنا آنفا عند اشتداد الخوف والتحام القتال ، حتى لا يمكن لأحد منهم ترك القتال ، فإنهم يصلون كما ذكرنا رجالا وركبانا إلخ الهيئة .
الثانية : هي التي صلاها - صلى الله عليه وسلم - ببطن نخل ، وهي أن يصلي بالطائفة الأولى صلاتهم كاملة ثم يسلمون جميعهم : الإمام والمأمومون ثم تأتي الطائفة الأخرى التي كانت في وجه العدو فيصلي بهم مرة أخرى هي لهم فريضة وله نافلة ، وصلاة بطن نخل هذه رواها جابر وأبو بكرة ، فأما حديث جابر فرواه مسلم أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإحدى الطائفتين ركعتين ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، فصلى [ ص: 257 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع ركعات وصلى بكل طائفة ركعتين .
وذكره البخاري مختصرا ورواه الشافعي والنسائي وابن خزيمة من طريق الحسن عن جابر وفيه أنه سلم من الركعتين أولا ثم صلى ركعتين بالطائفة الأخرى .
وأما حديث أبي بكرة فرواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم والدارقطني ، وفي رواية بعضهم أنها الظهر ، وفي رواية بعضهم أنها المغرب ، وإعلال ابن القطان لحديث أبي بكرة هذا بأنه أسلم بعد وقوع صلاة الخوف بمدة ، مردود بأنا لو سلمنا أنه لم يحضر صلاة الخوف فحديثه مرسل صحابي ومراسيل الصحابة لهم حكم الوصل كما هو معلوم ، واعلم أن حديث أبي بكرة ليس فيه أن ذلك كان ببطن نخل .
وقد استدل الشافعية بصلاة بطن نخل هذه على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل .
واعلم أن هذه الكيفية التي ذكرنا أنها هي كيفية صلاة بطن نخل كما ذكره النووي وابن حجر وغيرهما ، قد دل بعض الروايات عند مسلم والبخاري وغيرهما ، على أنها هي صلاة ذات الرقاع ، وجزم ابن حجر بأنهما صلاتان ، والله تعالى أعلم .
وقد دل بعض الروايات على أن صلاة نخل هي صلاة عسفان ، والله تعالى أعلم .
الهيئة الثالثة : من الهيئات التي اختارها الشافعي : صلاة عسفان ، وكيفيتها كما قال جابر رضي الله عنه قال : " شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ، فصفنا صفين ، صف خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعدو بيننا وبين القبلة ، فكبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وكبرنا جميعا ثم ركع وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه ، وقام الصف المؤخر في نحر العدو ، فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المتقدم ، ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعنا جميعا ، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا ، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى ، وقام الصف المؤخر في نحور العدو فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود والصف الذي يليه ، انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعا " ، هذا لفظ مسلم في " صحيحه " ، وأخرج النسائي والبيهقي من رواية ابن عباس ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت وهو صحابي . [ ص: 258 ] وقول ابن حجر في " التقريب " في الكنى : إنه تابعي ، الظاهر أنه سهو منه رحمه الله ، وإنما قلنا : إن هذه الكيفية من الكيفيات التي اختارها الشافعي مع أنها مخالفة للصورة التي صحت عنه في صلاة عسفان ; لأنه أوصى على العمل بالحديث إذا صح ، وأنه مذهبه ، والصورة التي صحت عن الشافعي رحمه الله في " مختصر المزني " " والأم " أنه قال : صلى بهم الإمام وركع وسجد بهم جميعا إلا صفا يليه أو بعض صف ينتظرون العدو ، فإذا قاموا بعد السجدتين سجد الصف الذي حرسهم ، فإذا ركع ركع بهم جميعا وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولا إلا صفا أو بعض صف يحرسه منهم ، فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين حرسوا ثم يتشهدون ثم سلم بهم جميعا معا ، وهذا نحو صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعسفان ، قال : ولو تأخر الصف الذي حرس إلى الصف الثاني وتقدم الثاني فحرس فلا بأس . انتهى بواسطة نقل النووي .
والظاهر أن الشافعي رحمه الله يرى أن الصورتين أعني : التي ذكرنا في حديث جابر وابن عباس وأبي عياش الزرقي والتي نقلناها عن الشافعي كلتاهما جائزة واتباع ما ثبت في الصحيح أحق من غيره ، وصلاة عسفان المذكورة صلاة العصر .
وقد جاء في بعض الروايات عند أبي داود وغيره أن مثل صلاة عسفان التي ذكرنا صلاها أيضا - صلى الله عليه وسلم - يوم بني سليم .
الرابعة : من الهيئات التي اختارها الشافعي - رحمه الله - هي : صلاة ذات الرقاع ، والكيفية التي اختارها الشافعي منها هي التي قدمنا رواية مالك لها عن يزيد بن رومان ، وهي أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة ثم يفارقونه ويتمون لأنفسهم ويسلمون ، ويذهبون إلى وجوه العدو وهو قائم في الثانية يطيل القراءة حتى يأتي الآخرون فيصلي بهم الركعة الباقية ويجلس ينتظرهم حتى يصلوا ركعتهم الباقية ، ثم يسلم بهم ، وهذه الكيفية قد قدمنا أن مالكا رواها عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات بن جبير عمن صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف يوم ذات الرقاع ، وأخرجها الشيخان من طريقه ، فقد رواه البخاري عن قتيبة عن مالك ومسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك نحو ما ذكرنا ، وقد قدمنا أن مالكا قال بهذه الكيفية أولا ثم رجع عنها إلى أن الإمام يسلم ولا ينتظر إتمام الطائفة الثانية صلاتهم حتى يسلم بهم . وصلاة ذات الرقاع لها كيفية أخرى غير هذه التي اختار الشافعي وهي ثابتة في " الصحيحين " من حديث ابن عمر قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مواجهة العدو ، [ ص: 259 ] ثم انصرفوا وقاموا في مقام أصحابهم ، مقبلين على العدو ، وجاء أولئك ثم صلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعة ، ثم سلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة .
وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري بمعناه ، ولم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا ، وظاهره أنهم أتموا لأنفسهم في حالة واحدة ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب ، وهو الراجح من حيث المعنى ; لأن إتمامهم في حالة واحدة يستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده ، ويرجحه ما رواه أبو داود من حديث ابن مسعود ولفظه : ثم سلم فقام هؤلاء أي : الطائفة الثانية فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا ثم ذهبوا ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا . وظاهره أن الطائفة الثانية والت بين ركعتيها ثم أتمت الطائفة الأولى بعدها ، واعلم أن ما ذكره الرافعي وغيره من كتب الفقه من أن في حديث ابن عمر هذا أن الطائفة الثانية تأخرت وجاءت الطائفة الأولى فأتموا ركعة ثم تأخروا وعادت الطائفة الثانية فأتموا - مخالف للروايات الثابتة في " الصحيحين " وغيرهما .
وقال ابن حجر في ( الفتح ) : إنه لم يقف عليه في شيء من الطرق ، وأما الإمام أحمد رحمه الله فإن جميع أنواع صلاة الخوف الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - جائزة عنده ، والمختار منها عنده صلاة ذات الرقاع التي قدمنا اختيار الشافعي لها أيضا ، وهي أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ثم يتمون لأنفسهم ويسلمون ويذهبون إلى وجوه العدو ; ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الركعة الأخرى ثم يصلون ركعة فإذا أتموها وتشهدوا سلم بهم .
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فالمختار منها عنده ، أن الإمام يصلي بالطائفة الأولى ركعة إن كان مسافرا ، أو كانت صبحا مثلا ، واثنتين إن كان مقيما ، ثم تذهب هذه الطائفة الأولى إلى وجوه العدو ، ثم تجيء الطائفة الأخرى ويصلي بهم ما بقي من الصلاة ويسلم ، وتذهب هذه الطائفة الأخيرة إلى وجوه العدو ، وتجيء الطائفة الأولى ، وتتم بقية صلاتها بلا قراءة ; لأنهم لاحقون ، ثم يذهبون إلى وجوه العدو ، وتجيء الطائفة الأخرى فيتمون بقية صلاتهم بقراءة ; لأنهم مسبوقون ، واحتجوا لهذه الكيفية بحديث ابن عمر المتقدم وقد قدمنا أن هذه الكيفية ليست في رواية " الصحيحين " وغيرهما لحديث ابن عمر .
وقد قدمنا أيضا من حديث ابن مسعود عند أبي داود أن الطائفة الأخرى لما صلوا [ ص: 260 ] مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الركعة الأخرى أتموا لأنفسهم فوالوا بين الركعتين ، ثم ذهبوا إلى وجوه العدو فجاءت الطائفة الأولى فصلوا ركعتهم الباقية ، هذا هو حاصل المذاهب الأربعة في صلاة الخوف .
وقال النووي في " شرح المهذب " صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على أصح الوجهين ; لأنها أعدل بين الطائفتين ; ولأنها صحيحة بالإجماع وتلك صلاة مفترض خلف متنفل وفيها خلاف للعلماء . والثاني ، وهو قول أبي إسحاق صلاة بطن نخل أفضل لتحصل كل طائفة فضيلة جماعة تامة . واعلم أن الإمام في الحضرية يصلي بكل واحدة من الطائفتين ركعتين ، وفي السفرية ركعة ركعة ، ويصلي في المغرب بالأولى ركعتين عند الأكثر .
وقال بعضهم : يصلي بالأولى في المغرب ركعة ، واعلم أن التحقيق أن غزوة ذات الرقاع بعد خيبر ، وإن جزم جماعة كثيرة من المؤرخين بأن غزوة ذات الرقاع قبل خيبر ، والدليل على ذلك الحديث الصحيح أن قدوم أبي موسى الأشعري على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر مع الحديث الصحيح أن أبا موسى شهد غزوة ذات الرقاع .
قال البخاري في " صحيحه " : حدثني محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا بريد بن عبد الله عن أبي بردة ; عن أبي موسى رضي الله عنه قال : " بلغنا مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن باليمن ، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهم ، أحدهما أبو بردة ، والآخر أبو رهم ، إما قال في بضع ، وإما قال في ثلاثة وخمسين ، أو اثنين وخمسين رجلا من قومي ، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة ، فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا ، فوافقنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح خيبر " الحديث . . . ، وفيه التصريح بأن قدوم أبي موسى حين افتتاح خيبر .
وقد قال البخاري أيضا : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا أبو أسامة عن بريد بن أبي بردة عن أبي بريدة عن أبي موسى رضي الله عنه قال : " خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة ونحن في ستة نفر بيننا بعير نعتقبه فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري ، وكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع " الحديث . فهذان الحديثان الصحيحان فيهما الدلالة الواضحة على تأخر ذات الرقاع عن خيبر ، وقد قال البخاري - رحمه الله : باب غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب خصفة من بني ثعلبة من غطفان فنزل نخلا وهي بعد خيبر ; لأن أبا موسى جاء بعد خيبر الخ . وإنما بينا هذا ليعلم به أنه [ ص: 261 ] لا حجة في عدم صلاة الخوف في غزوة الخندق على أنها مشروعة في الحضر بدعوى أن ذات الرقاع قبل الخندق وأن صلاة الخوف كانت مشروعة قبل غزوة الأحزاب التي هي غزوة الخندق ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ما تركها مع أنهم شغلوه وأصحابه عن صلاة الظهر والعصر إلى الليل إلا لأنها لم تشرع في الحضر ، بل التحقيق أن صلاة الخوف ما شرعت إلا بعد الخندق وأشار أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات الرقاع بقوله : [ الرجز ]
ثم إلى محارب وثعلبه ذات الرقاعناهزوا المضاربه ولم يكن حرب وغورث جرى
بها له الذي لدعثور جرى مع النبي وعلى المعتمد
جرت لواحد بلا تعدد
والناظم هذا يرى أنها قبل خيبر تبعا لابن سيد الناس ومن وافقه ، ومما اختلف فيه العلماء من كيفيات صلاة الخوف صلاة ذي قرد ، وهي أن تصلي كل واحدة مع الإمام ركعة واحدة وتقتصر عليها ، وقد قدمنا ذلك من حديث ابن عباس عند مسلم ، وأبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه . ومن حديث حذيفة عند أبي داود ، والنسائي ، وهذه الكيفية هي التي صلاها حذيفة بن اليمان لما قال سعيد بن العاص بطبرستان : أيكم صلى صلاة الخوف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال حذيفة : أنا ، وصلى بهم مثل ما ذكرنا كما أخرجه النسائي عنه ، وعن زيد بن ثابت ورواه أبو داود عن ثعلبة بن زهدم وهو الذي رواه من طريقه النسائي ، ولفظ أبي داود عن ثعلبة بن زهدم ، قال : كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقام فقال : أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ؟ فقال حذيفة : أنا . فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا .
قال أبو داود : وكذا رواه عبيد الله بن عبد الله ، ومجاهد عن ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعبد الله بن شقيق ، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويزيد الفقير ، وأبو موسى .
قال أبو داود : رجل من التابعين ليس بالأشعري جميعا عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال بعضهم عن شعبة في حديث يزيد الفقير إنهم قضوا ركعة أخرى ، وكذلك رواه سماك الحنفي عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك رواه زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فكانت للقوم ركعة ركعة ، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين . اهـ منه بلفظه .
وقال القرطبي في " تفسيره " ما نصه : قال السدي إذا صليت في السفر ركعتين [ ص: 262 ] فهو تمام ، والقصر لا يحل إلا أن تخاف ، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا ; ويكون للإمام ركعتان ، وروي نحوه عن ابن عمر وجابر بن عبد الله وكعب وفعله حذيفة بطبرستان ، وقد سأله الأمير سعيد بن العاص عن ذلك ، وروي عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة لكل طائفة ولم يقضوا ، وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه كذلك يوم غزوة محارب خصفة وبني ثعلبة ، وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى كذلك بين ضجنان وعسفان ، وبكون كل من الطائفتين تقتصر على ركعة واحدة .
قال أيضا إسحاق : وروي عن الإمام أحمد وجمهور العلماء على أن الاقتصار على ركعة واحدة في الخوف لا يجوز ، وأجابوا عن الأحاديث الواردة بذلك من وجهين :
الأول : أن المراد بقول الصحابة الذين رووا ذلك ولم يقضوا أنهم بعدما أمنوا وزال الخوف ، لم يقضوا تلك الصلاة التي صلوها في حالة الخوف وتكون فيه فائدة أن الخائف إذا أمن لا يقضي ما صلى على تلك الهيئة المخالفة لهيئة صلاة الأمن ولهذا القول له وجه من النظر .
الوجه الثاني : أن قولهم في الحديث ولم يقضوا ، أي في علم من روى ذلك ; لأنه قد روى أنهم قضوا ركعة في تلك الصلاة بعينها ، ورواية من زاد أولى قاله القرطبي وابن عبد البر ، ويدل له ما تقدم من رواية يزيد الفقير عن جابر من طريق شعبة عند أبي داود ، أنهم قضوا ركعة أخرى والمثبت مقدم على النافي ويؤيد هذه الرواية كثرة الروايات الصحيحة بعدم الاقتصار على واحدة في كيفيات صلاة الخوف ، والله تعالى أعلم .
ابو وليد البحيرى
2020-08-26, 04:46 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (34)
سورة النساء (7)
وحاصل ما تقدم بيانه من كيفيات صلاة الخوف خمس ، وهي صلاة المسايفة الثابتة في صريح القرآن ، وصلاة بطن نخل ، وصلاة عسفان ، وصلاة ذات الرقاع ، وصلاة ذي قرد . وقد أشار الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي إلى غزوة ذات قرد بقوله : [ الرجز ]
فغزوة الغابة وهي ذو قرد خرج في إثر لقاحه وجد
وناشها سلمة بن الأكوع
وهو يقول اليوم يوم الرضع وفرض الهادي له سهمين
لسبقه الخيل على الرجلين واستنقذوا من ابن حصن
عشرا وقسم النبي فيهم جزرا
[ ص: 263 ] وقد جزم البخاري في " صحيحه " بأن غزوة ذات قرد قبل خيبر بثلاثة ليال ، وأخرج نحو ذلك مسلم في " صحيحه " عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال : فرجعنا من الغزوة إلى المدينة ، فوالله ما لبثنا بالمدينة إلا ثلاث ليال حتى خرجنا إلى خيبر ، فما في الصحيح أثبت مما يذكره أهل السير مما يخالف ذلك ، كقول ابن سعد : إنها كانت في ربيع الأول سنة ست قبل الحديبية ، وكقول ابن إسحاق : إنها كانت في شعبان من سنة ست بعد غزوة لحيان بأيام .
ومال ابن حجر في " فتح الباري " إلى الجمع بين ما في الحديث الصحيح وبين ما ذكره أهل السير بتكرر الخروج إلى ذي قرد ، وقرد بفتحتين في رواية الحديث ، وأهل اللغة يذكرون أنه بضم ففتح أو بضمتين ، وقد وردت صلاة الخوف على كيفيات أخر غير ما ذكرنا .
قال ابن القصار المالكي : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها في عشرة مواضع .
وقال ابن العربي المالكي : روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى صلاة الخوف أربعا وعشرين مرة .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر والله تعالى أعلم ، إن أفضل الكيفيات الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف ، ما كان أبلغ في الاحتياط للصلاة والتحفظ من العدو .
تنبيهان
الأول : آية صلاة الخوف هذه من أوضح الأدلة على وجوب الجماعة ; لأن الأمر بها في هذا الوقت الحرج دليل واضح على أنها أمر لازم ; إذ لو كانت غير لازمة لما أمر بها في وقت الخوف ; لأنه عذر ظاهر .
الثاني : لا تختص صلاة الخوف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بل مشروعيتها باقية إلى يوم القيامة ، والاستدلال على خصوصها به - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة الآية [ 4 \ 102 ] ، استدلال ساقط ، وقد أجمع الصحابة وجميع المسلمين على رد مثله في قوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية [ 9 \ 103 ] ، واشتراط كونه - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، إنما ورد لبيان الحكم لا لوجوده ، والتقدير : بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول كما قاله ابن العربي وغيره ، وشذ عن الجمهور أبو يوسف والمزني وقال بقولهما الحسن بن زياد [ ص: 264 ] واللؤلؤي وإبراهيم بن علية فقالوا : إن صلاة الخوف لم تشرع بعده - صلى الله عليه وسلم - واحتجوا بمفهوم الشرط في قوله : وإذا كنت فيهم ، ورد عليهم بإجماع الصحابة عليها بعده - صلى الله عليه وسلم - وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وعموم منطوق هذا الحديث مقدم على ذلك المفهوم .
تنبيه
قد قررتم ترجيح أن آية : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 110 ] في صلاة الخوف لا صلاة السفر ، وإذن فمفهوم الشرط في قوله : وإذا ضربتم في الأرض يفهم منه أن صلاة الخوف لا تشرع في الحضر .
فالجواب : أن هذا المفهوم قال به ابن الماجشون ، فمنع صلاة الخوف في الحضر ، واستدل بعضهم أيضا لمنعها فيه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها يوم الخندق ، وفات عليه العصران وقضاهما بعد المغرب ، وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها إلا في سفر ، وجمهور العلماء على أنها تصلى في الحضر أيضا ، وأجابوا بأن الشرط لا مفهوم مخالفة له أيضا لجريه على الغالب كما تقدم ، أو لأنه نزل في حادثة واقعة مبينا حكمها .
كما روي عن مجاهد قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه صلاة تامة بركوعها وسجودها ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم فنزلت ، وهذه الحادثة وقعت وهم مسافرون ضاربون في الأرض ، وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون المنطوق نازلا على حادثة واقعة ، ولذا لم يعتبر مفهوم المخالفة في قوله : إن أردن تحصنا [ 34 \ 33 ] ، ولا في قوله : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [ 3 \ 28 ] ; لأن كلا منهما نزل على حادثة واقعة :
فالأول : نزل في إكراه ابن أبي جواريه على الزنا ، وهن يردن التحصن من ذلك .
والثاني : نزل في قوم من الأنصار والوا اليهود من دون المؤمنين ، فنزل القرآن في كل منهما ناهيا عن الصورة الواقعة من غير إرادة التخصيص بها ، وأشار إليه في " المراقي " بقوله في تعداد موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع
[ ص: 265 ] وأجابوا عن كونه - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها يوم الخندق بأن ذلك كان قبل نزول صلاة الخوف ، كما رواه النسائي وابن حبان والشافعي ، وبه تعلم عدم صحة قول من قال : إن غزوة ذات الرقاع التي صلى فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف كانت قبل الخندق ، وأجابوا عن كونه لم يصلها إلا في السفر بأن السفر بالنسبة إلى صلاة الخوف وصف طردي ، وعلتها هي الخوف لا السفر ، فمتى وجد الخوف وجد حكمها ، كما هو ظاهر .
نكتة
فإن قيل : لم لا تكون كل هيئة من هيئات صلاة الخوف ناسخة للتي قبلها ; لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث ، فالجواب من وجهين :
الأول : هو ما تقدم من أن العدو تارة يكونون إلى جهة القبلة وتارة إلى غير جهتها إلى آخر ما تقدم ، وكل حالة تفعل فيها الهيئة المناسبة لها كما هو ظاهر .
الثاني : هو ما حققه بعض الأصوليين كابن الحاجب والرهوني وغيرهما من أن الأفعال لا تعارض بينها أصلا ، إذ الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيا لا كليا حتى ينافي فعلا آخر ، فليس للفعل الواقع قدر مشترك بينه وبين غيره ، فيجوز أن يقع الفعل واجبا في وقت ، وفي وقت آخر بخلافه ، وإذن فلا مانع من جواز الفعلين المختلفين في الهيئة لعبادة واحدة وعقده في " مراقي السعود " بقوله :
ولم يكن تعارض الأفعال في كل حالة من الأحوال
وما ذكره المحلي من دلالة الفعل على الجواز المستمر دون القول بحث فيه صاحب ( نشر البنود ) في شرح البيت المتقدم آنفا ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن يفتنكم الذين كفروا معناه : ينالونكم بسوء . فروع تتعلق بهذه الآية الكريمة على القول بأنها في قصر الرباعية كما يفهم من حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم وأحمد وأصحاب السنن كما تقدم .
الفرع الأول : أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعية في السفر خلافا لمن شذ وقال : لا قصر إلا في حج أو عمرة ، ومن قال : لا قصر إلا في خوف ، ومن قال : لا قصر إلا في سفر طاعة خاصة ، فإنها أقوال لا معول عليها عند أهل العلم ، واختلف [ ص: 266 ] العلماء في الإتمام في السفر ، هل يجوز أو لا ؟ فذهب بعض العلماء إلى أن القصر في السفر واجب .
وممن قال بهذا القول : أبو حنيفة رحمه الله وهو قول علي ، وعمر ، وابن عمر ، ويروى عن ابن عباس وجابر ، وبه قال الثوري وعزاه الخطابي في المعالم لأكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار ، ونسبه إلى علي وعمر وابن عمر وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وقتادة والحسن قال : وقال حماد بن أبي سليمان : يعيد من صلى في السفر أربعا . اهـ . منه بواسطة نقل الشوكاني رحمه الله وحجة هذا القول الذي هو وجوب القصر ما قدمنا من الأحاديث عن عائشة ، وابن عباس ، وعمر رضي الله عنهم بأن الصلاة فرضت ركعتين ، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر ، ودليل هؤلاء واضح ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى جواز الإتمام والقصر ، كما يجوز الصوم والإفطار ، إلا أنهم اختلفوا هل القصر أو الإتمام أفضل ؟ وبهذا قال عثمان بن عفان ، وسعد بن أبي وقاص ، وعائشة رضي الله عنهم .
قال النووي في " شرح المهذب " وحكاه العبدري عن هؤلاء يعني من ذكرنا وعن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس والحسن البصري ومالك وأحمد وأبي ثور وداود ، وهو مذهب أكثر العلماء ، ورواه البيهقي عن سلمان الفارسي في اثني عشر من الصحابة . وعن أنس والمسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود وابن المسيب وأبي قلابة ، واحتج أهل هذا القول بأمور :
الأول : قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية [ 4 \ 101 ] ; لأن التعبير برفع الجناح دليل لعدم اللزوم .
الأمر الثاني : هو ما قدمنا في حديث يعلى بن أمية عن عمر بن الخطاب من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في القصر في السفر : " صدقة تصدق الله بها عليكم " . الحديث ، فكونه صدقة وتخفيفا يدل على عدم اللزوم .
الأمر الثالث : هو ما رواه النسائي والبيهقي والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأفطر هو - صلى الله عليه وسلم - وقصر الصلاة وصامت هي وأتمت الصلاة ، فأخبرته بذلك ، فقال لها : " أحسنت " .
قال النووي في " شرح المهذب " : هذا الحديث رواه النسائي والدارقطني والبيهقي [ ص: 267 ] بإسناد حسن أو صحيح ، قال : وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : قال الدارقطني إسناده حسن ، وقال في " معرفة السنن والآثار " : هو إسناد صحيح .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن ما جاء في هذا الحديث من أن عمرة عائشة المذكورة في رمضان لا يصح ; لأن المحفوظ الثابت بالروايات الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رمضان قط ; لأنه لم يعتمر إلا أربع عمر :
الأولى : عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت الحرام ، عام ست .
الثانية : عمرة القضاء التي وقع عليها عقد الصلح في الحديبية ، وهي عام سبع .
الثالثة : عمرة الجعرانة بعد فتح مكة ، عام ثمان وكل هذه العمر الثلاث في شهر ذي القعدة بالإجماع وبالروايات الصحيحة .
الرابعة : عمرته مع حجه في حجة الوداع ، ورواية النسائي ليس فيها أن العمرة المذكورة في رمضان ولفظه : أخبرني أحمد بن يحيى الصوفي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا العلاء بن زهير الأزدي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة : " أنها اعتمرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وأفطرت وصمت . قال : " أحسنت يا عائشة " ، وما عاب علي " . اهـ .
الأمر الرابع : ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في السفر ويتم ، ويفطر ويصوم .
قال النووي في " شرح المهذب " : رواه الدارقطني ، والبيهقي وغيرهما .
قال البيهقي : قال الدارقطني إسناده صحيح وضبطه ابن حجر في " التلخيص " بلفظ يقصر بالياء ، وفاعله ضمير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتتم بتائين وفاعله ضمير يعود إلى عائشة فيكون بمعنى الحديث الأول ، ولكن جاء في بعض روايات الحديث التصريح بإسناد الإتمام المذكور للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
قال البيهقي : أخبرنا أبو بكر بن الحارث الفقيه ، أنبأنا علي بن عمر الحافظ ، حدثنا المحاملي ، حدثنا سعيد بن محمد بن ثواب ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا عمر بن سعيد وعن [ ص: 268 ] عطاء بن أبي رباح ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقصر في الصلاة ويتم ويفطر ويصوم . قال علي : هذا إسناد صحيح . اهـ .
قال البيهقي : وله شاهد من حديث دلهم بن صالح ، والمغيرة بن زياد ، وطلحة بن عمرو وكلهم ضعيف .
الخامس : إجماع العلماء على أن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام ، ولو كان القصر واجبا حتما لما جاز صلاة أربع خلف الإمام .
وأجاب أهل هذا القول عن حديث عمر وعائشة وابن عباس بأن المراد بكون صلاة السفر ركعتين أي : لمن أراد ذلك ، وعن قول عمر في الحديث : تمام غير قصر بأن معناه أنها تامة في الأجر قاله النووي ، ولا يخلو من تعسف وأجاب أهل القول الأول عن حجج هؤلاء قالوا : إن قوله تعالى : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] في صلاة الخوف كما قدمنا ، فلا دليل فيه لقصر الرباعية ، قالوا : ولو سلمنا أنه في قصر الرباعية فالتعبير بلفظ ولا جناح عليكم [ 4 \ 102 ] ، لا ينافي الوجوب كما اعترفتم بنظيره في قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] لأن السعي فرض عند الجمهور . وعن قوله في الحديث : " صدقة تصدق الله بها عليكم " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقبولها في قوله : " فاقبلوا صدقته " ، والأمر يقتضي الوجوب فليس لنا عدم قبولها مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فاقبلوها " ، وأجابوا عن الثالث والرابع بأن حديثي عائشة المذكورين لا يصح واحد منها واستدلوا على عدم صحة ذلك بما ثبت في الصحيح عن عروة أنها تأولت في إتمامها ما تأول عثمان ، فلو كان عندها في ذلك رواية من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل عنها عروة أنها تأولت .
وقال ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : وسمعت ابن تيمية يقول : هذا الحديث كذب على عائشة ، ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسائر الصحابة ، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب ، كيف وهي القائلة : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر ، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
وقال الزهري لهشام بن عروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ، فما شأنها كانت تتم [ ص: 269 ] الصلاة فقال : تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حسن فعلها وأقرها عليه ، فما للتأويل حينئذ وجه ، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير ، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر ، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون . وأما بعد موته - صلى الله عليه وسلم - فإنها أتمت كما أتم عثمان ، وكلاهما تأول تأويلا . والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له ، والله أعلم . اهـ . محل الغرض منه بلفظه .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أما استبعاد مخالفة عائشة رضي الله عنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته مع الاعتراف بمخالفتها له - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ، فإنه يوهم أن مخالفته بعد وفاته سائغة ، ولا شك أن المنع من مخالفته في حياته باق بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - فلا يحل لأحد البتة مخالفة ما جاء به من الهدى إلى يوم القيامة : فعلا كان أو قولا أو تقريرا ، ولا يظهر كل الظهور أن عائشة تخالف هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - باجتهاد ورواية من روى أنها تأولت تقتضي نفي روايتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا في ذلك ، والحديث المذكور فيه إثبات أنها روت عنه ذلك ، والمثبت مقدم على النافي ، فبهذا يعتضد الحديث الذي صححه بعضهم وحسنه بعضهم كما تقدم .
والتحقيق أن سند النسائي المتقدم الذي روى به هذا الحديث صحيح ، وإعلال ابن حبان له بأن فيه العلاء بن زهير الأزدي ، وقال فيه : إنه يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به ، مردود بأن العلاء المذكور ثقة كما قاله ابن حجر في " التقريب " وغيره وإعلال بعضهم له بأن عبد الرحمن بن الأسود لم يدرك عائشة مردود بأنه أدركها .
قال الدارقطني وعبد الرحمن أدرك عائشة فدخل عليها وهو مراهق وذكر الطحاوي عن عبد الرحمن أنه دخل على عائشة بالاستئذان بعد احتلامه ، وذكر صاحب " الكمال " أنه سمع منها ، وذكر البخاري في " تاريخه " وابن أبي شيبة ما يشهد لذلك ، قاله ابن حجر وإعلال الحديث المذكور بأنه مضطرب ; لأن بعض الرواة يقول عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عائشة ، وبعضهم يقول عن عبد الرحمن عن عائشة مردود أيضا ، بأن رواية من قال عن أبيه خطأ والصواب عن عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة .
ابو وليد البحيرى
2020-08-26, 04:48 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (35)
سورة النساء (8)
قال البيهقي بعد أن ساق أسانيد الروايتين : قال أبو بكر النيسابوري : هكذا قال [ ص: 270 ] أبو نعيم عن عبد الرحمن عن عائشة ، ومن قال عن أبيه في هذا الحديث فقد أخطأ . اهـ .
فالظاهر ثبوت هذا الحديث وهو يقوي حجة من لم يمنع إتمام الرباعية في السفر وهم أكثر العلماء ، وذهب الإمام مالك بن أنس إلى أن قصر الرباعية في السفر سنة ، وأن من أتم أعاد في الوقت ; لأن الثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يواظب على القصر في أسفاره وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان في غير أيام منى ولم يمنع مالك الإتمام ; للأدلة التي ذكرنا والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : اختلف العلماء في تحديد المسافة التي تقصر فيها الصلاة . فقال مالك والشافعي وأحمد : هي أربعة برد ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، وتقريبه بالزمان مسيرة يومين سيرا معتدلا ، وعندهم اختلاف في قدر الميل معروف واستدل من قال بهذا القول بما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه ركب إلى ريم فقصر الصلاة في مسيره ذلك .
قال مالك : وذلك نحو من أربعة برد ، وريم موضع . قال بعض شعراء المدينة : [ الوافر ]
فكم من حرة بين المنقى إلى أحد إلى جنبات ريم
وبما رواه مالك عن نافع عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر ركب إلى ذات النصب فقصر الصلاة في مسيره ذلك .
قال مالك : وبين ذات النصب والمدينة أربعة برد ، وبما قال مالك : إنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقصر الصلاة في مثل ما بين مكة والطائف ، وفي مثل ما بين مكة وعسفان ، وفي مثل ما بين مكة وجدة .
قال مالك : وذلك أربعة برد وذلك أحب ما تقصر فيه الصلاة إلي ، وبما رواه مالك عن نافع أنه كان يسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر الصلاة . كل هذه الآثار المذكورة في " الموطأ " ، وممن قال بهذا ابن عمر وابن عباس كما ذكرناه عنهما .
وقال البخاري رحمه الله في " صحيحه " : وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة برد ، وهي ستة عشر فرسخا . اهـ . وبه قال الحسن البصري والزهري والليث بن سعد وإسحاق وأبو ثور ، نقله عنهم النووي ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مسافة ثلاثة أيام ، وممن قال به أبو [ ص: 271 ] حنيفة ، وهو قول عبد الله بن مسعود ، وسويد بن غفلة ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن بن صالح ، والثوري ، وعن أبي حنيفة أيضا يومان وأكثر الثالث ، واحتج أهل هذا القول بحديث ابن عمر وحديث أبي سعيد الثابتين في الصحيح : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم " ، وبحديث : " مسح المسافر على الخف ثلاثة أيام ولياليهن " ، ووجه الاحتجاج بهذا الحديث الأخير أنه يقتضي أن كل مسافر يشرع له مسح ثلاثة أيام ولا يصح العموم في ذلك إلا إذا قدر أقل مدة السفر بثلاثة أيام ; لأنها لو قدرت بأقل من ذلك لا يمكنه استيفاء مدته ; لانتهاء سفره فاقتضى ذلك تقديره بالثلاثة وإلا لخرج بعض المسافرين عنه . اهـ .
والاستدلال بالحديثين غير ظاهر فيما يظهر لي ; لأن المراد بالحديث الأول : أن المرأة لا يحل لها سفر مسافة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ، وهذا لا يدل على تحديد أقل ما يسمى سفرا ، ويدل له أنه ورد في بعض الروايات الصحيحة لا تسافر المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم .
وفي بعض الروايات الصحيحة : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة " وفي رواية لمسلم " مسيرة يوم " ، وفي رواية له " ليلة " ، وفي رواية أبي داود لا " تسافر بريدا " ، ورواه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .
وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : وهذه الرواية في الثلاثة واليومين واليوم صحيحة ، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : سئل عن المرأة تسافر ثلاثا من غير محرم ، فقال : " لا " ، وسئل عنها تسافر يومين من غير محرم ، فقال : " لا " ، ويوما فقال : " لا " فأدى كل واحد منهم ما حفظ ولا يكون عدد من هذه الأعداد حدا للسفر . اهـ منه بلفظه .
فظهر من هذا أن الاستدلال على أقل السفر بالحديث غير متجه كما ترى لا سيما أن ابن عمر راويه قد خالفه كما تقدم ، والقاعدة عند الحنفية أن العبرة بما رأى الصحابي لا بما روى .
وأما الاستدلال بحديث توقيت مسح المسافر بثلاثة أيام بلياليهن فهو أيضا غير متجه ، لأنه إذا انتهى سفره قبلها صار مقيما وزال عنه اسم السفر وليس في الحديث أنه لا بد من أن يسافر ثلاثة بل غاية ما يفيده الحديث أن المسافر له في المسح على الخف [ ص: 272 ] مدة ثلاثة أيام ، فإن مكثها مسافرا فذلك ، وإن أتم سفره قبلها صار غير مسافر ولا إشكال في ذلك ، وذهب جماعة من أهل العلم : إلى أن القصر يجوز في مسيرة يوم تام ، وممن قال به الأوزاعي وابن المنذر واحتجوا بما تقدم في بعض الروايات الصحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطلق اسم السفر على مسافة يوم والسفر هو مناط القصر ، وبما رواه مالك في " الموطأ " عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام ، وظاهر صنيع البخاري أنه يختار أنها يوم وليلة ; لأنه قال : " باب في كم يقصر الصلاة وسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما وليلة سفرا " ; لأن قوله : وسمى النبي الخ . . . بعد قوله : " في كم يقصر الصلاة " ، يدل على أن ذلك هو مناط القصر عنده كما هو ظاهر .
وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله ، وممن قال بهذا داود الظاهري ، قال عنه بعض أهل العلم : حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر ، واحتج أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة ، وبما رواه مسلم في " صحيحه " عن يحيى بن يزيد الهنائي قال : سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين " ، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضا في " الصحيح " عن جبير بن نفير قال : " خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلا فصلى ركعتين فقلت له . فقال : رأيت عمر صلى بذي الحليفة ركعتين فقلت له ، فقال : إنما أفعل كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل " ، وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين ; لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر ، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرا طويلا فتباعد ثلاثة أميال قصر ; لأن الظاهر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة ، وكذلك حديث شرحبيل المذكور . فقوله إن عمر رضي الله عنه صلى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره ، قاله النووي وغيره ، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القصر صريحا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي .
قال مقيده - عفا الله عنه - قال ابن حجر في " تلخيص الحبير " : وروى سعيد بن [ ص: 273 ] منصور عن أبي سعيد قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة وسكت عليه " ، فإن كان صحيحا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين .
قال مقيده - عفا الله عنه - : هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر ، والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح ، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولا ، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد " ضعيف ; لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك ، وكذبه الثوري .
وقال الأزدي : لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش ، وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي ، والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح ، ورواه عنه مالك في " الموطأ " بلاغا ، وقد قدمناه .
والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط ، فكل ما كان يطلق عليه اسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه ; لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرا ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يذهب إلى قباء وإلى أحد ولم يقصر الصلاة ، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا ؟ فإن كان صحيحا كان نصا قويا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة ، وقصر أهل مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة ، وبعضهم يقول : القصر في مزدلفة ، ومنى ، وعرفات ، من مناسك الحج ، والله تعالى أعلم .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة ، هو قول من قال : إن كل ما يسمى سفرا ولو قصيرا تقصر فيه الصلاة ; لإطلاق السفر في النصوص ، ولحديثي مسلم المتقدمين ، وحديث سعيد بن منصور ، وروى ابن أبي شيبة ، عن وكيع ، عن مسعر ، عن محارب ، سمعت ابن عمر يقول : " إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر " .
وقال الثوري : سمعت جبلة بن سحيم ، سمعت ابن عمر يقول : " لو خرجت [ ص: 274 ] ميلا قصرت الصلاة " .
قال ابن حجر في " الفتح " : إسناد كل منهما صحيح . اهـ والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : يبتدئ المسافر القصر ، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله ، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر ، ولا في وسط البلد ، وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة ، وأكثر فقهاء الأمصار ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قصر بذي الحليفة ، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد ، فلا يقصر حتى يجاوزها ، واستدل الجمهور ; على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد ، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض ، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله ، وذكر ابن المنذر ، عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد ، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال : وروينا معناه عن عطاء ، وسليمان بن موسى قال : وقال مجاهد : لا يقصر المسافر نهارا حتى يدخل الليل ، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار ، وعن عطاء ، أنه قال : إذا جاوز حيطان داره فله القصر .
قال النووي : فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة ، حين خرج من المدينة ، ومذهب عطاء ، وموافقيه منابذ للسفر . اهـ . منه ، وهو ظاهر كما ترى .
الفرع الرابع : اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام ، فذهب مالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأحمد في إحدى الروايتين إلى أنها أربعة أيام ، والشافعية يقولون : لا يحسب فيها يوم الدخول ، ولا يوم الخروج ، ومالك يقول : إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم .
وقال ابن القاسم : في العتيبة يلغى يوم دخوله ولا يحسبه ، والرواية المشهورة عن أحمد ، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة .
وقال أبو حنيفة رحمه الله : هي نصف شهر ، واحتج من قال بأنها أربعة أيام ، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر " ، هذا لفظ مسلم ، وفي رواية له عنه : " للمهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة " ، وفي رواية له عنه : " يقيم [ ص: 275 ] المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا " ، وأخرجه البخاري في المناقب ، عن العلاء بن الحضرمي أيضا بلفظ : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ثلاث للمهاجر بعد الصدر " اهـ . قالوا فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين في ثلاثة أيام يدل على أن من أقامها في حكم المسافر ، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام ، وبما أخرجه مالك في " الموطأ " بسند صحيح ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز ، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا " ، وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف ، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رخص لهم في الثلاث ; لأنها مظنة قضاء حوائجهم ، وتهيئة أحوالهم للسفر ، وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة أيام ، والاستدلال المذكور له وجه من النظر ; لأنه يعتضد بالقياس ; لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر ، ومن أقام أربعة أيام ، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه ، واحتج الإمام أحمد ، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر ، وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " قدم مكة في حجة الوداع صبح رابعة ، فأقام النبي - صلى الله عليه وسلم - اليوم الرابع ، والخامس ، والسادس ، والسابع ، وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن ، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام ، وقد أجمع على إقامتها ، وهي إحدى وعشرون صلاة ; لأنها أربعة أيام كاملة ، وصلاة الصبح من الثامن " ، قال : فإذا أجمع أن يقيم ، كما أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر ، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم .
وروى الأثرم ، عن أحمد رحمه الله أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس ، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام بمكة في حجة الوداع عشرا يقصر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه ، وأن أنسا أراد مدة إقامته بمكة ومنى ومزدلفة .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه ، ووضوح أنه الحق .
ابو وليد البحيرى
2020-09-03, 03:07 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (36)
سورة النساء (9)
تنبيه
حديث أنس هذا الثابت في الصحيح ، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضا ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة عشر يقصر " ، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا ، وإن زدنا أتممنا ; لأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في غزوة الفتح ، وحديث أنس ، في حجة الوداع ، وحديث ابن عباس ، محمول على [ ص: 276 ] أنه - صلى الله عليه وسلم - ، ما كان ناويا الإقامة ; والإقامة المجردة عن نية لا تقطع حكم السفر عند الجمهور ، والله تعالى أعلم .
واحتج أبو حنيفة رحمه الله لأنها نصف شهر ، بما روى أبو داود من طريق ابن إسحاق ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة عام الفتح خمسة عشر ، يقصر الصلاة " وضعف النووي في الخلاصة ، رواية خمسة عشر .
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " : وليس بجيد ; لأن رواتها ثقات ، ولم ينفرد ابن إسحاق ، فقد أخرجها النسائي ، من رواية عراك بن مالك ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس كذلك ، واختار أبو حنيفة رواية خمسة عشر ، عن رواية سبعة عشر ، ورواية ثمانية عشر ، ورواية تسعة عشر ; لأنها أقل ما ورد فيحمل غيرها على أنه وقع اتفاقا ، وأرجح الروايات ، وأكثرها ورودا في الروايات الصحيحة رواية تسعة عشر وبها أخذ إسحاق بن راهويه ، وجمع البيهقي بين الروايات ، بأن من قال : تسعة عشر ، عد يوم الدخول ، ويوم الخروج ، ومن قال : سبع عشرة حذفهما ، ومن قال : ثماني عشرة حذف أحدهما .
أما رواية خمسة عشر ، فالظاهر فيها أن الراوي ظن ، أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها ، يوم الدخول ، ويوم الخروج ، فصار الباقي خمسة عشر ، واعلم أن الإقامة المجردة عن النية فيها أقوال للعلماء :
أحدها : أنه يتم بعد أربعة أيام .
والثاني : بعد سبعة عشر يوما .
والثالث : ثمانية عشر .
والرابع : تسعة عشر .
والخامس : عشرين يوما .
والسادس : يقصر أبدا حتى يجمع على الإقامة .
والسابع : للمحارب أن يقصر ، وليس لغيره القصر بعد إقامة أربعة أيام .
وأظهر هذه الأقوال أنه لا يقصر حتى ينوي الإقامة ولو طال مقامه من غير نية الإقامة ، ويدل له قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة إقامته في مكة عام الفتح ، كما ثبت في الصحيح ، وما رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي عن جابر قال : " أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة " . وقد صحح هذا الحديث النووي وابن حزم ، وأعله [ ص: 277 ] الدارقطني في العلل بالإرسال والانقطاع ، وأن علي بن المبارك وغيره من الحفاظ رووه عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا ، وأن الأوزاعي رواه عن يحيى عن أنس فقال : " بضع عشرة " وبهذا اللفظ أخرجه البيهقي وهو ضعيف .
قال البيهقي بعد إخراجه له : ولا أراه محفوظا ، وقد روي من وجه آخر عن جابر : " بضع عشرة " . اهـ . وقد اختلف فيه على الأوزاعي ذكره الدارقطني في العلل وقال : الصحيح عن الأوزاعي عن يحيى أن أنسا كان يفعله . قال ابن حجر : ويحيى لم يسمع من أنس .
وقال النووي في " شرح المهذب " : قلت ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام مجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، فالحديث صحيح ; لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند . اهـ . منه وعقده صاحب " المراقي " بقوله : [ الرجز ]
والرفع والوصول وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ
الخ . . .
واستدل أيضا من قال بأن الإقامة المجردة عن النية لا تقطع حكم السفر بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : " غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول : " يا أهل البلدة صلوا أربعا فإنا سفر " ، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث " فإنا سفر " مع إقامته ثماني عشرة يدل دلالة واضحة على أن المقيم من غير نية الإقامة يصدق عليه اسم المسافر ، ويؤيده حديث : " إنما الأعمال بالنيات " ، وهذا الحديث حسنه الترمذي ، وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف .
قال ابن حجر : وإنما حسن الترمذي حديثه لشواهده ولم يعتبر الاختلاف في المدة كما علم من عادة المحدثين من اعتبارهم الاتفاق على الأسانيد دون السياق . اهـ . وعلي بن زيد المذكور أخرج له مسلم مقرونا بغيره .
وقال الترمذي في حديثه في السفر : حسن صحيح ، وقال : صدوق ربما رفع الموقوف ووثقه يعقوب بن شيبة .
وقال بعض أهل العلم : اختلط في كبره ، وقد روى عنه شعبة ، والثوري ، [ ص: 278 ] وعبد الوارث ، وخلق .
وقال الدارقطني : إنما فيه لين ، والظاهر أن قول الدارقطني هذا أقرب للصواب فيه ، لكن يتقى منه ما كان بعد الاختلاط . اهـ . إلى غير ذلك من الأدلة على أن الإقامة دون نيتها لا تقطع حكم السفر ، " وقد أقام الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة " . رواه البيهقي بإسناد صحيح ، وتضعيفه بعكرمة بن عمار مردود بأن عكرمة المذكور من رجال مسلم في " صحيحه " .
وقد روى أحمد في " مسنده " عن ثمامة بن شراحيل عن ابن عمر أنه قال : " كنت بأذربيجان لا أدري قال : أربعة أشهر أو شهرين فرأيتهم يصلون ركعتين ركعتين " ، وأخرجه البيهقي .
وقال ابن حجر في " التلخيص " : إن إسناده صحيح . اهـ .
ومذهب مالك الفرق بين العسكر بدار الحرب فلا يقصر وبين غيره فيقصر بنية إقامة أربعة أيام صحاح .
الفرع الخامس : إذا تزوج المسافر ببلد أو مر على بلد فيه زوجته أتم الصلاة ; لأن الزوجة في حكم الوطن ، وهذا هو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأصحابهما ، وأحمد ، وبه قال ابن عباس : وروي عن عثمان بن عفان ، واحتج من قال بهذا القول بما رواه الإمام أحمد وعبد الله بن الزبير الحميدي في " مسنديهما " عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه صلى بأهل منى أربعا وقال : يا أيها الناس ، لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا تأهل الرجل ببلد فإنه يصلي بها صلاة المقيم " .
قال ابن القيم في " زاد المعاد " ، بعد أن ساق هذا الحديث : وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان ، يعني : في مخالفته النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر في قصر الصلاة في منى ، وأعل البيهقي حديث عثمان هذا بانقطاعه وأن في إسناده عكرمة بن إبراهيم ، وهو ضعيف .
قال ابن القيم : قال أبو البركات بن تيمية : ويمكن المطالبة بسبب الضعف ، فإن البخاري ذكره في " تاريخه " ولم يطعن فيه ، وعادته ذكر الجرح والمجروحين ، وقد نص أحمد وابن عباس قبله أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام ، وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك وأصحابهما . اهـ . منه بلفظه .
[ ص: 279 ] قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم ، أن أحسن ما يعتذر به عن عثمان ، وعائشة في الإتمام في السفر أنهما فهما من بعض النصوص أن القصر في السفر رخصة ، كما ثبت في " صحيح مسلم " " أنه صدقة تصدق الله بها " . اهـ . وأنه لا بأس بالإتمام لمن لا يشق عليه ذلك كالصوم في السفر ويدل لذلك ما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : " أنها كانت تصلي أربعا قال : فقلت لها : لو صليت ركعتين ، فقالت : يا ابن أختي إنه لا يشق علي " ، وهذا أصرح شيء عنها في تعيين ما تأولت به ، والله أعلم
الفرع السادس : لا يجوز للمسافر في معصية القصر ; لأن الترخيص له والتخفيف عليه إعانة له على معصيته ، ويستدل لهذا بقوله تعالى : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم الآية [ 5 \ 3 ] ، فشرط في الترخيص بالاضطرار إلى أكل الميتة كونه غير متجانف لإثم ، ويفهم من مفهوم مخالفته أن المتجانف لإثم لا رخصة له والعاصي بسفره متجانف لإثم ، والضرورة أشد في اضطرار المخمصة منها في التخفيف بقصر الصلاة ومنع ما كانت الضرورة إليه ألجأ بالتجانف للإثم يدل على منعه به فيما دونه من باب أولى ، وهذا النوع من مفهوم المخالفة من دلالة اللفظ عند الجمهور لا من القياس خلافا للشافعي وقوم كما بيناه مرارا في هذا الكتاب وهو المعروف بإلغاء الفارق وتنقيح المناط ، ويسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وخالف في هذه المسألة أبو حنيفة رحمه الله فقال : يقصر العاصي بسفره كغيره لإطلاق النصوص ; ولأن السفر الذي هو مناط القصر ليس معصية بعينه ، وبه قال الثوري والأوزاعي ، والقول الأول أظهر عندي ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ذكر في هذه الآية الكريمة أن الصلاة كانت ولم تزل على المؤمنين كتابا ، أي : شيئا مكتوبا عليهم واجبا حتما موقوتا ، أي : له أوقات يجب بدخولها ولم يشر هنا إلى تلك الأوقات ، ولكنه أشار لها في مواضع أخر كقوله : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا [ 17 \ 78 ] ، فأشار بقوله : لدلوك الشمس وهو زوالها عن كبد السماء على التحقيق إلى صلاة الظهر والعصر ; وأشار بقوله : إلى غسق الليل وهو ظلامه إلى صلاة المغرب والعشاء ; وأشار بقوله : [ ص: 280 ] وقرآن الفجر إلى صلاة الصبح ، وعبر عنها بالقرآن بمعنى القراءة ; لأنها ركن فيها من التعبير عن الشيء باسم بعضه .
وهذا البيان أوضحته السنة إيضاحا كليا ، ومن الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلاة كما قاله جماعة من العلماء ، قوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون [ 30 \ 17 ، 18 ] ، قالوا : المراد بالتسبيح في هذه الآية الصلاة ، وأشار بقوله : حين تمسون إلى صلاة المغرب والعشاء ، وبقوله : وحين تصبحون إلى صلاة الصبح ، وبقوله : وعشيا إلى صلاة العصر ، وبقوله : وحين تظهرون إلى صلاة الظهر . وقوله تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل [ 11 \ 114 ] ، وأقرب الأقوال في الآية أنه أشار بطرفي النهار إلى صلاة الصبح أوله وصلاة الظهر والعصر آخره أي : في النصف الأخير منه وأشار بزلف من الليل إلى صلاة المغرب والعشاء .
وقال ابن كثير : يحتمل أن الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ، وكان الواجب قبلها صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس ، وصلاة قبل غروبها ، وقيام الليل ، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس ، وعلى هذا فالمراد بطرفي النهار بالصلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ، والمراد بزلف من الليل قيام الليل .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن هذا الاحتمال الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - بعيد ; لأن الآية نزلت في أبي اليسر في المدينة بعد فرض الصلوات بزمن فهي على التحقيق مشيرة لأوقات الصلاة ، وهي آية مدنية في سورة مكية وهذه تفاصيل أوقات الصلاة بأدلتها المبينة لها من السنة ، ولا يخفى أن لكل وقت منها أولا وآخرا ، أما أول وقت الظهر فهو زوال الشمس عن كبد السماء بالكتاب والسنة والإجماع ، أما الكتاب فقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس ، فاللام للتوقيت ودلوك الشمس زوالها عن كبد السماء على التحقيق .
وأما السنة فمنها حديث أبي برزة الأسلمي عند الشيخين : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس . . . الحديث ، ومعنى تدحض : تزول عن كبد السماء .
ابو وليد البحيرى
2020-09-03, 03:08 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (37)
سورة النساء (10)
وفي رواية لمسلم : حين تزول ، وفي " الصحيحين " عن جابر رضي الله عنه : كان [ ص: 281 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة ، وفي " الصحيحين " من حديث أنس رضي الله عنه أنه خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر ، وفي حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أمني جبريل عند باب البيت مرتين فصلى بي الظهر حين زالت الشمس " الحديث ، أخرجه الإمامان الشافعي وأحمد ، وأبو داود وابن خزيمة والدارقطني والحاكم في " المستدرك " ، وقال : حديث صحيح .
وقال الترمذي : حديث حسن ، فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة ، وعبد الرحمن بن أبي الزناد ، وحكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف وكلهم مختلف فيهم ، فالجواب : أنهم توبعوا فيه فقد أخرجه عبد الرزاق عن العمري عن عمر بن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن ابن عباس نحوه .
قال ابن دقيق العيد : هي متابعة حسنة ، وصححه ابن العربي ، وابن عبد البر ، مع أن بعض رواياته ليس في إسنادها عبد الرحمن بن أبي الزناد بل سفيان ، عن عبد الرحمن بن الحارث المذكور ، عن حكيم بن حكيم المذكور ، فتسلم هذه الرواية من التضعيف بعبد الرحمن بن أبي الزناد ، ومن هذه الطريق أخرجه ابن عبد البر ، وقال : إن الكلام في إسناده لا وجه له ، وكذلك أخرجه من هذا الوجه أبو داود ، وابن خزيمة ، والبيهقي ، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " جاءه جبريل ، عليه السلام ، فقال له : " قم فصله " ، فصلى الظهر حين زالت الشمس " الحديث ، أخرجه الإمام أحمد ، والنسائي ، والترمذي ، وابن حبان ، والحاكم .
وقال الترمذي : قال محمد : يعني البخاري ، حديث جابر ، أصح شيء في المواقيت .
قال عبد الحق : يعني في إمامة جبريل ، وهو ظاهر ، وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " سأله رجل عن وقت الصلاة ، فقال : " صل معنا هذين اليومين " ، فلما زالت الشمس أمر بلالا رضي الله عنه فأذن ثم أمره فأقام الظهر " . الحديث أخرجه مسلم في " صحيحه " ، وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة ، إلى أن قال : ثم أمره ، فأقام بالظهر حين زالت الشمس ، والقائل يقول : قد انتصف النهار ، وهو كان أعلم منهم " الحديث ، رواه مسلم أيضا ، والأحاديث في الباب كثيرة جدا .
وأما الإجماع ، فقد أجمع جميع المسلمين على أن أول وقت صلاة الظهر هو زوال [ ص: 282 ] الشمس عن كبد السماء ، كما هو ضروري من دين الإسلام .
وأما آخر وقت صلاة الظهر ، فالظاهر من أدلة السنة فيه ، أنه عندما يصير ظل كل شيء مثله من غير اعتبار ظل الزوال ، فإن في الأحاديث المشار إليها آنفا ، أنه في اليوم الأول صلى العصر عندما صار ظل كل شيء مثله في إمامة جبريل ، وذلك عند انتهاء وقت الظهر ، وأصرح شيء في ذلك ما أخرجه مسلم في " صحيحه " عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وقت صلاة الظهر ما لم يحضر العصر " ، وهذا الحديث الصحيح يدل على أنه إذا جاء وقت العصر ، فقد ذهب وقت الظهر ، والرواية المشهورة عن مالك رحمه الله تعالى أن هذا الذي ذكرنا تحديده بالأدلة ، هو وقت الظهر الاختياري ، وأن وقتها الضروري يمتد بالاشتراك مع العصر إلى غروب الشمس .
وروي نحوه عن عطاء ، وطاوس ، والظاهر أن حجة أهل هذا القول الأدلة الدالة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت ، فمن حديث ابن عباس المشار إليه سابقا " فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في الأول " ، وعن ابن عباس أيضا قال : " جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة من غير خوف ، ولا سفر " متفق عليه ، وفي رواية لمسلم : " من غير خوف ، ولا مطر " فاستدلوا بهذا على الاشتراك ، وقالوا أيضا : الصلوات زيد فيها على بيان جبريل في اليوم الثاني ، فينبغي أن يزاد في وقت الظهر .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر سقوط هذا الاستدلال ، أما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس " فصلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول " فيجاب عنه بما أجاب به الشافعي رحمه الله وهو أن معنى صلاته للظهر في اليوم الثاني فراغه منها ، كما هو ظاهر اللفظ ، ومعنى صلاته للعصر في ذلك الوقت ، في اليوم الأول ابتداء الصلاة ، فيكون قد فرغ من صلاة الظهر في اليوم الثاني عند كون ظل الشخص مثله ، وابتدأ صلاة العصر في اليوم الأول عند كون ظل الشخص مثله أيضا ، فلا يلزم الاشتراك ، ولا إشكال في ذلك ; لأن آخر وقت الظهر ، هو أول وقت العصر ، ويدل لصحة هذا الذي قاله الشافعي ، ما رواه مسلم في " صحيحه " من حديث أبي موسى رضي الله عنه " وصلى الظهر قريبا من وقت العصر بالأمس " ، فهو دليل صحيح واضح في أنه ابتدأ صلاة الظهر في اليوم الثاني قريبا من وقت كون ظل الشخص مثله ، وأتمها عند كون ظله مثله كما هو ظاهر ، ونظير هذا التأويل الذي ذهب إليه الشافعي ، قوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن [ 65 \ 2 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 283 ] فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن [ 2 \ 232 ] ، فالمراد بالبلوغ الأول مقاربته ، وبالثاني حقيقة انقضاء الأجل .
وأما الاستدلال على الاشتراك بحديث ابن عباس ، المتفق عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - " جمع بالمدينة من غير خوف ، ولا سفر " ، فيجاب عنه بأنه يتعين حمله على الجمع الصوري جمعا بين الأدلة ، وهو أنه صلى الظهر في آخر وقتها حين لم يبق من وقتها إلا قدر ما تصلى فيه ، وعند الفراغ منها دخل وقت العصر فصلاها في أوله ، ومن صلى الظهر في آخر وقتها ، والعصر في أول وقتها كانت صورة صلاته صورة الجمع ، وليس ثم جمع في الحقيقة ; لأنه أدى كلا من الصلاتين في وقتها المعين لها ، كما هو ظاهر ، وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله .
وأما الاستدلال بأن الصلوات زيد فيها على بيان جبريل ، فهو ظاهر السقوط ; لأن توقيت العبادات توقيفي بلا نزاع ، والزيادة في الأوقات المذكورة ثبتت بالنصوص الشرعية .
وأما صلاة العصر ، فقد دلت نصوص السنة على أن لها وقتا اختياريا ، ووقتا ضروريا ، أما وقتها الاختياري فأوله عندما يكون ظل كل شيء مثله من غير اعتبار ظل الزوال ، ويدخل وقتها بانتهاء وقت الظهر المتقدم بيانه ، ففي حديث ابن عباس المتقدم : " فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله " .
وفي حديث جابر المتقدم أيضا : " فصلى العصر حين صار ظل كل شيء مثله " ، وهذا هو التحقيق في أول وقت العصر ، كما صرحت به الأحاديث المذكورة وغيرها .
وقال الشافعي : أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله ، وزاد أدنى زيادة .
قال مقيده - عفا الله عنه - : إن كان مراد الشافعي أن الزيادة لتحقيق بيان انتهاء الظل إلى المثل إذ لا يتيقن ذلك إلا بزيادة ما كما قال به بعض الشافعية فهو موافق لما عليه الجمهور لا مخالف له ، وإن كان مراده غير ذلك فهو مردود بالنصوص المصرحة بأن أول وقت العصر عندما يكون ظل الشيء مثله من غير حاجة إلى زيادة ، مع أن الظاهر إمكان تحقيق كون ظل الشيء مثله من غير احتياج إلى زيادة ما . وشذ أبو حنيفة رحمه الله من بين عامة العلماء فقال : يبقى وقت الظهر حتى يصير الظل مثلين ، فإذا زاد على ذلك يسيرا كان أول وقت العصر . [ ص: 284 ] ونقل النووي في " شرح المهذب " عن القاضي أبي الطيب أن ابن المنذر قال : لم يقل هذا أحد غير أبي حنيفة رحمه الله وحجته حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إنما بقاؤكم فيما سلف من الأمم قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل ، فعملوا إلى صلاة العصر فعجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين . فقال أهل الكتاب : أي ربنا ، أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطيتنا قيراطا قيراطا ونحن أكثر عملا ؟ قال الله تعالى : ( هل ظلمتكم من أجركم من شيء ، قالوا لا قال فهو فضلي أوتيه من أشاء ) متفق عليه . قال : فهذا دليل على أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر ومن حين يصير ظل الشيء مثله إلى غروب الشمس هو ربع النهار ، وليس بأقل من وقت الظهر ، بل هو مثله .
وأجيب عن هذا الاستدلال بأن المقصود من هذا الحديث ضرب المثل لا بيان تحديد أوقات الصلاة ، والمقصود من الأحاديث الدالة على انتهاء وقت الظهر عندما يصير ظل الشيء مثله هو تحديد أوقات الصلاة ، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها مع أن الحديث ليس فيه تصريح بأن أحد الزمنين أكثر من الآخر وإنما فيه أن عملهم أكثر ، وكثرة العمل لا تستلزم كثرة الزمن لجواز أن يعمل بعض الناس عملا كثيرا في زمن قليل ، ويدل لهذا أن هذه الأمة وضعت عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم .
قال ابن عبد البر : خالف أبو حنيفة في قوله هذا الآثار والناس ، وخالفه أصحابه ، فإذا تحققت أن الحق كون أول وقت العصر عندما يكون ظل كل شيء مثله ، من غير اعتبار ظل الزوال فاعلم أن آخر وقت العصر جاء في بعض الأحاديث تحديده بأن يصير ظل كل شيء مثليه ، وجاء في بعضها تحديده بما قبل اصفرار الشمس ، وجاء في بعضها امتداده إلى غروب الشمس ، ففي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيانه لآخر وقت العصر في اليوم الثاني ، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه ، وفي حديث عبد الله بن عمر وعند مسلم وأحمد ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ، وفي حديث أبي موسى عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي ، ثم أخر العصر فانصرف [ ص: 285 ] منها ، والقائل يقول : احمرت الشمس ، وروى الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع نحوه من حديث بريدة الأسلمي ، وفي حديث عبد الله بن عمر ، وعند مسلم ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول .
وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه : ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر .
والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات في تحديد آخر وقت العصر أن مصير ظل الشيء مثليه ، هو وقت تغيير الشمس من البياض والنقاء إلى الصفرة ، فيؤول معنى الروايتين إلى شيء واحد ، كما قاله بعض المالكية .
وقال ابن قدامة في " المغني " : أجمع العلماء على أن من صلى العصر والشمس بيضاء نقية ، فقد صلاها في وقتها ، وفي هذا دليل على أن مراعاة المثلين عندهم استحباب ولعلهما متقاربان يوجد أحدهما قريبا من الآخر . اهـ . منه بلفظه . وهذا هو انتهاء وقتها الاختياري .
وأما الروايات الدالة على امتداد وقتها إلى الغروب ، فهي في حق أهل الأعذار كحائض تطهر ، وكافر يسلم ، وصبي يبلغ ، ومجنون يفيق ، ونائم يستيقظ ، ومريض يبرأ ، ويدل لهذا الجمع ما رواه الإمام أحمد ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث أنس قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله إلا قليلا " . ففي الحديث دليل على عدم جواز تأخير صلاة العصر إلى الاصفرار فما بعده بلا عذر .
ابو وليد البحيرى
2020-09-03, 03:09 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (38)
سورة النساء (11)
وأول وقت صلاة المغرب غروب الشمس ، أي : غيبوبة قرصها بإجماع المسلمين ، وفي حديث جابر وابن عباس في إمامة جبريل : " فصلى المغرب حين وجبت الشمس " ، وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب " . أخرجه الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربع إلا النسائي ، والأحاديث بذلك كثيرة ، واختلف في آخر وقتها أعني المغرب ، فقال بعض العلماء : ليس لها إلا وقت واحد وهو قدر ما تصلى فيه أول وقتها مع مراعاة الإتيان بشروطها ، وبه قال الشافعي : وهو مشهور مذهب مالك ، وحجة أهل هذا القول أن جبريل صلاها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الثانية في وقت صلاته لها في الأولى ، قالوا : فلو كان لها وقت آخر لأخرها في الثانية إليه كما فعل في جميع الصلوات غيرها . [ ص: 286 ] والتحقيق أن وقت المغرب يمتد ما لم يغب الشفق . فقد أخرج مسلم في " صحيحه " من حديث عبد الله بن عمرو المتقدم عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ووقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق " الحديث . والمراد بثور الشفق : ثورانه وانتشاره ومعظمه ، وفي القاموس أنه حمرة الشفق الثائرة فيه ، وفي حديث أبي موسى المتقدم عند أحمد ومسلم وحديث بريدة المتقدم عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربع ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ، وفي لفظ : " فصلى المغرب قبل سقوط الشفق " ، والجواب عن أحاديث إمامة جبريل حيث صلى المغرب في اليومين في وقت واحد من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه اقتصر على بيان وقت الاختيار ولم يستوعب وقت الجواز وهذا جار في كل الصلوات ما سوى الظهر .
والثاني : أنه متقدم في أول الأمر بمكة وهذه الأحاديث بامتداد وقت المغرب إلى غروب الشفق متأخرة في آخر الأمر بالمدينة فوجب اعتمادها .
والثالث : أن هذه الأحاديث أصح إسنادا من حديث بيان جبريل فوجب تقديمها ، قاله الشوكاني رحمه الله ولا خلاف بين العلماء في أفضلية تقديم صلاة المغرب عند أول وقتها ومذهب الإمام مالك رحمه الله امتداد الوقت الضروري للمغرب بالاشتراك مع العشاء إلى الفجر .
وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : روينا عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف في المرأة تطهر قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء ، والظاهر أن حجة هذا القول بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى طلوع الفجر كما هو مذهب مالك ما ثبت في الصحيح أيضا من أنه - صلى الله عليه وسلم - " جمع بين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا سفر " ، فقد روى الشيخان في " صحيحيهما " عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء " ومعناه : أنه يصلي السبع جميعا في وقت واحد ، والثمان كذلك كما بينته رواية البخاري في باب " وقت المغرب " عن ابن عباس قال : صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " سبعا جميعا وثمانيا جميعا " .
وفي لفظ لمسلم وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجه : " جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر " ، قيل لابن عباس : ما [ ص: 287 ] أراد بذلك ؟ قال : أراد ألا يحرج أمته ، وبه تعلم أن قول مالك في [ الموطأ ] لعل ذلك لعلة المطر غير صحيح .
وفي لفظ أكثر الروايات من غير خوف ولا سفر . وقد قدمنا أن هذا الجمع يجب حمله على الجمع الصوري لما تقرر في الأصول من أن الجمع واجب إذا أمكن ، وبهذا الحمل تنتظم الأحاديث ولا يكون بينها خلاف ، ومما يدل على أن الحمل المذكور متعين ، ما أخرجه النسائي عن ابن عباس بلفظ " صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر والعصر جميعا ، والمغرب والعشاء جميعا ، أخر الظهر وعجل العصر ، وأخر المغرب وعجل العشاء " ، فهذا ابن عباس راوي حديث الجمع قد صرح بأن ما رواه من الجمع المذكور هو الجمع الصوري ، فرواية النسائي هذه صريحة في محل النزاع مبينة للإجمال الواقع في الجمع المذكور .
وقد تقرر في الأصول أن البيان بما سنده دون سند المبين جائز عند جماهير الأصوليين ، وكذلك المحدثون وأشار إليه في " مراقي السعود " بقوله في مبحث البيان : [ الرجز ]
وبين القاصر من حيث السند أو الدلالة على ما يعتمد
ويؤيده ما رواه الشيخان عن عمر وابن دينار ، أنه قال : " يا أبا الشعثاء ، أظنه أخر الظهر وعجل العصر ، وأخر المغرب وعجل العشاء . قال : وأنا أظنه " ، وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس ، والراوي أدرى بما روى من غيره ; لأنه قد يعلم من سياق الكلام قرائن لا يعلمها الغائب ، فإن قيل ثبت في " صحيح البخاري " وغيره أن أيوب السختياني قال لأبي الشعثاء : لعل ذلك الجمع في ليلة مطيرة ، فقال أبو الشعثاء : عسى .
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم ، أنا لم ندع جزم أبي الشعثاء بذلك ورواية الشيخين عنه بالظن ، والظن لا ينافي احتمال النقيض وذلك النقيض المحتمل هو مراده بعسى ، والله تعالى أعلم .
ومما يؤيده الجمع المذكور على الجمع الصوري أن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم كلاهما ممن روى عنه الجمع المذكور بالمدينة مع أن كلا منهما روى عنه ما يدل على أن المراد بالجمع المذكور الجمع الصوري .
أما ابن مسعود فقد رواه عنه الطبراني ، كما ذكره ابن حجر في " فتح الباري " . [ ص: 288 ] وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : رواه الطبراني عن ابن مسعود في الكبير والأوسط كما ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " بلفظ : " جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ، فقيل له في ذلك ، فقال : صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي " ، مع أن ابن مسعود روى عنه مالك في " الموطأ " والبخاري وأبو داود والنسائي ، أنه قال : " ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها " ، فنفي ابن مسعود للجمع المذكور يدل على أن الجمع المروي عنه الجمع الصوري ; لأن كلا من الصلاتين في وقتها وإلا لكان قوله متناقضا والجمع واجب متى ما أمكن .
وأما ابن عمر فقد روى عنه الجمع المذكور بالمدينة عبد الرزاق كما قاله الشوكاني أيضا مع أنه روى عنه ابن جرير أنه قال : " خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما " ، قاله الشوكاني أيضا ، وهذا هو الجمع الصوري ، فهذه الروايات معينة للمراد بلفظ جمع .
واعلم أن لفظة جمع فعل في سياق الإثبات ، وقد قرر أئمة الأصول أن الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه .
قال ابن الحاجب في " مختصره الأصولي " في مبحث العام ، ما نصه : الفعل المثبت لا يكون عاما في أقسامه مثل صلى داخل الكعبة فلا يعم الفرض والنفل إلى أن قال : وكان يجمع بين الصلاتين لا يعم وقتيهما وأما تكرر الفعل فمستفاد من قول الراوي : كان يجمع كقولهم كان حاتم يكرم الضيف . . . الخ .
قال شارحه العضد ما نصه : وإذا قال كان يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء فلا يعم جمعهما بالتقديم في وقت الأولى ، والتأخير في وقت الثانية ، وعمومه في الزمان لا يدل عليه أيضا ، وربما توهم ذلك من قوله كان يفعل ، فإنه يفهم منه التكرار ، كما إذا قيل : كان حاتم يكرم الضيف وهو ليس مما ذكرناه في شيء ; لأنه لا يفهم من الفعل ، وهو يجمع . بل من قول الراوي ، وهو كان ، حتى لو قال : جمع لزال التوهم ، انتهى محل الغرض منه بلفظه بحذف يسير لما لا حاجة إليه في المراد عندنا فقوله : حتى لو قال : جمع زال التوهم ، يدل على أن قول ابن عباس في الحديث المذكور جمع لا يتوهم فيه العموم ، وإذن فلا تتعين صورة من صور الجمع ، إلا بدليل [ ص: 289 ] منفصل .
وقد قدمنا الدليل على أن المراد الجمع الصوري .
وقال صاحب " جمع الجوامع " عاطفا على ما لا يفيد العموم نصه : والفعل المثبت ، ونحو كان يجمع في السفر .
قال شارحه صاحب " الضياء اللامع " ما نصه : ونحو كان يجمع في السفر ، أي : بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، لا عموم له أيضا ; لأنه فعل في سياق الثبوت فلا يعم جمعهما بالتقديم في وقت الأولى ، والتأخير إلى وقت الثانية ، بهذا فسر الرهوني كلام ابن الحاجب إلى أن قال : وإنما خص المصنف هذا الفعل الأخير بالذكر مع كونه فعلا في سياق الثبوت ; لأن في كان معنى زائدا ، وهو اقتضاؤها مع المضارع التكرار عرفا فيتوهم منها العموم نحو كان حاتم يكرم الضيفان .
وبهذا صرح الفهري والرهوني وذكر ولي الدين عن الإمام في " المحصول " أنها لا تقتضي التكرار عرفا ولا لغة .
قال ولي الدين والفعل في سياق الثبوت لا يعم كالنكرة المثبتة ، إلا أن تكون في معرض الامتنان كقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ 25 \ 48 ] . اهـ . من " الضياء اللامع " لابن حلولو .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وجه كون الفعل في سياق الثبوت لا يعم هو أن الفعل ينحل عند النحويين ، وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن وينحل عند جماعة من البلاغيين عن مصدر وزمن ونسبة ، فالمصدر كامن في معناه إجماعا ، والمصدر الكامن فيه لم يتعرف بمعرف فهو نكرة في المعنى ومعلوم أن النكرة لا تعم في الإثبات وعلى هذا جماهير العلماء وما زعمه بعضهم من أن الجمع الصوري لم يرد في لسان الشارع ولا أهل عصره فهو مردود بما قدمنا عن ابن عباس عند النسائي وابن عمر عند عبد الرزاق ، وبما رواه أبو داود وأحمد والترمذي وصححاه والشافعي وابن ماجه والدارقطني والحاكم من حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها وهي مستحاضة ، " فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر ثم تغتسلي حتى تطهري وتصلين الظهر والعصر جمعا ، ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الصبح " . [ ص: 290 ] قال : وهذا أعجب الأمرين إلي ، ومما يدل على أن الجمع المذكور في حديث ابن عباس جمع صوري ما رواه النسائي من طريق عمرو بن هرم عن أبي الشعثاء " أن ابن عباس صلى بالبصرة الأولى والعصر ليس بينهما شيء والمغرب والعشاء ليس بينهما شيء فعل ذلك من شغل " ، وفيه رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي رواية لمسلم من طريق عبد الله بن شقيق أن شغل ابن عباس المذكور كان بالخطبة وأنه خطب بعد صلاة العصر إلى أن بدت النجوم ، ثم جمع بين المغرب والعشاء وفيه تصديق أبي هريرة لابن عباس في رفعه . انتهى من " فتح الباري " .
وما ذكره الخطابي وابن حجر في " الفتح " من أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صنعت ذلك لئلا تحرج أمتي " في حديث ابن عباس وابن مسعود المتقدمين يقدح في حمله على الجمع الصوري ; لأن القصد إليه لا يخلو من حرج ، وأنه أضيق من الإتيان بكل صلاة في وقتها ; لأن أوائل الأوقات وأواخرها مما يصعب إدراكه على الخاصة فضلا عن العامة ، يجاب عنه بما أجاب به العلامة الشوكاني رحمه الله في " نيل الأوطار " وهو أن الشارع - صلى الله عليه وسلم - ، قد عرف أمته أوائل الأوقات وأواخرها وبالغ في التعريف والبيان ، حتى إنه عينها بعلامات حسية لا تكاد تلتبس على العامة فضلا عن الخاصة ، والتخفيف في تأخير إحدى الصلاتين إلى آخر وقتها ، وفعل الأخرى في أول وقتها متحقق بالنسبة إلى فعل كل واحدة منهما في أول وقتها ، كما كان ديدنه - صلى الله عليه وسلم - ، حتى قالت عائشة رضي الله عنها : " ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين حتى قبضه الله " ، ولا يشك منصف أن فعل الصلاتين دفعة والخروج إليهما مرة أخف من صلاة كل منهما في أول وقتها .
ابو وليد البحيرى
2020-09-03, 03:10 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (39)
سورة النساء (12)
وممن ذهب إلى أن المراد بالجمع المذكور الجمع الصوري ابن الماجشون والطحاوي وإمام الحرمين والقرطبي ، وقواه ابن سيد الناس . بما قدمنا عن أبي الشعثاء ، ومال إليه بعض الميل النووي في " شرح المهذب " في باب " المواقيت من كتاب الصلاة " ، فإن قيل : الجمع الصوري الذي حملتم عليه حديث ابن عباس هو فعل كل واحدة من الصلاتين المجموعتين في وقتها وهذا ليس برخصة ، بل هو عزيمة فأي فائدة إذن في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لئلا تحرج أمتي " ، مع كون الأحاديث المعينة للأوقات تشمل الجمع الصوري ، وهل حمل الجمع على ما شملته أحاديث التوقيت إلا من باب الاطراح لفائدته وإلغاء مضمونه ، فالجواب ، هو ما أجاب به العلامة الشوكاني رحمه الله أيضا ، وهو أنه لا شك أن الأقوال الصادرة منه - صلى الله عليه وسلم - ، في أحاديث توقيت الصلوات شاملة للجمع [ ص: 291 ] الصوري كما ذكره المعترض ، فلا يصح أن يكون رفع الحرج منسوبا إليها ، بل هو منسوب إلى الأفعال ليس إلا لما عرفناك من أنه - صلى الله عليه وسلم - ما صلى صلاة لآخر وقتها مرتين ، فربما ظن ظان أن فعل الصلاة في أول وقتها متحتم لملازمته - صلى الله عليه وسلم - لذلك طول عمره فكان في جمعه جمعا صوريا تخفيف وتسهيل على من اقتدى بمجرد الفعل .
وقد كان اقتداء الصحابة بالأفعال أكثر منه بالأقوال ، ولهذا امتنع الصحابة رضي الله عنهم من نحر بدنهم يوم الحديبية بعد أن أمرهم - صلى الله عليه وسلم - ، بالنحر حتى دخل - صلى الله عليه وسلم - على أم سلمة مغموما فأشارت عليه بأن ينحر ويدعو الحلاق يحلق له ففعل ، فنحروا جميعا وكادوا يهلكون غما من شدة تراكم بعضهم على بعض حال الحلق ، ومما يؤيد أن الجمع المتنازع فيه لا يجوز لغير عذر ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر " ، وفي إسناده حنش بن قيس وهو ضعيف .
ومما يدل على ذلك أيضا ما قاله الترمذي ، في آخر " سننه " في كتاب العلل منه ، ولفظه جميع ما في كتابي هذا من الحديث معمول به ، وبه أخذ بعض أهل العلم ، ما خلا حديثين : حديث ابن عباس " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر بالمدينة ، والمغرب والعشاء من غير خوف ، ولا سفر " الخ . وبه تعلم أن الترمذي يقول : إنه لم يذهب أحد من أهل العلم إلى العمل بهذا الحديث في جمع التقديم أو التأخير ، فلم يبق إلا الجمع الصوري ، فيتعين .
قال مقيده - عفا الله عنه - : روي عن جماعة من أهل العلم أنهم أجازوا الجمع في الحضر للحاجة مطلقا ، لكن بشرط ألا يتخذ ذلك عادة ، منهم : ابن سيرين ، وربيعة ، وأشهب ، وابن المنذر ، والقفال الكبير .
وحكاه الخطابي ، عن جماعة من أصحاب الحديث ، قال ابن حجر ، وغيره وحجتهم ما تقدم في الحديث من قوله : " لئلا تحرج أمتي " ، وقد عرفت مما سبق أن الأدلة تعين حمل ذلك على الجمع الصوري ، كما ذكر ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
قد اتضح من هذه الأدلة التي سقناها ، أن الظهر لا يمتد لها وقت إلى الغروب ، وأن المغرب لا يمتد لها وقت إلى الفجر ، ولكن يتعين حمل هذا الوقت المنفي بالأدلة [ ص: 292 ] على الوقت الاختياري ، فلا ينافي امتداد وقت الظهر الضروري إلى الغروب ، ووقت المغرب الضروري إلى الفجر ، كما قاله مالك رحمه الله لقيام الأدلة على اشتراك الظهر والعصر في الوقت عند الضرورة ، وكذلك المغرب والعشاء ، وأوضح دليل على ذلك جواز كل من جمع التقديم ، وجمع التأخير في السفر ، فصلاة العصر مع الظهر عند زوال الشمس دليل على اشتراكها مع الظهر في وقتها عند الضرورة ، وصلاة الظهر بعد خروج وقتها في وقت العصر في جمع التأخير دليل على اشتراكها معها في وقتها عند الضرورة أيضا ، وكذلك المغرب والعشاء ، أما جمع التأخير بحيث يصلي الظهر في وقت العصر والمغرب في وقت العشاء ، فهو ثابت في الروايات المتفق عليها . فقد أخرج البخاري في " صحيحه " من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس ، أخر الظهر إلى وقت العصر ، ثم يجمع بينهما " .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث قوله : ثم يجمع بينهما ، أي : في وقت العصر ، وفي رواية قتيبة عن المفضل في الباب الذي بعده " ثم نزل فجمع بينهما " ، ولمسلم من رواية جابر بن إسماعيل ، عن عقيل : " يؤخر الظهر إلى وقت العصر ، فيجمع بينهما ، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشفق " وله من رواية شبابة ، عن عقيل : " حتى يدخل أول وقت العصر ، ثم يجمع بينهما " . اهـ . منه بلفظه .
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا جد به السير جمع بين المغرب والعشاء " ، ولا يمكن حمل هذا الجمع على الجمع الصوري ; لأن الروايات الصحيحة التي ذكرنا آنفا فيها التصريح بأنه صلى الظهر في وقت العصر ، والمغرب بعد غيبوبة الشفق .
وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : اتفقت رواية يحيى بن سعيد الأنصاري ، وموسى بن عقبة ، وعبيد الله بن عمر ، وأيوب السختياني ، وعمر بن محمد بن زيد ، عن نافع ، على أن جمع ابن عمر بين الصلاتين كان بعد غيبوبة الشفق ، وخالفهم من لا يدانيهم في حفظ أحاديث نافع ، ثم قال بعد هذا بقليل ، ورواية الحفاظ من أصحاب نافع أولى بالصواب ، فقد رواه سالم بن عبد الله ، وأسلم مولى عمر وعبد الله بن دينار ، وإسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب ، وقيل ابن ذؤيب عن ابن عمر نحو روايتهم ، ثم ساق البيهقي أسانيد رواياتهم ، وأما جمع التقديم بحيث يصلي العصر عند زوال الشمس مع الظهر في أول وقتها ، والعشاء مع المغرب عند غروب الشمس في أول وقتها ، فهو [ ص: 293 ] ثابت أيضا عنه - صلى الله عليه وسلم - وإن أنكره من أنكره من العلماء ، وحاول تضعيف أحاديثه ، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحاديث منها ما هو صحيح ، ومنها ما هو حسن .
فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل في الحج " ثم أذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا " ، وكان ذلك بعد الزوال ، فهذا حديث صحيح فيه التصريح بأنه صلى العصر مقدمة مع الظهر بعد الزوال .
وقد روى أبو داود ، وأحمد ، والترمذي ، وقال : حسن غريب ، وابن حبان ، والدارقطني ، والبيهقي ، والحاكم عن معاذ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعا ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ، ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء ، فصلاها مع المغرب " ، وإبطال جمع التقديم بتضعيف هذا الحديث ، كما حاوله الحاكم ، وابن حزم لا عبرة به لما رأيت آنفا من أن جمع التقديم ، أخرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر الطويل ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه كان في السفر إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ، فإذا لم تزغ له في منزله سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر ، وإذا حانت المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء ، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا كانت العشاء نزل فجمع بينهما " رواه أحمد ، ورواه الشافعي في مسنده بنحوه ، وقال فيه : " إذا سار قبل أن تزول الشمس أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر " ورواه البيهقي ، والدارقطني ، وروي عن الترمذي أنه حسنه .
فإن قيل : حديث معاذ معلول بتفرد قتيبة فيه ، عن الحفاظ ، وبأنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل ، ولا يعرف له منه سماع ، كما قاله ابن حزم ، وبأن في إسناده أبا الطفيل وهو مقدوح فيه بأنه كان حامل راية المختار بن أبي عبيد ، وهو يؤمن بالرجعة ، وبأن الحاكم قال : هو موضوع ، وبأن أبا داود قال : ليس في جمع التقديم حديث قائم ، وحديث ابن عباس في إسناده حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب وهو ضعيف ، فالجواب أن إعلاله بتفرد قتيبة به مردود من وجهين :
الأول : أن قتيبة بن سعيد رحمه الله تعالى بالمكانة المعروفة له من العدالة [ ص: 294 ] والضبط والإتقان ، وهذا الذي رواه لم يخالف فيه غيره ، بل زاد ما لم يذكره غيره ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، وقد تقرر في علم الحديث أن زيادات العدول مقبولة لا سيما وهذه الزيادة التي هي جمع التقديم ، تقدم ثبوتها في صحيح مسلم من حديث جابر ، وسيأتي إن شاء الله أيضا أنها صحت من حديث أنس .
الوجه الثاني : أن قتيبة لم يتفرد به بل تابعه فيه المفضل بن فضالة ، قال ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : فإن أبا داود رواه عن يزيد بن خالد بن عبد الله بن موهب الرملي ، حدثنا المفضل بن فضالة ، عن الليث بن سعد ، عن هشام بن سعد ، عن أبي الزبير ، عن أبي الطفيل ، عن معاذ فذكره ، فهذا المفضل قد تابع قتيبة ، وإن كان قتيبة أجل من المفضل ، وأحفظ لكن زال تفرد قتيبة به اهـ . منه بلفظه .
ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " ، قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، أنبأنا أبو بكر بن داسة ، حدثنا أبو داود ، ثم ساق السند المتقدم آنفا ، أعني سند أبي داود الذي ساقه ابن القيم ، والمتن فيه التصريح بجمع التقديم ، وكذلك رواه النسائي والدارقطني ، كما قاله ابن حجر في " التلخيص " ، فاتضح أن قتيبة لم يتفرد بهذا الحديث ; لأن أبا داود والنسائي والدارقطني والبيهقي ، أخرجوه من طريق أخرى متابعة لرواية قتيبة .
وقال ابن حجر في " التخليص " : إن في سند هذه الطريق هشام بن سعد وهو لين الحديث .
قال مقيده - عفا الله عنه - : هشام بن سعد المذكور من رجال مسلم وأخرج له البخاري تعليقا وبه تعلم صحة طريق المفضل المتابعة لطريق قتيبة ، ولذا قال البيهقي في " السنن الكبرى " قال الشيخ ، وإنما أنكروا من هذا رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ، فأما رواية أبي الزبير عن أبي الطفيل ، فهي محفوظة صحيحة ، واعلم أنه لا يخفى أن ما يروى عن البخاري رحمه الله من أنه سأل قتيبة عمن كتب معه هذا الحديث عن الليث بن سعد فقال : كتبه معي خالد المدائني ، فقال البخاري : كان خالد المدائني يدخل على الشيوخ يعني ، يدخل في روايتهم ما ليس منها ، أنه لا يظهر كونه قادحا في رواية قتيبة ; لأن العدل الضابط لا يضره أخذ آلاف الكذابين معه ; لأنه إنما يحدث بما علمه ولا يضره كذب غيره كما هو ظاهر .
والجواب عما قاله ابن حزم من أنه معنعن بيزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل ولا [ ص: 295 ] يعرف له منه سماع من وجهين :
الأول : أن العنعنة ونحوها لها حكم التصريح بالتحديث عند المحدثين إلا إذا كان المعنعن مدلسا ، ويزيد بن أبي حبيب : قال فيه الذهبي في " تذكرة الحفاظ " كان حجة حافظا للحديث وذكر من جملة من روى عنهم أبا الطفيل المذكور ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : ثقة فقيه ، وكان يرسل ومعلوم أن الإرسال غير التدليس ; لأن الإرسال في اصطلاح المحدثين هو رفع التابعي مطلقا أو الكبير خاصة الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل إسقاط راو مطلقا ، وهو قول الأصوليين فالإرسال مقطوع فيه بحذف الواسطة بخلاف التدليس ، فإن تدليس الإسناد يحذف فيه الراوي شيخه المباشر له ويسند إلى شيخ شيخه المعاصر بلفظ محتمل للسماع مباشرة وبواسطة ، نحو عن فلان وقال فلان فلا يقطع فيه بنفي الواسطة بل هو يوهم الاتصال ; لأنه لا بد فيه من معاصرة من أسند إليه أعني : شيخ شيخه ، وإلا كان منقطعا كما هو معروف في علوم الحديث وقول ابن حزم لم يعرف له منه سماع ليس بقادح ; لأن المعاصرة تكفي ولا يشترط ثبوت اللقى وأحرى ثبوت السماع فمسلم بن الحجاج لا يشترط في " صحيحه " إلا المعاصرة فلا يشترط اللقى وأحرى السماع وإنما اشترط اللقى البخاري ، قال العراقي في " ألفيته " : [ الرجز ]
وصححوا وصل معنعن سلم من دلسة راويه واللقا علم وبعضهم حكى بذا إجماعا
ومسلم لم يشرط اجتماعا
لكن تعاصروا . . . إلخ
ابو وليد البحيرى
2020-09-03, 03:11 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (40)
سورة النساء (13)
وبالجملة فلا يخفى إجماع المسلمين على صحة أحاديث مسلم مع أنه لا يشترط إلا المعاصرة وبه تعلم أن قول ابن حزم ومن وافقه إنه لا تعرف رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لا تقدح في حديثه لما علمت من أن العنعنة من غير المدلس لها حكم التحديث ويزيد بن أبي حبيب مات سنة ثمان وعشرين بعد المائة ، وقد قارب الثمانين .
وأبو الطفيل ولد عام أحد ومات سنة عشر ومائة على الصحيح ، وبه تعلم أنه لا شك في معاصرتهما واجتماعهما في قيد الحياة زمنا طويلا ، ولا غرو في حكم ابن حزم على رواية يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل بأنها باطلة ، فإنه قد ارتكب أشد من ذلك في حكمه على الحديث الثابت في " صحيح البخاري " : " ليكونن في أمتي أقوام [ ص: 296 ] يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " ، بأنه غير متصل ولا يحتج به بسبب أن البخاري قال في أول الإسناد قال : هشام بن عمار ومعلوم أن هشام بن عمار من شيوخ البخاري وأن البخاري بعيد جدا من التدليس وإلى رد هذا على ابن حزم أشار العراقي في " ألفيته " بقوله : [ الرجز ]
وإن يكن أول الاسناد حذف مع صيغة الجزم فتعليقا عرف ولو إلى آخره أما الذي
لشيخه عزا بقال فكذي عنعنة كخبر المعازف
لا تصغ لابن حزم المخالف
مع أن المشهور عن مالك وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله الاحتجاج بالمرسل ، والمرسل في اصطلاح أهل الأصول ما سقط منه راو مطلقا ، فهو بالاصطلاح الأصولي يشمل المنقطع والمعضل ، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى كما صرح به غير واحد وهو واضح ، والجواب عن القدح في أبي الطفيل بأنه كان حامل راية المختار مردود من وجهين .
الأول : أن أبا الطفيل صحابي وهو آخر من مات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قاله مسلم وعقده ناظم " عمود النسب " بقوله : [ الرجز ]
آخر من مات من الأصحاب له أبو الطفيل عامر بن واثله
وأبو الطفيل هذا هو عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جحش الليثي نسبة إلى ليث بن بكر بن كنانة ، والصحابة كلهم رضي الله عنهم عدول وقد جاءت تزكيتهم في كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما هو معلوم في محله والحكم لجميع الصحابة بالعدالة هو مذهب الجمهور وهو الحق وقال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]
وغيره رواية والصحب تعديلهم كل إليه يصبو
واختار في الملازمين دون من رآه مرة إمام مؤتمن
الوجه الثاني : هو ما ذكره الشوكاني رحمه الله في " نيل الأوطار " وهو أن أبا الطفيل إنما خرج مع المختار على قاتلي الحسين رضي الله عنه وأنه لم يعلم من المختار إيمانه بالرجعة ، والجواب عن قول الحاكم إنه موضوع بأنه غير صحيح بل هو ثابت وليس بموضوع .
قال ابن القيم : وحكمه بالوضع على هذا الحديث غير مسلم ، يعني : الحاكم ، [ ص: 297 ] وقال ابن القيم أيضا في " زاد المعاد " : قال الحاكم هذا الحديث موضوع وإسناده على شرط الصحيح لكن رمي بعلة عجيبة ، قال الحاكم : حدثنا أبو بكر بن محمد بن أحمد بن بالويه ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان في غزوة تبوك إلى أن قال : وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار " الحديث .
قال الحاكم : هذا الحديث رواته أئمة ثقات ، وهو شاذ الإسناد والمتن ثم لا نعرف له علة نعله بها فلو كان الحديث عن الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث ، ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به ، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولا ، ثم نظرنا فلم نجد ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل رواية ، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عن أحد من أصحاب أبي الطفيل ولا عن أحد ممن روى عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل ، فقلنا : الحديث شاذ ، وقد حدثوا عن أبي العباس الثقفي قال : كان قتيبة بن سعيد يقول : لنا على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي خيثمة ، حتى عد قتيبة سبعة من أئمة الحديث كتبوا عنه هذا الحديث ، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبا من إسناده ومتنه ، ثم لم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر للحديث علة ثم قال : فنظرنا فإذا بالحديث موضوع ، وقتيبة ثقة مأمون . اهـ . محل الغرض منه بتصرف يسير لا يخل بشيء من المعنى . وانظره فإن قوله ولو كان عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل لعللنا به فيه أن سنده الذي ساق فيه عن يزيد عن أبي الطفيل .
وبهذا تعلم أن حكم الحاكم على هذا الحديث بأنه موضوع لا وجه له أما رجال إسناده فهم ثقات باعترافه هو ، وقد قدمنا لك أن قتيبة تابعه فيه المفضل بن فضالة عند أبي داود والنسائي والبيهقي والدارقطني ، وانفراد الثقة الضابط بما لم يروه غيره لا يعد شذوذا ، وكم من حديث صحيح في " الصحيحين " وغيرهما انفرد به عدل ضابط عن غيره ، وقد عرفت أن قتيبة لم يتفرد به ، وأما متنه فهو بعيد من الشذوذ أيضا .
وقد قدمنا أن مثله رواه مسلم في " صحيحه " عن جابر رضي الله عنه وصح أيضا مثله من حديث أنس .
قال ابن القيم : وقد روى إسحاق بن راهويه حدثنا شبابة ، حدثنا الليث عن عقيل [ ص: 298 ] عن ابن شهاب عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم ارتحل " وهذا إسناد كما ترى . وشبابة هو شبابة بن سوار الثقة المتفق على الاحتجاج بحديثه وقد روى له مسلم في " صحيحه " ، فهذا الإسناد على شرط الشيخين . اهـ . محل الغرض منه بلفظه .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " بعد أن ساق حديث إسحاق هذا ما نصه : وأعل بتفرد إسحاق به عن شبابة ثم تفرد جعفر الفريابي به عن إسحاق وليس ذلك بقادح ، فإنهما إمامان حافظان . اهـ . منه بلفظه .
وروى الحاكم في " الأربعين " بسند صحيح عن أنس نحو حديث إسحاق المذكور ونحوه لأبي نعيم في " مستخرج مسلم " ، قال الحافظ في " بلوغ المرام " بعد أن ساق حديث أنس المتفق عليه ما نصه : وفي رواية للحاكم في " الأربعين " بإسناد صحيح " صلى الظهر والعصر ثم ركب " ، ولأبي نعيم في مستخرج مسلم : " كان إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل " .
وقال ابن حجر في " تلخيص الحبير " بعد أن ساق حديث الحاكم المذكور بسنده ومتنه ما نصه : وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد وقد صححه المنذري من هذا الوجه والعلائي ، وتعجب من كون الحاكم لم يورده في " المستدرك " ، قال : وله طريق أخرى رواها الطبراني في " الأوسط " ، ثم ساق الحديث بها وقال : تفرد به يعقوب بن محمد ولا يقدح في رواية الحاكم هذه ما ذكره ابن حجر في " الفتح " من أن البيهقي ساق سند الحاكم المذكور ثم ذكر المتن ولم يذكر فيه زيادة جمع التقديم لما قدمنا من أن من حفظ حجة على من لم يحفظ وزيادة العدول مقبولة كما تقدم .
وقال النووي في " شرح المهذب " بعد أن ساق حديث معاذ الذي نحن بصدده ما نصه : رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن .
وقال البيهقي : هو محفوظ صحيح ، وعن أنس قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم ارتحل " ، رواه الإسماعيلي والبيهقي بإسناد صحيح .
قال إمام الحرمين في " الأساليب " : في ثبوت الجمع أخبار صحيحة هي نصوص لا يتطرق إليها تأويل ودليله في المعنى الاستنباط من صورة الإجماع وهي الجمع بعرفات ومزدلفة ، إذ لا يخفى أن سببه احتياج الحجاج إليه لاشتغالهم [ ص: 299 ] بمناسكهم ، وهذا المعنى موجود في كل الأسفار . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
والجواب عن قول أبي داود ليس في جمع التقديم حديث قائم هو ما رأيت من أنه ثبت في " صحيح مسلم " من حديث جابر وصح من حديث أنس من طريق إسحاق بن راهويه وأخرجه الحاكم بسند صحيح في " الأربعين " وأخرجه أبو نعيم في " مستخرج مسلم " والإسماعيلي والبيهقي وقال : إسناده صحيح بلفظ : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر وزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعا " إلى آخر ما تقدم .
قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : قد عرفت أن أحاديث جمع التقديم بعضها صحيح وبعضها حسن ، وذلك يرد قول أبي داود : ليس في جمع التقديم حديث قائم ، والجواب عن تضعيف حديث ابن عباس المتقدم في جمع التقديم بأن في إسناده حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب هو ضعيف ، هو أنه روي من طريقين أخريين بهما يعتضد الحديث حتى يصير أقل درجاته الحسن .
الأولى : أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس .
والثانية : منهما رواها إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه ، عن سليمان بن بلال ، عن هشام بن عروة ، عن كريب ، عن ابن عباس بنحوه قاله ابن حجر في " التلخيص " والشوكاني في " نيل الأوطار " .
وقال ابن حجر في " التلخيص " أيضا : يقال إن الترمذي حسنه وكأنه باعتبار المتابعة ، وغفل ابن العربي فصحح إسناده .
وبهذا كله تعلم أن كلا من جمع التقديم وجمع التأخير في السفر ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه صورة مجمع عليها وهي التي رواها مسلم عن جابر في حديثه الطويل في الحج كما قدمنا ، وهي جمع التقديم ظهر عرفات ، وجمع التأخير عشاء المزدلفة .
قال البيهقي في " السنن الكبرى " : والجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين ، مع الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عن أصحابه ثم ما أجمع عليه المسلمون من جمع الناس بعرفات ثم بالمزدلفة . اهـ . منه بلفظه . [ ص: 300 ] وروى البيهقي في " السنن الكبرى " أيضا عن الزهري أنه سأل سالم بن عبد الله : هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر ؟ فقال : نعم لا بأس بذلك ، ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة اهـ . منه بلفظه .
وقال ابن القيم في " زاد المعاد " : قال ابن تيمية ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر لمصلحة الوقوف ليتصل وقت الدعاء ولا يقطعه بالنزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة ، فالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى .
قال الشافعي : وكان أرفق به يوم عرفة تقديم العصر ; لأن يتصل له الدعاء فلا يقطعه بصلاة العصر ، والتأخير أرفق بالمزدلفة ; لأن يتصل له المسير ولا يقطعه للنزول للمغرب لما في ذلك من التضييق على الناس اهـ . من " زاد المعاد " .
فبهذه الأدلة التي سقناها في هذا المبحث تعلم أن العصر مشتركة مع الظهر في وقتها عند الضرورة ، وأن العشاء مشتركة مع المغرب في وقتها عند الضرورة أيضا ، وأن الظهر مشتركة مع العصر في وقتها عند الضرورة ، وأن المغرب مشتركة مع العشاء في وقتها عند الضرورة أيضا ، ولا يخفى أن الأئمة الذين خالفوا مالكا رحمه الله تعالى في امتداد وقت الضرورة للظهر إلى الغروب وامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر كالشافعي وأحمد رحمهما الله ومن وافقهما أنهم في الحقيقة موافقون له لاعترافهم بأن الحائض إذا طهرت قبل الغروب بركعة صلت الظهر والعصر معا ، وكذلك إذا طهرت قبل طلوع الفجر بركعة صلت المغرب والعشاء كما قدمنا عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف ، فلو كان الوقت خرج بالكلية لم يلزمها أن تصلي الظهر ولا المغرب للإجماع على أن الحائض لا تقضي ما فات وقته من الصلوات وهي حائض .
وقال النووي في " شرح المهذب " : قد ذكرنا أن الصحيح عندنا أنه يجب على المعذور الظهر بما تجب به العصر ، وبه قال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وفقهاء المدينة السبعة وأحمد وغيرهم .
وقال الحسن وحماد وقتادة والثوري وأبو حنيفة ومالك وداود : لا تجب عليه . اهـ . منه بلفظه ، ومالك يوجبها بقدر ما تصلى فيه الأولى من مشتركتي الوقت مع بقاء ركعة فهو أربع في المغرب والعشاء وخمس في الظهر والعصر للحاضر ، وثلاث للمسافر .
ابو وليد البحيرى
2020-09-12, 10:05 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (41)
سورة النساء (14)
وقال ابن قدامة في " المغني " : وروي هذا القول يعني إدراك الظهر مثلا بما [ ص: 301 ] تدرك به العصر في الحائض تطهر ، عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد والنخعي والزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور .
قال الإمام أحمد : عامة التابعين يقولون بهذا القول إلا الحسن وحده ، قال : لا تجب إلا الصلاة التي طهرت في وقتها وحدها ، إلى أن قال : ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما بإسنادهم عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة : تصلي المغرب والعشاء ، فإذا طهرت قبل أن تغرب الشمس صلت الظهر والعصر جميعا ; ولأن وقت الثانية وقت الأولى حال العذر فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها كما يلزمه فرض الثانية ، اهـ منه بلفظه مع حذف يسير ، وهو تصريح من هذا العالم الجليل الحنبلي بامتداد وقت الضرورة للمغرب إلى الفجر ، وللظهر إلى الغروب كقول مالك رحمه الله تعالى وأما أول وقت العشاء فقد أجمع المسلمون على أنه يدخل حين يغيب الشفق .
وفي حديث جابر وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل في بيان أول وقت العشاء ثم صلى العشاء حين غاب الشفق .
وفي حديث بريدة المتقدم عند مسلم وغيره ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق .
وفي حديث أبي موسى عند مسلم وغيره : ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا وهو أمر لا نزاع فيه .
فإذا علمت إجماع العلماء على أن أول وقت العشاء هو مغيب الشفق ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في الشفق ، فقال بعض العلماء : هو الحمرة ، وهو الحق .
وقال بعضهم : هو البياض الذي بعد الحمرة ، ومما يدل على أن الشفق هو الحمرة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الشفق الحمرة فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة " .
قال الدارقطني في " الغرائب " : هو غريب وكل رواته ثقات ، وقد أخرج ابن خزيمة في " صحيحه " عن عبد الله بن عمر مرفوعا : " ووقت صلاة المغرب إلى أن تذهب حمرة الشفق " الحديث .
قال ابن خزيمة : إن صحت هذه اللفظة أغنت عن غيرها من الروايات ، لكن تفرد بها محمد بن يزيد . [ ص: 302 ] قال ابن حجر في " التلخيص " : محمد بن يزيد هو الواسطي وهو صدوق ، وروى هذا الحديث ابن عساكر وصحح البيهقي وقفه على ابن عمر .
وقال الحاكم أيضا : إن رفعه غلط ، بل قال البيهقي : روي هذا الحديث عن عمر وعلي وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ، ولا يصح فيه شيء ولكن قد علمت أن الإسناد الذي رواه ابن خزيمة به في " صحيحه " ليس فيه مما يوجب تضعيفه إلا محمد بن يزيد ، وقد علمت أنه صدوق . ومما يدل على أن الحمرة الشفق ما رواه البيهقي في " سننه " عن النعمان بن بشير قال : " أنا أعلم الناس بوقت صلاة العشاء " كان - صلى الله عليه وسلم - يصليها لسقوط القمر لثالثة " لما حققه غير واحد من أن البياض لا يغيب إلا بعد ثلث الليل وسقوط القمر لثالثة الشهر قبل ذلك كما هو معلوم .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ومن حجج القائلين بأن الشفق الحمرة ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - : " أنه صلى العشاء لسقوط القمر لثالثة الشهر " أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي .
قال ابن العربي : وهو صحيح وصلى قبل غيبوبة الشفق .
قال ابن سيد الناس في " شرح الترمذي " : وقد علم كل من له علم بالمطالع والمغارب أن البياض لا يغيب إلا عند ثلث الليل الأول ، وهو الذي حد - صلى الله عليه وسلم - خروج أكثر الوقت به فصح يقينا أن وقتها داخل قبل ثلث الليل الأول بيقين ، فقد ثبت بالنص أنه داخل قبل مغيب الشفق الذي هو البياض فتبين بذلك يقينا أن الوقت دخل يقينا بالشفق الذي هو الحمرة . اهـ .
وابتداء وقت العشاء مغيب الشفق إجماعا لما تقدم في حديث جبريل وحديث التعليم ، وهذا الحديث وغير ذلك انتهى منه بلفظه ، وهو دليل واضح على أن الشفق الحمرة لا البياض ، وفي " القاموس " الشفق الحمرة ولم يذكر البياض .
وقال الخليل والفراء وغيرهما من أئمة اللغة : الشفق الحمرة وما روي عن الإمام أحمد رحمه الله من أن الشفق في السفر هو الحمرة وفي الحضر هو البياض الذي بعد الحمرة لا يخالف ما ذكرنا ; لأنه من تحقيق المناط لغيبوبة الحمرة التي هي الشفق عند أحمد وإيضاحه أن الإمام أحمد رحمه الله يقول : " الشفق هو الحمرة " والمسافر لأنه في الفلاة والمكان المتسع يعلم سقوط الحمرة ، أما الذي في الحضر فالأفق يستتر عنه بالجدران فيستظهر حتى يغيب البياض ليستدل بغيبوبته على مغيب [ ص: 303 ] الحمرة ، فاعتباره لغيبة البياض لدلالته على مغيب الحمرة لا لنفسه . اهـ . من " المغني " لابن قدامة .
وقال أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه : الشفق البياض الذي بعد الحمرة ، وقد علمت أن التحقيق أنه الحمرة ، وأما آخر وقت العشاء فقد جاء في بعض الروايات الصحيحة انتهاؤه عند ثلث الليل الأول ، وفي بعض الروايات الصحيحة نصف الليل ، وفي بعض الروايات الصحيحة ما يدل على امتداده إلى طلوع الفجر .
فمن الروايات بانتهائه إلى ثلث الليل ، ما أخرجه البخاري في " صحيحه " عن عائشة رضي الله عنها : " كانوا يصلون العشاء فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول " .
وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين في تعليم من سأل عن مواقيت الصلاة عند مسلم وغيره : " أنه - صلى الله عليه وسلم - في الليلة الأولى أقام العشاء حين غاب الشفق ، وفي الليلة الثانية أخره حتى كان ثلث الليل الأول ، ثم قال : الوقت فيما بين هذين " .
وفي حديث جابر ، وابن عباس المتقدمين في إمامة جبريل : " أنه في الليلة الأولى صلى العشاء حين مغيب الشفق ، وفي الليلة الثانية صلاها حين ذهب ثلث الليل الأول وقال : الوقت فيما بين هذين الوقتين " ، إلى غير ذلك من الروايات الدالة على انتهاء وقت العشاء عند ذهاب ثلث الليل الأول .
ومن الروايات الدالة على امتداده إلى نصف الليل ، ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه قال : " أخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء إلى نصف الليل ، ثم صلى ، ثم قال : قد صلى الناس وناموا أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها " . قال أنس : كأني أنظر إلى وبيص خاتمه ليلتئذ .
وفي حديث عبد الله بن عمرو المتقدم عند أحمد ، ومسلم ، والنسائي ، وأبي داود : " ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل " وفي بعض رواياته : " فإذا صليتم العشاء فإنه وقت إلى نصف الليل " .
ومن الروايات الدالة على امتداده إلى طلوع الفجر ما رواه أبو قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث طويل قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى " ، رواه مسلم في " صحيحه " .
واعلم أن عموم هذا الحديث مخصوص بإجماع المسلمين على أن وقت الصبح [ ص: 304 ] لا يمتد بعد طلوع الشمس إلى صلاة الظهر ، فلا وقت للصبح بعد طلوع الشمس إجماعا ، فإن قيل يمكن تخصيص حديث أبي قتادة هذا بالأحاديث الدالة على انتهاء وقت العشاء إلى نصف الليل .
فالجواب : أن الجمع ممكن ، وهو واجب إذا أمكن وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع أن التحديد بنصف الليل للوقت الاختياري والامتداد إلى الفجر للوقت الضروري .
ويدل لهذا : إطباق من ذكرنا سابقا من العلماء على أن الحائض إذا طهرت قبل الصبح بركعة صلت المغرب ، والعشاء ، ومن خالف من العلماء فيما ذكرنا سابقا ، إنما خالف في المغرب لا في العشاء ، مع أن الأثر الذي قدمنا في ذلك عن عبد الرحمن بن عوف ، وابن عباس لا يبعد أن يكون في حكم المرفوع ; لأن الموقوف الذي لا مجال للرأي فيه له حكم الرفع ، كما تقرر في علوم الحديث ، ومعلوم أن انتهاء أوقات العبادات كابتدائها لا مجال للرأي فيه ; لأنه تعبدي محض .
وبهذا تعرف وجه الجمع بين ما دل على انتهائه بنصف الليل ، وما دل على امتداده إلى الفجر ، ولكن يبقى الإشكال بين روايات الثلث وروايات النصف ، والظاهر في الجمع والله تعالى أعلم أنه جعل كل ما بين الثلث والنصف وهو السدس ظرفا لآخر وقت العشاء الاختياري .
وإذن فلآخره أول وآخر وإليه ذهب ابن سريج من الشافعية ، وعلى أن الجمع بهذا الوجه ليس بمقنع فليس هناك طريق إلا الترجيح بين الروايات . فبعض العلماء رجح روايات الثلث بأنها أحوط في المحافظة على الوقت المختار وبأنها محل وفاق لاتفاق الروايات على أن من صلى العشاء قبل الثلث فهو مؤد صلاته في وقتها الاختياري ، وبعضهم رجح روايات النصف بأنها زيادة صحيحة ، وزيادة العدل مقبولة .
وأما أول وقت صلاة الصبح فهو عند طلوع الفجر الصادق بإجماع المسلمين وهو الفجر الذي يحرم الطعام والشراب على الصائم .
وفي حديث أبي موسى ، وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : " وأمر بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر ، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا " الحديث .
وفي حديث جابر المتقدم ، في إمامة جبريل أيضا : " ثم صلى الفجر حين برق [ ص: 305 ] الفجر ، وحرم الطعام على الصائم " ، ومعلوم أن الفجر فجران كاذب وصادق ، فالكاذب لا يحرم الطعام على الصائم ، ولا تجوز به صلاة الصبح ، والصادق بخلاف ذلك فيهما ، وأما آخر وقت صلاة الصبح فقد جاء في بعض الروايات تحديده بالإسفار ، وجاء في بعضها امتداده إلى طلوع الشمس ، فمن الروايات الدالة على انتهائه بالإسفار ما في حديث جابر المذكور آنفا : " ثم جاءه حين أسفر جدا فقال : قم فصله فصلى الفجر " .
وفي حديث ابن عباس المتقدم آنفا : " ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض " الحديث . وهذا في بيانه لآخر وقت الصبح المختار في اليوم الثاني .
وفي حديث أبي موسى وبريدة المتقدمين عند مسلم وغيره : " ثم أخر الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت " .
ومن الروايات الدالة على امتداده إلى طلوع الشمس ما أخرجه مسلم في " صحيحه " وغيره من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : " ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس " .
وفي رواية لمسلم : " ووقت الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول " ، والظاهر في وجه الجمع بين هذه الروايات أن الوقت المنتهي إلى الإسفار هو وقت الصبح الاختياري ، والممتد إلى طلوع الشمس وقتها الضروري ، وهذا هو مشهور مذهب مالك .
وقال بعض المالكية : لا ضروري للصبح فوقتها كله إلى طلوع الشمس وقت اختيار ، وعليه فوجه الجمع هو ما قدمنا عن ابن سريج في الكلام على آخر وقت العشاء ، والعلم عند الله تعالى .
فهذا الذي ذكرنا هو تفصيل الأوقات الذي أجمل في قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ 4 ] ، وبين بعض البيان في قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية [ 17 \ 78 ] ، وقوله : وأقم الصلاة طرفي النهار الآية [ 11 \ 114 ] ، وقوله : فسبحان الله حين تمسون الآية [ 30 \ 17 ] ، والعلم عند الله تعالى .
ابو وليد البحيرى
2020-09-12, 10:11 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (42)
سورة النساء (15)
قوله تعالى : ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ، [ ص: 306 ] نهى الله تعالى المسلمين في هذه الآية الكريمة عن الوهن ، وهو الضعف في طلب أعدائهم الكافرين ، وأخبرهم بأنهم إن كانوا يجدون الألم من القتل والجراح فالكفار كذلك ، والمسلم يرجو من الله من الثواب والرحمة ما لا يرجوه الكافر ، فهو أحق بالصبر على الآلام منه ، وأوضح هذا المعنى في آيات متعددة كقوله : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [ 3 \ 139 \ 140 ] ، وكقوله : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم [ 47 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه ذكر في هذه الآية أن من فعل ذنبا فإنه إنما يضر به خصوص نفسه لا غيرها ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] ، وقوله : ومن أساء فعليها [ 41 \ 46 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أنه علم نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن يعلمه ، وبين في مواضع أخر أنه علمه ذلك عن طريق هذا القرآن العظيم الذي أنزله عليه ، كقوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الآية [ 42 \ 52 ] ، وقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من مناجاة الناس فيما بينهم لا خير فيه .
ونهى في موضع آخر عن التناجي بما لا خير فيه ، وبين أنه من الشيطان ليحزن به المؤمنين ، وهو قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ 58 \ 10 ، 9 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة : أو إصلاح بين الناس ، لم يبين هنا هل المراد بالناس المسلمون دون الكفار أو لا .
[ ص: 307 ] ولكنه أشار في مواضع أخر أن المراد بالناس المرغب في الإصلاح بينهم هنا المسلمون خاصة كقوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم [ 49 \ 10 ] ، وقوله : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما [ 49 \ 9 ] ، فتخصيصه المؤمنين بالذكر يدل على أن غيرهم ليس كذلك كما هو ظاهر ، وكقوله تعالى : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم [ 8 ] .
وقال بعض العلماء : إن الأمر بالمعروف المذكور في هذه الآية في قوله : إلا من أمر بصدقة أو معروف [ 4 \ 114 ] ، يبينه قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 1 ، 2 ، 3 ] ، وقوله : إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 38 ] ، والآية الأخيرة فيها أنها في الآخرة ، والأمر بالمعروف المذكور إنما هو في الدنيا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن يدعون إلا شيطانا مريدا المراد في هذه الآية بدعائهم الشيطان المريد عبادتهم له ، ونظيره قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] ، وقوله عن خليله إبراهيم مقررا له : ياأبت لا تعبد الشيطان [ 19 \ 44 ] ، وقوله عن الملائكة : بل كانوا يعبدون الجن الآية [ 34 \ 41 ] ، وقوله : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم [ 36 \ 137 ] ، ولم يبين في هذه الآيات ما وجه عبادتهم للشيطان ، ولكنه بين في آيات أخر أن معنى عبادتهم للشيطان إطاعتهم له واتباعهم لتشريعه وإيثاره على ما جاءت به الرسل من عند الله تعالى ، كقوله : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] ، وقوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] ، فإن عدي بن حاتم رضي الله عنه لما قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : كيف اتخذوهم أربابا ؟ قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم " ، وذلك هو معنى اتخاذهم إياهم أربابا . ويفهم من هذه الآيات بوضوح لا لبس فيه أن من اتبع تشريع الشيطان مؤثرا له على ما جاءت به الرسل ، فهو كافر بالله ، عابد للشيطان ، متخذ الشيطان ربا ، وإن سمى اتباعه للشيطان بما شاء من الأسماء ; لأن الحقائق لا تتغير بإطلاق الألفاظ عليها ، كما هو معلوم .
[ ص: 308 ] قوله تعالى : وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ، بين هنا فيما ذكر عن الشيطان كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض ، بقوله : ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله [ 4 \ 119 ] ، والمراد بتبتيك آذان الأنعام شق أذن البحيرة مثلا وقطعها ليكون ذلك سمة وعلامة لكونها بحيرة أو سائبة ، كما قاله قتادة والسدي وغيرهما ، وقد أبطله تعالى بقوله : ما جعل الله من بحيرة الآية [ 5 \ 103 ] ، والمراد ببحرها شق أذنها كما ذكرنا ، والتبتيك في اللغة : التقطيع ، ومنه قول زهير : [ البسيط ]
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها بتك
أي : قطع ، كما بين كيفية اتخاذه لهذا النصيب المفروض في آيات أخر كقوله : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 16 ] وقوله : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته الآية [ 17 \ 62 ] ، ولم يبين هنا هل هذا الظن الذي ظنه إبليس ببني آدم أنه يتخذ منهم نصيبا مفروضا وأنه يضلهم تحقق لإبليس أو لا ، ولكنه بين في آية أخرى أن ظنه هذا تحقق له ، وهي قوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه الآية [ 34 \ 20 ] ، ولم يبين هنا الفريق السالم من كونه من نصيب إبليس ، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 39 ، 40 ] وقوله : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] إلى غير ذلك من الآيات ولم يبين هنا هل نصيب إبليس هذا هو الأكثر أو لا ، ولكنه بين في مواضع أخر أنه هو الأكثر ، كقوله : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 13 \ 1 ] وقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] وقوله : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 16 \ 116 ] وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] . وقد ثبت في الصحيح أن نصيب الجنة واحد من الألف والباقي في النار .
قوله تعالى : ولآمرنهم فليغيرن خلق الله
قال بعض العلماء : معنى هذه الآية أن الشيطان يأمرهم بالكفر وتغيير فطرة [ ص: 309 ] الإسلام التي خلقهم الله عليها ، وهذا القول يبينه ويشهد له قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله [ 30 \ 30 ] ، إذ المعنى على التحقيق لا تبدلوا فطرة الله التي خلقكم عليها بالكفر . فقوله : لا تبديل لخلق الله ، خبر أريد به الإنشاء إيذانا بأنه لا ينبغي إلا أن يمتثل ، حتى كأنه خبر واقع بالفعل لا محالة ، ونظيره قوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق الآية [ 2 \ 197 ] ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ويشهد لهذا ما ثبت في " الصحيحين " من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تجدون فيها من جدعاء " ، وما رواه مسلم في " صحيحه " عن عياض بن حمار بن أبي حمار التميمي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .
وأما على القول بأن المراد في الآية بتغيير خلق الله خصاء الدواب ، والقول بأن المراد به الوشم ، فلا بيان في الآية المذكورة ، وبكل من الأقوال المذكورة قال جماعة من العلماء : وتفسير بعض العلماء لهذه الآية بأن المراد بها خصاء الدواب يدل على عدم جوازه ; لأنه مسوق في معرض الذم واتباع تشريع الشيطان ، أما خصاء بني آدم فهو حرام إجماعا ; لأنه مثلة وتعذيب وقطع عضو ، وقطع نسل من غير موجب شرعي ، ولا يخفى أن ذلك حرام .
وأما خصاء البهائم فرخص فيه جماعة من أهل العلم إذا قصدت به المنفعة إما لسمن أو غيره ، وجمهور العلماء على أنه لا بأس أن يضحى بالخصي ، واستحسنه بعضهم إذا كان أسمن من غيره ، ورخص في خصاء الخيل عمر بن عبد العزيز ، وخصى عروة بن الزبير بغلا له ، ورخص مالك في خصاء ذكور الغنم ، وإنما جاز ذلك ; لأنه لا يقصد به التقرب إلى غير الله ، وإنما يقصد به تطييب لحم ما يؤكل وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى ، ومنهم من كره ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون " . قاله القرطبي ، واختاره ابن المنذر قال : لأن ذلك ثابت عن ابن عمر وكان يقول هو : نماء خلق الله ، وكره ذلك عبد الملك بن مروان .
وقال الأوزاعي : كانوا يكرهون خصاء كل شيء له نسل .
[ ص: 310 ] وقال ابن المنذر : وفيه حديثان :
أحدهما : عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن خصاء الغنم والبقر والإبل والخيل " .
والآخر : حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن صبر الروح وخصاء البهائم " ، والذي في " الموطأ " من هذا الباب ما ذكره عن نافع عن ابن عمر أنه كان يكره الإخصاء ، ويقول : فيه تمام الخلق .
قال أبو عمر ، يعني في ترك الإخصاء : تمام الخلق ، وروي نماء الخلق .
قال القرطبي : بعد أن ساق هذا الكلام الذي ذكرنا : قلت : أسند أبو محمد عبد الغني من حديث عمر بن إسماعيل ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تخصوا ما ينمي خلق الله " رواه عن الدارقطني شيخه قال : حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا قراد ، حدثنا أبو مالك النخعي عن عمر بن إسماعيل فذكره .
قال الدارقطني : ورواه عبد الصمد بن النعمان عن أبي مالك . اهـ من القرطبي بلفظه ، وكذلك على القول بأن المراد بتغيير خلق الله الوشم ، فهو يدل أيضا على أن الوشم حرام .
وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله عز وجل ، يعني قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
وقالت طائفة من العلماء : المراد بتغيير خلق الله في هذه الآية هو أن الله تعالى خلق الشمس والقمر والأحجار والنار وغيرها من المخلوقات للاعتبار وللانتفاع بها ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة .
وقال الزجاج : إن الله تعالى خلق الأنعام لتركب وتؤكل ، فحرموها على أنفسهم وجعل الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ، فجعلوها آلهة يعبدونها ، فقد غيروا ما خلق الله .
ابو وليد البحيرى
2020-09-12, 10:20 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (43)
سورة النساء (16)
[ ص: 311 ] وما روي عن طاوس رحمه الله من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ، ويقول : هذا من قول الله تعالى : فليغيرن خلق الله [ 14 \ 119 ] ، فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله ، فقد دلت السنة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه - صلى الله عليه وسلم - نكاح مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان أبيض بظئره بركة أم أسامة ، وكانت حبشية سوداء ، ومن ذلك إنكاحه - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية وأسامة أسود ، وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة بن كلاب ، وقد سها طاوس رحمه الله مع علمه وجلالته عن هذا .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مالكا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلما إن لم يكن لها ولي خاص مجبر . قالوا : والسوداء دنية مطلقا ; لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء ، والحق أن السوداء قد تكون شريفة ، وقد تكون جميلة ، وقد قال بعض الأدباء : [ الوافر ]
وسوداء الأديم تريك وجها ترى ماء النعيم جرى عليه رآها ناظري فرنا إليها
وشكل الشيء منجذب إليه
وقال آخر : [ الوافر ]
ولي حبشية سلبت فؤادي ونفسي لا تتوق إلى سواها
كأن شروطها طرق ثلاث تسير بها النفوس إلى هواها
وقال آخر في سوداء : [ السريع ]
أشبهك المسك وأشبهته قائمة في لونه قاعده
لا شك إذ لونكما واحد أنكما من طينة واحده
وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة .
وقوله : ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام [ 4 \ 119 ] يدل على أن تقطيع آذان الأنعام لا يجوز وهو كذلك . أما قطع أذن البحيرة والسائبة تقربا بذلك للأصنام فهو كفر بالله إجماعا ، وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضا أنه لا يجوز ، ولذا أمرنا - صلى الله عليه وسلم - : " أن نستشرف العين ، والأذن ، ولا نضحي بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مدابرة ، [ ص: 312 ] ولا خرقاء ، ولا شرقاء " . أخرجه أحمد ، وأصحاب السنن الأربع ، والبزار ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه وصححه الترمذي ، وأعله الدارقطني ، والمقابلة المقطوعة طرف الأذن ، والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن ، والشرقاء مشقوقة الأذن طولا ، والخرقاء التي خرقت أذنها خرقا مستديرا ، فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء .
قال مالك والليث : المقطوعة الأذن لا تجزئ ، أو جل الأذن قاله القرطبي ، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر ، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن . فقال مالك ، والشافعي : لا تجزئ ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت ، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك ، وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند الشافعي ، وجماعة الفقهاء ، قاله القرطبي في تفسير هذه الآية ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب الآية ، لم يبين هنا شيئا من أمانيهم ، ولا من أماني أهل الكتاب ، ولكنه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أخر كقوله في أماني العرب الكاذبة : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله عنهم : إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله في أماني أهل الكتاب : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم الآية [ 2 \ 111 ] ، وقوله : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه الآية [ 5 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ، ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ، فأنزل الله : ليس بأمانيكم الآية [ 4 \ 123 ] ، لا ينافي ما ذكرنا ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب
قوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله في حال كونه محسنا ; لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي ، وصرح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد [ ص: 313 ] استمسك بالعروة الوثقى ، وهو قوله تعالى : ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 31 \ 22 ] ، ومعنى إسلام وجهه لله إطاعته وإذعانه ، وانقياده لله تعالى بامتثال أمره ، واجتناب نهيه في حال كونه محسنا ، أي : مخلصا عمله لله لا يشرك فيه به شيئا مراقبا فيه لله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فالله تعالى يراه ، والعرب تطلق إسلام الوجه ، وتريد به الإذعان والانقياد التام ، ومنه قول زيد بن نفيل العدوي : [ المتقارب ]
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
قوله تعالى : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الآية ، لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم في الكتاب ما هو ، ولكنه بينه في أول السورة وهو قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية [ 4 \ 3 ] ، كما قدمناه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقوله هنا : وما يتلى [ 4 \ 127 ] في محل رفع معطوفا على الفاعل الذي هو لفظ الجلالة ، وتقرير المعنى : قل الله يفتيكم فيهن [ 4 \ 127 ] ، أيضا : ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ، وذلك قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية ، ومضمون ما أفتى به هذا الذي يتلى علينا في الكتاب هو تحريم هضم حقوق اليتيمات فمن خاف أن لا يقسط في اليتيمة التي في حجره فيتركها ولينكح ما طاب له سواها ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية كما قدمنا ، وعليه فحرف الجر المحذوف في قوله : وترغبون أن تنكحوهن ، هو عن أي : ترغبون عن نكاحهن لقلة مالهن وجمالهن ، أي : كما أنكم ترغبون عن نكاحهن إن كن قليلات مال وجمال ، فلا يحل لكم نكاحهن إن كن ذوات مال وجمال إلا بالإقساط إليهن في حقوقهن ، كما تقدم عنعائشة رضي الله عنها .
وقال بعض العلماء : الحرف المحذوف هو " في " أي : ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن ، والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز محل اللفظ على حقيقته ومجازه معا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك : أغناني زيد وعطاؤه ، فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية ، وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها ، وكذلك إسناد الإفتاء إلى الله حقيقي ، وإسناده إلى ما يتلى [ ص: 314 ] مجاز عقلي عندهم لأنه سببه فيجوز جمعهما .
وقال بعض العلماء : إن قوله : وما يتلى عليكم ، في محل جر معطوفا على الضمير ، وعليه فتقرير المعنى : قل الله يفتيكم فيهن ويفتيكم فيما يتلى عليكم ، وهذا الوجه يضعفه أمران :
الأول : أن الغالب أن الله يفتي بما يتلى في هذا الكتاب ، ولا يفتي فيه لظهور أمره .
الثاني : أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية ، وأجازهابن مالك مستدلا بقراءة حمزة ، والأرحام بالخفض عطفا على الضمير من قوله : تساءلون به [ 4 \ 1 ] ، وبوروده في الشعر كقوله : [ البسيط ]
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
بجر الأيام عطفا على الكاف ونظيره قول الآخر : [ الطويل ]
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف
بجر الكعب معطوفا على الضمير قبله وقول الآخر : [ الطويل ]
وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا
فقوله : ولا الأرض بالجر معطوفا على الضمير وقول الآخر : [ الوافر ]
أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها
فسواها في محل جر بالعطف على الضمير .
وأجيب عن الآية بجواز كونها قسما ، والله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه ، كما أقسم بمخلوقاته كلها في قوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [ 69 \ 38 ، 39 ] ، وعن الأبيات بأنها شذوذ يحفظ ، ولا يقاس عليه وصحح ابن القيم جواز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، وجعل منه قوله تعالى : حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ 8 \ 64 ] ، فقال إن قوله : ومن في محل جر عطفا على الضمير المجرور في قوله : حسبك ، وتقرير المعنى عليه : حسبك الله ، [ ص: 315 ] أي : كافيك ، وكافي من اتبعك من المؤمنين ، وأجاز ابن القيم والقرطبي في قوله : ومن اتبعك ، أن يكون منصوبا معطوفا على المحل ; لأن الكاف مخفوض في محل نصب ونظيره قول الشاعر : [ الطويل ]
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
بنصب الضحاك كما ذكرنا ، وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين [ 15 \ 20 ] فقال : ومن عطف على ضمير الخطاب في قوله : لكم وتقرير المعنى عليه ، وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين فيها معايش ، وكذلك إعراب وما يتلى بأنه مبتدأ خبره محذوف أو خبره في الكتاب ، وإعرابه منصوبا على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره ، ويبين لكم ما يتلى ، وإعرابه مجرورا على أنه قسم ، كل ذلك غير ظاهر .
وقال بعض العلماء : إن المراد بقوله : وما يتلى عليكم في الكتاب [ 4 \ 127 ] ، آيات المواريث ; لأنهم كانوا لا يورثون النساء فاستفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فأنزل الله آيات المواريث .
وعلى هذا القول ، فالمبين لقوله : وما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله : يوصيكم الله في أولادكم الآيتين [ 4 \ 11 ] . وقوله في آخر السورة : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ 4 \ 176 ] ، والظاهر أن قول أم المؤمنين أصح وأظهر .
تنبيه
المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : وترغبون أن تنكحوهن [ 4 \ 127 ] ، أصله مجرور بحرف محذوف ، وقد قدمنا الخلاف هل هو " عن " ، وهو الأظهر ، أو هو " في " وبعد حذف حرف الجر المذكور فالمصدر في محل نصب على التحقيق ، وبه قال الكسائي والخليل : وهو الأقيس لضعف الجار عن العمل محذوفا .
وقال الأخفش : هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر : [ الطويل ]
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة إلي ولا دين بها أنا طالبه
بجر " دين " عطفا على محل " أن تكون " أي : لكونها حبيبة ولا لدين ، ورد أهل القول الأول الاحتجاج بالبيت بأنه من عطف التوهم ، كقول زهير : [ الطويل ]
ابو وليد البحيرى
2020-09-12, 10:22 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (43)
سورة النساء (16)
[ ص: 311 ] وما روي عن طاوس رحمه الله من أنه كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ولا بيضاء بأسود ، ويقول : هذا من قول الله تعالى : فليغيرن خلق الله [ 14 \ 119 ] ، فهو مردود بأن اللفظ وإن كان يحتمله ، فقد دلت السنة على أنه غير مراد بالآية فمن ذلك إنفاذه - صلى الله عليه وسلم - نكاح مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وكان أبيض بظئره بركة أم أسامة ، وكانت حبشية سوداء ، ومن ذلك إنكاحه - صلى الله عليه وسلم - أسامة بن زيد فاطمة بنت قيس وكانت بيضاء قرشية وأسامة أسود ، وكانت تحت بلال أخت عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة بن كلاب ، وقد سها طاوس رحمه الله مع علمه وجلالته عن هذا .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ويشبه قول طاوس هذا في هذه الآية ما قال بعض علماء المالكية من أن السوداء تزوج بولاية المسلمين العامة بناء على أن مالكا يجيز تزويج الدنية بولاية عامة مسلما إن لم يكن لها ولي خاص مجبر . قالوا : والسوداء دنية مطلقا ; لأن السواد شوه في الخلقة وهذا القول مردود عند المحققين من العلماء ، والحق أن السوداء قد تكون شريفة ، وقد تكون جميلة ، وقد قال بعض الأدباء : [ الوافر ]
وسوداء الأديم تريك وجها ترى ماء النعيم جرى عليه رآها ناظري فرنا إليها
وشكل الشيء منجذب إليه
وقال آخر : [ الوافر ]
ولي حبشية سلبت فؤادي ونفسي لا تتوق إلى سواها
كأن شروطها طرق ثلاث تسير بها النفوس إلى هواها
وقال آخر في سوداء : [ السريع ]
أشبهك المسك وأشبهته قائمة في لونه قاعده
لا شك إذ لونكما واحد أنكما من طينة واحده
وأمثاله في كلام الأدباء كثيرة .
وقوله : ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام [ 4 \ 119 ] يدل على أن تقطيع آذان الأنعام لا يجوز وهو كذلك . أما قطع أذن البحيرة والسائبة تقربا بذلك للأصنام فهو كفر بالله إجماعا ، وأما تقطيع آذان البهائم لغير ذلك فالظاهر أيضا أنه لا يجوز ، ولذا أمرنا - صلى الله عليه وسلم - : " أن نستشرف العين ، والأذن ، ولا نضحي بعوراء ، ولا مقابلة ، ولا مدابرة ، [ ص: 312 ] ولا خرقاء ، ولا شرقاء " . أخرجه أحمد ، وأصحاب السنن الأربع ، والبزار ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي من حديث علي رضي الله عنه وصححه الترمذي ، وأعله الدارقطني ، والمقابلة المقطوعة طرف الأذن ، والمدابرة المقطوعة مؤخر الأذن ، والشرقاء مشقوقة الأذن طولا ، والخرقاء التي خرقت أذنها خرقا مستديرا ، فالعيب في الأذن مراعى عند جماعة العلماء .
قال مالك والليث : المقطوعة الأذن لا تجزئ ، أو جل الأذن قاله القرطبي ، والمعروف من مشهور مذهب مالك أن الذي يمنع الإجزاء قطع ثلث الأذن فما فوقه لا ما دونه فلا يضر ، وإن كانت سكاء وهي التي خلقت بلا أذن . فقال مالك ، والشافعي : لا تجزئ ، وإن كانت صغيرة الأذن أجزأت ، وروي عن أبي حنيفة مثل ذلك ، وإن كانت مشقوقة الأذن للميسم أجزأت عند الشافعي ، وجماعة الفقهاء ، قاله القرطبي في تفسير هذه الآية ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب الآية ، لم يبين هنا شيئا من أمانيهم ، ولا من أماني أهل الكتاب ، ولكنه أشار إلى بعض ذلك في مواضع أخر كقوله في أماني العرب الكاذبة : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله عنهم : إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله في أماني أهل الكتاب : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم الآية [ 2 \ 111 ] ، وقوله : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه الآية [ 5 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وما ذكره بعض العلماء من أن سبب نزول الآية أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ، ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله ، فأنزل الله : ليس بأمانيكم الآية [ 4 \ 123 ] ، لا ينافي ما ذكرنا ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب
قوله تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله في حال كونه محسنا ; لأن استفهام الإنكار مضمن معنى النفي ، وصرح في موضع آخر أن من كان كذلك فقد [ ص: 313 ] استمسك بالعروة الوثقى ، وهو قوله تعالى : ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 31 \ 22 ] ، ومعنى إسلام وجهه لله إطاعته وإذعانه ، وانقياده لله تعالى بامتثال أمره ، واجتناب نهيه في حال كونه محسنا ، أي : مخلصا عمله لله لا يشرك فيه به شيئا مراقبا فيه لله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فالله تعالى يراه ، والعرب تطلق إسلام الوجه ، وتريد به الإذعان والانقياد التام ، ومنه قول زيد بن نفيل العدوي : [ المتقارب ]
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تحمل عذبا زلالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الأرض تحمل صخرا ثقالا
قوله تعالى : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء الآية ، لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم في الكتاب ما هو ، ولكنه بينه في أول السورة وهو قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية [ 4 \ 3 ] ، كما قدمناه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقوله هنا : وما يتلى [ 4 \ 127 ] في محل رفع معطوفا على الفاعل الذي هو لفظ الجلالة ، وتقرير المعنى : قل الله يفتيكم فيهن [ 4 \ 127 ] ، أيضا : ما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء ، وذلك قوله تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية ، ومضمون ما أفتى به هذا الذي يتلى علينا في الكتاب هو تحريم هضم حقوق اليتيمات فمن خاف أن لا يقسط في اليتيمة التي في حجره فيتركها ولينكح ما طاب له سواها ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية كما قدمنا ، وعليه فحرف الجر المحذوف في قوله : وترغبون أن تنكحوهن ، هو عن أي : ترغبون عن نكاحهن لقلة مالهن وجمالهن ، أي : كما أنكم ترغبون عن نكاحهن إن كن قليلات مال وجمال ، فلا يحل لكم نكاحهن إن كن ذوات مال وجمال إلا بالإقساط إليهن في حقوقهن ، كما تقدم عنعائشة رضي الله عنها .
وقال بعض العلماء : الحرف المحذوف هو " في " أي : ترغبون في نكاحهن إن كن متصفات بالجمال وكثرة المال مع أنكم لا تقسطون فيهن ، والذين قالوا بالمجاز واختلفوا في جواز محل اللفظ على حقيقته ومجازه معا أجازوا ذلك في المجاز العقلي كقولك : أغناني زيد وعطاؤه ، فإسناد الإغناء إلى زيد حقيقة عقلية ، وإسناده إلى العطاء مجاز عقلي فجاز جمعها ، وكذلك إسناد الإفتاء إلى الله حقيقي ، وإسناده إلى ما يتلى [ ص: 314 ] مجاز عقلي عندهم لأنه سببه فيجوز جمعهما .
وقال بعض العلماء : إن قوله : وما يتلى عليكم ، في محل جر معطوفا على الضمير ، وعليه فتقرير المعنى : قل الله يفتيكم فيهن ويفتيكم فيما يتلى عليكم ، وهذا الوجه يضعفه أمران :
الأول : أن الغالب أن الله يفتي بما يتلى في هذا الكتاب ، ولا يفتي فيه لظهور أمره .
الثاني : أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ضعفه غير واحد من علماء العربية ، وأجازهابن مالك مستدلا بقراءة حمزة ، والأرحام بالخفض عطفا على الضمير من قوله : تساءلون به [ 4 \ 1 ] ، وبوروده في الشعر كقوله : [ البسيط ]
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
بجر الأيام عطفا على الكاف ونظيره قول الآخر : [ الطويل ]
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف
بجر الكعب معطوفا على الضمير قبله وقول الآخر : [ الطويل ]
وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا
فقوله : ولا الأرض بالجر معطوفا على الضمير وقول الآخر : [ الوافر ]
أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها
فسواها في محل جر بالعطف على الضمير .
وأجيب عن الآية بجواز كونها قسما ، والله تعالى له أن يقسم بما شاء من خلقه ، كما أقسم بمخلوقاته كلها في قوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [ 69 \ 38 ، 39 ] ، وعن الأبيات بأنها شذوذ يحفظ ، ولا يقاس عليه وصحح ابن القيم جواز العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، وجعل منه قوله تعالى : حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ 8 \ 64 ] ، فقال إن قوله : ومن في محل جر عطفا على الضمير المجرور في قوله : حسبك ، وتقرير المعنى عليه : حسبك الله ، [ ص: 315 ] أي : كافيك ، وكافي من اتبعك من المؤمنين ، وأجاز ابن القيم والقرطبي في قوله : ومن اتبعك ، أن يكون منصوبا معطوفا على المحل ; لأن الكاف مخفوض في محل نصب ونظيره قول الشاعر : [ الطويل ]
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا فحسبك والضحاك سيف مهند
بنصب الضحاك كما ذكرنا ، وجعل بعض العلماء منه قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين [ 15 \ 20 ] فقال : ومن عطف على ضمير الخطاب في قوله : لكم وتقرير المعنى عليه ، وجعلنا لكم ولمن لستم له برازقين فيها معايش ، وكذلك إعراب وما يتلى بأنه مبتدأ خبره محذوف أو خبره في الكتاب ، وإعرابه منصوبا على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره ، ويبين لكم ما يتلى ، وإعرابه مجرورا على أنه قسم ، كل ذلك غير ظاهر .
وقال بعض العلماء : إن المراد بقوله : وما يتلى عليكم في الكتاب [ 4 \ 127 ] ، آيات المواريث ; لأنهم كانوا لا يورثون النساء فاستفتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، فأنزل الله آيات المواريث .
وعلى هذا القول ، فالمبين لقوله : وما يتلى عليكم في الكتاب هو قوله : يوصيكم الله في أولادكم الآيتين [ 4 \ 11 ] . وقوله في آخر السورة : يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ 4 \ 176 ] ، والظاهر أن قول أم المؤمنين أصح وأظهر .
تنبيه
المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : وترغبون أن تنكحوهن [ 4 \ 127 ] ، أصله مجرور بحرف محذوف ، وقد قدمنا الخلاف هل هو " عن " ، وهو الأظهر ، أو هو " في " وبعد حذف حرف الجر المذكور فالمصدر في محل نصب على التحقيق ، وبه قال الكسائي والخليل : وهو الأقيس لضعف الجار عن العمل محذوفا .
وقال الأخفش : هو في محل جر بالحرف المحذوف بدليل قول الشاعر : [ الطويل ]
وما زرت ليلى أن تكون حبيبة إلي ولا دين بها أنا طالبه
بجر " دين " عطفا على محل " أن تكون " أي : لكونها حبيبة ولا لدين ، ورد أهل القول الأول الاحتجاج بالبيت بأنه من عطف التوهم ، كقول زهير : [ الطويل ]
ابو وليد البحيرى
2020-09-12, 10:32 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (44)
سورة النساء (17)
[ ص: 316 ]
بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
بجر " سابق " لتوهم دخول الباء على المعطوف عليه الذي هو خبر ليس ، وقول الآخر : [ الطويل ]
مشائم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها
واعلم أن حرف الجر لا يطرد حذفه إلا في المصدر المنسبك من ، " أن " ، بجر " ناعب " لتوهم الباء وأجاز سيبويه الوجهين . وصلتهما عند الجمهور خلافا لعلي بن سليمان الأخفش القائل بأنه مطرد في كل شيء عند أمن اللبس ، وعقده ابن مالك في " الكافية " بقوله : [ الرجز ]
وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى
وإذا حذف حرف الجر مع غير " أن " وأن نقلا على مذهب الجمهور ، وقياسا عند أمن اللبس في قول الأخفش فالنصب متعين ، والناصب عند البصريين الفعل ، وعند الكوفيين نزع الخافض كقوله : [ الوافر ]
تمرون الديار ولن تعوجوا كلامكم علي إذن حرام
وبقاؤه مجرورا مع حذف الحرف شاذ ، كقول الفرزدق : [ الطويل ]
إذا قيل أي الناس شر قبيلة أشارت كليب بالأكف الأصابع
أي : أشارت الأصابع بالأكف ، أي : مع الأكف إلى كليب .
وقوله تعالى : وأن تقوموا لليتامى بالقسط الآية ، القسط : العدل ، ولم يبين هنا هذا القسط الذي أمر به لليتامى ، ولكنه أشار له في مواضع أخر كقوله : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ 6 \ 152 ] ، وقوله : قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح [ 2 \ 220 ] ، وقوله : فأما اليتيم فلا تقهر [ 93 \ 9 ] ، وقوله : وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى الآية [ 2 \ 177 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، فكل ذلك فيه القيام بالقسط لليتامى .
قوله تعالى : وأحضرت الأنفس الشح الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الأنفس أحضرت الشح ، أي : جعل شيئا حاضرا لها كأنه ملازم لها لا يفارقها ; لأنها جبلت عليه .
[ ص: 217 ] وأشار في موضع آخر أنه لا يفلح أحد إلا إذا وقاه الله شح نفسه وهو قوله تعالى : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ 59 \ 9 ] ، ومفهوم الشرط أن من لم يوق شح نفسه لم يفلح وهو كذلك ، وقيده بعض العلماء بالشح المؤدي إلى منع الحقوق التي يلزمها الشرع ، أو تقتضيها المروءة ، وإذا بلغ الشح إلى ذلك ، فهو بخل وهو رذيلة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم ، هذا العدل الذي ذكر تعالى هنا أنه لا يستطاع هو العدل في المحبة ، والميل الطبيعي ; لأنه ليس تحت قدرة البشر بخلاف العدل في الحقوق الشرعية فإنه مستطاع ، وقد أشار تعالى إلى هذا بقوله : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا [ 4 \ 3 ] ، أي : تجوروا في الحقوق الشرعية ، والعرب تقول : عال يعول إذا جار ومال ، وهو عائل ، ومنه قول أبي طالب : [ الطويل ]
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
أي : غير مائل ولا جائر ، ومنه قول الآخر : [ البسيط ]
قالوا تبعنا رسول الله واطرحوا قول الرسول وعالوا في الموازين
أي : جاروا ، وقول الآخر : [ الوافر ]
ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد عال الزمان على عيالي
أي : جار ومال ، أما قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري : [ الوافر ]
وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل
وقول جرير : [ الكامل ]
الله نزل في الكتاب فريضة لابن السبيل وللفقير العائل
وقوله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى [ 93 \ 8 ] ، فكل ذلك من العيلة ، وهي الفقر ، ومنه قوله تعالى : وإن خفتم عيلة الآية [ 9 \ 28 ] ، فعال التي بمعنى جار واوية العين ، والتي بمعنى افتقر يائية العين .
وقال الشافعي رحمه الله : معنى قوله : ألا تعولوا [ 4 \ 3 ] ، أي : يكثر عيالكم [ ص: 318 ] من عال الرجل يعول إذا كثر عياله ، وقول بعضهم : إن هذا لا يصح وإن المسموع أعال الرجل بصيغة الرباعي على وزن أفعل ، فهو معيل إذا كثر عياله فلا وجه له ; لأن الشافعي من أدرى الناس باللغة العربية ، ولأن عال بمعنى كثر عياله لغة حمير ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وإن أمشى وعالا
يعني : وإن كثرت ماشيته وعياله ، وقرأ الآية طلحة بن مصرف ألا تعيلوا وبضم التاء من أعال إذا كثر عياله على اللغة المشهورة .
قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ذكر في هذه الآية الكريمة أن الزوجين إن افترقا أغنى الله كل واحد منهما من سعته وفضله الواسع ، وربط بين الأمرين بأن جعل أحدهما شرطا والآخر جزاء .
وقد ذكر أيضا أن النكاح سبب للغنى ، بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله [ 24 \ 32 ] .
قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه إن شاء أذهب الناس الموجودين وقت نزولها ، وأتى بغيرهم بدلا منهم ، وأقام الدليل على ذلك في موضع آخر ، وذلك الدليل هو أنه أذهب من كان قبلهم وجاء بهم بدلا منهم ، وهو قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133 ] .
وذكر في موضع آخر أنهم إن تولوا أبدل غيرهم وأن أولئك المبدلين لا يكونون مثل المبدل منهم بل يكونون خيرا منهم ، وهو قوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ 47 \ 38 ] .
وذكر في موضع آخر أن ذلك هين عليه غير صعب ، وهو قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [ 14 \ 19 ، 20 ] ، أي : ليس بممتنع ولا صعب .
قوله تعالى : أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن جميع العزة له جل وعلا .
[ ص: 319 ] وبين في موضع آخر أن العزة التي هي له وحده أعز بها رسوله ، والمؤمنين ، وهو قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ 63 \ 8 ] ، أي : وذلك بإعزاز الله لهم والعزة الغلبة ، ومنه قوله تعالى : وعزني في الخطاب [ 38 \ 23 ] ، أي : غلبني في الخصام ، ومن كلام العرب من عز بز يعنون من غلب استلب ، ومنه قول الخنساء : [ المتقارب ]
كأن لم يكونوا حمى يختشى إذ الناس إذ ذاك من عز بزا
قوله تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ، هذا المنزل الذي أحال عليه هنا هو المذكور في سورة " الأنعام " ، في قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره [ 6 \ 68 ] ، وقوله هنا : فلا تقعدوا معهم ، لم يبين فيه حكم ما إذا نسوا النهي حتى قعدوا معهم ، ولكنه بينه في " الأنعام " بقوله : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] .
قوله تعالى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ، في معنى هذه الآية أوجه للعلماء :
منها : أن المعنى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين يوم القيامة سبيلا ، وهذا مروي عن علي بن أبي طالب ، وابن عباس رضي الله عنهم ويشهد له قوله في أول الآية : فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين الآية [ 4 \ 141 ] ، وهو ظاهر . قال ابن عطية : وبه قال جميع أهل التأويل ، كما نقله عنه القرطبي ، وضعفه ابن العربي زاعما أن آخر الآية غير مردود إلى أولها .
ومنها : أن المراد بأنه لا يجعل لهم على المؤمنين سبيلا ، يمحو به دولة المسلمين ويستأصلهم ويستبيح بيضتهم ، كما ثبت في " صحيح مسلم " وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ثوبان ، أنه قال : " وإني سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة بعامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، وإن الله قد أعطاني لأمتي ذلك حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، ويسبي بعضهم بعضا " ، ويدل لهذا الوجه آيات كثيرة كقوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، [ ص: 320 ] وقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا [ 24 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومنها : أن المعنى أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم ، كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ 42 \ 30 ] .
قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا وهو راجع في المعنى إلى الأول ; لأنهم منصورون لو أطاعوا ، والبلية جاءتهم من قبل أنفسهم في الأمرين .
ومنها : أنه لا يجعل لهم عليهم سبيلا شرعا ، فإن وجد فهو بخلاف الشرع .
ومنها : أن المراد بالسبيل الحجة ، أي : ولن يجعل لهم عليهم حجة ، ويبينه قوله تعالى : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا [ 25 \ 33 ] ، وأخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة منع دوام ملك الكافر للعبد المسلم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ، بين في هذه الآية الكريمة صفة صلاة المنافقين بأنهم يقومون إليها في كسل ورياء ، ولا يذكرون الله فيها إلا قليلا ، ونظيرها في ذمهم على التهاون بالصلاة ، قوله تعالى : ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى الآية [ 9 \ 54 ] ، وقوله : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الآية [ 107 \ 4 ] ، ويفهم من مفهوم مخالفة هذه الآيات أن صلاة المؤمنين المخلصين ليست كذلك ، وهذا المفهوم صرح به تعالى في آيات كثيرة بقوله : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [ 23 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : والذين هم على صلواتهم يحافظون [ 23 \ 9 ] ، وقوله : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة الآية [ 24 \ 37 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ابو وليد البحيرى
2020-09-12, 10:41 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (45)
سورة النساء (18)
قوله تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين في أسفل طبقات النار ، عياذا بالله تعالى .
[ ص: 321 ] وذكر في موضع آخر أن آل فرعون يوم القيامة يؤمر بإدخالهم أشد العذاب ، وهو قوله : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] .
وذكر في موضع آخر أنه يعذب من كفر من أصحاب المائدة عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، وهو قوله تعالى : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وذكر في موضع آخر أنه يعذب من كفر من أصحاب المائدة عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين ، وهو قوله تعالى : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين
[ 5 \ 115 ] ، فهذه الآيات تبين أن أشد أهل النار عذابا المنافقون وآل فرعون ومن كفر من أصحاب المائدة ، كما قاله ابن عمر رضي الله عنهما والدرك بفتح الراء وإسكانها ، لغتان معروفتان وقراءتان سبعيتان .
قوله تعالى : ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك الآية ، لم يبين هنا سبب عفوه عنهم ذنب اتخاذ العجل إلها ، ولكنه بينه في سورة " البقرة " بقوله : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 54 ] .
قوله تعالى : وقلنا لهم لا تعدوا في السبت الآية ، لم يبين هنا هل امتثلوا هذا الأمر ، فتركوا العدوان في السبت أو لا ، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم لم يمتثلوا وأنهم اعتدوا في السبت ، كقوله تعالى : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت الآية [ 2 \ 65 ] ، وقوله : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت الآية [ 7 \ 163 ] .
قوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ، لم يبين هنا هذا البهتان العظيم الذي قالوه على الصديقة مريم العذراء ، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أنه رميهم لها بالفاحشة ، وأنها جاءت بولد لغير رشدة في زعمهم الباطل لعنهم الله وذلك في قوله : فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون ارتكاب الفاحشة ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، أي : زانية ، فكيف تفجرين ووالداك ليسا كذلك ، وفي القصة أنهم رموها بيوسف النجار وكان من الصالحين ، والبهتان أشد الكذب الذي يتعجب منه .
قوله تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الآية ، لم يبين هنا ما هذه الطيبات التي حرمها عليهم بسبب ظلمهم ، ولكنه بينها في سورة " الأنعام " [ ص: 322 ] بقوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون [ 6 \ 146 ] .
قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية ، لم يبين هنا ما هذه الحجة التي كانت تكون للناس عليه لو عذبهم دون إنذارهم على ألسنة الرسل ، ولكنه بينها في سورة " طه " بقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ 20 \ 134 ] ، وأشار لها في سورة " القصص " بقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] .
قوله تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق ، هذا الغلو الذي نهوا عنه هو وقول غير الحق هو قول بعضهم : إن عيسى ابن الله ، وقول بعضهم : هو الله ، وقول بعضهم : هو إله مع الله سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا ، كما بينه قوله تعالى : وقالت النصارى المسيح ابن الله [ 9 \ 30 ] ، وقوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [ 5 \ 17 ] ، وقوله : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [ 5 \ 73 ] ، وأشار هنا إلى إبطال هذه المفتريات بقوله : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم الآية [ 4 \ 171 ] ، وقوله : لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله الآية [ 4 \ 172 ] ، وقوله : ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام [ 5 \ 75 ] ، وقوله : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] .
وقال بعض العلماء : يدخل في الغلو وغير الحق المنهي عنه في هذه الآية ما قالوا من البهتان على مريم أيضا ، واعتمده القرطبي وعليه فيكون الغلو المنهي عنه شاملا للتفريط والإفراط .
وقد قرر العلماء أن الحق واسطة بين التفريط والإفراط ، وهو معنى قول مطرف بن عبد الله : الحسنة بين سيئتين وبه تعلم أن من جانب التفريط والإفراط فقد اهتدى ، [ ص: 323 ] ولقد أجاد من قال : [ الطويل ]
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ، وقولوا عبد الله ورسوله " .
قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، ليست لفظة " من " في هذه الآية للتبعيض ، كما يزعمه النصارى افتراء على الله ، ولكن " من " هنا لابتداء الغاية ، يعني : أن مبدأ ذلك الروح الذي ولد به عيسى حيا من الله تعالى ; لأنه هو الذي أحياه به ، ويدل على أن من هنا لابتداء الغاية .
قوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، أي : كائنا مبدأ ذلك كله منه جل وعلا ويدل لما ذكرنا ما روي عن أبي بن كعب ، أنه قال : " خلق الله أرواح بني آدم لما أخذ عليهم الميثاق ، ثم ردها إلى صلب آدم ، وأمسك عنده روح عيسى عليه الصلاة والسلام " ; فلما أراد خلقه أرسل ذلك الروح إلى مريم ، فكان منه عيسى عليه السلام ، وهذه الإضافة للتفضيل ; لأن جميع الأرواح من خلقه جل وعلا ، كقوله : وطهر بيتي للطائفين [ 22 \ 26 ] ، وقوله : ناقة الله الآية [ 91 \ 13 ] . وقيل : قد يسمى من تظهر منه الأشياء العجيبة روحا ويضاف إلى الله ، فيقال : هذا روح من الله ، أي : من خلقه ، وكان عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، فاستحق هذا الاسم ، وقيل : سمي روحا بسبب نفخة جبريل عليه السلام المذكورة في سورة " الأنبياء " " والتحريم " ، والعرب تسمي النفخ روحا ; لأنه ريح تخرج من الروح ، ومنه قول ذي الرمة : [ الطويل ]
فقلت له : ارفعها إليك وأحيها بروحك واقتته لها قيتة قدرا
وعلى هذا القول ، فقوله : وروح معطوف على الضمير العائد إلى الله الذي هو فاعل ألقاها ، قاله القرطبي ، والله تعالى أعلم .
وقال بعض العلماء : وروح منه ، أي : رحمة منه ، وكان عيسى رحمة من الله لمن اتبعه ، قيل ومنه : وأيدهم بروح منه [ 8 \ 22 ] ، أي : برحمة منه ، حكاه القرطبي أيضا ، وقيل ، روح منه ، أي : برهان منه وكان عيسى برهانا وحجة على [ ص: 324 ] قومه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأنزلنا إليكم نورا مبينا المراد بهذا النور المبين القرآن العظيم ; لأنه يزيل ظلمات الجهل والشك كما يزيل النور الحسي ظلمة الليل ، وقد أوضح تعالى ذلك بقوله : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا الآية [ 42 \ 52 ] ، وقوله : واتبعوا النور الذي أنزل معه [ 7 \ 157 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك الآية ، صرح في هذه الآية الكريمة بأن الأختين يرثان الثلثين ، والمراد بهما الأختان لغير أم ، بأن تكونا شقيقتين أو لأب بإجماع العلماء ، ولم يبين هنا ميراث الثلاث من الأخوات فصاعدا ، ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن الأخوات لا يزدن على الثلثين ، ولو بلغ عددهن ما بلغ ، وهو قوله تعالى في البنات : فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك [ 4 \ 11 ] ، ومعلوم أن البنات أمس رحما ، وأقوى سببا في الميراث من الأخوات ، فإذا كن لا يزدن على الثلثين ولو كثرن فكذلك الأخوات من باب أولى ، وأكثر علماء الأصول على أن فحوى الخطاب ، أعني : مفهوم الموافقة ، الذي المسكوت فيه أولى بالحكم من المنطوق ، من قبيل دلالة اللفظ ، لا من قبيل القياس ، خلافا للشافعي وقوم ، وكذلك المساوئ على التحقيق ، فقوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ، يفهم منه من باب أولى حرمة ضربهما ، وقوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية [ 99 \ 7 ] ، يفهم منه من باب أولى أن من عمل مثقال جبل يراه من خير وشر ، وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] ، يفهم منه من باب أولى قبول شهادة الثلاثة والأربعة مثلا من العدول ، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء ، يفهم منه من باب أولى النهي عن التضحية بالعمياء ، وكذلك في المساوئ ، فتحريم أكل مال اليتيم يفهم منه بالمساواة منع إحراقه وإغراقه ، ونهيه - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الراكد ، يفهم منه كذلك أيضا النهي عن البول في إناء وصبه فيه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من أعتق شركا له في عبد " الحديث . يفهم منه كذلك أن الأمة كذلك ، ولا نزاع في هذا عند جماهير العلماء ، وإنما خالف فيه بعض الظاهرية .
ومعلوم أن خلافهم في مثل هذا ، لا أثر له ، وبذلك تعلم أنه تعالى لما صرح بأن [ ص: 325 ] البنات وإن كثرن ليس لهن غير الثلثين ، علم أن الأخوات كذلك من باب أولى ، والعلم عند الله تعالى .
ابو وليد البحيرى
2020-09-20, 12:15 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (46)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (1)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[ ص: 326 ]
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَا هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْهِمُ الْمُسْتَثْنَى مِنْ حِلِّيَّةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ; وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [ 5 \ 3 ] ، إِلَى قَوْلِهِ : وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ، فَالْمَذْكُورَا تُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَالْمَوْقُوذَة ِ وَالْمُتَرَدِّي َةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْأَنْعَامِ ; فَإِنَّهَا تَحْرُمُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الْأَزْوَاجُ الثَّمَانِيَةُ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِبَاحَةِ أَكْلِ الْجَنِينِ إِذَا ذُكِّيَتْ أَمُّهُ وَوُجِدَ فِي بَطْنِهَا مَيِّتًا .
وَجَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَنَّ ذَكَاةَ أُمِّهِ ذَكَاةٌ لَهُ " كَمَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : إِنَّهُ حَسَنٌ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ، يَعْنِي إِنَّ شِئْتُمْ ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا الْأَمْرُ عَلَى إِيجَابِ الِاصْطِيَادِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ ، وَيَدُلُّ لَهُ الِاسْتِقْرَاءُ فِي الْقُرْآنِ ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ جَائِزًا ، ثُمَّ حُرِّمَ لِمُوجِبٍ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ الْمُوجِبِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ كُلَّهُ فِي الْقُرْآنِ لِلْجَوَازِ ، نَحْوَ قَوْلِهِ هُنَا : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ، وَقَوْلِهِ : فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [ 62 \ 10 ] ، وَقَوْلِهِ : فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 187 ] ، وَقَوْلِهِ : فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 222 ] .
وَلَا يُنْقَضُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [ 9 \ 5 ] ; لِأَنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ تَحْرِيمِهِ الْعَارِضِ بِسَبَبِ الْأَشْهُرِ الْأَرْبَعَةِ سَوَاءٌ قُلْنَا : إِنَّهَا أَشْهُرُ الْإِمْهَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [ 9 \ 2 ] ، أَوْ [ ص: 327 ] قُلْنَا : إِنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [ 9 \ 36 ] .
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِهِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ مِنْ إِبَاحَةٍ أَوْ وُجُوبٍ ، فَالصَّيْدُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَانَ جَائِزًا فَمُنِعَ لِلْإِحْرَامِ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ الْإِحْلَالِ بِقَوْلِهِ : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ، فَيَرْجِعُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ الْجَوَازُ ، وَقَتْلُ الْمُشْرِكِينَ كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ دُخُولِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، فَمُنِعَ مِنْ أَجْلِهَا ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا فِي قَوْلِهِ : فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْآيَةَ ، فَيَرْجِعُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ الْوُجُوبُ .
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُصُولِيَّةِ .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : وَهَذَا أَمْرٌ بَعْدَ الْحَظْرِ ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَى السَّبْرِ أَنَّهُ يُرَدُّ الْحُكْمُ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ النَّهْيِ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا رَدَّهُ ، فَوَاجِبٌ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا فَمُسْتَحَبٌّ ، أَوْ مُبَاحًا فَمُبَاحٌ .
وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لِلْوُجُوبِ يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; وَمَنْ قَالَ : إِنَّهُ لِلْإِبَاحَةِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِآيَاتٍ أُخْرَى ، وَالَّذِي يَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةَ كُلَّهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَمَا اخْتَارَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَقْوَالٌ أُخَرُ عَقَدَهَا فِي ( مَرَاقِي السُّعُودِ ) بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ بَعْدَ الْحَظْلِ وَبَعْدَ سُؤَالٍ قَدْ أَتَى لِلْأَصْلِ
أَوْ يَقْتَضِي إِبَاحَةً لِلْأَغْلَبِ إِذَا تَعَلَّقَ بِمِثْلِ السَّبَبِ
إِلَّا فَذَا الْمَذْهَبُ وَالْكَثِيرُ لَهُ إِلَى إِيجَابِهِ مَصِيرُ
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ ، وَغَيْرُ التَّامِّ الْمَعْرُوفُ بِـ " إِلْحَاقِ الْفَرْدِ بِالْأَغْلَبِ " حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ ، كَمَا عَقَدَهُ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي كِتَابِ " الِاسْتِدْلَالِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
وَمِنْهُ الِاسْتِقْرَاءُ بِالْجُزْئِيِّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْكُلِّيِّ
فَإِنْ يَعُمَّ غَيْرَ ذِي الشِّقَاقِ فَهُوَ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ
وَهُوَ فِي الْبَعْضِ إِلَى الظَّنِّ انْتَسَبْ يُسَمَّى لُحُوقَ الْفَرْدِ بِالَّذِي غَلَبْ
فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ ، وَعَرَفْتَ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ فِي الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى مَا اخْتَرْنَا ، [ ص: 328 ] وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّرْكَشِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ بَعْدَ الْحَظْرِ يَدُلُّ عَلَى رُجُوعِ الْحُكْمِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ ، عَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُرْتَدَّ يُحْبِطُ جَمِيعَ عَمَلِهِ بِرِدَّتِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ زَائِدٍ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إِذَا مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ [ 2 \ 217 ] .
وَمُقْتَضَى الْأُصُولِ حَمْلُ هَذَا الْمُطْلَقِ عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ ، فَيُقَيِّدُ إِحْبَاطَ الْعَمَلِ بِالْمَوْتِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ ، خِلَافًا لِمَالِكٍ الْقَائِلِ بِإِحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْعَمَلَ [ ص: 330 ] مُطْلَقًا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، فِي قَوْلِهِ : وَأَرْجُلَكُمْ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ : وَاحِدَةٌ شَاذَّةٌ ، وَاثْنَتَانِ مُتَوَاتِرَتَان ِ .
أَمَّا الشَّاذَّةُ : فَقِرَاءَةُ الرَّفْعِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ ; وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرَت َانِ : فَقِرَاءَةُ النَّصْبِ ، وَقِرَاءَةُ الْخَفْضِ .
أَمَّا النَّصْبُ : فَهُوَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ ، وَابْنِ عَامِرٍ ، وَالْكِسَائِيِّ ، وَعَاصِمٍ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ مِنَ السَّبْعَةِ ، وَيَعْقُوبَ مِنَ الثَّلَاثَةِ .
وَأَمَّا الْجَرُّ : فَهُوَ قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ ، وَحَمْزَةَ ، وَأَبِي عَمْرٍو ، وَعَاصِمٍ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ .
أَمَّا قِرَاءَةُ النَّصْبِ : فَلَا إِشْكَالَ فِيهَا ، لِأَنَّ الْأَرْجُلَ فِيهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْوُجُوهِ ، وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى عَلَيْهَا : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ .
وَإِنَّمَا أُدْخِلَ مَسْحُ الرَّأْسِ بَيْنَ الْمَغْسُولَاتِ مُحَافَظَةً عَلَى التَّرْتِيبِ ، لِأَنَّ الرَّأْسَ يُمْسَحُ بَيْنَ الْمَغْسُولَاتِ ; وَمِنْ هُنَا أَخَذَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وُجُوبَ التَّرْتِيبِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَسْبَمَا فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ .
وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ : فَفِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِجْمَالٌ ، وَهُوَ أَنَّهَا يُفْهَمُ مِنْهَا الِاكْتِفَاءُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ عَنِ الْغَسْلِ كَالرَّأْسِ ، وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّوَعُّدِ بِالنَّارِ لِمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " .
اعْلَمْ أَوَّلًا ، أَنَّ الْقِرَاءَتَيْن ِ إِذَا ظَهَرَ تَعَارُضُهُمَا فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ لَهُمَا حُكْمُ الْآيَتَيْنِ ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ قِرَاءَةَ : وَأَرْجُلَكُمْ ، بِالنَّصْبِ صَرِيحٌ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ ، فَهِيَ تُفْهِمُ أَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ إِنَّمَا هِيَ لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ مَنْصُوبَةٌ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ النَّصْبِ ، وَالْعَرَبُ تَخْفِضُ الْكَلِمَةَ لِمُجَاوَرَتِهَ ا لِلْمَخْفُوضِ ، مَعَ أَنَّ إِعْرَابَهَا النَّصْبُ ، أَوِ الرَّفْعُ .
ابو وليد البحيرى
2020-09-20, 12:16 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (47)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (2)
وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْخَفْضَ بِالْمُجَاوَرَة ِ مَعْدُودٌ مِنَ اللَّحْنِ الَّذِي يُتَحَمَّلُ [ ص: 331 ] لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ خَاصَّةً ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فِي الْعَطْفِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ إِلَّا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ ، فَهُوَ مَرْدُودٌ بِأَنَّ أَئِمَّةَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ صَرَّحُوا بِجَوَازِهِ .
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْأَخْفَشُ ، وَأَبُو الْبَقَاءِ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ .
وَلَمْ يُنْكِرْهُ إِلَّا الزَّجَّاجُ ، وَإِنْكَارُهُ لَهُ ، مَعَ ثُبُوتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَفِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَتَتَبَّعِ الْمَسْأَلَةَ تَتَبُّعًا كَافِيًا .
وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْخَفْضَ بِالْمُجَاوَرَة ِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَأَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ .
فَمِنْهُ فِي النَّعْتِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]
كَأَنَّ ثَبِيرًا فِي عِرَانِينِ وَدْقِهِ كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمَّلِ
بِخَفْضٍ " مُزَمَّلِ " بِالْمُجَاوَرَة ِ ، مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ " كَبِيرُ " الْمَرْفُوعِ بِأَنَّهُ خَبَرُ " كَأَنَّ " وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ : [ الْبَسِيطُ ]
تُرِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرِ مُقْرِفَةٍ مَلْسَاءَ لَيْسَ بِهَا خَالٌ وَلَا نَدَبُ
إِذِ الرِّوَايَةُ بِخَفْضِ " غَيْرِ " ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ لِلْمُجَاوَرَةِ ، مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ " سُنَّةَ " الْمَنْصُوبِ بِالْمَفْعُولِي َّةِ .
وَمِنْهُ فِي الْعَطْفِ ، قَوْلُ النَّابِغَةِ : [ الْبَسِيطُ ]
لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَسِيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ وَمُوثَقٍ فِي حِبَالِ الْقَدِّ مَجْنُوبِ
بِخَفْضٍ " مُوثَقٍ " لِمُجَاوَرَتِهِ الْمَخْفُوضِ ، مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى " أَسِيرٌ " الْمَرْفُوعِ بِالْفَاعِلِيَّ ةِ .
وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]
وَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مَا بَيْنَ مُنْضِجٍ صَفِيفَ شِوَاءٍ أَوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
بِجَرٍّ " قَدِيرٍ " لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ ، مَعَ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى " صَفِيفَ " الْمَنْصُوبِ بِأَنَّهُ مَفْعُولُ اسْمِ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ " مُنْضِجٍ " ، وَالصَّفِيفُ : فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَهُوَ الْمَصْفُوفُ مِنَ اللَّحْمِ عَلَى الْجَمْرِ لِيَنْشَوِيَ ، وَالْقَدِيرُ : كَذَلِكَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، وَهُوَ الْمَجْعُولُ فِي الْقِدْرِ مِنَ اللَّحْمِ لِيَنْضُجَ بِالطَّبْخِ .
[ ص: 332 ] وَهَذَا الْإِعْرَابُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْحَقُّ ، لِأَنَّ الْإِنْضَاجَ وَاقِعٌ عَلَى كُلٍّ مِنَ الصَّفِيفِ وَالْقَدِيرِ ، فَمَا زَعَمَهُ " الصَّبَّانُ " فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى " الْأَشْمُونِيِّ " مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ " أَوْ قَدِيرٍ " مَعْطُوفٌ عَلَى " مُنْضِجٍ " بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ أَيْ وَطَابِخِ قَدِيرٍ . . . الْخَ ، ظَاهِرُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّ الْمُنْضِجَ شَامِلٌ لِشَاوِي الصَّفِيفِ ، وَطَابِخِ الْقَدِيرِ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى عَطْفِ الطَّابِخِ عَلَى الْمُنْضَجِ لِشُمُولِهِ لَهُ ، وَلَا دَاعِيَ لِتَقْدِيرِ " طَابِخٍ " مَحْذُوفٍ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْعَيْنِيُّ مِنْ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى " شِوَاءٍ " ، فَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ أَيْضًا ; وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ " الصَّبَّانُ " ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَصِيرُ بِذَلِكَ : وَصَفِيفٍ قَدِيرٍ ، وَالْقَدِيرُ لَا يَكُونُ صَفِيفًا .
وَالتَّحْقِيقُ : هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَة ِ ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي .
وَمِنَ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَة ِ فِي الْعَطْفِ ، قَوْلُ زُهَيْرٍ : [ الْكَامِلُ ]
لَعِبَ الزَّمَانُ بِهَا وَغَيَّرَهَا بَعْدِي سَوَافِي الْمَوْرِ وَالْقَطْرِ
بِجَرِّ " الْقَطْرِ " لِمُجَاوَرَتِهِ لِلْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى " سَوَافِي " الْمَرْفُوعِ ، بِأَنَّهُ فَاعِلُ غَيَّرَ .
وَمِنْهُ فِي التَّوْكِيدِ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْبَسِيطُ ]
يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كُلَّهُمُ أَنْ لَيْسَ وَصْلٌ إِذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَبِ
بِجَرِّ " كُلِّهِمْ " عَلَى مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ ، لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ ، مَعَ أَنَّهُ تَوْكِيدُ " ذَوِيِ " الْمَنْصُوبِ بِالْمَفْعُولِي َّةِ .
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي الْعَطْفِ - كَالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا - قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [ 56 \ 22 ] ، عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ ، وَالْكِسَائِيِّ .
وَرِوَايَةُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ بِالْجَرِّ لِمُجَاوَرَتِهِ لِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ ، إِلَى قَوْلِهِ : وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [ 56 \ 21 ] ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ : وَحُورٌ عِينٌ ، حُكْمُهُ الرَّفْعُ ، فَقِيلَ : إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى فَاعِلِ " يَطُوفُ " الَّذِي هُوَ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [ 56 \ 17 ] .
وَقِيلَ : هُوَ مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ، دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ .
أَيْ : وَفِيهَا حُورٌ عِينٌ ، أَوْ لَهُمْ حُورٌ عِينٌ .
[ ص: 333 ] وَإِذَنْ فَهُوَ مِنَ الْعَطْفِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى .
وَقَدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِلْعَطْفِ عَلَى الْمَعْنَى قَوْلَ الشَّمَّاخِ ، أَوْ ذِي الرُّمَّةِ : [ الْكَامِلُ ]
بَادَتْ وَغَيَّرَ آيَهُنَّ مَعَ الْبِلَا إِلَّا رَوَاكِدَ جَمْرُهُنَّ هَبَاءُ
وَمُشَجَّجٌ أَمَّا سَوَاءُ قِذَالِهِ فَبَدَا وَغَيَّبَ سَارَهُ الْمَعْزَاءُ
لِأَنَّ الرِّوَايَةَ بِنَصْبِ " رَوَاكِدَ " عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ ، وَرَفْعِ مُشَجَّجٍ عَطْفًا عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا رَوَاكِدُ وَمُشَجَّجٌ ، وَمُرَادُهُ بِالرَّوَاكِدِ أَثَافِي الْقِدْرِ ، وَبِالْمُشَجَّج ِ وَتَدُ الْخِبَاءِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ وَجْهَ الْخَفْضِ فِي قِرَاءَةِ حَمْزَةَ ، وَالْكِسَائِيِّ هُوَ الْمُجَاوَرَةُ لِلْمَخْفُوضِ ، كَمَا ذَكَرْنَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فِي قِرَاءَةِ الْجَرِّ : إِنَّ الْعَطْفَ عَلَى أَكْوَابٍ ، أَيْ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِأَكْوَابٍ ، وَبِحُورٍ عِينٍ ، وَلِمَنْ قَالَ : إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، أَيْ هُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، وَفِي حُورٍ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ ، أَيْ فِي مُعَاشَرَةِ حُورٍ .
وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُرَدُّ ، بِأَنَّ الْحُورَ الْعِينَ لَا يُطَافُ بِهِنَّ مَعَ الشَّرَابِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى :حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [ 55 \ 72 ] .
وَالثَّانِي فِيهِ أَنَّ كَوْنَهُمْ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ، وَفِي حُورٍ ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى ، وَتَقْدِيرُ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لَا وَجْهَ لَهُ .
وَأُجِيبَ عَنِ الْأَوَّلِ بِجَوَابَيْنِ ، الْأَوَّلُ : أَنَّ الْعَطْفَ فِيهِ بِحَسَبِ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ الْمَعْنَى : يَتَنَعَّمُونَ بِأَكْوَابٍ وَفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ وَحُورٍ . قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ .
الْجَوَابُ الثَّانِي : أَنَّ الْحُورَ قِسْمَانِ :
1 - حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ .
2 - وَحُورٌ يُطَافُ بِهِنَّ عَلَيْهِمْ
قَالَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ تَقْسِيمٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْرَفُ مِنْ صِفَاتِ الْحُورِ الْعِينِ كَوْنُهُنَّ يُطَافُ بِهِنَّ كَالشَّرَابِ ، فَأَظْهَرُهَا الْخَفْضُ بِالْمُجَاوَرَة ِ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
وَكَلَامُ الْفَرَّاءِ ، وَقُطْرُبٍ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَمَا رُدَّ بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَطْفِ عَلَى أَكْوَابٍ مِنْ كَوْنِ الْحُورِ لَا يُطَافُ بِهِنَّ يُرَدُّ بِهِ الْقَوْلُ بِالْعَطْفِ عَلَى وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ، فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْحُورَ يَطُفْنَ عَلَيْهِمْ كَالْوِلْدَانِ ، وَالْقَصْرُ فِي الْخِيَامِ يُنَافِي ذَلِكَ .
وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ خَفْضَ وَأَرْجُلِكُمْ ; لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ [ ص: 334 ] الْكُبْرَى " ، فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ : بَابُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ " وَأَرْجُلَكُمْ " نَصْبًا ، وَأَنَّ الْأَمْرَ رَجَعَ إِلَى الْغَسْلِ ، وَأَنَّ مَنْ قَرَأَهَا خَفْضًا ، فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُجَاوَرَةِ ، ثُمَّ سَاقَ أَسَانِيدَهُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَالْأَعْرَجِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَيْلَانَ ، وَنَافِعِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعَيْمٍ الْقَارِئِ ، وَأَبِي مُحَمَّدٍ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيِّ أَنَّهُمْ قَرَءُوهَا كُلُّهُمْ : وَأَرْجُلَكُمْ ، بِالنَّصْبِ .
قَالَ : وَبَلَغَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا نَصْبًا ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيِّ ، وَعَنْ عَاصِمٍ بِرِوَايَةِ حَفْصٍ ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ مِنْ رِوَايَةِ الْأَعْشَى ، وَعَنِ الْكِسَائِيِّ ، كُلُّ هَؤُلَاءِ نَصَبُوهَا .
وَمَنْ خَفَضَهَا فَإِنَّمَا هُوَ لِلْمُجَاوَرَةِ ، قَالَ الْأَعْمَشُ : كَانُوا يَقْرَءُونَهَا بِالْخَفْضِ ، وَكَانُوا يَغْسِلُونَ ، اهـ كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَة ِ فِي الْقُرْآنِ فِي النَّعْتِ قَوْلُهُ تَعَالَى : عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [ 11 \ 84 ] ، بِخَفْضِ مُحِيطٍ مَعَ أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَذَابِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [ 11 \ 26 ] ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَنَّ النَّعْتَ لِلْعَذَابِ ، وَقَدْ خُفِضَ لِلْمُجَاوَرَةِ ، كَثْرَةُ وُرُودِ الْأَلَمِ فِي الْقُرْآنِ نَعْتًا لِلْعَذَابِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [ 85 \ 22 ] ، عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِخَفْضِ مَحْفُوظٍ كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ : " هَذَا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ " بِخَفْضِ خَرِبٍ لِمُجَاوَرَةِ الْمَخْفُوضِ مَعَ أَنَّهُ نَعْتُ خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ ; وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ دَعْوَى كَوْنِ الْخَفْضِ بِالْمُجَاوَرَة ِ لَحْنًا لَا يُتَحَمَّلُ إِلَّا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ بَاطِلَةٌ ، وَالْجَوَابُ عَمَّا ذَكَّرُوهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ أَمْنِ اللَّبْسِ ، هُوَ أَنَّ اللَّبْسَ هُنَا يُزِيلُهُ التَّحْدِيدُ بِالْكَعْبَيْنِ ، إِذْ لَمْ يَرِدْ تَحْدِيدُ الْمَمْسُوحِ ، وَتُزِيلُهُ قِرَاءَةُ النَّصْبِ ، كَمَا ذَكَرْنَا ، فَإِنْ قِيلَ قِرَاءَةُ الْجَرِّ الدَّالَّةُ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ هِيَ الْمُبَيِّنَةُ لِقِرَاءَةِ النَّصْبِ بِأَنْ تَجْعَلَ قِرَاءَةَ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَحَلِّ ; لِأَنَّ الرُّءُوسَ مَجْرُورَةٌ بِالْبَاءِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ : [ الرَّجَزُ ]
وَجَرُّ مَا يَتْبَعُ مَا جُرَّ وَمَنْ رَاعَى فِي الِاتْبَاعِ الْمَحَلَّ فَحَسَنْ
وَابْنُ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ أَوْرَدَ هَذَا فِي " إِعْمَالِ الْمَصْدَرِ " فَحُكْمُهُ عَامٌّ ، أَيْ وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ وَالْوَصْفُ ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْوَصْفِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
وَاجُرُرْ أَوِ انْصِبْ تَابِعَ الَّذِي انْخَفَضْ كَمُبْتَغِي جَاهٍ وَمَالًا مَنْ نَهَضْ
[ ص: 335 ] فَالْجَوَابُ أَنَّ بَيَانَ قِرَاءَةِ النَّصْبِ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ ، كَمَا ذَكَرَ ، تَأْبَاهُ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ النَّاطِقَةُ بِخِلَافِهِ ، وَبِتَوَعُّدِ مُرْتَكِبِهِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ بِخِلَافِ بَيَانِ قِرَاءَةِ الْخَفْضِ بِقِرَاءَةِ النَّصْبِ ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتَةَ عَنْهُ قَوْلًا وَفِعْلًا .
فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
قَالَ : تَخَلَّفَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا ، وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلَاةُ صَلَاةُ الْعَصْرِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : " أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ، وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَارِثِ بْنِ جُزْءٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ ، وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ " ; وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " .
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مُعَيْقِيبٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، قَالَ : فَمَا بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ شَرِيفٌ وَلَا وَضِيعٌ إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ يُقَلِّبُ عُرْقُوبَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا .
وَثَبَتَ فِي أَحَادِيثِ الْوُضُوءِ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ ، وَالْمِقْدَادِ بْنِ مَعْدِيَكَرِبَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ فِي وُضُوئِهِ ، إِمَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " عَلَى اخْتِلَافِ رِوَايَاتِهِمْ .
وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ " . ثُمَّ قَالَ : " هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ " .
وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ ، وَعَدَمِ الِاجْتِزَاءِ بِمَسْحِهِمَا .
ابو وليد البحيرى
2020-09-20, 12:17 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (48)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (3)
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ غَسْلُهُمَا . وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْمَسْحَ عَلَى الْغَسْلِ أَيْضًا ، وَتَقُولُ تَمَسَّحْتُ بِمَعْنَى تَوَضَّأْتُ ، وَمَسَحَ الْمَطَرُ الْأَرْضَ أَيْ غَسَلَهَا ، [ ص: 336 ] وَمَسَحَ اللَّهُ مَا بِكَ أَيْ غَسَلَ عَنْكَ الذُّنُوبَ وَالْأَذَى ، وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِالْمَسْحِ فِي الْأَرْجُلِ هُوَ الْغَسْلُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ فِي الرَّأْسِ الْمَسْحُ الَّذِي لَيْسَ بِغَسْلٍ ، وَلَيْسَ مِنْ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ ، وَلَا مِنْ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ ، لِأَنَّهُمَا مَسْأَلَتَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا مُنْفَرِدَةٌ عَنِ الْأُخْرَى مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ جَوَازُ حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ ، كَمَا حَقَّقَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ فِي رِسَالَتِهِ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ ، وَحَرَّرَ أَنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَجَمَعَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ بَيْنَ قِرَاءَةِ النَّصْبِ وَالْجَرِّ بِأَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ يُرَادُ بِهَا غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ ، لِأَنَّ الْعَطْفَ فِيهَا عَلَى الْوُجُوهِ وَالْأَيْدِي إِلَى الْمَرَافِقِ ، وَهُمَا مِنَ الْمَغْسُولَاتِ بِلَا نِزَاعٍ ، وَأَنَّ قِرَاءَةَ الْخَفْضِ يُرَادُ بِهَا الْمَسْحُ مَعَ الْغَسْلِ ، يَعْنِي الدَّلْكَ بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِكْمَةَ هَذَا فِي الرِّجْلَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمَا ; أَنَّ الرِّجْلَيْنِ هُمَا أَقْرَبُ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ إِلَى مُلَابَسَةِ الْأَقْذَارِ لِمُبَاشَرَتِهِ مَا الْأَرْضَ فَنَاسَبَ ذَلِكَ أَنْ يُجْمَعَ لَهُمَا بَيْنَ الْغَسْلِ بِالْمَاءِ وَالْمَسْحِ أَيِ الدَّلْكِ بِالْيَدِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي التَّنْظِيفِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِقِرَاءَةِ الْجَرِّ : الْمَسْحُ ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْخُفِّ .
وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي قِرَاءَةِ الْخَفْضِ ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، إِذَا لَبِسَهُمَا طَاهِرًا ، مُتَوَاتِرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إِلَّا مَنْ لَا عِبْرَةَ بِهِ ، وَالْقَوْلُ بِنَسْخِهِ بِآيَةِ الْمَائِدَةِ يَبْطُلُ بِحَدِيثِ جَرِيرٍ أَنَّهُ بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، فَقِيلَ لَهُ : تَفْعَلُ هَكَذَا ؟ قَالَ : نَعَمْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَالَ ، ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ : فَكَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ ، لِأَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَيُوَضِّحُ عَدَمَ النَّسْخِ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ " الْمُرَيْسِيعِ " .
وَلَا شَكَّ أَنَّ إِسْلَامَ جَرِيرٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، مَعَ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَوَى الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَهِيَ آخِرُ مَغَازِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِنُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ فِي غَزْوَةِ " الْمُرَيْسِيعِ " ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " ، وَأَشَارَ لَهُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي " نَظْمِ الْمَغَازِي " ، بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ : [ الرَّجَزُ ]
وَالْإِفْكُ فِي قُفُولِهِمْ وَنُقِلَا أَنَّ التَّيَمُّمَ بِهَا قَدْ أُنْزِلَا
[ ص: 337 ] وَالتَّيَمُّمُ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ الَّذِي هُوَ مِنَ الْجُلُودِ ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْجِلْدِ إِذَا كَانَ صَفِيقًا سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ : لَا يُمْسَحُ عَلَى شَيْءٍ غَيْرِ الْجِلْدِ ; فَاشْتَرَطُوا فِي الْمَسْحِ أَنْ يَكُونَ الْمَمْسُوحَ خُفًّا مِنْ جُلُودٍ ، أَوْ جَوْرَبًا مُجَلَّدًا ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ ، يَعْنُونَ مَا فَوْقَ الْقَدَمِ وَمَا تَحْتَهَا لَا بَاطِنَهُ الَّذِي يَلِي الْقَدَمَ .
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ رُخْصَةٌ ، وَأَنَّ الرُّخَصَ لَا تَتَعَدَّى مَحَلَّهَا ، وَقَالُوا : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَمْسَحْ عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ ; فَلَا يَجُوزُ تَعَدِّيهِ إِلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى شَطْرِ قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا ، وَهِيَ : هَلْ يَلْحَقُ بِالرُّخَصِ مَا فِي مَعْنَاهَا ، أَوْ يُقْتَصَرُ عَلَيْهَا وَلَا تُعَدَّى مَحَلَّهَا ؟ .
وَمِنْ فُرُوعِهَا اخْتِلَافُهُمْ فِي بَيْعِ " الْعَرَايَا " مِنَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ ، هَلْ يَجُوزُ إِلْحَاقًا بِالرُّطَبِ بِالتَّمْرِ أَوْ لَا ؟ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَصْحَابُهُمْ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْجِلْدِ ، لِأَنَّ سَبَبَ التَّرْخِيصِ الْحَاجَةُ إِلَى ذَلِكَ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْحِ عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ ، وَلِمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ ، وَالْمُوقَيْنِ .
قَالُوا : وَالْجَوْرَبُ : لِفَافَةُ الرِّجْلِ ، وَهِيَ غَيْرُ جِلْدٍ .
وَفِي الْقَامُوسِ : الْجَوْرَبُ لِفَافَةُ الرِّجْلِ ، وَفِي اللِّسَانِ : الْجَوْرَبُ لِفَافَةُ الرِّجْلِ ، مُعَرَّبٌ وَهُوَ بِالْفَارِسِيةِ " كَوْرَبُ " .
وَأَجَابَ مَنِ اشْتَرَطَ الْجِلْدَ بِأَنَّ الْجَوْرَبَ هُوَ الْخُفُّ الْكَبِيرُ ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، أَمَّا الْجُرْمُوقُ وَالْمُوقُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا مِنَ الْخِفَافِ .
وَقِيلَ : إِنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ . وَقِيلَ : إِنَّهُمَا مُتَغَايِرَانِ ، وَفِي الْقَامُوسِ : الْجُرْمُوقُ : كَعُصْفُورٍ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ ، وَفِي الْقَامُوسِ أَيْضًا : الْمُوقُ خُفٌّ غَلِيظٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ ، وَفِي اللِّسَانِ : الْجُرْمُوقُ ، خُفٌّ صَغِيرٌ ، وَقِيلَ : خُفٌّ صَغِيرٌ يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ ، فِي اللِّسَانِ أَيْضًا : الْمُوقُ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الْخُفِّ ، فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ ، وَالْمُوقُ : الْخُفُّ اهـ .
قَالُوا : وَالتَّسَاخِينُ : الْخِفَافُ ، فَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيثِ مَا يُعَيِّنُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ [ ص: 338 ] عَلَى غَيْرِ الْجِلْدِ ، وَالْجُمْهُورُ قَالُوا : نَفْسُ الْجِلْدِ لَا أَثَرَ لَهُ ، بَلْ كُلُّ خُفٍّ صَفِيقٍ سَاتِرٍ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ يُمْكِنُ فِيهِ تَتَابُعُ الْمَشْيِ ، يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ، جِلْدًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ .
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
الْأُولَى : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ; وَقَالَ الشِّيعَةُ وَالْخَوَارِجُ : لَا يَجُوزُ ، وَحَكَى نَحْوَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُدَ ، وَالتَّحْقِيقُ عَنْ مَالِكٍ ، وَجُلِّ أَصْحَابِهِ ، الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا ، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُهُ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَهُ إِلَّا مَالِكًا فِي رِوَايَةٍ أَنْكَرَهَا أَكْثَرُ أَصْحَابِهِ ، وَالرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عَنْهُ مُصَرِّحَةٌ بِإِثْبَاتِهِ ، وَمُوَطَّأُهُ ، يَشْهَدُ لِلْمَسْحِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَعَلَيْهِ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ ، وَجَمِيعُ أَهْلِ السُّنَّةِ .
وَقَالَ الْبَاجِيُّ : رِوَايَةُ الْإِنْكَارِ فِي " الْعُتْبِيَّةِ " وَظَاهِرُهَا الْمَنْعُ ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا أَنَّ الْغَسْلَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ ، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : آخِرُ مَا فَارَقْتُ مَالِكًا عَلَى الْمَسْحِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ; وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، فَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ مَالِكٍ مِنْ جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ مُتَوَاتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ الزُّرْقَانِيُّ فِي شَرْحِ " الْمُوَطَّأِ " : وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ رُوَاتُهُ فَجَاوَزُوا الثَّمَانِينَ ، مِنْهُمُ الْعَشَرَةُ ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، اهـ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ " الْمُهَذَّبِ " : وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي كِتَابِ " الْإِجْمَاعِ " ، إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُسْتَفِيضَة ُ فِي مَسْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ وَتَرْخِيصُهُ فِيهِ ، وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَيْهِ . قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ : رُوِّينَا جَوَازَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، وَحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ، وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، [ ص: 339 ] وَجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ ، وَأَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جُزْءٍ ، وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
قُلْتُ : وَرَوَاهُ خَلَائِقٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، غَيْرُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَأَحَادِيثُهُم ْ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَفِي الْبَابِ عَنْ عُمَرَ ، وَسَلْمَانَ ، وَبُرَيْدَةَ ، وَعَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ ، وَيَعْلَى بْنِ مُرَّةَ ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَأُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ ، وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي بَكْرَةَ ، وَبِلَالٍ ، وَخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ .
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَرُوِّينَا عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ .
قَالَ : وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ ، قَالَ : لَيْسَ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ اخْتِلَافٌ . اهـ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَهِيَ آخِرُ مُغَازِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفِّ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ الْمَائِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لِجَرِيرٍ : إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ ، قَالَ : مَا أَسْلَمْتُ إِلَّا بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ .
وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ نَسْخِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي مَشْرُوعِيَّتِه ِ ، فَالْخِلَافُ فِيهِ لَا وَجْهَ لَهُ الْبَتَّةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَسْلِ الرِّجْلِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : غَسْلُ الرِّجْلِ أَفْضَلُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْمَسْحَ رَغْبَةً عَنِ الرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابِهِمْ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا . وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ .
وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ غَسْلَ الرِّجْلِ هُوَ الَّذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مُعْظَمِ [ ص: 340 ] الْأَوْقَاتِ ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ ، وَلِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَشَقَّةً .
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ الْمَسْحَ أَفْضَلُ ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَالْحَكَمُ ، وَحَمَّادٌ .
وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : " بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي " .
وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ ؟ قَالَ : " بَلْ أَنْتَ نَسِيتَ ; بِهَذَا أَمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ " .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى : " أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ " الْحَدِيثَ .
قَالُوا : وَالْأَمْرُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوُجُوبِ ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلنَّدْبِ ، قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَأَظْهَرُ مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي ، هُوَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ ، وَعَزَاهُ لِشَيْخِهِ تَقِيِّ الدِّينِ ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَتَكَلَّفُ ضِدَّ حَالِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَدَمَاهُ ، بَلْ إِنْ كَانَتَا فِي الْخُفِّ مَسَحَ عَلَيْهِمَا ، وَلَمْ يَنْزِعْهُمَا ، وَإِنْ كَانَتَا مَكْشُوفَتَيْنِ غَسَلَ الْقَدَمَيْنِ ، وَلَمْ يَلْبَسِ الْخُفَّ لِيَمْسَحَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، اهـ .
وَيُشْتَرَطُ فِي الْخُفِّ : أَنْ يَكُونَ قَوِيًّا يُمْكِنُ تَتَابُعُ الْمَشْيِ فِيهِ فِي مَوَاضِعِ النُّزُولِ ، وَعِنْدَ الْحَطِّ وَالتَّرْحَالِ ، وَفِي الْحَوَائِجِ الَّتِي يَتَرَدَّدُ فِيهَا فِي الْمَنْزِلِ ، وَفِي الْمُقِيمِ نَحْوُ ذَلِكَ ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ لَابِسِي الْخِفَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِذَا كَانَ الْخُفُّ مُخَرَّقًا ، فَفِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَيْهِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ ، فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ ظَهَرَ مِنْ تَخْرِيقِهِ قَدْرُ ثُلُثِ الْقَدَمِ لَمْ يَجُزِ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الثُّلُثَ آخِرُ حَدِّ الْيَسِيرِ ، وَأَوَّلُ حَدِّ الْكَثِيرِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : لَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى خُفٍّ فِيهِ خَرْقٌ يَبْدُو مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْقَدَمِ ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ .
ابو وليد البحيرى
2020-09-20, 12:18 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (49)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (4)
[ ص: 341 ] وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُنْكَشِفَ مِنَ الرِّجْلِ حُكْمُهُ الْغَسْلُ ، وَالْمَسْتُورُ حُكْمُهُ الْمَسْحُ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَسْحِ وَالْغَسْلِ لَا يَجُوزُ ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَغْسِلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ وَيَمْسَحَ عَلَى الْخُفِّ فِي الْأُخْرَى ، لَا يَجُوزُ لَهُ غَسْلُ بَعْضِ الْقَدَمِ مَعَ مَسْحِ الْخُفِّ فِي الْبَاقِي مِنْهَا .
وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ الْخَرْقَ الْكَبِيرَ يَمْنَعُ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ دُونَ الصَّغِيرِ . وَحَدَّدُوا الْخَرْقَ الْكَبِيرَ بِمِقْدَارِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ .
قِيلَ : مِنْ أَصَابِعِ الرِّجْلِ الْأَصَاغِرِ ، وَقِيلَ : مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى جَمِيعِ الْخِفَافِ ، وَإِنْ تَخَرَّقَتْ تَخْرُّقًا كَثِيرًا مَا دَامَتْ يُمْكِنُ تَتَابُعُ الْمَشْيِ فِيهَا ; وَنَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَيَزِيدَ بْنِ هَارُونَ ، وَأَبِي ثَوْرٍ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ : امْسَحْ عَلَيْهِمَا مَا تَعَلَّقَا بِالْقَدَمِ ، وَإِنْ تَخَرَّقَا ، قَالَ : وَكَانَتْ كَذَلِكَ خِفَافُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مُخَرَّقَةً مُشَقَّقَةً ، اهـ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَوْلُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ فِي ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الثَّوْرِيِّ ، وَمَنْ وَافَقَهُ هُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : وَبُقُولِ الثَّوْرِيِّ أَقُولُ ، لِظَاهِرِ إِبَاحَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَسْحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ قَوْلًا عَامًا يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الْخِفَافِ . اهـ ، نَقَلَهُ عَنْهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ قَوِيٌّ .
وَعَنِ الْأَوْزَاعِيِّ إِنْ ظَهَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْ رِجْلِهِ مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ، وَعَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ رِجْلِهِ . هَذَا حَاصِلُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي ، الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ الْمُخَرَّقِ مَا لَمْ يَتَفَاحَشْ خَرْقُهُ حَتَّى يَمْنَعَ تَتَابُعَ الْمَشْيِ فِيهِ لِإِطْلَاقِ النُّصُوصِ ، مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى خِفَافِ الْمُسَافِرِينَ ، وَالْغُزَاةِ عَدَمُ السَّلَامَةِ مِنَ التَّخْرِيقِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِالْمَسْحِ عَلَى [ ص: 342 ] النَّعْلَيْنِ بِأَحَادِيثَ ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، عَنْ وَكِيعٍ ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ الْأَوْدِيِّ ، هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ ثَرْوَانَ ، عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ " ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ الْبَيْهَقِيُّ .
ثُمَّ قَالَ : قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ : رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ ضَعَّفَ هَذَا الْخَبَرَ ، وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ الْأَوْدِيُّ ، وَهُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ : لَا يَحْتَمِلَانِ مَعَ مُخَالَفَتِهِمَ ا الْأَجِلَّةَ الَّذِينَ رَوَوْا هَذَا الْخَبَرَ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالُوا : مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَقَالَ : لَا نَتْرُكُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِمِثْلِ أَبِي قَيْسٍ وَهُزَيْلٍ ، فَذَكَرْتُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ عَنْ مُسْلِمٍ لِأَبِي الْعَبَّاسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّغُولِيِّ ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : عَلِيُّ بْنُ شَيْبَانَ يَقُولُ : سَمِعْتُ أَبَا قُدَامَةَ السَّرَخْسِيَّ يَقُولُ : قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ : قُلْتُ لِسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ : لَوْ حَدَّثْتَنِي بِحَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلٍ مَا قَبِلْتُهُ مِنْكَ ، فَقَالَ سُفْيَانُ : الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ أَوْ وَاهٍ ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا ، اهـ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ حَدَّثْتُ أَبِي بِهَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ أَبِي : لَيْسَ يُرْوَى هَذَا إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَيْسٍ ، قَالَ أَبِي : إِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ ، يَقُولُ : هُوَ مُنْكَرٌ ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ أَنَّهُ قَالَ : حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ فِي الْمَسْحِ رَوَاهُ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ ، وَرَوَاهُ هُزَيْلُ بْنُ شُرَحْبِيلَ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : وَمَسَحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ ، وَخَالَفَ النَّاسَ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، أَنَّهُ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : النَّاسُ كُلُّهُمْ يَرْوُونَهُ عَلَى الْخُفَّيْنِ غَيْرَ أَبِي قَيْسٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَيْضًا مَا قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ مِنْ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مَهْدِيٍّ كَانَ لَا يُحَدِّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَرُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَلَا بِالْمُتَّصِلِ ، وَبَيَّنَ الْبَيْهَقِيُّ مُرَادَ أَبِي دَاوُدَ بِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ وَغَيْرَ قَوِيٍّ ، فَعَدَمُ اتِّصَالِهِ ، إِنَّمَا هُوَ لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ هُوَ الضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَالضَّحَّاكُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ : لَمْ يَثْبُتْ سَمَاعُهُ مِنْ أَبِي مُوسَى ، وَعَدَمُ قُوَّتِهِ ; لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ عِيسَى بْنَ سِنَانٍ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَعِيسَى بْنُ سِنَانٍ ضَعِيفٌ ، اهـ .
[ ص: 343 ] وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : لَيِّنُ الْحَدِيثِ ، وَاعْتَرَضَ الْمُخَالِفُونَ تَضْعِيفَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ، قَالُوا : أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَسَكَتَ عَنْهُ ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَأَقَلُّ دَرَجَاتِهِ عِنْدَهُ الْحَسَنُ ، قَالُوا : وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، قَالُوا : وَأَبُو قَيْسٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَقَالَ الْعِجْلِيُّ : ثِقَةٌ ثَبْتٌ ، وَهُزَيْلٌ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ ، وَأَخْرَجَ لَهُمَا مَعًا الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُمَا لَمْ يُخَالِفَا النَّاسَ مُخَالَفَةَ مُعَارَضَةٍ ، بَلْ رَوَيَا أَمْرًا زَائِدًا عَلَى مَا رَوَوْهُ بِطْرِيقٍ مُسْتَقِلٍّ غَيْرِ مُعَارَضٍ ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمَا حَدِيثَانِ قَالُوا : وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ سَمَاعِ الضَّحَّاكِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَبِي مُوسَى ، لِأَنَّ الْمُعَاصَرَةَ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ كَمَا حَقَّقَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ ; وَلِأَنَّ عَبْدَ الْغَنِيِّ قَالَ فِي " الْكَمَالِ " : سَمِعَ الضَّحَّاكُ مِنْ أَبِي مُوسَى ، قَالُوا : وَعِيسَى بْنُ سِنَانٍ ، وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَضَعَّفَهُ غَيْرُهُ ، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي " الْجَنَائِزِ " حَدِيثًا فِي سَنَدِهِ عِيسَى بْنُ سِنَانٍ هَذَا ، وَحَسَّنَهُ .
وَيَعْتَضِدُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا بِمَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ جُرَيْجٍ قَالَ لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكُ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا ، قَالَ : مَا هُنَّ ؟ فَذَكَرَهُنَّ ، وَقَالَ فِيهِنَّ : رَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السَّبْتِيَّةَ ، قَالَ : أَمَّا النِّعَالُ السَّبْتِيَّةُ ، " فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا " .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ بِسَنَدِهِ : وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، وَرَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ ، فَزَادَ فِيهِ : وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا ; وَهُوَ مَحَلُّ الشَّاهِدِ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَإِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً فَلَا يُنَافِي غَسْلَهُمَا ، فَقَدْ يَغْسِلُهُمَا فِي النَّعْلِ ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهِمَا .
وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ ، قَالَ : بَالَ عَلِيٌّ ، وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ ، وَمَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ : وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ ، قَالَ : " بَالَ عَلِيٌّ وَهُوَ قَائِمٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ " .
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا نَحْوَهُ عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ بِسَنَدٍ آخَرَ ، وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ [ ص: 344 ] بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ ، عَنْ سُفْيَانَ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ، وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ " .
ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا رَوَاهُ رَوَّادُ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَهُوَ يَنْفَرِدُ عَنِ الثَّوْرِيِّ بِمَنَاكِيرَ هَذَا أَحَدُهَا ، وَالثِّقَاتُ رَوَوْهُ عَنِ الثَّوْرِيِّ دُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ عَنِ الثَّوْرِيِّ هَكَذَا ، وَلَيْسَ بِمَحْفُوظٍ ، ثُمَّ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عَبْدَانَ ، أَنْبَأَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ ، ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْوَكِيعِيُّ ، حَدَّثَنِي أَبِي ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ، ثَنَا سُفْيَانُ فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ " ، اهـ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَهُ : وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ الْجَمَاعَةِ ، وَرَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ الدَّرَاوَرْدِي ُّ ، وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، فَحَكَيَا فِي الْحَدِيثِ : " رَشًّا عَلَى الرِّجْلِ وَفِيهَا النَّعْلُ " ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَسَلَهَا فِي النَّعْلِ .
فَقَدْ رَوَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ ، وَوَرْقَاءُ بْنُ عُمَرَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، فَحَكَوْا فِي الْحَدِيثِ غَسْلَهُ رِجْلَيْهِ ، وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ وَاحِدٌ .
وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ أَوْلَى بِالْحِفْظِ مِنَ الْعَدَدِ الْيَسِيرِ ، مَعَ فَضْلِ حِفْظِ مَنْ حَفِظَ فِيهِ الْغَسْلَ بَعْدَ الرَّشِّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْفَظْهُ ، وَيَعْتَضِدُ الِاسْتِدْلَالُ الْمَذْكُورُ أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الرُّوذْبَارِيّ ُ ، أَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ ، ثَنَا مُسَدَّدٌ ، وَعَبَّادُ بْنُ مُوسَى ، قَالَا : ثَنَا هُشَيْمٌ ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ عَبَّادٌ : قَالَ : أَخْبَرَنِي أَوْسُ بْنُ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ وَقَدَمَيْهِ " .
وَقَالَ مُسَدَّدٌ : إِنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ ، عَنْ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ " وَهُوَ مُنْقَطِعٌ ، أَخْبَرَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكَ ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، ثَنَا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ ، ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، فَذَكَرَهُ .
وَهَذَا الْإِسْنَادُ غَيْرُ قَوِيٍّ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ مَا احْتَمَلَ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ ، اهـ كَلَامُ الْبَيْهَقِيِّ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَهُ أَنَّ أَحَادِيثَ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ مِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ [ ص: 345 ] بِهِ ، وَمِنْهَا مَا مَعْنَاهُ عِنْدَهُ : " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَسَلَ رِجْلَيْهِ فِي النَّعْلَيْنِ " .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْبَيْهَقِيُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوُضُوءِ فِي النَّعْلَيْنِ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِيهِمَا بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ، الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، أَنَّهُ قَالَ : " أَمَّا النِّعَالُ السَّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعْرٌ ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا " اهـ .
وَمُرَادُ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ " وَيَتَوَضَّأُ " فِيهَا أَنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فِيهَا ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا قَدَّمْنَا رِوَايَةَ ابْنِ عُيَيْنَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ ، وَفِيهَا زِيَادَةٌ " وَيَمْسَحُ عَلَيْهَا " .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مَنْعِ الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْ نِ : وَالْأَصْلُ وُجُوبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَّا مَا خَصَّتْهُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ ، أَوْ إِجْمَاعٌ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَلَا عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، اهـ .
وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْمُخَالِفِينَ بِثُبُوتِ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا : إِنَّ التِّرْمِذِيَّ صَحَّحَ الْمَسْحَ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ ، وَحَسَّنَهُ مِنْ حَدِيثِ هُزَيْلٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ ، وَحَسَّنَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ عَنْ أَبِي مُوسَى ، وَصَحَّحَ ابْنُ حِبَّانَ الْمَسْحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَوْسٍ ، وَصَحَّحَ ابْنُ خُزَيْمَةَ حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ فِي الْمَسْحِ عَلَى النِّعَالِ السَّبْتِيَّةِ .
قَالُوا : وَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ ، حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَالُوا : وَرَوَى الْبَزَّارُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَتَوَضَّأُ وَنَعْلَاهُ فِي رِجْلَيْهِ ، وَيَمْسَحُ عَلَيْهِمَا .
وَيَقُولُ : " كَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ " ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ .
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ : الْمَنْعُ مِنَ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ خِلَافُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخِلَافُ الْآثَارِ . هَذَا حَاصِلُ مَا جَاءَ فِي الْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْ نِ .
ابو وليد البحيرى
2020-09-20, 12:19 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (50)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (5)
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْ نِ ، أَنَّ [ ص: 346 ] الْجَوْرَبَيْنِ مُلْصَقَانِ بِالنَّعْلَيْنِ ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ مَعَ إِمْكَانِ تَتَابُعِ الْمَشْيِ فِيهِ ، وَالْجَوْرَبَان ِ صَفِيقَانِ فَلَا إِشْكَالَ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَسْحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ بِانْفِرَادِهِم َا ، فَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَهُ ، وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى سَاتِرٍ لَهَا ، فَلَمْ يَأْتِ بِالْأَصْلِ ، وَلَا بِالْبَدَلِ .
وَالْمَسْحُ عَلَى نَفْسِ الرِّجْلِ تَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِمَنْعِ ذَلِكَ بِكَثْرَةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْقِيتِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَوْقِيتِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ .
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ : أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَصْحَابُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِي ِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حُسَيْنٍ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَحُذَيْفَةُ ، وَالْمُغِيرَةُ ، وَأَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَنْ جَمِيعِهِمْ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ : التَّوْقِيتُ ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : التَّوْقِيتُ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِتَوْقِيتِ الْمَسْحِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِذَلِكَ ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ ، يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ [ ص: 347 ] حِبَّانَ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا " ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ فِي الْعِلَلِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْجَارُودِ ، وَالْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَغَيْرُهُمَا .
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ : " أَمَرَنَا ، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهَا عَلَى طُهْرٍ ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا أَقَمْنَا ، وَلَا نَخْلَعَهُمَا مِنْ غَائِطٍ ، وَلَا بَوْلٍ ، وَلَا نَوْمٍ ، وَلَا نَخْلَعَهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ " ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَصَحَّحَاهُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ .
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ ، أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَمَدَارُهُ عَلَى عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ ، وَهُوَ صَدُوقٌ ، سَيِّئُ الْحِفْظِ ، وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ ، وَرَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا ، قَالَهُ ابْنُ مِنْدَهْ ، اهـ .
وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ تَوْقِيتِ الْمَسْحِ وَقَالُوا : إِنَّ مَنْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ طَاهِرٌ ، مَسَحَ عَلَيْهِمَا مَا بَدَا لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ خَلْعُهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ .
وَيُرْوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَرَبِيعَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ ، فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا ، وَلَا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ ، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَنَحْوِهِ " . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ ، يَعْتَضِدُ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَدَمِ التَّوْقِيتِ .
[ ص: 348 ] وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ زَادَ فِي حَدِيثِ التَّوْقِيتِ مَا لَفْظُهُ : وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا ، وَفِي لَفْظٍ : " لَوْ مَضَى السَّائِلُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ لَجَعَلَهَا خَمْسًا " ، يَعْنِي لَيَالِيَ التَّوْقِيتِ لِلْمَسْحِ .
وَحَدِيثُ خُزَيْمَةَ هَذَا الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ صَحَّحَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ادِّعَاءَ النَّوَوِيِّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " الِاتِّفَاقَ عَلَى ضَعْفِهِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ . إِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِلْجَدَلِيِّ سَمَاعٌ مِنْ خُزَيْمَةَ ، مَبْنِيٌّ عَلَى شَرْطِهِ ، وَهُوَ ثُبُوتُ اللُّقِىِّ .
وَقَدْ أَوْضَحَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ ، أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِإِمْكَانِ اللُّقِىِّ بِثُبُوتِ الْمُعَاصَرَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
فَإِنْ قِيلَ : حَدِيثُ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ ، ظَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوِ اسْتُزِيدَ لَزَادَ ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ ، وَلَمْ يَظُنَّ هَذَا الظَّنَّ ، وَلَا حُجَّةَ فِي ظَنِّ صَحَابِيٍّ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ خُزَيْمَةَ هُوَ ذُو الشَّهَادَتَيْن ِ الَّذِي جَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَثَابَةِ شَاهِدَيْنِ ، وَعَدَالَتُهُ ، وَصِدْقُهُ ، يَمْنَعَانِهِ مِنْ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّهُ لَوِ اسْتُزِيدَ لَزَادَ إِلَّا وَهُوَ عَارِفٌ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ، بِأُمُورٍ أُخَرَ اطَّلَعَ هُوَ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا غَيْرُهُ .
وَمِمَّا يُؤَيِّدُ عَدَمَ التَّوْقِيتِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَقَالَ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : يَوْمًا ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : وَيَوْمَيْنِ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَمَا شِئْتَ " .
وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ لِتَقْوِيَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
فَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي عَدَمِ التَّوْقِيتِ صَحِيحٌ ، وَيَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ ، وَبِالْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى عُمَرَ ، وَابْنِهِ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
تَنْبِيهٌ
الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ [ ص: 349 ] الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ هُنَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِجَوَازِ الْمَسْحِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لِلْمُسَافِرِ ، وَالْمُقِيمِ ، وَالْمُقَيَّدُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ لِلْمُسَافِرِ وَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِلْمُقِيمِ ; فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ فِي ذَلِكَ الزَّائِدِ ، فَالْمُطْلَقُ يُصَرِّحُ بِجَوَازِهِ ، وَالْمُقَيَّدُ يُصَرِّحُ بِمَنْعِهِ ، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، فَتُرَجَّحُ أَدِلَّةُ التَّوْقِيتِ بِأَنَّهَا أَحْوَطُ ، كَمَا رَجَّحَهَا بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَبِأَنَّ رُوَاتَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ ، وَبِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمُ .
وَقَدْ تَرْجَّحَ أَدِلَّةُ عَدَمِ التَّوْقِيتِ بِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ ، وَبِأَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ أَمْرًا ، وَالْمَانِعُ مِنْهَا نَافٍ لَهُ ، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنَ النَّافِي .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَالنَّفْسُ إِلَى تَرْجِيحِ التَّوْقِيتِ أَمْيَلُ ; لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلَافِ أَحْوَطُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : [ الرَّجَزُ ]
إِنِ الْأَوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ خِلَافِهِمْ وَلَوْ ضَعِيفًا فَاسْتَبِنْ
وَقَالَ الْآخَرُ : [ الرَّجَزُ ]
وَذُو احْتِيَاطٍ فِي أُمُورِ الدِّينِ مَنْ فَرَّ مَنْ شَكٍّ إِلَى يَقِينِ
وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " .
فَالْعَامِلُ بِأَدِلَّةِ التَّوْقِيتِ طَهَارَتُهُ صَحِيحَةٌ بِاتِّفَاقِ الطَّائِفَتَيْن ِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْن ِ تَقُولُ بِبُطْلَانِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّوْقِيتِ اخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ .
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُمَ ا ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهُ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَدَاوُدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْن ِ ، وَغَيْرُهُمْ ، إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ التَّوْقِيتِ مِنْ أَوَّلِ حَدَثٍ يَقَعُ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِزِيَادَةٍ رَوَاهَا الْحَافِظُ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ : مِنَ الْحَدَثِ إِلَى الْحَدَثِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : وَهِيَ زِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ ثَابِتَةً .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْحَ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ وَقْتِهَا مِنْ حِينِ جَوَازِ فِعْلِهَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ .
[ ص: 350 ] وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ يَمْسَحُ بَعْدَ الْحَدَثِ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ، الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَدَاوُدَ ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ النَّوَوِيُّ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَحَادِيثِ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ ، وَهِيَ أَحَادِيثٌ صِحَاحٌ .
وَوَجْهُ احْتِجَاجِهِمْ بِهَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " صَرِيحٌ ، فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا ظَرْفٌ لِلْمَسْحِ .
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنَ الْمَسْحِ ، وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ لِي ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ لُبْسِ الْخُفِّ ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَكْفِي مَسْحُ ظَاهِرِ الْخُفِّ ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ .
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ ظَاهِرِهِ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنِ الْحَسَنِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ أَكْثَرِ أَعْلَى الْخُفِّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَكْفِي عِنْدَهُ مَسْحُ قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَعْلَى الْخُفِّ .
وَحُجَّةُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ ظَاهِرِ الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ ، حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " بُلُوغِ الْمَرَامِ " : إِسْنَادُهُ حَسَنٌ .
وَقَالَ فِي " التَّلْخِيصِ " : إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .
ابو وليد البحيرى
2020-09-26, 06:10 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (51)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (6)
[ ص: 351 ] واعلم أن هذا الحديث لا يقدح فيه بأن في إسناده عبد خير بن يزيد الهمداني ، وأن البيهقي قال : لم يحتج بعبد خير المذكور صاحبا الصحيح ، اهـ ; لأن عبد خير المذكور ، ثقة مخضرم مشهور ، قيل إنه صحابي .
والصحيح أنه مخضرم وثقه يحيى بن معين ، والعجلي ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : مخضرم ثقة من الثانية لم يصح له صحبة .
وأما كون الشيخين لم يخرجا له ، فهذا ليس بقادح فيه باتفاق أهل العلم .
وكم من ثقة عدل لم يخرج له الشيخان !
وذهب الإمام الشافعي - رحمه الله - إلى أن الواجب مسح أقل جزء من أعلاه ، وأن مسح أسفله مستحب .
وذهب الإمام مالك - رحمه الله - إلى أنه يلزم مسح أعلاه وأسفله معا ، فإن اقتصر على أعلاه أعاد في الوقت ، ولم يعد أبدا ، وإن اقتصر على أسفله أعاد أبدا .
وعن مالك أيضا أن مسح أعلاه واجب ، ومسح أسفله مندوب .
واحتج من قال بمسح كل من ظاهر الخف وأسفله ، بما رواه ثور بن يزيد ، عن رجاء بن حيوة ، عن وراد ، كاتب المغيرة بن شعبة عن المغيرة بن شعبة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح أعلى الخف وأسفله " ، أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي ، وابن الجارود .
وقال الترمذي : هذا حديث معلول ، لم يسنده عن ثور غير الوليد بن مسلم ، وسألت أبا زرعة ومحمدا عن هذا الحديث فقالا : ليس بصحيح ، ولا شك أن هذا الحديث ضعيف .
وقد احتج مالك لمسح أسفل الخف بفعل عروة بن الزبير رضي الله عنهما .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ الْمَائِيَّةِ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ ، وَأَنَّ مَنْ لَبِسَهُمَا مُحْدِثًا ، أَوْ بَعْدَ تَيَمُّمٍ ، لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا .
وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ ، كَمَنْ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فَأَدْخَلَهَا فِي الْخُفِّ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى فَأَدْخَلَهَا أَيْضًا فِي الْخُفِّ ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ ؟ .
[ ص: 352 ] ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ ، فَقَالُوا فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ : لَا يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ لِأَنَّهُ لَبِسَ أَحَدَ الْخُفَّيْنِ قَبْلَ كَمَالِ الطَّهَارَةِ . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ ، وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ ، وَإِسْحَاقُ ، وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَدَ .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ لِلْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، كَحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنَّهُ قَالَ : " دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ " فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَبِي دَاوُدَ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " دَعِ الْخُفَّيْنِ فَإِنِّي أَدْخَلْتُ الْقَدَمَيْنِ الْخُفَّيْنِ ، وَهُمَا طَاهِرَتَانِ " فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ لَمَّا نَبَّهَهُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَيْهِ : " إِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَانِ " .
وَفِي حَدِيثِ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُتَقَدِّمِ : " أَمَرَنَا أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهُمَ ا عَلَى طُهْرٍ " الْحَدِيثَ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ .
وَقَالُوا : وَالطَّهَارَةُ النَّاقِصَةُ كَلَا طَهَارَةٍ .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ كَمَالِ الطَّهَارَةِ وَقْتَ لُبْسِ الْخُفِّ فَأَجَازُوا لُبْسَ خُفِّ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى وَالْمَسْحَ عَلَيْهِ ، إِذَا أَحْدَثَ بَعْدَ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ كَمُلَتْ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ .
قَالُوا : وَالدَّوَامُ كَالِابْتِدَاءِ . وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ ، وَالْمُزَنِيُّ ، وَدَاوُدُ . وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : مَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُوَ قَاعِدَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، " وَهِيَ هَلْ يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِمُجَرَّدِ غَسْلِهِ ، أَوْ لَا يَرْتَفِعُ الْحَدَثُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا إِلَّا بِتَمَامِ الْوُضُوءِ ؟ " ، وَأَظْهَرُهُمَا عِنْدِي أَنَّ الْحَدَثَ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي لَا يَنْقَسِمُ وَلَا يَتَجَزَّأُ ، فَلَا يَرْتَفِعُ مِنْهُ جُزْءٌ ، وَأَنَّهُ قَبْلَ تَمَامِ الْوُضُوءِ مُحْدِثٌ ، وَالْخُفُّ يُشْتَرَطُ فِي الْمَسْحِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ وَقْتَ لُبْسِهِ غَيْرَ مُحْدِثٍ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، اهـ .
تَنْبِيهٌ
جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ ، لِأَنَّهُمَا قُرْبَةٌ ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ ص: 353 ] يَقُولُ : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ " ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ قَائِلًا : إِنَّ طَهَارَةَ الْحَدَثِ لَا تَشْتَرِطُ فِيهَا النِّيَّةُ ، كَطَهَارَةِ الْخَبَثِ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْغَايَةِ فِي قَوْلِهِ : إِلَى الْمَرَافِقِ [ 5 \ 6 ] ، هَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فَيَجِبُ غَسْلُ الْمُرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ ؟ . وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ . أَوْ خَارِجَةٌ فَلَا يَجِبُ غَسْلُ الْمُرَافِقِ فِيهِ ؟ .
وَالْحُقُّ اشْتِرَاطُ النِّيَّةِ ، وَوُجُوبُ غَسْلِ الْمَرَافِقِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ هَلْ يَجِبُ تَعْمِيمُهُ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ : يَجِبُ تَعْمِيمُهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ الْأَحْوَطُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَسْحِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجِبُ التَّعْمِيمُ .
وَاخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الْمُجْزِئِ ، فَعَنِ الشَّافِعِيِّ : أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَسْحِ كَافٍ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : الرُّبُعُ ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ : الثُّلُثُ ، وَعَنْ بَعْضِهِمُ : الثُّلُثَانِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ " ، وَحَمَلَهُ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا إِذَا خِيفَ بِنَزْعِهَا ضَرَرٌ ، وَظَاهِرُ الدَّلِيلِ الْإِطْلَاقُ .
وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " الْمَسْحُ عَلَى النَّاصِيَةِ وَالْعِمَامَةِ " ، وَلَا وَجْهَ لِلِاسْتِدْلَال ِ بِهِ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالنَّاصِيَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اكْتَفَى بِهَا ، بَلْ مَسَحَ مَعَهَا عَلَى الْعِمَامَةِ ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ : الْمَسْحُ عَلَى الرَّأْسِ ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْعِمَامَةِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالْمَسْحِ عَلَى النَّاصِيَةِ ، وَالْعِمَامَةِ .
وَالظَّاهِرُ مِنَ الدَّلِيلِ جَوَازُ الْحَالَاتِ الثَّلَاثِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَمَا قَدَّمَنَا مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ الِاكْتِفَاءِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفِّ بِالتَّيَمُّمِ ، مَعَ أَنَّ فِيهِ بَعْضُ خِلَافٍ كَمَا يَأْتِي ، لِأَنَّهُ لِضَعْفِهِ عِنْدَنَا كَالْعَدَمِ ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خَوْفَ الْإِطَالَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ الْآيَةَ ، اعْلَمْ أَنَّ لَفْظَةَ مِنْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُحْتَمِلَةٌ ، لِأَنْ تَكُونَ لِلتَّبْعِيضِ ، فَيَتَعَيَّنُ فِي التَّيَمُّمِ التُّرَابُ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ ; وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، أَيْ مَبْدَأُ ذَلِكَ الْمَسْحِ كَائِنٌ مِنَ الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ مَالَهُ غُبَارٌ ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ ، [ ص: 354 ] وَأَحْمَدُ ، وَبِالثَّانِي قَالَ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعًا .
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِشَارَةً إِلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [ 5 \ 6 ] ، فَقَوْلُهُ : مِنْ حَرَجٍ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ زِيدَتْ قَبْلَهَا مِنْ ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ ، فَهِيَ نَصٌّ فِي الْعُمُومِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " عَاطِفًا عَلَى صِيَغِ الْعُمُومِ : [ الرَّجَزُ ]
وَفِي سِيَاقِ النَّفْيِ مِنْهَا يُذْكَرْ إِذَا بُنِي أَوْ زِيدَ مِنْ مُنَكَّرْ
فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ النَّفْيِ فِي كُلِّ أَنْوَاعِ الْحَرَجِ ، وَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ كَوْنُ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْبِلَادِ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الرِّمَالُ أَوِ الْجِبَالُ ، فَالتَّكْلِيفُ بِخُصُوصِ مَا فِيهِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ ، لَا يَخْلُو مِنْ حَرَجٍ فِي الْجُمْلَةِ .
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي ، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ ، فَلْيُصَلِّ " ، وَفِي لَفْظٍ : " فَعِنْدَهُ مَسْجِدُهُ وَطَهُورُهُ " الْحَدِيثَ .
فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَنْ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فِي مَحَلٍّ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا الْجِبَالُ أَوِ الرِّمَالُ أَنَّ ذَلِكَ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ الَّذِي هُوَ الْحِجَارَةُ ، أَوِ الرَّمْلُ طَهُورٌ لَهُ وَمَسْجِدٌ ; وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ مِنْ تَعَيُّنِ كَوْنِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; فَإِنْ قِيلَ : وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ التُّرَابِ الَّذِي لَهُ غُبَارٌ يَعْلَقُ بِالْيَدِ ، دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّعِيدِ ، فَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا ، إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ " الْحَدِيثَ ، فَتَخْصِيصُ التُّرَابِ بِالطَّهُورِيَّ ةِ فِي مَقَامِ الِامْتِنَانِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ الصَّعِيدِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ كَوْنَ الْأَمْرِ مَذْكُورًا فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ ، مِمَّا يَمْنَعُ فِيهِ اعْتِبَارُ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي مَوَانِعَ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ : [ الرَّجَزُ ]
[ ص: 355 ]
أَوِ امْتِنَانٌ أَوْ وِفَاقُ الْوَاقِعِ وَالْجَهْلُ وَالتَّأْكِيدُ عِنْدَ السَّامِعِ
وَلِذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْقَدِيدِ مِنَ الْحُوتِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَصَّ اللَّحْمَ الطَّرِيَّ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا [ 16 \ 14 ] ; لِأَنَّهُ ذَكَرَ اللَّحْمَ الطَّرِيَّ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ ، فَلَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ ، فَيَجُوزُ أَكْلُ الْقَدِيدِ مِمَّا فِي الْبَحْرِ .
الثَّانِي : أَنَّ مَفْهُومَ التُّرْبَةِ مَفْهُومُ لَقَبٍ ، وَهُوَ لَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الْحَقُّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الْأُصُولِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ التُّرْبَةَ فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ الصَّعِيدِ ; وَذِكْرُ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يَكُونُ مُخَصِّصًا لَهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، سَوَاءٌ ذُكِرَا فِي نَصٍّ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [ 2 \ 238 ] ، أَوْ ذُكِرَا فِي نَصَّيْنِ كَحَدِيثِ : " أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ " ، عِنْدَ أَحْمَدَ ، وَمُسْلِمٍ ، وَابْنِ مَاجَهْ ، وَالتِّرْمِذِيّ ِ ، وَغَيْرِهِمْ ، مَعَ حَدِيثِ : " هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا " ، يَعْنِي شَاةً مَيِّتَةً عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ ، كِلَاهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَذِكْرُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الْأَوَّلِ ، وَجِلْدِ الشَّاةِ فِي الْأَخِيرِ لَا يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوَّلِ ، وَمِنَ الْجُلُودِ فِي الثَّانِي لَيْسَ كَذَلِكَ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يُخَصَّصُ بِهِ الْعُمُومُ : [ الرَّجَزُ ]
وَذِكْرُ مَا وَافَقَهُ مِنْ مُفْرَدِ وَمَذْهَبُ الرَّاوِي عَلَى الْمُعْتَمَدِ
وَلَمْ يُخَالِفْ فِي عَدَمِ التَّخْصِيصِ بِذِكْرِ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ ، إِلَّا أَبُو ثَوْرٍ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِذِكْرِهِ إِلَّا التَّخْصِيصُ .
وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ مَفْهُومَ اللَّقَبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، وَفَائِدَةُ ذِكْرِ الْبَعْضِ نَفْيُ احْتِمَالِ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْعَامِ ، وَالصَّعِيدُ فِي اللُّغَةِ : وَجْهُ الْأَرْضِ ، كَانَ عَلَيْهِ تُرَابٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، قَالَهُ الْخَلِيلُ ، وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ ، وَالزَّجَّاجُ .
قَالَ الزَّجَّاجُ : لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [ 18 \ 8 ] ، أَيْ أَرْضًا غَلِيظَةً لَا تُنْبِتُ شَيْئًا ، وَقَالَ تَعَالَى : فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [ 18 \ 40 ] ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ : [ الْبَسِيطُ ]
كَأَنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدُ بِهِ دَبَّابَةٌ فِي عِظَامِ الرَّأْسِ خُرْطُومُ
ابو وليد البحيرى
2020-09-26, 06:11 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (52)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (7)
[ ص: 356 ] وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا ; لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ ، وَجَمْعُ الصَّعِيدِ صُعُدَاتٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ : " إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الصُّعُدَاتِ " ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ أَجْلِ تَقْيِيدِهِ بِالطَّيِّبِ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : " الطَّيِّبُ " هُوَ الطَّاهِرُ ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ كُلِّهِ ، تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا ، أَوْ حِجَارَةً ، أَوْ مَعْدِنًا ، أَوْ سَبْخَةً ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ طَاهِرًا ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الطَّيِّبُ : الْحَلَالُ ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ مَغْصُوبٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ : الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ : التُّرَابُ الْمُنْبِتُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ الْآيَةَ [ 7 \ 58 ]
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَهَا وَاسِطَةٌ وَطَرَفَانِ : طَرَفٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ ، وَهُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ الطَّاهِرُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ ، وَلَا مَغْصُوبٍ ; وَطَرَفٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ التَّيَمُّمِ بِهِ ، وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْخَالِصَانِ ، وَالْيَاقُوتُ وَالزُّمُرُّدُ ، وَالْأَطْعِمَةُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالنَّجَاسَاتُ وَغَيْرُ هَذَا هُوَ الْوَاسِطَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ، فَمِنْ ذَلِكَ الْمَعَادِنُ .
فَبَعْضُهُمْ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَيْهَا كَمَالِكٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَمِنْ ذَلِكَ الْحَشِيشُ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ خُوَيْزٍ مِنْدَادُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْحَشِيشِ إِذَا كَانَ دُونَ الْأَرْضِ ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَنْعُ ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّيَمُّمُ عَلَى الثَّلْجِ ، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " ، وَ " الْمَبْسُوطِ جَوَازُهُ " ، قِيلَ : مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : عِنْدَ عَدَمِ الصَّعِيدِ ، وَفِي غَيْرِهِمَا مَنْعُهُ .
وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْعُودِ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ ، وَفِي " مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ " أَنَّهُ جَائِزٌ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ فِي الْعُودِ الْمُتَّصِلِ بِالْأَرْضِ دُونَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهَا ، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى شَجَرَةٍ ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا أَجَزَأَهُ ، قَالَ : وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ : يَجُوزُ بِالْأَرْضِ ، وَكُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ ، وَالْمَدَرِ وَغَيْرِهَا حَتَّى قَالَا : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْجَمَدِ وَالثَّلْجِ أَجْزَأَهُ .
وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجِيزُهُ بِالْكُحْلِ ، وَالزَّرْنِيخِ ، وَالنَّوْرَةِ ، وَالْجَصِّ ، وَالْجَوْهَرِ الْمَسْحُوقِ ، وَيَمْنَعُهُ بِسُحَالَةِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالرَّصَاصِ ، لِأَنَّ [ ص: 357 ] ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ .
وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ ، وَابْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُمَا أَجَازَاهُ بِالْمِسْكِ ، وَالزَّعْفَرَان ِ ، وَأَبْطَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ ، وَمَنَعَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ بِالسِّبَاخِ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ ، وَعَنْهُ فِيمَنْ أَدْرَكَهُ التَّيَمُّمَ ، وَهُوَ فِي طِينٍ أَنَّهُ يَطْلِي بِهِ بَعْضَ جَسَدِهِ ، فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
وَأَمَّا التُّرَابُ الْمَنْقُولُ فِي طَبَقٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِهِ ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْعُهُ .
وَمَا طُبِخَ كَالْجَصِّ ، وَالْآجُرِّ فَفِيهِ أَيْضًا خِلَافٌ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْمَنْعُ أَشْهَرُ .
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْجِدَارِ ، فَقِيلَ : جَائِزٌ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ بِجَوَازِهِ لِلْمَرِيضِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَحَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْجِدَارِ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّعِيدِ ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَعَادِنِ غَيْرَ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ مَا لَمْ تُنْقَلْ ، وَجَوَازُهُ عَلَى الْمِلْحِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ ، وَمَنْعُهُ بِالْأَشْجَارِ ، وَالْعِيدَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ عَلَى اللُّبَدِ ، وَالْوَسَائِدِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ .
وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ ، تَيَمَّمْتُ الشَّيْءَ قَصَدْتُهُ ، وَتَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَعَمَّدْتُهُ ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ قَوْلَ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ ، مُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ : [ الْبَسِيطُ ]
يَمَّمْتُهُ الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ هَذِي الْبَسَالَةُ لَا لَعِبُ الزَّحَالِيقِ
وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]
تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي
وَقَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ
وَقَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ : [ الطَّوِيلُ ]
سَلِ الرَّبْعَ أَنَّى يَمَّمَتْ أُمُّ طَارِقٍ وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا
[ ص: 358 ] وَالتَّيَمُّمُ فِي الشَّرْعِ : الْقَصْدُ إِلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِمَسْحِ الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ مِنْهُ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَكَوْنُ التَّيَمُّمِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ ، وَهُوَ الْحَقُّ .
مَسَائِلُ فِي أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّيَمُّمِ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ، وَكَذَلِكَ عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ .
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ الْقَوْلَ بِرُجُوعِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّ لِمَنْ مَنَعَ التَّيَمُّمَ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ لَيْسَ فِيهَا إِبَاحَتُهُ إِلَّا لِصَاحِبِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ; حَيْثُ قَالَ : أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا الْآيَةَ [ 4 \ 43 ] ، وَرَدُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ ذِكْرِ الْجَنَابَةِ فِي آيَةِ النِّسَاءِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [ 4 \ 43 ] ، فَسَّرَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ ، وَإِذًا فَذِكْرُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْجِمَاعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّمْسِ ، أَوِ الْمُلَامَسَةِ بِحَسَبِ الْقِرَاءَتَيْن ِ ، وَالْمَجِيءُ مِنَ الْغَائِطِ دَلِيلٌ عَلَى شُمُولِ التَّيَمُّمِ لِحَالَتَيِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ، وَالْأَصْغَرِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، صَرَّحَ بِالْجَنَابَةِ غَيْرَ مُعَبِّرٍ عَنْهَا بِالْمُلَامَسَة ِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا التَّيَمُّمَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَنْهَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [ 5 \ 6 ] ، ثُمَّ قَالَ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا الْآيَةَ [ 5 \ 6 ] .
فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُحْدِثِ ، وَالْجُنُبِ جَمِيعًا ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
الثَّالِثُ : تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ قَالَ : " أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ ، فَتَمَعَّكْتُ فِي الصَّعِيدِ وَصَلَّيْتُ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا " ، [ ص: 359 ] وَضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ ، وَنَفَخَ فِيهِمَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ، وَكَفَّيْهِ " .
وَأَخْرَجَا فِي صَحِيحَيْهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ; فَإِذَا هُمْ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ ، فَقَالَ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ ؟ قَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ " .
وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ، هَلْ تَكْفِي لِلتَّيَمُّمِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ لَا ؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ : تَكْفِي ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكَفَّيْنِ وَالْوَجْهِ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَكْحُولٌ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَنَقْلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا .
وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا لِلْوَجْهِ ، وَالْأُخْرَى لِلْكَفَّيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الثَّانِيَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِسُنِّيَّتِهَا كَمَالِكٍ ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَابْنُ سِيرِينَ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الِاكْتِفَاءُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ شَيْءٌ مَرْفُوعًا ، إِلَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمَ ، وَحَدِيثُ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : " أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْصُولًا ، وَمُسْلِمٌ تَعْلِيقًا ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا ضَرْبَتَانِ كَمَا رَأَيْتَ ، وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ عَمَّارٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَلْ يَلْزَمُ فِي التَّيَمُّمِ مَسْحُ غَيْرِ الْكَفَّيْنِ ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمُ الْمَسْحَ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُهُمَ ا ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، وَاللَّيْثُ ، كُلُّهُمْ يَرَوْنَ بُلُوغَ التَّيَمُّمِ بِالْمِرْفَقَيْ نِ فَرْضًا وَاجِبًا ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَابْنُ نَافِعٍ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي .
[ ص: 360 ] قَالَ ابْنُ نَافِعٍ : مَنْ تَيَمَّمَ إِلَى الْكُوعَيْنِ أَعَادَ الصَّلَاةَ أَبَدًا ، وَقَالَ مَالِكٌ : فِي الْمُدَوَّنَةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ ، وَرُوِيَ التَّيَمُّمُ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرْفُوعًا ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي أُمَامَةَ ، وَعَائِشَةَ ، وَعَمَّارٍ ، وَالْأَسْلَعِ ، وَسَيَأْتِي مَا فِي أَسَانِيدِ رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْمَقَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : يَمْسَحُ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْآبَاطِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِ : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّيَمُّمِ هُوَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فَقَطْ ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ ثَابِتُ الرَّفْعِ إِلَّا حَدِيثَ عَمَّارٍ : وَحَدِيثَ أَبِي جُهَيْمٍ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ .
أَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ ، فَقَدْ وَرَدَ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ مُجْمَلًا ، كَمَا رَأَيْتَ ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَقَدْ وَرَدَ بِذِكْرِ الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، كَمَا قَدَّمْنَا آنِفًا . وَوَرَدَ فِي غَيْرِهِمَا بِذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى الْآبَاطِ ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَنِصْفِ الذِّرَاعِ ، فَفِيهِمَا مَقَالٌ سَيَأْتِي ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْآبَاطِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : إِنْ كَانَ ذَاكَ وَقَعَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَكُلُّ تَيَمُّمٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ ; وَإِنْ كَانَ وَقَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَالْحُجَّةُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ ، وَمِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، كَوْنُ عَمَّارٍ كَانَ يُفْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ; وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَعْرِفُ بِالْمُرَادِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ; وَلَا سِيَّمَا الصَّحَابِيُّ الْمُجْتَهِدُ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " .
وَأَمَّا فِعْلُ ابْنُ عُمَرَ ، فَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَا يُعَارَضُ بِهِ مَرْفُوعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ حَدِيثُ عَمَّارٍ .
ابو وليد البحيرى
2020-09-26, 06:12 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (53)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (8)
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ ، أَنَّهُ قَالَ : " مَرَّ رَجُلٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِكَّةٍ مِنَ السِّكَكِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى كَادَ الرَّجُلُ يَتَوَارَى فِي السِّكَكِ ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى حَائِطٍ ، وَمَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ ، ثُمَّ ضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحَ بِهَا ذِرَاعَيْهِ " ، وَمَدَارُ الْحَدِيثِ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ . وَقَالَ أَحْمَدُ ، وَالْبُخَارِيُّ : يُنْكَرُ عَلَيْهِ حَدِيثُ التَّيَمُّمِ . أَيْ [ ص: 361 ] هَذَا ، زَادَ الْبُخَارِيُّ : خَالَفَهُ أَيُّوبُ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ وَالنَّاسُ ، فَقَالُوا عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَعَلَهُ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : لَمْ يُتَابِعْ أَحَدٌ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عَلَى ضَرْبَتَيْنِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَوَوْهُ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : لَا يَصِحُّ ; لِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ ثَابِتٍ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَمُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ هَذَا هُوَ الْعَبْدِيُّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ ، قَالَ فِيهِ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ ، لَيِّنُ الْحَدِيثِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ رِوَايَةَ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ ، وَابْنِ الْهَادِ لِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، لَيْسَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَابَعَةُ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتٍ عَلَى الضَّرْبَتَيْنِ ، وَلَا عَلَى الذِّرَاعَيْنِ ; لِأَنَّ الضَّحَّاكَ لَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ فِي رِوَايَتِهِ ، وَابْنَ الْهَادِ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ " مَسَحَ وَجْهَهَ وَيَدَيْهِ " ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ ظَبْيَانَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ : " الْتَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .
قَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ : وَقَفَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ ، وَهُشَيْمٌ وَغَيْرُهُمَا ، وَهُوَ الصَّوَابُ ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، مَعَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ ظَبْيَانَ ضَعَّفَهُ الْقَطَّانُ ، وَابْنُ مَعِينٍ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ .
وَهُوَ ابْنُ ظَبْيَانَ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيُّ الْكُوفِيُّ ، قَاضِي بَغْدَادَ ، قَالَ فِيهِ فِي " التَّقْرِيبِ " : ضَعِيفٌ .
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ مِنْ طَرِيقِ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : " تَيَمَّمْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، ضَرَبْنَا بِأَيْدِينَا عَلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ ، ثُمَّ نَفَضْنَا أَيْدِيَنَا فَمَسَحْنَا بِهَا وُجُوهَنَا ، ثُمَّ ضَرَبْنَا ضَرْبَةً أُخْرَى فَمَسَحْنَا مِنَ الْمَرَافِقِ إِلَى الْأَكُفِّ " الْحَدِيثَ ، لَكِنْ فِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : رَوَاهُ مَعْمَرٌ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَوْقُوفًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَرَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِي ُّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْحَرَّانَيِّ ، وَهُوَ مَتْرُوكٌ أَيْضًا عَنْ سَالِمٍ ، وَنَافِعٍ جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا بِلَفْظِ : " وَفِي التَّيَمُّمِ ضَرْبَتَانِ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .
قَالَ أَبُو زُرْعَةَ : حَدِيثٌ بَاطِلٌ ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ [ ص: 362 ] مُحَمَّدٍ الْأَنْمَاطِيِّ عَنْ عَزْرَةَ بْنِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي نُعَيْمٍ عَنْ عَزْرَةَ بِسَنَدِهِ الْمَذْكُورِ ، قَالَ : " جَاءَ رَجُلٌ ، فَقَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ ، وَإِنِّي تَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ ، فَقَالَ : اضْرِبْ ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ ، ثُمَّ ضَرَبَ يَدَيْهِ فَمَسَحَ بِهِمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .
ضَعَّفَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ بِأَنَّ فِيهِ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، وَرُدَّ عَلَى ابْنِ الْجَوْزِيِّ بِأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ ، لَكِنَّ رِوَايَتَهُ الْمَذْكُورَةَ شَاذَّةٌ ; لِأَنَّ أَبَا نُعَيْمٍ رَوَاهُ عَنْ عَزْرَةَ مَوْقُوفًا ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْحَاكِمُ أَيْضًا .
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ فِي " حَاشِيَةِ السُّنَنِ " ، عَقِبَ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ : كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ ، وَالصَّوَابُ مَوْقُوفٌ ، قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " ، وَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمَذْكُورِ مَقْبُولٌ ، وَقَالَ فِي " التَّلْخِيصِ " أَيْضًا ، وَفِي الْبَابِ عَنِ الْأَسْلَعِ ، قَالَ : " كُنْتُ أَخْدُمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِآيَةِ الصَّعِيدِ ، فَأَرَانِي التَّيَمُّمَ ، فَضَرَبْتُ بِيَدَيَّ الْأَرْضَ وَاحِدَةً ، فَمَسَحْتُ بِهَا وَجْهِيَ ثُمَّ ضَرَبْتُ بِهَا الْأَرْضَ فَمَسَحْتُ بِهَا يَدَيَّ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالطَّبَرَانِي ُّ ، وَفِيهِ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ ، وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ أَيْضًا .
وَرَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا : " التَّيَمُّمُ ضَرْبَتَانِ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " ، تَفَرَّدَ بِهِ الْحَرِيشُ بْنُ الْخِرِّيتِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْهَا قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ، وَالْحَرِيشُ شَيْخٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ .
وَحَدِيثُ : " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ : تَكْفِيكَ ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْكَفَّيْنِ " ، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ ، وَفِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَلَكِنَّهُ حُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ .
وَحَدِيثُ عَمَّارٍ : " كُنْتُ فِي الْقَوْمِ حِينَ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ فَأَمَرَنَا فَضَرَبْنَا وَاحِدَةً لِلْوَجْهِ ، ثُمَّ ضَرْبَةً أُخْرَى لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ " .
رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا عَنْ عَمَّارٍ أَوْلَى مِنْهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَكْثَرُ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ عَنْ عَمَّارٍ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ فَكُلُّهَا مُضْطَرِبَةٌ ، اهـ ، مِنْهُ ; فَبِهَذَا كُلُّهُ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ [ ص: 363 ] عَمَّارٍ ، وَأَبِي جُهَيْمٍ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
فَإِذَا عَرَفْتَ نُصُوصَ السُّنَّةِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَسْحِ الْكَفَّانِ فَقَطْ ، وَلَا يَبْعُدُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّيْنِ ، وَسُنِّيَّةِ الذِّرَاعَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي الْكَفَّيْنِ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْوَارِدَةُ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ تَدُلُّ عَلَى السُّنِّيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ الطُّرُقَ الضَّعِيفَةَ الْمُعْتَبَرَ بِهَا يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى يَصْلُحَ مَجْمُوعُهَا لِلِاحْتِجَاجِ : لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ ، فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا ، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِالْمَوْقُوفَا تِ الْمَذْكُورَةِ .
وَالْأَصْلُ إِعْمَالُ الدَّلِيلَيْنِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ فِي التَّيَمُّمِ أَوْ لَا ؟ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ التَّيَمُّمِ ، وَحَكَى النَّوَوِيُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الشَّافِعِيَّةِ ، وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَجُلُّ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ سُنَّةٌ .
وَدَلِيلُ تَقْدِيمِ الْوَجْهِ عَلَى الْيَدَيْنِ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّمَهُ فِي آيَةِ النِّسَاءِ ، وَآيَةِ الْمَائِدَةِ ، حَيْثُ قَالَ فِيهِمَا : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ .
وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " ، يَعْنِي قَوْلَهُ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ [ 2 \ 158 ] ، وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ " ابْدَءُوا " بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ ، مُسْتَدِلًّا بِمَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فِي بَابِ " التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ " ، مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنَّ تَصْنَعَ هَكَذَا ، فَضَرَبَ بِكَفَّيْهِ ضَرْبَةً عَلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ نَفَضَهَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ " الْحَدِيثَ .
وَمَعْلُومٌ أَنْ " ثُمَّ " تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ ، وَأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِيهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ ، وَإِنَّمَا تَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مُنْفَصِلٌ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ مُؤَخَّرٌ عَمَّا قَبْلَهُ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ ، وَكَمَا فِي قَوْلِ حَسَّانَ : [ الْوَافِرُ ]
[ ص: 364 ]
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ
عَلَى رِوَايَةِ " الْوَاوِ " ، فَحَدِيثُ الْبُخَارِيِّ هَذَا نَصٌّ فِي تَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ ، وَلِلْإِسْمَاعِ يلِيِّ مِنْ طَرِيقِ هَارُونَ الْحَمَّالِ ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ مَا لَفْظُهُ : " إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَنْفُضَهُمَا ، ثُمَّ تَمْسَحَ بِيَمِينِكَ عَلَى شِمَالِكَ ، وَشِمَالِكَ عَلَى يَمِينِكَ ، ثُمَّ تَمْسَحَ عَلَى وَجْهِكَ " قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَقْدِيمِ الْوَجْهِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ ، وَسُنِّيَّتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَلْ يَرْفَعُ التَّيَمُّمُ الْحَدَثَ أَوْ لَا ؟ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ صِعَابِ الْمَسَائِلِ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ ، فَإِنْ قُلْنَا : لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ ، فَكَيْفَ صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، وَهُوَ مُحْدِثٌ ؟ وَإِنْ قُلْنَا : صَحَّتْ صَلَاتُهُ ، فَكَيْفَ نَقُولُ : لَمْ يَرْتَفِعْ حَدَثُهُ ؟ .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يَرْفَعُهُ رَفْعًا كُلِّيًّا .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَرْفَعُهُ رَفْعًا مُؤَقَّتًا .
حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ الْمُتَقَدِّمِ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ فَرَأَى رَجُلًا مُعْتَزِلًا لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ ، فَقَالَ : " مَا مَنَعَكَ يَا فُلَانٌ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ ؟ " قَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ . قَالَ : " عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ " . إِلَى أَنْ قَالَ : وَكَانَ آخِرُ ذَلِكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ ، قَالَ : " اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ " الْحَدِيثَ . وَلِمُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " وَغَسَّلْنَا صَاحِبَنَا " ، يَعْنِي الْجُنُبَ الْمَذْكُورَ . وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي أَنَّ تَيَمُّمَهُ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْفَعْ جَنَابَتَهُ .
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَأَحْمَدُ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ مَوْصُولًا ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ تَيَمَّمَ عَنِ الْجَنَابَةِ مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ [ ص: 365 ] وَأَنْتَ جُنُبٌ " ، فَقَالَ عَمْرٌو : إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ : وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ [ 4 \ 29 ] ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى حَدِيثِ عَمْرٍو هَذَا : وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ .
فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ عَمْرٍو ، وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ عَمْرٍو بِلَا وَاسِطَةٍ ، لَكِنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي فِيهَا أَبُو قَيْسٍ ، لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ التَّيَمُّمِ ، بَلْ فِيهَا أَنَّهُ غَسَلَ مَغَابِنَهُ فَقَطْ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ : رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ ، وَفِيهِ : " فَتَيَمَّمَ " ، وَرَجَّحَ الْحَاكِمُ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَلَى الْأُخْرَى .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ مَا فِي الرِّوَايَتَيْن ِ جَمِيعًا ، فَيَكُونَ قَدْ غَسَلَ مَا أَمْكَنَ ، وَتَيَمَّمَ عَنِ الْبَاقِي ، وَلَهُ شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَحَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ ، عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ ، انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ لِابْنِ حَجَرٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : مَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْن ِ مُتَعَيَّنٌ ; لِأَنَّ الْجَمْعَ وَاجِبٌ إِذَا أَمْكَنَ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، وَعُلُومِ الْحَدِيثِ .
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ " ، فَإِنَّهُ أَثْبَتَ بَقَاءَ جَنَابَتِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ .
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ ، وَأَصْحَابِ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ ، وَابْنُ الْقَطَّانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبَزَّارِ ، وَالطَّبَرَانِي ِّ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ .
وَذَكَرَ فِي " الْفَتْحِ " أَنَّهُ صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ : أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشْرَتَهُ " الْحَدِيثَ .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ : بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ ، عَنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ مِنْ رِوَايَةِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ : وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَبِي قِلَابَةَ ، فَقِيلَ هَكَذَا .
ابو وليد البحيرى
2020-09-26, 06:13 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (54)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (9)
وَقِيلَ عَنْهُ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ أَيُّوبَ عَنْهُ ، وَلَيْسَ فِيهَا مُخَالَفَةٌ لِرِوَايَةِ خَالِدٍ ، وَقِيلَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْهُ ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ ، وَقِيلَ عَنْهُ بِإِسْقَاطِ [ ص: 366 ] الْوَاسِطَةِ ، وَقِيلَ فِي الْوَاسِطَةِ مِحْجَنٌ ، أَوِ ابْنُ مِحْجَنٍ ، أَوْ رَجَاءُ بْنُ عَامِرٍ ، أَوْ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ ، وَكُلُّهَا عِنْدَ الدَّارَقُطْنِي ِّ ، وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كُلُّهُ عَلَى أَيُّوبَ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ كَرِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ ، وَصَحَّحَهُ أَيْضًا أَبُو حَاتِمٍ ، وَمَدَارُ طَرِيقِ خَالِدٍ عَلَى عَمْرِو بْنِ بُجْدَانَ ، وَقَدْ وَثَّقَهُ الْعِجْلِيُّ ، وَغَفَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ فَقَالَ : إِنَّهُ مَجْهُولٌ ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي التَّلْخِيصِ " .
وَقَالَ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي ابْنِ بُجْدَانَ الْمَذْكُورِ : لَا يُعْرَفُ حَالُهُ ، تَفْرَّدَ عَنْهُ أَبُو قِلَابَةَ ، وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَوَاهُ الْبَزَّارُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مُقَدَّمُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، ثَنَا عَمِّي الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى ، ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ : " الصَّعِيدُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ . وَلْيُمِسَّهُ بَشَرَتَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ " .
وَقَالَ : لَا نَعْلَمُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مُطَوَّلًا ، أَخْرَجَهُ فِي تَرْجَمَةِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ ، وَسَاقَ فِيهِ قِصَّةَ أَبِي ذَرٍّ ، وَقَالَ : لَمْ يَرَوْهُ إِلَّا هِشَامٌ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، وَلَا عَنْ هِشَامٍ إِلَّا الْقَاسِمُ ، تَفَرَّدَ بِهِ مُقَدَّمُ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ ، لَكِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ فِي الْعِلَلِ : إِنَّ إِرْسَالَهُ أَصَحُّ ، انْتَهَى مِنَ التَّلْخِيصِ بِلَفْظِهِ ، وَقَدْ رَأَيْتُ تَصْحِيحَ هَذَا الْحَدِيثِ لِلتِّرْمِذِيِّ ، وَأَبِي حَاتِمٍ ، وَابْنِ الْقَطَّانِ ، وَابْنِ حِبَّانَ .
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ : " فَإِنْ وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشْرَتَهُ " ; لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَوْ كَانَ التَّيَمُّمُ رَفَعَهَا ، لَمَا احْتِيجَ إِلَى إِمْسَاسِ الْمَاءِ الْبَشَرَةَ .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ : بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ فِي قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا " ، وَبِأَنَّ فِي الْحَدِيثِ الْمَارِّ آنِفًا : " التَّيَمُّمُ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ " ، وَبِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الْآيَةَ ، وَبِالْإِجْمَاع ِ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ بِهِ كَمَا تَصِحُّ بِالْمَاءِ بِهِ ، وَلَا يَخْفَى مَا بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ مِنَ التَّنَاقُضِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ تَعَيُّنُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ تَنْتَظِمُ وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَنَاقُضٌ وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى أَمْكَنَ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]
[ ص: 367 ] وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَّا إِلَّا فَلِلْأَخِيرِ نَسْخٌ بُيِّنَا
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ الْمَذْكُورُ هُوَ : أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ رَفْعًا مُؤَقَّتًا لَا كُلِّيًّا ، وَهَذَا لَا مَانِعَ مِنْهُ عَقْلًا وَلَا شَرْعًا ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ ; لِأَنَّ صِحَّةَ الصَّلَاةِ بِهِ الْمَجْمَعَ عَلَيْهَا يَلْزَمُهَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ غَيْرُ مُحْدِثٍ ، وَلَا جُنُبٍ لُزُومًا شَرْعِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ .
وَوُجُوبُ الِاغْتِسَالِ أَوِ الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ إِمْكَانِهِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ أَيْضًا يَلْزَمُهُ لُزُومًا شَرْعِيًّا لَا شَكَّ فِيهِ ، وَأَنَّ الْحَدَثَ مُطْلَقًا لَمْ يَرْتَفِعْ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَيَتَعَيَّنُ الِارْتِفَاعُ الْمُؤَقَّتُ . هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَكِنَّهُ يُشْكِلُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ " ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ وَقْتَ عَامِلِ الْحَالِ هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ الْحَالِ ، فَالْحَالُ وَعَامِلُهَا إِذًا مُقْتَرِنَانِ فِي الزَّمَانِ ، فَقَوْلُكَ : جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكًا مَثَلًا ، لَا شَكَّ فِي أَنَّ وَقْتَ الْمَجِيءِ فِيهِ هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ الضَّحِكِ ، وَعَلَيْهِ فَوَقْتُ صَلَاتِهِ ، هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ كَوْنِهِ جُنُبًا ; لِأَنَّ الْحَالَ هِيَ كَوْنُهُ جُنُبًا وَعَامِلُهَا قَوْلُهُ " صَلَّيْتَ " ، فَيَلْزَمُ أَنَّ الصَّلَاةَ وَالْجَنَابَةَ مُتَّحِدٌ ، وَلَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَالَ الْمُقَدَّرَةَ لَا تُقَارِنُ عَامِلَهَا فِي الزَّمَانِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [ 39 \ 73 ] ; لِأَنَّ الْخُلُودَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَمَنِ الدُّخُولِ أَيْ مُقَدِّرِينَ الْخُلُودَ فِيهَا ; لِأَنَّ الْحَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ لَيْسَتْ مِنْ هَذَا النَّوْعِ .
فَالْمُقَارَنَة ُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَامِلِهَا فِي الزَّمَنِ لَا شَكَّ فِيهَا ، وَإِذَا كَانَتِ الْجَنَابَةُ حَاصِلَةٌ لَهُ فِي نَفْسِ وَقْتِ الصَّلَاةِ ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ ، فَالرَّفْعُ الْمُؤَقَّتُ الْمَذْكُورُ لَا يَسْتَقِيمُ ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ : " وَأَنْتَ جُنُبٌ " ، قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ عُذْرَهُ بِخَوْفِهِ الْمَوْتَ إِنِ اغْتَسَلَ .
وَالْمُتَيَمِّم ُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مُبِيحٍ جَنُبٌ قَطْعًا ، وَبَعْدَ أَنْ عَلِمَ عُذْرَهُ الْمُبِيحَ لِلتَّيَمُّمِ الَّذِي هُوَ خَوْفُ الْمَوْتِ أَقَرَّهُ وَضَحِكَ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِعَادَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ وَهُوَ غَيْرُ جُنُبٍ ، وَهَذَا ظَاهِرُ الْوَجْهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الْجَنَابَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا لَمْ تَرْتَفِعْ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَلَوْ كَانَ فِي وَقْتِ صَلَاتِهِ غَيْرُ جُنُبٍ ، كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْخَمْرِ عَلَى الْعَصِيرِ فِي وَقْتٍ هُوَ فِيهِ لَيْسَ بِخَمْرٍ فِي [ ص: 368 ] قَوْلِهِ : إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا [ 12 \ 36 ] ، نَظَرًا إِلَى مَآلِهِ فِي ثَانِي حَالٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَمِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تُبْنَى عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي التَّيَمُّمِ ، هَلْ يَرْفَعُ الْحَدَثَ أَوْ لَا ؟ جَوَازُ وَطْءِ الْحَائِضِ إِذَا طَهُرَتْ ، وَصَلَّتْ بِالتَّيَمُّمِ لِلْعُذْرِ الَّذِي يُبِيحُهُ ، فَعَلَى أَنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ يَجُوزُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الِاغْتِسَالِ ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ .
وَكَذَلِكَ إِذَا تَيَمَّمَ وَلَبِسَ الْخُفَّيْنِ ، فَعَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا فِي الْوُضُوءِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ .
وَكَذَلِكَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ أَنَّ الْجُنُبَ إِذَا تَيَمَّمَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ لَا يَلْزَمُهُ الْغُسْلُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى رَفْعِ الْحَدَثِ بِالتَّيَمُّمِ ، لَكِنَّ هَذَا الْقَوْلَ تَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَة ُ ، وَإِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ ، وَبَعْدَهُ عَلَى خِلَافِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ فَرِيضَتَانِ أَوْ لَا ؟ .
ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِهِ فَرِيضَتَانِ ، أَوْ فَرَائِضُ مَا لَمْ يُحْدِثْ ، وَعَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، مِنْهُمُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْن ِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالزُّهْرِيُّ .
وَذَهَبَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُهُمَ ا إِلَى أَنَّهُ لَا تُصَلَّى بِهِ إِلَّا فَرِيضَةٌ وَاحِدَةٌ ; وَعَزَاهُ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " لِأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ الْمُنْذِرِ حَكَاهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَرَبِيعَةَ ، وَيَحْيَى الْأَنْصَارِيِّ ، وَاللَّيْثِ ، وَإِسْحَاقَ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ النُّصُوصَ الْوَارِدَةَ فِي التَّيَمُّمِ ، لَيْسَ فِيهَا التَّقْيِيدُ بِفَرْضٍ وَاحِدٍ ، وَظَاهِرُهَا الْإِطْلَاقُ ، وَبِحَدِيثِ : " الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ وُضُوءُ الْمُسْلِمِ " الْحَدِيثُ ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ : " وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا " ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [ 5 \ 6 ] .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الثَّانِي بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ قَالَ : مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا مَكْتُوبَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ يَتَيَمَّمُ لِلْأُخْرَى ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنَ السُّنَّةِ [ ص: 369 ] لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ عَلَى الصَّحِيحِ عِنْدَ الْمُحْدِّثِينَ ، وَالْأُصُولِيِّ ينَ ، أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْهُ ، وَالْحَسَنُ ضَعِيفٌ جِدًّا قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : مَتْرُوكٌ ، وَقَالَ فِيهِ مُسْلِمٌ ، فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ : قَالَ لِي شُعْبَةُ : ائْتِ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ ، فَقُلْ لَهُ : لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَرْوِيَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ ، فَإِنَّهُ يَكْذِبُ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ لَمَّا سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي سُنَنِهِ : الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، اهـ . وَهُوَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْبَجَلِيُّ مَوْلَاهُمُ الْكُوفِيُّ قَاضِي بَغْدَادَ ، وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ ، أَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَرَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ ، عَنْ نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَهُوَ أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ قَالَ : وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنَ الصَّحَابَةِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى إِجْمَاعًا سُكُوتِيًا ، وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَكِنَّ أَثَرَ ابْنِ عُمَرَ هَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَسَكَتَ ابْنُ حَجَرٍ عَلَى تَصْحِيحِهِ لَهُ فِي " التَّلْخِيصِ " ، " وَالْفَتْحِ " ، تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ عَامِرًا الْأَحْوَلَ ضَعَّفَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَقِيلَ : لَمْ يَسْمَعْ مِنْ نَافِعٍ ، وَضَعَّفَ هَذَا الْأَثَرَ ابْنُ حَزْمٍ وَنَقَلَ خِلَافَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " : بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْبَيْهَقِيَّ قَالَ : لَا نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا ، وَتُعُقِّبَ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّهُ لَا يَجِبُ .
وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَرَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كَانَ يَتَيَمَّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَبِهِ كَانَ يُفْتِي قَتَادَةُ ، وَهَذَا فِيهِ إِرْسَالٌ شَدِيدٌ بَيْنَ قَتَادَةَ ، وَعَمْرٍو ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " وَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَأَمَّا عَلِيٌّ فَرَوَاهُ عَنْهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ أَيْضًا بِإِسْنَادٍ فِيهِ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ أَيْضًا ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " بِالْإِسْنَادِ الَّذِي فِيهِ الْمَذْكُورَانِ .
أَمَّا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ ، فَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ ، كَثِيرُ الْخَطَأِ ، وَالتَّدْلِيسِ ، وَأَمَّا الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ فَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : كَذَّبَهُ الشَّعْبِيُّ فِي رَأْيِهِ ، وَرُمِيَ بِالرَّفْضِ ، وَفِي حَدِيثِهِ ضَعْفٌ ، وَقَالَ فِيهِ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا جَابِرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ [ ص: 370 ] الْهَمْدَانِيُّ ، وَكَانَ كَذَّابًا ، حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَرَّادٍ الْأَشْعَرِيِّ ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُفَضَّلٍ عَنْ مُغِيرَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ : حَدَّثَنِي الْحَارِثُ الْأَعْوَرُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ عَلِيٍّ فِي التَّيَمُّمِ ، فِي بَابِ : " التَّيَمُّمِ لِكُلِّ فَرِيضَةٍ " وَسَكَتَ عَنِ الْكَلَامِ فِي الْمَذْكُورِينَ ، أَعْنِي حَجَّاجَ بْنَ أَرْطَأَةَ ، وَالْحَارِثَ الْأَعْوَرَ ، لَكِنَّهُ قَالَ فِي حَجَّاجٍ فِي بَابِ " الْمَنْعِ مِنَ التَّطْهِيرِ بِالنَّبِيذِ " : لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَضَعَّفَهُ فِي بَابِ : " الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ " ، وَقَالَ فِي بَابِ : " الدِّيَةِ أَرْبَاعٌ " : مَشْهُورٌ بِالتَّدْلِيسِ ، وَأَنَّهُ يُحَدِّثُ عَمَّنْ لَمْ يَلْقَهُ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَضَعَّفَ الْحَارِثَ الْأَعْوَرَ فِي بَابِ : " مَنْعِ التَّطْهِيرِ بِالنَّبِيذِ أَيْضًا " .
وَقَالَ فِي بَابِ : " أَصْلِ الْقَسَامَةِ " ، قَالَ الشَّعْبِيُّ : كَانَ كَذَّابًا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إِذَا كَانَ فِي بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ، وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ ، هَلْ يَتَيَمَّمُ لِطَهَارَةِ تِلْكَ النَّجَاسَةِ الْكَائِنَةِ فِي بَدَنِهِ . فَيَكُونُ التَّيَمُّمُ بَدَلًا عَنْ طَهَارَةِ الْخَبَثِ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ ، كَطَهَارَةِ الْحَدَثِ ، أَوْ لَا يَتَيَمَّمُ لَهَا ؟ .
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ عَنِ الْخَبَثِ ، وَإِنَّمَا يَتَيَمَّمُ عَنِ الْحَدَثِ فَقَطْ . وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ إِنَّمَا دَلَّا عَلَى ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ : أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [ 4 \ 43 ] .
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، وَحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِمَا : التَّيَمُّمُ عِنْدَ الْجَنَابَةِ ، وَأَمَّا عَنِ النَّجَاسَةِ فَلَا ، وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عَنِ النَّجَاسَةِ إِلْحَاقًا لَهَا بِالْحَدَثِ ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي وُجُوبِ إِعَادَةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ .
وَذَهَبَ الثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ إِلَى أَنَّهُ يَمْسَحُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ بِتُرَابٍ ، وَيُصَلِّي ، نَقَلَهُ النَّوَوِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ [ الْآيَةَ [ 5 \ 15 ] ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْكَثِيرِ الَّذِي يُبَيِّنُهُ لَهُمُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ، وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنْهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
فَمِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ رَجْمُ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَبَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ 3 \ 23 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-09-26, 06:14 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (55)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (10)
[ ص: 371 ] يَعْنِي يُدْعَوْنَ إِلَى التَّوْرَاةِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ فِي حَدِّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ ، وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ ذَلِكَ مُنْكِرُونَ لَهُ ، وَمِنْ ذَلِكَ ، مَا أَخْفَوْهُ مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِهِمْ ، وَإِنْكَارِهِمْ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّهُ هُوَ الرَّسُولُ ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ 2 \ 89 ] .
وَمِنْ ذَلِكَ إِنْكَارُهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [ 4 \ 60 ] ، وَقَوْلِهِ : وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [ 6 \ 146 ] .
فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا هَذَا ، وَقَالُوا لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْنَا إِلَّا مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى إِسْرَائِيلَ ، فَكَذَّبَهُمُ الْقُرْآنُ فِي ذَلِكَ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ 3 \ 93 ] .
وَمِنْ ذَلِكَ كَتْمُ النَّصَارَى بِشَارَةَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لَهُمْ بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ بَيَّنَهَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ 61 \ 6 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِمَا أَخْفَوْهُ مِنْ كُتُبِهِمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ الْآيَةَ .
قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّهُمَا ابْنَا آدَمَ لِصُلْبِهِ ، وَهُمَا هَابِيلُ ، وَقَابِيلُ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُمَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ يَشْهَدُ لِقَوْلِ الْجَمَاعَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ الْحَسَنِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [ 15 \ 31 ] ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يَجْهَلُ الدَّفْنَ حَتَّى يَدُلَّهُ عَلَيْهِ الْغُرَابُ ، فَقِصَّةُ الِاقْتِدَاءِ بِالْغُرَابِ فِي الدَّفْنِ ، وَمَعْرِفَتِهِ مِنْهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاقِعَةَ وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ أَنْ [ ص: 372 ] يَتَمَرَّنَ النَّاسُ عَلَى دَفْنِ الْمَوْتَى ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ [ الْآيَةَ ] ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفَّسَا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَا لِحُكْمِ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِنَفْسٍ ، أَوْ بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، فَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ جَائِزٌ ، فِي قَوْلِهِ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [ 5 \ 45 ] ، وَفِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْآيَةَ [ 2 \ 187 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [ 17 \ 33 ] .
وَاعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِيهَا إِجْمَالٌ بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِيهَا أَنَّ الذَّكَرَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ إِجْمَاعًا ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كَذَلِكَ تُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ كَذَلِكَ إِجْمَاعًا ، وَأَنَّ الْعَبْدَ يُقْتَلُ كَذَلِكَ بِالْعَبْدِ إِجْمَاعًا ، وَإِنَّمَا لَمْ نَعْتَبِرْ قَوْلَ عَطَاءٍ بِاشْتِرَاطِ تَسَاوِي قِيمَةِ الْعَبْدَيْنِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ ، وَلَا قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ : لَيْسَ بَيْنَ الْعَبِيدِ قِصَاصٌ ، لِأَنَّهُمْ أَمْوَالٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَرُدُّهُ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ تُقْتَلُ بِالرَّجُلِ ، لِأَنَّهَا إِذَا قُتِلَتْ بِالْمَرْأَةِ ، فَقَتْلُهَا بِالرَّجُلِ أَوْلَى ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا .
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ عَلِيٌّ ، وَالْحَسَنُ ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا حَتَّى يَلْتَزِمَ أَوْلِيَاؤُهَا قَدْرَ مَا تَزِيدُ بِهِ دِيَتُهُ عَلَى دِيَتِهَا ; فَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمُوهُ أَخَذُوا دِيَتَهَا .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَالْحَسَنِ : أَنَّهَا إِنْ قَتَلَتْ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ ، وَأَخَذَ أَوْلِيَاؤُهُ أَيْضًا زِيَادَةَ دِيَتِهِ عَلَى دِيَتِهَا ، أَوْ أَخَذُوا دِيَةَ الْمَقْتُولِ وَاسْتَحْيَوْهَ ا .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ أَيْضًا : رَوَى هَذَا الشَّعْبِيُّ عَنْ عَلِيٍّ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّعْبِيَّ لَمْ يَلْقَ عَلِيًّا .
وَقَدْ رَوَى الْحَكَمُ ، عَنْ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ ، أَنَّهُمَا قَالَا : إِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ مُتَعَمِّدًا [ ص: 373 ] فَهُوَ بِهَا قَوَدٌ ، وَهَذَا يُعَارِضُ رِوَايَةَ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ ; وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " فِي بَابِ : " سُؤَالِ الْقَاتِلِ حَتَّى يُقِرَّ " وَالْإِقْرَارُ فِي الْحُدُودِ ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ الْمَذْكُورَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ : وَلَا يَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَلَكِنْ هُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ أَحَدُ فُقَهَاءِ الْبَصْرَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ ، أَنَّ أَوْلِيَاءَ الرَّجُلِ إِذَا قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ يُجْمَعُ لَهُمْ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَنِصْفِ الدِّيَةِ ، وَهَذَا قَوْلٌ يَدُلُّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى بُطْلَانِهِ ، وَأَنَّهُ إِمَّا الْقِصَاصُ فَقَطْ ، وَإِمَّا الدِّيَةُ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، ثُمَّ قَالَ : فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ الْآيَةَ ، فَرَتَّبَ الِاتِّبَاعَ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَفْوِ دُونَ الْقِصَاصِ .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ " الْحَدِيثَ ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ; وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ ، وَعَطَاءٍ ، أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ ، بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ وَالزُّهْرِيِّ ، أَنَّهَا إِنْ كَانَتْ زَوْجَتَهُ لَمْ يُقْتَلْ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَتِهِ قُتِلَ بِهَا .
وَالتَّحْقِيقُ قَتْلُهُ بِهَا مُطْلَقًا ; كَمَا سَتَرَى أَدِلَّتَهُ ، فَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ السَّلِيمَ الْأَعْضَاءِ إِذَا قَتَلَ أَعْوَرَ أَوْ أَشَلَّ ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَمْدًا ، وَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَلَا يَجُبْ لِأَوْلِيَائِهِ شَيْءٌ فِي مُقَابَلَةِ مَا زَادَ بِهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ السَّلِيمَةِ عَلَى الْمَقْتُولِ .
وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ ، مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ : " أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضَّ رَأْسَ يَهُودِيٍّ بِالْحِجَارَةِ قِصَاصًا بِجَارِيَةٍ فَعَلَ بِهَا كَذَلِكَ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ اسْتَدَلَّ بِهِ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَتْلِ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى ، وَعَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بِغَيْرِ الْمُحَدَّدِ ، وَالسِّلَاحِ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ " قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ " : أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ ، ثَنَا أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَنْبَرِيُّ ، ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْعَبْدِيُّ ، ثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى الْقَنْطَرِيُّ ، ثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمْزَةَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ ، وَالسُّنَنُ ، وَالدِّيَاتُ ، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَكَانَ فِيهِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ " .
[ ص: 374 ] وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مَوْصُولًا أَيْضًا النَّسَائِيُّ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ كَثِيرٍ مَا نَصُّهُ : وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيُّ ، وَغَيْرُهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ " ، وَكِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الَّذِي فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ ، رَوَاهُ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَرَوَاهُ أَيْضًا الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالدَّارِمِيُّ ، وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ هَذَا مَشْهُورٌ بَيْنَ مُصَحِّحٍ لَهُ ، وَمُضَعِّفٍ ; وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ : ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، وَعَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ : أَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا . وَصَحَّحَهُ أَيْضًا - مِنْ حَيْثُ الشُّهْرَةِ ، لَا مِنْ حَيْثُ الْإِسْنَادِ - جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ : لَمْ يَقْبَلُوا هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى ثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : هُوَ كِتَابٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ السِّيَرِ ، مَعْرُوفٌ مَا فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يَسْتَغْنِي بِشُهْرَتِهِ عَنِ الْإِسْنَادِ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُتَوَاتِرَ لِتَلَقِّي النَّاسِ لَهُ بِالْقَبُولِ ، قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى شُهْرَتِهِ مَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ : وُجِدَ كِتَابٌ عِنْدَ آلِ حَزْمٍ يَذْكُرُونَ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ ثَابِتٌ مَحْفُوظٌ ، وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ : لَا أَعْلَمَ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ الْمَنْقُولَةِ كِتَابًا أَصَحَّ مِنْ كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ هَذَا ، فَإِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالتَّابِعِينَ ، يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ ، وَيَدَعُونَ رَأْيَهُمْ .
وَقَالَ الْحَاكِمُ : قَدْ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَإِمَامُ عَصْرِهِ الزُّهْرِيُّ بِالصِّحَّةِ لِهَذَا الْكِتَابِ ، ثُمَّ سَاقَ ذَلِكَ بِسَنَدِهِ إِلَيْهِمَا ، وَضَعَّفَ كِتَابَ ابْنِ حَزْمٍ هَذَا جَمَاعَةٌ ، وَانْتَصَرَ لِتَضْعِيفِهِ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ فِي مُحَلَّاهُ .
وَالتَّحْقِيقُ : صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِهِ ; لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَهُ لِيُبَيِّنَ بِهِ أَحْكَامَ الدِّيَاتِ ، وَالزَّكَوَاتِ ، وَغَيْرِهَا ، وَنُسْخَتُهُ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَالْحَدِيثُ : وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ كَمَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدَ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَاتِ .
وَمِنْ أَدِلَّةِ قَتْلِهِ بِهَا عُمُومُ حَدِيثِ : " الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " الْحَدِيثَ ، وَسَيَأْتِي الْبَحْثُ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ فِي قَتْلِ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [ 5 \ 45 ] ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ [ ص: 375 ] يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " الْحَدِيثَ ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ ، وَبَاقِي الْجَمَاعَةِ ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقْتَضِي قَتْلَ الرَّجُلِ بِالْمَرْأَةِ ، لِأَنَّهُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ ، إِلَّا مَا أَخْرَجَهُ دَلِيلٌ صَالِحٌ لِتَخْصِيصِ النَّصِّ بِهِ ، نَعَمْ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا الِاسْتِدْلَالِ سُؤَالَانِ :
الْأَوَّلُ : مَا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، مَعَ أَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ قَوْمِ مُوسَى ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ 5 \ 48 ] .
السُّؤَالُ الثَّانِي : لِمَ لَا يُخَصَّصُ عُمُومُ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورَيْن ِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [ 2 \ 178 ] ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَخَصُّ مِنْ تِلْكَ ، لِأَنَّهَا فَصَّلَتْ مَا أُجْمِلَ فِي الْأُولَى ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مُخَاطَبَةٌ بِهَا صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ الْآيَةَ .
الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ : أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ : أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ لَنَا فِي كِتَابِنَا ، وَسُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا أَنَّهُ يَكُونُ شَرْعًا لَنَا ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَارِدٌ فِي كِتَابِنَا ، أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ; لِأَنَّهُ مَا قَصَّ عَلَيْنَا فِي شَرْعِنَا إِلَّا لِنَعْتَبِرَ بِهِ ، وَنَعْمَلَ بِمَا تَضْمَّنَ .
وَالنُّصُوصُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَمَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ بِالِاعْتِبَارِ بِأَحْوَالِهِمْ ، وَوَبَّخَ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ ذَلِكَ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ لُوطٍ : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ 37 \ 137 ، 138 ] .
فِي قَوْلِهِ : أَفَلَا تَعْقِلُونَ تَوْبِيخٌ لِمَنْ مَرَّ بِدِيَارِهِمْ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ ، وَيَعْقِلْ ذَلِكَ لِيَجْتَنِبَ الْوُقُوعَ فِي مِثْلِهِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ هَدَّدَ الْكَفَّارَ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَلِلْكَافِرِين َ أَمْثَالُهَا [ 47 \ 10 ] .
ابو وليد البحيرى
2020-10-01, 07:07 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (56)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (11)
صـ 376 إلى صـ 380
[ ص: 376 ] وَقَالَ فِي حِجَارَةِ قَوْمِ لُوطٍ الَّتِي أُهْلِكُوا بِهَا ، أَوْ دِيَارِهِمُ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا : وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [ 11 \ 83 ] ، وَهُوَ تَهْدِيدٌ عَظِيمٌ مِنْهُ تَعَالَى لِمَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ بِحَالِهِمْ ، فَيَجْتَنِبَ ارْتِكَابَ مَا هَلَكُوا بِسَبَبِهِ ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .
وَقَالَ تَعَالَى : لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ 12 \ 111 ] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَقُصُّ قَصَصَهُمْ فِي الْقُرْآنِ لِلْعِبْرَةِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ ، قَالَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [ 6 \ 90 ] ، وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمْرٌ لَنَا ; لِأَنَّهُ قُدْوَتُنَا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ [ 33 \ 21 ] ، وَيَقُولُ : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي الْآيَةَ [ 3 \ 31 ] ، وَيَقُولُ : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [ 59 \ 7 ] .
وَيَقُولُ : مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ الْآيَةَ [ 4 \ 80 ] ، وَمِنْ طَاعَتِهِ اتِّبَاعُهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ كُلِّهُ ، إِلَّا مَا قَامَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْخُصُوصِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَوْنُ شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا الثَّابِتِ بِشَرْعِنَا شَرْعًا لَنَا ، إِلَّا بِدَلِيلٍ عَلَى النَّسْخِ هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْن ِ ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ ، فَقَالَ : إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا الثَّابِتَ بِشَرْعِنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا ، إِلَّا بِنَصٍّ مِنْ شَرْعِنَا عَلَى أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا ، وَخَالَفَ أَيْضًا فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ فِي أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْمَلُ حُكْمُهُ الْأُمَّةَ ; وَاسْتَدَلَّ لِلْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ، وَلِلثَّانِي : بِأَنَّ الصِّيغَةَ الْخَاصَّةَ بِالرَّسُولِ لَا تَشْمَلُ الْأُمَّةَ وَضْعًا ، فَإِدْخَالُهَا فِيهَا صَرْفٌ لِلَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، فَيُحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، وَحَمْلُ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ : فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، وَالدِّينِ فِي قَوْلِهِ : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ الْآيَةَ [ 42 \ 13 ] عَلَى خُصُوصِ الْأُصُولِ الَّتِي هِيَ التَّوْحِيدُ دُونَ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْعَقَائِدِ : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ 21 \ 25 ] ، وَقَالَ : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ 16 \ 36 ] ، وَقَالَ : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ 43 \ 45 ] .
وَقَالَ فِي الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اتِّفَاقِهِمْ فِي الْأُصُولِ ، وَاخْتِلَافِهِم ْ فِي الْفُرُوعِ ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِنَّا مَعْشَرُ الْأَنْبِيَاءِ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ دِينُنَا وَاحِدٌ " ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ [ ص: 377 ] عَنْهُ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - وَغَفَرَ لَهُ : أَمَّا حَمْلُ الْهُدَى فِي آيَةِ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، وَالدِّينِ فِي آيَةِ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ، عَلَى سَبِيلِ التَّوْحِيدِ دُونَ الْفُرُوعِ الْعَمَلِيَّةِ ، فَهُوَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِمَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ " ص " ، عَنْ مُجَاهِدٍ : " أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ : مِنْ أَيْنَ أَخَذْتَ السَّجْدَةَ فِي " ص " ، فَقَالَ : أَوَ مَا تَقْرَأُ : وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [ 6 \ 84 و 90 ] ، فَسَجَدَهَا دَاوُدُ ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدْخَلَ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فِي الْهُدَى فِي قَوْلِهِ : فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سُجُودَ التِّلَاوَةِ فَرْعٌ مِنَ الْفُرُوعِ لَا أَصْلٌ مِنَ الْأُصُولِ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ الصَّحِيحِ الْمَشْهُورِ أَنَّ اسْمَ الدِّينِ يَتَنَاوَلُ الْإِسْلَامَ ، وَالْإِيمَانَ ، وَالْإِحْسَانَ ، حَيْثُ قَالَ : " هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ " ، وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ [ 3 \ 19 ] ، وَقَالَ : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا [ 3 \ 85 ] .
وَصَرَّحَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَشْمَلُ الْأُمُورَ الْعَمَلِيَّةَ ، كَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ ، وَالصَّوْمِ ، وَالْحَجِّ ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " بُنِي الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ " الْحَدِيثَ ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إِنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ خُصُوصُ الْعَقَائِدِ ، دُونَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدِّينَ لَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا الْآيَةَ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ جِدًّا ; لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَأَمَّا الْخِطَابُ الْخَاصُّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَحْوِ قَوْلِهِ : فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ، فَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى شُمُولِ حُكْمِهِ لِلْأُمَّةِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الْآيَةَ ، إِلَى غَيْرِهَا مِمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ مِنِ اسْتِقْرَاءِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ حَيْثُ يُعَبِّرُ فِيهِ دَائِمًا بِالصِّيغَةِ الْخَاصَّةِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ عُمُومُ حُكْمِ الْخِطَابِ لِلْأُمَّةِ ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الطَّلَاقِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ [ 65 \ 1 ] ، ثُمَّ قَالَ : إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ الْآيَةَ ، فَدَلَّ عَلَى دُخُولِ الْكُلِّ حُكْمًا تَحْتَ قَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ ، وَقَالَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ [ 66 \ 1 ] ، ثُمَّ قَالَ : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ [ 66 \ 2 ] ; [ ص: 378 ] فَدَلَّ عَلَى عُمُومِ حُكْمِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [ 33 \ 1 ] ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [ 4 \ 94 ] ، فَقَوْلُهُ : بِمَا تَعْمَلُونَ ، يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْخِطَابِ بِقَوْلِهِ : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ، وَكَقَوْلِهِ : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ [ 10 \ 61 ] ، ثُمَّ قَالَ : وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا الْآيَةَ .
وَمِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ فِي ذَلِكَ آيَةُ الرُّومِ ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ ، أَمَّا آيَةُ الرُّومِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا [ 30 \ 30 ] ، ثُمَّ قَالَ : مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [ 30 \ 31 ] ، وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ الْمُسْتَتِرِ ، الْمُخَاطَبِ بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ : فَأَقِمْ وَجْهَكَ ، الْآيَةَ .
وَتَقْرِيرُ الْمَعْنَى : فَأَقِمْ وَجْهَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ ، فِي حَالِ كَوْنِكُمْ مُنِيبِينَ ، فَلَوْ لَمْ تُدْخِلِ الْأُمَّةُ حُكْمًا فِي الْخِطَابِ الْخَاصِّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَالَ : مُنِيبًا إِلَيْهِ ، بِالْإِفْرَادِ ، لِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ عَلَى أَنَّ الْحَالَ الْحَقِيقِيَّةَ ، أَعْنِي الَّتِي لَمْ تَكُنْ سَبَبِيَّةً ، تَلْزَمُ مُطَابَقَتُهَا لِصَاحِبِهَا ، إِفْرَادًا ، وَجَمْعًا ، وَتَثْنِيَةً ، وَتَأْنِيثًا ، وَتَذْكِيرًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ : جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكِينَ ، وَلَا جَاءَتْ هِنْدٌ ضَاحِكَاتٍ ، وَأَمَّا آيَةُ الْأَحْزَابِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ الْأَسْدِيَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [ 33 \ 37 ] ، فَإِنَّ هَذَا الْخِطَابَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِشُمُولِ حِكْمَتِهِ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ الْآيَةَ ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا أَيْضًا فِي الْأَحْزَابِ بِقَوْلِهِ : خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [ 33 \ 50 ] ; لِأَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ : وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ الْآيَةَ ، لَوْ كَانَ حُكْمُهُ خَاصًّا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ : خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَدْ رَدَّتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَخْيِيرَ الزَّوْجَةِ طَلَاقٌ ، بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيَّرَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ ، فَلَمْ يَعُدَّهُ طَلَاقًا ; مَعَ أَنَّ الْخِطَابَ فِي ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْآيَتَيْنِ [ 33 \ 28 ] .
وَأَخْذَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنُونَةَ الزَّوْجَةِ بِالرِّدَّةِ مِنْ قَوْلِهِ : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [ 39 \ 65 ] ، وَهُوَ خِطَابٌ خَاصٌّ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
[ ص: 379 ] وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي مَسْأَلَةِ " شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا " ، أَنَّ لَهَا وَاسِطَةٌ وَطَرَفَيْنِ ، طَرَفٌ يَكُونُ فِيهِ شَرْعًا لَنَا إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، ثُمَّ بُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ شَرْعٌ لَنَا ، كَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، وَبُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا فِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، وَطَرَفٌ يَكُونُ فِيهِ غَيْرَ شَرْعٍ لَنَا إِجْمَاعًا وَهُوَ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَا لَمْ يَثْبُتْ بِشَرْعِنَا أَصْلًا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، كَالْمُتَلَقَّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِ يَّاتِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَانَا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ ، وَتَكْذِيبِهِمْ فِيهَا ، وَمَا نَهَانَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ تَصْدِيقِهِ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا لَنَا إِجْمَاعًا .
وَالثَّانِي : مَا ثَبَتَ فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، وَبُيِّنَ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَنَا ، كَالْآصَارِ ، وَالْأَغْلَالِ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا ; لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَهَا عَنَّا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [ 7 \ 157 ] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [ 2 \ 286 ] ، أَنَّ اللَّهَ قَالَ : نَعَمْ قَدْ فَعَلْتُ " .
وَمِنْ تِلْكَ الْآصَارِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ عَنَّا ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا وَقَعَ لِعَبَدَةِ الْعِجْلِ ، حَيْثُ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ إِلَّا بِتَقْدِيمِ أَنْفُسِهِمْ لِلْقَتْلِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ 2 \ 54 ] .
وَالْوَاسِطَةُ هِيَ مَحَلُّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، وَهِيَ مَا ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا ، وَلَمْ يُبَيَّنْ لَنَا فِي شَرْعِنَا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَنَا ، وَلَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ لَنَا ، وَهُوَ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنَّ التَّحْقِيقَ كَوْنُهُ شَرْعًا لَنَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ، وَقَدْ رَأَيْتَ أَدِلَّتَهُمْ عَلَيْهِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ آيَةَ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، يَلْزَمُنَا الْأَخْذُ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ .
مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ 17 \ 33 ] ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ ، التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ مَشْرُوعٌ لَنَا ، [ ص: 380 ] حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " ، الْحَدِيثَ .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، حَيْثُ قَالَ : بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، إِلَى قَوْلِهِ : فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَ ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابَقَتُهَا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَالْحُكْمُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مُسْتَمِرٌّ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ; وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ " ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ " بِكِتَابِ اللَّهِ " قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، وَعَلَى بَقِيَّةِ الْأَقْوَالِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يَأْخُذُونَ الْأَحْكَامَ مِنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ، كَمَا أَوْضَحْنَا دَلِيلَهُ .
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ : إِنَّ الْقَرِينَةَ الْجَازِمَةَ رُبَّمَا قَامَتْ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِجَعْلِ شَاهِدِ يُوسُفَ شَقَّ قَمِيصِهِ مِنْ دُبُرٍ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِ ، وَكَذِبِ الْمَرْأَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ الْآيَةَ [ 12 \ 26 ، 27 ، 28 ] ، فَذِكْرُهُ تَعَالَى لِهَذَا مُقَرِّرًا لَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَمِنْ هُنَا أَوْجَبَ مَالِكٌ حَدَّ الْخَمْرِ عَلَى مَنِ اسْتَنْكَهَ فَشُمَّ فِي فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ ، لِأَنَّ رِيحَهَا فِي فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى شُرْبِهِ إِيَّاهَا .
وَأَجَازَ الْعُلَمَاءُ لِلرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا فَتَزُفُّهَا إِلَيْهِ وَلَائِدُ ، لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ أَمْرٌ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى عَيْنِهَا أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ ، وَتَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ .
وَكَذَلِكَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَيَأْتِيهِ الصَّبِيُّ ، أَوِ الْوَلِيدَةُ بِطَعَامٍ ، فَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى إِذَنْ أَهْلِ الطَّعَامِ لَهُ فِي الْأَكْلِ ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ .
ابو وليد البحيرى
2020-10-01, 07:08 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (57)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (12)
صـ 381 إلى صـ 385
مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ فِي قَوْلِهِ : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ 17 \ 33 ] ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمِ ، التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ مَشْرُوعٌ لَنَا ، [ ص: 380 ] حَيْثُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبُ الزَّانِي ، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " ، الْحَدِيثَ .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، حَيْثُ قَالَ : بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، إِلَى قَوْلِهِ : فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَ ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ : وَالْغَرَضُ مِنْ ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مُطَابَقَتُهَا لِلَفْظِ الْحَدِيثِ ، وَلَعَلَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهَا وَإِنْ وَرَدَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَالْحُكْمُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ مُسْتَمِرٌّ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، فَهُوَ أَصْلٌ فِي الْقِصَاصِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ ; وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ " ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ " بِكِتَابِ اللَّهِ " قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، وَعَلَى بَقِيَّةِ الْأَقْوَالِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَمْ يَزَلِ الْعُلَمَاءُ يَأْخُذُونَ الْأَحْكَامَ مِنْ قِصَصِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ، كَمَا أَوْضَحْنَا دَلِيلَهُ .
فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ : إِنَّ الْقَرِينَةَ الْجَازِمَةَ رُبَّمَا قَامَتْ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ ، مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِجَعْلِ شَاهِدِ يُوسُفَ شَقَّ قَمِيصِهِ مِنْ دُبُرٍ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِ ، وَكَذِبِ الْمَرْأَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ الْآيَةَ [ 12 \ 26 ، 27 ، 28 ] ، فَذِكْرُهُ تَعَالَى لِهَذَا مُقَرِّرًا لَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَمِنْ هُنَا أَوْجَبَ مَالِكٌ حَدَّ الْخَمْرِ عَلَى مَنِ اسْتَنْكَهَ فَشُمَّ فِي فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ ، لِأَنَّ رِيحَهَا فِي فِيهِ قَرِينَةٌ عَلَى شُرْبِهِ إِيَّاهَا .
وَأَجَازَ الْعُلَمَاءُ لِلرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا فَتَزُفُّهَا إِلَيْهِ وَلَائِدُ ، لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ أَمْرٌ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى عَيْنِهَا أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ ، وَتَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ .
وَكَذَلِكَ الضَّيْفُ يَنْزِلُ بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَيَأْتِيهِ الصَّبِيُّ ، أَوِ الْوَلِيدَةُ بِطَعَامٍ ، فَيُبَاحُ لَهُ أَكْلُهُ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى إِذَنْ أَهْلِ الطَّعَامِ لَهُ فِي الْأَكْلِ ، اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ .
وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ وَغَيْرُهُمْ إِبْطَالَ الْقَرِينَةِ بِقَرِينَةٍ أَقْوَى مِنْهَا ، مِنْ أَنَّ أَوْلَادَ يَعْقُوبَ لَمَّا جَعَلُوا يُوسُفَ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ، جَعَلُوا عَلَى قَمِيصِهِ دَمَ سَخْلَةٍ ، لِيَكُونَ الدَّمُ عَلَى قَمِيصِهِ قَرِينَةً عَلَى صِدْقِهِمْ فِي أَنَّهُ أَكَلَهُ الذِّئْبُ ، فَأَبْطَلَهَا يَعْقُوبُ بِقَرِينَةٍ أَقْوَى مِنْهَا ، وَهِيَ عَدَمُ شَقِّ [ ص: 381 ] الْقَمِيصِ ، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَتَى كَانَ الذِّئْبُ حَلِيمًا كَيِّسًا ، يَقْتُلُ يُوسُفَ ، وَلَا يَشُقُّ قَمِيصَهُ ؟ كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [ 12 \ 18 ] ، وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ ضَمَانَ الْغُرْمِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى ، فِي قِصَّةِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ : وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ [ 12 \ 72 ] ، وَأَخَذَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ ضَمَانَ الْوَجْهِ الْمَعْرُوفِ بِالْكَفَالَةِ ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ : لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ [ 12 \ 66 ] .
وَأَخَذَ الْمَالِكِيَّةُ تَلُومُ الْقَاضِيَ لِلْخُصُومِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْآجَالِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ صَالِحٍ : فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [ 11 \ 65 ] .
وَأَخَذُوا وُجُوبَ الْإِعْذَارِ إِلَى الْخَصْمِ الَّذِي تَوَجَّهُ إِلَيْهِ الْحُكْمُ بِـ " أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ ؟ " ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ مَعَ الْهُدْهُدِ : لَأُعَذِّبَنَّه ُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [ 27 \ 21 ] ، وَأَخَذَ الْحَنَابِلَةُ جَوَازَ طُولِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ مُوسَى ، وَصِهْرِهِ شُعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ الْآيَةَ [ 28 \ 27 ] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [ 5 \ 48 ] ، لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ بَعْضَ الشَّرَائِعِ تُنْسَخُ فِيهَا أَحْكَامٌ كَانَتْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ ، وَيُجَدَّدُ فِيهَا تَشْرِيعُ أَحْكَامٍ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً قَبْلَ ذَلِكَ .
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ لِكُلٍّ شِرْعَةٍ وَمِنْهَاجٍ مِنْ غَيْرِ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، فَبِهَذَا يَتَّضِحُ لَكَ الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ ، وَتَعْلَمُ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، مَشْرُوعٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَأَنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالْمَرْأَةِ كَالْعَكْسِ عَلَى التَّحْقِيقِ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَأَنَّ الْقَائِلَ بِعَدَمِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا يَتَشَبَّثُ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ : وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [ 2 \ 178 ] ، وَسَتَرَى تَحْقِيقَ الْمَقَامِ فِيهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - قَرِيبًا .
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي - الَّذِي هُوَ لِمَ لَا يُخَصِّصْ عُمُومَ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ بِالتَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ؟ هُوَ [ ص: 382 ] مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ إِذَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِمَعْنًى آخَرَ ، غَيْرِ مُخَالَفَتِهِ لِحُكْمِ الْمَنْطُوقِ ، يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنَ الِاعْتِبَارِ .
قَالَ صَاحِبُ " جَمْعِ الْجَوَامِعِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ : وَشَرْطُهُ أَلَّا يَكُونَ الْمَسْكُوتُ تُرِكَ لِخَوْفٍ وَنَحْوِهِ ، إِلَى أَنْ قَالَ : أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ، يَدُلُّ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدِ بِالْعَبْدِ ، وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَتْلِ الْأُنْثَى بِالذَّكَرِ ، أَوِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ ، وَلَا لِعَكْسِهِ بِالْمَنْطُوقِ .
وَمَفْهُومُ مُخَالَفَتِهِ هُنَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ; لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ الْآيَةِ ، أَنَّ قَبِيلَتَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلَتَا ، فَقَالَتْ إِحْدَاهُمَا : نَقْتُلُ بِعَبْدِنَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ ، وَبِأُمَّتِنَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ ، تَطَاوُلًا مِنْهُمْ عَلَيْهِمْ ، وَزَعَمَا أَنَّ الْعَبْدَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْحَرِّ مِنْ أُولَئِكَ ، وَأَنَّ أُنْثَاهُمْ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ مِنَ الْآخَرِينَ ، تَطَاوُلًا عَلَيْهِمْ ، وَإِظْهَارًا لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ ، ذَكَرَ مَعْنَى هَذَا الْقُرْطُبِيُّ ، عَنِ الشَّعْبِيِّ ، وَقَتَادَةَ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ نَحْوَهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَالسُّيُوطِيُّ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، لِأَنَّهُمْ كَانَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، وَبَنُو النَّضِيرِ يَتَطَاوَلُونَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ .
فَالْجَمِيعُ مُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ قَوْمًا يَتَطَاوَلُونَ عَلَى قَوْمٍ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّ الْعَبْدَ مِنَّا لَا يُسَاوِيهِ الْعَبْدُ مِنْكُمْ ، وَإِنَّمَا يُسَاوِيهِ الْحُرُّ مِنْكُمْ ، وَالْمَرْأَةُ مِنَّا لَا تُسَاوِيهَا الْمَرْأَةُ مِنْكُمْ ، وَإِنَّمَا يُسَاوِيهَا الرَّجُلُ مِنْكُمْ ، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ مُبَيِّنًا أَنَّهُمْ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ الْمُتَطَاوِلُ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَشْرَفَ مِنْهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ هُنَا .
وَأَمَّا قَتْلُ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعَلِيٌّ ، وَزَيْدٌ ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي ، وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ : وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَقَتَادَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ عَلَى قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ [ ص: 383 ] دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ " الْحَدِيثَ ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ .
فَعُمُومُ الْمُؤْمِنِينَ يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبِيدُ ، وَكَذَلِكَ عُمُومُ النَّفْسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ " فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِمَا رَوَاهُ قَتَادَةُ ، عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ ، وَمَنْ جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْنَاهُ " ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَفِي رِوَايَةٍ لِأَبِي دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيِّ : " وَمِنْ خَصَى عَبْدَهُ خَصَيْنَاهُ " ، هَذِهِ هِيَ أَدِلَّةُ مَنْ قَالَ بِقَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ .
وَأُجِيبَ عَنْهَا مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ بِمَا سَتَرَاهُ الْآنَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - أَمَّا دُخُولُ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ فِي عُمُومِ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَدِيثِ : " الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ " . وَعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ ، وَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِينَ ، فَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ دُخُولَ الْعَبِيدِ فِي عُمُومَاتِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : أَنَّ الْعَبِيدَ دَاخِلُونَ فِي عُمُومَاتِ النُّصُوصِ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا .
الثَّانِي : وَذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالشَّافِعِيَّ ةِ ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، وَاسْتَدَلَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِكَثْرَةِ عَدَمِ دُخُولِهِمْ ، كَعَدَمِ دُخُولِهِمْ فِي خِطَابِ الْجِهَادِ ، وَالْحَجِّ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ الْآيَةَ [ 2 \ 228 ] ، فَالْإِمَاءُ لَا يَدْخُلْنَ فِيهِ .
الثَّالِثُ : وَذَهَبَ إِلَيْهِ الرَّازِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ النَّصَّ الْعَامَّ ، إِنْ كَانَ مِنَ الْعِبَادَاتِ ، فَهُمْ دَاخِلُونَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ لَمْ يَدْخُلُوا فِيهِ ، وَأَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " إِلَى أَنَّ دُخُولَهُمْ فِي الْخِطَابِ الْعَامِّ هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الدَّلِيلُ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
وَالْعَبْدُ وَالْمَوْجُودُ وَالَّذِي كَفَرْ مَشْمُولَةٌ لَهُ لَدَى ذَوِي النَّظَرْ وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي دُخُولِهِمْ فِي عُمُومَاتِ النُّصُوصِ ، وُجُوبُ صَلَاةِ الْجُمُعَةُ عَلَى الْمَمْلُوكَيْن ِ ، فَعَلَى أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي الْعُمُومِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ ، وَعَلَى أَنَّهُمْ لَا يَدْخُلُونَ فِيهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ ، فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ إِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْعُقُوبَةِ بِبَدَنِهِ يَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ ، قَالَهُ صَاحِبُ " نَشْرِ الْبُنُودِ شَرَحِ مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي [ ص: 384 ] شَرْحِ الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ آنِفًا ، فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ دُخُولِ الْعَبِيدِ فِي عُمُومِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، فَلَا إِشْكَالَ .
وَعَلَى الْقَوْلِ بِدُخُولِهِمْ فِيهِ ، فَالْجَوَابُ عَنْ عَدَمِ إِدْخَالِهِمْ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا يُعْلَمُ مِنْ أَدِلَّةِ الْجُمْهُورِ الْآتِيَةِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - عَلَى عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَأَمَّا حَدِيثُ سَمُرَةَ فَيُجَابُ عَنْهُ مِنْ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ بِالْحَدِيثِ تَرَكُوا رِوَايَةَ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ، وَقَالَ قَوْمٌ : لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ ، وَأَثْبَتَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ ، وَالْبُخَارِيُّ سَمَاعَهُ عَنْهُ .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي كِتَابِ " الْجِنَايَاتِ " مَا نَصُّهُ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ رَغِبُوا عَنْ رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ .
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ غَيْرَ حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ ، وَقَالَ أَيْضًا فِي بَابِ " النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ " : إِنَّ أَكْثَرَ الْحُفَّاظِ لَا يُثْبِتُونَ سَمَاعَ الْحَسَنِ مِنْ سَمُرَةَ فِي غَيْرِ حَدِيثِ الْعَقِيقَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْحَسَنَ كَانَ يُفْتِي بِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ ، وَمُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَى تَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ عِنْدَهُ ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا مَا نَصُّهُ : قَالَ قَتَادَةُ : ثُمَّ إِنَّ الْحَسَنَ نَسِيَ هَذَا الْحَدِيثَ ، قَالَ : لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، قَالَ الشَّيْخُ : يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْحَسَنُ لَمْ يَنْسَ الْحَدِيثَ ، لَكِنْ رَغِبَ عَنْهُ لِضَعْفِهِ .
الثَّالِثُ : مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ " مُنْتَقَى الْأَخْبَارِ " مِنْ أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِعَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَتَأَوَّلُوا الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَنْ كَانَ عَبْدَهُ ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ تَقَدُّمُ الْمِلْكِ مَانِعًا مِنَ الْقِصَاصِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْأَدِلَّةِ الَّتِي تَمَسَّكَ بِهَا الْجُمْهُورُ فِي عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَسَتَأْتِي - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - مُفَصَّلَةً ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَالنَّهْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْأَمْرِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ .
الْخَامِسُ : مَا ادَّعَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ دَلَالَتَهُ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [ 17 \ 33 ] ، وَوَلِيُّ الْعَبْدِ سَيِّدُهُ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ ، مَا نَصُّهُ : قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : [ ص: 385 ] وَلَقَدْ بَلَغَتِ الْجَهَالَةُ بِأَقْوَامٍ إِلَى أَنْ قَالُوا : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِعَبْدِ نَفْسِهِ . وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " مَنْ قَتَلَ عَبْدَهَ قَتَلْنَاهُ " ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ، وَالْوَلِيُّ هَاهُنَا : السَّيِّدُ ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ إِذَا قَتَلَ عَبْدَهُ خَطَأً ; أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَتُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ . اهـ .
وَتَعَقَّبَ الْقُرْطُبِيُّ تَضْعِيفَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ لِحَدِيثِ الْحَسَنِ هَذَا عَنْ سَمُرَةَ ، بِأَنَّ الْبُخَارِيَّ ، وَابْنَ الْمَدِينِيِّ صَحَّحَا سَمَاعَهُ مِنْهُ ، وَقَدْ عَلِمْتَ تَضْعِيفَ الْأَكْثَرِ لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ ; وَيَدُلُّ عَلَى ضَعْفِهِ مُخَالَفَةُ الْحَسَنِ نَفْسَهُ لَهُ .
السَّادِسُ : أَنَّ الْحَدِيثَ خَارِجٌ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ ، وَالْمُبَالَغَة ِ فِي الزَّجْرِ .
السَّابِعُ : مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ .
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ : وَيُؤَيِّدُ النُّسَخَ فَتْوَى الْحَسَنِ بِخِلَافِهِ .
الثَّامِنُ : مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَلَكِنَّا قَدْ قَدَّمْنَا عَدَمَ اعْتِبَارِ هَذَا الْمَفْهُومِ ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سَبَبُ النُّزُولِ .
وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ - وَهُمُ الْجُمْهُورُ - بِأَدِلَّةٍ ، مِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : " أَنْ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا ، فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَفَاهُ سَنَةً ، وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةً " ، وَرِوَايَةُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنِ الشَّامِيِّينَ ، قَوِيَّةٌ صَحِيحَةٌ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَوْزَاعِيَّ شَامِيٌّ دِمَشْقِيُّ ، قَالَ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَلَكِنَّ دُونَهُ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ الشَّامِيَّ ، قَالَ فِيهِ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِالْمَحْمُودِ ، وَعِنْدَهُ غَرَائِبُ .
ابو وليد البحيرى
2020-10-01, 07:08 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (58)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (13)
صـ 386 إلى صـ 390
وَأَسْنَدَ الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ ، فَقَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ ، أَنْبَأَ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْحَافِظُ ، ثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحُسَيْنِ الصَّابُونِيُّ الْأَنْطَاكِيُّ ، قَاضِي الثُّغُورِ ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ الرَّمْلِيُّ ، ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ ، ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنِ [ ص: 386 ] الْأَوْزَاعِيِّ إِلَى آخِرِ السَّنَدِ الْمُتَقَدِّمِ بِلَفْظِ الْمَتْنِ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّمْلِيُّ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ يَهِمُ ، فَتَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ بِهِ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لَهُ مِنْ جِهَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْحَقَّ كَوْنُهُ قَوِيًّا فِي الشَّامِيِّينَ ، دُونَ الْحِجَازِيِّين َ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّةُ الْحَدِيثِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَالْبُخَارِيِّ ، وَلِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَذَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ عِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ ، وَغَيْرِهِ ، مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُنَيْنٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : " أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَجُلٍ قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا ، فَجَلَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةً ، وَنَفَاهُ سَنَةً ، وَمَحَا اسْمَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يُقِدْهُ بِهِ " . وَلَكِنَّ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ مَتْرُوكٌ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَغَيْرُهُ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ : " أَنَّهُ جَاءَتْهُ جَارِيَةٌ اتَّهَمَهَا سَيِّدُهَا ، فَأَقْعَدَهَا فِي النَّارِ فَاحْتَرَقَ فَرْجُهَا ، فَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ أَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " لَا يُقَادُ مَمْلُوكٌ مِنْ مَالِكِهِ ، وَلَا وَلَدٌ مِنْ وَالِدِهِ " ، لَأَقَدْنَاهَا مِنْكَ فَبَرَزَهُ ، وَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ ، وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ : اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ ، وَأَنْتِ مُوَلَّاةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ " .
قَالَ أَبُو صَالِحٍ ، وَقَالَ اللَّيْثُ : وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْمُولٌ بِهِ ، وَفِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ عُمَرُ بْنُ عِيسَى الْقُرَشِيُّ الْأَسَدِيُّ . ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ حَمَّادٍ يَذْكُرُ عَنِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ .
وَقَالَ فِيهِ الشَّوْكَانِيُّ : هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ : وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ ، مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ " ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ : وَفِي هَذَا الْإِسْنَادِ ضَعْفٌ ، وَإِسْنَادُهُ الْمَذْكُورُ فِيهِ جُوَيْبِرٌ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ : فِيهِ جُوَيْبِرٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمَتْرُوكِينَ ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِعَبْدٍ ، مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ الْجُعْفِيِّ ، عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : " مِنَ السُّنَّةِ أَلَّا يُقْتَلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ " تَفَرَّدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَابِرٌ الْمَذْكُورُ ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ الْأَكْثَرُ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : ضَعِيفٌ [ ص: 387 ] رَافِضِيٌّ .
وَقَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ : مَتْرُوكٌ ، وَوَثَّقَهُ قَوْمٌ مِنْهُمُ الثَّوْرِيُّ ، وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " فِي بَابِ " النَّهْيِ عَنِ الْإِمَامَةِ جَالِسًا " عَنِ الدَّارَقُطْنِي ِّ : أَنَّهُ مَتْرُوكٌ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " مِنْ طَرِيقِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : كَانَ لِزِنْبَاعٍ عَبْدٌ يُسَمَّى سَنْدَرًا ، أَوِ ابْنَ سَنْدَرٍ ، فَوَجَدَهُ يُقَبِّلُ جَارِيَةً لَهُ ، فَأَخَذَهُ فَجَبَّهُ ، وَجَدَعَ أُذُنَيْهِ وَأَنْفَهُ ، فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ " مَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ أَوْ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ فَهُوَ حُرٌّ ، وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ " ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُقِدْهُ مِنْهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِ بِي ، فَقَالَ : " أُوصِي بِكَ كُلَّ مُسْلِمٍ " .
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ أَنْ سَاقَ هَذَا الْحَدِيثَ : الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ عَنْ عَمْرٍو مُخْتَصَرًا ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ تَضْعِيفَ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ .
وَرُوِيَ عَنْ سَوَّارِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، هَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : سَوَّارُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : صَدُوقٌ لَهُ أَوْهَامٌ ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ مُسْتَصْرِخٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : حَادِثَةٌ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : " وَيْحَكَ مَا لَكَ ؟ " فَقَالَ : شَرٌّ ، أَبْصَرَ لِسَيِّدِهِ جَارِيَةً ، فَغَارَ ، فَجَبَّ مَذَاكِيرَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " عَلَيَّ بِالرَّجُلِ " ، فَطُلِبَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ " ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَنْ نُصْرَتِي ؟ ، قَالَ : " عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ " ، أَوْ قَالَ : " عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " ، وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ ، مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ، عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ : مَضَتِ السُّنَّةُ بِأَلَا يُقْتَلَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْعَبْدِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا ، وَعَلَيْهِ الْعَقْلُ .
وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَيْضًا مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ ، وَعَطَاءٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ : " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ كَانَا لَا يَقْتُلَانِ الْحُرَّ بِالْعَبْدِ " ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الْكَثِيرَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ مَقَالٍ ، فَإِنَّ بَعْضَهَا يَشُدُّ بَعْضًا ، [ ص: 388 ] وَيُقَوِّيهِ حَتَّى يَصْلُحَ الْمَجْمُوعُ لِلِاحْتِجَاجِ .
قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " مَا نَصُّهُ : وَثَانِيًا بِالْأَحَادِيثِ الْقَاضِيَةِ ; بِأَنَّهُ لَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ ، فَإِنَّهَا قَدْ رُوِيَتْ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا فَتَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَتَعْتَضِدُ هَذِهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى أَلَّا يُقْتُلَ حُرٌّ بِعَبْدٍ بِإِطْبَاقِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْقِصَاصِ لِلْعَبْدِ مِنَ الْحُرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَإِذَا لَمْ يَقْتَصَّ لَهُ مِنْهُ فِي الْأَطْرَافِ ، فَعَدَمُ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مِنْ بَابِ أَوْلَى ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لِلْعَبْدِ مِنَ الْحَرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إِلَّا دَاوُدُ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِإِطْبَاقِ الْحُجَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ قُتِلَ خَطَأً فَفِيهِ الْقِيمَةُ ، لَا الدِّيَةُ .
وَقَيَّدَهُ جَمَاعَةٌ بِمَا إِذَا لَمَّ تَزِدْ قِيمَتُهُ عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ ، وَتَعْتَضِدُ أَيْضًا بِأَنَّ شَبَهَ الْعَبْدِ بِالْمَالِ أَقْوَى مَنْ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يَجْرِي فِيهِ مَا يَجْرِي فِي الْمَالِ مِنْ بَيْعٍ ، وَشِرَاءٍ ، وَإِرْثٍ ، وَهَدِيَّةٍ ، وَصَدَقَةٍ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ ، وَبِأَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ حُرٌّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَالْحَسَنِ ، وَأَهْلِ الظَّاهِرِ مِنْ وُجُوبِهِ فِي قَذْفِ أُمِّ الْوَلَدِ خَاصَّةً .
وَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ حَدِّ الْحُرِّ بِقَذْفِهِ الْعَبْدَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " مِنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِمَّا يَقُولُ جُلِدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ " ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَلَدِهِ فِي الدُّنْيَا ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ .
وَأَمَّا قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِهِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَمُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَعَطَاءٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " وَغَيْرِهِ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ ، وَعُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ .
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَالشَّعْبِيُّ إِلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ ، وَاسْتَدَلُّوا بِعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمَي ْنِ ، وَبِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِي ِّ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ مُسْلِمًا بِمُعَاهَدٍ " ، [ ص: 389 ] وَهُوَ مُرْسَلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ضَعِيفٌ ، فَابْنُ الْبَيْلَمَانِي ِّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لَوْ وَصَلَ ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَرْسَلَ ، وَتَرْجَمَ الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " لِهَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ : بَابُ " بَيَانِ ضَعْفِ الْخَبَرِ الَّذِي رُوِيَ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ ، وَمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ " ، وَذَكَرَ طُرُقَهُ ، وَبَيَّنَ ضَعْفَهَا كُلَّهَا .
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْحَارِثِ الْفَقِيهُ ، قَالَ : قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِي ُّ الْحَافِظُ : ابْنُ الْبَيْلَمَانِي ِّ ضَعِيفٌ لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إِذَا وَصَلَ الْحَدِيثَ ، فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ الْآيَةَ ، مَا نَصُّهُ : وَلَا يَصِحُّ لَهُمْ مَا رَوَوْهُ مِنْ حَدِيثِ رَبِيعَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ يَوْمَ خَيْبَرَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ " لِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِي ِّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْفُوعًا ، قَالَ الدَّارَقُطْنِي ُّ : لَمْ يُسْنِدْهُ غَيْرُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ .
وَالصَّوَابُ عَنْ رَبِيعَةَ ، عَنِ ابْنِ الْبَيْلَمَانِي ِّ مُرْسَلٌ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنُ الْبَيْلَمَانِي ِّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ ، لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ إِذَا وَصَلَ الْحَدِيثَ ، فَكَيْفَ بِمَا يُرْسِلُهُ ، فَإِذَا عَرَفْتَ ضَعْفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ كَوْنَهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ ثَابِتٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ مُبَيِّنًا بُطْلَانَ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا .
فَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي بَابِ " كِتَابَةِ الْعِلْمِ " ، وَفِي بَابِ " لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ " ، أَنَّ أَبَا جُحَيْفَةَ سَأَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَّأَ النَّسَمَةَ ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي كِتَابِهِ ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ ، قُلْتُ : وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ ؟ ، قَالَ : الْعَقْلُ ، وَفِكَاكُ الْأَسِيرِ ، وَأَلَّا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ .
فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ ، قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ ، مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ ، مُبَيِّنٌ عَدَمَ صِحَّةِ الْأَخْبَارِ الْمَرْوِيَّةِ بِخِلَافِهِ ، وَلَمْ يَصِحَّ فِي الْبَابِ شَيْءٌ يُخَالِفُهُ ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ عَلِيٍّ هَذَا : وَلَا يَصِحُّ حَدِيثٌ ، وَلَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ هَذَا ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ قُلْتُ : فَلَا يَصِحُّ فِي الْبَابِ إِلَّا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ ، وَهُوَ يُخَصِّصُ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْآيَةَ ، وَعُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [ 5 \ 45 ] ، فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ هُوَ تَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي حُكْمِ [ ص: 390 ] الْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، وَالْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ ، وَالْمُسْلِمِين َ وَالْكُفَّارِ .
وَأَمَّا حُكْمُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ فِي الْأَطْرَافِ ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ تَابِعٌ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَنْفُسِ ; فَكُلُّ شَخْصَيْنِ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، فَإِنَّهُ يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ ، فَيُقْطَعُ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ، وَالذِّمِّيُّ بِالذِّمِّيِّ ، وَالذَّكَرُ بِالْأُنْثَى ، وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ ، وَيُقْطَعُ النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ ، كَالْعَبْدِ بِالْحُرِّ ، وَالْكَافِرِ بِالْمُسْلِمِ .
وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ النَّاقِصَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لِلْكَامِلِ فِي الْجِرَاحِ ، فَلَا يُقْتَصُّ مِنْ عَبْدٍ جَرَحَ حُرًّا ، وَلَا مِنْ كَافِرٍ جَرَحَ مُسْلِمًا ، وَهُوَ مُرَادُ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ بِقَوْلِهِ فِي " مُخْتَصَرِهِ " : وَالْجُرْحُ كَالنَّفْسِ فِي الْفِعْلِ ، وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ ، إِلَّا نَاقِصًا جَرَحَ كَامِلًا ، يَعْنِي فَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُ لَهُ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ الْقَصَّارِ عَنْ مَالِكٍ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وِفَاقًا لِلْأَكْثَرِ ، وَمَنْ لَا يُقْتَلُ بِقَتْلِهِ ، لَا يُقْطَعُ طَرَفُهُ بِطَرَفِهِ ، فَلَا يُقْطَعُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ، وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " ، وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قِصَاصَ فِي الْأَطْرَافِ بَيْنَ مُخْتَلِفِي الْبَدَلِ ، فَلَا يُقْطَعُ الْكَامِلُ بِالنَّاقِصِ ، وَلَا النَّاقِصُ بِالْكَامِلِ ، وَلَا الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ ، وَلَا الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ ، وَلَا الْحُرُّ بِالْعَبْدِ ، وَلَا الْعَبْدُ بِالْحُرِّ .
وَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ ، وَالْكَافِرُ بِالْمُسْلِمِ ; لِأَنَّ التَّكَافُؤَ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَطْرَافِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ ، وَلَا الْكَامِلَةَ بِالنَّاقِصَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ طَرَفُ الرَّجُلِ بِطَرَفِ الْمَرْأَةِ ، وَلَا يُؤْخَذُ طَرَفُهَا بِطَرَفِهِ ، كَمَا لَا تُؤْخَذُ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى .
وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ ، بِأَنَّ مَنْ يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، يَجْرِي فِي الطَّرَفِ بَيْنَهُمَا ، كَالْحُرَّيْنِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُخَالِفُ يَبْطُلُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، فَإِنَّ التَّكَافُؤَ فِيهِ مُعْتَبَرٌ ; بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِمُسْتَأْمَنٍ ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْخُذَ النَّاقِصَةَ بِالْكَامِلَةِ ; لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ قَدْ وُجِدَتْ ، وَمَعَهَا زِيَادَةٌ ، فَوَجَبَ أَخْذُهَا بِهَا إِذَا رَضِيَ الْمُسْتَحِقُّ ، كَمَا تُؤْخَذُ نَاقِصَةُ الْأَصَابِعِ بِكَامِلَةِ الْأَصَابِعِ .
وَأَمَّا الْيَسَارُ وَالْيَمِينُ ، فَيُجْرَيَانِ مَجْرَى النَّفْسِ لِاخْتِلَافِ مَحَلَّيْهِمَا ، وَلِهَذَا اسْتَوَى بَدَلُهُمَا ، فَعُلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ نَاقِصَةً عَنْهَا شَرْعًا ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ كَمَا ذَكَرَ الْمُخَالِفُ ، قَالَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " .
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2020-10-01, 07:09 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (59)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (14)
صـ 391 إلى صـ 395
[ ص: 391 ] وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ ، بَيْنَ مَنْ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي الْأَنْفُسِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ [ 5 \ 45 ] .
وَمَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ ، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وِفَاقًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ; مُعَلِّلِينَ بِأَنَّ أَطْرَافَ الْعَبِيدِ مَالٌ كَالْبَهَائِمِ يُرَدُّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ الْجُمْهُورِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا ، وَبِأَنَّ أَنْفُسَ الْعَبِيدِ مَالٌ أَيْضًا كَالْبَهَائِمِ ، مَعَ تَصْرِيحِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْقِصَاصِ فِيهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ :
الْأَوَّلُ : كَوْنُهُ عَمْدًا ، وَهَذَا يُشْتَرَطُ فِي قَتْلِ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ أَيْضًا .
الثَّانِي : كَوْنُهُمَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ .
الثَّالِثُ : إِمْكَانُ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَلَا زِيَادَةٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [ 16 \ 126 ] ، وَيَقُولُ : فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ [ 2 \ 194 ] ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ سَقَطَ الْقِصَاصُ ، وَوَجَبَتِ الدِّيَةُ ، وَلِأَجْلِ هَذَا أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَلَا زِيَادَةٍ ، فِيهِ الْقِصَاصُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ، وَكَالْجِرَاحِ الَّتِي تَكُونُ فِي مَفْصِلٍ ، كَقَطْعِ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ مِنْ مَفْصِلَيْهِمَا .
وَاخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْعُضْوِ مِنْ غَيْرِ مَفْصِلٍ ، بَلْ مِنْ نَفْسِ الْعَظْمِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الْقِصَاصَ ; نَظَرًا إِلَى أَنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مَالِكٌ ، فَأَوْجَبَ الْقِصَاصَ فِي قَطْعِ الْعَظْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ ، إِلَّا فِيمَا يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ ، كَقَطْعِ الْفَخِذِ ، وَغَيْرِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ يَقُولُ عَطَاءٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ : لَا يَجُبِ الْقِصَاصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْعِظَامِ ، إِلَّا فِي السِّنِّ .
[ ص: 392 ] وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي قَطْعِ الْعَظْمِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ ، بِمَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنْ دَهْثَمِ بْنِ قُرَّانٍ ، عَنْ نِمْرَانَ بْنِ جَارِيَةَ ، عَنْ أَبِيهِ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ الْحَنَفِيِّ ، أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ رَجُلًا عَلَى سَاعِدِهِ بِالسَّيْفِ مِنْ غَيْرِ الْمَفْصِلِ فَقَطَعَهَا ، فَاسْتَعْدَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ لَهُ بِالدِّيَةِ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُرِيدُ الْقِصَاصَ ، فَقَالَ : " خُذِ الدِّيَةَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا " وَلَمْ يَقْضِ لَهُ بِالْقِصَاصِ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَيْسَ لِهَذَا الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا الْإِسْنَادِ ، وَدَهْثَمُ بْنُ قُرَّانٍ الْعُكْلِيُّ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ لَيْسَ حَدِيثُهُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ ، وَنِمْرَانُ بْنُ جَارِيَةَ ضَعِيفٌ أَعْرَابِيٌّ أَيْضًا ، وَأَبُوهُ جَارِيَةُ بْنُ ظَفَرٍ مَذْكُورٌ فِي الصَّحَابَةِ ، اهـ . مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ .
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي دَهْثَمٍ الْمَذْكُورِ : مَتْرُوكٌ ، وَفِي نِمْرَانَ الْمَذْكُورِ : مَجْهُولٌ ، وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ، إِنَّمَا هُوَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْمَسْأَلَةِ ، فَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِالْقِصَاصِ ، يَقُولُونَ : إِنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ غَيْرِ حَيْفٍ ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ بِعَدَمِهِ ، يَقُولُونَ : لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِزِيَادَةٍ ، أَوْ نَقْصٍ ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ .
وَمِنْ هُنَا مَنَعَ الْعُلَمَاءُ الْقِصَاصَ ، فِيمَا يُظَنُّ بِهِ الْمَوْتُ ، كَمَا بَعْدَ الْمُوَضِّحَةِ مِنْ مُنَقِّلَةٍ أَطَارَتْ بَعْضَ عِظَامِ الرَّأْسِ ، أَوْ مَأْمُومَةٍ وَصَلَتْ إِلَى أُمِّ الدِّمَاغِ ، أَوْ دَامِغَةٍ خَرَقَتْ خَرِيطَتَهُ ، وَكَالْجَائِفَة ِ ، وَهِيَ الَّتِي نَفَذَتْ إِلَى الْجَوْفِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لِلْخَوْفِ مِنَ الْهَلَاكِ .
وَأَنْكَرَ النَّاسُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ الْقِصَاصَ فِي الْمَأْمُومَةِ . وَقَالُوا : مَا سَمِعْنَا بِأَحَدٍ قَالَهُ قَبْلَهُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَيْنَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالْعَوْرَاءِ ، وَالْيَدَ الصَّحِيحَةَ لَا تُؤْخَذُ بِالشَّلَّاءِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ
إِذَا اقْتَصَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مِنَ الْجَانِي ، فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَمَاتَ مِنَ الْقِصَاصِ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي اقْتَصَّ مِنْهُ ، عِنْدَ مَالِكٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْمُقْتَصِّ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيِّ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ .
[ ص: 393 ] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ ، يُسْقَطُ عَنِ الْمُقْتَصِّ لَهُ قَدْرُ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ، وَيَجِبُ الْبَاقِي فِي مَالِهِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
وَالْحُقُّ أَنَّ سِرَايَةَ الْقَوَدِ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ ، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَهُ الْقَوَدُ ، قَتَلَهُ الْحَقُّ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَغَيْرِهِمَا ، بِخِلَافِ سِرَايَةِ الْجِنَايَةِ ، فَهِيَ مَضْمُونَةٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ جِدًّا .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تُؤْخَذُ عَيْنٌ ، وَلَا أُذُنٌ ، وَلَا يَدٌ يُسْرَى بِيُمْنَى ، وَلَا عَكْسُ ذَلِكَ ، لِوُجُوبِ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ فِي الْقِصَاصِ ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، وَشَرِيكٍ أَنَّهُمَا قَالَا : بِأَنَّ إِحْدَاهُمَا تُؤْخَذُ بِالْأُخْرَى ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَجِبُ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ فِي الْجِرَاحِ حَتَّى تَنْدَمِلَ جِرَاحَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَإِنِ اقْتَصَّ مِنْهُ قَبْلَ الِانْدِمَالِ ، ثُمَّ زَادَ جُرْحُهُ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ، مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، أَنَّ رَجُلًا طَعَنَ رَجُلًا بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ ، فَجَاءَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَقِدْنِي ، فَقَالَ : " حَتَّى تَبْرَأَ " ، ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : أَقِدْنِي ، فَأَقَادَهُ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرِجْتُ ، فَقَالَ : " قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي ، فَأَبْعَدَكَ اللَّهُ وَبَطَلَ عَرَجُكَ " ، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ صَاحِبُهُ ، تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ تَعْجِيلِ الْقِصَاصِ قَبْلَ الْبُرْءِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورِ آنِفًا ، أَنَّ سِرَايَةَ الْجِنَايَةِ بَعْدَ الْقِصَاصِ هَدَرٌ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَتْ هَدَرًا ، بَلْ هِيَ مَضْمُونَةٌ ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْجَالُهُ ، فَأَبْطَلَ الشَّارِعُ حَقَّهُ .
وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ مَفْهُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ . فَاعْلَمْ أَنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ : أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ [ 5 \ 32 ] ، هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ [ 5 \ 33 ] .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ : الْمُحَارَبَةُ هِيَ الْمُخَالَفَةُ وَالْمُضَادَّةُ ، وَهِيَ صَادِقَةٌ عَلَى الْكُفْرِ ، وَعَلَى قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ ، وَكَذَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ ، يُطْلَقُ عَلَى أَنْوَاعٍ [ ص: 394 ] مِنَ الشَّرِّ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [ 2 \ 205 ] .
فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَارِبَ الَّذِي يَقْطَعُ الطَّرِيقَ ، وَيُخِيفُ السَّبِيلَ ، ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ جَزَاءَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ هِيَ : أَنْ يُقَتَّلُوا ، أَوْ يُصَلَّبُوا ، أَوْ تُقَطَّعُ أَيْدِيهِمْ ، وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهَا ، يَفْعَلُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِالْمُحَارِبِ ، كَمَا هُوَ مَدْلُولٌ ، أَوْ لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّخْيِيرِ .
وَنَظِيرُهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [ 2 \ 196 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [ 5 \ 89 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [ 5 \ 95 ] .
وَكَوْنُ الْإِمَامِ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ، هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَغَيْرُهُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنْ أَبِي ثَوْرٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَقَالَ : وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَرَجَّحَ الْمَالِكِيَّةُ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّ اللَّفْظَ فِيهِ مُسْتَقِلٌّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى تَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ ، وَالِافْتِقَارِ إِلَى تَقْدِيرِ مَحْذُوفٍ ، فَالِاسْتِقْلَا لُ مُقَدَّمٌ ; لِأَنَّهُ هُوَ الْأَصْلُ ، إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ عَلَى لُزُومِ تَقْدِيرِ الْمَحْذُوفِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
كَذَاكَ مَا قَابَلَ ذَا اعْتِلَالِ مِنَ التَّأَصُّلِ وَالِاسْتِقْلَا لِ
إِلَى قَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
كَذَاكَ تَرْتِيبٌ لِإِيجَابِ الْعَمَلْ بِمَا لَهُ الرُّجْحَانُ مِمَّا يَحْتَمِلُ
وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُنَزَّلَةٌ عَلَى أَحْوَالٍ ، وَفِيهَا قُيُودٌ مُقَدَّرَةٌ ، وَإِيضَاحُهُ : أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يَقَتَّلُوا إِذَا قَتَلُوا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ ، أَوْ يُصَلَّبُوا إِذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ ، أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ ، وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ إِذَا أَخَذُوا وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا ، [ ص: 395 ] أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، إِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ ، وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ .
قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي مِجْلَزٍ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ ، وَغَيْرِهِمْ .
وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، إِذَا قَتَلَ قُتِلَ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ ، فَالسُّلْطَانُ مُخَيَّرٌ فِيهِ إِنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْطَعْ وَقَتَلَهُ وَصَلَبَهُ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنَ الْآيَةِ ، هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ; لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِقُيُودٍ تَحْتَاجُ إِلَى نَصٍّ مِنْ كِتَابٍ ، أَوْ سُنَّةٍ ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ لِهَذَا بِذَلِكَ ، لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ ، لِإِمْكَانِ أَنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُ ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْقُيُودِ الْمَذْكُورَةِ ، خَبَرًا مَرْفُوعًا ، إِلَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ أَنَسٍ :
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ : أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، يَسْأَلُهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَسٌ يُخْبِرُهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُولَئِكَ النَّفَرِ الْعُرَنَيِّينَ ، إِلَى أَنْ قَالَ : قَالَ أَنَسٌ : فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَنِ الْقَضَاءِ فِيمَنْ حَارَبَ ، فَقَالَ : مَنْ سَرَقَ ، وَأَخَافَ السَّبِيلَ ، فَاقْطَعْ يَدَهُ بِسَرِقَتِهِ ، وَرِجْلَهُ بِإِخَافَتِهِ ، وَمَنْ قَتَلَ فَاقْتُلْهُ ، وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَافَ السَّبِيلَ ، وَاسْتَحَلَّ الْفَرْجَ الْحَرَامَ ، فَاصْلُبْهُ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَكَانَ قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ ، وَلَكِنْ فِيهِ ابْنُ لَهِيعَةَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ خَلَّطَ بَعْدَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ ، وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ رَاوِيهِ عَنْهُ ابْنَ الْمُبَارَكَ ، وَلَا ابْنَ وَهْبٍ ; لِأَنَّ رِوَايَتَهُمَا عَنْهُ أَعْدَلُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِمَا ، وَابْنُ جَرِيرٍ نَفْسُهُ يَرَى عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَاقَهُ ; لِأَنَّهُ قَالَ فِي سَوْقِهِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَصْحِيحِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ بِمَا فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ ، وَذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا بِهِ عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، إِلَى آخِرِ الْإِسْنَادِ الَّذِي قَدَّمْنَا آنِفًا ، وَذَكَرْنَا مَعَهُ مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنَ الْمَتْنِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا ، فَإِنَّهُ يُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلُ الْعِلْمِ ، وَنَسَبَهُ ابْنُ كَثِيرٍ لِلْجُمْهُورِ .
ابو وليد البحيرى
2020-10-01, 07:10 AM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (60)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (15)
صـ 396 إلى صـ 400
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّلْبَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ : أَوْ يُصَلَّبُوا ، اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ، فَقِيلَ : يُصْلَبُ حَيًّا ، وَيُمْنَعُ مِنَ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ حَتَّى يَمُوتَ ، وَقِيلَ : يُصْلَبُ حَيًّا ، ثُمَّ يُقْتَلُ بِرُمْحٍ [ ص: 396 ] وَنَحْوِهِ ، مَصْلُوبًا ، وَقِيلَ : يُقْتَلُ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ ، وَقِيلَ : يُنْزَلُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ : يَتْرَكُ حَتَّى يَسِيلَ صَدِيدُهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ زَمَنًا يَحْصُلُ فِيهِ اشْتِهَارُ ذَلِكَ ; لِأَنَّ صَلْبَهُ رَدْعٌ لِغَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالنَّفْيِ فِيهِ أَيْضًا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعْنَاهُ أَنْ يُطْلَبُوا حَتَّى يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ ، فَيُقَامُ عَلَيْهِمُ الْحَدُّ ، أَوْ يَهْرَبُوا مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَالضَّحَّاكِ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ أَنْ يُنْفَوْا مِنْ بَلَدِهِمْ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ ، أَوْ يُخْرِجُهُمُ السُّلْطَانُ ، أَوْ نَائِبُهُ ، مِنْ عُمَالَتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو الشَّعْثَاءِ ، وَالْحَسَنُ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، إِنَّهُمْ يُنْفَوْنَ ، وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْ أَرْضِ الْإِسْلَامِ .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي الْآيَةِ السِّجْنُ ، لِأَنَّهُ نَفْيٌ مِنْ سِعَةِ الدُّنْيَا إِلَى ضِيقِ السِّجْنِ ، فَصَارَ الْمَسْجُونُ كَأَنَّهُ مَنْفِيٌّ مِنَ الْأَرْضِ ، إِلَّا مِنْ مَوْضِعِ اسْتِقْرَارِهِ ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ بَعْضِ الْمَسْجُونِينَ فِي ذَلِكَ : [ الطَّوِيلُ ]
خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنْ أَهْلِهَا فَلَسْنَا مِنَ الْأَمْوَاتِ فِيهَا وَلَا الْأَحْيَا
إِذَا جَاءَنَا السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ .
وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ ، أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، أَنْ يُخْرَجَ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ ، فَيُسْجَنَ فِيهِ ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ ; لِأَنَّ التَّغْرِيبَ عَنِ الْأَوْطَانِ نَوْعٌ مِنَ الْعُقُوبَةِ ، كَمَا يُفْعَلُ بِالزَّانِي الْبِكْرِ ، وَهَذَا أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ إِنَّهُ لَا يُرَادُ نَفْيُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَوْطَانُهُمُ الَّتِي تَشُقُّ عَلَيْهِمْ مُفَارَقَتُهَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْمُحَارِبِينَ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ يُثْبِتُونَ حُكْمَ الْمُحَارِبَةِ فِي الْأَمْصَارِ [ ص: 397 ] وَالطُّرُقِ عَلَى السَّوَاءِ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْأَوْزَاعِيُّ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ فِي الَّذِي يَغْتَالُ الرَّجُلَ فَيَخْدَعُهُ ، حَتَّى يَدْخِلَهُ بَيْتًا ، فَيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذُ مَا مَعَهُ ، إِنَّ هَذِهِ مُحَارَبَةٌ ، وَدَمُهُ إِلَى السُّلْطَانِ ، لَا إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ ، فَلَا اعْتِبَارَ بِعَفْوِهِ عَنْهُ فِي إِسْقَاطِ الْقَتْلِ .
وَقَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ : كُنْتُ أَيَّامَ حُكْمِي بَيْنَ النَّاسِ ، إِذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ ، وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ يَحْبِسُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ ، وَهُوَ نَائِمٌ ، وَأَصْحَابُهُ يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ ، حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ ، وَتَوَقَّفَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا مُحَارَبَةَ إِلَّا فِي الطُّرُقِ ، فَلَا يَكُونُ مُحَارِبًا فِي الْمِصْرِ ; لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ .
وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَكُونُ مُحَارِبًا فِي الْمِصْرِ أَيْضًا ، لِعُمُومِ الدَّلِيلِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُ : لَا تَكُونُ الْمُحَارِبَةُ إِلَّا فِي الطُّرُقِ ، وَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ فَلَا ; لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إِذَا اسْتَغَاثَ ، بِخِلَافِ الطَّرِيقِ لِبُعْدِهِ مِمَّنْ يُغِيثُهُ ، وَيُعِينُهُ .
قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ : وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ حُكْمُ الْمُحَارِبَةِ ، إِلَّا إِذَا كَانَ عِنْدَهُمْ سِلَاحٌ .
وَمِنْ جُمْلَةِ السِّلَاحِ : الْعِصِيُّ ، وَالْحِجَارَةُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ; لِأَنَّهَا تُتْلَفُ بِهَا الْأَنْفُسُ وَالْأَطْرَافُ كَالسِّلَاحِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إِذَا كَانَ الْمَالُ الَّذِي أَتْلَفَهُ الْمُحَارِبُ ، أَقَلُّ مِنْ نِصَابِ السَّرِقَةِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقَطْعُ ، أَوْ كَانَتِ النَّفْسُ الَّتِي قَتَلَهَا غَيْرَ مُكَافِئَةٍ لَهُ ، كَأَنْ يَقْتُلَ عَبْدًا ، أَوْ كَافِرًا ، وَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ ، فَهَلْ يُقْطَعُ فِي أَقَلَّ مِنَ النِّصَابِ ؟ وَيُقْتَلُ بِغَيْرِ الْكُفْءِ أَوْ لَا ؟ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُقْطَعُ إِلَّا إِذَا أَخَذَ رُبْعَ دِينَارٍ ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَقَالَ مَالِكٌ : يُقْطَعُ وَلَوْ لَمْ يَأْخُذْ نِصَابًا ; لِأَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهُوَ الصَّحِيحُ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ، حَدَّدَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُبُعَ دِينَارٍ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ، وَلَمْ يُحَدِّدْ فِي قَطْعِ الْحِرَابَةِ شَيْئًا ، ذَكَرَ جَزَاءَ الْمُحَارِبِ ; فَاقْتَضَى ذَلِكَ تَوْفِيَةَ جَزَائِهِمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَبَّةٍ ، ثُمَّ إِنَّ هَذَا قِيَاسُ أَصْلٍ عَلَى أَصْلٍ ، [ ص: 398 ] وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَقِيَاسُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ ، وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ عَلَى السَّارِقِ ، وَهُوَ يَطْلُبُ خَطْفَ الْمَالِ ؟ فَإِنْ شُعِرَ بِهِ فَرَّ ، حَتَّى إِنَّ السَّارِقَ إِذَا دَخَلَ بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ ، أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ حَارَبَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ . اهـ كَلَامُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ .
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ ، عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْإِخْرَاجِ مِنْ حِرْزٍ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْمُحَارِبُ فِي قَطْعِهِ ، وَأَمَّا قَتْلُ الْمُحَارِبِ بِغَيْرِ الْكُفْءِ ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالتَّحْقِيقُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْمُكَافَأَةِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ ; لِأَنَّ الْقَتْلَ فِيهَا لَيْسَ عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ مِنْ إِخَافَةِ السَّبِيلِ ، وَسَلْبِ الْمَالِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا ، فَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْمُحَارِبِ إِذَا جَمَعَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ، وَهُمَا الْمُحَارَبَةُ ، وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، وَلَمْ يَخُصَّ شَرِيفًا مِنْ وَضِيعٍ ، وَلَا رَفِيعًا مِنْ دَنِيءٍ . اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ الْمُكَافَأَةِ فِي قَتْلِ الْحِرَابَةِ ، إِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ عَفْوَ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِي الْحَرَّابَةِ لَغْوٌ لَا أَثَرَ لَهُ ، وَعَلَى الْحَاكِمِ قَتْلُ الْمُحَارِبِ الْقَاتِلِ ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مَسْأَلَةُ قِصَاصٍ خَالِصٍ ، بَلْ هُنَاكَ تَغْلِيظٌ زَائِدٌ مِنْ جِهَةِ الْمُحَارَبَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إِذَا حَمَلَ الْمُحَارِبُونَ عَلَى قَافِلَةٍ مَثَلًا ، فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضَ الْقَافِلَةِ ، وَبَعْضُ الْمُحَارِبِينَ لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلَ أَحَدٍ ، فَهَلْ يُقْتَلُ الْجَمِيعُ ، أَوْ لَا يُقْتَلُ إِلَّا مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ . فِيهِ خِلَافٌ ، وَالتَّحْقِيقُ قَتَلُ الْجَمِيعِ ; لِأَنَّ الْمُحَارَبَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى حُصُولِ الْمَنَعَةِ وَالْمُعَاضَدَة ِ وَالْمُنَاصَرَة ِ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُبَاشِرُ مِنْ فِعْلِهِ ، إِلَّا بِقُوَّةِ الْآخَرِ الَّذِي هُوَ رِدْءٌ لَهُ وَمُعِينٌ عَلَى حِرَابَتِهِ ، وَلَوْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمُ الْمَالَ جَازَ قَتْلُهُمْ كُلِّهِمْ ، وَصَلْبُهُمْ كُلِّهِمْ ; لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي كُلِّ ذَلِكَ ، وَخَالَفَ فِي هَذَا الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ : لَا يَجِبُ الْحَدُّ إِلَّا عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ الْمَعْصِيَةَ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمَنْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ الْحُدُودِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إِذَا كَانَ فِي الْمُحَارِبِينَ صَبِيٌّ ، أَوْ مَجْنُونٌ ، أَوْ أَبُ الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِ ، [ ص: 399 ] فَهَلْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ كُلِّهِمْ ؟ وَيَصِيرُ الْقَتْلُ لِلْأَوْلِيَاءِ إِنْ شَاءُوا قَتَلُوا ، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا نَظَرًا إِلَى أَنَّ حُكْمَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ ، فَالشُّبْهَةُ فِي فِعْلِ وَاحِدٍ شُبْهَةٌ فِي الْجَمِيعِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، أَوْ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْ غَيْرِ الْمَذْكُورِ مِنْ صَبِيٍّ ، أَوْ مَجْنُونٍ ، أَوْ أَبٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا تَابَ الْمُحَارِبُونَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ; فَتَوْبَتُهُمْ حِينَئِذٍ لَا تُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ إِقَامَةِ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ عَلَيْهِمْ ، وَأَمَّا إِنْ جَاءُوا تَائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ، فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ سَبِيلٌ ; لِأَنَّهُمْ تَسْقُطُ عَنْهُمْ حُدُودُ اللَّهِ ، وَتَبْقَى عَلَيْهِمْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، فَيُقْتَصُّ مِنْهُمْ فِي الْأَنْفُسِ وَالْجِرَاحِ ، وَيَلْزَمُهُمْ غُرْمُ مَا أَتْلَفُوهُ مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَلِوَلِيِّ الدَّمِ حِينَئِذٍ الْعَفْوُ إِنْ شَاءَ ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ إِسْقَاطُهُ عَنْهُمْ .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى سُقُوطِ حُدُودِ اللَّهِ عَنْهُمْ بِتَوْبَتِهِمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [ 5 \ 34 ] ، وَإِنَّمَا لَزِمَ أَخْذُ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ ، وَتَضْمِينُهُمْ مَا اسْتَهْلَكُوا ; لِأَنَّ ذَلِكَ غَصْبٌ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ تَمُلُّكُهُ ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ : لَا يُطْلَبُ الْمُحَارِبُ الَّذِي جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ إِلَّا بِمَا وُجِدَ مَعَهُ مِنَ الْمَالِ ، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَهُ ، فَلَا يُطْلَبُ بِهِ ، وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ هَذَا عَنْ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْهُ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَارِثَةَ بْنِ بَدْرٍ الْغُدَانِيُّ ، فَإِنَّهُ كَانَ مُحَارِبًا ، ثُمَّ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، فَكَتَبَ لَهُ سُقُوطَ الْأَمْوَالِ وَالدَّمِ عَنْهُ كِتَابًا مَنْشُورًا ، وَنَحْوَهُ ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مِنْدَادَ : وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُحَارِبِ إِذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ ، هَلْ يُتْبَعُ دَيْنًا بِمَا أَخَذَ ؟ أَوْ يُسْقَطُ عَنْهُ ، كَمَا يُسْقَطُ عَنِ السَّارِقِ ، يَعْنِي عِنْدَ مَالِكٍ ، وَالْمُسْلِمُ ، وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ 5 \ 32 ] ، اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَعْنَاهَا أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا ، أَوْ إِمَامَ عَدْلٍ ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، وَمَنْ أَحْيَاهُ ، بِأَنْ شَدَّ عَضُدَهُ وَنَصَرَهُ ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمَا ، وَلَا يَخْفَى بُعْدَهُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ .
[ ص: 400 ] وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : الْمَعْنَى ، أَنَّ مَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِقَتْلِهَا ، فَهُوَ كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ; لِأَنَّ انْتِهَاكَ حُرْمَةَ الْأَنْفُسِ ، سَوَاءٌ فِي الْحُرْمَةِ وَالْإِثْمِ ، وَمَنْ تَرَكَ قَتْلَ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَاسْتَحْيَاهَا خَوْفًا مِنَ اللَّهِ ، فَهُوَ كَمَنْ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ، لِاسْتِوَاءِ الْأَنْفُسِ فِي ذَلِكَ .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، أَيْ عِنْدِ الْمَقْتُولِ إِذْ لَا غَرَضَ لَهُ فِي حَيَاةِ أَحَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ هُوَ ، وَمَنْ أَحْيَاهَا وَاسْتَنْقَذَهَ ا مِنْ هَلَكَةٍ ، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا عِنْدَ الْمُسْتَنْقَذِ ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ : الْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يَقْتُلُ النَّفْسَ الْمُؤْمِنَةَ مُتَعَمِّدًا جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ جَهَنَّمَ ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ، وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ، وَلَوْ قَتْلَ النَّاسَ جَمِيعًا لَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ، وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ فَقَدْ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ .
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا يَلْزَمُهُ مِنَ الْقِصَاصِ مَا يَلْزَمُ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ، قَالَ : وَمَنْ أَحْيَاهَا ، أَيْ عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ لَهُ قَتْلُهُ ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا : هُوَ الْعَفْوُ بَعْدَ الْمَقْدِرَةِ ، وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَا فَالْمُؤْمِنُون َ كُلُّهُمْ خُصَمَاؤُهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ وَتَرَ الْجَمِيعَ ، وَمَنْ أَحْيَاهَا وَجَبَ عَلَى الْكُلِّ شُكْرُهُ ، وَقِيلَ : كَانَ هَذَا مُخْتَصًّا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ مَنِ اسْتَحَلَّ قَتْلَ وَاحِدٍ ، فَقَدِ اسْتَحَلَّ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ أَنْكَرَ الشَّرْعَ ، وَمَنْ حَرَّمَ دَمَ مُسْلِمٍ ، فَكَأَنَّمَا حَرَّمَ دِمَاءَ النَّاسِ جَمِيعًا ، ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُمْ ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ كَثِيرٍ هَذَا الْقَوْلَ الْأَخِيرَ ، وَعَزَاهُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : وَمَنْ أَحْيَاهَا ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَنْ حَرَّمَ قَتْلَهَا إِلَّا بِحَقٍّ حَيِيَ النَّاسُ مِنْهُ جَمِيعًا .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ : إِحْيَاؤُهُ عِبَارَةٌ عَنِ التَّرْكِ ، وَالْإِنْقَاذِ مِنْ هَلَكَةٍ ، وَإِلَّا فَالْإِحْيَاءُ حَقِيقَةً الَّذِي هُوَ الِاخْتِرَاعُ ، إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الْإِحْيَاءُ ، كَقَوْلِ نَمْرُودَ لَعَنَهُ اللَّهُ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [ 2 \ 258 ] ، فَسَمَّى التَّرْكَ إِحْيَاءً .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا الْآيَةَ ، اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ، فَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَقِيلَ : نَزَلَتْ فِي الْحَرُورِيَّةِ .
ابو وليد البحيرى
2020-10-08, 04:42 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (61)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (16)
صـ 401 إلى صـ 405
[ ص: 401 ] وأشهر الأقوال هو ما تضافرت به الروايات في الصحاح ، وغيرها ، أنها نزلت في قوم " عرينة " ، و " عكل " الذين قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتووا المدينة ، فأمر لهم - صلى الله عليه وسلم - بلقاح ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ، وألبانها ، فانطلقوا ، فلما صحوا وسمنوا ، قتلوا راعي النبي - صلى الله عليه وسلم - واستاقوا اللقاح ، فبلغه - صلى الله عليه وسلم - خبرهم ، فأرسل في أثرهم سرية فجاءوا بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسملت أعينهم ، وألقوا في الحرة يستسقون ، فلا يسقون حتى ماتوا .
وعلى هذا القول ، فهي نازلة في قوم سرقوا ، وقتلوا ، وكفروا بعد إيمانهم ، هذه هي أقوال العلماء في سبب نزولها ، والذي يدل عليه ظاهر القرآن أنها في قطاع الطريق من المسلمين ، كما قاله جماعة من الفقهاء بدليل قوله تعالى : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم الآية ، فإنها ليست في الكافرين قطعا ; لأن الكافر تقبل توبته بعد القدرة عليه ، كما تقبل قبلها إجماعا ; لقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وليست في المرتدين ; لأن المرتد يقتل بردته وكفره ، ولا يقطع لقوله - صلى الله عليه وسلم - عاطفا على ما يوجب القتل : " والتارك لدينه المفارق للجماعة " ، وقوله : " من بدل دينه فاقتلوه " ، فيتعين أنها في المحاربين من المسلمين ، فإن قيل : وهل يصح أن يطلق على المسلم أنه محارب لله ورسوله ؟ فالجواب : نعم .
والدليل قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله [ 2 \ 278 ، 279 ] .
تنبيه
استشكل بعض العلماء تمثيله - صلى الله عليه وسلم - بالعرنيين ; لأنه سمل أعينهم مع قطع الأيدي والأرجل ، مع أن المرتد يقتل ولا يمثل به .
واختلف في الجواب ، فقيل فيه ما حكاه الطبري عن بعض أهل العلم : أن هذه الآية نسخت فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم ، وقال محمد بن سيرين : كان ذلك قبل نزول الحدود ، وقال أبو الزناد : إن هذه الآية معاتبة له - صلى الله عليه وسلم - على ما فعل بهم ، وبعد العتاب على ذلك لم يعد ، قاله أبو داود .
والتحقيق في الجواب هو أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل بهم ذلك قصاصا ، وقد ثبت في صحيح [ ص: 402 ] مسلم وغيره أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سمل أعينهم قصاصا ; لأنهم سملوا أعين رعاة اللقاح ، وعقده البدوي الشنقيطي في " مغازيه " بقوله : [ الرجز ]
وبعدها انتهبها الألى انتهوا لغاية الجهد وطيبة اجتووا فخرجوا فشربوا ألبانها
ونبذوا إذ سمنوا أمانها فاقتص منهم النبي أن مثلوا
بعبده ومقلتيه سملوا
واعترض على الناظم شارح النظم حماد لفظة " بعبده " ; لأن الثابت أنهم مثلوا بالرعاء ، والعلم عند الله تعالى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ الْآيَةَ .
اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ هُنَا هُوَ الْقُرْبَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِخْلَاصٍ فِي ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى ; لِأَنَّ هَذَا وَحْدَهُ هُوَ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَنَيْلِ مَا عِنْدَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَأَصْلُ الْوَسِيلَةِ : الطَّرِيقُ الَّتِي تُقَرِّبُ إِلَى الشَّيْءِ ، وَتُوَصِّلُ إِلَيْهِ وَهِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ ; لِأَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِاتِّبَاعِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى هَذَا فَالْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِلْمُرَادِ مِنَ الْوَسِيلَةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [ 59 \ 7 ] ، وَكَقَوْلِهِ : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [ \ 31 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [ 24 \ 54 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ الْحَاجَةُ ، وَلَمَّا سَأَلَهُ نَافِعٌ الْأَزْرَقُ هَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ ؟ أَنْشَدَ لَهُ بَيْتَ عَنْتَرَةَ : [ الْكَامِلُ ]
إِنَّ الرِّجَالَ لَهُمْ إِلَيْكِ وَسِيلَةٌ إِنْ يَأْخُذُوكِ تَكَحَّلِي وَتَخَضَّبِي
قَالَ : يَعْنِي لَهُمْ إِلَيْكِ حَاجَةٌ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، فَالْمَعْنَى : وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [ 5 \ 35 ] ، وَاطْلُبُوا حَاجَتَكُمْ مِنَ اللَّهِ ; لِأَنَّهُ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهَا ، وَمِمَّا يُبَيِّنُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ الْآيَةَ [ 29 \ 17 ] ، وَقَوْلُهُ : وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ الْآيَةَ [ 4 \ 32 ] ، وَفِي الْحَدِيثِ : " إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ " .
[ ص: 403 ] قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى الْوَسِيلَةِ هُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ عَامَّةَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِخْلَاصِ لَهُ فِي الْعِبَادَةِ ، عَلَى وَفْقِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ دَاخِلٌ فِي هَذَا ; لِأَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ وَالِابْتِهَالَ إِلَيْهِ فِي طَلَبِ الْحَوَائِجِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ عِبَادَتِهِ الَّتِي هِيَ الْوَسِيلَةُ إِلَى نَيْلِ رِضَاهُ وَرَحْمَتِهِ .
وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ مَلَاحِدَةِ أَتْبَاعِ الْجُهَّالِ الْمُدَّعِينَ لِلتَّصَوُّفِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسِيلَةِ فِي الْآيَةِ الشَّيْخُ الَّذِي يَكُونُ لَهُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، أَنَّهُ تَخَبُّطٌ فِي الْجَهْلِ وَالْعَمَى وَضَلَالٌ مُبِينٌ وَتَلَاعُبٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَاتِّخَاذُ الْوَسَائِطِ مَنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ أَصُولِ كُفْرِ الْكَفَّارِ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ : مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [ 39 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ : وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ 10 \ 18 ] ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى رِضَى اللَّهِ وَجَنَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ هِيَ اتِّبَاعُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ حَادَ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الْآيَةَ [ 4 \ 123 ] .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَسِيلَةَ فِي بَيْتِ عَنْتَرَةَ مَعْنَاهَا التَّقَرُّبُ أَيْضًا إِلَى الْمَحْبُوبِ ; لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ ، وَلِذَا أَنْشَدَ بَيْتَ عَنْتَرَةَ الْمَذْكُورَ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَالْقُرْطُبِيّ ُ وَغَيْرُهُمَا لِهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَجَمْعُ الْوَسِيلَةِ : الْوَسَائِلُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الطَّوِيلُ ]
إِذَا غَفَلَ الْوَاشُونَ عُدْنَا لِوَصْلِنَا وَعَادَ التَّصَافِي بَيْنَنَا وَالْوَسَائِلُ
وَهَذَا الَّذِي فَسَّرْنَا بِهِ الْوَسِيلَةَ هُنَا هُوَ مَعْنَاهَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ الْآيَةَ [ 17 \ 57 ] ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوَسِيلَةِ أَيْضًا الْمَنْزِلَةَ الَّتِي فِي الْجَنَّةِ الَّتِي أَمَرَنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْأَلَ لَهُ اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا ، نَرْجُو اللَّهَ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا ; لِأَنَّهَا لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ هُوَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِجْمَالٌ ; لِأَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ هَذَا ، مُفَسِّرٌ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : فَخُذُوهُ ، وَقَوْلُهُ : لَمْ تُؤْتَوْهُ ، لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي الْآيَةِ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَشَارَ لَهُ هُنَا ، وَذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ .
[ ص: 404 ] اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيَّ ةِ الَّذِينَ زَنَيَا بَعْدَ الْإِحْصَانِ ، وَكَانَ الْيَهُودُ قَدْ بَدَّلُوا حُكْمَ الرَّجْمِ فِي التَّوْرَاةِ ، فَتَعَمَّدُوا تَحْرِيفَ كِتَابِ اللَّهِ ، وَاصْطَلَحُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّ حَدَّهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، التَّوْرَاةِ : الرَّجْمُ ، أَنَّهُمْ يَجْلِدُونَهُ وَيَفْضَحُونَهُ بِتَسْوِيدِ الْوَجْهِ ، وَالْإِرْكَابِ عَلَى حِمَارٍ ، فَلَمَّا زَنَى الْمَذْكُورَانِ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ تَعَالَوْا نَتَحَاكَمُ إِلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِ حَدِّهِمَا ، فَإِنْ حَكَمَ بِالْجَلْدِ وَالتَّحْمِيمِ فَخُذُوا عَنْهُ ذَلِكَ وَاجْعَلُوهُ حُجَّةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَكُونُ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ قَدْ حَكَمَ فِيهِمَا بِذَلِكَ ، وَإِنْ حَكَمَ بِالرَّجْمِ فَلَا تَتَّبِعُوهُ ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : هَذَا ، وَقَوْلِهِ : فَخُذُوهُ ، وَقَوْلِهِ : وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ ، هُوَ الْحُكْمُ الْمُحَرَّفُ الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ كَمَا بَيَّنَّا ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا يَعْنِي الْمُحَرَّفَ وَالْمُبَدَّلَ الَّذِي هُوَ الْجَلْدُ وَالتَّحْمِيمُ فَخُذُوهُ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ بِأَنْ حَكَمَ بِالْحَقِّ الَّذِي هُوَ الرَّجْمُ فَاحْذَرُوا أَنْ تَقْبَلُوهُ .
وَذَكَرَ تَعَالَى هَذَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ [ 3 \ 23 ] ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، يَعْنِي فِي شَأْنِ الزَّانِيَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ ، ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، أَيْ عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَقَوْلُهُ هُنَا : ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَنْهُمْ : وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ .
أَخْبَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ اسْتَحْفَظُوا كِتَابَ اللَّهِ يَعْنِي اسْتَوْدَعُوهُ ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ حِفْظَهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلِ امْتَثَلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَحَفِظُوهُ ، أَوْ لَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَضَيَّعُوهُ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَمْتَثِلُوا الْأَمْرَ ، وَلَمْ يَحْفَظُوا مَا اسْتُحْفِظُوهُ ، بَلْ حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ عَمْدًا كَقَوْلِهِ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ . الْآيَةَ [ 4 \ 46 ] .
وَقَوْلِهِ : يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ، وَقَوْلِهِ : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [ 6 \ 91 ] ، وَقَوْلِهِ : فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْآيَةَ [ 2 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا : وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ الْآيَةَ [ 3 \ 78 ] ، [ ص: 405 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
تَنْبِيهٌ
إِنْ قِيلَ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْرَاةِ وَالْقُرْآنِ ؟ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولٍ مِنْ رُسُلِهِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ - وَالتَّوْرَاةُ حُرِّفَتْ ، وَبُدِّلَتْ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ، وَالْقُرْآنُ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ ، لَوْ حَرَّفَ مِنْهُ أَحَدٌ حَرْفًا وَاحِدًا فَأَبْدَلَهُ بِغَيْرِهِ ، أَوْ زَادَ فِيهِ حَرْفًا أَوْ نَقَصَ فِيهِ آخَرَ لَرَدَّ عَلَيْهِ آلَافُ الْأَطْفَالِ مِنْ صِغَارِ الْمُسْلِمِينَ فَضْلًا عَنْ كِبَارِهِمْ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ اللَّهَ اسْتَحْفَظَهُمُ التَّوْرَاةَ ، وَاسْتَوْدَعَهُ مْ إِيَّاهَا ، فَخَانُوا الْأَمَانَةَ وَلَمْ يَحْفَظُوهَا ، بَلْ ضَيَّعُوهَا عَمْدًا ، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ لَمْ يَكِلِ اللَّهُ حِفْظَهُ إِلَى أَحَدٍ حَتَّى يُمْكِنَهُ تَضْيِيعُهُ ، بَلْ تَوَلَّى حِفْظَهُ جَلَّ وَعَلَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ الْمُقَدَّسَةِ ، كَمَا أَوْضَحَهُ بِقَوْلِهِ : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [ 15 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ الْآيَةَ [ 41 \ 42 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَ " الْبَاءُ " فِي قَوْلِهِ : بِمَا اسْتُحْفِظُوا [ 5 \ 44 ] ، مُتَعَلِّقَةٌ بِالرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ ; لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا صَارُوا فِي تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ بِسَبَبِ مَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ .
وَقِيلَ : مُتَعَلِّقَةٌ بِيَحْكُمُ . وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : هَلْ هِيَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ فِي الْكُفَّارِ ؟ ، فَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ ، وَرُوِيَ عَنْ طَاوُسٍ أَيْضًا أَنَّهَا فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكُفْرِ فِيهَا كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ الْكُفْرَ الَّذِي تَذْهَبُونَ إِلَيْهِ ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَالْحَاكِمُ وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيمَا قَبْلَهَا أَنَّهُمْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا ، يَعْنِي الْحُكْمَ الْمُحَرَّفَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ حُكْمِ اللَّهِ فَخُذُوهُ ، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ أَيِ الْمُحَرَّفَ ، بَلْ أُوتِيتُمْ حُكْمَ اللَّهِ الْحَقَّ فَاحْذَرُوا ، فَهُمْ يَأْمُرُونَ بِالْحَذَرِ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي يَعْلَمُونَ أَنَّهُ حَقٌّ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-08, 04:44 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (62)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (17)
صـ 406 إلى صـ 410
[ ص: 406 ] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى بَعْدَهَا وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ [ 5 \ 45 ] ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِيهِمْ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْآيَةَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا ذَكَرَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَأَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ ، وَزَادَ الْحَسَنُ ، وَهِيَ عَلَيْنَا وَاجِبَةٌ ، نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَنَقَلَ نَحْوَ قَوْلِ الْحَسَنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَ الظَّالِمُونَ وَ الْفَاسِقُونَ [ 5 \ 44 ، 45 ، 47 ] ، نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي الْكُفَّارِ ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَمِ ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَكْفُرُ وَإِنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً ، وَقِيلَ فِيهِ إِضْمَارٌ ، أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، رَدًّا لِلْقُرْآنِ وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ كَافِرٌ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ .
فَالْآيَةُ عَامَّةٌ عَلَى هَذَا ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالْحَسَنُ : هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْيَهُودِ ، وَالْكُفَّارِ ، أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ وَمُسْتَحِلًّا لَهُ .
فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ مُرْتَكِبُ مُحَرَّمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ ، وَقِيلَ : أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ فَهُوَ كَافِرٌ فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ ، وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ : هِيَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ ، قَالَ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ :
مِنْهَا أَنَّ الْيَهُودَ ذَكَرُوا قَبْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلَّذِينَ هَادُوا [ 5 \ 44 ] فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ .
وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ، فَهَذَا الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرَّجْمَ وَالْقِصَاصَ ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ " مَنْ " إِذَا كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهَا ، قِيلَ لَهُ : " مَنْ " هُنَا بِمَعْنَى الَّذِي ، مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَالتَّقْرِيرِ ; وَالْيَهُودُ الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا .
[ ص: 407 ] وَيُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَةَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ ، أَهِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ : نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ ، وَلَتَسْلُكُنَّ سَبِيلَهُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، وَقِيلَ : الْكَافِرُونَ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ ، قَالَهُ : لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ ، وَالشَّعْبِيِّ أَيْضًا قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ .
وَهَذَا يَخْتَلِفُ إِنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ : وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ أَنَّ مَنِ ارْتَشَى ، وَحَكَمَ بِحُكْمِ غَيْرِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَعَزَا هَذَا إِلَى الْحَسَنِ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا : أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ : أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى ، وَأَلَّا يَخْشَوُا النَّاسَ وَيَخْشَوْهُ ، وَأَلَّا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ أَنَّ آيَةَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، نَازِلَةٌ فِي الْمُسْلِمِينَ ; لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَهَا مُخَاطِبًا لِمُسْلِمِي هَذِهِ الْأُمَّةِ : فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ، ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ، فَالْخِطَابُ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ مُتَبَادِرٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ ، وَعَلَيْهِ فَالْكُفْرُ إِمَّا كُفْرٌ دُونَ كَفْرٍ ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا لَهُ ، أَوْ قَاصِدًا بِهِ جَحْدَ أَحْكَامِ اللَّهِ وَرَدِّهَا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا .
أَمَّا مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ ذَنْبًا ، فَاعِلٌ قَبِيحًا ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْهَوَى فَهُوَ مِنْ سَائِرِ عُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَسِيَاقُ الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ أَيْضًا فِي أَنَّ آيَةَ : فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، فِي الْيَهُودِ ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ .
فَالْخِطَابُ لَهُمْ لِوُضُوحِ دَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ ظَاهِرٌ أَيْضًا فِي أَنَّ آيَةَ : فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ فِي النَّصَارَى ; لِأَنَّهُ قَالَ قَبْلَهَا : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَحْرِيرَ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الْكُفْرَ ، وَالظُّلْمَ ، وَالْفِسْقَ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا [ ص: 408 ] رُبَّمَا أُطْلِقَ فِي الشَّرْعِ مُرَادًا بِهِ الْمَعْصِيَةُ تَارَةً ، وَالْكُفْرَ الْمُخْرِجَ مِنَ الْمِلَّةِ أُخْرَى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، مُعَارَضَةً لِلرُّسُلِ وَإِبْطَالًا لِأَحْكَامِ اللَّهِ ، فَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ وَكُفْرُهُ كُلُّهَا كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَنِ الْمِلَّةِ ، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ حَرَامًا فَاعِلٌ قَبِيحًا فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ مُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأُولَى فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَالثَّانِيَةَ فِي الْيَهُودِ ، وَالثَّالِثَةَ فِي النَّصَارَى ، وَالْعِبْرَةُ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ ، وَتَحْقِيقُ أَحْكَامِ الْكُلِّ هُوَ مَا رَأَيْتَ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الْآيَةَ ، قَدْ قَدَّمْنَا احْتِجَاجَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ ، وَنَفْسُ الْآيَةِ فِيهَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْآيَةِ ، كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الْآيَةَ .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنَ الْمُتَصَدِّقِي نَ الَّذِينَ تَكُونُ صَدَقَتُهُمْ كَفَّارَةٌ لَهُمْ ; لِأَنَّ الْكُفْرَ سَيِّئَةٌ لَا تَنْفَعُ مَعَهَا حَسَنَةٌ ، نَبَّهَ عَلَى هَذَا إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي فِي " أَحْكَامِ الْقُرْآنِ " ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " ، وَمَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي مِنْ أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ دُخُولِ الْعَبْدِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِجُرْحِهِ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لِسَيِّدِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ; لِأَنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ الْأُمُورَ الْمُتَعَلِّقَة َ بِبَدَنِ الْعَبْدِ ، كَالْقِصَاصِ لَهُ الْعَفْوُ فِيهَا دُونَ سَيِّدِهِ ، وَعَلَيْهِ فَلَا مَانِعَ مَنْ تَصْدُّقِهِ بِجُرْحِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنْ مَعْنَى فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، أَنَّ التَّصَدُّقَ بِالْجِنَايَةِ كَفَّارَةٌ لِلْجَانِي ، لَا لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، فَلَا مَانِعَ أَيْضًا مِنَ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ بِالْآيَةِ ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَذْكُرُ عَنِ الْكَافِرِ أَنَّهُ مُتَصَدِّقٌ ; لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا صَدَقَةَ لَهُ لِكُفْرِهِ ، وَمَا هُوَ بَاطِلٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَذْكُرُهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فِي مَعْرِضِ التَّقْرِيرِ وَالْإِثْبَاتِ ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ ضَعِيفٌ فِي مَعْنَى الْآيَةِ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَمَنْ بَعْدَهُمْ : عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لِلْمُتَصَدِّقِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ ; لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِيهِ عَائِدٌ إِلَى مَذْكُورٍ ، وَذَلِكَ فِي الْمُؤْمِنِ قَطْعًا دُونَ الْكَافِرِ ، فَالِاسْتِدْلَا لُ بِالْآيَةِ ظَاهِرٌ جِدًّا .
تَنْبِيهٌ
احْتَجَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ ; لِأَنَّهُمَا لَوْ قُتِلَا بِهِ لَخَرَجَ عَنْ قَوْلِهِ : أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ; لِكَوْنِهِمَا نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ .
[ ص: 409 ] وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا مُتَمَسِّكًا بِهَذَا الدَّلِيلِ ابْنُ الزُّبَيْرِ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَابْنُ سِيرِينَ ، وَحَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ، وَرَبِيعَةُ ، وَدَاوُدُ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَحَكَاهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ ، وَابْنِ سِيرِينَ ، وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْهُمْ وَاحِدٌ ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْبَاقِينَ حِصَصُهُمْ مِنَ الدِّيَةِ ; لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُكَافِئٌ لَهُ ، فَلَا تُسْتَوْفَى أَبْدَالٌ بِمُبْدَلٍ وَاحِدٍ ، كَمَا لَا تَجِبُ دِيَاتٌ لِمَقْتُولٍ وَاحِدٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَمَّنْ ذَكَرْنَا ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " .
وَقَالُوا مُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحُرُّ بِالْحُرِّ [ 2 \ 178 ] ، وَقَوْلِهِ : وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِالنَّفْسِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، قَالُوا : وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْأَوْصَافِ يَمْنَعُ الْقِصَاصَ ، بِدَلِيلِ عَدَمِ قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَالتَّفَاوُتَ فِي الْعَدَدِ أَوْلَى .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا حُجَّةَ مَعَ مَنْ أَوْجَبَ قَتَلَ جَمَاعَةٍ بِوَاحِدٍ ، وَعَدَمِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ رِوَايَةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
وَالرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَمَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ : أَنَّهُ يُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَتَلَ سَبْعَةً بِوَاحِدٍ ، وَقَالَ : لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ جَمِيعًا ، وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ تَوَقَّفَ عَنْ قِتَالِ الْحَرُورِيَّةِ حَتَّى يُحْدِثُوا ، فَلَمَّا ذَبَحُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَبَّابٍ ، كَمَا تُذْبَحُ الشَّاةُ ، وَأُخْبِرَ عَلِيٌّ بِذَلِكَ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ نَادُوهُمْ أَنْ أَخْرِجُوا إِلَيْنَا قَاتِلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خِبَّابٍ ، فَقَالُوا : كُلُّنَا قَتَلَهُ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأَصْحَابِهِ : دُونَكُمُ الْقَوْمَ ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَتَلَهُمْ عَلِيٌّ وَأَصْحَابُهُ ، نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الدَّارَقُطْنِي ِّ فِي " سُنَنِهِ " .
وَيَزِيدُ قَتْلَ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ ، وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ " . قَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، نَقَلَهُ عَنْهُ الْقُرْطُبِيُّ .
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي " السُّنَنِ الْكُبْرَى " نَحْوَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ، وَزَادَ : " إِلَّا أَنْ يَشَاءَ " ، وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " .
وَرُوِيَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَالْحَسَنُ ، [ ص: 410 ] وَأَبُو سَلَمَةَ ، وَعَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي : أَنَّ الْجَمَاعَةَ تُقْتَلُ بِالْوَاحِدِ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ ، وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَيْضًا ، وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فِي الصَّحَابَةِ ، فَصَارَ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا ، وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ ثَبَتَ عَنْهُ عَدَمُ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ .
وَإِذَنْ فَالْخِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الصَّحَابَةَ إِذَا اخْتَلَفُوا ، لَمْ يَجُزِ الْعَمَلُ بِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إِلَّا بِتَرْجِيحٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَيَتَرَجَّحُ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الَّذِي هُوَ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [ 2 \ 179 ] ، يَعْنِي أَنَّ مَنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ إِذَا قَتَلَ يَكُونُ ذَلِكَ رَادِعًا لَهُ وَزَاجِرًا عَنِ الْقَتْلِ ، وَلَوْ كَانَ الِاثْنَانِ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا لِلْوَاحِدِ ، لَكَانَ كُلُّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتُلَ مُسْلِمًا ، أَخَذَ وَاحِدًا مِنْ أَعْوَانِهِ فَقَتَلَهُ مَعَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ رَادِعٌ عَنِ الْقَتْلِ ; وَبِذَلِكَ تَضِيعُ حِكْمَةُ الْقِصَاصِ مِنْ أَصْلِهَا ، مَعَ أَنَّ الْمُتَمَالِئِي نَ عَلَى الْقَتْلِ يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ قَاتِلٌ ، فَيُقْتَلُ ، وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَوْ قَذَفُوا وَاحِدًا لَوَجَبَ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى جَمِيعِهِمْ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِمَّا أَنْزَلَ فِي الْإِنْجِيلِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَ الْإِنْجِيلِ بِالْحُكْمِ بِهِ ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ الْبِشَارَةَ بِمَبْعَثِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِهِ كَقَوْلِهِ : وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ 61 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ الْآيَةَ [ 7 \ 157 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2020-10-08, 04:45 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (63)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (18)
صـ 411 إلى صـ 415
لَطِيفَةٌ لَهَا مُنَاسَبَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : ذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نَصْرَانِيًّا قَالَ لِعَالِمٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : نَاظِرْنِي فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَسِيحِيَّ ةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ الْعَالِمُ لِلنَّصْرَانِيّ ِ : هَلُمَّ إِلَى الْمُنَاظَرَةِ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ؟ فَقَالَ الْعَالِمُ : الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، فَقَالَ النَّصْرَانِيُّ : إِذَنْ يَلْزَمُكُمُ اتِّبَاعُ عِيسَى مَعَنَا ، وَتَرْكُ اتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ نَتَّفِقُ عَلَى نُبُوَّةِ عِيسَى ، وَنُخَالِفُكُمْ فِي نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ الْمُسْلِمُ : أَنْتُمُ الَّذِينَ تَمْتَنِعُونَ مِنْ [ ص: 411 ] اتِّبَاعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ الَّذِي هُوَ عِيسَى قَالَ لَكُمْ : وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ، فَلَوْ كُنْتُمْ مُتَّبِعِينَ عِيسَى حَقًّا لَاتَّبَعْتُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَهَرَ أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ لَمْ تَتَّبِعُوا الْمُتَّفَقَ عَلَيْهِ وَلَا غَيْرَهُ ، فَانْقَطَعَ النَّصْرَانِيُّ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّصَارَى لَوْ كَانُوا مُتَّبِعِينَ عِيسَى ، لَاتَّبَعُوا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي النَّصَارَى ، وَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْيَهُودِ ، وَالَّتِي قَبْلَ تِلْكَ فِي الْمُسْلِمِينَ ، كَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْكُفْرَ ، وَالظُّلْمَ ، وَالْفِسْقَ كُلَّهَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِمَا دُونَ الْكُفْرِ ، وَعَلَى الْكُفْرِ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ نَفْسِهِ ، فَمِنَ الْكُفْرِ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا سَأَلَتْهُ الْمَرْأَةُ عَنْ سَبَبِ كَوْنِ النِّسَاءِ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ ، " إِنَّ ذَلِكَ وَاقِعٌ بِسَبَبِ كُفْرِهِنَّ " ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُنَّ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَمِنَ الْكُفْرِ بِمَعْنَى الْمُخْرِجِ عَنِ الْمِلَّةِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْآيَةَ [ 109 \ 1 ، 2 ] ، وَمِنَ الظُّلْمِ بِمَعْنَى الْكُفْرِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ 2 \ 254 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [ 10 \ 106 ] ، وَقَوْلُهُ : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [ 31 \ 13 ] ، وَمِنْهُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ الْآيَةَ [ 35 \ 32 ] ، وَمِنَ الْفِسْقِ بِمَعْنَى الْكُفْرِ قَوْلُهُ : وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا الْآيَةَ [ 32 \ 20 ] ، وَمِنْهُ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ قَوْلُهُ فِي الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - : وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ 24 \ 4 ] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَذْفَ لَيْسَ بِمُخْرِجٍ عَنِ الْمِلَّةِ ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ [ 24 \ 11 ] ، وَمِنَ الْفِسْقِ بِمَعْنَى الْمَعْصِيَةِ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الْآيَةَ [ 49 \ 6 ] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ ، فَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، لِقَصْدِ مُعَارَضَتِهِ وَرَدِّهِ ، وَالِامْتِنَاعِ مِنِ الْتِزَامِهِ فَهُوَ كَافِرٌ ظَالِمٌ فَاسِقٌ كُلُّهَا بِمَعْنَاهَا الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ ، وَمَنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنَ الْحُكْمِ لِهَوًى وَهُوَ يَعْتَقِدُ قُبْحَ فِعْلِهِ ، فَكُفْرُهُ وَظُلْمُهُ وَفِسْقُهُ غَيْرُ الْمُخْرِجِ مِنَ الْمِلَّةِ ، إِلَّا إِذَا كَانَ مَا امْتَنَعَ مِنَ الْحُكْمِ بِهِ [ ص: 412 ] شَرْطًا فِي صِحَّةِ إِيمَانِهِ ، كَالِامْتِنَاعِ مِنِ اعْتِقَادِ مَا لَا بُدَّ مِنِ اعْتِقَادِهِ ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، كَمَا قَدَّمْنَا وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [ 5 \ 51 ] ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ وِلَايَةَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ زَائِفَةٌ لَيْسَتْ خَالِصَةً ; لِأَنَّهَا لَا تَسْتَنِدُ عَلَى أَسَاسٍ صَحِيحٍ ، هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ بَيْنَ النَّصَارَى دَائِمَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، بِقَوْلِهِ : وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ 5 \ 14 ] ، وَبَيَّنَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْيَهُودِ أَيْضًا ، حَيْثُ قَالَ فِيهِمْ : وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [ 5 \ 64 ] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا فِي الْيَهُودِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ السِّيَاقِ ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : إِنَّهَا بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
وَصَرَّحَ تَعَالَى بِعَدَمِ اتِّفَاقِ الْيَهُودِ مُعَلِّلًا لَهُ بِعَدَمِ عُقُولِهِمْ فِي قَوْلِهِ : تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [ 59 \ 14 ] .
تَنْبِيهٌ
أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ، أَنَّ الْيَهُودِيَّ وَالنَّصْرَانِي َّ يَتَوَارَثَانِ ، وَرَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ ، وِلَايَةُ الْيَهُودِ لِخُصُوصِ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى لِخُصُوصِ النَّصَارَى ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ لِتَوَارُثِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْهُمْ بِتَوَلِّيهِ إِيَّاهُمْ ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ تَوَلِّيَهُمْ مُوجِبٌ لِسُخْطِ اللَّهِ ، وَالْخُلُودِ فِي عَذَابِهِ ، وَأَنَّ مُتَوَلِّيَهُمْ لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا تَوَلَّاهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [ 5 \ 80 ، 81 ] .
[ ص: 413 ] وَنَهَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَنْ تَوَلِّيهِمْ مُبَيِّنًا سَبَبَ التَّنْفِيرِ مِنْهُ ; وَهُوَ قَوْلُهُ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ [ 60 \ 13 ] .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ ، فِيمَا إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمُوَالَاةُ بِسَبَبِ خَوْفٍ ، وَتَقِيَّةٍ ، وَإِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَصَاحِبُهَا مَعْذُورٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [ 3 \ 28 ] ، فَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا بَيَانٌ لِكُلِّ الْآيَاتِ الْقَاضِيَةِ بِمَنْعِ مُوَالَاةِ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا وَإِيضَاحٌ ; لِأَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَأَمَّا عِنْدَ الْخَوْفِ وَالتَّقِيَّةِ ، فَيُرَخَّصُ فِي مُوَالَاتِهِمْ ، بِقَدْرِ الْمُدَارَاةِ الَّتِي يَكْتَفِي بِهَا شَرُّهُمْ ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ سَلَامَةُ الْبَاطِنِ مِنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ : [ الْوَافِرُ ]
وَمَنْ يَأْتِي الْأُمُورَ عَلَى اضْطِرَارٍ فَلَيْسَ كَمِثْلِ آتِيهَا اخْتِيَارًا
وَيُفْهَمُ مِنْ ظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ مَنْ تَوَلَّى الْكُفَّارَ عَمْدًا اخْتِيَارًا ، رَغْبَةً فِيهِمْ أَنَّهُ كَافِرٌ مِثْلَهُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ .
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، يَعْتَذِرُونَ عَنْ مُوَالَاةِ الْكَفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ بِأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ تَدُورَ عَلَيْهِمُ الدَّوَائِرُ ، أَيْ دُوَلُ الدَّهْرِ الدَّائِرَةُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : [ الْوَافِرُ ]
إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُنَاسٍ كَلَاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا
يَعْنُونَ إِمَّا بِقَحْطٍ فَلَا يَمِيرُونَنَا ، وَلَا يَتَفَضَّلُوا عَلَيْنَا ، وَإِمَّا بِظَفَرِ الْكُفَّارِ بِالْمُسْلِمِين َ ، فَلَا يَدُومُ الْأَمْرُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ ، زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدَ تَقَلُّبِ الدَّهْرِ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ ، يَكُونُ لَهُمْ أَصْدِقَاءُ كَانُوا مُحَافِظِينَ عَلَى صَدَاقَتِهِمْ ; فَيَنَالُونَ مِنْهُمْ مَا يُؤَمِّلُ الصَّدِيقُ مِنْ صَدِيقِهِ ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَذِبِهِمْ فِي إِقْسَامِهِمْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ، إِنَّهُمْ لَمَعَ الْمُسْلِمِينَ ، وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ تِلْكَ الدَّوَائِرَ الَّتِي حَافَظُوا مِنْ أَجْلِهَا عَلَى صَدَاقَةِ [ ص: 414 ] الْيَهُودِ ، أَنَّهَا لَا تَدُورُ إِلَّا عَلَى الْيَهُودِ ، وَالْكُفَّارِ ، وَلَا تَدُورُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، بِقَوْلِهِ : فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ الْآيَةَ ، وَعَسَى مِنَ اللَّهِ نَافِذَةٌ ; لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا يُطْمَعُ إِلَّا فِيمَا يُعْطِي .
وَالْفَتْحُ الْمَذْكُورُ قِيلَ : هُوَ فَتْحُ الْمُسْلِمِينَ لِبِلَادِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقِيلَ : الْفَتْحُ الْحُكْمُ ، كَقَوْلِهِ : رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ 7 \ 89 ] ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ بِقَتْلِ مُقَاتِلَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ ، وَإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ ، وَقِيلَ : هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ .
وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ سَبَبَ حَلِفِهِمْ بِالْكَذِبِ لِلْمُسْلِمِينَ ، أَنَّهُمْ مِنْهُمْ ، إِنَّمَا هُوَ الْفَرَقُ أَيِ الْخَوْفُ ، وَأَنَّهُمْ لَوْ وَجَدُوا مَحَلًّا يَسْتَتِرُونَ فِيهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَسَارَعُوا إِلَيْهِ ؛ لِشِدَّةِ بُغْضِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [ 9 \ 56 ، 57 ] ، فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ سَبَبِ أَيْمَانِ الْمُنَافِقِينَ ، وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ : اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [ 58 \ 16 ] .
وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ تِلْكَ الْأَيْمَانَ لِيَرْضَى عَنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ ، وَأَنَّهُمْ إِنْ رَضُوا عَنْهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنْهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [ 9 \ 96 ] .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِأَيْمَانِهِمْ إِرْضَاءَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَحَقُّ بِالْإِرْضَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [ 9 \ 62 ] .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ لَهُمْ لِيَرْضَوْا عَنْهُمْ ، بِسَبَبِ أَنَّ لَهُمْ عُذْرًا صَحِيحًا ، وَأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ ، لَا لِأَنَّ لَهُمْ عُذْرًا صَحِيحًا ، بَلْ مَعَ الْإِعْلَامِ بِأَنَّهُمْ رِجْسٌ ، وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ بِسَبَبِ مَا كَسَبُوا مِنَ النِّفَاقِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ 9 \ 95 ] .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ أَيْمَانَهُمُ الْكَاذِبَةَ سَبَبٌ لِإِهْلَاكِهِمْ أَنْفُسَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : [ ص: 415 ] وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 42 ] .
وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ لِحَلِفِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ رَاجِعَةٌ جَمِيعًا إِلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ ، الَّذِي هُوَ الْخَوْفُ ; لِأَنَّ خَوْفَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، هُوَ سَبَبُ رَغْبَتِهِمْ فِي إِرْضَائِهِمْ ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُمْ بِأَنْ لَا يُؤْذُوهُمْ ، وَلِذَا حَلَفُوا لَهُمْ ، لِيُرْضُوهُمْ ، وَلِيُعْرِضُوا عَنْهُمْ ، خَوْفًا مِنْ أَذَاهُمْ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
تَنْبِيهٌ
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا [ 5 \ 53 ] فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّاتٍ .
الْأُولَى : يَقُولُ بِلَا وَاوٍ مَعَ الرَّفْعِ ، وَبِهَا قَرَأَ نَافِعٌ ، وَابْنُ كَثِيرٍ ، وَابْنُ عَامِرٍ .
الثَّانِيَةُ : وَيَقُولُ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ مَعَ رَفْعِ الْفِعْلِ أَيْضًا ، وَبِهَا قَرَأَ عَاصِمٌ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ .
الثَّالِثَةُ : بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ ، وَنَصْبِ " يَقُولُ " عَطْفًا عَلَى ( أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ) وَبِهَا قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ الْآيَةَ .
أَخْبَرَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُمْ إِنِ ارْتَدَّ بَعْضُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ الْمُرْتَدِّ بِقَوْمٍ مِنْ صِفَاتِهِمُ الذُّلُّ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَالتَّوَاضُعُ لَهُمْ ، وَلِينُ الْجَانِبِ ، وَالْقَسْوَةُ وَالشِّدَّةُ عَلَى الْكَافِرِينَ ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَبِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهُ بِلِينِ الْجَانِبِ لِلْمُؤْمِنِينَ ، بِقَوْلِهِ : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [ 15 \ 88 ] ، وَقَوْلِهِ : وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ 26 \ 215 ] ، وَأَمَرَهُ بِالْقَسْوَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ 9 \ 73 ] ، وَأَثْنَى تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ بِاللِّينِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ الْآيَةَ [ 3 \ 159 ] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَذْكُورَ مِنَ اللِّينِ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَالشِّدَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ ، مِنْ صِفَاتِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، بِقَوْلِهِ : مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [ 48 \ 29 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-08, 04:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (64)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (19)
صـ 416 إلى صـ 420
[ ص: 416 ] وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : [ الطَّوِيلُ ]
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ وَأَعْطَى إِذَا مَا طَالِبُ الْعُرْفِ جَاءَهُ
وَأَمْضَى بِحَدِّ الْمَشْرَفِيِّ الْمُهَنَّدِ
وَقَالَ الْآخَرُ فِيهِ : [ الطَّوِيلُ ]
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَشَدَّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمَّدِ
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَلِينَ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلِّينِ ، وَأَلَّا يَشْتَدَّ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلشِّدَّةِ ، لِأَنَّ اللِّينَ فِي مَحَلِّ الشِّدَّةِ ضَعْفٌ ، وَخَوَرٌ ، وَالشِّدَّةَ فِي مَحَلِّ اللِّينِ حُمْقٌ ، وَخَرَقٌ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي : [ الطَّوِيلُ ]
إِذَا قِيلَ حِلْمٌ قُلْ فَلِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ وَحِلْمُ الْفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ ، وَأَقَامُوا كِتَابَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ ، لَيَسَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الْأَرْزَاقَ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ .
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ ، كَقَوْلِهِ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [ 71 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ وَقَوْمِهِ : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَوْمِهِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [ 11 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] . عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَقَوْلِهِ : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 96 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [ 65 \ 2 ، 3 ] ، وَقَوْلِهِ : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ 20 \ 132 ] ، وَمَفْهُومُ الْآيَةِ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى ، سَبَبٌ لِنَقِيضِ مَا [ ص: 417 ] يُسْتَجْلَبُ بِطَاعَتِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الْآيَةَ [ 30 \ 41 ] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قِسْمَانِ :
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُقْتَصِدَةٌ فِي عَمَلِهَا ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَيِّئُ الْعَمَلِ ، وَقَسَّمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فِي قَوْلِهِ : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [ 35 \ 32 ] ، وَوَعَدَ الْجَمِيعَ بِالْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [ 35 \ 33 ] .
وَذَكَرَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ : وَهُوَ الْكُفَّارُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا الْآيَةَ [ 35 \ 36 ] .
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْمُقْتَصِدِ ، وَالسَّابِقِ ، وَالظَّالِمِ ، أَنَّ الْمُقْتَصِدَ هُوَ مَنِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ ، وَاجْتَنَبَ النَّهْيَ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ السَّابِقَ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَزَادَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ ، وَالتَّوَرُّعِ عَنْ بَعْضِ الْجَائِزَاتِ ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِغَيْرِهِ ، وَأَنَّ الظَّالِمَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [ 9 \ 102 ] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ .
أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ، وَشَهِدَ لَهُ بِالِامْتِثَالِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، كَقَوْلِهِ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ 5 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [ 24 \ 54 ] ، وَقَوْلِهِ : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [ 51 \ 54 ] ، وَلَوْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا ، لَكَتَمَ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ 33 \ 37 ] ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ حَرْفًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَعْظَمَ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ ، وَعَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ الْآيَةَ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَمُوا وَصَمُّوا مَرَّتَيْنِ ، تَتَخَلَّلُهُمَ ا [ ص: 418 ] تَوْبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَبَيَّنَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الْآيَةَ [ 17 \ 4 ] ، فَبَيَّنَ جَزَاءَ عَمَاهُمْ ، وَصَمَمِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الْآيَةَ [ 17 \ 5 ] ، وَبَيَّنَ جَزَاءَ عَمَاهُمْ وَصَمَمِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ، وَبَيَّنَ التَّوْبَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ : ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُ مْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الْإِفْسَادِ عَادَ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ، فَعَادُوا إِلَى الْإِفْسَادِ بِتَكْذيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتْمِ صِفَاتِهِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ ، فَعَادَ اللَّهُ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَبَحَ مُقَاتِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ ، وَذَرَارِيَّهُم ْ ، وَأَجْلَى بَنِي قَيْنُقَاعَ ، وَبَنِي النَّضِيرِ ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ ، وَهَذَا الْبَيَانُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِيهِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ الْمَاضِيَةِ ، مِنْ قَتْلِ الرُّسُلِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ ، إِذْ قَبْلَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ : كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [ 5 \ 70 ] .
وَمَعْنَى وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [ 5 \ 71 ] ، ظَنُّوا أَلَّا يُصِيبَهُمْ بَلَاءٌ وَعَذَابٌ مِنَ اللَّهِ ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ ، لِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ ، أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، وَقَوْلُهُ : كَثِيرٌ مِنْهُمْ ، أَحْسَنُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِيهِ ; أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ : عَمُوا وَصَمُّوا ، كَقَوْلِكَ : جَاءَ الْقَوْمُ أَكْثَرُهُمْ ، وَقَوْلُهُ : أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، قَرَأَهُ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالرَّفْعِ ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ، فَوَجْهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْحُسْبَانَ بِمَعْنَى الظَّنِّ ، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ ، تَنْزِيلُ اعْتِقَادِهِمْ لِذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا ، مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ ، فَتَكُونُ أَنْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، إِلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [ 5 \ 73 ] ، لَوْ تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، لَتَابَ عَلَيْهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، لِأَنَّهُ اسْتَعْطَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ اسْتِعْطَافٍ ، وَأَلْطَفَهُ بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ غَفَرَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَامًّا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ : [ ص: 419 ] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [ 8 \ 38 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، إِلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [ 5 \ 73 ] ، لَوْ تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، لَتَابَ عَلَيْهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، لِأَنَّهُ اسْتَعْطَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ اسْتِعْطَافٍ ، وَأَلْطَفَهُ بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ غَفَرَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَامًّا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ : [ ص: 419 ] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [ 8 \ 38 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الْآيَةَ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ، وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْمَائِدَةِ ، وَعَلَيْهِ فَلَعْنُ الْأَوَّلِينَ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ 2 \ 65 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ 7 \ 166 ] ، وَلَعْنُ الْآخَرِينَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ 5 \ 115 ] ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَسَخَهُمْ خَنَازِيرَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْبَاقِرِ ، نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَقَالَ : وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَأَبِي مَالِكٍ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : إِنَّ أَهْلَ أَيْلَةَ لَمَّا اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ، قَالَ دَاوُدُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " اللَّهُمَّ أَلْبِسْهُمُ اللَّعْنَ مِثْلَ الرِّدَاءِ ، وَمِثْلَ الْمِنْطَقَةِ عَلَى الْحَقْوَيْنِ " ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً ، وَأَصْحَابُ الْمَائِدَةِ لَمَّا كَفَرُوا ، قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : [ ص: 420 ] " اللَّهُمَّ عَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ مَا أَكَلَ مِنَ الْمَائِدَةِ عَذَابًا لَمْ تُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَالْعَنْهُمْ كَمَا لَعَنْتَ أَصْحَابَ السَّبْتِ ، فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ " .
وَأَنَّ هَذَا مَعْنَى لَعْنِهِمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لَهَا ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ، قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ، هُوَ مَا قَصَدْتُمْ عَقْدَ الْيَمِينِ فِيهِ ، لَا مَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ نَحْوَ " لَا وَاللَّهِ " وَ " بَلَى وَاللَّهِ " ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ : [ الطَّوِيلُ ]
وَلَسْتَ بِمَأَخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ إِذَا لَمْ تَعْمَدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ
وَهَذَا الْعَقْدُ مَعْنَوِيٌّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ : [ الْبَسِيطُ ]
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ : عَقَدْتُمْ [ 5 \ 89 ] ، بِالتَّخْفِيفِ بِلَا أَلِفٍ ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ : عَاقَدْتُمْ بِأَلِفٍ بِوَزْنِ فَاعِلٍ ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ ، وَالتَّضْعِيفُ وَالْمُفَاعَلَة ُ : مَعْنَاهُمَا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَقَدْتُمْ بِلَا أَلِفٍ ، وَلَا تَضْعِيفٍ ، وَالْقِرَاءَاتُ يُبَيِّنُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ : بِمَا عَقَّدْتُمْ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ لَا مَوْصُولَةٌ ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ زَاعِمًا أَنَّ ضَمِيرَ الرَّابِطِ مَحْذُوفٌ .
وَفِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ ، أَشْهَرُهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ اثْنَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، كَقَوْلِهِ : " لَا وَاللَّهِ " وَ " بَلَى وَاللَّهِ " .
وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ : الشَّافِعِيُّ ، وَعَائِشَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهَا ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَعِكْرِمَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَبِي صَالِحٍ ، وَالضَّحَّاكِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَأَبِي قِلَابَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-08, 04:47 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (65)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (20)
صـ 421 إلى صـ 425
الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ ، فَيَظْهَرَ نَفْيُهُ ، وَهَذَا هُوَ [ ص: 421 ] مَذْهَبُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَقَالَ : إِنَّهُ أَحْسَنُ مَا سَمِعَ فِي مَعْنَى اللَّغْوِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَالْحَسَنِ ، وَزُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى ، وَأَبِي مَالِكٍ ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيّ ِ ، وَبَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَأَحَدِ قَوْلَيْ عِكْرِمَةَ ، وَحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ ، وَالسُّدِّيِّ ، وَمَكْحُولٍ ، وَمُقَاتِلٍ ، وَطَاوُسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، وَرَبِيعَةَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ .
وَالْقَوْلَانِ مُتَقَارِبَانِ ، وَاللَّغْوُ يَشْمَلُهُمَا ; لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ لَمْ يَقْصِدْ عَقْدَ الْيَمِينِ أَصْلًا ، وَفِي الثَّانِي لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْحَقَّ وَالصَّوَابَ ، وَغَيْرُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنَ الْأَقْوَالِ تَرَكْتُهُ لِضَعْفِهِ فِي نَظَرِي ، وَاللَّغْوُ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الْكَلَامُ بِمَا لَا خَيْرَ فِيهِ ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ : " إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةَ ، أَنْصِتْ ، فَقَدْ لَغَوْتَ أَوْ لَغَيْتَ " .
وَقَوْلُ الْعَجَّاجِ : [ الرَّجَزُ ]
وَرُبَّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ
مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ
اعْلَمْ أَنَّ الْأَيْمَانَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : اثْنَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ بِلَا خِلَافٍ ، وَاثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ : الْأَيْمَانُ فِي الشَّرِيعَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ : قِسْمَانِ فِيهِمَا الْكَفَّارَةُ ، وَقِسْمَانِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا . خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِي ُّ فِي " سُنَنِهِ " : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ ، حَدَّثَنَا عَبْثَرٌ عَنْ لَيْثٍ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ ، وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ . فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ يُكَفَّرَانِ ، فَالرَّجُلُ الَّذِي يَحْلِفُ : وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا فَيَفْعَلُ ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ : وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا ، فَلَا يَفْعَلُ . وَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ لَا يُكَفَّرَانِ ، فَالرَّجُلُ يَحْلِفُ : وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ فَعَلَ ، وَالرَّجُلُ يَحْلِفُ : لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا وَلَمْ يَفْعَلْهُ .
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : وَذَكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي " جَامِعِهِ " ، وَذَكَرَهُ الْمَرْوَزِيُّ عَنْهُ أَيْضًا ، قَالَ سُفْيَانُ : الْأَيْمَانُ أَرْبَعَةٌ ، يَمِينَانِ يُكَفَّرَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : " وَاللَّهِ لَا [ ص: 422 ] أَفْعَلُ " ثُمَّ يَفْعَلُ ، أَوْ يَقُولَ : " وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ " ثُمَّ لَا يَفْعَلُ . وَيَمِينَانِ لَا يُكَفَّرَانِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ : " وَاللَّهِ مَا فَعَلْتُ " ، وَقَدْ فَعَلَ ، أَوْ يَقُولَ : " وَاللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ " وَمَا فَعَلَ .
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ : أَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُولَيَانِ ، فَلَا اخْتِلَافَ فِيهِمَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا قَالَ سُفْيَانُ ، وَأَمَّا الْيَمِينَانِ الْأُخْرَيَانِ ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِمَا فَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ حَلَفَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا ، أَوْ أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا عِنْدَ نَفْسِهِ صَادِقًا يُرَى أَنَّهُ عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا إِثْمَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ .
قَالَ الْمَرْوَزِيُّ : وَلَيْسَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا بِالْقَوِيِّ ، قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ فَعَلَ ، مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فَهُوَ آثِمٌ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ : مَالِكٍ ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ .
وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ : يُكَفِّرُ ، قَالَ : وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ، قَالَ الْمَرْوَزِيُّ : أَمِيلُ إِلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ بِلَفْظِهِ ، وَهُوَ حَاصِلُ تَحْرِيرِ الْمَقَامِ فِي حَلِفِ الْإِنْسَانِ " لَأَفْعَلَنَّ " أَوْ " لَا أَفْعَلُ " .
وَأَمَّا حَلِفُهُ عَلَى وُقُوعِ أَمْرٍ غَيْرِ فِعْلِهِ ، أَوْ عَدَمِ وُقُوعِهِ ، كَأَنْ يَقُولَ : وَاللَّهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي الْوُجُودِ كَذَا ، أَوْ لَمْ يَقَعْ فِي الْوُجُودِ كَذَا ، فَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَاضٍ أَنَّهُ وَاقِعٌ ، وَهُوَ يَعْلَمُ عَدَمَ وُقُوعِهِ مُتَعَمِّدًا الْكَذِبَ فَهِيَ يَمِينٌ غَمُوسٌ ، وَإِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ وُقُوعَهُ فَظَهَرَ نَفْيُهُ فَهِيَ مِنْ يَمِينِ اللَّغْوِ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَإِنْ كَانَ شَاكًّا فَهُوَ كَالْغَمُوسِ ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ مِنَ الْغَمُوسِ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ لَا يَدْرِي أَيَقَعُ أَمْ لَا ؟ فَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا يَدْخُلُ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ يَمِينَ الْغَمُوسِ لَا تُكَفَّرُ ; لِأَنَّهَا أَعْظَمُ إِثْمًا مِنْ أَنْ تُكَفِّرَهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ بِالْكَفَّارَةِ فِيهَا ، وَفِيهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ تَفْصِيلٌ ، وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فِي غَيْرِ الْمُتَعَلِّقَة ِ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ مُنْقَسِمَةٌ أَيْضًا إِلَى يَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ عَلَى بِرٍّ ، وَيَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ عَلَى حِنْثٍ ، فَالْمُنْعَقِدَ ةُ عَلَى بِرٍّ هِيَ الَّتِي لَا يَلْزَمُ حَالِفَهَا تَحْلِيلُ الْيَمِينِ كَقَوْلِهِ : " وَاللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا " ، وَالْمُنْعَقِدَ ةُ عَلَى حِنْثٍ ، هِيَ الَّتِي يَلْزَمُ صَاحِبَهَا حَلُّ الْيَمِينِ بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، أَوْ بِالْكَفَّارَةِ كَقَوْلِهِ : " وَاللَّهِ لَأَفْعَلَنَّ كَذَا " ، وَلَا يُحْكَمُ بِحِنْثِهِ [ ص: 423 ] فِي الْمُنْعَقِدَةِ عَلَى حِنْثٍ حَتَّى يَفُوتَ إِمْكَانُ فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، إِلَّا إِذَا كَانَتْ مُوَقَّتَةً بِوَقْتٍ فَيَحْنَثُ بِفَوَاتِهِ ، وَلَكِنْ إِنْ كَانَتْ بِطَلَاقٍ كَقَوْلِهِ عَلَى طَلَاقِهَا : " لَأَفْعَلَنَّ كَذَا " ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْئِهَا حَتَّى يَفْعَلَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَبَرُّ فِي يَمِينِهِ أَمْ يَحْنَثُ ؟ وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى فَرْجٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يُمْنَعُ مِنَ الْوَطْءِ ، لِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ ، وَالطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ بِالْفِعْلِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ ، فَلَا يَجُوزُ الْقَسَمُ بِمَخْلُوقٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ ، أَوْ لِيَصْمُتْ " ، وَلَا تَنْعَقِدُ يَمِينٌ بِمَخْلُوقٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، كَمَا أَنَّهَا لَا تَجُوزُ بِإِجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَبِالنَّصِّ الصَّحِيحِ الصَّرِيحِ فِي مَنْعِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، فَقَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِانْعِقَادِ الْيَمِينِ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَوَقُّفِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يُخْرَجُ مِنْ عُهْدَةِ الْيَمِينِ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :
الْأَوَّلُ : إِبْرَارُهَا بِفِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ .
الثَّانِي : الْكَفَّارَةُ ، وَهِيَ جَائِزَةٌ قَبْلَ الْحِنْثِ وَبَعْدَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ .
الثَّالِثُ : الِاسْتِثْنَاءُ بِنَحْوِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ حِلٌّ لِلْيَمِينِ لَا بَدَلَ مِنَ الْكَفَّارَةِ ، كَمَا زَعَمَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ ، وَيُشْتَرَطُ فِيهِ قَصْدُ التَّلَفُّظِ بِهِ ، وَالِاتِّصَالُ بِالْيَمِينِ ، فَلَا يُقْبَلُ الْفَصْلُ بِغَيْرِ ضَرُورِيٍّ كَالسُّعَالِ ، وَالْعُطَاسِ ، وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنْ جَوَازِ تَرَاخِي الِاسْتِثْنَاءِ .
فَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ يَلْزَمُهُ إِذَا قَالَ : " لَأَفْعَلَنَّ كَذَا " ، أَنْ يَقُولَ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [ 18 \ 23 ، 24 ] ، فَإِنْ نَسِيَ الِاسْتِثْنَاءَ بِـ " إِنْ شَاءَ " ، وَتَذَكَّرَهُ وَلَوْ بَعْدَ فَصْلٍ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ; لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ عُهْدَةِ عَدَمِ تَفْوِيضِ الْأُمُورِ إِلَى اللَّهِ وَتَعْلِيقِهَا بِمَشِيئَتِهِ ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُحِلُّ الْيَمِينَ الَّتِي مَضَتْ وَانْعَقَدَتْ .
[ ص: 424 ] وَيَدُلُّ لِهَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأَيُّوبَ : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ 38 \ 44 ] ، وَلَوْ كَانَ تَدَارُكُ الِاسْتِثْنَاءِ مُمْكِنًا لَقَالَ لَهُ قُلْ : إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا عُلِمَ انْعِقَادُ يَمِينٍ لِإِمْكَانِ أَنْ يَلْحَقَهَا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُتَأَخِّرُ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بِـ " إِنْ شَاءَ اللَّهُ " يُفِيدُ فِي الْحَلِفِ بِاللَّهِ إِجْمَاعًا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي غَيْرِهِ كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْعِتْقِ ، كَأَنْ يَقُولَ : إِنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُفِيدُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ أَيْمَانًا ، وَإِنَّمَا هِيَ تَعْلِيقَاتٌ لِلْعِتْقِ وَالظِّهَارِ وَالطَّلَاقِ ، وَالِاسْتِثْنَا ءُ بِالْمَشِيئَةِ إِنَّمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ فِي الْيَمِينِ دُونَ التَّعْلِيقِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَرَجَّحَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ يُفِيدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ . وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَطَاوُسٌ ، وَحَمَّادٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الظِّهَارِ ، وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ ; لِأَنَّ الظِّهَارَ فِيهِ كَفَّارَةٌ فَهُوَ يَمِينٌ تَنْحَلُّ بِالِاسْتِثْنَا ءِ ، كَالْيَمِينِ بِاللَّهِ وَالنَّذْرِ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " عَنْ أَبِي مُوسَى ، وَجَزَمَ هُوَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَوْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَنْ فِعْلِهِ نَاسِيًا ، فَفِيهِ لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ :
الْأَوَّلُ : لَا حِنْثَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا ; لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِالنِّسْيَانِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [ 33 \ 5 ] ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ أَعَلَّهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ تَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَرَأَ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ 2 \ 286 ] ، قَالَ اللَّهُ نَعَمْ " ، وَمِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ : قَالَ اللَّهُ " قَدْ فَعَلْتُ " وَكَوْنُ مَنْ فَعَلَ نَاسِيًا لَا يَحْنَثُ هُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، وَإِسْحَاقَ ، وَرِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرٌ لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ مُطْلَقًا ، وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ [ ص: 425 ] " الْمُغْنِي " ، وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ مَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُهُ عَمْدًا ; فَلَمَّا كَانَ عَامِدًا لِلْفِعْلِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحِنْثِ ، لَمْ يُعْذَرْ بِنِسْيَانِهِ الْيَمِينَ ، وَلَا يَخْفَى عَدَمُ ظُهُورِهِ .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمَا ، فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ ، وَيُعْذَرُ بِهِ فِي غَيْرِهِمَا ، وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، كَمَا قَالَهُ صَاحِبُ " الْمُغْنِي " ، قَالَ : وَاخْتَارَهُ الْخَلَّالُ ، وَصَاحِبُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ حَقًّا لِلَّهِ وَحَقًّا لِلْآدَمِيِّ ، وَالْحَالِفُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَمِّدًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَيَدَّعِي النِّسْيَانَ ; لِأَنَّ الْعَمْدَ مِنَ الْقُصُودِ الْكَامِنَةِ الَّتِي لَا تَظْهَرُ حَقِيقَتُهَا لِلنَّاسِ ، فَلَوْ عُذِرَ بِادِّعَاءِ النِّسْيَانِ لَأَمْكَنَ تَأْدِيَةُ ذَلِكَ إِلَى ضَيَاعِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا حَلَفَ لَا يَفْعَلُ أَمْرًا مِنَ الْمَعْرُوفِ كَالْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَنَحْوِهِ ، فَلَيْسَ لَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ ذَلِكَ وَالتَّعَلُّلُ بِالْيَمِينِ ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ ، وَيَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ الْآيَةَ [ 2 \ 224 ] ، أَيْ لَا تَجْعَلُوا أَيْمَانَكُمْ بِاللَّهِ تَعَالَى مَانِعَةً لَكُمْ مِنَ الْبِرِّ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ إِذَا حَلَفْتُمْ عَلَى تَرْكِهَا ، وَنَظِيرُ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي حَلِفِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ ، لِمَا قَالَ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا قَالَ : وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِي نَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ 24 \ 22 ] .
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَاللَّهِ لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَ ا " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-21, 02:13 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (66)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (21)
صـ 426 إلى صـ 430
وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ . وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : [ ص: 426 ] كَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا مُتَمَسِّكًا بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَالْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا : " فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " ، وَهِيَ الصِّحَاحُ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، لَمْ يُقَيِّدْ هُنَا رَقَبَةٍ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ بِالْإِيمَانِ ، وَقَيَّدَ بِهِ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً .
وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي حَالَةِ اتِّفَاقِ الْحُكْمِ ، مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ فِيهِ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، فَتَقَيُّدُ رَقَبَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ بِالْقَيْدِ الَّذِي فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ خَطَأً ، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا " دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ " ، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ 4 \ 92 ] ; وَلِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ بِهَا هُنَا ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحْرِيرِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الرِّقِّ ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ الْأَسْرِ ، وَالْمَشَقَّاتِ ، وَتَعَبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ وَالِدَةِ مَرْيَمَ : إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [ 3 \ 35 ] ، أَيْ مِنْ تَعَبِ أَعْمَالِ الدُّنْيَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ هَمَّامِ بْنِ غَالِبٍ التَّمِيمِيِّ : [ الْكَامِلُ ]
أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ
يَعْنِي حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهِجَاءِ ، فَلَا أَهْجُوكُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ الْآيَةَ .
يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ إِنَّهَا : رِجْسٌ ، وَالرِّجْسُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ مُسْتَقْذَرٍ تَعَافُّهُ النَّفْسُ .
وَقِيلَ : إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الرَّكْسِ ، وَهُوَ الْعُذْرَةُ وَالنَّتْنُ . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَيَدُلُّ لِهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [ 76 \ 21 ] ; لِأَنَّ وَصْفَهُ لِشَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ خَمْرَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ كُلَّ الْأَوْصَافِ الَّتِي مَدَحَ بِهَا تَعَالَى خَمْرَ الْآخِرَةِ مَنْفِيَّةٌ عَنْ خَمْرِ الدُّنْيَا ، كَقَوْلِهِ : لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [ 37 \ 47 ] ، وَكَقَوْلِهِ : لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [ 56 \ 19 ] ، بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فَفِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعُقُولَ [ ص: 427 ] وَأَهْلُهَا يُصَدَّعُونَ ، أَيْ يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ بِسَبَبِهَا ، وَقَوْلُهُ : لَا يُنْزَفُونَ ، عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ، فَمَعْنَاهُ : أَنَّهُمْ لَا يَسْكَرُونَ ، وَالنَّزِيفُ السَّكْرَانُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ : [ الطَّوِيلُ ]
نَزِيفٌ تَرَى رَدْعَ الْعَبِيرِ يُجِيبُهَا كَمَا ضَرَّجَ الضَّارِي النَّزِيفَ الْمُكْلَمَا
يَعْنِي أَنَّهَا فِي ثِقَلِ حَرَكَتِهَا كَالسَّكْرَانِ ، وَأَنَّ حُمْرَةَ الْعَبِيرِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ فِي جَيْبِهَا كَحُمْرَةِ الدَّمِ عَلَى الطَّرِيدِ الَّذِي ضَرَّجَهُ الْجَوَارِحُ بِدَمِهِ ، فَأَصَابَهُ نَزِيفُ الدَّمِ مِنْ جُرْحِ الْجَوَارِحِ لَهُ ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِيفِ يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبُهُرْ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا : [ الطَّوِيلُ ]
نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ تُرَاشِي الْفُؤَادَ الرَّخْصَ أَلَّا تَخْتَرَا
وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَوْ جَمِيلٍ : [ الْكَامِلُ ]
فَلَثَمَتْ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ
وَعَلَى قِرَاءَةِ يَنْزِفُونَ بِكَسْرِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا حَانَ مِنْهُمُ النُّزْفُ وَهُوَ السُّكْرُ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ : أَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا حَانَ حَصَادُهُ ، وَأَقْطَفَ الْعِنَبُ إِذَا حَانَ قِطَافُهُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا فَنِيَتْ خُمُورُهُمْ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ : [ الطَّوِيلُ ]
لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُوا أَوْ صَحَوْتُمُوا لَبِئْسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلٌ أَبْجَرَا
وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِي نَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّ ينَ وَالْقَرَوِيِّي نَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " .
وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَةِ عَيْنِهَا بِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهَا فِي الْآيَةِ مِنْ مَالِ مَيْسِرٍ ، وَمَالِ قِمَارٍ ، وَأَنْصَابٍ ، وَأَزْلَامٍ لَيْسَتْ نَجِسَةَ الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ .
[ ص: 428 ] وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ قَوْلَهُ : رِجْسٌ ، يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْعَيْنِ فِي الْكُلِّ ، فَمَا أَخْرَجَهُ إِجْمَاعٌ ، أَوْ نَصٌّ خَرَجَ بِذَلِكَ ، وَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ لَزِمَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهِ ; لِأَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ بِمُخَصِّصٍ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ ، لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي الْبَاقِي ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]
وَهُوَ حُجَّةٌ لَدَى الْأَكْثَرِ إِنْ مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيِّنًا يَبِنْ
وَعَلَى هَذَا ، فَالْمُسْكِرُ الَّذِي عَمَّتِ الْبَلْوَى الْيَوْمَ بِالتَّطَيُّبِ بِهِ الْمَعْرُوفُ فِي اللِّسَانِ الدَّارِجِيِّ بِالْكُولَانْيَ ا نَجَسٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْمُسْكِرِ : فَاجْتَنِبُوهُ ، يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ مَعَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُسْكِرِ ، وَمَا مَعَهُ فِي الْآيَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ أَنَّ التَّضَمُّخَ بِالطِّيبِ الْمَذْكُورِ ، وَالتَّلَذُّذَ بِرِيحِهِ وَاسْتَطَابَتَه ُ ، وَاسْتِحْسَانَه ُ مَعَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَاللَّهُ يُصَرِّحُ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّ الْخَمْرَ رِجْسٌ فِيهِ مَا فِيهِ ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِمَا يَسْمَعُ رَبَّهُ يَقُولُ فِيهِ : إِنَّهُ رِجْسٌ ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْخَمْرِ فَلَوْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ أُخْرَى لَبَيَّنَهَا ، كَمَا بَيَّنَ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ ، وَلَمَا أَرَاقَهَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَرَوِيُّ عَلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخَمْرِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَرَاقُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ ; وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ ; وَلَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ ، كَمَا نَهَاهُمْ عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ ، لَا دَلِيلَ لَهُ فِيهِ ، فَإِنَّهَا لَا تَعُمُّ الطُّرُقَ ، بَلْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا ، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ وَاسِعَةً ، وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ كَثِيرَةً جِدًّا بِحَيْثُ تَكُونُ نَهَرًا أَوْ سَيْلًا فِي الطُّرُقِ يَعُمُّهَا كُلَّهَا ، وَإِنَّمَا أُرِيقَتْ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِهَا ، أَيْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا ، أَنَّهُمْ إِنْ حَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ جَازَ لَهُمْ قَتْلُ الصَّيْدِ ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ 5 \ 2 ] ، يَعْنِي إِنْ شِئْتُمْ ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، الْآيَةَ .
[ ص: 429 ] ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا حَرَامَهُ ، وَخَالَفَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُمْهُورَ قَائِلًا : إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [ 5 \ 95 ] ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا ، وَيَكُونُ فِيهَا قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَرِينَةً وَاضِحَةً دَالَّةً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَمِّدًا أَمْرًا لَا يَجُوزُ ، أَمَّا النَّاسِي فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ إِجْمَاعًا ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [ 5 \ 95 ] ، كَمَا تَرَى ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ، الْآيَةَ .
ظَاهِرُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَشْمَلُ إِبَاحَةَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، كَمَا بَيَّنَهُ تَخْصِيصُهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِصَيْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِهِ : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ [ 5 \ 96 ] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالِاصْطِيَادِ
فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ .
وَهَذَا الْإِجْمَاعُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ الْوَحْشِيِّ كَالظَّبْيِ ، وَالْغَزَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الصَّيْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَلَالٌ وَهُمْ مُحْرِمُونَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمٌ أَمَامَهُمْ ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَبُو قَتَادَةَ مَشْغُولٌ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَلَمْ يُؤْذُنُوهُ ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنَّهُ أَبْصَرَهُ فَأَبْصَرَهُ فَأَسْرَجَ فَرَسَهُ ; ثُمَّ رَكِبَ وَنَسِيَ سَوْطَهُ وَرُمْحَهُ فَقَالَ لَهُمْ : نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ ، فَقَالُوا : وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ ، فَغَضِبَ فَنَزَلَ [ ص: 430 ] فَأَخَذَهُمَا فَرَكِبَ فَشَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرَهُ ثُمَّ جَاءَ بِهِ وَقَدْ مَاتَ ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ ، فَأَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَى أَكْلِهِ ، وَنَاوَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَضُدَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ ، فَأَكَلَ مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلِمُسْلِمٍ : " هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ " ، قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوهُ " .
وَلِلْبُخَارِيّ ِ : " هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا " ، أَوْ " أَشَارَ إِلَيْهَا " قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا " ، وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَا صَادَهُ مُحْرِمٌ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي صَادَهُ ، وَلَا لِمُحْرِمٍ غَيْرِهِ ، وَلَا لِحَلَالٍ غَيْرِ مُحْرِمٍ ; لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِمَّا صَادَهُ حَلَالٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، قِيلَ : لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : يَجُوزُ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا صَادَهُ لِأَجْلِهِ ، وَمَا صَادَهُ لَا لِأَجْلِهِ فَيُمْنَعُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ : " إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حَرَامٌ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ " لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ " .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ ، وَقَالَ : " إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ إِنَّا حُرُمٌ " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ، وَمُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَاللَّيْثِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ مُطْلَقًا ; بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْحَلَالِ ، كَحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْمٍ مُحْرِمُونَ ، فَأُهْدِيَ لَهُمْ طَيْرٌ ، وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَكَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَرَّعَ فَلَمْ يَأْكُلْ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ وَقَالَ : أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-21, 02:13 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (67)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (22)
صـ 431 إلى صـ 435
وَكَحَدِيثِ الْبَهْزِيِّ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كَعْبٍ ، أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حِمَارٍ وَحْشِيٍّ عَقِيرٍ [ ص: 431 ] فِي بَعْضِ وَادِي الرَّوْحَاءِ وَهُوَ صَاحِبُهُ : شَأْنُكُمْ بِهَذَا الْحِمَارِ ، فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ فَقَسَمَهُ فِي الرِّفَاقِ وَهُمْ مُحْرِمُونَ ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامَانِ مَالِكٌ فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَأَحْمَدُ فِي " مَسْنَدِهِ " ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ وَغَيْرُهُ ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِإِبَاحَتِهِ مُطْلَقًا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا ، هُوَ الْقَوْلُ الْمُفَصَّلُ بَيْنَ مَا صِيدَ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ; فَلَا يَحِلُّ لَهُ ، وَبَيْنَ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ ، لَا لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ ; فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَمْرَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ ; لِأَنَّ إِعْمَالَ الدَّلِيلَيْنِ أَوْلَى مِنْ إِلْغَاءِ أَحَدِهِمَا ، وَلَا طَرِيقَ لِلْجَمْعِ إِلَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ ، وَمَنْ عَدَلَ عَنْهَا لَا بُدَّ أَنْ يُلْغِيَ نُصُوصًا صَحِيحَةً .
الثَّانِي : أَنَّ جَابِرًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : " صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ " ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، وَالدَّارَقُطْن ِيُّ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا أَحْسَنُ حَدِيثٍ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ وَأَقْيَسُ ، فَإِنْ قِيلَ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ ، عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ ، عَنْ مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبِ ، عَنْ جَابِرٍ ، وَعَمْرٌو مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، قَالَ فِيهِ النَّسَائِيُّ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ فِي الْحَدِيثِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبِ أَيْضًا : لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَابِرٍ ، وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، قَالَ مُحَمَّدٌ : لَا أَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ، إِلَّا قَوْلَهُ حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي رَدَّ هَذَا الْحَدِيثِ ; لِأَنَّ عَمْرًا الْمَذْكُورَ ثِقَةٌ ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ ، وَمِمَّنْ رَوَى عَنْهُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثِقَةٌ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : ثِقَةٌ رُبَّمَا وَهِمَ ، وَقَالَ فِيهِ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : أَمَّا تَضْعِيفُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فَغَيْرُ ثَابِتٍ ; لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ ، وَمُسْلِمًا رَوَيَا لَهُ فِي صَحِيحَيْهِمَا ، وَاحْتَجَّا بِهِ ، وَهُمَا الْقُدْوَةُ فِي هَذَا الْبَابِ .
[ ص: 432 ] وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَالِكٌ ، وَرَوَى عَنْهُ وَهُوَ الْقُدْوَةُ ، وَقَدْ عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي فِي كِتَابِهِ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِيهِ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ : هُوَ ثِقَةٌ ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ : لَا بَأْسَ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : لَا بَأْسَ بِهِ ; لِأَنَّ مَالِكًا رَوَى عَنْهُ ، وَلَا يَرْوِي مَالِكٌ إِلَّا عَنْ صَدُوقٍ ثِقَةٍ ، قُلْتُ : وَقَدْ عُرِفَ أَنَّ الْجَرْحَ لَا يَثْبُتُ إِلَّا مُفَسَّرًا ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَالنَّسَائِيُّ بِمَا يُثْبِتُ تَضْعِيفَ عَمْرٍو الْمَذْكُورِ ، وَقَوْلُ التِّرْمِذِيِّ : إِنَّ مَوْلَاهُ الْمُطَّلِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْطَبٍ ، لَا يُعْرَفُ لَهُ سَمَاعٌ مِنْ جَابِرٍ ، وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ لِلتِّرْمِذِيِّ : لَا أَعْرِفُ لَهُ سَمَاعًا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَّا قَوْلَهُ : حَدَّثَنِي مَنْ شَهِدَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي رَدَّ رِوَايَتِهِ ، لِمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْمُعَاصَرَة ِ .
وَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتَ اللُّقْيِ ، وَأَحْرَى ثُبُوتُ السَّمَاعِ ، كَمَا أَوْضَحَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي مُقَدِّمَةِ " صَحِيحِهِ " ، بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ ، مَعَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ ذَكَرَ فِي كَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ ، أَنَّ الْمُطَّلِبَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَ ، صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِالسَّمَاعِ مِنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِلَا شَكٍّ .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : وَأَمَّا إِدْرَاكُ الْمُطَّلِبِ لِجَابِرٍ ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ : وَرَوَى عَنْ جَابِرٍ ، قَالَ : وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَدْرَكَهُ ، هَذَا هُوَ كَلَامُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ ، فَحَصَلَ شَكٌّ فِي إِدْرَاكِهِ ، وَمَذْهَبُ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ الَّذِي ادَّعَى فِي مُقَدِّمَةِ " صَحِيحِهِ " الْإِجْمَاعَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اتِّصَالِ الْحَدِيثِ اللِّقَاءُ ، بَلْ يُكْتَفَى بِإِمْكَانِهِ ، وَالْإِمْكَانُ حَاصِلٌ قَطْعًا ، وَمَذْهَبُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ ، وَالْبُخَارِيِّ ، وَالْأَكْثَرِين َ اشْتِرَاطُ ثُبُوتِ اللِّقَاءِ ، فَعَلَى مَذْهَبِ مُسْلِمٍ الْحَدِيثُ مُتَّصِلٌ ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْأَكْثَرِينَ يَكُونُ مُرْسَلًا لِبَعْضِ كِبَارِ التَّابِعِينَ ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ مُرْسَلَ التَّابِعِيِّ الْكَبِيرِ يُحْتَجُّ بِهِ عِنْدَنَا إِذَا اعْتَضَدَ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ ; أَوْ قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ .
وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْحَدِيثُ ، فَقَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَنْ سَنَذْكُرُهُ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ . اهـ . كَلَامُ النَّوَوِيِّ ، فَظَهَرَتْ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى كُلِّ التَّقْدِيرَاتِ ، عَلَى مَذَاهِبِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ مِنْهُمْ هُوَ الَّذِي لَا يَحْتَجُّ [ ص: 433 ] بِالْمُرْسَلِ ، وَقَدْ عَرَفْتَ احْتِجَاجَهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى تَقْدِيرِ إِرْسَالِهِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : نَعَمْ ، يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُدَلِّسِ التَّصْرِيحُ بِالسَّمَاعِ ، وَالْمُطَّلِبُ الْمَذْكُورُ مُدَلِّسٌ ، لَكِنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى - صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْمُرْسَلِ ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا اعْتَضَدَ بِغَيْرِهِ كَمَا هُنَا ، وَقَدْ عَلِمْتَ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ مُوَافَقَةَ الشَّافِعِيَّةِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ بِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَحْذِفُ الْوَاسِطَةَ مَعَ الْجَزْمِ بِنِسْبَةِ الْحَدِيثِ لِمَنْ فَوْقَهَا ، إِلَّا وَهُوَ جَازِمٌ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فِيمَنْ حَذَفَهُ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ : إِنَّ الْمُرْسَلَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَسْنَدِ ; لِأَنَّهُ مَا حَذَفَ الْوَاسِطَةَ فِي الْمُرْسَلِ إِلَّا وَهُوَ مُتَكَفِّلٌ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ فِيمَا حَذَفَ بِخِلَافِ الْمُسْنَدِ ، فَإِنَّهُ يُحِيلُ النَّاظِرَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْعَدَالَةِ وَالثِّقَةِ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ فِي مَبْحَثِ الْمُرْسَلِ : [ الرَّجَزُ ]
وَهُوَ حُجَّةٌ وَلَكِنْ رُجِّحَا عَلَيْهِ مُسْنَدٌ وَعَكْسٌ صُحِّحَا
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ يَحْتَجُّ بِعَنْعَنَةِ الْمُدَلِّسِ مِنْ بَابٍ أَوْلَى ، فَظَهَرَتْ صِحَّةُ الِاحْتِجَاجِ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عِنْدَ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدَ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ شَاهِدٌ عِنْدَ الْخَطِيبِ وَابْنِ عَدِيٍّ مِنْ رِوَايَةِ عُثْمَانَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " وَغَيْرِهِ وَهُوَ يُقَوِّيهِ .
وَإِنْ كَانَ عُثْمَانُ الْمَذْكُورُ ضَعِيفًا ; لِأَنَّ الضَّعِيفَ يُقَوِّي الْمُرْسَلَ ، كَمَا عُرِفَ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا صَالِحٌ ، وَأَنَّهُ نَصٌّ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ بِعَيْنِ الْجَمْعِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلًا ، فَاتَّضَحَ بِهَذَا أَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى مَنْعِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِمَّا صَادَهُ الْحَلَالُ كُلَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ صَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَأَنَّ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى إِبَاحَةِ الْأَكْلِ مِنْهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَصِدْهُ مِنْ أَجْلِهِ ، وَلَوْ صَادَهُ لِأَجْلِ مُحْرِمٍ مُعَيَّنٍ حَرُمَ عَلَى جَمِيعِ الْمُحْرِمِينَ ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : لَا يَحْرُمُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْمُحْرِمِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ .
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَوْ يُصَدْ لَكُمْ " ، وَيَدُلُّ لِلْأَوَّلِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ : " هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهَا ، أَوْ أَشَارَ لَهَا ؟ " قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوهُ " ، فَمَفْهُومُهُ أَنَّ إِشَارَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تُحَرِّمُهُ عَلَيْهِمْ كُلِّهُمْ ، وَيَدُلُّ لَهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ دُعِيَ وَهُوَ مُحْرِمٌ إِلَى [ ص: 434 ] طَعَامٍ عَلَيْهِ صَيْدٌ فَقَالَ : " أَطْعِمُوهُ حَلَالًا فَإِنَّا حُرُمٌ " ، وَهَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَعَ اخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا تَجُوزُ زَكَاةُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ بِأَنْ يَذْبَحَهُ مَثَلًا ، فَإِنْ ذَبَحَهُ فَهُوَ مَيْتَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ لِأَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَتْلِهِ بِالْعَقْرِ وَقَتْلِهِ بِالذَّبْحِ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [ 5 \ 95 ] ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَالْقَاسِمُ ، وَسَالِمٌ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَقَالَ الْحَكَمُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ ذَبِيحَةِ السَّارِقِ .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَأَيُّوبُ السَّخْتِيَانِي ُّ : يَأْكُلُهُ الْحَلَالُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " ، وَغَيْرُهُ .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ أَبَاحَتْ ذَكَاتُهُ غَيْرَ الصَّيْدِ أَبَاحَتِ الصَّيْدَ كَالْحَلَالِ ، وَالظَّاهِرُ هُوَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ ذَبْحَ الْمُحْرِمِ لَا يُحِلُّ الصَّيْدَ ، وَلَا يُعْتَبَرُ ذَكَاةً لَهُ ; لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ حَرَامٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ ذَكَاتَهُ لَا تُحِلُّ لَهُ هُوَ أَكْلَهُ إِجْمَاعًا ، وَإِذَا كَانَ الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ ، فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَّا يُفِيدَ لِغَيْرِهِ ; لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ هُوَ صَيْدٌ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا كَالْغَزَالِ مِنْ كُلِّ وَحْشِيٍّ حَلَالِ الْأَكْلِ ، فَيُمْنَعُ قَتْلُهُ لِلْمُحْرِمِ ، وَإِنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَقِسْمٌ لَيْسَ بِصَيْدٍ إِجْمَاعًا ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ ، وَقِسْمٌ اخْتُلِفَ فِيهِ .
أَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي لَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ ، وَلَيْسَ بِصَيْدٍ إِجْمَاعًا فَهُوَ الْغُرَابُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : فَكَالْأَسَدِ ، وَالنَّمِرِ ، وَالْفَهْدِ ، وَالذِّئْبِ ، وَقَدْ رَوَى الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ : " أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ خَمْسِ فَوَاسَقَ فِي الْحِلِّ ، وَالْحَرَمِ : الْغُرَابُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ " .
[ ص: 435 ] وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ " ، ثُمَّ عَدَّ الْخَمْسَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَيَّةَ أَوْلَى بِالْقَتْلِ مِنَ الْعَقْرَبِ .
وَقَدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مُحْرِمًا بِقَتْلِ حَيَّةٍ بِمِنًى " ، وَعَنِ ابْنِ عَمْرٍو سُئِلَ : مَا يَقْتُلُ الرَّجُلُ مِنَ الدَّوَابِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ ؟ فَقَالَ : " حَدَّثَتْنِي إِحْدَى نِسْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ ، وَالْفَأْرَةِ ، وَالْعَقْرَبِ ، وَالْحِدَأَةِ ، وَالْغُرَابِ ، وَالْحَيَّةِ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا .
وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ ، وَالْجَارِي عَلَى الْأُصُولِ تَقْيِيدُ الْغُرَابِ بِالْأَبْقَعِ ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ بَيَاضٌ ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي عَدِّ الْفَوَاسِقِ الْخَمْسِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ . وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَمَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ رِوَايَاتِ الْغُرَابِ بِالْإِطْلَاقِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، فَهِيَ أَصَحُّ مِنْ رِوَايَةِ الْقَيْدِ بِالْأَبْقَعِ لَا يَنْهَضُ ، إِذْ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ مُقَيَّدٍ وَمُطْلَقٍ ; لِأَنَّ الْقَيْدَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنَ الْمُطْلَقِ .
وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ بِمَنْعِ قَتْلِ الْغُرَابِ لِلْمُحْرِمِ ; لِأَنَّهُ خِلَافُ النَّصِّ الصَّرِيحِ الصَّحِيحِ ، وَقَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَلَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : إِنَّ قَتْلَ الْفَأْرَةِ جَزَاءٌ ، لِمُخَالَفَتِهِ أَيْضًا لِلنَّصِّ وَقَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، كَمَا لَا عِبْرَةَ أَيْضًا بِقَوْلِ الْحَكَمِ ، وَحَمَّادٍ : " لَا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْعَقْرَبَ ، وَالْحَيَّةَ " ، وَلَا شَكَّ أَنَّ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ كَالْأَسَدِ ، وَالنَّمِرِ ، وَالْفَهْدِ أَوْلَى بِالْقَتْلِ مِنَ الْكَلْبِ ; لِأَنَّهَا أَقْوَى مِنْهُ عَقْرًا ، وَأَشَدُّ مِنْهُ فَتْكًا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ ، فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ ، أَنَّهُ الْأَسَدُ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ : وَأَيُّ كَلْبٍ أَعْقَرُ مِنَ الْحَيَّةِ .
وَقَالَ زُفَرُ : الْمُرَادُ بِهِ هُنَا الذِّئْبُ خَاصَّةً ، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ : كُلُّ مَا عَقَرَ النَّاسَ ، وَعَدَا عَلَيْهِمْ ، وَأَخَافَهُمْ ، مِثْلُ الْأَسَدِ ، وَالنَّمِرِ ، وَالْفَهْدِ ، وَالذِّئْبِ فَهُوَ عَقُورٌ ، وَكَذَا نَقَلَ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ سُفْيَانَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-21, 02:14 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (68)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (23)
صـ 436 إلى صـ 440
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ هُنَا هُوَ الْكَلْبُ الْمُتَعَارَفُ خَاصَّةً ، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سِوَى الذِّئْبِ ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [ ص: 436 ] [ 5 \ 4 ] ، فَاشْتَقَّهَا مِنَ اسْمِ الْكَلْبِ ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدِ أَبِي لَهَبٍ : " اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ ، فَقَتَلَهُ الْأَسَدُ " ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : التَّحْقِيقُ أَنَّ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ لَيْسَتْ مِنَ الصَّيْدِ ، فَيَجُوزُ قَتْلُهَا لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ . لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ " الْعَقُورُ " عِلَّةٌ لِقَتْلِ الْكَلْبِ ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ طَبْعُهُ الْعَقْرُ كَذَلِكَ .
وَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " ، أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي هِيَ فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْغَضَبُ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا فَيَمْتَنِعُ الْحُكْمُ لِلْقَاضِي بِكُلِّ مُشَوِّشٍ لِلْفِكْرِ ، مَانِعٍ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ كَائِنًا مَا كَانَ غَضَبًا أَوْ غَيْرَهُ ، كَجُوعٍ وَعَطَشٍ مُفْرِطَيْنِ ، وَحُزْنٍ وَسُرُورٍ مُفْرِطَيْنِ ، وَحَقْنٍ وَحَقَبٍ مُفْرِطَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " قَوْلُهُ فِي مَبْحَثِ الْعِلَّةِ : [ الرَّجَزُ ]
وَقَدْ تُخَصَّصُ وَقَدْ تُعَمَّمُ لِأَصْلِهَا لَكِنَّهَا لَا تُخْرَمُ
وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ : " الْحَيَّةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفُوَيْسِقَ ةُ ، وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَضَعَّفَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِيهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَفِيهِ لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ : " وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ " ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : إِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ حُمِلَ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَأَكَّدُ نَدْبُ قَتْلِ الْغُرَابِ كَتَأْكِيدِ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَغَيْرِهَا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : تَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَمَنْعُ الِاحْتِجَاجِ مُتَعَقَّبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ مِنْ رِجَالِ صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا ، وَمَنْعُ الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ " صَحِيحِهِ " ، أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُمْ فِي غَيْرِ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَا تِ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمْ قَبُولُ الرِّوَايَةِ فَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ [ ص: 437 ] الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ : [ الرَّجَزُ ]
فَاحْتَاجَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادِ
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ يُقَوِّيهِ مَا ثَبَتَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ فِي الْإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ ، وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمُرَادِ بِهِ ، أَوْ يُلْحَقَ بِهِ إِلْحَاقًا صَحِيحًا لَا مِرَاءَ فِيهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ يُلْحَقُ بِهِ الذِّئْبُ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ فَتْكَ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ مَثَلًا ، أَشَدُّ مِنْ عَقْرِ الْكَلْبِ وَالذِّئْبِ ، وَلَيْسَ مِنَ الْوَاضِحِ أَنْ يُبَاحَ قَتْلُ ضَعِيفِ الضَّرَرِ ، وَيُمْنَعَ قَتْلُ قَوِيِّهِ ; لِأَنَّ فِيهِ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَزِيَادَةً ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِلْحَاقِ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ ، لَا مِنَ الْقِيَاسِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ : قُلْتُ : الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ ، وَلَا يَحْمِلُ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ فَقَطْ ، فَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ فِي قَتْلٍ مَا لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ ، وَالصِّغَارُ مِنْهُ وَالْكِبَارُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، إِلَّا الْمُتَوَلِّدَ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ ، فَلَا يَجُوزُ اصْطِيَادُهُ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ أَكْلُهُ ، كَالسَّمْعِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ بَيْنِ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ ، وَقَالَ : لَيْسَ فِي الرَّخَمَةِ ، وَالْخَنَافِسِ ، وَالْقِرْدَانِ ، وَالْحَلَمِ ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [ 5 \ 96 ] ، فَدَلَّ أَنَّ الصَّيْدَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، هُوَ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
أَمَّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَعْدُو مِنَ السِّبَاعِ ، كَالْهِرِّ ، وَالثَّعْلَبِ ، وَالضَّبُعِ وَمَا أَشْبَهَهَا ، لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ . فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ ، قَالَ : وَصِغَارُ الذِّئَابِ لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَهَا الْمُحْرِمِ ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا ، وَهِيَ مِثْلُ فِرَاخِ الْغِرْبَانِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الضَّبُعُ فَلَيْسَتْ مِثْلَ مَا ذُكِرَ مَعَهَا لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا ، دُونَ غَيْرِهَا ; بِأَنَّهَا صَيْدٌ يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ الزُّنْبُورِ ، وَكَذَلِكَ النَّمْلُ ، وَالذُّبَابُ ، وَالْبَرَاغِيثُ ، وَقَالَ : [ ص: 438 ] إِنْ قَتَلَهَا مُحْرِمٌ يُطْعِمُ شَيْئًا ، وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِبَاحَةُ قَتْلِ الزُّنْبُورِ ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ شَبَّهَهُ بِالْعَقْرَبِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إِذَا ابْتَدَأَ بِالْأَذَى جَازَ قَتْلُهُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَأَقْيَسُهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا طَبِيعَتُهُ أَنْ يُؤْذِيَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ الْمَأَكُولِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا صَادَ الصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلَكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [ 5 \ 95 ] .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ قَتْلَهُ ، ذَاكِرٌ إِحْرَامَهُ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ . وَقَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .
وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ مُجَاهِدٌ ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ لِقَتْلِهِ نَاسٍ لِإِحْرَامِهِ ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ، قَالَ : لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ ; لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ ، وَقَالَ : إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ ، فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِلَا دَلِيلٍ ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورِ ، وَالنَّاسِي لِلْإِحْرَامِ غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ مَحْظُورًا .
إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُتَعَمِّدًا ، عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ ، عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حُكْمَ النَّاسِي ، وَالْمُخْطِئِ .
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ النَّاسِيَ هُوَ مَنْ يَقْصِدُ قَتْلَ الصَّيْدِ نَاسِيًا إِحْرَامَهُ ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ مَنْ يَرْمِي غَيْرَ الصَّيْدِ ، كَمَا لَوْ رَمَى غَرَضًا فَيَقْتُلُ الصَّيْدَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِقَتْلِهِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [ 33 \ 5 ] ، وَلِمَا قَدَّمْنَا فِي " صَحِيحٍ مُسْلِمٍ " : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا [ ص: 439 ] قَرَأَ : رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ 2 \ 286 ] ، أَنَّ اللَّهَ قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ " .
أَمَّا وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ .
فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ ، وَالْحَنَفِيَّة ُ ، وَالشَّافِعِيَّ ةُ إِلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَإِ ، وَالنِّسْيَانِ ; لِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ غُرْمَ الْمَتْلَفَاتِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَقَالُوا : لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لِقَوْلِهِ مُتَعَمِّدًا ; لِأَنَّهُ جَرْيٌ عَلَى الْغَالِبِ ، إِذِ الْغَالِبُ أَلَّا يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ إِلَّا عَامِدًا ، وَجَرَى النَّصُّ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ خِطَابِهِ ، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ : [ الرَّجَزُ ]
أَوْ جَهِلَ الْحُكْمَ أَوِ النُّطْقُ انْجَلَبْ لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ
وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [ 4 \ 23 ] ; لِجَرْيهِ عَلَى الْغَالِبِ ، وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، كَالزُّهْرِيِّ : وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَفِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَمَا أَحْسَنَهَا أُسْوَةً .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ : بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الضَّبُعِ ، فَقَالَ : " هِيَ صَيْدٌ " ، وَجَعَلَ فِيهَا إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا ، وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً ، فَدَلَّ عَلَى الْعُمُومِ ، وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : مُتَعَمِّدًا ، لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّجَاوُزَ عَنِ الْخَطَإِ ، وَذِكْرُ التَّعَمُّدِ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ كَابْنِ آدَمَ الَّذِي لَيْسَ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا كَفَّارَةٌ .
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " : إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُخْطِئِ ، وَالنَّاسِي ، وَالْعَامِدِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَإِبْرَاهِيمَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُمْ .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النَّاسِيَ ، وَالْمُخْطِئَ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِمَا ، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرَيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَطَاوُسٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ :
[ ص: 440 ] الْأَوَّلُ : مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا الْآيَةَ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُتَعَمِّدِ لَيْسَ كَذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، فَمَنِ ادَّعَى شَغْلَهَا ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ جِدًّا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا صَادَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ، فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَتْلِهِ ، وَلَيْسَ فِي أَكْلِهِ إِلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَا رُ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَيْضًا جَزَاءَ مَا أَكَلَ ، يَعْنِي قِيمَتَهُ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ ، وَيُرْوَى مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَطَاءٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا الْآيَةَ ; لِأَنَّ تَكْرَارَ الْقَتْلِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْجَزَاءِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ عَادَ لِقَتْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ لَهُ : يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ .
وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَشُرَيْحٌ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَضْرِبُ حَتَّى يَمُوتَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءٌ ; لِتَسَبُّبِهِ فِي قَتْلِ الْحَلَالِ لِلصَّيْدِ بِدَلَالَتِهِ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ الدَّالَّ يَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَامِلًا ، وَيُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَبَكْرٍ الْمُزَنِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ سُؤَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ : " هَلْ أَشَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى أَبِي قَتَادَةَ عَلَى الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ ؟ " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-21, 02:15 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (69)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (24)
صـ 441 إلى صـ 445
فَإِنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّهُمْ لَوْ دَلُّوهُ عَلَيْهِ كَانَ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ صَادُوهُ فِي تَحْرِيمِ الْأَكْلِ ; وَيُفْهَمُ مِنْ [ ص: 441 ] ذَلِكَ لُزُومُ الْجَزَاءِ ، وَالْقَاعِدَةُ لُزُومُ الضَّمَانِ لِلْمُتَسَبِّبِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ تَضْمِينُ الْمُبَاشِرِ ، وَالْمُبَاشِرُ هُنَا لَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ الصَّيْدَ ; لِأَنَّهُ حَلَالٌ ، وَالدَّالُّ مُتَسَبِّبٌ ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَظْهَرُ ، وَالَّذِينَ قَالُوا بِهِ مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الدَّلَالَةَ ، وَمِنْهُمْ مَنِ اشْتَرَطَ خَفَاءَ الصَّيْدِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ دُونَ الدَّلَالَةِ ، كَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ : لَا شَيْءَ عَلَى الدَّالِ .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ نَحْوُهُ ، قَالُوا : لِأَنَّ الصَّيْدَ يُضْمَنُ بِقَتْلِهِ ، وَهُوَ لَمْ يَقْتُلْهُ وَإِذَا عَلِمَ الْمُحْرِمُ أَنَّ الْحَلَالَ صَادَهُ مِنْ أَجْلِهِ فَأَكَلَ مِنْهُ ; فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا عِنْدَ مَالِكٍ ، كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي " مُوَطَّئِهِ " ، وَأَمَّا إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا آخَرَ عَلَى الصَّيْدِ فَقَتَلَهُ ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : عَلَيْهِمَا جَزَاءٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاءٌ كَامِلٌ ، وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ أَيْضًا صَاحِبُ " الْمُغْنِي " .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْجَزَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْمُبَاشِرِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ الدَّالِّ شَيْءٌ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ، وَمَالِكٍ ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ تَقْدِيمِ الْمُبَاشِرِ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ فِي الضَّمَانِ ، وَالْمُبَاشِرُ هُنَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ ; لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ ، وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ ، وَعَلَيْهِ : فَعَلَى الدَّالِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ ، وَبِهَذَا تَعْرِفُ حُكْمَ مَا لَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا ، ثُمَّ دَلَّ هَذَا الثَّانِي مُحْرِمًا ثَالِثًا ، وَهَكَذَا ، فَقَتَلَهُ الْأَخِيرُ ، إِذْ لَا يَخْفَى مِنَ الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّهُمْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ شُرَكَاءُ فِي جَزَاءٍ وَاحِدٍ .
وَعَلَى الثَّانِي ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ ، وَعَلَى الثَّالِثِ ، لَا شَيْءَ إِلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إِذَا اشْتَرَكَ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ بِأَنْ بَاشَرُوا قَتْلَهُ كُلَّهُمْ ، كَمَا إِذَا حَذَفُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَالْعِصِيِّ حَتَّى مَاتَ ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ ، كَمَا لَوْ قَتَلَتْ جَمَاعَةٌ وَاحِدًا ، فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بِهِ جَمِيعًا ; لَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَاتِلٌ .
وَكَذَلِكَ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ قَاتِلٌ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ : عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ; لِقَضَاءِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا : وَرَوَى الدَّارَقُطْنِي ُّ : أَنَّ مَوَالِيَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ أَحْرَمُوا فَمَرَّتْ بِهِمْ ضُبُعٌ فَحَذَفُوهَا بِعِصِيِّهِمْ فَأَصَابُوهَا ، [ ص: 442 ] فَوَقَعَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، فَأَتَوُا ابْنَ عُمَرَ ، فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ ، قَالُوا : أَوَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا كَبْشٌ ؟ قَالَ : إِنَّكُمْ لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ عَلَيْكُمْ كُلُّكُمْ كَبْشٌ . قَالَ اللُّغَوِيُّونَ : لَمُعَزَّزٌ بِكُمْ أَيْ لَمُشَدَّدٌ عَلَيْكُمْ .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ أَصَابُوا ضَبُعًا فَقَالَ : عَلَيْهِمْ كَبْشٌ يَتَخَارَجُونَه ُ بَيْنَهُمْ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، وَهَذَا خِطَابٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ . وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَاتِلِينَ الصَّيْدَ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ; بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَّاصُ ، وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إِجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ ، فَثَبَتَ مَا قُلْنَاهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إِذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ وَهُمْ مُحِلُّونَ ; فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ أَوِ الْحَرَمِ ; فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ ; بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ الْحَرَمَ ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلَيْنِ قَدْ أَكْسَبَهُ صِفَةً تَعَلَّقَ بِهَا نَهْيٌ ، فَهُوَ هَاتِكٌ لَهَا فِي الْحَالَتَيْنِ .
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ الدَّبُّوسِيُّ ، قَالَ : السِّرُّ فِيهِ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادَةِ ، وَقَدِ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَحْظُورَ إِحْرَامِهِ .
وَإِذَا قَتَلَ الْمُحِلُّونَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ ، فَإِنَّمَا أَتْلَفُوا دَابَّةً مُحْتَرَمَةً ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ دَابَّةً ; فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ دَابَّةً ، وَيَشْتَرِكُونَ فِي الْقِيمَةِ ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا ، وَهَذَا الدَّلِيلُ يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا وَهُوَ عَسِيرُ الِانْفِصَالِ عَلَيْنَا . اهـ . مِنَ الْقُرْطُبِيِّ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : اعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ لَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ كَبَقَرَةِ الْوَحْشِ ، وَقِسْمٌ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ يَعْتَبِرُونَ الْمِثْلِيَّةَ بِالْمُمَاثَلَة ِ فِي الصُّورَةِ وَالْخِلْقَةِ ، وَخَالَفَ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْجُمْهُورَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُمَاثَلَةَ مَعْنَوِيَّةٌ ، وَهِيَ الْقِيمَةُ ، أَيْ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ ، أَوْ أَقْرَبِ مَوْضِعٍ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ لَا يُبَاعُ الصَّيْدُ فِي مَوْضِعِ قَتْلِهِ ، فَيَشْتَرِي بِتِلْكَ الْقِيمَةِ هَدْيًا إِنْ شَاءَ ، أَوْ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا ، وَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ [ ص: 443 ] مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ .
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ مُعْتَبِرًا فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةً ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةً ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةً ; لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ; لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ ، وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إِلَى الْعَدْلَيْنِ وَالنَّظَرِ مَا تَشَكَّلَ الْحَالُ فِيهِ ، وَيَخْتَلِفُ فِيهِ وَجْهُ النَّظَرِ .
وَدَلِيلُ الْجُمْهُورِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ : الْمُشَابَهَةُ لِلصَّيْدِ فِي الْخِلْقَةِ وَالصُّورَةِ مِنْهَا ، قَوْلُهُ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ الْآيَةَ ، فَالْمِثْلُ يَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ الْمِثْلَ الْخِلْقِيَّ الصُّورِيَّ دُونَ الْمَعْنَوِيِّ ، ثُمَّ قَالَ : مِنَ النَّعَمِ ، فَصَرَّحَ بِبَيَانِ جِنْسِ الْمِثْلِ ، ثُمَّ قَالَ : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ، وَضَمِيرُ بِهِ رَاجِعٌ إِلَى الْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ لِسِوَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ .
ثُمَّ قَالَ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، وَالَّذِي يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا مِثْلَ الْمَقْتُولِ مِنَ النَّعَمِ ، فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا ، وَلَا جَرَى لَهَا ذِكْرٌ فِي نَفْسِ الْآيَةِ ، وَادِّعَاءُ أَنَّ الْمُرَادَ شِرَاءُ الْهَدْيِ بِهَا يُعِيدُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ ، فَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ ، وَقَوْلُهُ : لَوْ كَانَ الشَّبَهُ الْخِلْقِيُّ مُعْتَبَرًا لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ ؟ ، أُجِيبَ عَنْهُ : بِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعَدْلَيْنِ إِنَّمَا وَجَبَ لِلنَّظَرِ فِي حَالِ الصَّيْدِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ ، وَمَا لَا جِنْسَ لَهُ مِمَّا لَهُ جِنْسٌ ، وَإِلْحَاقُ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ نَصٌّ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ النَّصُّ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : الْمُرَادُ بِالْمِثْلِيَّة ِ فِي الْآيَةِ التَّقْرِيبُ ، وَإِذًا فَنَوْعُ الْمُمَاثَلَةِ قَدْ يَكُونُ خَفِيًّا ، لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ وَالْفِطْنَةِ التَّامَّةِ ، كَكَوْنِ الشَّاةِ مَثَلًا لِلْحَمَامَةِ ; لِمُشَابَهَتِهَ ا لَهَا فِي عَبِّ الْمَاءِ وَالْهَدِيرِ .
وَإِذَا عَرَفْتَ التَّحْقِيقَ فِي الْجَزَاءِ بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ ، وَالصِّيَامِ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ; لِأَنَّ " أَوْ " حَرْفُ تَخْيِيرٍ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ .
فَإِنِ اخْتَارَ جَزَاءً بِالْمِثْلِ مِنَ النَّعَمِ ، وَجَبَ ذَبْحُهُ فِي الْحَرَمِ خَاصَّةً ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ، وَلَا يُجْزِئُ فِي غَيْرِهِ ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، وَالْمُرَادُ الْحَرَمُ كُلُّهُ ، كَقَوْلِهِ : ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [ 22 \ 33 ] ، مَعَ أَنَّ الْمَنْحَرَ الْأَكْبَرَ مِنًى ، وَإِنِ اخْتَارَ الطَّعَامَ ، فَقَالَ مَالِكٌ : أَحْسَنُ مَا سَمِعْتُ فِيهِ ، أَنَّهُ يُقَوَّمُ الصَّيْدُ [ ص: 444 ] بِالطَّعَامِ ، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : إِنْ قَوَّمَ الصَّيْدَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ قَوَّمَ الدَّرَاهِمَ بِالطَّعَامِ ، أَجْزَأَهُ . وَالصَّوَابُ : الْأَوَّلُ ; فَإِنْ بَقِيَ أَقَلُّ مِنْ مُدٍّ تَصَدَّقَ بِهِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ، وَتَمَّمَهُ مُدًّا كَامِلًا عِنْدَ بَعْضٍ آخَرَ ، أَمَّا إِذَا صَامَ ، فَإِنَّهُ يُكْمِلُ الْيَوْمَ الْمُنْكَسِرَ بِلَا خِلَافٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : إِذَا اخْتَارَ الْإِطْعَامَ ، أَوِ الصِّيَامَ ، فَلَا يُقَوَّمُ الصَّيْدُ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ ، وَإِنَّمَا يُقَوَّمُ مِثْلُهُ مِنَ النَّعَمِ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ تُقَوَّمُ الدَّرَاهِمُ بِالطَّعَامِ ، فَيُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَيُتَمِّمُ الْمُنْكَسِرَ .
وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْخِيَارَ لِقَاتِلِ الصَّيْدِ الَّذِي هُوَ دَافِعُ الْجَزَاءِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْخِيَارُ لِلْعَدْلَيْنِ الْحَكَمَيْنِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَنْبَغِي لِلْمُحَكِّمَيْ نِ إِذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ ، أَنْ يُخَيِّرَا قَاتِلَ الصَّيْدِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِذَا حَكَمَا بِالْمِثْلِ لَزِمَهُ ، وَالْقُرْآنُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْمِثْلُ مِنَ النَّعَمِ ، إِلَّا إِذَا اخْتَارَهُ عَلَى الْإِطْعَامِ وَالصَّوْمِ ، لِلتَّخْيِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ فِي الْآيَةِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ عَلَى التَّرْتِيبِ ، فَالْوَاجِبُ الْهَدْيُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالْإِطْعَامُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالصَّوْمُ ، وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالنَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِمَا ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ فِي هَذَا مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، بِلَا دَلِيلٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ يَوْمًا وَاحِدًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ . وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّهُ يَصُومُ عَدْلَ الطَّعَامِ الْمَذْكُورِ ، وَلَوْ زَادَ الصِّيَامُ عَنْ شَهْرَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثَةٍ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يَتَجَاوَزُ صِيَامَ الْجَزَاءِ شَهْرَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا أَعْلَى الْكَفَّارَاتِ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْآيَةِ يُخَالِفُهُ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ : إِنَّمَا يُقَالُ : كَمْ رَجُلًا يَشْبَعُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ ؟ ; فَيَعْرِفُ الْعَدَدَ ، ثُمَّ يُقَالُ : كَمْ مِنَ الطَّعَامِ يُشْبِهُ هَذَا الْعَدَدَ ؟ فَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ ذَلِكَ الطَّعَامَ ، وَإِنْ شَاءَ صَامَ عَدَدَ أَمْدَادِهِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ احْتَاطَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَكُونُ قِيمَةُ الصَّيْدِ مِنَ الطَّعَامِ قَلِيلَةً ، فَبِهَذَا النَّظَرِ يَكْثُرُ الْإِطْعَامُ .
[ ص: 445 ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْوَاعَ الثَّلَاثَةَ ، وَاحِدٌ مِنْهَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَرَمُ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ الْهَدْيُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَوَاحِدٌ لَا يُشْتَرَطُ لَهُ الْحَرَمُ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ الصَّوْمُ ، وَوَاحِدٌ اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ الْإِطْعَامُ ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا يُطْعِمُ إِلَّا فِي الْحَرَمِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ فِي مَوْضِعِ إِصَابَةِ الصَّيْدِ ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُطْعِمُ حَيْثُ شَاءَ ، وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ حَقٌّ لِمَسَاكِينِ الْحَرَمِ ; لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنِ الْهَدْيِ ، أَوْ نَظِيرٌ لَهُ ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُمْ إِجْمَاعًا ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَهُوَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ لَا حَقَّ فِيهَا لِمَخْلُوقٍ ، فَلَهُ فِعْلُهَا فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الصَّيْدُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنَ النَّعَمِ كَالْعَصَافِيرِ ; فَإِنَّهُ يُقَوَّمُ ، ثُمَّ يُعْرَفُ قَدْرُ قِيمَتِهِ مِنَ الطَّعَامِ ، فَيُخْرِجُهُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ ، أَوْ يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا .
فَتَحَصَّلَ أَنَّ مَالَهُ مِثْلٌ مِنَ النَّعَمِ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : هِيَ الْهَدْيُ بِمِثْلِهِ ، وَالْإِطْعَامُ ، وَالصِّيَامُ ، وَأَنَّ مَا لَا مِثْلَ لَهُ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَقَطْ : وَهُمَا الْإِطْعَامُ ، وَالصِّيَامُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ لَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ :
الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ - النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، أَوِ التَّابِعَيْنِ مَثَلًا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-21, 02:16 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (70)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (25)
صـ 446 إلى صـ 450
الثَّالِثَةُ : أَلَّا يَكُونَ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا مِنْهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَالَّذِي حَكَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الْحِكَمُ فِيهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ كَالضَّبُعِ ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِيهَا بِكَبْشٍ ، قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " مَا نَصُّهُ : حَدِيثُ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ " أَخْرَجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَأَحْمَدُ ، وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ ، عَنْ جَابِرٍ بِلَفْظِ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الضَّبُعِ فَقَالَ : " هُوَ صَيْدٌ ، وَيُجْعَلُ فِيهِ كَبْشٌ إِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ " ، وَلَفْظُ الْحَاكِمِ : " جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الضَّبُعِ يُصِيبُهُ الْمُحْرِمُ كَبْشًا " ، وَجَعْلَهُ مِنَ الصَّيْدِ ، وَهُوَ عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ نَجْدِيًّا ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : سَأَلْتُ عَنْهُ الْبُخَارِيَّ فَصَحَّحَهُ ، وَكَذَا صَحَّحَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَقَدْ أَعْلَّ بِالْوَقْفِ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : هُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْأَجْلَحِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ عُمَرَ قَالَ : " لَا أَرَاهُ إِلَّا قَدْ رَفَعَهُ أَنَّهُ حَكَمَ فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ " . الْحَدِيثَ ، وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بِهِ مَوْقُوفًا ، وَصَحَّحَ وَقْفَهُ مِنْ [ ص: 446 ] هَذَا الْبَابِ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ الصَّائِغِ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الضَّبُعُ صَيْدٌ ، فَإِذَا أَصَابَهُ الْمُحْرِمُ فَفِيهِ كَبْشٌ مُسِنٌّ وَيُؤْكَلُ " ، وَفِي الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْهُ ، وَقَدْ أَعَلَّ بِالْإِرْسَالِ .
وَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلًا وَقَالَ : لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ لَوِ انْفَرَدَ ، ثُمَّ أَكَّدَهُ بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمِ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا أَيْضًا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قَضَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَبْشٍ ثَابِتٌ كَمَا رَأَيْتَ تَصْحِيحَ الْبُخَارِيِّ وَعَبْدِ الْحَقِّ لَهُ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْهَقِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَالْحَدِيثُ إِذَا ثَبَتَ صَحِيحًا مِنْ وَجْهٍ لَا يَقْدَحُ فِيهِ الْإِرْسَالُ وَلَا الْوَقْفُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى ، كَمَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ ; لِأَنَّ الْوَصْلَ وَالرَّفْعَ مِنَ الزِّيَادَاتِ ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]
وَالرَّفْعُ وَالْوَصْلُ وَزَيْدُ اللَّفْظِ مَقْبُولَةٌ عِنْدَ إِمَامِ الْحِفْظِ
... إِلَخْ ...
وَأَمَّا إِنْ تَقَدَّمَ فِيهِ حُكْمٌ مِنْ عَدْلَيْنِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، أَوْ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَتَّبِعُ حُكْمَهُمْ وَلَا حَاجَةَ إِلَى نَظَرِ عَدْلَيْنِ وَحُكْمِهِمَا مِنْ جَدِيدٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ [ 5 \ 95 ] ، وَقَدْ حَكَمَا بِأَنَّ هَذَا مِثْلٌ لِهَذَا .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ عَدْلَيْنِ مِنْ جَدِيدٍ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مَالِكٌ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَلَوِ اجْتَزَأَ بِحُكْمِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لَكَانَ حَسَنًا .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَسْتَأْنِفُ الْحُكْمَ فِي كُلِّ صَيْدٍ مَا عَدَا حَمَامَ مَكَّةَ ، وَحِمَارَ الْوَحْشِ ، وَالظَّبْيَ ، وَالنَّعَامَةَ ; فَيَكْتَفِي فِيهَا بِحُكْمِ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ : أَنَّهُ حَكَمَ هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي ظَبْيٍ بِعَنْزٍ ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ وَغَيْرُهُمَا ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي الظَّبْيِ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، وَمُعَاوِيَةَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : " فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ " ، أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : أَنَّ فِي حِمَارِ الْوَحْشِ وَالْبَقَرَةِ بَقَرَةً ، وَأَنَّ فِي الْأَيِّلِ بَقَرَةً .
[ ص: 447 ] وَعَنْ جَابِرٍ : أَنَّ عُمَرَ قَضَى فِي الضَّبُعِ بِكَبْشٍ ، وَفِي الْغَزَالِ بِعَنْزٍ ، وَفِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ ، أَخْرَجَهُ مَالِكٌ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ ، وَرَوَى الْأَجْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا الْأَثَرَ عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ كَمَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّهُ قَضَى فِي الْأَرْنَبِ بِعَنَاقٍ ، وَقَالَ : " هِيَ تَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ ، وَهِيَ تَأْكُلُ الشَّجَرَ ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ ، وَهِيَ تَجْتَرُّ ، وَالْعَنَاقُ كَذَلِكَ " رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُ قَضَى فِي الْيَرْبُوعِ بِحَفْرٍ أَوْ جَفْرَةٍ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا ، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ : قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : قَالَ أَبُو زَيْدٍ : الْجَفْرُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ مَا بَلَغَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَفَصَلَ عَنْ أُمِّهِ ، وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ كَانَ مَعِي حَكَمٌ حَكَمْتُ فِي الثَّعْلَبِ بِجَدْيٍ ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : فِي الثَّعْلَبِ شَاةٌ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَأَرْبَدَ - رَضِيَ اللَّهُ - عَنْهُمَا : أَنَّهُمَا حَكَمَا فِي ضَبٍّ قَتَلَهُ أَرْبَدُ الْمَذْكُورُ بِجَدْيٍ قَدْ جَمَعَ الْمَاءَ وَالشَّجَرَ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ حَكَمَ فِي أُمِّ حُبَيْنٍ بِجِلَّانَ مِنَ الْغَنَمِ ، وَالْجِلَّانُ الْجَدْيُ ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ .
تَنْبِيهٌ
أَقَلُّ مَا يَكُونُ جَزَاءً مِنَ النَّعَمِ عِنْدَ مَالِكٍ شَاةٌ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً ، فَلَا جَزَاءَ عِنْدِهِ بِجَفْرَةٍ ، وَلَا عَنَاقٍ ، مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ كَالدِّيَةِ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ ، وَبِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ يَصِحُّ هَدْيًا ، فَفِي الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ عِنْدَهُ قِيمَتُهَا طَعَامًا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُ الْجُمْهُورِ فِي جَزَاءِ الصَّغِيرِ بِالصَّغِيرِ ، وَالْكَبِيرِ بِالْكَبِيرِ ، هُوَ الظَّاهِرُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا صَحِيحٌ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ عُلَمَائِنَا ، يَعْنِي مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ الَّذِي هُوَ اعْتِبَارُ الصِّغَرِ ، وَالْكِبْرِ ، وَالْمَرَضِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إِذَا كَانَ مَا أَتْلَفَهُ الْمُحْرِمُ بَيْضًا ، فَقَالَ مَالِكٌ : فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ [ ص: 448 ] عُشْرُ ثَمَنِ الْبَدَنَةِ ، وَفِي بَيْضِ الْحَمَامَةِ الْمَكِّيَّةِ عُشْرُ ثَمَنِ شَاةٍ ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَسَوَاءٌ كَانَ فِيهَا فَرْخٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، مَا لَمْ يَسْتَهِلَّ الْفَرْخُ بَعْدَ الْكَسْرِ ، فَإِنِ اسْتَهَلَّ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَامِلًا كَجَزَاءِ الْكَبِيرِ مِنْ ذَلِكَ الطَّيْرِ ، قَالَ ابْنُ الْمَوَّارِ بِحُكُومَةِ عَدْلَيْنِ ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَرَوْنَ فِي بَيْضِ كُلِّ طَائِرٍ قِيمَتَهُ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهُوَ الْأَظْهَرُ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : رَوَى عِكْرِمَةُ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي بَيْضِ نَعَامٍ أَصَابَهُ مُحْرِمٌ بِقَدْرِ ثَمَنِهِ ، أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فِي بَيْضَةِ نَعَامٍ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ " ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَإِنْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ فِيلًا فَقِيلَ : فِيهِ بَدَنَةٌ مِنَ الْهِجَانِ الْعِظَامِ الَّتِي لَهَا سَنَامَانِ ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْإِبِلِ ; فَيُنْظَرُ إِلَى قِيمَتِهِ طَعَامًا ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَالْعَمَلُ فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الْفِيلُ فِي مَرْكَبٍ وَيُنْظَرَ إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِلُ الْمَرْكَبُ فِي الْمَاءِ ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْفِيلُ ، وَيُجْعَلُ فِي الْمَرْكَبُ طَعَامٌ إِلَى الْحَدِّ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ وَالْفِيلُ فِيهِ ، وَهَذَا عَدْلُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَأَمَّا إِنْ نَظَرَ إِلَى قِيمَتِهِ ، فَهُوَ يَكُونُ لَهُ ثَمَنٌ عَظِيمٌ لِأَجْلِ عِظَامِهِ وَأَنْيَابِهِ ; فَيَكْثُرُ الطَّعَامُ وَذَلِكَ ضَرَرٌ اهـ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي اعْتِبَارِ مِثْلِ الْفِيلِ طَعَامًا فِيهِ أَمْرَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ غَالِبًا ; لِأَنَّ نَقْلَ الْفِيلِ إِلَى الْمَاءِ ، وَتَحْصِيلَ الْمَرْكَبِ ، وَرَفْعَ الْفِيلِ فِيهِ ، وَنَزْعَهُ مِنْهُ ، لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ آحَادُ النَّاسِ غَالِبًا ، وَلَا يَنْبَغِي التَّكْلِيفُ الْعَامُّ إِلَّا بِمَا هُوَ مَقْدُورٌ غَالِبًا لِكُلِّ أَحَدٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ كَثْرَةَ الْقِيمَةِ لَا تُعَدُّ ضَرَرًا ; لِأَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ عَلَيْهِ إِلَّا قِيمَةُ مَا أَتْلَفَ فِي الْإِحْرَامِ ، وَمَنْ أَتْلَفَ فِي الْإِحْرَامِ حَيَوَانًا عَظِيمًا ; لَزِمَهُ جَزَاءٌ عَظِيمٌ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ تَابِعٌ لِعِظَمِ الْجِنَايَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مَمْنُوعٌ ، وَأَنَّ قَطْعَ شَجَرِهِ ، وَنَبَاتِهِ حَرَامٌ ، إِلَّا الْإِذْخِرَ ; لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : " إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَامٌ لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهُ ، إِلَّا لِمُعَرِّفٍ " . فَقَالَ [ ص: 449 ] الْعَبَّاسُ : إِلَّا الْإِذْخِرَ ; فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ لِلْقُيُونِ وَالْبُيُوتِ ، فَقَالَ : " إِلَّا الْإِذْخِرَ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ قَالَ : " لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا ، وَلَا تَحِلُّ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ " ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : إِلَّا الْإِذْخِرَ ; فَإِنَّا نَجْعَلُهُ لِقُبُورِنَا وَبُيُوتِنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِلَّا الْإِذْخِرَ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَفِي لَفْظٍ " لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا " ، بَدَلَ قَوْلِهِ " لَا يُخْتَلَى شَوْكُهَا " ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ .
وَاعْلَمْ أَنَّ شَجَرَ الْحَرَمِ وَنَبَاتَهُ طَرَفَانِ ، وَوَاسِطَةُ طَرَفٍ ، لَا يَجُوزُ قَطْعُهُ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا أَنْبَتَهُ اللَّهُ فِي الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِ الْآدَمِيِّينَ ، وَطَرَفٌ يَجُوزُ قَطْعُهُ إِجْمَاعًا ، وَهُوَ مَا زَرَعَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنَ الزُّرُوعِ ، وَالْبُقُولِ ، وَالرَّيَاحِينِ وَنَحْوِهَا ، وَطَرَفٌ اخْتُلِفَ فِيهِ ، وَهُوَ مَا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ مِنْ غَيْرِ الْمَأْكُولِ ، وَالْمَشْمُومِ ، كَالْأَثْلِ ، وَالْعَوْسَجِ ، فَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ قَطْعِهِ .
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ بِالْمَنْعِ ، وَهُوَ أَحْوَطُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْعُهْدَةِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنْ نَبَتَ أَوَّلًا فِي الْحَلِّ ، ثُمَّ نُزِعَ فَغُرِسَ فِي الْحَرَمِ جَازَ قَطْعُهُ ، وَإِنْ نَبَتَ أَوَّلًا فِي الْحَرَمِ ، فَلَا يَجُوزُ قَطْعُهُ ، وَيَحْرُمُ قَطْعُ الشَّوْكِ وَالْعَوْسَجِ ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " ، وَقَالَ الْقَاضِي ، وَأَبُو الْخَطَّابِ : لَا يَحْرِمُ ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، وَالشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُ يُؤْذِي بِطَبْعِهِ ، فَأَشْبَهَ السِّبَاعَ مِنَ الْحَيَوَانِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قِيَاسُ شَوْكِ الْحَرَمِ عَلَى سِبَاعِ الْحَيَوَانِ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ السِّبَاعَ تَتَعَرَّضُ لِأَذَى النَّاسِ ، وَتَقْصِدُهُ ، بِخِلَافِ الشَّوْكِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَا يُعْضَدُ شَوْكُهُ " ، وَالْقِيَاسُ الْمُخَالِفُ لِلنَّصِّ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]
وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا فَسَادَ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى
وَفَسَادُ الِاعْتِبَارِ قَادِحٌ مُبْطِلٌ لِلدَّلِيلِ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، وَاخْتُلِفَ فِي قَطْعِ الْيَابِسِ مِنَ الشَّجَرِ ، وَالْحَشِيشِ ، فَأَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ ; لِأَنَّهُ كَالصَّيْدِ الْمَيِّتِ ، لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ " ; لِأَنَّ الْخَلَا هُوَ الرَّطْبُ مِنَ النَّبَاتِ ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِقَطْعِ الْيَابِسِ .
[ ص: 450 ] وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يَجُوزُ قَطْعُ الْيَابِسِ مِنْهُ ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِذْخِرِ إِشَارَةٌ إِلَى تَحْرِيمِ الْيَابِسِ ، وَبِأَنَّ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " وَلَا يُحْتَشُّ حَشِيشُهَا " ، وَالْحَشِيشُ فِي اللُّغَةِ : الْيَابِسُ مِنَ الْعُشْبِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَرْكَهُ أَحْوَطُ .
وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي جَوَازِ تَرْكِ الْبَهَائِمِ تَرْعَى فِيهِ ، فَمَنَعَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ مَالِكٍ ، وَفِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ ، وَاحْتَجَّ مَنْ مَنَعَهُ بِأَنَّ مَا حَرُمَ إِتْلَافُهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِ مَا يُتْلِفُهُ كَالصَّيْدِ ، وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَهُ بِأَمْرَيْنِ :
الْأَوَّلُ : حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : " أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ ، فَوَجَدْتُ - النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ ، وَأَرْسَلْتُ الْأَتَانَ تَرْتَعِ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَمِنًى مِنَ الْحَرَمِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْهَدْيَ كَانَ يَدْخُلُ بِكَثْرَةٍ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ أَصْحَابِهِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ الْأَمْرُ بِسَدِّ أَفْوَاهِ الْهَدْيِ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ نَبَاتِ الْحَرَمِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ عَطَاءٌ ، وَاخْتُلِفَ فِي أَخْذِ الْوَرَقِ ، وَالْمُسَاوِيكِ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ ، إِذَا كَانَ أَخْذُ الْوَرَقِ بِغَيْرِ ضَرْبٍ يَضُرُّ بِالشَّجَرَةِ ، فَمَنَعَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ; لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ ، وَأَجَازَهُ الشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الشَّجَرَةِ ، وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ : أَنَّهُمَا رَخَّصَا فِي وَرَقِ السَّنَا لِلِاسْتِمْشَاء ِ بِدُونِ نَزْعِ أَصْلِهِ ، وَالْأَحْوَطُ تَرْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ أَجَازَهُ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقِيَاسِهِ عَلَى الْإِذْخِرِ بِجَامِعِ الْحَاجَةِ .
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " : وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِمَا انْكَسَرَ مِنَ الْأَغْصَانِ ، وَانْقَلَعَ مِنَ الشَّجَرِ بِغَيْرِ فِعْلِ آدَمِيٍّ ، وَلَا مَا سَقَطَ مِنَ الْوَرَقِ ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا ; لِأَنَّ الْخَبَرَ إِنَّمَا وَرَدَ فِي الْقَطْعِ ، وَهَذَا لَمْ يَقْطَعْ ، فَأَمَّا إِنْ قَطَعَهُ آدَمِيٌّ ، فَقَالَ أَحْمَدُ : لَمْ أَسْمَعْ إِذَا قَطَعَ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَقَالَ فِي الدَّوْحَةِ تُقْطَعُ مِنْ شَبَهِهِ بِالصَّيْدِ لَمْ يُنْتَفَعْ بِحَطَبِهَا ; وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إِتْلَافِهِ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ ، فَإِذَا قَطَعَهُ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ قَطْعُهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ ، كَالصَّيْدِ يَذْبَحُهُ الْمُحْرِمُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُبَاحَ لِغَيْرِ الْقَاطِعِ الِانْتِفَاعُ بِهِ ; لِأَنَّهُ انْقَطَعَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، فَأُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ، كَمَا لَوْ قَطَعَهُ حَيَوَانٌ بَهِيمِيٌّ ، وَيُفَارِقُ الصَّيْدَ الَّذِي ذَبَحَهُ ; لَأَنَّ الذَّكَاةَ تُعْتَبَرُ لَهَا الْأَهْلِيَّةُ ، وَلِهَذَا لَا تَحْصُلُ بِفِعْلِ بَهِيَمَةٍ بِخِلَافِ هَذَا . اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-10-21, 02:17 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (71)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (26)
صـ 451 إلى صـ 455
[ ص: 451 ] وَقَالَ فِي الْمُغْنِي أَيْضًا : وَيُبَاحُ أَخْذُ الْكُمْأَةِ مِنَ الْحَرَمِ ، وَكَذَلِكَ الْفَقْعُ ; لِأَنَّهُ لَا أَصْلَ لَهُ ، فَأَشْبَهَ الثَّمَرَةَ ، وَرَوَى حَنْبَلٌ قَالَ : يُؤْكَلُ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ الضَّغَابِيسُ وَالْعِشْرِقُ ، وَمَا سَقَطَ مِنَ الشَّجَرِ ، وَمَا أَنَبْتَ النَّاسُ .
وَاخْتُلِفَ فِي عُشْبِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ ، هَلْ يَجُوزُ أَخْذُهُ لِعَلَفِ الْبَهَائِمِ ؟ وَالْأَصَحُّ الْمَنْعُ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ .
فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْحَلَالَ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ ، فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ ، وَعَامَّةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ ، وَهُوَ كَجَزَاءِ الْمُحْرِمِ الْمُتَقَدِّمِ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : لَيْسَ فِيهِ الصَّوْمُ ; لِأَنَّهُ إِتْلَافٌ مَحْضٌ مِنْ غَيْرِ مُحَرَّمٍ .
وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيُّ ، مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَلَمْ يَرِدْ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ نَصٌّ ، فَيَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، وَقَوْلُهُ هَذَا قَوِيٌّ جِدًّا .
وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ : بِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَضَوْا فِي حَمَامِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ بِشَاةٍ شَاةٍ ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ خِلَافُهُمْ ; فَيَكُونُ إِجْمَاعًا سُكُوتِيًّا ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقِيَاسِهِ عَلَى صَيْدِ الْمُحْرِمِ ، بِجَامِعِ أَنَّ الْكُلَّ صَيْدٌ مَمْنُوعٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا يَضْمَنُهُ الْمُحْرِمُ يَضْمَنُهُ مَنْ فِي الْحَرَمِ يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْئَانِ :
الْأَوَّلُ : مِنْهُمَا الْقَمْلُ ، فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِي قَتْلِهِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي الْحَرَمِ بِلَا خِلَافٍ .
وَالثَّانِي : الصَّيْدُ الْمَائِيُّ مُبَاحٌ فِي الْإِحْرَامِ بِلَا خِلَافٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي اصْطِيَادِهِ مِنْ آبَارِ الْحَرَمِ وَعُيُونِهِ ، وَكَرِهَهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا " ; فَيَثْبُتُ حُرْمَةُ الصَّيْدِ لِحُرْمَةِ الْمَكَانِ ، وَظَاهِرُ النَّصِّ شُمُولُ كُلِّ صَيْدٍ ، وَلِأَنَّهُ صَيْدٌ غَيْرُ مُؤْذٍ فَأَشْبَهَ الظِّبَاءَ ، وَأَجَازَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ; مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يُحَرِّمْهُ ، فَكَذَلِكَ الْحَرَمُ ، وَعَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ وَالْجَوَازِ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي شَجَرِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ وَخَلَاهُ ، هَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ قَطَعَهُمَا ضَمَانٌ ؟ .
[ ص: 452 ] فَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَدَاوُدُ : لَا ضَمَانَ فِي شَجَرِهِ وَنَبَاتِهِ ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ : لَا أَجِدُ دَلِيلًا أُوجِبُ بِهِ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ فَرْضًا مِنْ كِتَابٍ ، وَلَا سُنَّةٍ ، وَلَا إِجْمَاعٍ ، وَأَقُولُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ : نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى .
وَالَّذِينَ قَالُوا بِضَمَانِهِ ، مِنْهُمُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ : يَضْمَنُ كُلَّهُ بِالْقِيمَةِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ : يَضْمَنُ الشَّجَرَةَ الْكَبِيرَةَ بِبَقَرَةٍ ، وَالصَّغِيرَةَ بِشَاةٍ ، وَالْخَلَا بِقِيمَتِهِ ، وَالْغُصْنَ بِمَا نَقَصَ ، فَإِنْ نَبْتَ مَا قَطَعَ مِنْهُ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَسْقُطُ الضَّمَانُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِعَدَمِ سُقُوطِهِ .
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ : فِي الدَّوْحَةِ بَقَرَةٌ ، وَفِي الشَّجَرَةِ الْجَزْلَةِ شَاةٌ ، بِآثَارٍ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ كَعُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالدَّوْحَةُ : هِيَ الشَّجَرَةُ الْكَبِيرَةُ ، وَالْجَزْلَةُ : الصَّغِيرَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : حَرَمُ الْمَدِينَةِ ، اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ أَيْضًا لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَخَالَفَ أَبُو حَنِيفَةَ الْجُمْهُورَ ، فَقَالَ : إِنَّ حَرَمَ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحَرَمٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَلَا تَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ الْحَرَمِ مِنْ تَحْرِيمِ قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَقَطْعِ الشَّجَرِ ، وَالْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ تَرُدُّ هَذَا الْقَوْلَ ، وَتَقْضِي بِأَنَّ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ حَرَمٌ ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ إِلَّا لِعَلَفٍ ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ " ، الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : " حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ ، وَجَعَلَ اثْنَيْ عَشَرَ مِيلًا حَوْلَ الْمَدِينَةِ حِمًى " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ : " لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ فِي الْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا " ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ ، قَالَ : " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحَرِّمُ شَجَرَهَا أَنْ يَخْبِطَ أَوْ يُعْضَدَ " ، رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ . وَعَنْ أَنَسٍ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا مِثْلَ مَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَلِلْبُخَارِيّ ِ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا ، لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ ، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ [ ص: 453 ] أَجْمَعِينَ " ، وَلِمُسْلِمٍ ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ قَالَ : سَأَلْتُ أَنَسًا ، أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ هِيَ حَرَامٌ ، لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا " ، الْحَدِيثَ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ ، حَرَامٌ مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أَلَّا يُهْرَاقَ فِيهَا دَمٌ ، وَلَا يُحْمَلَ فِيهَا سِلَاحٌ وَلَا يُخْبَطَ فِيهَا شَجَرٌ إِلَّا لِعَلَفٍ " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا ، لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهُا ، وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا .
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ " ، الْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَدِينَةِ " لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمَنْ أَشَادَ بِهَا ، وَلَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا السِّلَاحَ لِقِتَالٍ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقْطَعَ فِيهَا شَجَرَةٌ ، إِلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ " ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهُا ، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا " .
وَقَالَ : " الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا أَحَدٌ رَغْبَةً إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا ، أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا " رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا .
وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : أَهْوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ : " إِنَّهَا حَرَمٌ آمِنٌ " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " إِنِّي حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ ، كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ " .
قَالَ : وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ يَجِدُ فِي يَدِ أَحَدِنَا الطَّيْرَ ، فَيَأْخُذُهُ فَيَفُكُّهُ مِنْ يَدِهِ ، ثُمَّ [ ص: 454 ] يُرْسِلُهُ ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ أَيْضًا " ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَادَةَ الزُّرَقِيِّ : أَنَّهُ كَانَ يَصِيدُ الْعَصَافِيرَ فِي بِئْرِ إِهَابٍ ، وَكَانَتْ لَهُمْ ، قَالَ : فَرَآنِي عُبَادَةُ ، وَقَدْ أَخَذْتُ عُصْفُورًا ، فَانْتَزَعَهُ مِنِّي فَأَرْسَلَهُ ، وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " حَرَّمَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَكَّةَ " ، وَكَانَ عُبَادَةُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ .
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : اصْطَدْتُ طَيْرًا بِالْقُنْبُلَةِ ، فَخَرَجْتُ بِهِ فِي يَدِي ، فَلَقِيَنِي أَبِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ : مَا هَذَا فِي يَدِكَ ؟ ، فَقُلْتُ : طَيْرٌ اصْطَدْتُهُ بِالْقُنْبُلَةِ ، فَعَرَكَ أُذُنِي عَرْكًا شَدِيدًا ، وَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِي ، فَأَرْسَلَهُ ، فَقَالَ : " حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَيْدَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا " ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا ، وَالْقُنْبُلَةُ : آلَةٌ يُصَادُ بِهَا النُّهَسُ وَهُوَ طَائِرٌ .
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ وَجَدَ غِلْمَانًا قَدْ أَلْجَؤُوا ثَعْلَبًا إِلَى زَاوِيَةٍ فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ ، قَالَ مَالِكٌ : وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : " أَفِي حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْنَعُ هَذَا " ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " أَنَّهُ وَجَدَ رَجُلًا بِالْأَسْوَافِ - وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالْمَدِينَةِ - وَقَدِ اصْطَادَ نُهَسًا ، فَأَخَذَهُ زَيْدٌ مِنْ يَدِهِ فَأَرْسَلَهُ ، ثُمَّ قَالَ : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّمَ صَيْدَ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا " ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَالرَّجُلُ الَّذِي اصْطَادَ النُّهَسَ هُوَ شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالنُّهَسُ بِضَمِّ النُّونِ وَفَتْحِ الْهَاءِ بَعْدَهُمَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ ، طَيْرٌ صَغِيرٌ فَوْقَ الْعُصْفُورِ شَبِيهٌ بِالْقُنْبُرَةِ .
وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الَّتِي أَوْرَدْنَا فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَا شَكَّ مَعَهَا ، وَلَا لَبْسَ فِي أَنَّهَا حَرَامٌ ، لَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا ، لَا يُقْطَعُ شَجَرُهَا ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا إِلَّا لِعَلَفٍ ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ حَرَامٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ ؟ " ، لَا دَلِيلَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ ، وَمُحْتَمَلٌ لِأَنْ يَكُونَ صِيدَ فِي الْحِلِّ ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْمَدِينَةَ .
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ إِمْسَاكِ الصَّيْدِ الَّذِي صِيدَ فِي الْحِلِّ وَإِدْخَالِهِ الْمَدِينَةَ ، وَمَا كَانَ مُحْتَمَلًا لِهَذِهِ الِاحْتِمَالَات ِ لَا تُعَارَضُ بِهِ النُّصُوصُ الصَّرِيحَةُ الصَّحِيحَةُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي لَا لَبْسَ فِيهَا وَلَا احْتِمَالَ ، فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْقَائِلِينَ بِحُرْمَةِ الْمَدِينَةِ ، وَهُمْ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ اخْتَلَفُوا فِي صَيْدِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ ، هَلْ يَضْمَنُهُ قَاتِلُهُ أَوْ لَا ؟ [ ص: 455 ] وَكَذَلِكَ شَجَرُهَا ، فَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ ، وَأَصْحَابُهُمَ ا ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ مَوْضِعٌ يَجُوزُ دُخُولُهُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ ، فَلَمْ يَجِبْ فِيهِ جَزَاءٌ كَصَيْدِ وَجٍّ .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ وَثَوْرٍ ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا ، أَوْ آوَى فِيهَا مُحْدِثًا ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَة ِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا " ، فَذِكْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهَذَا الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَفَّارَةً فِي الدُّنْيَا ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ تَجِبُ فِيهِ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ : يَجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَاسْتَدَلَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَرَّحَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمُتَقَدِّمَة ِ بِأَنَّهُ حَرَّمَ الْمَدِينَةَ مِثْلَ تَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ لِمَكَّةَ ، وَمُمَاثَلَةُ تَحْرِيمِهَا تَقْتَضِي اسْتِوَاءَهُمَا فِي جَزَاءِ مَنِ انْتَهَكَ الْحُرْمَةَ فِيهِمَا .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ ، قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : وَهَذَا الْقَوْلُ أَقْيَسُ عِنْدِي عَلَى أُصُولِنَا ; لَاسِيَّمَا أَنَّ الْمَدِينَةَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ . اهـ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ ، وَكَثْرَةِ مُضَاعَفَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى الْمَدِينَةِ بِمِائَةِ ضِعْفٍ أَظْهَرُ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
وَذَهَبَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ إِلَى أَنَّ الْجَزَاءَ فِيهِ هُوَ أَخْذُ سَلَبِ قَاتِلِ الصَّيْدِ ، أَوْ قَاطِعِ الشَّجَرِ فِيهِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا ; لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّهُ رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا ، أَوْ يَخْبِطُهُ ، فَسَلَبَهُ ، فَلَمَّا رَجَعَ سَعْدٌ جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْ غُلَامِهِمْ ، فَقَالَ : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ " ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " ، وَأَحْمَدُ .
وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِسَعْدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ قَوْلَهُ : " نَفَّلَنِيهِ " أَيْ أَعْطَانِيهِ ، ظَاهِرٌ فِي الْخُصُوصِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، فِيهِ عِنْدِي أَمْرَانِ :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-11-04, 04:36 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (72)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (27)
صـ 456 إلى صـ 460
الأول : أن هذا لا يكفي في الدلالة على الخصوص ; لأن الأصل استواء الناس في الأحكام الشرعية إلا بدليل ، وقوله " نفلنيه " ليس بدليل ; لاحتمال أنه نفل كل من وجد قاطع شجر ، أو قاتل صيد بالمدينة ثيابه ، كما نفل سعدا ، وهذا هو الظاهر .
الثاني : أن سعدا نفسه روي عنه تعميم الحكم ، وشموله لغيره ، فقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود عن سليمان بن أبي عبد الله قال : " رأيت سعد بن أبي وقاص أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلبه ثيابه ، فجاء مواليه ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرم هذا الحرم ، وقال : " من رأيتموه يصيد فيه شيئا فلكم سلبه " ; فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن إن شئتم أن أعطيكم ثمنه أعطيتكم " ، وفي لفظ : " من أخذ أحدا يصيد فيه فليسلبه ثيابه " ، وروى هذا الحديث أيضا الحاكم وصححه ، وهو صريح في العموم وعدم الخصوص بسعد كما ترى ، وفيه تفسير المراد بقوله : " نفلنيه " وأنه عام لكل من وجد أحدا يفعل فيها ذلك .
وتضعيف بعضهم لهذا الحديث بأن في إسناده سليمان بن أبي عبد الله غير مقبول ; لأن سليمان بن أبي عبد الله مقبول ، قال فيه الذهبي : تابعي موثق ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : مقبول .
والمقبول عنده كما بينه في مقدمة تقريبه : هو من ليس له من الحديث إلا القليل ، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله ، فهو مقبول حيث يتابع ، وإلا فلين الحديث ، وقال فيه ابن أبي حاتم : ليس بمشهور ، ولكن يعتبر بحديثه . اهـ .
وقد تابع سليمان بن أبي عبد الله في هذا الحديث عامر بن سعد عند مسلم ، وأحمد ، ومولى لسعد ، عند أبي داود ، كلهم عن سعد - رضي الله عنه - فاتضح رد تضعيفه مع ما قدمنا من أن الحاكم صححه ، وأن الذهبي قال فيه : تابعي موثق .
والمراد بسلب قاطع الشجر أو قاتل الصيد في المدينة أخذ ثيابه ، قال بعض العلماء : حتى سراويله .
والظاهر ما ذكره بعض أهل العلم من وجوب ترك ما يستر العورة المغلظة ، والله تعالى أعلم .
وقال بعض العلماء : السلب هنا سلب القاتل ، وفي مصرف هذا السلب ثلاثة أقوال :
[ ص: 457 ] أصحها : أنه للسالب كالقتيل ، ودليله حديث سعد المذكور .
والثاني : أنه لفقراء المدينة .
والثالث : أنه لبيت المال ، والحق الأول .
وجمهور العلماء على أن حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي تقدم في حديث أبي هريرة المتفق عليه ، أن قدره اثنا عشر ميلا من جهات المدينة لا يجوز قطع شجره ، ولا خلاه ، كما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا يخبط ولا يعضد حمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن يهش هشا رفيقا " أخرجه أبو داود والبيهقي ، ولم يضعفه أبو داود ، والمعروف عن أبي داود - رحمه الله - أنه إن سكت عن الكلام في حديث فأقل درجاته عنده الحسن .
وقال النووي في " شرح المهذب " بعد أن ساق حديث جابر المذكور : رواه أبو داود بإسناد غير قوي لكنه لم يضعفه . اهـ ، ويعتضد هذا الحديث بما رواه البيهقي بإسناده عن محمد بن زياد قال : " كان جدي مولى لعثمان بن مظعون ، وكان يلي أرضا لعثمان فيها بقل وقثاء ، قال : فربما أتاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نصف النهار ، واضعا ثوبه على رأسه يتعاهد الحمى ، ألا يعضد شجره ، ولا يخبط ، قال : فيجلس إلي فيحدثني ، وأطعمه من القثاء والبقل ، فقال له يوما : أراك لا تخرج من هاهنا ، قال : قلت : أجل ، قال : إني أستعملك على ما هاهنا فمن رأيت يعضد شجرا أو يخبط فخذ فأسه وحبله ، قال : قلت : آخذ رداءه ، قال : لا " وعامة العلماء على أن صيد الحمى المذكور غير حرام ; لأنه ليس بحرم ، وإنما هو حمى حماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للخيل وإبل الصدقة والجزية ، ونحو ذلك .
واختلف في شجر الحمى ؛ هل يضمنه قاطعه ؟ والأكثرون على أنه لا ضمان فيه ، وأصح القولين عند الشافعية وجوب الضمان فيه بالقيمة ، ولا يسلب قاطعه ، وتصرف القيمة في مصرف نعم الزكاة والجزية .
المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن جماهير العلماء على إباحة صيد وج ، وقطع شجره ، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى : أكره صيد وج ، وحمله المحققون من أصحابه على كراهة التحريم .
[ ص: 458 ] واختلفوا فيه على القول بحرمته ، هل فيه جزاء كحرم المدينة أو لا شيء فيه ؟ ولكن يؤدب قاتله ، وعليه أكثر الشافعية .
وحجة من قال بحرمة صيد وج ما رواه أبو داود ، وأحمد ، والبخاري في " تاريخه " ، عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " صيد وج محرم " الحديث .
قال ابن حجر في " التلخيص " : سكت عليه أبو داود ، وحسنه المنذري ، وسكت عليه عبد الحق ، فتعقبه ابن القطان بما نقل عن البخاري ، أنه لم يصح ، وكذا قال الأزدي .
وذكر الذهبي ، أن الشافعي صححه ، وذكر الخلال أن أحمد ضعفه ، وقال ابن حبان في رواية المنفرد به ، وهو محمد بن عبد الله بن إنسان الطائفي ، كان يخطئ ، ومقتضاه تضعيف الحديث فإنه ليس له غيره ، فإن كان أخطأ فيه فهو ضعيف ، وقال العقيلي : لا يتابع إلا من جهة تقاربه في الضعف ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إسناده ضعيف .
وذكر البخاري في " تاريخه " في ترجمة عبد الله بن إنسان : أنه لا يصح .
وقال ابن حجر في " التقريب " في محمد بن عبد الله بن إنسان الثقفي الطائفي المذكور : لين الحديث ، وكذلك أبوه عبد الله الذي هو شيخه في هذا الحديث قال فيه أيضا : لين الحديث ، وقال ابن قدامة في " المغني " في هذا الحديث في صيد وج : ضعفه أحمد ، ذكره الخلال في كتاب " العلل " ، فإذا عرفت هذا ظهر لك أن حجة الجمهور في إباحة صيد وج وشجره ، كون الحديث لم يثبت ، والأصل براءة الذمة ، ووج : بفتح الواو وتشديد الجيم ، أرض بالطائف ، وقال بعض العلماء : هو واد بصحراء الطائف ، وليس المراد به نفس بلدة الطائف ، وقيل : هو كل أرض الطائف ، وقيل : هو اسم لحصون الطائف ، وقيل : لواحد منها ، وربما التبس وج المذكور بوح بالحاء المهملة وهي ناحية نعمان .
فإذا عرفت حكم صيد المحرم ، وحكم صيد مكة والمدينة ووج مما ذكرنا ، فاعلم أن الصيد المحرم ، إذا كان بعض قوائمه في الحل وبعضها في الحرم ، أو كان على غصن ممتد في الحل ، وأصل شجرته في الحرم ، فاصطياده حرام على التحقيق تغليبا [ ص: 459 ] لجانب حرمة الحرم فيهما .
أما إذا كان أصل الشجرة في الحل ، وأغصانها ممتدة في الحرم ، فاصطاد طيرا واقعا على الأغصان الممتدة في الحرم ، فلا إشكال في أنه مصطاد في الحرم ; لكون الطير في هواء الحرم .
واعلم أن ما ادعاه بعض الحنفية ، من أن أحاديث تحديد حرم المدينة مضطربة ; لأنه وقع في بعض الروايات باللابتين ، وفي بعضها بالحرتين ، وفي بعضها بالجبلين ، وفي بعضها بالمأزمين ، وفي بعضها بعير وثور ، غير صحيح لظهور الجمع بكل وضوح ; لأن اللابتين هما الحرتان المعروفتان ، وهما حجارة سود على جوانب المدينة ، والجبلان هما المأزمان ، وهما عير وثور والمدينة بين الحرتين ، كما أنها أيضا بين ثور وعير ، كما يشاهده من نظرها ، وثور جبيل صغير يميل إلى الحمرة بتدوير خلف أحد من جهة الشمال .
فمن ادعى من العلماء أنه ليس في المدينة جبل يسمى ثورا ، فغلط منه ; لأنه معروف عند الناس إلى اليوم ، مع أنه ثبت في الحديث الصحيح .
واعلم أنه على قراءة الكوفيين : فجزاء مثل الآية ، بتنوين " جزاء " ورفع مثل فالأمر واضح ، وعلى قراءة الجمهور فجزاء مثل بالإضافة ، فأظهر الأقوال أن الإضافة بيانية ، أي جزاء هو مثل ما قتل من النعم ، فيرجع معناه إلى الأول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، قد يتوهم الجاهل من ظاهر هذه الآية الكريمة عدم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولكن نفس الآية فيها الإشارة إلى أن ذلك فيما إذا بلغ جهده فلم يقبل منه المأمور ، وذلك في قوله : إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] ; لأن من ترك الأمر بالمعروف لم يهتد ، وممن قال بهذا حذيفة ، وسعيد بن المسيب ، كما نقله عنهما الألوسي في " تفسيره " ، وابن جرير ، ونقله القرطبي عن سعيد بن المسيب ، وأبي عبيد القاسم بن سلام ، ونقل نحوه ابن جرير عن جماعة من الصحابة ، منهم ابن عمر ، وابن مسعود .
فمن العلماء من قال : إذا اهتديتم ، أي : أمرتم فلم يسمع منكم ، ومنهم من قال : يدخل الأمر بالمعروف في المراد بالاهتداء في الآية ، وهو ظاهر جدا ولا ينبغي [ ص: 460 ] العدول عنه لمنصف .
ومما يدل على أن تارك الأمر بالمعروف غير مهتد ، أن الله تعالى أقسم أنه في خسر في قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 1 ، 2 ، 3 ] ، فالحق وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبعد أداء الواجب لا يضر الآمر ضلال من ضل ، وقد دلت الآيات كقوله تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 \ 25 ] ، والأحاديث على أن الناس إن لم يأمروا بالمعروف ، ولم ينهوا عن المنكر ، عمهم الله بعذاب من عنده .
فمن ذلك ما خرجه الشيخان في " صحيحيهما " عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها فزعا مرعوبا يقول : " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها ، فقلت : يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون ؟ ، قال : نعم إذا كثر الخبث " .
وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها ، كمثل قوم استهموا على سفينة ، فصار بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا ، وهلكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ، ونجوا جميعا " ، أخرجه البخاري والترمذي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-11-04, 04:38 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (73)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (28)
صـ 461 إلى صـ 465
وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال : يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن رأى الناس الظالم فلم يأخذوا على يده ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " ، رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي بأسانيد صحيحة ، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل ، أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ، ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا [ ص: 461 ] ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض " ، ثم قال : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون [ 5 \ 79 ، 80 ، 81 ] ، ثم قال : " كلا والله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ، ولتقصرنه على الحق قصرا ، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ، ثم ليلعننكم كما لعنهم " .
رواه أبو داود ، والترمذي وقال : حسن ، وهذا لفظ أبي داود ، ولفظ الترمذي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي ، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم وواكلوهم ، وشاربوهم ; فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ; ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكئا ، فقال : " لا والذي نفسي بيده ، حتى يأطروهم على الحق أطرا " .
ومعنى تأطروهم أي : تعطفوهم ، ومعنى تقصرونه : تحبسونه ، والأحاديث في الباب كثيرة جدا ، وفيها الدلالة الواضحة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في قوله : إذا اهتديتم ، ويؤيده كثرة الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كقوله تعالى : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون [ 3 \ 104 ] ، وقوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [ 3 \ 110 ] . وقوله : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ، وقوله : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ 18 \ 29 ] ، وقوله : فاصدع بما تؤمر [ 15 \ 94 ] ، وقوله : أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون [ 7 \ 165 ] ، وقوله : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 \ 25 ] .
والتحقيق في معناها : أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره هي أن الناس [ ص: 462 ] إذا رأوا المنكر فلم يغيروه عمهم الله بالعذاب ، صالحهم وطالحهم ، وبه فسرها جماعة من أهل العلم ، والأحاديث الصحيحة شاهدة لذلك ، كما قدمنا طرفا منها .
مسائل تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
المسألة الأولى : اعلم أن كلا من الآمر والمأمور يجب عليه اتباع الحق المأمور به ، وقد دلت السنة الصحيحة على أن من يأمر بالمعروف ولا يفعله ، وينهى عن المنكر ويفعله ، أنه حمار من حمر جهنم يجر أمعاءه فيها .
وقد دل القرآن العظيم على أن المأمور المعرض عن التذكرة حمار أيضا ، أما السنة المذكورة فقوله - صلى الله عليه وسلم : " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتابه ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار فيقولون : أي فلان ؛ ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ ، فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " ، أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث أسامة بن زيد - رضي الله عنهما .
ومعنى تندلق أقتابه : تتدلى أمعاؤه ، أعاذنا الله والمسلمين من كل سوء ، وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت رجعت ، فقلت لجبريل : من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، وهم يتلون الكتاب ، أفلا يعقلون " ، أخرجه الإمام أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية ، وابن حيان ، وابن مردويه ، والبيهقي ، كما نقله عنهم الشوكاني وغيره . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما : " أنه جاءه رجل فقال له : يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف ، وأنهى عن المنكر ، فقال ابن عباس : أوبلغت ذلك ؟ فقال : أرجو ، قال : فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله فافعل ، قال : وما هي ؟ قال : قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ 2 \ 44 ] ، وقوله تعالى : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] ، وقوله تعالى عن العبد الصالح شعيب - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه الآية [ ص: 463 ] [ 11 \ 88 ] ، أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، كما نقله عنهم أيضا الشوكاني وغيره .
واعلم أن التحقيق أن هذا الوعيد الشديد الذي ذكرنا من اندلاق الأمعاء في النار ، وقرض الشفاه بمقاريض النار ، ليس على الأمر بالمعروف ، وإنما هو على ارتكابه المنكر عالما بذلك ، ينصح الناس عنه ، فالحق أن الأمر بالمعروف غير ساقط عن صالح ولا طالح ، والوعيد على المعصية لا على الأمر بالمعروف ; لأنه في حد ذاته ليس فيه إلا الخير ، ولقد أجاد من قال : [ الكامل ]
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال الآخر : [ الطويل ]
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض
وقال الآخر : [ الطويل ]
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتيا
وأما الآية الدالة على أن المعرض عن التذكير كالحمار أيضا ، فهي قوله تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة [ 74 \ 49 ، 50 ، 51 ] ، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، فيجب على المذكر بالكسر ، والمذكر بالفتح أن يعملا بمقتضى التذكرة ، وأن يتحفظا من عدم المبالاة بها ، لئلا يكونا حمارين من حمر جهنم .
المسألة الثانية : يشترط في الآمر بالمعروف أن يكون له علم ، يعلم به أن ما يأمر به معروف ، وأن ما ينهى عنه منكر ; لأنه إن كان جاهلا بذلك فقد يأمر بما ليس بمعروف ، وينهى عما ليس بمنكر ، ولاسيما في هذا الزمن الذي عم فيه الجهل وصار فيه الحق منكرا ، والمنكر معروفا ، والله تعالى يقول : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني الآية [ 12 \ 108 ] ، فدل على أن الداعي إلى الله لا بد أن يكون على بصيرة ، وهي الدليل الواضح الذي لا لبس في الحق معه ، وينبغي أن تكون دعوته إلى الله بالحكمة ، وحسن الأسلوب ، واللطافة مع إيضاح الحق ; لقوله تعالى : [ ص: 464 ] ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآية [ 16 \ 125 ] ، فإن كانت دعوته إلى الله بقسوة وعنف وخرق ، فإنها تضر أكثر مما تنفع ، فلا ينبغي أن يسند الأمر بالمعروف إسنادا مطلقا ، إلا لمن جمع بين العلم ، والحكمة ، والصبر على أذى الناس ; لأن الأمر بالمعروف وظيفة الرسل ، وأتباعهم ، وهو مستلزم للأذى من الناس ; لأنهم مجبولون بالطبع على معاداة من يتعرض لهم في أهوائهم الفاسدة ، وأغراضهم الباطلة ، ولذا قال العبد الصالح لقمان الحكيم لولده ، فيما قص الله عنه : وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك الآية [ 31 \ 17 ] ، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لورقة بن نوفل : " أومخرجي هم ؟ " ، يعني قريشا ، أخبره ورقة : أن هذا الدين الذي جاء به لم يأت به أحد إلا عودي ، وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : " ما ترك الحق لعمر صديقا " ، واعلم أنه لا يحكم على الأمر بأنه منكر ، إلا إذا قام على ذلك دليل من كتاب الله تعالى ، أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين .
وأما إن كان من مسائل الاجتهاد فيما لا نص ، فلا يحكم على أحد المجتهدين المختلفين بأنه مرتكب منكرا ، فالمصيب منهم مأجور بإصابته ، والمخطئ منهم معذور كما هو معروف في محله .
واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين : طريق لين ، وطريق قسوة ، أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه ، فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت ، وهو المطلوب ، وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده ، وتقام حدوده ، وتمتثل أوامره ، وتجتنب نواهيه ، وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد الآية [ 57 \ 25 ] .
ففيه الإشارة إلى أعمال السيف بعد إقامة الحجة ، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب ، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن .
المسألة الثالثة : يشترط في جواز الأمر بالمعروف ألا يؤدي إلى مفسدة أعظم من ذلك المنكر ; لإجماع المسلمين على ارتكاب أخف الضررين ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]
[ ص: 465 ] وارتكب الأخف من ضرين وخيرن لدى استوا هذين
ويشترط في وجوبه مظنة النفع به ، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه ، كما يدل له ظاهر قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى [ 87 \ 9 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : " بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما ، الصابر فيهن كالقابض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم " ، وفي لفظ : " قيل : يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا ، أو منهم ؟ قال : بل أجر خمسين منكم " ، أخرجه الترمذي ، والحاكم ، وصححاه ، وأبو داود ، وابن ماجه ، وابن جرير ، والبغوي في " معجمه " ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في " الشعب " من حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - وقال الراوي : هذا الحديث عنه أبو أمية الشعباني ، وقد سأله عن قوله تعالى : عليكم أنفسكم ، والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " بل ائتمر " إلى آخر الحديث .
وهذه الصفات المذكورة في الحديث من الشح المطاع ، والهوى المتبع . . . إلخ ، مظنة لعدم نفع الأمر بالمعروف ; فدل الحديث على أنه إن عدمت فائدته سقط وجوبه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-11-04, 04:38 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (74)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (29)
صـ 466 إلى صـ 470
تنبيه
الأمر بالمعروف له ثلاث حكم :
الأولى : إقامة حجة الله على خلقه ، كما قال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
الثانية : خروج الآمر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف ، كما قال تعالى في صالحي القوم الذين اعتدى بعضهم في السبت : قالوا معذرة إلى ربكم الآية [ 7 \ 164 ] ، وقال تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ; فدل على أنه لو لم يخرج من العهدة ، لكان ملوما .
الثالثة : رجاء النفع للمأمور ، كما قال تعالى : معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ ص: 466 ] وقال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وقد أوضحنا هذا البحث في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة الأعلى في الكلام على قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى [ 87 \ 9 ] ، ويجب على الإنسان أن يأمر أهله بالمعروف كزوجته ، وأولاده ، ونحوهم ، وينهاهم عن المنكر ; لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا الآية [ 66 \ 6 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " ، الحديث .
المسألة الرابعة : اعلم أن من أعظم أنواع الأمر بالمعروف كلمة حق عند سلطان جائر ، وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه : عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " ، أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن .
وعن طارق بن شهاب - رضي الله عنه : " أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وضع رجله في الغرز : أي الجهاد أفضل ؟ قال : كلمة حق عند سلطان جائر " ، رواه النسائي بإسناد صحيح .
كما قاله النووي - رحمه الله : واعلم أن الحديث الصحيح قد بين أن أحوال الرعية مع ارتكاب السلطان ما لا ينبغي ثلاث :
الأولى : أن يقدر على نصحه وأمره بالمعروف ، ونهيه عن المنكر ، من غير أن يحصل منه ضرر أكبر من الأول ، فآمره في هذه الحالة مجاهد سالم من الإثم ولو لم ينفع نصحه ، ويجب أن يكون نصحه له بالموعظة الحسنة مع اللطف ; لأن ذلك هو مظنة الفائدة .
الثانية : ألا يقدر على نصحه لبطشه بمن يأمره ، وتأدية نصحه لمنكر أعظم ، وفي هذه الحالة يكون الإنكار عليه بالقلوب ، وكراهة منكره ، والسخط عليه ، وهذه الحالة هي أضعف الإيمان .
الثالثة : أن يكون راضيا بالمنكر الذي يعمله السلطان ، متابعا له عليه ، فهذا شريكه في الإثم ، والحديث المذكور هو ما قدمنا في سورة البقرة عن أم المؤمنين أم سلمة هند بنت أبي أمية - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع " ، قالوا : [ ص: 467 ] يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما أقاموا فيكم الصلاة " ، أخرجه مسلم في " صحيحه " .
فقوله - صلى الله عليه وسلم : " فمن كره " يعني بقلبه ، ولم يستطع إنكارا بيد ولا لسان " فقد برئ " من الإثم ، وأدى وظيفته ، " ومن أنكر " بحسب طاقته " فقد سلم " من هذه المعصية ، " ومن رضي " بها " وتابع " عليها ، فهو عاص كفاعلها .
ونظيره حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند مسلم : قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان " وقوله في هذه الآية الكريمة : عليكم أنفسكم ، صيغة إغراء ، يعني : الزموا حفظها ، كما أشار له في " الخلاصة " بقوله : [ الرجز ]
والفعل من أسمائه عليكا وهكذا دونك مع إليكا
قوله تعالى : ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن كاتم الشهادة آثم ، وبين في موضع آخر أن هذا الإثم من الآثام القلبية ، وهو قوله : ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] ، ومعلوم أن منشأ الآثام والطاعات جميعا من القلب ; لأنه إذا صلح صلح الجسد كله ، وإذا فسد الجسد كله .
قوله تعالى : وإذ تخرج الموتى بإذني ، معناه إخراجهم من قبورهم أحياء بمشيئة الله وقدرته ، كما أوضحه بقوله : وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله [ 3 \ 49 ] .
قوله تعالى : وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات الآية ، لم يذكر هنا كيفية كفه إياهم عنه ، ولكنه بينه في مواضع أخر ، كقوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ، وقوله : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وقوله : ومطهرك من الذين كفروا [ 3 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين الآية ، قال بعض أهل العلم : المراد بالإيحاء إلى الحواريين الإلهام ، ويدل له ورود الإيحاء في القرآن بمعنى الإلهام ، كقوله : وأوحى ربك إلى النحل الآية [ 16 \ 68 ] ، يعني ألهمها ، قال بعض العلماء : [ ص: 468 ] ومنه وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه [ 28 \ 7 ] ، وقال بعض العلماء معناه : أوحيت إلى الحواريين إيحاء حقيقيا بواسطة عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، في قوله تعالى : يعدلون [ 6 \ 1 ] ، وجهان للعلماء :
أحدهما : أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف ، والميل عنه ، وعلى هذا فقوله : بربهم متعلق بقوله : كفروا ، وعليه فالمعنى : إن الذين كفروا بربهم يميلون وينحرفون عن طريق الحق إلى الكفر والضلال ، وقيل على هذا الوجه : إن " الباء " بمعنى " عن " أي : يعدلون عن ربهم ، فلا يتوجهون إليه بطاعة ، ولا إيمان .
والثاني : أن " الباء " متعلقة بيعدلون ، ومعنى يعدلون يجعلون له نظيرا في العبادة ، من قول العرب : عدلت فلانا بفلان إذا جعلته له نظيرا وعديلا ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]
أثعلبة الفوارس أم رياحا عدلت بهم طهية والخشابا
يعني أجعلت طهية والخشاب نظراء وأمثالا لبني ثعلبة وبني رياح ، وهذا الوجه الأخير يدل له القرآن ، كقوله تعالى ، عن الكفار الذين عدلوا به غيره : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ 26 \ 97 ، 98 ] ، وقوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله [ 2 \ 165 ] ، وأشار تعالى في آيات كثيرة إلى أن الكفار ساووا بين المخلوق والخالق ، قبحهم الله تعالى ، كقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء الآية [ 30 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وعدل الشيء في اللغة مثله ونظيره ، قال بعض علماء العربية : إذا كان من جنسه ، فهو عدل بكسر العين ، وإذا كان من غير جنسه ، فهو عدل بفتح العين ، ومن الأول قول مهلهل : [ الوافر ]
[ ص: 470 ]
على أن ليس عدلا من كليب إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا اضطرب العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب غداة بلابل الأمر الكبير
يعني أن القتلى الذين قتلهم من بكر بن وائل بأخيه كليب الذي قتله جساس بن مرة البكري لا يكافئونه ، ولا يعادلونه في الشرف .
ومن الثاني قوله تعالى : أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] ; لأن المراد نظير الإطعام من الصيام ، وليس من جنسه ، وقوله : وإن تعدل كل عدل [ 6 \ 70 ] ، وقوله : ولا يقبل منها عدل [ 2 \ 123 ] ، والعدل : الفداء ، لأنه كأنه قيمة معادلة للفدى تؤخذ بدله ، قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير ، وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى :
الأول : أن المعنى وهو الله في السماوات وفي الأرض ، أي : وهو الإله المعبود في السماوات والأرض ; لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء ، وعلى هذا فجملة يعلم حال ، أو خبر ، وهذا المعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ 43 \ 84 ] ، أي : وهو المعبود في السماء والأرض بحق ، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره ; لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي ، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] .
وهذا القول في الآية أظهر الأقوال ، واختاره القرطبي .
الوجه الثاني : أن قوله : في السماوات وفي الأرض [ 6 \ 3 ] ، يتعلق بقوله : يعلم سركم ، أي : وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ; ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 6 ] .
قال النحاس : وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية ، نقله عنه القرطبي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-11-04, 04:44 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (75)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (1)
صـ 471 إلى صـ 475
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، في قوله تعالى : يعدلون [ 6 \ 1 ] ، وجهان للعلماء :
أحدهما : أنه من العدول عن الشيء بمعنى الانحراف ، والميل عنه ، وعلى هذا فقوله : بربهم متعلق بقوله : كفروا ، وعليه فالمعنى : إن الذين كفروا بربهم يميلون وينحرفون عن طريق الحق إلى الكفر والضلال ، وقيل على هذا الوجه : إن " الباء " بمعنى " عن " أي : يعدلون عن ربهم ، فلا يتوجهون إليه بطاعة ، ولا إيمان .
والثاني : أن " الباء " متعلقة بيعدلون ، ومعنى يعدلون يجعلون له نظيرا في العبادة ، من قول العرب : عدلت فلانا بفلان إذا جعلته له نظيرا وعديلا ، ومنه قول جرير : [ الوافر ]
أثعلبة الفوارس أم رياحا عدلت بهم طهية والخشابا
يعني أجعلت طهية والخشاب نظراء وأمثالا لبني ثعلبة وبني رياح ، وهذا الوجه الأخير يدل له القرآن ، كقوله تعالى ، عن الكفار الذين عدلوا به غيره : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ 26 \ 97 ، 98 ] ، وقوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله [ 2 \ 165 ] ، وأشار تعالى في آيات كثيرة إلى أن الكفار ساووا بين المخلوق والخالق ، قبحهم الله تعالى ، كقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء الآية [ 30 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وعدل الشيء في اللغة مثله ونظيره ، قال بعض علماء العربية : إذا كان من جنسه ، فهو عدل بكسر العين ، وإذا كان من غير جنسه ، فهو عدل بفتح العين ، ومن الأول قول مهلهل : [ الوافر ]
[ ص: 470 ]
على أن ليس عدلا من كليب إذا برزت مخبأة الخدور
على أن ليس عدلا من كليب إذا اضطرب العضاه من الدبور
على أن ليس عدلا من كليب غداة بلابل الأمر الكبير
يعني أن القتلى الذين قتلهم من بكر بن وائل بأخيه كليب الذي قتله جساس بن مرة البكري لا يكافئونه ، ولا يعادلونه في الشرف .
ومن الثاني قوله تعالى : أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] ; لأن المراد نظير الإطعام من الصيام ، وليس من جنسه ، وقوله : وإن تعدل كل عدل [ 6 \ 70 ] ، وقوله : ولا يقبل منها عدل [ 2 \ 123 ] ، والعدل : الفداء ، لأنه كأنه قيمة معادلة للفدى تؤخذ بدله ، قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه للعلماء من التفسير ، وكل واحد منها له مصداق في كتاب الله تعالى :
الأول : أن المعنى وهو الله في السماوات وفي الأرض ، أي : وهو الإله المعبود في السماوات والأرض ; لأنه جل وعلا هو المعبود وحده بحق في الأرض والسماء ، وعلى هذا فجملة يعلم حال ، أو خبر ، وهذا المعنى يبينه ويشهد له قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله [ 43 \ 84 ] ، أي : وهو المعبود في السماء والأرض بحق ، ولا عبرة بعبادة الكافرين غيره ; لأنها وبال عليهم يخلدون بها في النار الخلود الأبدي ، ومعبوداتهم ليست شركاء لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] .
وهذا القول في الآية أظهر الأقوال ، واختاره القرطبي .
الوجه الثاني : أن قوله : في السماوات وفي الأرض [ 6 \ 3 ] ، يتعلق بقوله : يعلم سركم ، أي : وهو الله يعلم سركم في السماوات وفي الأرض ; ويبين هذا القول ويشهد له قوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 6 ] .
قال النحاس : وهذا القول من أحسن ما قيل في الآية ، نقله عنه القرطبي .
[ ص: 471 ] الوجه الثالث : وهو اختيار ابن جرير ، أن الوقف تام على قوله في : السماوات ، وقوله : وفي الأرض يتعلق بما بعده ، أي يعلم سركم وجهركم في الأرض ، ومعنى هذا القول : أنه جل وعلا مستو على عرشه فوق جميع خلقه ، مع أنه يعلم سر أهل الأرض وجهرهم ، لا يخفى عليه شيء من ذلك .
ويبين هذا القول ، ويشهد له قوله تعالى : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا الآية [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وقوله : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، مع قوله : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] ، وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام بإيضاح في سورة " الأعراف " ، واعلم أن ما يزعمه الجهمية من أن الله تعالى في كل مكان ، مستدلين بهذه الآية على أنه في الأرض ، ضلال مبين ، وجهل بالله تعالى ; لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأصغر من أن يحل في شيء منها رب السماوات والأرض ، الذي هو أعظم من كل شيء ، وأعلى من كل شيء ، محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء ، فالسماوات والأرض في يده - جل وعلا - أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى ، فلو كانت حبة خردل في يد رجل فهل يمكن أن يقال : إنه حال فيها ، أو في كل جزء من أجزائها ، لا وكلا ، هي أصغر وأحقر من ذلك ، فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن رب السماوات والأرض أكبر من كل شيء ، وأعظم من كل شيء ، محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء ، ولا يكون فوقه شيء :لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 34 \ 3 ] ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا لا نحصي ثناء عليه ، هو كما أثنى على نفسه : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] .
قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ، ذكر في هذه الآية الكريمة : أن الكفار لو نزل الله عليهم كتابا مكتوبا في قرطاس ، أي صحيفة ، إجابة لما اقترحوه ، كما قال تعالى عنهم : ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه الآية [ 17 \ 93 ] ، فعاينوا ذلك الكتاب المنزل ، ولمسته أيديهم ، لعاندوا ، وادعوا أن ذلك من أجل أنه سحرهم ، وهذا العناد واللجاج العظيم والمكابرة الذي هو شأن الكفار بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله : [ ص: 472 ] ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 ، 15 ] .
وقوله : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم [ 52 \ 44 ] ، وقوله : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [ 6 \ 111 ] ، وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية الآية [ 10 \ 96 ، 97 ] ، وقوله : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقوله : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها [ 7 \ 146 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وذكر تعالى نحو هذا العناد واللجاج عن فرعون وقومه في قوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] .
قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ، لم يبين هنا ماذا يريدون بإنزال الملك المقترح ، ولكنه بين في موضع آخر أنهم يريدون بإنزال الملك أن يكون نذيرا آخر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك في قوله : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا الآية [ 25 \ 7 ] .
قوله تعالى : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ، يعني : أنه لو نزل عليهم الملائكة وهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي ، لجاءهم من الله العذاب ، من غير إمهال ولا إنظار ، لأنه حكم بأن الملائكة لا تنزل عليهم إلا بذلك ، كما بينه تعالى بقوله : ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 15 \ 8 ] ، وقوله : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين الآية [ 25 \ 22 ] .
قوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ، أي : لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا ، لكان على هيئة الرجل ; لتمكنهم مخاطبته ، والانتفاع بالأخذ عنه ; لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من شدة النور ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة الرسول البشري .
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الرسول ينبغي أن يكون من نوع المرسل إليهم ، كما أشار تعالى إلى ذلك أيضا بقوله : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 95 ] .
قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ ص: 473 ] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار استهزءوا برسل قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأنهم حاق بهم العذاب بسبب ذلك ، ولم يفصل هنا كيفية استهزائهم ، ولا كيفية العذاب الذي أهلكوا به ، ولكنه فصل كثيرا من ذلك من مواضع متعددة ، في ذكر نوح وقومه ، وهود وقومه ، وصالح وقومه ، ولوط وقومه ، وشعيب وقومه ، إلى غير ذلك .
فمن استهزائهم بنوح قولهم له : " بعد أن كنت نبيا صرت نجارا " ، وقد قال الله تعالى عن نوح : إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون [ 11 \ 38 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 49 \ 14 ] ، وأمثالها من الآيات .
ومن استهزائهم بهود ما ذكره الله عنهم من قولهم : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء [ 11 \ 54 ] ، وقوله عنهم أيضا : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك الآية [ 11 \ 53 ] ، وذكر ما حاق بهم من العذاب في قوله : أرسلنا عليهم الريح العقيم الآية [ 51 \ 41 ] ، وأمثالها من الآيات .
ومن استهزائهم بصالح قولهم فيما ذكر الله عنهم : ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وقولهم : ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا الآية [ 11 \ 62 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [ 11 \ 94 ] ، ونحوها من الآيات .
ومن استهزائهم بلوط قولهم فيما حكى الله عنهم : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، وقولهم له أيضا : لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين [ 26 \ 167 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 \ 74 ] ، ونحوها من الآيات .
ومن استهزائهم بشعيب قولهم فيما حكى الله عنهم : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز [ 11 \ 91 ] ، وذكر ما حاق بهم بقوله : فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم [ 26 \ 189 ] ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم ، يعني : أنه تعالى هو الذي يرزق الخلائق ، وهو الغني المطلق فليس بمحتاج إلى رزق ، وقد بين تعالى هذا بقوله : [ ص: 474 ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 ، 57 ، 58 ] ، وقراءة الجمهور على أن الفعلين من الإطعام ، والأول مبني للفاعل ، والثاني مبني للمفعول ، كما بيناه ، وأوضحته الآية الأخرى ، وقرأ سعيد بن جبير ، ومجاهد ، والأعمش الفعل الأول كقراءة الجمهور ، والثاني بفتح الياء والعين ، مضارع طعم الثلاثي بكسر العين في الماضي ، أي أنه يرزق عباده ويطعمهم ، وهو جل وعلا لا يأكل ; لأنه لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوق من الغداء ; لأنه جل وعلا الغني لذاته ، الغني المطلق ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] .
والقراءة التي ذكرنا عن سعيد ، ومجاهد ، والأعمش موافقة لأحد الأقوال في تفسير قوله تعالى : الله الصمد [ 112 \ 2 ] ، قال بعض العلماء : الصمد السيد ، الذي يلجأ إليه عند الشدائد والحوائج ، وقال بعضهم : هو السيد الذي تكامل سؤدده ، وشرفه ، وعظمته ، وعلمه ، وحكمته ، وقال بعضهم : الصمد هو الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ; وعليه ، فما بعده تفسير له ، وقال بعضهم : هو الباقي بعد فناء خلقه ، وقال بعضهم : الصمد هو الذي لا جوف له ، ولا يأكل الطعام ، وهو محل الشاهد ، وممن قال بهذا القول ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعبد الله بن بريدة ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء بن أبي رباح ، وعطية العوفي ، والضحاك ، والسدي ، كما نقله عنهم ابن كثير ، وابن جرير وغيرهما .
قال مقيده - عفا الله عنه : من المعروف في كلام العرب إطلاق الصمد على السيد العظيم ، وعلى الشيء المصمت الذي لا جوف له ، فمن الأول قول الزبرقان : [ البسيط ]
سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ولا رهينة إلا سيد صمد
وقول الآخر : [ البسيط ]
علوته بحسام ثم قلت له خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقول الآخر : [ الطويل ]
ألا بكر الناعي بخير بني أسد بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
ومن الثاني قول الشاعر : [ الطويل ]
[ ص: 475 ]
شهاب حروب لا تزال جياده عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
فإذا علمت ذلك ، فالله تعالى هو السيد الذي هو وحده الملجأ عند الشدائد والحاجات ، وهو الذي تنزه وتقدس وتعالى عن صفات المخلوقين ، كأكل الطعام ونحوه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
قوله تعالى : قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم الآية ، يعني أول من أسلم من هذه الأمة التي أرسلت إليها ، وليس المراد أول من أسلم من جميع الناس ، كما بينه تعالى بآيات كثيرة تدل على وجود المسلمين قبل وجوده - صلى الله عليه وسلم - ووجود أمته ، كقوله عن إبراهيم : إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين [ 2 \ 131 ] ، وقوله عن يوسف : توفني مسلما وألحقني بالصالحين [ 12 \ 101 ] ، وقوله : يحكم بها النبيون الذين أسلموا [ 5 \ 44 ] ، وقوله عن لوط وأهله : فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير ، أشار تعالى بقوله هنا : فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] ، بعد قوله : وإن يمسسك بخير ، إلى أن فضله وعطاءه الجزيل لا يقدر أحد على رده ، عمن أراده له تعالى ، كما صرح بذلك في قوله : وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء الآية [ 10 \ 107 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-11-04, 04:45 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (76)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (2)
صـ 476 إلى صـ 480
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ، صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنْذِرٌ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِنْذَارَ بِهِ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ فَهُوَ فِي النَّارِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ .
أَمَّا عُمُومُ إِنْذَارِهِ لِكُلِّ مَنْ بَلَغَهُ ، فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [ 7 \ 158 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 34 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 25 \ 1 ] .
وَأَمَّا دُخُولُ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ النَّارَ ، فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ 11 \ 17 ] .
[ ص: 476 ] وَأَمَّا مِنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَهُ حُكْمُ أَهْلِ الْفَتْرَةِ الَّذِينَ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - الَّذِي أَحَاطَ عِلْمُهُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ ، يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الَّذِي سَبَقَ فِي الْأَزَلِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَوْ وُجِدَ كَيْفَ يَكُونُ ; لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَدَّ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى لَا يَكُونُ ، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [ 6 \ 28 ] ، وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ .
فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، لَا يَخْرُجُونَ إِلَيْهَا مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاللَّهُ ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 46 ] ، وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا الْآيَةَ [ 9 \ 47 ] ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ 23 \ 75 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ الْآيَةَ ، صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : بِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَحْزُنُهُ مَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ مِنْ تَكْذِيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ نَهَاهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا الْحُزْنِ الْمُفْرِطِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [ 35 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ 5 \ 68 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [ 18 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [ 26 \ 3 ] ، وَالْبَاخِعُ : هُوَ الْمُهْلِكُ نَفْسَهُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ غَيْلَانَ بْنِ عُقْبَةَ : [ الطَّوِيلُ ]
أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
وَقَوْلُهُ : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ ، فِي الْآيَتَيْنِ يُرَادُ بِهِ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ ، وَنَظِيرُهُ : فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ [ 11 \ 12 ] ، أَيْ لَا تُهْلِكْ نَفْسَكَ حَزَنًا عَلَيْهِمْ فِي الْأَوَّلِ ، وَلَا تَتْرُكْ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ فِي الثَّانِي .
[ ص: 477 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ .
قَالَ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ : الْمُرَادُ بِالْمَوْتَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ : الْكُفَّارُ ، وَتَدُلُّ لِذَلِكَ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ الْآيَةَ [ 6 \ 122 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [ 35 \ 22 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [ 35 \ 22 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قوله تعالى : قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون ، ذكر في هذه الآية الكريمة : أنه قادر على تنزيل الآية التي اقترحها الكفار على رسوله ، وأشار لحكمة عدم إنزالها بقوله : ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 6 \ 37 ] ، وبين في موضع آخر أن حكمة عدم إنزالها : أنها لو أنزلت ولم يؤمنوا بها لنزل بهم العذاب العاجل ، كما وقع بقوم صالح لما اقترحوا عليه إخراج ناقة عشراء ، وبراء ، جوفاء ، من صخرة صماء ، فأخرجها الله لهم منها بقدرته ومشيئته ، فعقروها وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا [ 7 \ 77 ] ، فأهلكهم الله دفعة واحدة بعذاب استئصال ، وذلك في قوله : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا [ 17 \ 59 ] ، وبين في مواضع أخر أنه لا داعي إلى ما اقترحوا من الآيات ; لأنه أنزل عليهم آية أعظم من جميع الآيات التي اقترحوها وغيرها ، وتلك الآية هي هذا القرآن العظيم ; وذلك في قوله : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ 29 \ 51 ] ، فإنكاره جل وعلا عليهم عدم الاكتفاء بهذا الكتاب عن الآيات المقترحة يدل على أنه أعظم وأفخم من كل آية ، وهو كذلك ; ألا ترى أنه آية واضحة ، ومعجزة باهرة ، أعجزت جميع أهل الأرض ، وهي باقية تتردد في آذان الخلق غضة طرية حتى يأتي أمر الله ، بخلاف غيره من معجزات الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فإنها كلها مضت وانقضت .
قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن المشركين إذا أتاهم عذاب من الله ، أو أتتهم الساعة أخلصوا الدعاء الذي هو مخ العبادة لله وحده ، ونسوا ما كانوا يشركون به ; لعلمهم أنه لا يكشف الكروب إلا الله وحده جل وعلا .
ولم يبين هنا نوع العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص لله ، ولم يبين هنا أيضا إذا كشف عنهم العذاب هل يستمرون على إخلاصهم ، أو يرجعون إلى كفرهم [ ص: 478 ] وشركهم ، ولكنه بين كل ذلك في مواضع أخر .
فبين أن العذاب الدنيوي الذي يحملهم على الإخلاص ، هو نزول الكروب التي يخاف من نزلت به الهلاك ، كأن يهيج البحر عليهم وتلتطم أمواجه ، ويغلب على ظنهم أنهم سيغرقون فيه إن لم يخلصوا الدعاء لله وحده ، كقوله تعالى : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق الآية [ 10 \ 22 ، 23 ] ، وقوله : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه [ 17 \ 67 ] ، وقوله : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين [ 29 \ 65 ] ، وقوله : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين [ 31 \ 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبين أنهم إذا كشف الله عنهم ذلك الكرب ، رجعوا إلى ما كانوا عليه من الشرك في مواضع كثيرة ، كقوله : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ، وقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ، وقوله : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [ 6 \ 64 ] ، وقوله : فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبين تعالى أن رجوعهم للشرك ، بعد أن نجاهم الله من الغرق ، من شدة جهلهم وعماهم ; لأنه قادر على أن يهلكهم في البر ، كقدرته على إهلاكهم في البحر ، وقادر على أن يعيدهم في البحر مرة أخرى ، ويهلكهم فيه بالغرق ، فجرأتهم عليه إذا وصلوا البر لا وجه لها ; لأنها من جهلهم وضلالهم ، وذلك في قوله : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 68 ، 69 ] .
قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن طرد ضعفاء المسلمين وفقرائهم الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، وأمره في آية أخرى أن يصبر نفسه معهم ، وأن لا تعدو عيناه عنهم إلى أهل الجاه والمنزلة في الدنيا ، ونهاه عن إطاعة الكفرة في ذلك وهي قوله :
[ ص: 479 ] واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [ 18 \ 28 ] ، كما أمره هنا بالسلام عليهم ، وبشارتهم برحمة ربهم جل وعلا في قوله :
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة الآية [ 6 \ 54 ] ، وبين في آيات أخر أن طرد ضعفاء المسلمين الذي طلبه كفار العرب من نبينا - صلى الله عليه وسلم - فنهاه الله عنه ، طلبه أيضا قوم نوح من نوح ، فأبى كقوله تعالى عنه : وما أنا بطارد الذين آمنوا الآية [ 11 \ 29 ] ، وقوله : ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية [ 11 \ 30 ] ، وقوله : وما أنا بطارد المؤمنين [ 26 \ 114 ] ، وهذا من تشابه قلوب الكفار المذكور في قوله تعالى : تشابهت قلوبهم الآية [ 2 \ 118 ] .
قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ، أجرى الله تعالى الحكمة بأن أكثر أتباع الرسل ضعفاء الناس ، ولذلك لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن نبينا - صلى الله عليه وسلم : " أأشراف الناس يتبعونه ، أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، قال : هم أتباع الرسل " .
فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أنه تعالى أشار إلى أن من حكمة ذلك فتنة بعض الناس ببعض ، فإن أهل المكانة والشرف والجاه يقولون : لو كان في هذا الدين خير لما سبقنا إليه هؤلاء ; لأنا أحق منهم بكل خير كما قال هنا : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الآية [ 6 \ 53 ] ، إنكارا منهم أن يمن الله على هؤلاء الضعفاء دونهم ، زعما منهم أنهم أحق بالخير منهم ، وقد رد الله قولهم هنا بقوله : أليس الله بأعلم بالشاكرين .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه الآية [ 46 \ 11 ] ، وقوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا [ 19 \ 73 ] .
والمعنى : أنهم لما رأوا أنفسهم أحسن منازل ومتاعا من ضعفاء المسلمين اعتقدوا أنهم أولى منهم بكل خير ، وأن اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو كان خيرا ما سبقوهم إليه ، ورد الله افتراءهم هذا بقوله : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا [ ص: 480 ] [ 19 \ 74 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 ، 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به الآية ، أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يخبر الكفار ، أن تعجيل العذاب عليهم الذي يطلبونه منه - صلى الله عليه وسلم - ليس عنده ، وإنما هو عند الله ، إن شاء عجله ، وإن شاء أخره عنهم ، ثم أمره أن يخبرهم بأنه لو كان عنده لعجله عليهم بقوله : قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم الآية [ 6 \ 58 ] .
وبين في مواضع أخر أنهم ما حملهم على استعجال العذاب إلا الكفر والتكذيب ، وأنهم إن عاينوا ذلك العذاب علموا أنه عظيم هائل ، لا يستعجل به إلا جاهل مثلهم ، كقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 11 \ 8 ] ، وقوله : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها الآية [ 42 \ 54 ] ، وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] ، وقوله : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون [ 10 \ 50 ] .
وبين في موضع آخر أنه لولا أن الله حدد لهم أجلا لا يأتيهم العذاب قبله لعجله عليهم ، وهو قوله :ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم الآية [ 29 \ 53 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-11-04, 04:47 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (77)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (3)
صـ 481 إلى صـ 485
تنبيه
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر الآية ، صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم ، مع أنه ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة - رضي الله عنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل الله إليه ملك الجبال ، وقال له : إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها ، فقال - صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا " .
والظاهر في الجواب : هو ما أجاب به ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ، [ ص: 481 ] وهو : أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم ، لعجله عليهم ، وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت ، بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم ، ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره .
قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية ، بين تعالى المراد بمفاتح الغيب بقوله : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير [ 31 \ 34 ] ، فقد أخرج البخاري ، وأحمد ، وغيرهما عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية المذكورة ، والمفاتح الخزائن ، جمع مفتح بفتح الميم بمعنى المخزن ، وقيل : هي المفاتيح ، جمع مفتح بكسر الميم ، وهو المفتاح ، وتدل له قراءة ابن السميقع .
" مفاتيح " بياء بعد التاء جمع مفتاح ، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، وهو كذلك ; لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا .
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " من زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبر بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية " ، والله يقول : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، أخرجه مسلم ، والله تعالى في هذه السورة الكريمة أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس أنه لا يعلم الغيب ، وذلك في قوله تعالى : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ 6 \ 50 ] .
ولذا لما رميت عائشة - رضي الله عنها - بالإفك ، لم يعلم ، أهي بريئة أم لا ، حتى أخبره الله تعالى بقوله : أولئك مبرءون مما يقولون [ 24 \ 26 ] .
وقد ذبح إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عجله للملائكة ، ولا علم له بأنهم ملائكة حتى أخبروه ، وقالوا له : إنا أرسلنا إلى قوم لوط [ 11 \ 70 ] ، ولما جاءوا لوطا لم يعلم أيضا أنهم ملائكة ، ولذا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب [ 11 \ 77 ] ، يخاف عليهم من أن يفعل بهم قومه فاحشتهم المعروفة ، حتى قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ 11 \ 80 ] ، ولم يعلم خبرهم حتى قالوا له : إنا رسل ربك لن يصلوا إليك الآيات [ 11 \ 81 ] .
[ ص: 482 ] ويعقوب - عليه السلام - ابيضت عيناه من الحزن على يوسف ، وهو في مصر لا يدري خبره حتى أظهر الله خبر يوسف .
وسليمان - عليه السلام - مع أن الله سخر له الشياطين والريح ، ما كان يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس حتى جاءه الهدهد ، وقال له : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين الآيات [ 27 \ 22 ] .
ونوح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله الموعود بنجاتهم ، حتى قال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق الآية [ 11 \ 45 ] ، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله : قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين [ 11 \ 46 ] .
وقد قال تعالى عن نوح في سورة هود : ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 6 \ 50 ] ، والملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما قال لهم : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا [ 2 \ 31 ، 32 ] .
فقد ظهر أن أعلم المخلوقات وهم الرسل ، والملائكة لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى ، وهو تعالى يعلم رسله من غيبه ما شاء ، كما أشار له بقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء [ 3 \ 179 ] ، وقوله : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 ، 27 ] .
تنبيه
لما جاء القرآن العظيم بأن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كان جميع الطرق التي يراد بها التوصل إلى شيء من علم الغيب غير الوحي من الضلال المبين ، وبعض منها يكون كفرا .
ولذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوما " ، ولا خلاف بين العلماء في منع العيافة ، والكهانة ، والعرافة ، والطرق ، والزجر ، والنجوم ، وكل ذلك يدخل في الكهانة ; لأنها تشمل جميع أنواع ادعاء الاطلاع على علم الغيب .
وقد سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الكهان ، فقال : " ليسوا بشيء " .
[ ص: 483 ] وقال القرطبي في تفسير هذه الآية ما نصه : فمن قال إنه ينزل الغيث غدا وجزم به ، فهو كافر ، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا ، وكذلك من قال إنه يعلم ما في الرحم فإنه كافر ، فإن لم يجزم ، وقال : إن النوء ينزل به الماء عادة ، وإنه سبب الماء عادة ، وإنه سبب الماء على ما قدره وسبق في علمه ، لم يكفر ، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به ، فإن فيه تشبيها بكلمة أهل الكفر ، وجهلا بلطيف حكمته ; لأنه ينزل متى شاء مرة بنوء كذا ، ومرة دون النوء .
قال الله تعالى : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب " ، على ما يأتي بيانه في الواقعة إن شاء الله تعالى .
قال ابن العربي : وكذلك قول الطبيب إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة ، فهو ذكر ، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى ، وادعى ذلك عادة لا واجبا في الخلقة لم يكفر ، ولم يفسق .
وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر ، أو أخبر عن الكوائن المجملة ، أو المفصلة ، في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا ، فأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر ، فقد قال علماؤنا : يؤدب ولا يسجن ، أما عدم كفره فلأن جماعة قالوا : إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل ، حسبما أخبر الله عنه من قوله : والقمر قدرناه منازل [ 36 \ 39 ] .
وأما أدبهم ، فلأنهم يدخلون الشك على العامة ، إذ لا يدرون الفرق بين هذا وغيره ، فيشوشون عقائدهم ، ويتركون قواعدهم في اليقين ، فأدبوا حتى يستروا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به .
قلت : ومن هذا الباب ما جاء في " صحيح مسلم " عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء ، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة " ، والعراف : هو الحازي والمنجم الذي يدعي علم الغيب ، وهي العرافة ، وصاحبها عراف ، وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها ، وقد يعتضد بعض أهل هذا الفن في ذلك بالزجر ، والطرق ، والنجوم ، وأسباب معتادة في ذلك ، وهذا الفن هو العيافة بالياء ، وكلها ينطلق عليها اسم الكهانة ، قاله القاضي عياض .
والكهانة : ادعاء علم الغيب .
قال أبو عمر بن عبد البر في " الكافي " : من المكاسب المجتمع على تحريمها [ ص: 484 ] الربا ، ومهور البغايا ، والسحت ، والرشا ، وأخذ الأجرة على النياحة والغناء ، وعلى الكهانة ، وادعاء الغيب ، وأخبار السماء ، وعلى الزمر واللعب ، والباطل كله . اهـ من القرطبي بلفظه ، وقد رأيت تعريفه للعراف والكاهن .
وقال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ، ومكان الضالة ونحو ذلك ، وقال أبو العباس بن تيمية : العراف : اسم للكاهن والمنجم والرمال ، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق .
والمراد بالطرق : قيل الخط الذي يدعي به الاطلاع على الغيب ، وقيل إنه الضرب بالحصى الذي يفعله النساء ، والزجر هو العيافة ، وهي التشاؤم والتيامن بالطير ، وادعاء معرفة الأمور من كيفية طيرانها ، ومواقعها ، وأسمائها ، وألوانها ، وجهاتها التي تطير إليها .
ومنه قول علقمة بن عبدة التميمي : [ البسيط ]
ومن تعرض للغربان يزجرها على سلامته لا بد مشئوم
وكان أشد العرب عيافة بنو لهب ، حتى قال فيهم الشاعر : [ الطويل ]
خبير بنو لهب فلا تك ملغيا مقالة لهبي إذا الطير مرت
وإليه الإشارة بقول ناظم عمود النسب : [ الرجز ]
في مدلج بن بكر القيافة كما للهب كانت العيافة
ولقد صدق من قال : [ الطويل ]
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
ووجه تكفير بعض أهل العلم لمن يدعي الاطلاع على الغيب ، أنه ادعى لنفسه ما استأثر الله تعالى به دون خلقه ، وكذب القرآن الوارد بذلك كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، وقوله هنا : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، ونحو ذلك .
وعن الشيخ أبي عمران من علماء المالكية : أن حلوان الكاهن لا يحل له ، ولا يرد لمن أعطاه له ، بل يكون للمسلمين في نظائر نظمها بعض علماء المالكية بقوله : [ الرجز ]
وأي مال حرموا أن ينتفع موهوبه به ورده منع
[ ص: 485 ] حلوان كاهن وأجرة الغنا ونائح ورشوة مهر الزنا
هكذا قيل ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن النوم وفاة ، وأشار في موضع آخر إلى أنه وفاة صغرى ، وأن صاحبها لم يمت حقيقة ، وأنه تعالى يرسل روحه إلى بدنه حتى ينقضي أجله ، وأن وفاة الموت التي هي الكبرى قد مات صاحبها ، ولذا يمسك روحه عنده ، وذلك في قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ 39 \ 42 ] .
قوله تعالى : ويرسل عليكم حفظة الآية ، لم يبين هنا ماذا يحفظون ، وبينه في مواضع أخر ، فذكر أن مما يحفظونه بدن الإنسان ، بقوله : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] ، وذكر أن مما يحفظونه جميع أعماله من خير وشر ، بقوله : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 ، 11 ، 12 ] ، وقوله : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 17 ، 18 ] ، وقوله : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون .
قوله تعالى : وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، نهى الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة عن مجالسة الخائضين في آياته ، ولم يبين كيفية خوضهم فيها ، التي هي سبب منع مجالستهم ، ولم يذكر حكم مجالستهم هنا ، وبين ذلك كله في موضع آخر ، فبين أن خوضهم فيها بالكفر والاستهزاء بقوله : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم الآية [ 4 \ 140 ] .
وبين أن من جالسهم في وقت خوضهم فيها مثلهم في الإثم ، بقوله : إنكم إذا مثلهم ، وبين حكم من جالسهم ناسيا ، ثم تذكر بقوله هنا : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، كما تقدم في سورة النساء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-06, 04:11 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (78)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (4)
صـ 486 إلى صـ 490
قوله تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ، الآيات ، قوله : هذا ربي [ 6 \ 76 ] ، في المواضع الثلاثة محتمل لأنه كان يظن ذلك ، كما روي عن ابن عباس وغيره ، [ ص: 486 ] ومحتمل ، لأنه جازم بعدم ربوبية غير الله ، ومراده هذا ربي في زعمكم الباطل ، أو أنه حذف أداة استفهام الإنكار ، والقرآن يبين بطلان الأول ، وصحة الثاني .
أما بطلان الأول : فالله تعالى نفى كون الشرك الماضي عن إبراهيم في قوله : وما كان من المشركين [ 3 \ 67 ] ، في عدة آيات ، ونفي الكون الماضي يستغرق جميع الزمن الماضي ، فثبت أنه لم يتقدم عليه شرك يوما ما .
وأما كونه جازما موقنا بعدم ربوبية غير الله ، فقد دل عليه ترتيب قوله تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي ، إلى آخره ، " بالفاء " على قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ 6 \ 75 ] ; فدل على أنه قال ذلك موقنا مناظرا ومحاجا لهم ، كما دل عليه قوله تعالى : وحاجه قومه [ 6 \ 80 ] ، وقوله : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه الآية [ 6 \ 83 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية ، المراد بالظلم هنا الشرك ، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في " صحيح البخاري " من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وقد بينه قوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 12 \ 254 ] ، وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] .
قوله تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم الآية ، قال مجاهد وغيره هي قوله تعالى : وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن الآية [ 6 \ 81 ] ، وقد صدقه الله ، وحكم له بالأمن والهداية ، فقال : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] .
والظاهر شمولها لجميع احتجاجاته عليهم ، كما في قوله : لا أحب الآفلين الآية [ 6 \ 76 ] ; لأن الأفول الواقع في الكوكب ، والشمس ، والقمر ، أكبر دليل وأوضح حجة على انتفاء الربوبية عنها ، وقد استدل إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - بالأفول على انتفاء الربوبية في قوله : لا أحب الآفلين ، فعدم إدخال هذه الحجة في قوله : وتلك حجتنا ، غير ظاهر ، وبما ذكرنا من شمول الحجة لجميع احتجاجاته المذكورة صدر [ ص: 487 ] القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون ، ذكر تعالى أن هؤلاء الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة لو أشركوا بالله لحبط جميع أعمالهم .
وصرح في موضع آخر بأنه أوحي هذا إلى نبينا والأنبياء قبله - عليهم كلهم صلوات الله وسلامه - وهو قوله : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك الآية [ 39 \ 65 ] ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع ، كقوله : قل إن كان للرحمن ولد الآية [ 43 \ 81 ] ، على القول بأن " إن " شرطية ، وقوله : لو أردنا أن نتخذ لهوا الآية [ 21 \ 17 ] ، وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا الآية [ 39 \ 41 ] .
قوله تعالى : ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ، أي : لا أحد أظلم ممن قال : أنزل مثل ما أنزل الله ، ونظيرها قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا [ 8 \ 31 ] ، وقد بين الله تعالى كذبهم في افترائهم هذا حيث تحدى جميع العرب بسورة واحدة منه ، كما ذكره تعالى في البقرة بقوله : فأتوا بسورة من مثله [ 2 \ 23 ] ، وفي يونس بقوله : قل فأتوا بسورة مثله [ 2 \ 38 ] ، وتحداهم في هود بعشر سور مثله في قوله : قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وتحداهم به كله في الطور بقوله : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .
ثم صرح في سورة بني إسرائيل بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله في قوله : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 \ 88 ] ، فاتضح بطلان دعواهم الكاذبة .
قوله تعالى : والملائكة باسطو أيديهم الآية ، لم يصرح هنا بالشيء الذي بسطوا إليه الأيدي ، ولكنه أشار إلى أنه التعذيب بقوله : أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الآية [ 6 \ 93 ] ، وصرح بذلك في قوله : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 8 \ 50 ] ، وبين في مواضع أخر أنه يراد ببسط اليد التناول بالسوء كقوله : ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء [ 60 \ 2 ] ، وقوله : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني الآية [ 5 \ 28 ] .
قوله تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ، [ ص: 488 ] ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يأتون يوم القيامة كل واحد منهم بمفرده ليس معهم شركاؤهم ، وصرح تعالى بأن كل واحد يأتي فردا في قوله : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 95 ] ، وقوله في هذه الآية : كما خلقناكم أول مرة [ 6 \ 94 ] ، أي منفردين لا مال ، ولا أثاث ، ولا رقيق ، ولا خول عندكم ، حفاة ، عراة ، غرلا ، أي : غير مختونين : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 4 ] ، وقد عرفت من الآية أن واحد الفرادى فرد ، ويقال فيه أيضا : فرد بالتحريك ، ومنه قول نابغة ذبيان : [ البسيط ]
من وحش وجرة موشي أكارعه طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
قوله تعالى : لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن الأنداد التي كانوا يعبدونها في الدنيا تضل عنهم يوم القيامة ، وينقطع ما كان بينهم وبينها من الصلات في الدنيا ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ، كقوله : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 6 ] ، وقوله : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] ، وقوله : إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] ، وقوله : أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون [ 26 \ 92 ، 93 ] ، وقوله هنا : وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم [ 6 \ 94 ] .
قوله تعالى : وجعل الليل سكنا ، أي : مظلما ساجيا ليسكن فيه الخلق ; فيستريحوا من تعب الكد بالنهار ، كما بينه قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا [ 10 \ 67 ] ، وقوله : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ 28 \ 71 ، 72 ، 73 ] ، وقوله : لتسكنوا فيه يعني : الليل ، ولتبتغوا من فضله يعني : بالنهار ، ومن آياته الليل والنهار الآية [ 41 \ 37 ] .
قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ، ظاهر هذه [ ص: 489 ] الآية الكريمة أن حكمة خلق النجوم هي الاهتداء بها فقط ، كقوله : وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 16 ] ، ولكنه تعالى بين في غير هذا الموضع أن لها حكمتين أخريين غير الاهتداء بها ؛ وهما تزيين السماء الدنيا ، ورجم الشياطين بها ، كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين الآية [ 67 \ 5 ] ، وقوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، 10 ] ، وقوله : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم [ 41 \ 12 ] .
قوله تعالى : وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر الآية ، لم يبين هنا كيفية إنشائهم من نفس واحدة ، ولكنه بين في مواضع أخر أن كيفيته أنه خلق من تلك الواحدة التي هي آدم زوجها حواء ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء كقوله : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] ، وقوله : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] .
قوله تعالى : لا تدركه الأبصار الآية ، أشار في مواضع أخر إلى أن نفي الإدراك المذكور هنا لا يقتضي نفي مطلق الرؤية ، كقوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 ، 23 ] ، وقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، والحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ، وقوله : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ 83 \ 15 ] ، يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه ، وهو كذلك .
قوله تعالى : وليقولوا درست الآية ، يعني ليزعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تعلم هذا القرآن بالدرس والتعليم من غيره من أهل الكتاب ، كما زعم كفار مكة أنه - صلى الله عليه وسلم - تعلم هذا القرآن من جبر ويسار ، وكانا غلامين نصرانيين بمكة ، وقد أوضح الله تعالى بطلان افترائهم هذا في آيات كثيرة ، كقوله : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] ، وقوله : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر [ 74 \ 24 ، 25 ، 26 ] ، ومعنى يؤثر : يرويه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن غيره في زعمهم الباطل ، وقوله : [ ص: 490 ] وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 4 ، 5 ، 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وفي قوله : درست [ 6 \ 105 ] ، ثلاث قراءات سبعيات :
قرأه ابن كثير ، وأبو عمر دارست بألف بعد الدال مع إسكان السين وفتح التاء من المفاعلة بمعنى : دارست أهل الكتاب ودارسوك حتى حصلت هذا العلم .
وقرأه بقية السبعة غير ابن عامر : درست بإسقاط الألف ، مع إسكان السين وفتح التاء أيضا ، بمعنى درست هذا على أهل الكتاب حتى تعلمته منهم .
وقرأه ابن عامر : درست بفتح الدال والراء والسين وإسكان التاء على أنها تاء التأنيث ، والفاعل ضمير عائد إلى الآيات المذكورة في قوله : وكذلك نصرف الآيات [ 6 \ 105 ] .
قال القرطبي : وأحسن ما قيل في قراءة ابن عامر أن المعنى : ولئلا يقولوا انقطعت وانمحت ، وليس يأتي محمد - صلى الله عليه وسلم - بغيرها . اهـ .
وقال القرطبي : وليقولوا درست ، الواو للعطف على مضمر ، أي : نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست ، وقيل : وليقولوا درست صرفناها .
قال مقيده - عفا الله عنه : ومعناهما آيل إلى شيء واحد ، ويشهد له القرآن في آيات كثيرة دالة على أنه يبين الحق واضحا في هذه الكتاب ، ليهدي به قوما ، ويجعله حجة على آخرين ، كقوله : لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى [ 41 \ 44 ] ، وقوله : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء [ 74 \ 31 ] ، كما قال هنا : وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون ، فالأشقياء يقولون : تعلمته من البشر بالدراسة ، وأهل العلم والسعداء يعلمون أنه الحق الذي لا شك فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-06, 04:12 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (79)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (5)
صـ 491 إلى صـ 495
قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن الآية ، ذكر تعالى في [ ص: 491 ] هذه الآية الكريمة أنه جعل لكل نبي عدوا ، وبين هنا أن أعداء الأنبياء هم شياطين الإنس والجن ، وصرح في موضع آخر أن أعداء الأنبياء من المجرمين ، وهو قوله : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين [ 25 \ 31 ] ; فدل ذلك على أن المراد بالمجرمين شياطين الإنس والجن ، وذكر في هذه الآية أن من الإنس شياطين ، وصرح بذلك في قوله : وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم الآية [ 2 \ 14 ] ، وقد جاء الخبر بذلك مرفوعا من حديث أبي ذر عند الإمام أحمد وغيره ، والعرب تسمي كل متمرد شيطانا ، سواء كان من الجن أو من الإنس كما ذكرنا ، أو من غيرهما ، وفي الحديث : " الكلب الأسود شيطان " ، وقوله : شياطين ، بدل من قوله : عدوا ، أو مفعول أول لـ " جعلنا " ، والثاني : " عدوا " ، أي : جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا .
قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن إطاعة أكثر أهل الأرض ضلال ، وبين في مواضع أخر أن أكثر أهل الأرض غير مؤمنين ، وأن ذلك واقع في الأمم الماضية ، كقوله : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 13 \ 1 ] ، وقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم الآية ، التحقيق أنه فصله لهم بقوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية [ 6 \ 145 ] ، ومعنى الآية : أي شيء يمنعكم أن تأكلوا ما ذكيتم ، وذكرتم عليه اسم الله ؟ ، والحال أن الله فصل لكم المحرم أكله عليكم في قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ 6 \ 145 ] ، وليس هذا منه .
وما يزعمه كثير من المفسرين من أنه فصله لهم بقوله : حرمت عليكم الميتة الآية [ 5 \ 3 ] ، فهو غلط ; لأن قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة من سورة المائدة ، وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة ، وقوله : وقد فصل لكم ما حرم عليكم [ 119 ] ، من سورة الأنعام ، وهي مكية ، فالحق هو ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه جعل في كل قرية أكابر المجرمين منها ليمكروا فيها ، [ ص: 492 ] ولم يبين المراد بالأكابر هنا ، ولا كيفية مكرهم ، وبين جميع ذلك في مواضع أخر : فبين أن مجرميها الأكابر هم أهل الترف ، والنعمة في الدنيا ، بقوله : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] ، وقوله : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] . ونحو ذلك من الآيات .
وبين أن مكر الأكابر المذكور : هو أمرهم بالكفر بالله تعالى ، وجعل الأنداد له بقوله : وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [ 34 \ 33 ] ، وقوله : ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم الآية [ 71 \ 22 ، 23 ] .
وأظهر أوجه الإعراب المذكورة في الآية عندي اثنان :
أحدهما : أن أكابر مضاف إلى مجرميها ، وهو المفعول الأول لجعل التي بمعنى صير ، والمفعول الثاني هو الجار والمجرور ، أعني في كل قرية .
والثاني : أن مجرميها مفعول أول ، و أكابر مفعول ثان ، أي : جعلنا مجرميها أكابرها ، والأكابر جمع الأكبر .
قوله تعالى : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ، يعنون أنهم لن يؤمنوا حتى يأتيهم الملائكة بالرسالة ، كما أتت الرسل ، كما بينه تعالى في آيات أخر ، كقوله : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا الآية [ 25 \ 21 ] ، وقوله : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا الآية [ 17 \ 92 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام الآية .
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن هذه الآية الكريمة ، فقيل : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ - صلى الله عليه وسلم - قال : " نور يقذف فيه ، فينشرح له ، وينفسح " ، قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : " الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " ، ويدل لهذا قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [ 39 \ 22 ] .
[ ص: 493 ] قوله تعالى : يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم الآية .
قال بعض العلماء : المراد بالرسل من الجن نذرهم الذين يسمعون كلام الرسل ، فيبلغونه إلى قومهم ; ويشهد لهذا أن الله ذكر أنهم منذرون لقومهم في قوله : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين [ 46 \ 29 ] .
وقال بعض العلماء : رسل منكم [ 6 \ 130 ] أي : من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس ; لأنه لا رسل من الجن ، ويستأنس لهذا القول بأن القرآن ربما أطلق فيه المجموع مرادا بعضه ، كقوله : وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] ، وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] ، مع أن العاقر واحد منهم ، كما بينه بقوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] . واعلم أن ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وغيره من أجلاء العلماء في تفسير هذه الآية : من أن قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ 55 \ 22 ] يراد به البحر الملح خاصة دون العذب غلط كبير ، لا يجوز القول به ; لأنه مخالف مخالفة صريحة لكلام الله تعالى ; لأن الله ذكر البحرين الملح والعذب بقوله : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج [ 35 \ 12 ] ، ثم صرح باستخراج اللؤلؤ والمرجان منها جميعا بقوله : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ، والحلية المذكورة هي اللؤلؤ والمرجان ، فقصره على الملح مناقض للآية صريحا ، كما ترى .
قوله تعالى : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون ، النفي في هذه الآية الكريمة منصب على الجملة الحالية ، والمعنى أنه لا يهلك قوما في حال غفلتهم ، أي عدم إنذارهم ، بل لا يهلك أحدا إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - كما بين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 494 ] قوله تعالى : ولكل درجات مما عملوا ، بين في موضع آخر : أن تفاضل درجات العاملين في الآخرة أكبر ، وأن تفضيلها أعظم من درجات أهل الدنيا ، وهو قوله : انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 \ 21 ] .
قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده الآية .
اختلف العلماء في المراد بهذا الحق المذكور هنا ، وهل هو منسوخ أو لا ؟ فقال جماعة من العلماء : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وممن قال بهذا أنس بن مالك ، وابن عباس ، وطاوس ، والحسن ، وابن زيد ، وابن الحنفية ، والضحاك ، وسعيد بن المسيب ، ومالك ، ونقله عنهم القرطبي ، نقله ابن كثير عن أنس وسعيد ، وغيرهما ، ونقله ابن جرير عن ابن عباس ، وأنس ، والحسن ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن المسيب ، وقتادة ، وطاوس ، ومحمد ابن الحنفية ، والضحاك ، وابن زيد .
وقال قوم : ليس المراد به الزكاة ، وإنما المراد به أنه يعطي من حضر من المساكين يوم الحصاد القبضة ، والضغث ، ونحو ذلك ، وحمله بعضهم على الوجوب ، وحمله بعضهم على الندب ، قال القرطبي : وقال علي بن الحسين ، وعطاء ، والحكم ، وحماد ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد : هو حق في المال سوى الزكاة ، أمر الله به ندبا ، وروي عن ابن عمر ، ومحمد ابن الحنفية أيضا ، ورواه أبو سعيد الخدري عنه - صلى الله عليه وسلم - قال مجاهد : إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل ، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ ، وإذا درسته وذريته فاطرح لهم منه ، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته .
وقال قوم : هو حق واجب غير الزكاة ، وهو غير محدد بقدر معين ، وممن قال به عطاء ، كما نقله عنه ابن جرير .
وقال قوم : هي منسوخة بالزكاة ، واختاره ابن جرير ، وعزاه الشوكاني في " تفسيره " لجمهور العلماء ، وأيده بأن هذه السورة مكية ، وآية الزكاة نزلت بالمدينة في السنة الثانية بعد الهجرة .
وقال ابن كثير : في القول بالنسخ نظر ; لأنه قد كان شيئا واجبا في الأصل ، ثم إنه فصل بيانه ، وبين مقدار المخرج وكميته ، قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة ، والله أعلم ، انتهى من ابن كثير .
ومراده أن شرع الزكاة بيان لهذا الحق لا نسخ له ، وممن روى عنه القول بالنسخ ابن [ ص: 495 ] عباس ، ومحمد ابن الحنفية ، والحسن ، والنخعي ، وطاوس ، وأبو الشعثاء ، وقتادة والضحاك ، وابن جريج ، نقله عنهم الشوكاني ، والقرطبي أيضا ونقله عن السدي وعطية ، ونقله ابن جرير أيضا عن ابن عباس ، وابن الحنفية ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم ، والحسن ، والسدي ، وعطية ، واستدل ابن جرير للنسخ بالإجماع على أن زكاة الحرث لا تؤخذ إلا بعد التذرية والتنقية ، وزكاة التمر لا تؤخذ إلا بعد الجذاذ ، فدل على عدم الأخذ يوم الحصاد ، فعلم أن الآية منسوخة ، أو أنها على سبيل الندب ، فالأمر واضح .
وعلى أن المراد بها الزكاة ، فقد أشير إلى أن هذا الحق المذكور هو جزء المال الواجب في النصاب في آيات الزكاة ، وهو المذكور في قوله : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض الآية [ 2 \ 267 ] ، وبينته السنة ، فإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه يحتاج هنا إلى بيان ثلاثة أشياء :
الأول : تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض .
الثاني : تعيين القدر الذي تجب فيه الزكاة منه .
الثالث : تعيين القدر الواجب فيه وسنبينها إن شاء الله مفصلة .
اعلم أولا أنه لا خلاف بين العلماء في وجوب الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب .
واختلف فيما سواها مما تنبته الأرض ، فقال قوم : لا زكاة في غيرها من جميع ما تنبته الأرض ، وروي ذلك عنالحسن ، وابن سيرين ، والشعبي .
وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى ، والثوري ، والحسن بن صالح ، وابن المبارك ، ويحيى بن آدم ، وإليه ذهب أبو عبيد .
وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب أبي موسى ، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى ، عن أبي بردة ، عن أبيه ، كما نقله عنهم القرطبي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-06, 04:13 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (80)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (6)
صـ 496 إلى صـ 500
واستدل أهل هذا القول بما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، أنه قال : إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وفي رواية عن أبيه ، عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " والعشر في التمر [ ص: 496 ] والزبيب والحنطة والشعير " ، وعن موسى بن طلحة عن عمر أنه قال : " إنما سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة في هذه الأربعة : الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب " .
وعن أبي بردة ، عن أبي موسى ، ومعاذ : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم ، فأمرهم ألا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة ، الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب " ، رواها كلها الدارقطني ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
قال مقيده - عفا الله عنه : أما ما رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده من أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة ، فإسناده واه ; لأنه من رواية محمد بن عبيد الله العزرمي ، وهو متروك ، قاله ابن حجر في " التلخيص " ، وما رواه الدارقطني من حديث موسى بن طلحة ، عن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما سن الزكاة في الأربعة المذكورة ، قال فيه أبو زرعة : موسى عن عمر مرسل ، قاله ابن حجر أيضا ، وما عزاه للدارقطني عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، ومعاذ ، رواه الحاكم ، والبيهقي ، عن أبي بردة ، عنهما .
وقال البيهقي : رواته ثقات ، وهو متصل ، قاله ابن حجر أيضا ، وقال مالك وأصحابه : تجب الزكاة في كل مقتات مدخر ، وذلك عنده في ثمار الأشجار ، إنما هو التمر والزبيب فقط ، ومشهور مذهبه وجوب الزكاة في الزيتون ، إذا بلغ حبه خمسة أوسق ، ولكنها تخرج من زيته بعد العصر ، فيخرج عشره أو نصف عشره على ما سيأتي ، فإن لم يبلغ حبه خمسة أوسق ، فلا زكاة عنده في زيته ، وحكم السمسم ، وبزر الفجل الأحمر ، والقرطم حكم الزيتون في مشهور مذهبه ، يخرج من زيتها إن بلغ حبها النصاب .
وقال اللخمي : لا يضم زيت بعضها إلى بعض لاختلاف أجناسها ، ومشهور مذهبه عدم وجوبها في التين ، وأوجبها فيه جماعة من أصحابه بمقتضى أصوله ، وقال ابن عبد البر : أظن مالكا ما كان يعلم أن التين ييبس ، ويقتات ، ويدخر ، ولو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب ، ولما عده مع الفواكه التي لا تيبس ، ولا تدخر كالرمان ، والفرسك ، والذي تجب فيه من الحبوب عنده هو ما يقتات ويدخر ، وذلك الحنطة ، والشعير ، والسلت والعلس ، والدخن ، والذرة ، والأرز ، والعدس ، والجلبان ، واللوبيا ، والجلجلان ، والترمس ، والفول ، والحمص ، والبسيلة .
ومشهور مذهبه أن الكرسنة لا زكاة فيها ; لأنها علف ، وعن أشهب وجوب الزكاة فيها ، وهي من القطاني على مشهور مذهبه في باب الربا ، دون باب الزكاة .
[ ص: 497 ] وقيل هي البسيلة ، وجميع أنواع القطاني عند مالك جنس واحد في الزكاة ، فلو حصد وسقا من فول ، ووسقا من حمص ، وآخر من عدس ، وآخر من جلبان ، وآخر من لوبيا ، وجب عليه أن يضم بعضها إلى بعض ، ويخرج الزكاة منها كل واحد بحسبه ، وكذلك يضم عنده القمح ، والشعير ، والسلت بعضها إلى بعض ، كالصنف الواحد ، وتخرج الزكاة منها كل بحسبه ، ولا يضم عنده تمر إلى زبيب ، ولا حنطة إلى قطنية ، ولا تمر إلى حنطة ، ولا أي جنس إلى جنس آخر ، غير ما ذكرنا عنه ضمه لتقارب المنفعة فيه عنده ، والنوع الواحد ، كالتمر ، والزبيب ، والحنطة يضم بعض أنواعه إلى بعض كصيحاني ، وبرني ، وسمراء ، ومحمولة ، وزبيب أسود ، وزبيب أحمر ، ونحو ذلك .
ولا زكاة عند مالك - رحمه الله - في شيء من الفواكه غير ما ذكرنا ، كالرمان - والتفاح - والخوخ والإجاص ، والكمثرى ، واللوز ، والجوز ، والجلوز ، ونحو ذلك كما لا زكاة عنده في شيء من الخضراوات ، قال في " الموطإ " : السنة التي لا اختلاف فيها عندنا ، والذي سمعت من أهل العلم : أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة ، الرمان ، والفرسك ، والتين ، وما أشبه ذلك ، وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه .
قال : ولا في القضب ، ولا في البقول كلها صدقة ، ولا في أثمانها إذا بيعت صدقة ، حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ، ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب . اهـ .
والفرسك : بكسر الفاء والسين بينها راء ساكنة آخره كاف - الخوخ ، وهي لغة يمانية ، وقيل : نوع مثله في القدر ، وهو أجرد أملس أحمر وأصفر جيد ، وقيل : ما ليس ينفلق عن نواة من الخوخ . وإذا كان الزرع أو الثمر مشتركا بين اثنين فأكثر ، فقد قال فيه مالك في " الموطإ " : في النخيل يكون بين الرجلين فيجذان منه ثمانية أوسق من التمر أنه لا صدقة عليهما فيها ، وأنه إن كان لأحدهما منها ما يجذ منه خمسة أوسق ، وللآخر ما يجذ أربعة أوسق ، أو أقل من ذلك في أرض واحدة ، كانت الصدقة على صاحب الخمسة الأوسق ، وليس على الذي جذ أربعة أوسق أو أقل منها صدقة ، وكذلك العمل في الشركاء كلهم في كل زرع من الحبوب كلها يحصد ، أو النخل يجذ ، أو الكرم يقطف ، فإنه إذا كان كل رجل منهم يجذ من التمر ، أو يقطف من الزبيب خمسة أوسق ، أو يحصد من الحنطة خمسة أوسق ، فعليه الزكاة ، ومن كان حقه أقل من خمسة أوسق ، فلا صدقة عليه .
وإنما تجب الصدقة على من بلغ جذاذه ، أو قطافه ، أو حصاده خمسة أوسق ، انتهى من [ ص: 498 ] " موطإ " مالك - رحمه الله .
وإذا أمسك ذلك الحب أو التمر الذي أخرج زكاته سنين ، ثم باعه - فحكمه عند مالك ما ذكره في " موطئه " حيث قال : السنة عندنا أن كل ما أخرجت زكاته من هذه الأصناف كلها الحنطة ، والتمر ، والزبيب ، والحبوب كلها ، ثم أمسكه صاحبه بعد أن أدى صدقته سنين ، ثم باعه ، أنه ليس عليه في ثمنه زكاة ، حتى يحول على ثمنه الحول من يوم باعه ، إذا كان أصل تلك الأصناف من فائدة أو غيرها ، وأنه لم يكن للتجارة .
وإنما ذلك بمنزلة الطعام ، والحبوب ، والعروض يفيدها الرجل ، ثم يمسكها سنين ، ثم يبيعها بذهب أو ورق ، فلا يكون عليه في ثمنها زكاة حتى يحول عليها الحول من يوم باعها ، فإن كان أصل تلك العروض للتجارة ; فعلى صاحبها فيها الزكاة حين يبيعها ، إذا كان حبسها سنة من يوم زكى المال الذي ابتاعها به ، انتهى في " الموطإ " ، وهذا في المحتكر ، أما المدير فإنه يقومها بعد حول من زكاته ، كما في " المدونة " عن ابن القاسم .
هذا هو حاصل مذهب مالك - رحمه الله - فيما تجب فيه الزكاة من الثمار والحبوب ، ومذهب الشافعي - رحمه الله : أنه لا تجب الزكاة في شيء من ثمار الأشجار أيضا ، إلا فيما كان قوتا يدخر ، وذلك عنده التمر والزبيب فقط ، كما تقدم عن مالك ، ولا تجب عنده في سواهما من الثمار كالتين ، والتفاح ، والسفرجل ، والرمان ، ونحو ذلك ; لأنه ليس من الأقوات ولا من الأموال المدخرة ، ولا تجب عنده في طلع الفحال ; لأنه لا يجيء منه الثمار .
واختلف قوله في الزيتون ، فقال في القديم ، تجب فيه الزكاة ; لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه جعل في الزيت العشر ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : في الزيتون الزكاة ، وقال في الجديد : لا زكاة في الزيتون ; لأنه ليس بقوت فهو كالخضراوات .
واختلف قول الشافعي - رحمه الله - أيضا في الورس ، فقال في القديم : تجب فيه الزكاة ، لما روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كتب إلى بني خفاش ، أن أدوا زكاة الذرة والورس ، وقال في الجديد : لا زكاة فيه ; لأنه نبت لا يقتات ، فأشبه الخضراوات ، وقال الشافعي - رحمه الله - من قال : لا عشر في الورس لم يوجب في الزعفران ، ومن قال : يجب في الورس ، فيحتمل أن يوجب في الزعفران ; لأنهما [ ص: 499 ] طيبان ، ويحتمل ألا يوجب في الزعفران ، ويفرق بينهما بأن الورس شجر له ساق ، والزعفران نبات ، واختلف قوله أيضا في العسل فقال في القديم : يحتمل أن تجب فيه ، ووجهه ما روي أن بني شبابة " بطن من فهم " كانوا يؤدون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نحل كان عندهم العشر ، من عشر قرب قربة ، وقال في الجديد : لا تجب ; لأنه ليس بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض .
واختلف قوله أيضا في القرطم ، وهو حب العصفر ، فقال في القديم : تجب إن صح فيه حديث أبي بكر - رضي الله عنه - وقال في الجديد : لا تجب ; لأنه ليس بقوت ، فأشبه الخضراوات ، قاله كله صاحب " المهذب " ، وقال النووي في " شرح المهذب " : الأثر المروي عن عمر : " أنه جعل في الزيت العشر " ، ضعيف ، رواه البيهقي ، وقال : إسناده منقطع ، وراويه ليس بقوي ، قال : وأصح ما روي في الزيتون قول الزهري : مضت السنة في زكاة الزيتون ، أن يؤخذ ممن عصر زيتونه حين يعصره ، فيما سقت السماء أو كان بعلا العشر ، وفيما سقي برش الناضح نصف العشر ، وهذا موقوف لا يعلم اشتهاره ، ولا يحتج به على الصحيح .
وقال البيهقي : وحديث معاذ بن جبل ، وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - أعلى ، وأولى أن يؤخذ به ، يعني روايتهما : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهما ، لما بعثهما إلى اليمن : " لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة : الشعير ، والحنطة ، والتمر ، والزبيب " .
وأما الأثر المذكور عن ابن عباس فضعيف أيضا ، والأثر المذكور عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ضعيف أيضا ، ذكره الشافعي وضعفه هو وغيره ، واتفق الحفاظ على ضعفه ، واتفق أصحابنا في كتب المذهب على ضعفه ، قال البيهقي : ولم يثبت في هذا إسناد تقوم به حجة ، قال : والأصل عدم الوجوب فلا زكاة فيما لم يرد فيه حديث صحيح ، أو كان في معنى ما ورد به حديث صحيح ، وأما حديث بني شبابة في العسل فرواه أبو داود ، والبيهقي ، وغيرهما من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده بإسناد ضعيف ، قال الترمذي في جامعه : لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا كبير شيء ، قال البيهقي : قال الترمذي في كتاب " العلل " : قال البخاري : ليس في زكاة العسل شيء يصح .
فالحاصل أن جميع الآثار ، والأحاديث التي في هذا الفصل ضعيفة ، انتهى كلام [ ص: 500 ] النووي .
وقال ابن حجر في " التلخيص " في أثر عمر المذكور في الزيتون : رواه البيهقي بإسناد منقطع ، والراوي له عثمان بن عطاء ضعيف ، قال : وأصح ما في الباب قول ابن شهاب : " مضت السنة في زكاة الزيتون " إلخ .
وقال في " التلخيص " أيضا ، في أثر ابن عباس المذكور في الزيتون : ذكره " صاحب المهذب " ، عن ابن عباس ، وضعفه النووي ، وقد أخرجه ابن أبي شيبة ، وفي إسناده ليث بن أبي سليم .
وقال ابن حجر أيضا : روى الحاكم في تاريخ " نيسابور " من طريق عروة ، عن عائشة مرفوعا : " الزكاة في خمس : في البر ، والشعير ، والأعناب ، والنخيل ، والزيتون " ، وفي إسناده عثمان بن عبد الرحمن ، وهو الوقاصي : متروك الحديث .
وقال ابن حجر في الأثر المذكور عن أبي بكر : أنه كان يأخذ الزكاة من حب العصفر ، وهو القرطم ، لم أجد له أصلا ، وقال في " التلخيص " أيضا في خبر أخذه - صلى الله عليه وسلم - زكاة العسل : أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " في العسل في كل عشرة أزقاق زق " ، وقال في إسناده مقال ، ولا يصح ، وفي إسناده صدقة السمين ، وهو ضعيف الحفظ .
وقد خولف ، وقال النسائي : هذا حديث منكر ، ورواه البيهقي ، وقال : تفرد به صدقة ، وهو ضعيف ، وقد تابعه طلحة بن زيد ، عن موسى بن يسار ، ذكره المروزي ، ونقل عن أحمد تضعيفه ، وذكر الترمذي أنه سأل البخاري عنه ، فقال : هو عن نافع ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل ، ونقل الحاكم في تاريخ " نيسابور " ، عن أبي حاتم ، عن أبيه ، قال : حدث محمد بن يحيى الذهلي بحديث كاد أن يهلك ، حدث عن عارم ، عن ابن المبارك ، عن أسامة بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا : " أخذ من العسل العشر " .
قال أبو حاتم : وإنما هو عن أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده كذلك : حدثناه عارم ، وغيره قال : ولعله سقط من كتابه عمرو بن شعيب ، فدخله هذا الوهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-06, 04:14 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (81)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (7)
صـ 501 إلى صـ 505
قال الترمذي : وفي الباب عن عبد الله بن عمرو ، قلت : رواه أبو داود والنسائي من [ ص: 501 ] رواية عمرو بن الحارث المصري ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : " جاء هلال " أحد بني متعان " إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعشور نحل له ، وسأله أن يحمي واديا له يقال له " سلبة " فحماه له ، فلما ولى عمر كتب إلى سفيان بن وهب ، إن أدى إليك ما كان يؤدي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عشور نحله فاحم له سلبة ، وإلا فإنما هو ذباب غيث يأكله من يشاء .
قال الدارقطني : يروى عن عبد الرحمن بن الحارث ، وابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب مسندا ، ورواه يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن عمرو بن شعيب مرسلا ، عن عمر مرسلا ، قلت : فهذه علته ، وعبد الرحمن ، وابن لهيعة ليسا من أهل الإتقان ، ولكن تابعهما عمرو بن الحارث أحد الثقات ، وتابعهما أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب عند ابن ماجه ، وغيره كما مضى .
قال الترمذي : وفيه عن أبي سيارة ، قلت : هو المتعي ، قال : " قلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لي نحلا ، قال : " أد العشور " ، قال : قلت يا رسول الله احم لي جبلها ، رواه أبو داود ، وابن ماجه ، والبيهقي من رواية سليمان بن موسى ، عن أبي سيارة ، وهو منقطع .
قال البخاري : لم يدرك سليمان أحدا من الصحابة ، وليس في زكاة العسل شيء يصح ، وقال أبو عمر : لا تقوم بهذا حجة ، قال : وعن أبي هريرة ، قلت : رواه البيهقي ، وفي إسناده عبد الله بن محرر ، وهو متروك ، ورواه أيضا من حديث سعد بن أبي ذباب : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمله على قومه ، وأنه قال لهم : " أدوا العشر في العسل " ، وأتى به عمر ، فقبضه ، فباعه ، ثم جعله في صدقات المسلمين " ، وفي إسناده منير بن عبد الله ضعفه البخاري ، والأزدي ، وغيرهما .
قال الشافعي : وسعد بن أبي ذباب ، يحكي ما يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر فيه بشيء ، وأنه شيء رآه هو فتطوع له به قومه ، وقال الزعفراني ، عن الشافعي : الحديث في أن في العسل العشر ضعيف ، واختياري أنه لا يؤخذ منه ، وقال البخاري : لا يصح فيه شيء .
وقال ابن المنذر : ليس فيه شيء ثابت ، وفي " الموطأ " عن عبد الله بن أبي بكر قال : " جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي ، وهو بمنى : ألا تأخذ من الخيل ، ولا من العسل صدقة " ، انتهى كلام ابن حجر بلفظه .
[ ص: 502 ] وقال في " التلخيص " أيضا : إن حديث معاذ : أنه لم يأخذ زكاة العسل ، وأنه قال : " لم يأمرني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء " ، أخرجه أبو داود في " المراسيل " ، والحميدي في " مسنده " ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي من طريق طاوس عنه ، وفيه انقطاع بين طاوس ومعاذ ، لكن قال البيهقي : هو قوي ; لأن طاوسا كان عارفا بقضايا معاذ .
قال مقيده - عفا الله عنه : ولا شك أن إخراج زكاته أحوط ، وهو مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - ونقله صاحب " المغني " عن مكحول ، والزهري ، وسليمان بن موسى ، والأوزاعي ، وإسحاق .
وحجتهم الأحاديث التي رأيت ، ولا شيء فيه عند مالك ، والشافعي في الجديد ، وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح ، وابن المنذر ، وغيرهم .
وحجتهم عدم صحة ما ورد فيه ، وأن الأصل براءة الذمة ، وأنه مائع خارج من حيوان فأشبه اللبن .
وقال أبو حنيفة : إن كان في أرض للعشر ففيه الزكاة ، وإلا فلا زكاة فيه ، ونصاب العسل ، قيل : خمسة أفراق ، وهو قول الزهري ، وقيل : خمسة أوسق ، وبه قال أبو يوسف ، ومحمد .
وقال أبو حنيفة : تجب في قليله وكثيره ، والفرق ستة عشر رطلا بالعراقي ، وقيل : ستون رطلا ، وقيل : مائة وعشرون رطلا ، وقيل : ثلاثة آصع ، وقيل : غير ذلك . قاله في " المغني " .
وأما الحبوب : فلا تجب الزكاة عند الشافعي إلا فيما يقتات ويدخر منها ، ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه التي لا تقتات ولا تدخر ، ولا في شيء من الخضراوات ، فمذهبه يوافق مذهب مالك ، كما قدمنا ، إلا أن الشافعي لا يضم بعض الأنواع إلى بعض ، ومالك يضم القطاني بعضها إلى بعض في الزكاة ، وكذلك القمح ، والشعير ، والسلت ، كما تقدم .
وأما مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - فهو وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض ، مما ييبس ، ويبقى ، مما يكال . فأوصاف المزكي عنده مما تنبته الأرض ثلاثة : وهي الكيل ، والبقاء ، واليبس ، فما كان كذلك من الحبوب والثمار وجبت فيه عنده ، سواء كان قوتا أم لا ، وما لم يكن كذلك لم تجب فيه ; فتجب عنده في الحنطة ، والشعير ، والسلت ، [ ص: 503 ] والأرز ، والذرة ، والدخن ، والقطاني كالباقلا ، والعدس ، والحمص ، والأبازير كالكمون ، والكراويا ، والبزر كبزر الكتان ، والقثاء ، والخيار ، وحب البقول كالرشاد ، وحب الفجل ، والقرطم ، والسمسم ، ونحو ذلك من سائر الحبوب ، كما تجب عنده أيضا فيما جمع الأوصاف المذكورة من الثمار ، كالتمر ، والزبيب ، واللوز ، والفستق ، والبندق . ولا زكاة عنده في شيء من الفواكه : كالخوخ ، والإجاص ، والكمثرى ، والتفاح ، والتين ، والجوز ، ولا في شيء من الخضر : كالقثاء ، والخيار ، والباذنجان ، واللفت ، والجزر ، ونحو ذلك .
ويروى نحو ما ذكرنا عن أحمد في الحبوب ، عن عطاء ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وقال أبو عبد الله بن حامد : لا شيء في الأبازير ، ولا البزر ، ولا حب البقول .
قال صاحب " المغني " : ولعله لا يوجب الزكاة إلا فيما كان قوتا ، أو أدما ; لأن ما عداه لا نص فيه ، ولا هو في معنى المنصوص ; فيبقى على النفي الأصلي . ولا زكاة في مشهور مذهب أحمد - رحمه الله - فيما ينبت من المباح الذي لا يملك ، إلا بأخذه : كالبطم ، وشعير الجبل ، وبزر قطونا ، وبزر البقلة ، وحب النمام ، وبزر الأشنان ، ونحو ذلك ، وعن القاضي : أنه تجب فيه الزكاة ، إذا نبت بأرضه .
والصحيح الأول ، فإن تساقط في أرضه حب كحنطة مثلا فنبت ، ففيه الزكاة ; لأنه يملكه . ولا تجب الزكاة فيما ليس بحب ، ولا ثمر ، سواء وجد فيه الكيل والادخار أو لم يوجد ، فلا تجب في ورق مثل ورق السدر ، والخطمي ، والأشنان ، والصعتر ، والآس ، ونحوه ; لأنه ليس بمنصوص عليه ، ولا في معنى المنصوص ، ولا زكاة عنده في الأزهار : كالزعفران ، والعصفر ، والقطن ; لأنها ليست بحب ، ولا ثمر ، ولا هي بمكيل ; فلم تجب فيها زكاة كالخضراوات .
قال الإمام أحمد - رحمه الله : ليس في القطن شيء ، وقال : ليس في الزعفران زكاة ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
واختلفت عن أحمد - رحمه الله - الرواية في الزيتون : فروى عنه ابنه صالح : أن فيه الزكاة ، وروي عنه : أنه لا زكاة فيه ، وهو اختيار أبي بكر ، وظاهر كلام الخرقي يقتضيه ، قاله أيضا صاحب المغني ، وأما أبو حنيفة - رحمه الله - فإنه قائل بوجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض ، طعاما كان أو غيره ، وقال أبو يوسف عنه : إلا الحطب ، والحشيش ، والقصب ، والتبن ، والسعف ، وقصب الذريرة ، وقصب السكر . اهـ . والذريرة : قصب [ ص: 504 ] يجاء به من الهند ، كقصب النشاب ، أحمر يتداوى به ، وممن قال مثل قول أبي حنيفة النخعي ، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز ، وهو قول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، ونصره ابن العربي المالكي في أحكامه ، قال : وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق . هذا هو حاصل مذاهب الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - في تعيين ما تجب فيه الزكاة مما تنبته الأرض ، وسنشير إن شاء الله إلى دليل كل واحد منهم فيما ذهب إليه .
أما أبو حنيفة : فقد احتج على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض من قليل وكثير بعموم هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها ; لأن الله قال فيها : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] الآية ، وبعموم قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض الآية [ 2 \ 267 ] ، وبعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، الحديث ، ولم يقبل تخصيصه بحديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ; لأن القاعدة المقررة في أصوله - رحمه الله : أن العام قطعي الشمول ، والتناول لجميع أفراده كما أشار له في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
وهو على فرد يدل حتما وفهم الاستغراق ليس جزما بل هو عند الجل بالرجحان
والقطع فيه مذهب النعمان
فما كان أقل من خمسة أوسق يدخل عنده دخولا مجزوما به في عموم الآيات المذكورة والحديث ، فلا يلزم عنده تخصيص العام بالخاص ، بل يتعارضان ، وتقديم ما دل على الوجوب أولى من تقديم ما دل على غيره للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب .
وأما مالك والشافعي - رحمهما الله تعالى - فحجتهما في قولهما : إنه لا زكاة غير النخل والعنب من الأشجار ، ولا في شيء من الحبوب إلا فيما يقتات ويدخر ، ولا زكاة في الفواكه ولا الخضراوات ; لأن النص والإجماع دلا على وجوب الزكاة في الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وكل واحد منها مقتات مدخر ، فألحقوا بها كل ما كان في معناها لكونه مقتاتا ومدخرا ، ولم يريا أن في الأشجار مقتاتا ولا مدخرا غير التمر والزبيب ; فلم يشاركهما في العلة غيرهما من الثمار ، ولذا قال جماعة من أصحاب مالك بوجوبها في التين [ ص: 505 ] على أصول مذهب مالك ; لأنه كالزبيب في الاقتيات والادخار .
وقال ابن عبد البر : الظاهر أن مالكا ما كان يعلم أن التين كذلك ، وأما الحبوب فيوجد فيها الاقتيات والادخار ، فألحقا بالحنطة والشعير كل ما كان مقتاتا مدخرا ، كالأرز ، والذرة ، والدخن ، والقطاني ، ونحو ذلك ، فهو إلحاق منهما - رحمهما الله - للمسكوت بالمنطوق ; بجامع العلة التي هي عندهما الاقتيات والادخار ; لأن كونه مقتاتا مدخرا مناسب لوجوب الصدقة فيه ; لاحتياج المساكين إلى قوت يأكلون منه ويدخرون .
وأما أحمد - رحمه الله - فحجته في قوله : إن الزكاة تجب فيما يبقى وييبس ويكال ، أما ما لا ييبس ولا يبقى ، كالفواكه ، والخضراوات ، لم تكن تؤخذ منه الزكاة في زمنه - صلى الله عليه وسلم - ولا زمن الخلفاء الراشدين .
ودليله في اشتراطه الكيل قوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ، قال : فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن محل الواجب في الوسق ، وهو خاص بالمكيل ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .
أما دليل الجمهور منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - على أن الفواكه والخضراوات لا زكاة فيها فظاهر ; لأن الخضراوات كانت كثيرة بالمدينة جدا ، والفواكه كانت كثيرة بالطائف ، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من أصحابه أنه أخذ الزكاة من شيء من ذلك .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية : وقد كان بالطائف الرمان ، والفرسك ، والأترج ، فما اعترضه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا ذكره ، ولا أحد من خلفائه ، قلت : وهذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة ، وأن الخضراوات ليس فيها شيء ، وأما الآية فقد اختلف فيها : هل هي محكمة أو منسوخة ، أو محمولة على الندب ؟ ولا قاطع يبين أحد محاملها ، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه : أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعد استقرار الأحكام بالمدينة ، أفيجوز أن يتوهم متوهم ، أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ، ولا خلافة أبي بكر حتى عمل بذلك الكوفيون ؟ إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا ، أو قال به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-06, 04:14 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (82)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (8)
صـ 506 إلى صـ 510
قلت : ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته [ 5 \ 67 ] ، أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه [ ص: 506 ] أو بيانه ؟ حاشاه من ذلك ، وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ 5 \ 3 ] ، ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا ، وقال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - فيما رواه الدارقطني : إن المقاثئ كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء . وقال الزهري والحسن : تزكى أثمان الخضر إذا أينعت وبلغ الثمن مائتي درهم ، وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه ، ولا حجة في قولهما لما ذكرنا .
وقد روى الترمذي عن معاذ : أنه كتب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله عن الخضراوات ، وهي البقول ، فقال : " ليس فيها شيء " ، وقد روي هذا المعنى عن جابر ، وأنس ، وعلي ، ومحمد بن عبد الله بن جحش ، وأبي موسى ، وعائشة ، ذكر أحاديثهم الدارقطني - رحمه الله - وقال الترمذي : ليس يصح في هذا الباب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء ، واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة - رحمه الله - بحديث صالح بن موسى عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة " ، قال أبو عمر : وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا ، وإنما هو من قول إبراهيم .
قلت وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها ، لم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية ، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، بما ذكرنا . اهـ . كلام القرطبي .
وحجة من قال : بأنه لا زكاة في غير الأربعة المجمع عليها التي هي : الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، هي الأحاديث التي قدمنا في أول هذا المبحث ، وفيها حديث معاذ وأبي موسى الذي تقدم عن البيهقي أنه قوي متصل ، وقال أبو يوسف ومحمد : ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية ، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة ، وكان محمد يعتبر في العصفر ، والكتان ، والبزر ، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق ; كان العصفر والكتان تبعا للبزر ، وأخذ منه العشر أو نصف العشر ، وأما القطن فليس عنده فيما دون خمسة أحمال شيء ، والحمل ثلاثمائة من بالعراقي ، والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منهما شيء ، فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة ، وقال أبو يوسف : وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر ، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج فيه ما في الزعفران ، وأوجب عبد الملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول ، وهو مخالف لما عليه أهل مذهبه مالك وأصحابه . قاله القرطبي .
[ ص: 507 ] تنبيه
من قال : لا زكاة في الرمان ، وهم جمهور العلماء ، ومن قال : لا زكاة في الزيتون ، يلزم على قول كل منهم أن تكون الآية التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ، منسوخة أو مرادا بها غير الزكاة ; لأنها على تقدير أنها محكمة ، وأنها في الزكاة المفروضة ، لا يمكن معها القول بعدم زكاة الزيتون والرمان ; لأنها على ذلك صريحة فيها ; لأن المذكورات في قوله تعالى : والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ، يرجع إلى كلها الضمير في قوله : كلوا من ثمره [ 6 \ 141 ] ، وقوله : وآتوا حقه يوم حصاده ، كما هو واضح لا لبس فيه . فيدخل فيه الزيتون والرمان دخولا أوليا لا شك فيه ، فقول أكثر أهل العلم بعدم الزكاة في الرمان يقوي القول بنسخ الآية ، أو أنها في غير الزكاة المفروضة ، والله تعالى أعلم ، وعنأبي يوسف : أنه أوجب الزكاة في الحناء ، واعلم أن مذهب داود بن علي الظاهري في هذه المسألة قوي جدا من جهة النظر ; لأنه قال : ما أنبتته الأرض ضربان : موسق ، وغير موسق ، فما كان موسقا وجبت الزكاة فيما بلغ منه خمسة أوسق ; لقوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ولا زكاة فيما دونها منه " ، وما كان غير موسق ففي قليله وكثيره الزكاة ; لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " ، ولا يخصص بحديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ; لأنه غير موسق أصلا .
قال مقيده - عفا الله عنه : وهذا القول هو أسعد الأقوال بظاهر النصوص وفيه نوع من الجمع بينها ، إلا أنه يرد عليه ما قدمنا من أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتعرض للخضراوات مع كثرتها في المدينة ، ولا الفواكه مع كثرتها بالطائف ، ولو كان العموم شاملا لذلك لبينه - صلى الله عليه وسلم - وإذا عرفت كلام العلماء في تعيين ما تجب فيه الزكاة ، وأدلة أقوالهم مما ذكرنا .
فاعلم أن جمهور العلماء قالوا : لا تجب الزكاة إلا في خمسة أوسق فصاعدا ; لقوله - صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " الحديث . أخرجه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ومسلم من حديث جابر - رضي الله عنه .
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - وأصحابهم ، وهو قول ابن عمر ، وجابر ، وأبي أمامة بن سهل ، وعمر بن عبد العزيز ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وعطاء ، ومكحول ، والحكم ، والنخعي ، وأهل المدينة ، والثوري والأوزاعي ، وابن أبي [ ص: 508 ] ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وسائر أهل العلم ، كما نقله عنهم ابن قدامة وغيره .
وقال ابن قدامة في " المغني " : لا نعلم أحدا خالف فيه إلا أبا حنيفة ، ومن تابعه ، ومجاهدا ، وقد أجمع جميع العلماء على أن الوسق ستون صاعا ، وهو بفتح الواو وكسرها والفتح أشهر وأفصح ، وقيل : هو بالكسر اسم وبالفتح مصدر ، ويجمع على أوسق في القلة وأوساق ، وعلى وسوق في الكثرة . واعلم أن الصاع أربعة أمداد بمده - صلى الله عليه وسلم - والمد بالتقريب : ملء اليدين المتوسطتين ، لا مقبوضتين ولا مبسوطتين ، وتحديده بالضبط وزن رطل وثلث بالبغدادي ، فمبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد ، ومن الصيعان ثلاثمائة ، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل ، والرطل : وزن مائة وثمانية وعشرين درهما مكيا ، وزاد بعض أهل العلم أربعة أسباع درهم ، كل درهم وزن خمسين وخمسي حبة من مطلق الشعير ، كما حرره علماء المالكية ، ومالك - رحمه الله - من أدرى الناس بحقيقة المد والصاع كما هو معلوم ، وقيل فيه غير ما ذكرنا .
وأما الحكم الثالث من أحكام هذه المسألة الثالثة المذكورة في أول هذا المبحث ، وهو تعيين القدر الواجب إخراجه ، فلا خلاف فيه بين العلماء وهو العشر فيما ليس في سقيه مشقة ، كالذي يسقيه المطر ، أو النهر ، أو عروقه في الأرض ، وأما ما يسقى بالآلة كالذي يسقى بالنواضح ففيه نصف العشر ، وهذا ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث جابر ، وابن عمر ، فإن سقى تارة بمطر السماء مثلا ، وتارة بالسانية فإن استويا فثلاثة أرباع العشر ، بلا خلاف بين العلماء ، وإن كان أحد الأمرين أغلب فقيل : يغلب الأكثر ويكون الأقل تبعا له ، وبه قال أحمد ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وعطاء ، وهو أحد قولي الشافعي ، وقيل : يؤخذ بالتقسيط ، وهذان القولان كل منهما شهره بعض المالكية ، وحكى بعضهم رواية عن مالك : أن المعتبر ما حيي به الزرع وتم ، وممن قال بالتقسيط من الحنابلة : ابن حامد ، فإن جهل المقدار وجب العشر احتياطا ، كما نص عليه الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - في رواية عبد الله ، قاله في " المغني " ; وعلله بأن الأصل وجوب العشر وإنما يسقط نصفه بتحقق الكلفة ، وإذا لم يتحقق المسقط وجب البقاء على الأصل وهو ظاهر جدا . وإن اختلف الساعي ورب المال في أيهما سقى به أكثر ؟ فالقول قول رب المال بغير يمين ; لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم ، ولا وقص في الحبوب والثمار ، بل كل ما زاد على النصاب أخرج منه بحسبه .
[ ص: 509 ] مسائل تتعلق بهذا المبحث
المسألة الأولى : قد قدمنا إجماع العلماء على وجوب الزكاة في التمر والزبيب ، وجمهورهم على أنهما يخرصان إذا بدا صلاحهما ; لأن المالكين يحتاجون إلى أكل الرطب والعنب ; فبسبب ذلك شرع خرص التمر والعنب ، ويخرص كل واحد منهما شجرة شجرة ، حتى يعلم قدر ما في الجميع الآن من الأوساق ، ثم يسقط منه قدر ما ينقصه الجفاف ، فلو كان فيه خمسة أوسق من العنب أو الرطب ، وإذا جف كانت أربعة أوسق مثلا ، فلا زكاة فيه ; لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين ، لا من الرطب والعنب ، وإذا خرص على الوجه الذي ذكرنا خلى بين مالكيه وبينه ، وبعد الجذاذ يأتون بقدر الزكاة على الخرص المذكور تمرا أو زبيبا ، وبذلك يحصل الجمع بين الاحتياط للفقراء ، والرفق بأرباب الثمار ، فإن أصابته بعد الخرص جائحة ، اعتبرت ، وسقطت زكاة ما اجتاحته الجائحة ، فإن بقي بعدها خمسة أوسق فصاعدا أخرج الزكاة ، وإلا فلا . ولا خلاف في اعتبار الجائحة بعد الخرص بين العلماء .
وممن قال بخرص النخيل والأعناب : الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله تعالى - وعمر بن الخطاب ، وسهل بن أبي حثمة ، ومروان ، والقاسم بن محمد ، والحسن ، وعطاء ، والزهري ، وعمرو بن دينار ، وعبد الكريم بن أبي المخارق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأكثر أهل العلم كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " ، وحكي عن الشعبي : أن الخرص بدعة ، ومنعه الثوري ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم ، وإنما كان الخرص تخويفا للقائمين على الثمار ; لئلا يخونوا ، فأما أن يلزم به حكم فلا .
قال مقيده - عفا الله عنه : لا يخفى أن هذا القول تبطله نصوص السنة الصحيحة الصريحة ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث أبي حميد الساعدي - رضي الله عنه - قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة " تبوك " فأتينا وادي القرى على حديقة لامرأة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " اخرصوها " ، فخرصناها ، وخرصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسق ، وقال : " أحصيها حتى نرجع إليك ، إن شاء الله " ، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك ، فذكر الحديث .
قال : " ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى ، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأة عن حديقتها [ ص: 510 ] كم بلغ ثمرها ؟ قالت : بلغ عشرة أوسق " ، فهذا الحديث المتفق عليه دليل واضح على مشروعية الخرص ، كما ترى .
وعن عتاب بن أسيد - رضي الله عنه : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم " أخرجه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان .
وعن عتاب - رضي الله عنه - أيضا قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب ، كما يخرص النخل ، فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا " ، أخرجه أيضا أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والدارقطني .
والتحقيق في حديث عتاب هذا : أنه من مراسيل سعيد بن المسيب - رحمه الله تعالى ; لأنه لم يدرك عتابا ; لأن مولد سعيد في خلافة عمر ، وعتاب مات يوم مات أبو بكر - رضي الله عنهما - وقد أثبت الحجة بمراسيل سعيد كثير ممن يقولون بعدم الاحتجاج بالمرسل ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إن من أصحابنا : من قال يحتج بمراسيل ابن المسيب مطلقا ، والأصح أنه إنما يحتج بمراسيله إذا اعتضدت بأحد أربعة أمور : أن يسند ، أو يرسل من جهة أخرى ، أو يقول به بعض الصحابة ، أو أكثر العلماء ، وقد وجد ذلك هنا ; فقد أجمع العلماء من الصحابة ، والتابعين ، ومن بعدهم على وجوب الزكاة في التمر ، والزبيب .
قال مقيده - عفا الله عنه : وبما ذكره النووي تعلم اتفاق الشافعية على الاحتجاج بهذا المرسل ، والأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل مطلقا ، فظهر إجماع المذاهب الأربعة على الاحتجاج بمثل هذا المرسل ، وروى هذا الحديث الدارقطني بسند فيه الواقدي متصلا ، فقال عن سعيد بن المسيب ، عن المسور بن مخرمة ، عن عتاب بن أسيد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-06, 04:15 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (83)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (9)
صـ 511 إلى صـ 515
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة ، فيخرص النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه ، ثم يخير يهود يأخذونه بذلك الخرص ، أو يدفعونه إليهم بذلك الخرص ; لكي يحصي الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق " ، أخرجه أحمد ، وأبو داود ، وقد أعل بأن فيه واسطة بين ابن جريج والزهري ، ولم يعرف ، وقد رواه عبد الرزاق والدارقطني بدون الواسطة المذكورة ، وابن جريج مدلس ; فلعله تركها تدليسا ، قاله ابن حجر ، وقال ذكر الدارقطني الاختلاف فيه قال : فرواه صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة ، وأرسله معمر ، ومالك ، وعقيل : فلم يذكروا أبا [ ص: 511 ] هريرة ، وأخرج أبو داود من طريق ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : خرصها ابن رواحة أربعين ألف وسق .
وقال ابن حجر في " التلخيص " أيضا : روى أحمد من حديث ابن عمر : " أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر يخرص عليهم " ، الحديث .
وروى أبو داود والدارقطني من حديث جابر : " لما فتح الله على رسوله خيبر أقرهم ، وجعلها بينه وبينهم ، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم " ، الحديث ، ورواه ابن ماجه من حديث ابن عباس .
وروى الدارقطني عن سهل بن أبي حثمة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أباه خارصا ، فجاء رجل فقال : يا رسول الله ، إن أبا حثمة قد زاد علي " الحديث ، ثم ذكر ابن حجر حديث عتاب ، وحديث عائشة اللذين قدمناهما ، ثم قال وفي الصحابة ، لأبي نعيم من طريق الصلت بن زبيد بن الصلت ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمله على الخرص ، فقال : " أثبت لنا النصف ، وأبق لهم النصف ، فإنهم يسرقون ، ولا نصل إليهم " .
فبهذا الذي ذكرنا كله تعلم أن الخرص حكم ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ظن وتخمين باطل ، بل هو اجتهاد ورد به الشرع في معرفة قدر الثمر ، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير ، فهو كتقويم المتلفات ، ووقت الخرص حين يبدو صلاح الثمر ، كما قدمنا لما قدمنا من الرواية : " بأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث الخارص ، فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل " ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء .
والجمهور القائلون بالخرص اختلفوا في حكمه ، فقيل : هو سنة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر به ، وقيل : واجب ; لما تقدم في حديث عتاب من قوله : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب " ، الحديث المتقدم ، قالوا : الأمر للوجوب ، ولأنه إن ترك الخرص قد يضيع شيء من حق الفقراء ، والأظهر عدم الوجوب ; لأن الحكم بأن هذا الأمر واجب يستوجب تركه العقاب يحتاج إلى دليل ظاهر قوي ، والله تعالى أعلم .
واختلف العلماء القائلون بالخرص ، هل على الخارص أن يترك شيئا ؟ ، فقال بعض العلماء : عليه أن يترك الثلث أو الربع ، لما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن إلا ابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححاه عن سهل بن أبي حثمة - رضي الله عنه - قال : قال [ ص: 512 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إذا خرصتم فخذوا ، ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع " ، فإن قيل في إسناده عبد الرحمن بن مسعود بن نيار الراوي ، عن سهل بن أبي حثمة ، وقد قال البزار : إنه انفرد به ، وقال ابن القطان : لا يعرف حاله ، فالجواب : أن له شاهدا بإسناد متفق على صحته : " أن عمر بن الخطاب أمر به ، قاله الحاكم ، ومن شواهده : ما رواه ابن عبد البر عن جابر مرفوعا : " خففوا في الخرص " ، الحديث ، وفي إسناده ابن لهيعة .
وممن قال بهذا القول الإمام أحمد ، وإسحاق ، والليث ، وأبو عبيد ، وغيرهم ، ومشهور مذهب مالك ، والصحيح في مذهب الشافعي : أن الخارص لا يترك شيئا .
قال مقيده - عفا الله عنه : والقول بأنه يترك الثلث أو الربع هو الصواب ; لثبوت الحديث الذي صححه ابن حبان ، والحاكم بذلك ، ولم يثبت ما يعارضه ; ولأن الناس يحتاجون إلى أن يأكلوا ويطعموا جيرانهم ، وضيوفهم ، وأصدقاءهم ، وسؤالهم ; ولأن بعض الثمر يتساقط ، وتنتابه الطير ، وتأكل منه المارة ، فإن لم يترك لهم الخارص شيئا ، فالظاهر أن لهم الأكل بقدر ما كان يلزم إسقاطه ، ولا يحسب عليهم .
وهذا مذهب الإمام أحمد - رحمه الله - وهو مقتضى ما دل عليه الحديث المذكور ، فإن زاد الثمر أو نقص عما خرصه به الخارص ، فقال بعض العلماء : لا زكاة عليه فيما زاد ، وتلزمه فيما نقص ; لأنه حكم مضى .
وقال بعضهم : يندب الإخراج في الزائد ، ولا تسقط عنه زكاة ما نقص .
قال مقيده - عفا الله عنه ، أما فيما بينه وبين الله ، فلا شك أنه لا تجب عليه زكاة شيء لم يوجد ، وأما فيما بينه وبين الناس ، فإنها قد تجب عليه ، قال خليل بن إسحاق المالكي في " مختصره " : وإن زادت على تخريص عارف فالأحب الإخراج ، وهل على ظاهره أو الوجوب ؟ تأويلان .
قال شارحه المواق من المدونة : قال مالك : من خرص عليه أربعة أوسق فرفع خمسة أوسق أحببت له أن يزكي ابن يونس ، قال بعض شيوخنا : لفظة أحببت ها هنا على الإيجاب ، وهو صواب كالحاكم يحكم بحكم ، ثم يظهر أنه خطأ صراح . ابن عرفة ، على هذا حملها الأكثر ، وحملها ابن رشيد ، وعياض على الاستحباب .
قال مقيده - عفا الله عنه : ووجوب الزكاة في الزائد هو الأظهر ، وعليه أكثر المالكية ، وهو الصحيح عند الشافعية ، وأما النقص : فإذا ثبت ببينة أنها نقصت عما خرصت به ، [ ص: 513 ] فالظاهر أنه تسقط عنه زكاة ما نقصت به ، وإن ادعى غلط الخارص .
فقد قال بعض أهل العلم : لم تقبل دعواه لأن الخارص أمين ، وقال بعض العلماء : تقبل دعواه غلط الخارص ، إذا كانت مشبهة ، أما إذا كانت بعيدة ، كدعواه زيادة النصف أو الثلثين ، فلا يقبل قوله في الجميع ، وهذا التفصيل هو مذهب الشافعي ، وأحمد ، إلا أن بعض الشافعية قال : يسقط عنه من الكثير الذي ادعى قدر النقص الذي تقبل دعواه فيه ، وأما إن ادعى أن الخارص جار عليه عمدا ، فلا تقبل دعواه عليه بلا خلاف ، كما لو ادعى جور الحاكم ، أو كذب الشاهد ، وكذا إذا ادعى أنه غلط في الخرص ، ولم يبين قدر ما زاد لم يقبل منه ، نص عليه علماء الشافعية ، وإن ادعى رب الثمر : أنه أصابته جائحة أذهبت بعضه ، فالظاهر تصديقه فيما يشبه قوله ، كما لو ادعى أن بعضه سرق بالليل مثلا قيل بيمين .
وقيل : لا ، وإن أضاف هلاك الثمرة إلى سبب يكذبه الحس ، كأن يقول : هلكت بحريق ، وقع في الجرين في وقت كذا ، وعلمنا أنه لم يحترق في ذلك الوقت لم يلتفت إلى كلامه ، فإن علم وقوع السبب الذي ذكر ، وعموم أثره صدق بلا يمين ، وإن اتهم حلف ، قيل : وجوبا ، وقيل : استحبابا ، وإن لم يعرف عدم السبب المذكور ولا وجوده ، فالصحيح أنه يكلف بالبينة على وجود أصل السبب ، ثم القول قوله في الهلاك به ، وهذا التفصيل الأخير للشافعية ذكره النووي في شرح المهذب ، ووجهه ظاهر ، والله تعالى أعلم .
وجمهور العلماء على أنه لا يخرص غير التمر ، والزبيب ، فلا يخرص الزيتون ، والزرع ، ولا غيرهما ، وأجازه بعض العلماء في الزيتون ، وأجازه بعضهم في سائر الحبوب .
والصحيح أنه لا يجوز إلا في التمر ، والعنب لثلاثة أمور :
الأول : أن النص الدال على الخرص لم يرد إلا فيهما كما تقدم في حديث عتاب بن أسيد ، وغيره من الأحاديث .
الثاني : أن غيرهما ليس في معناهما ; لأن الحاجة تدعو غالبا إلى أكل الرطب قبل أن يكون تمرا ، والعنب قبل أن يكون زبيبا ، وليس غيرهما كذلك .
الثالث : أن ثمرة النخل ظاهرة مجتمعة في عذوقها ، والعنب ظاهر أيضا مجتمع في عناقيده ، فحرزهما ممكن ، بخلاف غيرهما من الحبوب ، فإنه متفرق في شجره ، والزرع مستتر في سنبله .
[ ص: 514 ] والظاهر أن ما جرت العادة بالحاجة إلى أكله لا يحسب ; لما قدمنا ، وقال المالكية : يحسب عليهم كلما أكلوه من الحب ، ولا يحسب ما تأكله الدواب في درسها .
المسألة الثانية : لا يجوز إخراج زكاة الثمار إلا من التمر اليابس والزبيب اليابس ، وكذلك زكاة الحبوب لا يجوز إخراجها إلا من الحب اليابس بعد التصفية ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، وأجرة القيام على الثمار والحبوب حتى تيبس وتصفى من خالص مال رب الثمرة والزرع ، فإن دفع زكاة التمر بسرا أو رطبا ، أو دفع زكاة الزبيب عنبا ، لم يجزه ذلك ; لأنه دفع غير الواجب ; لأن الواجب تمر وزبيب يابسان إجماعا .
وقد قال ابن قدامة في " المغني " : فإن كان المخرج للرطب رب المال لم يجزه ، ولزمه إخراج الفضل بعد التجفيف ; لأنه أخرج غير الفرض فلم يجزه ، كما لو أخرج الصغير عن الماشية الكبار ، وهو نص صريح منه في أن الرطب غير الواجب ، وأن منزلته من التمر الذي هو الواجب كمنزلة صغار الماشية من الكبار التي هي الواجبة في زكاة الماشية .
وقال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : فلو أخرج الرطب والعنب في الحال لم يجزئه بلا خلاف ، ولو أخذه الساعي غرمه بلا خلاف ; لأنه قبضه بغير حق ، وكيف يغرمه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف في آخر الباب .
الصحيح : الذي قطع به الجمهور ، ونص عليه الشافعي - رضي الله عنه - أنه يلزمه قيمته .
والثاني : يلزمه مثله وهما مبنيان على أن الرطب والعنب مثليان أم لا ، والصحيح المشهور أنهما ليسا مثليين ، ولو جف عند الساعي ، فإن كان قدر الزكاة أجزأ ، وإلا رد التفاوت ، أو أخذه ، كذا قاله العراقيون وغيرهم ، وحكى ابن كج وجها أنه لا يجزئ بحال لفساد القبض ، قال الرافعي : وهذا الوجه أولى والمختار ما سبق . انتهى كلام النووي بلفظه ، وهو صريح في عدم إجزاء الرطب والعنب بلا خلاف عند الشافعية .
وقال صاحب " المهذب " ما نصه : فإن أخذ الرطب وجب رده ، وإن فات وجب رد قيمته ، ومن أصحابنا من قال : يجب رد مثله ، والمذهب الأول لأنه لا مثل له ; لأنه يتفاوت ، ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض . اهـ . منه بلفظه ، وهو صريح في عدم إجزاء [ ص: 515 ] الرطب في زكاة التمر ، وهذا الذي ذكرنا عن عامة العلماء من أن الزكاة لا تؤخذ إلا من التمر ، والزبيب اليابسين ، هو مذهب مالك وعامة أصحابه وفي الموطإ ما نصه :
قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا أن النخل تخرص على أهلها وثمرها في رؤوسها إذا طاب وحل بيعه ، ويؤخذ منه صدقته تمرا عند الجذاذ ، إلى أن قال : وكذلك العمل في الكرم . انتهى محل الفرض منه بلفظه ، وفيه تصريح مالك - رحمه الله - بأن الأمر المجتمع عليه من علماء زمنه ، أن الزكاة تخرج تمرا ، وهو يدل دلالة واضحة على أن من ادعى جواز إخراجها من الرطب أو البسر ، فدعواه مخالفة للأمر المجتمع عليه عند مالك وعلماء زمنه .
ومن أوضح الأدلة على ذلك : أن البلح الذي لا يتتمر والعنب الذي لا يتزبب كبلح مصر وعنبها ، لا يجوز الإخراج منه مع تعذر الواجب الذي هو التمر والزبيب اليابسان ، بل تدفع الزكاة من ثمنه أو قيمته عند مالك وأصحابه ، فلم يجعلوا العنب والرطب أصلا ، ولم يقبلوهما بدلا عن الأصل ، وقالوا : بوجوب الثمن إن بيع ، والقيمة إن أكل .
قال خليل في مختصره : وثمن غير ذي الزيت وما لا يجف ، ومراده بقوله : وما لا يجف ، أن الرطب والعنب اللذين لا ييبسان يجب الإخراج من ثمنهما لا من نفس الرطب والعنب ، وفي المواق في شرح قول خليل ، وإن لم يجف ما نصه :
قال مالك : إن كان رطب هذا النخل لا يكون تمرا ، ولا هذا العنب زبيبا ، فليخرص أن لو كان ذلك فيه ممكنا ، فإن صح في التقدير خمسة أوسق أخذ من ثمنه . انتهى محل الفرض منه بلفظه ، وهو نص صريح عن مالك أنه لا يرى إخراج الرطب ، والعنب في الزكاة ; لعدوله عنهما إلى الثمن في حال تعذر التمر والزبيب اليابسين ، فكيف بالحالة التي لم يتعذرا فيها .
والحاصل أن إخراج الرطب والعنب عما يبس من رطب وعنب ، لم يقل به أحد من العلماء ، ولا دل عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا قياس ، وأما الذي لا ييبس كبلح مصر وعنبها ، ففيه قول مرجوح عند المالكية بإجزاء الرطب والعنب ، ونقل هذا القول عن ابن رشد ، وسترى - إن شاء الله - في آخر هذا المبحث كلام الشافعية والحنابلة فيه ، فإن قيل : فما الدليل على أنه لا يجزئ إلا التمر والزبيب اليابسان دون الرطب والعنب ؟
فالجواب : أن ذلك دلت عليه عدة أدلة :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-06, 04:16 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (84)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (10)
صـ 516 إلى صـ 520
[ ص: 516 ] الأول : هو ما قدمنا من حديث عتاب بن أسيد - رضي الله عنه - قال : " أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخرص العنب كما يخرص النخل ؛ فتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا " ، وقد قدمنا أن هذا الحديث أخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والدارقطني ، وقد قدمنا أنه من مراسيل سعيد بن المسيب ، وقدمنا أيضا أن الاحتجاج بمثل هذا المرسل من مراسيل سعيد صحيح عند الأئمة الأربعة ، فإذا علمت صحة الاحتجاج بحديث سعيد بن المسيب هذا ، فاعلم أنه نص صريح في : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بخرص العنب والنخل ، وأن تؤخذ زكاة العنب زبيبا ، وصدقة النخيل تمرا ، فمن ادعى جواز أخذ زكاة النخل رطبا أو بسرا ، فدعواه مخالفة لما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه أمر بأخذها في حال كونها تمرا في النخل وزبيبا في العنب ، ومعلوم أن الحال وصف لصاحبها ، قيد لعاملها ، فكون زكاة النخل تمرا وصف لها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بإخراجها في حال كونها متصفة به ، وكذلك كونها تمرا قيد لأخذها ، فهو تقييد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأخذها بأن يكون في حال كونها تمرا ، فيفهم منه أنها لا تؤخذ على غير تلك الحال ، ككونها رطبا مثلا ، وإذا اتضح لك أن أخذها رطبا - مثلا - مخالف لما أمر به - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه قال في الحديث المتفق عليه : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه ، فهو رد " ، وفي رواية في الصحيح : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وفي الكتاب العزيز : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] .
ومما يوضح لك أن إخراج الرطب مثلا في الزكاة مخالف لما سنه وشرعه - صلى الله عليه وسلم - من أخذها تمرا ، وزبيبا يابسين ما ذكره البيهقي في " السنن الكبرى " في باب " كيف تؤخذ زكاة النخل والعنب " ، فإنه قال فيه : وأخبرنا أبو الحسن بن أبي المعروف الفقيه المهرجاني ، أنبأ بشر بن أحمد ، أنبأ أحمد بن الحسين بن نصر الحذاء ، ثنا علي بن عبد الله ، ثنا يزيد بن زريع ، ثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، أخبرني الزهري ، عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أمر عتاب بن أسيد أن يخرص العنب كما يخرص النخل ، ثم تؤدى زكاته زبيبا كما تؤدى زكاة النخل تمرا " ، قال : فتلك سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النخل والعنب . اهـ منه بلفظه ، وفيه التصريح بأن : إخراج التمر والزبيب هو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمخرج الرطب والعنب مخالف لسنته - صلى الله عليه وسلم - كما ترى .
الدليل الثاني : إجماع المسلمين على أن زكاة الثمار والحبوب من نوع ما تجب الزكاة في عينه ، والعين الواجبة فيها الزكاة هي : التمر والزبيب اليابسان ، لا الرطب [ ص: 517 ] والعنب بدليل إجماع القائلين بالنصاب في الثمار ، على أن خمسة الأوسق التي هي النصاب لا تعتبر من الرطب ، ولا من العنب ، فمن كان عنده خمسة أوسق من الرطب أو العنب ، ولكنها إذا جفت نقصت عن خمسة أوسق ، فلا زكاة عليه ; لأن النصاب معتبر من التمر والزبيب اليابسين ، فلو أخرج الزكاة من الرطب أو العنب لكان مخرجا من غير ما تجب في عينه الزكاة كما ترى ، ويدل له ما ذكره الزرقاني في " شرح الموطإ " ، فإنه قال فيه في شرح قول مالك : ثم يؤدون الزكاة على ما خرص عليهم ، ما نصه : ومبنى التخريص أن يحزر ما في النخل ، أو العنب من التمر اليابس إذا جذ ، على حسب جنسه ، وما علم من حاله أنه يصير إليه عند الإتمار ; لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرا . انتهى محل الفرض منه بلفظه .
وقد تقرر عند جماهير العلماء أن لفظة إنما للحصر وهو الحق ، فقول الزرقاني : لأن الزكاة إنما تؤخذ منه تمرا ، معناه : حصر أخذ زكاة النخل في خصوص التمر دون غيره من رطب ونحوه ; معللا بذلك اعتبار النصاب من التمر اليابس ; لأن الإخراج مما تجب في عينه الزكاة من الثمار والحبوب وهو واضح ، ولا يرد على ما ذكرنا أن وقت وجوب الزكاة هو وقت طيب الثمر قبل أن يكون يابسا ; لإجماع العلماء على أنه لا يجب إخراجها بالفعل إلا بعد أن يصير تمرا يابسا ; ولإجماعهم أيضا على أنه إن أصابته جائحة اعتبرت ، فتسقط زكاة ما أجيح ، كما تسقط زكاة الكل إن لم يبق منه نصاب ، وسيأتي له زيادة إيضاح .
الدليل الثالث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذها تمرا بعد الجذاذ ، لا بلحا ، ولا رطبا ، والله جل وعلا يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، ويقول : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، ويقول : من يطع الرسول فقد أطاع الله الآية [ 4 \ 80 ] ، ويقول : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني الآية [ 3 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قال البخاري في " صحيحه " ، باب " أخذ صدقة التمر عند صرام النخل " : وهل يترك الصبي فيمس الصدقة ، حدثنا عمر بن محمد بن الحسن الأسدي ، حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالتمر عند صرام النخل ، فيجيء هذا بتمره ، وهذا من تمره ، حتى يصير عنده كوما من تمر ، فجعل الحسن والحسين - رضي الله عنهما - يلعبان بذلك التمر ، فأخذ أحدهما تمرة فجعلها في فيه ، فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرجها من فيه ، فقال : " أما [ ص: 518 ] علمت أن آل محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يأكلون الصدقة " . اهـ .
فهذا الحديث الصحيح نص صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ صدقة النخل تمرا بعد الجذاذ ، وقد تقرر في الأصول أن صيغة المضارع بعد لفظة كان في نحو : كان يفعل كذا ، تدل على كثرة التكرار والمداومة على ذلك الفعل ، فقول أبي هريرة في هذا الحديث المرفوع الصحيح : كان صلى الله عليه وسلم " يؤتى بالتمر عند صرام النخل " .
الحديث يدل دلالة واضحة على أن إخراج التمر عند الجذاذ هو الذي كان يفعل دائما في زمنه - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يأخذ في الزكاة ذلك التمر اليابس ، فمن ادعى جواز إخراج زكاة النخل رطبا أو بلحا ، فهو مخالف لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرح هذا الحديث المذكور آنفا ما نصه : " قال الإسماعيلي : قوله عند صرام النخل ، أي : بعد أن يصير تمرا ; لأن النخل قد يصرم وهو رطب ، فيتمر في المربد ، ولكن ذلك لا يتطاول ، فحسن أن ينسب إلى الصرام ، كما في قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ، فإن المراد بعد أن يداس وينقى ، والله تعالى أعلم " ، اهـ . منه بلفظه وهو واضح فيما ذكرنا .
وبما ذكرنا تعلم أن ما يدعيه بعض أهل العلم من المتأخرين من جواز إخراج زكاة النخل رطبا وبسرا غير صحيح ، ولا وجه له ، ولا دليل عليه ، وأما إن كان التمر لا ييبس ، كبلح مصر ، وعنبها ، فقد قدمنا عن مالك وأصحابه : أن الزكاة تخرج من ثمنه إن بيع ، أو قيمته إن أكل ، لا من نفس الرطب أو العنب .
وقد قدمنا عن ابن رشد قولا مرجوحا بإجزاء الرطب والعنب في خصوص ما لا ييبس ، ومذهب الشافعي - رحمه الله - في زكاة ما لا ييبس : أنه على القول بأن القسمة تمييز حق لا بيع ، فيجوز القسم ، ويجعل العشر أو نصفه متميزا في نخلات ، ثم ينظر المصدق ، فإن رأى أن يفرق عليهم فعل ، وإن رأى البيع وقسمة الثمن فعل ، وأما على القول بأن القسمة بيع فلا تجوز في الرطب والعنب ، ويقبض المصدق عشرها مشاعا بالتخلية بينه وبينها ، ويستقر عليه ملك المساكين ، ثم يبيعه ويأخذ ثمنه ويفرقه عليهم ، وهكذا الحكم عنده فيما إذا احتيج إلى قطع الثمرة رطبا ، خوفا عليها من العطش ونحوه .
وحكم هذه المسألة في المذهب الحنبلي فيه قولان :
أحدهما : أنه يخير الساعي بين أن يقاسم رب المال الثمرة قبل الجذاذ بالخرص ، [ ص: 519 ] ويأخذ نصيبهم نخلة مفردة ، ويأخذ ثمرتها ، وبين أن يجذها ويقاسمه إياها بالكيل ، ويقسم الثمرة في الفقراء ، وبين أن يبيعها من رب المال أو غيره ، قبل الجذاذ أو بعده ، ويقسم ثمنها في الفقراء .
القول الثاني : أن عليه الزكاة من تمر وزبيب يابسين ، قاله أبو بكر ، وذكر أن أحمد رحمه الله نص عليه ، قاله صاحب " المغني " ، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب أحمد - رحمه الله - في المسألتين ، أعني الثمر الذي لا ييبس ، والذي احتيج لقطعه قبل اليبس .
المسألة الثالثة : اختلف في وقت وجوب الزكاة فيما تنبته الأرض من ثمر وحب ، فقال جمهور العلماء : تجب في الحب إذا اشتد ، وفي الثمر إذا بدا صلاحه ، فتعلق الوجوب عند طيب التمر ، ووجوب الإخراج بعد الجذاذ .
وفائدة الخلاف أنه لو تصرف في الثمر والحب قبل الوجوب لم يكن عليه شيء ، وإن تصرف في ذلك بعد وجوب الزكاة لم تسقط الزكاة عنه .
ومن فوائده أيضا : أنه إذا مات بعد وقت الوجوب زكيت على ملكه ، وإن مات قبل الوجوب زكيت على ملك الورثة ، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال :
الأول : أنه وقت الجذاذ ، قاله محمد بن مسلمة ; لقوله تعالى : يوم حصاده .
الثاني : يوم الطيب ; لأن ما قبل الطيب يكون علفا ، لا قوتا ولا طعاما ، فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به ، وجب الحق الذي أمر الله به ، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة ، ويكون الإيتاء وقت الحصاد لما قد وجب يوم الطيب .
الثالث : أنه يكون بعد تمام الخرص ; لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة ، فيكون شرطا لوجوبها ، كمجيء الساعي في الغنم ، وبه قال المغيرة ، والصحيح الأول ; لنص التنزيل ، والمشهور في المذهب الثاني ، وبه قال الشافعي . اهـ منه .
وقد قدمنا أن مالكا - رحمه الله - يقول : بأن كل ما أكله المالك أو تصدق به يحسب عليه ، وجمهور العلماء يخالفونه - رحمه الله - في ذلك ، واحتجوا لأن ما يأكله لا يحسب عليه بقوله تعالى : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده . وبالحديث المتقدم : أن على الخارص أن يدع الثلث أو الربع ، وقوله تعالى : يوم حصاده ، قرأه ابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم بفتح الحاء ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان مشهورتان [ ص: 520 ] كالصرام والصرام ، والجذاذ والجذاذ ، والقطاف والقطاف .
فائدة : ينبغي لصاحب الحائط إذا أراد الجذاذ ألا يمنع المساكين من الدخول ، وأن يتصدق عليهم ; لقوله تعالى في ذم أصحاب الجنة المذكورة في سورة القلم : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين الآيات [ \ 17 ] ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الآية [ 6 \ 145 ] . هذه الآية الكريمة صريحة في أنه لم يحرم من المطعومات إلا هذه الأربعة المذكورة فيها ، التي هي : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل به لغير الله ، ولكنه تعالى بين في بعض المواضع تحريم غير المذكورات ، كتصريحه بتحريم الخمر في سورة المائدة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .
وقال بعض العلماء لا يحرم مطعوم إلا هذه الأربعة المذكورة ، وهو قول يروى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، قال القرطبي : ويروى عنهم أيضا خلافه ، وقال البخاري في " صحيحه " : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال عمرو : قلت لجابر بن زيد : يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن لحوم الحمر الأهلية " ، فقال : " قد كان يقول ذلك الحكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس ، وقرأ : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما . اهـ . وقال ابن خويز منداد من المالكية : تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره ، إلا ما استثني في الآية من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير .
ولهذا قلنا : إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان ، والخنزير مباحة .
وقال القرطبي : روي عن عائشة ، وابن عباس ، وابن عمر إباحة أكل لحوم السباع ، والحمر ، والبغال ، وذكر حديث البخاري الذي قدمنا آنفا .
ثم قال : وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع ، فقال : لا بأس بها ، فقيل له حديث أبي ثعلبة الخشني ، فقال : لا ندع كتاب ربنا لحديث أعرابي يبول على ساقيه .
وسئل الشعبي عن لحم الفيل ، والأسد ، فتلا هذه الآية .
وقال القاسم : كانت عائشة تقول - لما سمعت الناس يقولون : حرم كل ذي ناب من السباع - ذلك حلال ، وتتلو هذه الآية : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-06, 04:17 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (85)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (11)
صـ 521 إلى صـ 525
قال مقيده - عفا الله عنه : اعلم أنا نريد في هذا المبحث أن نبين حجة من قال بعدم تحريم لحوم السباع ، والحمير ، ونحوها ، وحجة من قال بمنعها ، ثم نذكر الراجح بدليله .
واعلم أولا : أن دعوى أنه لا يحرم مطعوم غير الأربعة المذكورة في هذه الآية باطلة ، بإجماع المسلمين ; لإجماع جميع المسلمين ; ودلالة الكتاب والسنة على تحريم الخمر ، فهو دليل قاطع على تحريم غير الأربعة .
ومن زعم أن الخمر حلال لهذه الآية ، فهو كافر بلا نزاع بين العلماء ، وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذين استدلوا بهذه الآية على عدم تحريم ما ذكر ، قالوا : إن الله حصر المحرمات فيها في الأربعة المذكورة ، وحصرها أيضا في النحل فيها في قوله : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به [ 2 \ 173 ] ; لأن إنما أداة حصر عند الجمهور ، والنحل بعد الأنعام ; بدليل قوله في النحل : وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل الآية [ 16 \ 118 ] ، والمقصوص المحال عليه هو المذكور في الأنعام ، في قوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية [ 6 \ 146 ] ; ولأنه تعالى قال في الأنعام : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية [ 6 \ 148 ] ، ثم صرح في النحل بأنهم قالوا ذلك بالفعل ، في قوله : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء الآية [ 16 \ 135 ] ; فدل ذلك على أن النحل بعد الأنعام ، وحصر التحريم أيضا في الأربعة المذكورة في سورة البقرة ، في قوله : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، فقالوا : هذا الحصر السماوي الذي ينزل به الملك مرة بعد مرة في مكة في الأنعام ، والنحل ، وفي المدينة عند تشريع الأحكام في البقرة لا يمكننا معارضته ، ولا إخراج شيء منه إلا بدليل قطعي المتن ، متواتر كتواتر القرآن العظيم .
فالخمر مثلا دل القرآن على أنها محرمة فحرمناها ; لأن دليلها قطعي ، أما غيرها كالسباع ، والحمر ، والبغال : فأدلة تحريمها أخبار آحاد يقدم عليها القاطع ، وهى الآيات المذكورة آنفا .
تنبيه
اعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره من أن زيادة تحريم السباع والحمر مثلا بالسنة على [ ص: 522 ] الأربعة المذكورة في الآيات ، كزيادة التغريب بالسنة على جلد الزاني مائة الثابت بالقرآن ، أو زيادة الحكم بالشاهد واليمين في الأموال الثابت بالسنة على الشاهدين ، أو الشاهد والمرأتين المذكور في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ 2 \ 282 ] ، غير ظاهر عندي ; لوضوح الفرق بين الأمرين ; لأن زيادة التغريب والحكم بالشاهد واليمين على آية : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 \ 2 ] ، في الأول ، وآية : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية ، في الثاني زيادة شيء لم يتعرض له القرآن بنفي ولا إثبات ، ومثل هذه الزيادة لا مانع منه عند جمهور العلماء ; لأن الزيادة على النص ليست نسخا له عند الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله .
وبناء على ذلك منع التغريب والحكم بالشاهد واليمين ; لأن الزيادة عنده نسخ ، والقرآن لا ينسخ بأخبار الآحاد ; لأنه قطعي المتن وليست كذلك ، أما زيادة محرم آخر على قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية ، فليست زيادة شيء سكت عنه القرآن كالأول ، وإنما هي زيادة شيء نفاه القرآن ; لدلالة الحصر القرآني على نفي التحريم عن غير الأربعة المذكورة ، وبين الأمرين فرق واضح ، وبه تعلم أن مالكا - رحمه الله - ليس ممن يقول : بأن الزيادة على النص نسخ ، اللهم إلا إذا كانت الزيادة أثبتت ما كان منفيا بالنص قبلها ، فكونها إذن ناسخة واضح ، وهناك نظر آخر ، قال به بعض العلماء : وهو أن إباحة غير الأربعة المذكورة من الإباحة العقلية المعروفة عند أهل الأصول بالبراءة الأصلية ، وهي استصحاب العدم الأصلي ; لأن الأصل عدم تحريم شيء إلا بدليل ، كما قاله جمع من أهل الأصول .
وإذا كانت إباحته عقلية : فرفعها ليس بنسخ حتى يشترط في ناسخها التواتر ، وعن ابن كثير في " تفسيره " هذا القول بعدم النسخ للأكثرين من المتأخرين .
قال مقيده - عفا الله عنه : وكونه نسخا أظهر عندي ; لأن الحصر في الآية يفهم منه إباحة ما سوى الأربعة شرعا ، فتكون إباحة شرعية ; لدلالة القرآن عليها ، ورفع الإباحة الشرعية نسخ بلا خلاف ، وأشار في " مراقي السعود " إلى أن الزيادة التي لا تناقض الحكم الأول ليست نسخا بقوله : [ الرجز ]
وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا
وهذا قول جمهور العلماء ، ووجهوه بعدم منافاة الزيادة للمزيد ، وما لا ينافي لا يكون [ ص: 523 ] ناسخا ، وهو ظاهر .
واعلم أن مالك بن أنس - رحمه الله - اختلفت عنه الرواية في لحوم السباع ، فروي عنه أنها حرام ، وهذا القول هو الذي اقتصر عليه في " الموطأ " ; لأنه ترجم فيه بتحريم أكل كل ذي ناب من السباع ، ثم ساق حديث أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - بإسناده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع " ، ثم ساق بإسناده حديث أبي هريرة مرفوعا : " أكل كل ذي ناب من السباع حرام " ، ثم قال : وهو الأمر عندنا ، وهذا صريح في أن الصحيح عنده تحريمها ، وجزم القرطبي بأن هذا هو الصحيح من مذهبه ، وروي عنه أيضا أنها مكروهة ، وهو ظاهر " المدونة " ، وهو المشهور عند أهل مذهبه ، ودليل هذا القول هو الآيات التي ذكرنا ، ومن جملتها الآية التي نحن بصددها .
وما روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة من إباحتها ، وهو قول الأوزاعي .
قال مقيده - عفا الله عنه : الذي يظهر رجحانه بالدليل هو ما ذهب إليه الجمهور : من أن كل ما ثبت تحريمه بطريق صحيحة من كتاب أو سنة فهو حرام ، ويزاد على الأربعة المذكورة في الآيات ، ولا يكون في ذلك أي مناقضة للقرآن ; لأن المحرمات المزيدة عليها حرمت بعدها .
وقد قرر العلماء : أنه لا تناقض يثبت بين القضيتين إذا اختلف زمنهما ; لاحتمال صدق كل منهما في وقتها ، وقد اشترط عامة النظار في التناقض اتحاد الزمان ; لأنه إن اختلف جاز صدق كل منهما في وقتها ، كما لو قلت : لم يستقبل بيت المقدس ، قد استقبل بيت المقدس ، وعنيت بالأولى ما بعد النسخ ، وبالثانية ما قبله ، فكلتاهما تكون صادقة ، وقد أشرت في أرجوزتي في فن المنطق إلى أنه : يشترط في تناقض القضيتين اتحادهما فيما سوى الكيف ، أعني الإيجاب والسلب ، من زمان ، ومكان ، وشرط ، وإضافة ، وقوة ، وفعل ، وتحصيل ، وعدول ، وموضوع ، ومحمول ، وجزء ، وكل ، بقولي : [ الرجز ]
والاتحاد لازم بينهما فيما سوى الكيف كشرط علما والجزء والكل مع المكان والفعل والقوة والزمان إضافة تحصيل أو عدول ووحدة الموضوع والمحمول
فوقت نزول الآيات المذكورة لم يكن حراما غير الأربعة المذكورة ، فحصرها صادق قبل تحريم غيرها بلا شك ، فإذا طرأ تحريم شيء آخر بأمر جديد ، فذلك لا ينافي الحصر [ ص: 524 ] الأول لتجدده بعده ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى ، وبه يتضح أن الحق جواز نسخ المتواتر بالسنة الصحيحة الثابت تأخرها عنه ، وإن منعه أكثر أهل الأصول .
وإذا عرفت ذلك : فسنفصل لك إن شاء الله تعالى المحرمات التي حرمت بعد هذا ، وأقوال العلماء فيها .
فمن ذلك كل ذي ناب من السباع ، فالتحقيق تحريمه لما قدمنا من حديث أبي هريرة ، وأبي ثعلبة الخشني من النهي عنها ، وتحريمها ، أما حديث أبي ثعلبة فمتفق عليه ، وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه مسلم في " صحيحه " عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ : " كل ذي ناب من السباع ، فأكله حرام " .
والأحاديث في الباب كثيرة ، وبه تعلم أن التحقيق : هو تحريم أكل كل ذي ناب من السباع .
والتحقيق أن أكل كل ذي مخلب من الطير منهي عنه ، ولا عبرة بقول من قال من المالكية وغيرهم : أنه لم يثبت النهي عنه - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث ابن عباس : أنه - صلى الله عليه وسلم : " نهى عن كل ذي ناب من السباع ، وذي مخلب من الطير " . اهـ .
فقرن في الصحيح بما صرح بأنه حرام مع أن كلا منهما ذو عداء وافتراس ، فدل كل ذلك على أنه منهي عنه .
والأصل في النهي التحريم ، وبتحريم ذي الناب من السباع ، وذي المخلب من الطير ، قال جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة وداود .
وقد قدمنا أنه الصحيح عن مالك في السباع ، وأن مشهور مذهبه الكراهة ، وعنه قول بالجواز وهو أضعفها ، والحق التحريم لما ذكرنا .
ومن ذلك الحمر الأهلية ، فالتحقيق أيضا أنها حرام ، وتحريمها لا ينبغي أن يشك فيه منصف ; لكثرة الأحاديث الصحيحة الواردة بتحريمها ، وقد روى البخاري ومسلم تحريمها من حديث علي بن أبي طالب ، وجابر بن عبد الله ، وسلمة بن الأكوع ، وعبد الله بن عمر ، والبراء بن عازب ، وعبد الله بن أبي أوفى ، وأنس ، وأبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنهم - وأحاديثهم دالة دلالة صريحة على التحريم ، فلفظ حديث أبي ثعلبة عند البخاري ، ومسلم : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الحمر الأهلية " ، وهذا صريح صراحة [ ص: 525 ] تامة في التحريم ، ولفظ حديث أنس عندهما أيضا : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس " ، وفي رواية لمسلم : " فإنها رجس من عمل الشيطان " ، وفي رواية له أيضا : " فإنها رجس " أو " نجس " .
قال مقيده - عفا الله عنه : حديث أنس هذا المتفق عليه الذي صرح فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن لحوم الحمر الأهلية رجس ، صريح في تحريم أكلها ، ونجاسة لحمها ، وأن علة تحريمها ليست لأنها لم يخرج خمسها ، ولا أنها حمولة كما زعمه بعض أهل العلم . والله تعالى أعلم .
ولا تعارض هذه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها بما رواه أبو داود من حديث غالب بن أبجر المزني - رضي الله عنه - قال : " أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أصابتنا السنة ، ولم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر ، وإنك حرمت الحمر الأهلية ، فقال : أطعم أهلك من سمين حمرك ، فإنما حرمتها من أجل جوال القرية " . اهـ .
والجوال : جمع جالة ، وهي التي تأكل الجلة ، وهي في الأصل البعر ، والمراد به هنا أكل النجاسات كالعذرة .
قال النووي في " شرح المهذب " : اتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث .
قال الخطابي ، والبيهقي : هو حديث يختلف في إسناده ، يعنون مضطربا ، وما كان كذلك لا تعارض به الأحاديث المتفق عليها .
وأما البغال فلا يجوز أكلها أيضا ; لما رواه أحمد ، والترمذي من حديث جابر ، قال : " حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني يوم خيبر ، لحوم الحمر الإنسية ، ولحوم البغال ، وكل ذي ناب من السباع ، وكل ذي مخلب من الطير " ، أصل حديث جابر هذا في " الصحيحين " كما تقدم ، وهو بهذا اللفظ ، بسند لا بأس به . قاله ابن حجر والشوكاني .
وقال ابن كثير " في تفسيره " : وروى الإمام أحمد وأبو داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم ، عن جابر قال : " ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البغال والحمر ، ولم ينهنا عن الخيل " ، وهو دليل واضح على تحريم البغال ، ويؤيده أنها متولدة عن الحمير وهي حرام قطعا ; لصحة النصوص بتحريمها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 01:29 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (86)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (12)
صـ 526 إلى صـ 530
وأما الخيل فقد اختلف في جواز أكلها العلماء :
فمنعها مالك - رحمه الله - في أحد القولين ، وعنه أنها مكروهة ، وكل من القولين صححه بعض المالكية ، والتحريم أشهر عندهم .
وقال أبو حنيفة - رحمه الله : أكره لحم الخيل ، وحمله أبو بكر الرازي على التنزيه ، وقال : لم يطلق أبو حنيفة فيها التحريم ، وليست عنده كالحمار الأهلي .
وصحح عنه صاحب " المحيط " ، وصاحب " الهداية " ، وصاحب " الذخيرة " التحريم ، وهو قول أكثر الحنفية .
وممن رويت عنه كراهة لحوم الخيل : الأوزاعي ، وأبو عبيد ، وخالد بن الوليد - رضي الله عنه - وابن عباس ، والحكم .
ومذهب الشافعي وأحمد - رحمهما الله تعالى - جواز أكل الخيل ، وبه قال أكثر أهل العلم .
وممن قال به : عبد الله بن الزبير ، وفضالة بن عبيد ، وأنس بن مالك ، وأسماء بنت أبي بكر ، وسويد بن غفلة ، وعلقمة ، والأسود ، وعطاء ، وشريح ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النخعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وإسحاق ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وداود ، وغيرهم .
كما نقله عنهم النووي ، في " شرح المهذب " ، وسنبين - إن شاء الله - حجج الجميع ، وما يقتضي الدليل رجحانه .
اعلم أن من منع أكل لحم الخيل احتج بآية وحديث :
أما الآية ، فقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، فقال : قد قال تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ 16 \ 5 ] ، فهذه للأكل ، وقال : والخيل والبغال والحمير لتركبوها ، فهذه للركوب لا للأكل ، وهذا تفصيل من خلقها وامتن بها ، وأكد ذلك بأمور :
أحدها : أن اللام للتعليل ، أي خلقها لكم لعلة الركوب والزينة ، لأن العلة المنصوصة تفيد الحصر ، فإباحة أكلها تقتضي خلاف ظاهر الآية .
ثانيها : عطف البغال والحمير عليها ، فدل على اشتراكها معهما في حكم التحريم .
ثالثها : أن الآية الكريمة سيقت للامتنان ، وسورة النحل تسمى سورة الامتنان .
[ ص: 527 ] والحكيم لا يمتن بأدنى النعم ، ويترك أعلاها ، لا سيما وقد وقع الامتنان بالأكل في المذكورات قبلها .
رابعها : لو أبيح أكلها لفاتت المنفعة بها فيما وقع به الامتنان من الركوب والزينة .
وأما الحديث : فهو ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير " .
ورد الجمهور الاستدلال بالآية الكريمة ، بأن آية النحل نزلت في مكة اتفاقا ، والإذن في أكل الخيل يوم خيبر كان بعد الهجرة من مكة بأكثر من ست سنين ، فلو فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - المنع من الآية لما أذن في الأكل ، وأيضا آية النحل ليست صريحة في منع أكل الخيل ، بل فهم من التعليل ، وحديث جابر ، وحديث أسماء بنت أبي بكر المتفق عليهما ، كلاهما صريح في جواز أكل الخيل ، والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول .
وأيضا فالآية على تسليم صحة دلالتها المذكورة ، فهي إنما تدل على ترك الأكل ، والترك أعم من أن يكون للتحريم أو للتنزيه ، أو خلاف الأولى ، وإذا لم يتعين واحد منها بقي التمسك بالأدلة المصرحة بالجواز .
وأيضا فلو سلمنا أن اللام للتعليل ، لم نسلم إفادة الحصر في الركوب والزينة . فإنه ينتفع بالخيل في غيرهما ، وفي غير الأكل اتفاقا ، وإنما ذكر الركوب والزينة ; لكونهما أغلب ما تطلب له الخيل .
ونظيره حديث البقرة المذكور في " الصحيحين " حين خاطبت راكبها فقالت : " إنا لم نخلق لهذا ، إنا خلقنا للحرث " ، فإنه مع كونه أصرح في الحصر ، لم يقصد به إلا الأغلب ، وإلا فهي تؤكل وينتفع بها في أشياء غير الحرث اتفاقا .
وأيضا فلو سلم الاستدلال المذكور للزم منع حمل الأثقال على الخيل والبغال والحمير للحصر المزعوم في الركوب والزينة ، ولا قائل بذلك .
وأما الاستدلال بعطف الحمير والبغال عليها ، فهو استدلال بدلالة الاقتران ، وقد ضعفها أكثر العلماء من أهل الأصول ، كما أشار له في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوى المذكور
[ ص: 528 ] وأما الاستدلال بأن الآية الكريمة سيقت للامتنان : فيجاب عنه بأنه قصد به ما كان الانتفاع به أغلب عند العرب ، فخوطبوا بما عرفوا وألفوا ، ولم يكونوا يألفون أكل الخيل لعزتها في بلادهم ، وشدة الحاجة إليها في القتال ، بخلاف الأنعام : فأكثر انتفاعهم بها كان لحمل الأثقال ، وللأكل ; فاقتصر في كل من الصنفين على الامتنان بأغلب ما ينتفع به فيه .
فلو لزم من ذلك الحصر في هذا الشق للزم مثله في الشق الآخر كما قدمنا .
وأما الاستدلال بأن الإذن في أكلها ، سبب لفنائها وانقراضها :
فيجاب عنه : بأنه أذن في أكل الأنعام ولم تنقرض ، ولو كان الخوف عن ذلك علة لمنع في الأنعام لئلا تنقرض ، فيتعطل الانتفاع بها في غير الأكل ، قاله ابن حجر .
وأما الاستدلال بحديث خالد بن الوليد - رضي الله عنه : فهو مردود من وجهين :
الأول : أنه ضعفه علماء الحديث ، فقد قال ابن حجر في " فتح الباري " في باب " لحوم الخيل " ما نصه : " وقد ضعف حديث خالد أحمد ، والبخاري ، وموسى بن هارون ، والدارقطني ، والخطابي ، وابن عبد البر ، وعبد الحق ، وآخرون .
وقال النووي في " شرح المهذب " : واتفق العلماء من أئمة الحديث وغيرهم ، على أن حديث خالد المذكور حديث ضعيف ، وذكر أسانيد بعضهم بذلك ، وحديث خالد المذكور مع أنه مضطرب ، في إسناده صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب ، ضعفه غير واحد ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : لين ، وفيه أيضا : والده يحيى المذكور ، الذي هو شيخه في هذا الحديث ، قال فيه في " التقريب " : مستور .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا عدم ضعف حديث خالد ، فإنه معارض بما هو أقوى منه ، كحديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم خيبر عن لحوم الحمر ، ورخص في لحوم الخيل " ، وفي لفظ في " الصحيح " : " وأذن في لحوم الخيل " ، وكحديث أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنها - قالت : " نحرنا فرسا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه " متفق عليهما .
ولا شك في أنهما أقوى من حديث خالد ، وبهذا كله تعلم أن الذي يقتضي الدليل الصريح رجحانه إباحة أكل لحم الخيل ، والعلم عند الله تعالى ، ولا يخفى أن الخروج من الخلاف أحوط ، كما قال بعض أهل العلم : [ الرجز ]
[ ص: 529 ] وإن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفا فاستبن
ومن ذلك الكلب : فإن أكله حرام عند عامة العلماء ، وعن مالك قول ضعيف جدا بالكراهة .
ولتحريمه أدلة كثيرة ، منها : ما تقدم في ذي الناب من السباع ; لأن الكلب سبع ذو ناب ، ومنها أنه لو جاز أكله لجاز بيعه ، وقد ثبت النهي عن ثمنه في " الصحيحين " من حديث أبي مسعود الأنصاري ، مقرونا بحلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وأخرجه البخاري من حديث أبي جحيفة ، وأخرجه مسلم من حديث رافع بن خديج - رضي الله عنه - بلفظ : " ثمن الكلب خبيث " ، الحديث ، وذلك نص في التحريم لقوله تعالى : ويحرم عليهم الخبائث الآية [ 7 \ 157 ] .
فإن قيل : ما كل خبيث يحرم ; لما ورد في الثوم أنه خبيث ، وفي كسب الحجام أنه خبيث ، مع أنه لم يحرم واحد منهما .
فالجواب : أن ما ثبت بنص أنه خبيث كان ذلك دليلا على تحريمه ، وما أخرجه دليل يخرج ، ويبقى النص حجة فيما لم يقم دليل على إخراجه ، كما هو الحكم في جل عمومات الكتاب والسنة ، يخرج منها بعض الأفراد بمخصص ، وتبقى حجة في الباقي ، وهذا مذهب الجمهور ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معينا يبن
فإن قيل : تحريم الخبائث لعلة الخبث ، وإذا وجد خبيث غير محرم كان ذلك نقضا في العلة لا تخصيصا لها .
فالجواب : أن أكثر العلماء على أن النقض تخصيص للعلة ، لا إبطال لها ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]
منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
إلخ . . . . كما حررناه في غير هذا الموضع .
ومن الأدلة على تحريم الكلب : ما ثبت في " الصحيحين " من الأحاديث الصريحة في تحريم اقتنائه ، وأن اقتناءه ينقص أجر مقتنيه كل يوم ، فلو كان أكله مباحا ، لكان اقتناؤه [ ص: 530 ] مباحا .
وإنما رخص - صلى الله عليه وسلم - في كلب الصيد ، والزرع ، والماشية ; للضرورة ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " من اتخذ كلبا ، إلا كلب صيد ، أو زرع ، أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط " ، ومنه أيضا ما أخرجه الشيخان في " صحيحيهما " من حديث سفيان بن أبي زهير الشنائي - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ، ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط " ، ورواه البخاري عن ابن عمر بثلاث طرق بلفظ : " نقص كل يوم من عمله قيراطان " ، وأخرجه مسلم أيضا عن ابن عمر من طرق في بعضها قيراط ، وفي بعضها قيراطان .
والأحاديث في الباب كثيرة ، وهذا أوضح دليل على أن الكلب لا يجوز أكله ، إذ لو جاز أكله لجاز اقتناؤه للأكل ، وهو ظاهر ، ومن ذلك ما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث جابر ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن المغفل - رضي الله عنهم : من أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب ، ولو كانت مباحة الأكل لما أمر بقتلها ، ولم يرخص - صلى الله عليه وسلم - فيها إلا لضرورة الصيد ، أو الزرع ، أو الماشية .
وإذا عرفت أن في كلب الصيد ، وما ذكر معه ، بعض المنافع المباحة ، كالانتفاع بصيده ، أو حراسته الماشية ، أو الزرع ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في بيعه .
فمنهم من قال : بيعه تابع للحمه ، ولحمه حرام ; فبيعه حرام ، وهذا هو أظهر الأقوال دليلا ; لما قدمنا من أن ثمن الكلب خبيث ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ، مقرونا بحلوان الكاهن ، ومهر البغي ، وهو نص صحيح صريح في منع بيعه .
ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد صحيح من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - مرفوعا ، قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب " ، وقال : " إن جاء يطلب ثمن الكلب ، فاملأ كفه ترابا " .
قال النووي في " شرح المهذب " ، وابن حجر في " الفتح " : إسناده صحيح ، وروى أبو داود أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا : " لا يحل ثمن الكلب ، ولا حلوان الكاهن ، ولا مهر البغي " ، قال ابن حجر في " الفتح " : إسناده حسن ، وقال النووي في " شرح المهذب " : إسناده حسن صحيح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 01:34 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (87)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (13)
صـ 531 إلى صـ 535
وإذا حققت ذلك ، فاعلم أن القول بمنع بيع الكلب الذي ذكرنا أنه هو الحق ، عام في المأذون في اتخاذه وغيره ; لعموم الأدلة ، وممن قال بذلك : أبو هريرة ، والحسن البصري ، والأوزاعي ، وربيعة ، والحكم ، وحماد ، والشافعي ، وأحمد ، وداود ، وابن المنذر ، وغيرهم ، وهو المشهور الصحيح من مذهب مالك ، خلافا لما ذكره القرطبي في " المفهم " : من أن مشهور مذهبه الكراهة ، وروي عن مالك أيضا جواز بيع كلب الصيد ونحوه ، دون الذي لم يؤذن في اتخاذه ، وهو قول سحنون ; لأنه قال : أبيع كلب الصيد وأحج بثمنه .
وأجاز بيعه أبو حنيفة مطلقا إن كانت فيه منفعة من صيد ، أو حراسة لماشية مثلا ، وحكى نحوه ابن المنذر عن جابر ، وعطاء ، والنخعي ، قاله النووي .
وإن قتل الكلب الماذون فيه ككلب الصيد ، ففيه القيمة عند مالك ، ولا شيء فيه عند أحمد ، والشافعي ، وأوجبها فيه أبو حنيفة مطلقا إن كانت فيه منفعة .
وحجة من قال : لا قيمة فيه ، أن القيمة ثمن ، والنص الصحيح نهى عن ثمن الكلب ، وجاء فيه التصريح بأن طالبه تملأ كفه ترابا ، وذلك أبلغ عبارة في المنع منه .
واحتج من أوجبها بأنه فوت منفعة جائزة فعليه غرمها .
واحتج من أجاز بيع الكلب ، وألزم قيمته إن قتل ، بما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " نهى عن ثمن الكلب إلا كلب صيد " ، وعن عمر - رضي الله عنه : أنه غرم رجلا عن كلب قتله عشرين بعيرا ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما ، وقضى في كلب ماشية بكبش .
واحتجوا أيضا بأن الكلب المأذون فيه تجوز الوصية به ، والانتفاع به ، فأشبه الحمار .
وأجاب الجمهور بأن الأحاديث والآثار المروية في جواز بيع كلب الصيد ولزوم قيمته كلها ضعيفة .
قال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : " وأما الجواب عما احتجوا به من الأحاديث والآثار فكلها ضعيفة باتفاق المحدثين " ، وهكذا أوضح الترمذي ، والدارقطني ، والبيهقي ضعفها ، والاحتجاج بجواز الوصية به وشبهه بالحمار مردود بالنصوص الصحيحة ، المصرحة بعدم حلية ثمنه ، وما ذكره ابن عاصم المالكي في " تحفته " من قوله : [ الرجز ]
واتفقوا أن كلاب الباديه يجوز بيعها ككلب الماشيه
[ ص: 532 ] فقد رده عليه - رحمه الله - علماء المالكية ، وقد قدمنا أنه قول سحنون .
واعلم أن ما روي عن جابر ، وابن عمر مرفوعا مما يدل على جواز بيع كلب الصيد كله ضعيف ، كما بين تضعيفه ابن حجر في " فتح الباري " في باب " ثمن الكلب " .
قال القرطبي : وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس .
ومن ذلك القرد ، فإنه لا يجوز أكله ، قال القرطبي في " تفسيره " : قال أبو عمر ، يعني ابن عبد البر : أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد ; لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكله ، ولا يجوز بيعه ; لأنه لا منفعة فيه .
قال : وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أيوب : سئل مجاهد عن أكل القرد ، فقال : ليس من بهيمة الأنعام ، قلت : ذكر ابن المنذر أنه قال : روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم ، قال : يحكم به ذوا عدل ، قال : فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه ; لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد ، وفي " بحر المذهب " للروياني على مذهب الشافعي .
وقال الشافعي : يجوز بيع القرد ; لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع . اهـ .
وقال النووي في " شرح المهذب " : القرد حرام عندنا ، وبه قال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد ، ومكحول ، والحسن ، وابن حبيب المالكي .
وقال ابن قدامة في " المغني " : وقال ابن عبد البر : لا أعلم بين علماء المسلمين خلافا أن القرد لا يؤكل ، ولا يجوز بيعه ، وروي عن الشعبي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن لحم القرد " ، ولأنه سبع ، فيدخل في عموم الخبر ، ولأنه مسخ أيضا فيكون من الخبائث المحرمة .
وقد قدمنا جزم ابن حبيب ، وابن عبد البر من المالكية : بأنه حرام ، وقال الباجي : الأظهر عندي من مذهب مالك وأصحابه : أنه ليس بحرام .
ومن ذلك الفيل : فالظاهر فيه أنه من ذوات الناب من السباع ، وقد قدمنا أن التحقيق فيها التحريم ; لثبوته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب الجمهور .
وممن صححه من المالكية : ابن عبد البر ، والقرطبي .
[ ص: 533 ] وقال بعض المالكية كراهته أخف من كراهة السبع ، وأباحه أشهب ، وعن مالك في " المدونة " : كراهة الانتفاع بالعاج ، وهو سن الفيل .
وقال ابن قدامة في " المغني " : والفيل محرم ، قال أحمد : ليس هو من أطعمة المسلمين ، وقال الحسن : هو مسخ ، وكرهه أبو حنيفة ، والشافعي ، ورخص في أكله الشعبي ، ولنا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع ، وهو من أعظمها نابا ; ولأنه مستخبث فيدخل في عموم الآية المحرمة للخبائث . اهـ .
وقال النووي في " شرح المهذب " : الفيل حرام عندنا ، وعند أبي حنيفة ، والكوفيين ، والحسن ، وأباحه الشعبي ، وابن شهاب ، ومالك في رواية .
وحجة الأولين أنه ذو ناب . اهـ .
ومن ذلك الهر ، والثعلب ، والدب : فهي عند مالك من ذوات الناب من السباع ، وعنه رواية أخرى أنها مكروهة كراهة تنزيه ، ولا تحريم فيها قولا واحدا ، والهر الأهلي والوحشي عنده سواء .
وفرق بينهما غيره من الأئمة كالشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة : فمنعوا الأهلي .
قال ابن قدامة في " المغني " : فأما الأهلي فمحرم في قول إمامنا ومالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي .
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن أكل الهر ، وقال ابن قدامة في " المغني " أيضا : واختلفت الرواية في الثعلب ، فأكثر الروايات عن أحمد تحريمه ، وهذا قول أبي هريرة ، ومالك ، وأبي حنيفة ; لأنه سبع ; فيدخل في عموم النهي ، ونقل عن أحمد إباحته ، واختاره الشريف أبو جعفر ، ورخص فيه عطاء ، وطاوس ، وقتادة ، والليث ، وسفيان بن عيينة ، والشافعي ; لأنه يفدى في الإحرام والحرم ، إلى أن قال : واختلفت الرواية عن أحمد في سنور البر ، والقول فيه كالقول في الثعلب .
وحكى النووي اتفاق الشافعية على إباحة الثعلب ، وقال صاحب " المهذب " : وفي سنور الوحش وجهان :
أحدهما : لا يحل ; لأنه يصطاد بنابه فلم يحل ، كالأسد والفهد .
والثاني : يحل ; لأنه حيوان يتنوع إلى حيوان وحشي وأهلي ، فيحرم الأهلي منه ، [ ص: 534 ] ويحل الوحشي كالحمار .
وأما الدب : فهو سبع ذو ناب عند مالك ، والشافعي ، وأصحاب أبي حنيفة ، وقال أحمد : إن كان الدب ذا ناب منع أكله ، وإن لم يكن ذا ناب فلا بأس بأكله .
واختلف العلماء في جواز أكل الضبع : وهو عند مالك كالثعلب ، وقد قدمنا عنه أنه سبع في رواية ، وفي أخرى أنه مكروه ، ولا قول فيه بالتحريم ، والأحاديث التي قدمناها في سورة " المائدة " بأن الضبع صيد تدل على إباحة أكلها ، وروي عن سعد بن أبي وقاص : أنه كان يأكل الضباع ، قاله القرطبي ، ورخص في أكلها الشافعي وغيره ، وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : قال الشافعي : وما يباع لحم الضباع بمكة إلا بين الصفا والمروة .
وحجة مالك في مشهور مذهبه : أن الضبع من جملة السباع ; فيدخل في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ، ولم يخص سبعا منها عن سبع ، قال القرطبي : وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي ; لأنه حديث انفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار ، وليس مشهورا بنقل العلم ، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه ، قال أبو عمر : وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة ، روى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات ، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار . اهـ .
قال مقيده - عفا الله عنه : للمخالف أن يقول أحاديث النهي عامة في كل ذي ناب من السباع ، ودليل إباحة الضبع خاص ، ولا يتعارض عام وخاص ; لأن الخاص يقضي على العام ، فيخصص عمومه به كما هو مقرر في الأصول .
ومن ذلك القنفذ : فقد قال بعض العلماء بتحريمه ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وأبي هريرة ، وأجاز أكله الجمهور ، منهم مالك ، والشافعي ، والليث ، وأبو ثور ، وغيرهم .
واحتج من منعه بما رواه أبو داود ، والبيهقي عن أبي هريرة أنه قال : ذكر القنفذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " هو خبيث من الخبائث " .
واحتج من أباحه ، وهم الجمهور ، بأن الحديث لم يثبت ، ولا تحريم إلا بدليل . قال البيهقي في السنن الكبرى ، بعد أن ساق حديث أبي هريرة المذكور في خبث القنفذ : هذا حديث لم يرو إلا بهذا الإسناد ، وهو إسناد فيه ضعف .
وممن كره أكل القنفذ : أبو حنيفة وأصحابه . قاله القرطبي وغيره .
[ ص: 535 ] ومن ذلك حشرات الأرض : كالفأرة ، والحيات ، والأفاعي ، والعقارب ، والخنفساء ، والعظاية ، والضفادع ، والجرذان ، والوزغ ، والصراصير ، والعناكب ، وسام أبرص ، والجعلان ، وبنات وردان ، والديدان ، وحمار قبان ، ونحو ذلك .
فجمهور العلماء على تحريم أكل هذه الأشياء ; لأنها مستخبثة طبعا ، والله تعالى يقول : ويحرم عليهم الخبائث .
وممن قال بذلك : الشافعي ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وابن شهاب ، وعروة ، وغيرهم - رحمهم الله تعالى .
ورخص في أكل ذلك : مالك ، واشترط في جواز أكل الحيات أن يؤمن سمها .
وممن روي عنه الترخيص في أكل الحشرات : الأوزاعي ، وابن أبي ليلى ، واحتجوا بما رواه أبو داود ، والبيهقي ، من حديث ملقام بن تلب ، عن أبيه تلب بن ثعلبة بن ربيعة التميمي العنبري - رضي الله عنه - قال : صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما .
واحتجوا أيضا بأن الله حرم أشياء ، وأباح أشياء ، فما حرم فهو حرام ، وما أباح فهو مباح ، وما سكت عنه فهو عفو .
وقالت عائشة - رضي الله عنها - في الفأرة : ما هي بحرام ، وقرأت قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية .
ويجاب عن هذا بأن ملقام بن تلب مستور لا يعرف حاله ، وبأن قول أبيه تلب بن ثعلبة - رضي الله عنه - لم أسمع لحشرة الأرض تحريما لا يدل على عدم تحريمها ، كما قاله الخطابي ، والبيهقي ; لأن عدم سماع صحابي لشيء لا يقتضي انتفاءه كما هو معلوم ، وبأنه تعالى لم يسكت عن هذا ; لأنه حرم الخبائث ، وهذه خبائث ، لا يكاد طبع سليم يستسيغها ، فضلا عن أن يستطيبها ، والذين يأكلون مثل هذه الحشرات من العرب ، إنما يدعوهم لذلك شدة الجوع ، كما قال أحد شعرائهم : [ الطويل ]
أكلنا الربى يا أم عمرو ومن يكن غريبا لديكم يأكل الحشرات
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 01:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (88)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (14)
صـ 536 إلى صـ 540
والربى جمع ربية ، وهي الفأرة ، قاله القرطبي ، وفي " اللسان " أنها دويبة بين الفأرة وأم حبين ، ولتلك الحاجة الشديدة لما سئل بعض العرب عما يأكلون ، قال : كل ما دب [ ص: 536 ] ودرج ، إلا أم حبين ، فقال : لتهن أم حبين العافية .
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أباح قتل الفأرة ، وما ذكر معها من الفواسق ، فدل ذلك على عدم إباحتها .
واعلم أن ما ذكره بعض أهل العلم ، كالشافعي ، من أن كل ما يستخبثه الطبع السليم من العرب الذين نزل القرآن عليهم في غير حال ضرورة الجوع حرام ; لقوله تعالى : ويحرم عليهم الخبائث الآية ، استدلال ظاهر ، لا وجه لما رده به أهل الظاهر من أن ذلك أمر لا يمكن أن يناط به حكم ; لأنه لا ينضبط ; لأن معنى الخبث معروف عندهم ، فما اتصف به فهو حرام ، للآية .
ولا يقدح في ذلك النص على إباحة بعض المستخبثات ، كالثوم ; لأن ما أخرجه الدليل يخصص به عموم النص ، ويبقى حجة فيما لم يخرجه دليل ، كما قدمنا .
ويدخل فيه أيضا كل ما نص الشرع على أنه خبيث ، إلا لدليل يدل على إباحته ، مع إطلاق اسم الخبث عليه .
واستثنى بعض أهل العلم من حشرات الأرض الوزغ ، فقد ادعى بعضهم الإجماع على تحريمه ، كما ذكره ابن قدامة في " المغني " عن ابن عبد البر .
قال مقيده - عفا الله عنه : ويدل له حديث أم شريك المتفق عليه : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الأوزاغ ، وكذلك روى الشيخان أيضا عن حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - موصولا عند مسلم ، ومحتملا للإرسال عند البخاري ، فإن قوله : وزعم سعد بن أبي وقاص أنه أمر بقتله ، محتمل لأن يكون من قول عائشة ، ومحتمل لأن يكون من قول عروة ; وعليهما فالحديث متصل ، ويحتمل أن يكون من قول الزهري ; فيكون منقطعا ، واختاره ابن حجر في " الفتح " ، وقال : كأن الزهري وصله لمعمر ، وأرسله ليونس . اهـ ، ومن طريق يونس رواه البخاري ، ومن طريق معمر رواه مسلم ، وروى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة مرفوعا : الترغيب في قتل الوزغ ، وكل ذلك يدل على تحريمه .
واختلف العلماء أيضا في ابن آوى ، وابن عرس ، فقال بعض العلماء بتحريم أكلهما ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وأبي حنيفة - رحمهما الله تعالى - قال في " المغني " : سئل أحمد عن ابن آوى ، وابن عرس ، فقال : كل شيء ينهش بأنيابه من السباع ، وبهذا قال [ ص: 537 ] أبو حنيفة ، وأصحابه . اهـ .
ومذهب الشافعي - رحمه الله - الفرق بينهما ، فابن عرس حلال عند الشافعية بلا خلاف ; لأنه ليس له ناب قوي ، فهو كالضب ، واختلف الشافعية في ابن آوى .
فقال بعضهم : يحل أكله ; لأنه لا يتقوى بنابه فهو كالأرنب .
والثاني : لا يحل ; لأنه مستخبث كريه الرائحة ، ولأنه من جنس الكلاب ، قاله النووي ، والظاهر من مذهب مالك كراهتهما .
وأما الوبر ، واليربوع ، فأكلهما جائز عند مالك وأصحابه ، وهو مذهب الشافعي ، وعليه عامة أصحابه ، إلا أن في الوبر وجها عندهم بالتحريم .
وقد قدمنا أن عمر أوجب في اليربوع جفرة ، فدل ذلك على أنه صيد ، ومشهور مذهب الإمام أحمد أيضا جواز أكل اليربوع ، والوبر .
وممن قال بإباحة الوبر : عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وعمرو بن دينار ، وابن المنذر ، وأبو يوسف .
وممن قال بإباحة اليربوع أيضا : عروة ، وعطاء الخراساني ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، كما نقله عنهم صاحب " المغني " .
وقال القاضي من الحنابلة بتحريم الوبر ، قال في " المغني " : وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، إلا أبا يوسف ، وقال أيضا : إن أبا حنيفة قال في اليربوع أيضا : هو حرام ، وروي ذلك عن أحمد أيضا ، وعن ابن سيرين ، والحكم ، وحماد ; لأنه يشبه الفأر ، ونقل النووي في " شرح المهذب " عن صاحب " البيان " عن أبي حنيفة تحريم الوبر ، واليربوع ، والضب ، والقنفذ ، وابن عرس .
وممن قال بإباحة الخلد والضربوب : مالك وأصحابه .
وأما الأرنب : فالتحقيق أن أكلها مباح ; لما ثبت في " الصحيحين " عن أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم : " أهدي له عضو من أرنب فقبله " ، وفي بعض الروايات " فأكل منه " ، وقال ابن قدامة في " المغني " : أكل الأرنب سعد بن أبي وقاص ، ورخص فيها أبو سعيد ، وعطاء ، وابن المسيب ، والليث ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، ولا نعلم أحدا قائلا بتحريمها ، إلا شيئا روي عن عمرو بن العاص . اهـ .
[ ص: 538 ] وأما الضب : فالتحقيق أيضا جواز أكله ; لما ثبت في " الصحيحين " من حديث ابن عمر : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " كلوا أو أطعموا فإنه حلال " ، وقال : " لا بأس به ، ولكنه ليس من طعامي " ، يعني الضب ، ولما ثبت أيضا في " الصحيحين " من حديث خالد - رضي الله عنه : " أنه أكل ضبا في بيت ميمونة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر إليه " ، وقد قدمنا قول صاحب " البيان " عن أبي حنيفة بتحريم الضب .
ونقل في " المغني " عن أبي حنيفة أيضا ، والثوري تحريم الضب ، ونقل عن علي النهي عنه ، ولم نعلم لتحريمه مستندا ، إلا ما رواه مسلم في " الصحيح " من حديث جابر - رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أتي بضب ، فأبى أن يأكله " قال : " إني لا أدري لعله من القرون الأولى التي مسخت " ، وأخرج مسلم نحوه أيضا من حديث أبي سعيد مرفوعا ، فكأنه في هذا الحديث علل الامتناع منه باحتمال المسخ ، أو لأنه ينهش ، فأشبه ابن عرس ، ولكن هذا لا يعارض الأدلة الصحيحة الصريحة التي قدمناها بإباحة أكله ، وكان بعض العرب يزعمون أن الضب من الأمم التي مسخت ، كما يدل له قول الراجز : [ الرجز ]
قالت وكنت رجلا فطينا هذا لعمر الله إسرائينا
فإن هذه المرأة العربية أقسمت على أن الضب إسرائيلي مسخ .
وأما الجراد : فلا خلاف بين العلماء في جواز أكله ، وقد ثبت في " الصحيحين " من حديث عبد الله بن أبي أوفى ، أنه قال : " غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات نأكل الجراد " . اهـ .
وميتة الجراد من غير ذكاة حلال عند جماهير العلماء ; لحديث " أحلت لنا ميتتان ودمان " الحديث .
وخالف مالك الجمهور ، فاشترط في جواز أكله ذكاته ، وذكاته عنده ما يموت به بقصد الذكاة ، وهو معنى قول خليل بن إسحاق المالكي في " مختصره " : وافتقر نحو الجراد لها بما يموت به ، ولو لم يعجل كقطع جناح .
واحتج له المالكية بعدم ثبوت حديث ابن عمر المذكور : " أحلت لنا ميتتان " ، الحديث ; لأن طرقه لا تخلو من ضعف في الإسناد ، أو وقف ، والأصل الاحتياج إلى الذكاة ; لعموم : حرمت عليكم الميتة [ 5 \ 3 ] ، وقال ابن كثير في تفسير سورة المائدة ما نصه : " وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن [ ص: 539 ] أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان : فالسمك والجراد ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " ، وكذا رواه أحمد بن حنبل ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وهو ضعيف .
قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا ، قلت : وثلاثتهم كلهم ضعفاء ، ولكن بعضهم أصلح من بعض ، وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح . اهـ من ابن كثير ، وهو دليل لما قاله المالكية ، والله تعالى أعلم .
قال مقيده - عفا الله عنه : لكن للمخالف أن يقول : إن الرواية الموقوفة على ابن عمر من طريق سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم عنه صحيحة ، ولها حكم الرفع ; لأن قول الصحابي : أحل لنا ، أو حرم علينا ، له حكم الرفع ; لأنه من المعلوم أنهم لا يحل لهم ، ولا يحرم عليهم ، إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقرر في علوم الحديث ، وأشار النووي في " شرح المهذب " إلى أن الرواية الصحيحة الموقوفة على ابن عمر لها حكم الرفع ، كما ذكرنا وهو واضح ، وهو دليل لا لبس فيه على إباحة ميتة الجراد من غير ذكاة .
والمالكية قالوا : لم يصح الحديث مرفوعا ، وميتة الجراد داخلة في عموم قوله : حرمت عليكم الميتة الآية [ 5 \ 3 ] ، وافتقار الجراد إلى الذكاة بما يموت به ، كقطع رأسه بنية الذكاة ، أو صلقه ، أو قليه .
كذلك رواية أيضا عن الإمام أحمد ، نقلها عنه النووي في " شرح مسلم " و " شرح المهذب " ، والله تعالى أعلم .
وأما الطير : فجميع أنواعه مباحة الأكل إلا أشياء منها ، اختلف فيها العلماء .
فمن ذلك كل ذي مخلب من الطير يتقوى به ويصطاد : كالصقر ، والشاهين ، والبازي ، والعقاب ، والباشق ، ونحو ذلك .
وجمهور العلماء على تحريم كل ذي مخلب من الطير كما قدمنا ، ودليلهم ثبوت النهي عنه في " صحيح مسلم " ، وغيره ، وهو مذهب الشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة .
ومذهب مالك - رحمه الله : إباحة أكل ذي المخلب من الطير ; لعموم قوله تعالى : [ ص: 540 ] قل لا أجد الآية ; ولأنه لم يثبت عنده نص صريح في التحريم .
وممن قال كقول مالك : الليث ، والأوزاعي ، ويحيى بن سعيد ، وقال مالك : لم أر أحدا من أهل العلم يكره سباع الطير ، وقال ابن القاسم : لم يكره مالك أكل شيء من الطير كله ؛ الرخم ، والعقبان ، والنسور ، والحدأة ، والغربان ، وجميع سباع الطير ، وغير سباعها ، ما أكل الجيف منها ، وما لم يأكلها .
ولا بأس بأكل الهدهد ، والخطاف ، وروي على كراهة أكل الخطاف ابن رشد ; لقلة لحمها مع تحرمها بمن عششت عنده ، انتهى من " المواق " في شرحه لقول خليل في " مختصره " وطير ، ولو جلالة .
ومن ذلك الحدأة ، والغراب الأبقع لما تقدم من أنهما من الفواسق التي يحل قتلها في الحل والحرم ; وإباحة قتلها دليل على منع أكلها ، وهو مذهب الجمهور خلافا لمالك ، ومن وافقه ، كما ذكرنا آنفا .
وقالت عائشة - رضي الله عنها : إني لأعجب ممن يأكل الغراب ، وقد أذن - صلى الله عليه وسلم - في قتله ، وقال صاحب " المهذب " ، بعد أن ذكر تحريم أكل الغراب الأبقع : ويحرم الغراب الأسود الكبير ; لأنه مستخبث يأكل الجيف فهو كالأبقع .
وفي الغداف ، وغراب الزرع وجهان :
أحدهما : لا يحل ; للخبر .
والثاني : يحل ; لأنه مستطاب يلقط الحب ، فهو كالحمام ، والدجاج ، وقال ابن قدامة في " المغني " ويحرم منها ما يأكل الجيف ، كالنسور ، والرخم ، وغراب البين وهو أكبر الغربان ، والأبقع . قال عروة : ومن يأكل الغراب ، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاسقا ؟ والله ما هو من الطيبات . اهـ .
قال مقيده - عفا الله عنه : الظاهر المتبادر أن كل شيء أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله بغير الذكاة الشرعية أنه محرم الأكل ; إذ لو كان الانتفاع بأكله جائزا لما أذن - صلى الله عليه وسلم - في إتلافه كما هو واضح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 01:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (89)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (15)
صـ 541 إلى صـ 545
وقال النووي : الغراب الأبقع حرام بلا خلاف ; للأحاديث الصحيحة ، والأسود الكبير فيه طريقان :
[ ص: 541 ] إحداهما : أنه حرام .
والأخرى : أن فيه وجهين ، أصحهما التحريم .
وغراب الزرع : فيه وجهان مشهوران : أصحهما أنه حلال ، وهو الزاغ ، وهو أسود صغير ، وقد يكون محمر المنقار والرجلين . اهـ ، منه بالمعنى في " شرح المهذب " .
ومن ذلك الصرد ، والهدهد ، والخطاف ، والخفاش وهو الوطواط .
ومذهب الشافعي : تحريم أكل الهدهد والخطاف .
قال صاحب " المهذب " : ويحرم أكل الهدهد والخطاف ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتلهما ، وقال النووي في " شرح المهذب : أما حديث النهي عن قتل الهدهد ، فرواه عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل أربع من الدواب : " النملة ، والنحلة ، والهدهد ، والصرد " ، رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ، ومسلم ذكره في آخر كتابه ، ورواه ابن ماجه في كتاب الصيد بإسناد على شرط البخاري ، وأما النهي عن قتل الخطاف فهو ضعيف ومرسل ، رواه البيهقي بإسناده عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية ، وهو من تابعي التابعين ، أو من التابعين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن قتل الخطاطيف " ، ثم قال : قال البيهقي : هذا منقطع ، قال : وروى حمزة النصيبي فيه حديثا مسندا إلا أنه كان يرمى بالوضع . اهـ
ومما ذكره النووي : تعلم أن الصرد ، والهدهد لا يجوز أكلهما في مذهب الشافعي ; لثبوت النهي عن قتلهما ، وقال النووي أيضا : وصح عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا عليه ، أنه قال : " لا تقتلوا الضفادع ; فإن نقيقها تسبيح ، ولا تقتلوا الخفاش ; فإنه لما خرب بيت المقدس قال : يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم ، قال البيهقي : إسناده صحيح .
قال مقيده - عفا الله عنه : والظاهر في مثل هذا الذي صح عن عبد الله بن عمرو ، من النهي عن قتل الخفاش ، والضفدع أنه في حكم المرفوع ; لأنه لا مجال للرأي فيه ; لأن علم تسبيح الضفدع ، وما قاله الخفاش لا يكون بالرأي ، وعليه فهو يدل على منع أكل الخفاش والضفدع .
وقال ابن قدامة في " المغني " : ويحرم الخطاف ، والخشاف ، أو الخفاش وهو الوطواط ، وقال الشاعر : [ الكامل ]
[ ص: 542 ]
مثل النهار يزيد أبصار الوري نورا ويعمي أعين الخفاش
قال أحمد : ومن يأكل الخشاف ؟ ، وسئل عن الخطاف ، فقال : لا أدري ، وقال النخعي : أكل الطير حلال إلا الخفاش ، وإنما حرمت هذه لأنها مستخبثة لا تأكلها العرب . اهـ ، من " المغني " . والخشاف هو الخفاش ، وقد قدمنا عن مالك وأصحابه جواز أكل جميع أنواع الطير ، واستثنى بعضهم من ذلك الوطواط .
وفي الببغا ، والطاوس وجهان للشافعية : قال البغوي وغيره : وأصحهما التحريم .
وفي العندليب ، والحمرة لهم أيضا وجهان : والصحيح إباحتهما ، وقال أبو عاصم العبادي : يحرم ملاعب ظله ، وهو طائر يسبح في الجو مرارا كأنه ينصب على طائر ، وقال أبو عاصم أيضا : والبوم حرام كالرخم ، قال : والضوع ، بضم الضاد المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة ، حرام على أصح القولين ، قال الرافعي : هذا يقتضي أن الضوع غير البوم ، قال : لكن في " صحاح الجوهري " أن الضوع طائر من طير الليل من جنس الهام ، وقال المفضل : هو ذكر البوم ، قال الرافعي : فعلى هذا إن كان في الضوع قول لزم إجراؤه في البوم ; لأن الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان ، قاله النووي : ثم قال : قلت : الأشهر أن الضوع من جنس الهام ; فلا يلزم اشتراكهما في الحكم .
وأما حشرات الطير ، كالنحل ، والزنابير ، والذباب ، والبعوض ، ونحو ذلك : فأكلها حرام عند الشافعي ، وأحمد ، وأكثر العلماء ; لأنها مستخبثة طبعا ، والله تعالى يقول : ويحرم عليهم الخبائث .
ومن ذلك الجلالة : وهي التي تأكل النجس ، وأصلها التي تلتقط الجلة بتثليث الجيم : وهي البعر ، والمراد بها عند العلماء : التي تأكل النجاسات من الطير والدواب .
ومشهور مذهب الإمام مالك : جواز أكل لحم الجلالة مطلقا ، أما لبنها وبولها فنجسان في مشهور مذهبه ، ما دام النجس باقيا في جوفها ، ويطهر لبنها وبولها عنده إن أمسكت عن أكل النجس ، وعلفت علفا طاهرا مدة يغلب على الظن فيها عدم بقاء شيء في جوفها من الفضلات النجسة ، وكره كثير من العلماء لحم الجلالة ولبنها ، وحجتهم حديث ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ألبان الجلالة ، قال النووي في " شرح المهذب " : حديث ابن عباس صحيح ، رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . اهـ .
[ ص: 543 ] وقال النووي في حد الجلالة : والصحيح الذي عليه الجمهور أنه لا اعتبار بالكثرة ، وإنما الاعتبار بالرائحة والنتن ، فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة فجلالة ، وإلا فلا . وأكل لحم الجلالة وشرب لبنها مكروه عند الشافعية ، والصحيح عندهم أنها كراهة تنزيه ، وقيل : كراهة تحريم .
وقال ابن قدامة في " المغني " : قال أحمد : أكره لحوم الجلالة وألبانها ، قال القاضي في المجرد : هي التي تأكل القذر ، فإذا كان أكثر علفها النجاسة حرم لحمها ولبنها .
وفي بيضها روايتان : وإن كان أكثر علفها الطاهر لم يحرم أكلها ولا لبنها ، وتحديد الجلالة يكون أكثر علفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد ، ولا هو ظاهر كلامه ، لكن يمكن تحديده بما يكون كثيرا في مأكولها ويعفى عن اليسير ، وقال الليث : إنما كانوا يكرهون الجلالة التي لا طعام لها إلا الرجيع وما أشبهه ، وقال ابن أبي موسى في الجلالة روايتان :
إحداهما : أنها محرمة .
والثانية : أنها مكروهة غير محرمة ، وهذا قول الشافعي ، وكره أبو حنيفة لحومها ، والعمل عليها حتى تحبس ، ورخص الحسن في لحومها وألبانها ; لأن الحيوانات لا تتنجس بأكل النجاسات ; بدليل أن شارب الخمر لا يحكم بتنجيس أعضائه ، والكافر الذي يأكل الخنزير والمحرمات لا يكون ظاهره نجسا ، ولو نجس لما طهر بالإسلام ، ولا الاغتسال ، ولو نجست الجلالة لما طهرت بالحبس . اهـ .
والظاهر كراهة ركوب الجلالة ، وهو مكروه عند الشافعي ، وأحمد ، وعمر ، وابنه عبد الله ، وروي عن ابن عمر مرفوعا كراهة ركوب الجلالة ، أخرجه البيهقي وغيره .
والسخلة المرباة بلبن الكلبة حكمها حكم الجلالة فيما يظهر ، فيجري فيها ما جرى فيها ، والله تعالى أعلم .
ومن ذلك الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات ، أو سمدت بها ، فأكثر العلماء على أنها طاهرة ، وأن ذلك لا ينجسها ، وممن قال بذلك مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، خلافا للإمام أحمد ، وقال ابن قدامة في " المغني " : وتحرم الزروع والثمار التي سقيت بالنجاسات ، أو سمدت بها ، وقال ابن عقيل : يحتمل أن يكره ذلك ولا يحرم ، ولا يحكم بتنجيسها ; لأن النجاسة تستحيل في باطنها فتطهر بالاستحالة ، كالدم يستحيل في أعضاء [ ص: 544 ] الحيوان لحما ، ويصير لبنا ، وهذا قول أكثر الفقهاء ، منهم أبو حنيفة ، والشافعي ، وكان سعد بن أبي وقاص يدمل أرضه بالعرة ويقول : مكتل عرة مكتل بر ، والعرة : عذرة الناس ، ولنا ما روي عن ابن عباس : كنا نكري أراضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونشترط عليهم ألا يدملوها بعذرة الناس ، ولأنها تتغذى بالنجاسات ، وتترقى فيها أجزاؤها ، والاستحالة لا تطهر ، فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات ، كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات . اهـ ، من المغني بلفظه .
قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أنهم سيقولون : لو شاء الله ما أشركنا ، وذكر في غير هذا الموضع أنهم قالوا ذلك بالفعل ، كقوله في النحل : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه الآية [ \ 35 ] وقوله في الزخرف : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم الآية [ \ 20 ] .
ومرادهم : أن الله لما كان قادرا على منعهم من الإشراك ، ولم يمنعهم منه ، أن ذلك دليل على رضاه بشركهم ، ولذلك كذبهم هنا بقوله : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن [ 6 \ 148 ] ، وكذبهم في الزخرف ، بقوله : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ \ 20 ] ، وقال في الزمر : ولا يرضى لعباده الكفر الآية [ \ 7 ] .
قوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا
الآية ، الظاهر في قوله : ما حرم ربكم عليكم أنه مضمن معنى ما وصاكم به فعلا ، أو تركا ; لأن كلا من ترك الواجب ، وفعل الحرام حرام ، فالمعنى وصاكم ألا تشركوا ، وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا .
وقد بين تعالى أن هذا هو المراد بقوله : ذلكم وصاكم به الآية [ 6 \ 185 ] .
قوله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق الآية ، نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن قتل الأولاد من أجل الفقر الواقع بالفعل ; ونهى في سورة الإسراء عن قتلهم خشية الفقر المترقب المخوف منه ، مع أنه غير واقع في الحال ، بقوله : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [ 17 \ 31 ] ، وقد أوضح - صلى الله عليه وسلم - معناه حين سأله عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه : " أي الذنب أعظم ؟ فقال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قال : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون الآية [ 25 \ 68 ] .
[ ص: 545 ] وأخذ بعض أهل العلم من هذه الآية منع العزل ; لأنه وأد خفي ، وحديث جابر : " كنا نعزل والوحي ينزل " يدل على جوازه ، لكن قال جماعة من أهل العلم : إنه لا يجوز عن الحرة إلا بإذنها ، ويجوز عن الأمة بغير إذنها . والإملاق : الفقر ، وقال بعض أهل العلم : الإملاق الجوع .
وحكاه النقاش عن مؤرج ، وقيل : الإملاق الإنفاق ، يقال : أملق ماله بمعنى أنفقه ، وذكر أن عليا قال لامرأته : أملقي ما شئت من مالك .
وحكي هذا القول عن منذر بن سعيد ، ذكره القرطبي ، وغيره ، والصحيح الأول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 01:55 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (90)
سُورَةُ الْأَنْعَامِ (16)
صـ 546 إلى صـ 549
قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده الآية ، قد يتوهم غير العارف من مفهوم مخالفة هذه الآية الكريمة ، أعني مفهوم الغاية في قوله : حتى يبلغ أشده [ 6 \ 152 ] أنه إذا بلغ أشده ، فلا مانع من قربان ماله بغير التي هي أحسن ، وليس ذلك مرادا بالآية ، بل الغاية ببلوغ الأشد يراد بها : أنه إن بلغ أشده يدفع إليه ماله ، إن أونس منه الرشد ، كما بينه تعالى بقوله : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم الآية [ 4 \ 6 ] .
والتحقيق أن المراد بالأشد في هذه الآية البلوغ ; بدليل قوله تعالى : حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا الآية .
والبلوغ يكون بعلامات كثيرة ، كالإنبات ، واحتلام الغلام ، وحيض الجارية ، وحملها ، وأكثر أهل العلم على أن سن البلوغ خمس عشرة سنة ، ومن العلماء من قال : إذا بلغت قامته خمسة أشبار فقد بلغ ، ويروى هذا القول عن علي ، وبه أخذ الفرزدق في قوله يرثي يزيد بن المهلب : [ الكامل ]
ما زال مذ عقدت يداه إزاره فسما فأدرك خمسة الأشبار
يدني خوافق من خوافق تلتقي في ظل معتبط الغبار مثار
والأشد ، قال بعض العلماء : هو واحد لا جمع له كالآنك ، وهو الرصاص ، وقيل : واحده شد ، كفلس وأفلس ، قاله القرطبي وغيره ، وعن سيبويه أنه جمع شدة ، ومعناه حسن ; لأن العرب تقول : بلغ الغلام شدته ، إلا أن جمع الفعلة فيه على أفعل غير معهود ، [ ص: 546 ] كما قاله الجوهري ، وأما أنعم ، فليس جمع نعمة ، وإنما هو جمع نعم من قولهم بئس ونعم ، قاله القرطبي ، وقال أيضا : وأصل الأشد من شد النهار إذا ارتفع ، يقال : أتيته شد النهار ، وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة : [ الكامل ]
عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال الآخر : [ الطويل ]
تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق
قال مقيده - عفا الله عنه : ومنه قول كعب بن زهير : [ البسيط ]
شد النهار ذراعا عيطل نصف قامت فجاوبها نكد مثاكيل
فقوله : " شد النهار " يعني وقت ارتفاعه ، وهو بدل من اليوم ، في قوله قبله :
يوما يظل به الحرباء مصطخدا كأن ضاحيه بالشمس محلول
فشد النهار بدل من قوله يوما ، بدل بعض من كل ، كما أن قوله : " يوما " بدل من إذا في قوله قبل ذلك : [ البسيط ]
كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل
لأن الزمن المعبر عنه " بإذا " هو بعينه اليوم المذكور في قوله : " يوما يظل " البيت ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى [ 79 \ 34 ، 35 ] ، وقوله : فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء الآية [ 80 \ 33 ، 34 ] ، وإعراب أبيات كعب هذه يدل على جواز تداخل البدل ، وقوله : " ذراعا عيطل " خبر كأن في قوله : " كأن أوب ذراعيها " البيت .
وقال السدي : الأشد ثلاثون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ستون سنة ، ولا يخفى أن هذه الأقوال بعيدة عن المراد بالآية كما بينا ، وإن جازت لغة ، كما قال سحيم بن وثيل : [ الوافر ]
أخو خمسين مجتمع أشدي ونجذني مداورة الشئون
[ ص: 547 ] تنبيه
قال مالك وأصحابه : إن الرشد الذي يدفع به المال إلى من بلغ النكاح ، هو حفظ المال ، وحسن النظر في التصرف فيه ، وإن كان فاسقا شريبا ، كما أن الصالح التقي إذا كان لا يحسن النظر في المال لا يدفع إليه ماله ، قال ابن عاصم المالكي في " تحفته " : [ الرجز ]
وشارب الخمر إذا ما ثمرا لما يلي من ماله لن يحجرا
وصالح ليس يجيد النظرا في المال إن خيف الضياع حجرا
وقال الشافعي ومن وافقه : لا يكون الفاسق العاصي رشيدا ; لأنه لا سفه أعظم من تعريضه نفسه لسخط الله وعذابه بارتكاب المعاصي ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بإيفاء الكيل والميزان بالعدل ، وذكر أن من أخل بإيفائه من غير قصد منه لذلك ، لا حرج عليه لعدم قصده ، ولم يذكر هنا عقابا لمن تعمد ذلك ، ولكن توعده بالويل في موضع آخر ، ووبخه بأنه لا يظن البعث ليوم القيامة ، وذلك في قوله : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 1 - 6 ] .
وذكر في موضع آخر أن إيفاء الكيل والميزان خير لفاعله ، وأحسن عاقبة ، وهو قوله تعالى : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا [ 17 \ 35 ] .
قوله تعالى : وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالعدل في القول ، ولو كان على ذي قرابة ، وصرح في موضع آخر بالأمر بذلك ، ولو كان على نفسه أو والديه ، وهو قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين الآية [ 4 \ 135 ] .
قوله تعالى : وبعهد الله أوفوا الآية ، أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالإيفاء بعهد الله ، وصرح في موضع آخر أن عهد الله سيسأل عنه يوم القيامة ، بقوله : [ ص: 548 ] وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] ، أي : عنه .
قوله تعالى : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم قطع عذر كفار مكة ; لئلا يقولوا : لو أنزل علينا كتاب لعملنا به ، ولكنا أهدى من اليهود والنصارى ، الذين لم يعملوا بكتبهم ، وصرح في موضع آخر أنهم أقسموا على ذلك ، وأنه لما أنزل عليهم ، ما زادهم نزوله إلا نفورا وبعدا عن الحق ; لاستكبارهم ومكرهم السيئ ، وهو قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 42 ] .
قوله تعالى : فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها الآية .
قال بعض العلماء : إن هذا الفعل أعني " صدف " في هذه الآية لازم ، ومعناه أعرض عنها ، وهو مروي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة .
وقال السدي : " صدف " في هذه الآية متعدية للمفعول ، والمفعول محذوف ، والمعنى : أنه صد غيره عن اتباع آيات الله ، والقرآن يدل لقول السدي ; لأن إعراض هذا الذي لا أحد أظلم منه عن آيات الله ، صرح به في قوله : فمن أظلم ممن كذب بآيات الله [ 6 \ 157 ] ، إذا لا إعراض أعظم من التكذيب ، فدل ذلك على أن المراد بقوله : وصدف عنها ، أنه صد غيره عنها ، فصار جامعا بين الضلال والإضلال .
وعلى القول الأول فمعنى " صدف " مستغنى عنه بقوله " كذب " ونظير الآية على القول الذي يشهد له القرآن ، وهو قول السدي .
قوله تعالى : وهم ينهون عنه وينأون عنه .
اهـ .
وقوله : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب الآية [ 16 \ 88 ] .
وقد يوجه قول ابن عباس ، وقتادة ، ومجاهد بأن المراد بتكذيبه ، وإعراضه : أنه لم يؤمن بها قلبه ، ولم تعمل بها جوارحه ، ونظيره قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ، 32 ] ، ونحوها من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه ، وترك العمل بجوارحه ، قال ابن كثير في " تفسيره " بعد أن أشار إلى هذا : [ ص: 549 ] ولكن كلام السدي أقوى وأظهر ، والله أعلم . اهـ .
وإطلاق " صدف " بمعنى أعرض كثير في كلام العرب ، ومنه قول أبي سفيان بن الحارث : [ الطويل ]
عجبت لحكم الله فينا وقد بدا له صدفنا عن كل حق منزل
وروي أن ابن عباس أنشد بيت أبي سفيان هذا لهذا المعنى ، ومنه أيضا قول ابن الرقاع : [ البسيط ]
إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه وهن عن كل سوء يتقى صدف
أي : معرضات .
قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة إتيان الله جل وعلا وملائكته يوم القيامة ، وذكر ذلك في موضع آخر ، وزاد فيه أن الملائكة يجيئون صفوفا ، وهو قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، وذكره في موضع آخر ، وزاد فيه أنه جل وعلا يأتي في ظلل من الغمام ، وهو قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة الآية [ 2 \ 210 ] ، ومثل هذا من صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يمر كما جاء ويؤمن بها ، ويعتقد أنه حق ، وأنه لا يشبه شيئا من صفات المخلوقين ، فسبحان من أحاط بكل شيء علما : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 210 ] .
قوله تعالى : قل إن صلاتي ونسكي الآية .
قال بعض العلماء : المراد بالنسك هنا النحر ، لأن الكفار كانوا يتقربون لأصنامهم بعبادة من أعظم العبادات : هي النحر ، فأمر الله تعالى نبيه أن يقول إن صلاته ونحره كلاهما خالص لله تعالى ، ويدل لهذا قوله تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] ، وقال بعض العلماء : النسك جميع العبادات ، ويدخل فيه النحر ، وقال بعضهم : المراد بقوله : وانحر وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر في الصلاة ، والله تعالى أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 02:06 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (91)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(1)
صـ 3 إلى صـ 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْأَعْرَافِ
قوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج منه الآية .
قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي : حرج أي شك ، أي لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقا ، وعلى هذا القول فالآية ، كقوله تعالى : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 2 \ 147 ] وقوله : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] ، وقوله : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 10 \ 49 ] .
والممتري : هو الشاك ; لأنه مفتعل من المرية وهي الشك ، وعلى هذا القول فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
والمراد نهي غيره عن الشك في القرآن ، كقول الراجز : [ الرجز ]
إياك أعني واسمعي يا جارة وكقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] ، وقوله : ولئن اتبعت أهواءهم الآية [ 2 \ 120 و 145 ] و [ 13 \ 137 ] .
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا من ذلك ، ولكن الله يخاطبه ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم .
وجمهور العلماء : على أن المراد بالحرج في الآية الضيق . أي لا يكن في صدرك ضيق عن تبليغ ما أمرت به لشدة تكذيبهم لك ، لأن تحمل عداوة الكفار ، والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر ، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات مما يضيق به الصدر . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة " ، أخرجه مسلم . والثلغ : الشدخ ، وقيل ضرب الرطب باليابس حتى ينشدخ ، وهذا البطش مما [ ص: 4 ] يضيق به الصدر .
ويدل لهذا الوجه الأخير في الآية قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] ، وقوله : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ 15 \ 97 ] ، وقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 181 \ 6 ] وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] .
ويؤيد الوجه الأخير في الآية أن الحرج في لغة العرب : الضيق . وذلك معروف في كلامهم ، ومنه قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج [ 24 \ 61 ] ، وقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، وقوله : يجعل صدره ضيقا حرجا [ 6 \ 125 ] ، أي : شديد الضيق ، إلى غير ذلك من الآيات ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة ، أو جميل : [ الكامل ]
فخرجت خوف يمينها فتبسمت فعلمت أن يمينها لم تحرج
وقول العرجي [ السريع ] :
عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي
والمراد بالإحراج في البيتين :
الإدخال في الحرج . بمعنى الضيق كما ذكرنا .
قوله تعالى : لتنذر به وذكرى للمؤمنين .
لم يبين هنا المفعول به لقوله لتنذر ، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر ، كقوله : لينذر بأسا شديدا من لدنه الآية [ 18 \ 2 ] ، وقوله : فأنذرتكم نارا تلظى [ 92 \ 14 ] ، وقوله : إنا أنذرناكم عذابا قريبا الآية [ 78 \ 40 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله : لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] فالإنذار للكفار ، والذكرى للمؤمنين ، ويدل لذلك قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وقوله : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] .
[ ص: 5 ] ولا ينافي ما ذكرنا - من أن الإنذار للكفار ، والذكرى للمؤمنين - أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم ، في قوله تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم [ 36 \ 11 ] ; لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصورا عليهم ، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم ; لأن ما لا نفع فيه فهو كالعدم .
ومن أساليب اللغة العربية : التعبير عن قليل النفع بأنه لا شيء .
وحاصل تحرير المقام في هذا المبحث : أن الإنذار يطلق في القرآن إطلاقين :
أحدهما : عام لجميع الناس ، كقوله : ياأيها المدثر قم فأنذر [ 74 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .
وهذا الإنذار العام : هو الذي قصر على المؤمنين قصرا إضافيا في قوله : إنما تنذر من اتبع الذكر الآية ; لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم .
والثاني : إنذار خاص بالكفار ; لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب ، وهو الذي يذكر في القرآن مبينا أنه خاص بالكفار دون المؤمنين ، كقوله : لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ، وقوله هنا : لتنذر به وذكرى للمؤمنين اهـ .
والإنذار في اللغة العربية : الإعلام المقترن بتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .
قوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون ، خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم ، بأنه أهلك كثيرا من القرى بسبب تكذيبهم الرسل ، فمنهم من أهلكها بياتا ، أي : ليلا ، ومنهم من أهلكها وهم قائلون ، أي في حال قيلولتهم ، والقيلولة : الاستراحة وسط النهار . يعني : فاحذروا تكذيب رسولي صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] ، وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 22 \ 45 ] ، وقوله : وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين [ 28 \ 58 ] ، وقوله : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم ، ثم بين أنه [ ص: 6 ] يريد تهديدهم بذلك بقوله : وللكافرين أمثالها إلى غير ذلك من الآيات .
وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلا في حالة النوم ، أو ضحى في حالة اللعب ، في قوله تعالى : أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون [ 7 \ 97 ، 98 ] ، وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى : أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 45 ، 46 ، 47 ] .
قوله تعالى : فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات ، أو في حال القيلولة ، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين .
وأوضح هذا المعنى في قوله : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 11 - 15 ] .
قال ابن جرير رحمه الله : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " . حدثنا بذلك ابن حميد ، حدثنا جرير عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " قال : قلت لعبد الله كيف يكون ذلك ؟ قال : فقرأ هذه الآية : فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين [ 7 \ 5 ] .
قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين .
لم يبين هنا الشيء المسئول عنه المرسلون ، ولا الشيء المسئول عنه الذين أرسل إليهم .
وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم ، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم .
قال في الأول : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] .
[ ص: 7 ] وقال في الثاني : ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] .
وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعملون ، وهو قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 ، 93 ] .
وهنا إشكال معروف : وهو أنه تعالى قال هنا : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، وقال أيضا : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ، وقال : وقفوهم إنهم مسئولون [ 37 \ 24 ] ، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة ، مع أنه قال : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وقال : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] .
وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وسنزيده إيضاحا هنا إن شاء الله تعالى .
اعلم أولا : أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة ، أخص من السؤال المثبت فيها ; لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالا عن ذنوب خاصة ، فإنه قال : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] فخصه بكونه عن الذنوب ، وقال : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان فخصه بذلك أيضا ، فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والموءودة مثلا ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه ; لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب ، ويزيد ذلك إيضاحا قوله تعالى : ليسأل الصادقين عن صدقهم الآية [ 5 \ 119 ] ، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله الآية [ 33 \ 8 ] ، قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم الآية [ 33 \ 8 ] ، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات : المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام ; لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء ، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع ; لأنه نوع من أنواع العذاب ، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون .
وقوله : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون [ 52 \ 15 ] . إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين .
بين تعالى في هذه الآية [ ص: 8 ] الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا ، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائبا عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا ، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق ، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير ، وجليل وحقير ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [ 58 \ 7 ] ، وقوله : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] وقوله : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] .
تنبيه
في هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة النافين صفات المعاني ، القائلين : إنه تعالى عالم بذاته ، لا بصفة قامت بذاته ، هي العلم ، وهكذا في قولهم : قادر مريد ، حي سميع ، بصير متكلم ، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله : فلنقصن عليهم بعلم \ [ 7 \ 7 ] 30 ونظيره قوله تعالى : أنزله بعلمه الآية [ 4 \ 166 ] . وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه .
قوله تعالى : والوزن يومئذ الحق بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه ، ولا ظلم ، فلا يزاد في سيئات مسيء ، ولا ينقص من حسنات محسن .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] ، وقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية [ 4 \ 40 ] إلى غير ذلك من الآيات .
الحرف المنير \ سحر \ أضواء البيان \ ج 2 \ من ص 292 - إلى ص . . . . . . . . . 302
قوله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون .
[ ص: 9 ] بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من ثقلت موازينهم أفلحوا ، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم ، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا .
وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة ، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار ، وذلك في قوله : وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة ، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار ، وذلك في قوله : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 6 - 11 ] .
وبين أيضا خسران من خفت موازينه ، بقوله : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 23 \ 103 ، 104 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وجعلنا لكم فيها معايش . لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .
وقوله : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [ 20 \ 53 ، 54 ] .
وذكر كثيرا من ذلك في سورة النحل كقوله : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ \ 5 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك .
ال بعض العلماء : معناه : ما منعك أن تسجد ، و " لا " صلة ، ويشهد لهذا قوله تعالى : في سورة " ص " قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية [ \ 75 ] ، وقد أوضحنا زيادة لفظة " لا " وشواهد ذلك من القرآن ، ومن كلام العرب في سورة البلد ، في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 02:15 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (92)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(2)
صـ 10 إلى صـ 15
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ، ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ إِبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ خُلِقَ مِنْ نَارٍ ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إِبْلِيسَ هُوَ الْجَانُّ الَّذِي هُوَ أَبُو الْجِنِّ ، فَقَدْ زَادَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَوْصَافًا لِلنَّارِ الَّتِي خَلَقَهُ مِنْهَا . مِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا نَارُ السَّمُومِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [ 15 \ 27 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهَا خُصُوصُ الْمَارِجِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [ 55 \ 15 ] ، وَالْمَارِجُ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ النَّارِ لِأَنَّهُ اللَّهَبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ .
وَسُمِّيَتْ نَارَ السَّمُومِ ; لِأَنَّهَا تَنْفُذُ فِي مَسَامِّ الْبَدَنِ لِشِدَّةِ حَرِّهَا . وَفِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَرْفُوعًا : " خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ " . وَرَوَاهُ عَنْهَا أَيْضًا الْإِمَامُ أَحْمَدُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ 7 \ 13 ] .
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّهُ عَامَلَ إِبْلِيسَ اللَّعِينَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ حَيْثُ كَانَ قَصْدُهُ التَّعَاظُمَ وَالتَّكَبُّرَ ، فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ صَاغِرًا حَقِيرًا ذَلِيلًا ، مُتَّصِفًا بِنَقِيضِ مَا كَانَ يُحَاوِلُهُ مِنَ الْعُلُوِّ وَالْعَظَمَةِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [ 7 \ 13 ] ، وَالصَّغَارُ : أَشَدُّ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ ، وَقَوْلِهِ : اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا [ 7 \ 18 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُتَكَبِّرَ لَا يَنَالُ مَا أَرَادَ مِنَ الْعَظَمَةِ وَالرِّفْعَةِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ نَقِيضُ ذَلِكَ . وَصَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [ 40 \ 56 ] . وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرًا مِنَ الْعَوَاقِبِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنِ الْكِبْرِ ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَالْمُسْلِمِين َ مِنْهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِصَرْفِ صَاحِبِهِ عَنْ فَهْمِ آيَاتِ اللَّهِ ، وَالِاهْتِدَاءِ بِهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [ 7 \ 146 ] . وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ الثَّوَاءِ فِي النَّارِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِ ينَ [ 39 \ 60 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [ 37 \ 35 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ : لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِ ينَ [ 16 \ 23 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اسْتَعَاذَ مِنَ الْمُتَّصِفِ بِهِ وَلَا يُسْتَعَاذُ إِلَّا مِمَّا هُوَ شَرٌّ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [ 40 \ 27 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ [ ص: 11 ] نَتَائِجِهِ السَّيِّئَةِ ، وَعَوَاقِبِهِ الْوَخِيمَةِ ، وَيُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْآيَةِ : أَنَّ الْمُتَوَاضِعَ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا يَرْفَعُهُ اللَّهُ .
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى مَكَانَةِ الْمُتَوَاضِعِي نَ لَهُ عِنْدَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [ 25 \ 63 ] ، وَقَوْلِهِ : تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ 28 \ 83 ] وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " إِنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، وَلَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : [ الطَّوِيلُ ]
تَوَاضَعْ تَكُنْ كَالْبَدْرِ تُبْصِرُ وَجْهَهُ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَاءِ وَهُوَ رَفِيعُ وَلَا تَكُ كَالدُّخَّانِ يَعْلُو بِنَفْسِهِ
إِلَى صَفَحَاتِ الْجَوِّ وَهُوَ وَضِيعُ وَقَالَ أَبُو الطِّيبِ الْمُتَنَبِّي : [ الْوَافِرُ ]
وَلَوْ لَمْ يَعْلُ إِلَّا ذُو مَحَلٍّ تَعَالَ الْجَيْشُ وَانْحَطَّ الْقَتَامُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمَنْظَرِينَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ الْغَايَةَ الَّتِي أَنْظَرَهُ إِلَيْهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهَا فِي " الْحِجْرِ " وَ " ص " مُبَيِّنًا أَنَّ غَايَةَ ذَلِكَ الْإِنْظَارِ هُوَ يَوْمُ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ .
لِقَوْلِهِ : فِي سُورَةِ " الْحِجْرِ " وَ " ص " فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ \ 80 ] فَقَدْ طَلَبَ الشَّيْطَانُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ، وَقَدْ أَعْطَاهُ اللَّهُ الْإِنْظَارَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ .
وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ : الْمُرَادُ بِهِ وَقْتُ النَّفْخَةِ الْأُولَى ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ، هَذَا الَّذِي ذَكَرَ إِبْلِيسُ أَنَّهُ سَيُوقِعُ بَنِي آدَمَ فِيهِ قَالَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُمْ سَيُطِيعُونَهُ فِيمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حَتَّى يُهْلِكَهُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ " سَبَأٍ " أَنَّ ظَنَّهُ هَذَا صَدَقَ فِيهِمْ بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ الْآيَةَ [ \ 20 ] ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ [ 38 \ 84 ، 85 ] .
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ قَالَ لِإِبْلِيسَ : اخْرُجْ مِنْهَا فِي حَالِ كَوْنِكِ مَذْءُومًا مَدْحُورًا . وَالْمَذْءُومُ : الْمَعِيبُ أَوِ الْمَمْقُوتُ ، وَالْمَدْحُورُ : الْمُبْعَدُ عَنِ الرَّحْمَةِ ، الْمَطْرُودُ ، وَأَنَّهُ أَوْعَدَهُ بِمَلْءِ جَهَنَّمَ مِنْهُ . وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ [ ص: 12 ] أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ 38 \ 84 ، 85 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا [ 17 \ 63 ، 64 ] ، وَقَوْلِهِ : فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ [ 26 \ 94 ، 95 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ .
حَذَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَنِي آدَمَ أَنْ يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا فَتَنَ أَبَوَيْهِمْ ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّهُ حَذَّرَ آدَمَ مِنْ مَكْرِ إِبْلِيسَ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ فِيمَا وَقَعَ فِيهِ ، وَلَمْ يُنْجِهِ ذَلِكَ التَّحْذِيرُ مِنْ عَدُوِّهِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ 20 \ 117 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا الْآيَةَ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً ، اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَصَوَابٌ ، بِأَنَّهُمْ وَجَدُوا آبَاءَهُمْ يَفْعَلُونَهَا ، وَأَنَّهُمْ مَا فَعَلُوهَا ، إِلَّا لِأَنَّهَا صَوَابٌ وَرُشْدٌ .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ هَذَا وَاقِعٌ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [ 43 \ 23 ] .
وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا التَّقْلِيدَ الْأَعْمَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 2 \ 170 ] ، وَقَوْلِهِ : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 5 \ 104 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ [ 43 \ 24 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ [ 37 \ 69 ، 70 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَى كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ أَيْ كَمَا سَبَقَ لَكُمْ فِي عِلْمِ اللَّهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ ، فَإِنَّكُمْ تَصِيرُونَ إِلَيْهِ ، فَمَنْ سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ سَعِيدٌ صَارَ إِلَى السَّعَادَةِ ، وَمَنْ [ ص: 13 ] سَبَقَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ شَقِيٌّ صَارَ إِلَى الشَّقَاوَةِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ : فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ [ 7 \ 30 ] ، وَهُوَ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى ، وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [ 64 \ 2 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 119 ] ، أَيْ وَلِذَلِكَ الِاخْتِلَافِ إِلَى شَقِيٍّ ، وَسَعِيدٍ خَلَقَهُمْ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [ 7 \ 29 ] ، أَيْ كَمَا خَلَقَكُمْ أَوَّلًا ، وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا ، فَإِنَّهُ يُعِيدُكُمْ مَرَّةً أُخْرَى ، وَيَبْعَثُكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ أَنْ مِتُّمْ وَصِرْتُمْ عِظَامًا رَمِيمًا ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ : كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا الْآيَةَ [ 21 \ 104 ] ، وَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [ 30 \ 27 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ الْآيَةَ [ 36 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ [ 22 \ 5 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي الْآيَةِ وَجْهَانِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ ، وَيَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ ، فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ ; لِأَنَّهُ كُلَّهُ حَقٌّ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .
وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَمِنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ طَاعَتُهُمْ لَهُمْ فِيمَا يُخَالِفُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَعَ ذَلِكَ يَظُنُّونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى هُدًى .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ أَخْسَرُ النَّاسِ عَمَلًا ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [ 18 \ 103 ، 104 ] .
تَنْبِيهٌ
هَذِهِ النُّصُوصُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْفَعُهُ ظَنُّهُ أَنَّهُ عَلَى هُدًى ; لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الرُّسُلُ لَمْ تَتْرُكْ فِي الْحَقِّ لَبْسًا وَلَا شُبْهَةً ، وَلَكِنَّ الْكَافِرَ لِشِدَّةِ تَعَصُّبِهِ لِلْكُفْرِ لَا يَكَادُ يُفَكِّرُ فِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي هِيَ كَالشَّمْسِ فِي رَابِعَةِ النَّهَارِ لَجَاجًا فِي الْبَاطِلِ ، وَعِنَادًا [ ص: 14 ] فَلِذَلِكَ كَانَ غَيْرَ مَعْذُورٍ . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ .
مَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ سُؤَالَ إِنْكَارٍ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ ، كَاللِّبَاسِ فِي الطَّوَافِ ، وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ كَالْأَنْعَامِ ، وَالْحَرْثِ الَّتِي حَرَّمَهَا الْكُفَّارُ ، وَكَاللَّحْمِ وَالْوَدَكِ الَّذِي حَرَّمَهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْحَجِّ .
وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَيْهِ جَلَّ وَعَلَا ، كَقَوْلِهِ : وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ [ 16 \ 116 ] ، وَقَوْلِهِ : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [ 6 \ 140 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ 10 \ 59 ] ، وَطَلَبُهُمْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ طَلَبُ إِعْجَازٍ أَنْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ، وَنَهَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شَهِدَ لَهُمْ شُهُودُ زُورٍ أَنْ يَشْهَدَ مَعَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ \ [ 6 \ 150 ] 30 إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنْ إِضْلَالِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي مَكَّنَهُمْ مِنْ ذَلِكَ هُوَ كَوْنُهُمْ سَادَتَهُمْ وَكُبَرَاءَهُمْ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأَتْبَاعَ يُطِيعُونَ السَّادَةَ الْكُبَرَاءَ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ الْآيَةَ [ 33 \ 67 ، 68 ] ، وَبَسَطَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " سَبَأٍ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [ \ 31 - 33 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ .
وَبَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَأَمْثَالِهَا مِنَ الْآيَاتِ : أَنَّ الْأَتْبَاعَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُضَاعِفَ الْعَذَابَ لِلْمَتْبُوعِين َ ، [ ص: 15 ] وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَنَّ مُضَاعَفَةَ الْعَذَابِ لِلْمَتْبُوعِين َ لَا تَنْفَعُ الْأَتْبَاعَ ، وَلَا تُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ ، كَقَوْلِهِ : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [ 43 \ 39 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا : قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ الْآيَةَ [ 7 \ 38 ] ، وَقَوْلِهِ : وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [ 7 \ 39 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ [ 40 \ 48 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، يَنْزِعُ مَا فِي صُدُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْحِقْدِ ، وَالْحَسَدِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَّهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارَ فِي الْجَنَّةِ ، وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ نَزْعَ الْغِلِّ مِنْ صُدُورِهِمْ يَقَعُ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ آمِنِينَ مِنَ النَّصَبِ ، وَالْخُرُوجِ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي " الْحِجْرِ " : وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [ \ 47 ، 48 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ حِجَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هَذَا الْحِجَابَ هُنَا ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ بِقَوْلِهِ : فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ الْآيَةَ [ 57 \ 13 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ ، يَعْرِفُونَ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَأَهْلِ النَّارِ بِسِيمَاهُمْ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَلَا أَهْلِ النَّارِ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ لِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [ 3 \ 106 ] .
فَبَيَاضُ الْوُجُوهِ وَحُسْنُهَا سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَسَوَادُهَا وَقُبْحُهَا وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ سِيمَا أَهْلِ النَّارِ ، كَمَا قَالَ أَيْضًا فِي سِيمَا أَهْلِ الْجَنَّةِ : تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [ 83 \ 24 ] ، وَقَالَ : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ الْآيَةَ [ 75 \ 22 ] ، وَقَالَ فِي سِيمَا أَهْلِ النَّارِ : كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا الْآيَةَ [ 10 \ 27 ] ، وَقَالَ : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ الْآيَةَ [ 80 \ 40 ] ، وَقَالَ : وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [ 20 \ 102 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 02:22 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (93)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(3)
صـ 16 إلى صـ 20
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ [ ص: 16 ] الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ قَالُوا لِرِجَالٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ : يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَالِ ، وَلَا كَثْرَةُ جَمَاعَتِكُمْ وَأَنْصَارِكُمْ ، وَلَا اسْتِكْبَارُكُم ْ فِي الدُّنْيَا .
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ وَجْهَ ذَلِكَ : وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يُحْشَرُ فَرْدًا ، لَا مَالَ مَعَهُ ، وَلَا نَاصِرَ ، وَلَا خَادِمَ ، وَلَا خَوَلَ . وَأَنَّ اسْتِكْبَارَهُ فِي الدُّنْيَا يُجْزَى بِهِ عَذَابَ الْهَوْنِ فِي الْآخِرَةِ ، كَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [ 6 \ 94 ] ، وَقَوْلِهِ : وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [ 19 \ 95 ] ، وَقَوْلِهِ : وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ، وَقَوْلِهِ : فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ الْآيَةَ [ 46 \ 20
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ .
بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ الْكَفَّارَ ، إِذَا عَايَنُوا الْحَقِيقَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الرُّسُلَ جَاءَتْ بِالْحَقِّ ، وَيَتَمَنَّوْنَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ : أَنْ يَشْفَعَ لَهُمْ شُفَعَاءُ فَيُنْقِذُوهُمْ ، أَوْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لِيُصَدِّقُوا الرُّسُلَ ، وَيَعْمَلُوا بِمَا يُرْضِي اللَّهَ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَلْ يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ ؟ وَهَلْ يُرَدُّونَ ؟ وَمَاذَا يَفْعَلُونَ لَوْ رُدُّوا ؟ وَهَلِ اعْتِرَافُهُمْ ذَلِكَ بِصِدْقِ الرُّسُلِ يَنْفَعُهُمْ ؟ وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، فَبَيَّنَ : أَنَّهُمْ لَا يَشْفَعُ لَهُمْ أَحَدٌ بُقُولِهِ : فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ الْآيَةَ [ 26 \ 100 ] ، وَقَوْلِهِ : فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [ 74 \ 48 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [ 21 \ 28 ] مَعَ قَوْلِهِ : وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [ 39 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ \ [ 9 \ 96 ] 30 ، وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ، كَقَوْلِهِ : وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [ 32 \ 12 ، 13 ]
فَقَوْلُهُ : وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الْآيَةَ ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّارَ وَجَبَتْ لَهُمْ ، فَلَا يُرَدُّونَ ، وَلَا يُعْذَرُونَ ، وَقَوْلُهُ : وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [ 35 \ 37 ] .
فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ قَطَعَ عُذْرَهُمْ فِي الدُّنْيَا ; بِالْإِمْهَالِ مُدَّةً يَتَذَكَّرُونَ فِيهَا ; وَإِنْذَارِ الرُّسُلِ ، [ ص: 17 ] وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ رَدِّهِمْ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ [ 14 \ 44 ] ، جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ : أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ، وَقَوْلِهِ : ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [ 40 \ 12 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [ 40 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ الْآيَةَ [ 42 \ 45 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ : وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [ 42 \ 44 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الْآيَةَ [ 7 \ 53 ] ، بَعْدَ قَوْلِهِ : فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ الْآيَةَ .
فَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا ، وَعَلَى وُجُوبِ الْعَذَابِ ، وَأَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ عَنْهُ .
وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَعَادُوا إِلَى الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ ; وَهُوَ قَوْلُهُ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ الْآيَةَ [ 6 \ 28 ] ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الْمُمْكِنَ الَّذِي سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ كَيْفَ يَكُونُ لَوْ وُجِدَ ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً أُخْرَى ، وَيَعْلَمُ هَذَا الرَّدَّ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْمُتَخَلِّفِي نَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لَا يَحْضُرُونَهَا ; لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ثَبَّطَهُمْ عَنْهَا لِحِكْمَةٍ كَمَا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 46 ] ، وَهُوَ يَعْلَمُ هَذَا الْخُرُوجَ الَّذِي لَا يَكُونُ لَوْ وَقَعَ كَيْفَ يَكُونُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ : لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَا دُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ الْآيَةَ [ 9 \ 47 ] ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ 23 \ 75 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ اعْتِرَافَهُمْ هَذَا بِقَوْلِهِمْ : قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ لَا يَنْفَعُهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ [ 67 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ 39 \ 71 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ . \ 5
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ .
لَمْ يُفَصِّلْ هُنَا ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ فَصَّلَهُ فِي سُورَةِ " فُصِّلَتْ " بِقَوْلِهِ : قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ ص: 18 ] وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [ 9 \ 12 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ الْآيَةَ .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ كَقَوْلِهِ : يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [ 48 \ 10 ] وَنَحْوَ ذَلِكَ ; أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ إِشْكَالًا ضَلَّ بِسَبَبِهِ خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً ، فَصَارَ قَوْمٌ إِلَى التَّعْطِيلِ وَقَوْمٌ إِلَى التَّشْبِيهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَوْضَحَ هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ ، وَلَمْ يَتْرُكْ فِيهِ أَيَّ لَبْسٍ وَلَا إِشْكَالٍ ، وَحَاصِلُ تَحْرِيرِ ذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا بَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ فِي صِفَاتِهِمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَالثَّانِي : الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يَصِفُ اللَّهَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ : أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [ 2 \ 140 ] ، وَلَا يَصِفُ اللَّهَ بَعْدَ اللَّهِ أَعْلَمُ بِاللَّهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، الَّذِي قَالَ فِيهِ : وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [ 53 \ 3 ، 4 ] فَمِنْ نَفَى عَنِ اللَّهِ وَصْفًا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَاعِمًا أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ يَلْزَمُهُ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، فَقَدْ جَعَلَ نَفْسَهُ أَعْلَمَ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَا يَلِيقُ بِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا . سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ .
وَمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ يُشَابِهُ صِفَاتِ الْخَلْقِ ، فَهُوَ مُشَبِّهٌ مُلْحِدٌ ضَالٌّ ، وَمَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ تَنْزِيهِهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ ، وَالتَّنْزِيهِ عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ ، سَالِمٌ مِنْ وَرْطَةِ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ ، وَالْآيَةُ الَّتِي أَوْضَحَ اللَّهُ بِهَا هَذَا . هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [ 42 \ 11 ] فَنَفَى عَنْ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا مُمَاثَلَةَ الْحَوَادِثِ بِقَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْإِتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ السِّرَّ فِي تَعْبِيرِهِ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ دُونَ أَنْ يَقُولَ مَثَلًا : [ ص: 19 ] وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ ; أَنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ يَتَّصِفُ بِهِمَا جَمِيعُ الْحَيَوَانَاتِ ، فَبَيْنَ أَنَّ اللَّهَ مُتَّصِفٌ بِهِمَا ، وَلَكِنَّ وَصْفَهُ بِهِمَا عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ وَصْفِهِ تَعَالَى ، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ ، وَلِذَا جَاءَ بِقَوْلِهِ : وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ بُعْدَ قَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِيضَاحٌ لِلْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا لَبْسَ مَعَهُ وَلَا شُبْهَةَ الْبَتَّةَ ، وَسَنُوضِّحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ إِيضَاحًا تَامًّا بِحَسْبِ طَاقَتِنَا ، وَبِاللَّهِ جَلَّ وَعَلَا التَّوْفِيقُ .
اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّ الْمُتَكَلِّمِي نَ قَسَّمُوا صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا إِلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ :
صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ سَلْبِيَّةٌ ، وَصِفَةُ مَعْنًى ، وَصِفَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ ، وَصِفَةٌ جَامِعَةٌ ، وَالصِّفَةُ الْإِضَافِيَّةُ تَتَدَاخَلُ مَعَ الْفِعْلِيَّةِ ; لِأَنَّ كُلَّ صِفَةٍ فِعْلِيَّةٍ مِنْ مَادَّةٍ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، فَهِيَ صِفَةٌ إِضَافِيَّةٌ ، وَلَيْسَتْ كُلُّ صِفَةٍ إِضَافِيَّةٍ فِعْلِيَّةً فَبَيْنَهُمَا عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ ، يَجْتَمِعَانِ فِي نَحْوِ الْخَلْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، وَتَتَفَرَّدِ الْفِعْلِيَّةُ فِي نَحْوِ الِاسْتِوَاءِ ، وَتَتَفَرَّدُ الْإِضَافِيَّةُ فِي نَحْوِ كَوْنِهِ تَعَالَى كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ ; لِأَنَّ الْقَبْلِيَّةَ وَالْفَوْقِيَّة َ مِنَ الصِّفَاتِ الْإِضَافِيَّةِ ، وَلَيْسَتَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَالِمٍ بِالْقَوَانِينِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْمَنْطِقِيّ َةِ أَنَّ إِطْلَاقَ النَّفْسِيَّةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَأَنَّ فِيهِ مِنَ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مَا اللَّهُ عَالِمٌ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُمْ بِالنَّفْسِيَّة ِ فِي حَقِّ اللَّهِ الْوُجُودَ فَقَطْ وَهُوَ صَحِيحٌ ; لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ الْمُوهِمَ لِلْمَحْذُورِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ صَحِيحًا ; لِأَنَّ الصِّفَةَ النَّفْسِيَّةَ فِي الِاصْطِلَاحِ لَا تَكُونُ إِلَّا جِنْسًا أَوْ فَصْلًا ، فَالْجِنْسُ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، وَالْفَصْلُ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْجِنْسَ فِي الِاصْطِلَاحِ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أَفْرَادٍ مُخْتَلِفَةِ الْحَقَائِقِ كَالْحَيَوَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ ، وَأَنَّ الْفَصْلَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِبَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ يَنْفَصِلُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْأَفْرَادِ الْمُشَارِكَةِ لَهُ فِي الْجِنْسِ كَالنُّطْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ ، فَإِنَّهُ صِفَتُهُ النَّفْسِيَّةُ الَّتِي تَفْصِلُهُ عَنِ الْفَرَسِ مَثَلًا الْمُشَارِكِ لَهُ فِي الْجَوْهَرِيَّة ِ وَالْجِسْمِيَّة ِ وَالنَّمَائِيَّ ةِ وَالْحَسَاسِيَّ ةِ ، وَوَصْفُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِشَيْءٍ يُرَادُ بِهِ اصْطِلَاحًا مَا بَيِّنًا لَكَ ; مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَاءَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا تَرَى ; لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ، فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ اشْتِرَاكٌ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَاتِهِ ، وَلَا مِنْ صِفَاتِهِ ، حَتَّى يُطْلَقَ عَلَيْهِ مَا يُطْلَقُ عَلَى الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا لِأَنَّ الْجِنْسَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ حَقَائِقَ مُخْتَلِفَةٍ .
[ ص: 20 ] وَالْفَصْلَ : هُوَ الَّذِي يَفْصِلُ بَعْضَ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الْمُشْتَرِكَةِ فِي الْجِنْسِ عَنْ بَعْضٍ ، سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَسَنُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ عَلَى تَقْسِيمِهِمْ لَهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا ، وَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ يُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ مَوْصُوفٌ بِهَا ، وَأَنَّهَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا وَصْفُ الْمَخْلُوقِ بِهَا ، وَلَكِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِوَصْفِ الْمَخْلُوقِ ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ ، وَيَلْزَمُهُمْ ضَرُورَةٌ فِيمَا أَنْكَرُوا مِثْلَ مَا أَقَرُّوا بِهِ ; لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ جَمِيعَ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ; لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ بِهَا لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ .
فَمِنْ ذَلِكَ : الصِّفَاتُ السَّبْعُ ، الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَاتِ الْمَعَانِي وَهِيَ : الْقُدْرَةُ ، وَالْإِرَادَةُ ، وَالْعِلْمُ ، وَالْحَيَاةُ ، وَالسَّمْعُ ، وَالْبَصَرُ ، وَالْكَلَامُ .
فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُدْرَةِ :
وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 2 \ 284 ] وَ [ 3 \ 29 ] وَ [ 3 \ 189 ] وَ [ 5 \ 19 ] وَ [ 5 \ 40 ] وَ [ 8 \ 41 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [ 5 \ 34 ] فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ قُدْرَةً حَقِيقِيَّةً لَائِقَةً بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ ، وَأَثْبَتَ لِبَعْضِ الْحَوَادِثِ قُدْرَةً مُنَاسِبَةً لِحَالِهِمْ مِنَ الضَّعْفِ وَالِافْتِقَارِ وَالْحُدُوثِ الْفَنَاءِ ، وَبَيْنَ قُدْرَتِهِ ، وَقُدْرَةِ مَخْلُوقِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِهِ وَذَاتِ مَخْلُوقِهِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْإِرَادَةِ : فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [ 11 \ 107 ] وَ [ 85 \ 16 ] ، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ 36 \ 82 ] ، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [ 2 \ 185 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا : تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 8 \ 67 ] ، إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا [ 33 \ 13 ] ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ [ 61 \ 8 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا إِرَادَةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَائِقَةٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ إِرَادَةٌ أَيْضًا مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ إِرَادَةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 02:25 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (94)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(4)
صـ 21 إلى صـ 25
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِلْمِ : وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ 24 \ 35 ] ، لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الْآيَةَ [ 4 \ 166 ] [ ص: 21 ] فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [ 7 \ 7 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [ 51 \ 28 ] ، وَقَالَ : وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ [ 12 \ 68 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا عِلْمٌ حَقِيقِيٌّ لَائِقٌ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ عِلْمٌ مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ عِلْمِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحَيَاةِ : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [ 2 \ 55 ] ، هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [ 40 \ 65 ] ، وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ الْآيَةَ [ 25 \ 58 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهَا : وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [ 19 \ 15 ] ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [ 21 \ 30 ] ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ [ 30 \ 19 ] .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا حَيَاةٌ حَقِيقِيَّةٌ تَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَكَمَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا حَيَاةٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِهِ ; وَبَيْنَ حَيَاةِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [ 22 \ 75 ] وَ [ 31 \ 28 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا : إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [ 76 \ 2 ] ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [ 19 \ 38 ] وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا سَمْعٌ وَبَصَرٌ حَقِيقِيَّانِ يَلِيقَانِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ سَمْعٌ وَبَصَرٌ مُنَاسِبَانِ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ سَمْعِ الْخَالِقِ وَبَصَرِهِ ، وَسَمْعِ الْمَخْلُوقِ وَبَصَرِهِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْكَلَامِ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ 4 \ 164 ] ، إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [ 7 \ 144 ] ، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ [ 9 \ 6 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
[ ص: 22 ] وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمَخْلُوقِ بِهِ : فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ [ 12 \ 54 ] ، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ الْآيَةَ [ 36 \ 65 ] ، قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [ 19 \ 29 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
فَلَهُ جَلَّ وَعَلَا كَلَامٌ حَقِيقِيٌّ يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; وَلِلْمَخْلُوقِ كَلَامٌ أَيْضًا مُنَاسِبٌ لِحَالِهِ . وَبَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَهَذِهِ الصِّفَاتُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ يُثْبِتُهَا كَثِيرٌ مِمَّنْ يَقُولُ بِنَفْيِ غَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي .
وَالْمُعْتَزِلَ ةُ يَنْفُونَهَا وَيُثْبِتُونَ أَحْكَامَهَا فَيَقُولُونَ : هُوَ تَعَالَى حَيٌّ قَادِرٌ ، مُرِيدٌ عَلِيمٌ ، سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، مُتَكَلِّمٌ بِذَاتِهِ لَا بِقُدْرَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ ، وَلَا إِرَادَةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ ، هَكَذَا فِرَارًا مِنْهُمْ مِنْ تَعَدُّدِ الْقَدِيمِ ! !
وَمَذْهَبُهُمُ الْبَاطِلُ لَا يَخْفَى بُطْلَانُهُ وَتَنَاقُضُهُ عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ ; لِأَنَّ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي مِنْهُ الِاشْتِقَاقُ إِذَا عُدِمَ فَالِاشْتِقَاقُ مِنْهُ مُسْتَحِيلٌ فَإِذَا عُدِمَ السَّوَادُ عَنْ جِرْمٍ مَثَلًا اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ هُوَ أَسْوَدُ ، إِذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَسْوَدَ وَلَمْ يَقُمْ بِهِ سَوَادٌ ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُمِ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ بِذَاتٍ ، اسْتَحَالَ أَنْ تَقُولَ : هِيَ عَالِمَةٌ قَادِرَةٌ لِاسْتِحَالَةِ اتِّصَافِهَا بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَقُمْ بِهَا عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ ، قَالَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]
وَعِنْدَ فَقْدِ الْوَصْفِ لَا يُشْتَقُّ وَأَعْوَزَ الْمُعْتَزِلِيّ َ الْحَقُّ وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْمَعْنَوِيَّة ُ عِنْدَهُمْ : فَهِيَ الْأَوْصَافُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى : قَادِرًا ، مُرِيدًا ، عَالِمًا حَيًّا ، سَمِيعًا بَصِيرًا ، مُتَكَلِّمًا .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالْمَعَانِي ، وَعَدُّ الْمُتَكَلِّمِي نَ لَهَا صِفَاتٍ زَائِدَةً عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّة َ ، زَاعِمِينَ أَنَّهَا أَمْرٌ ثُبُوتِيٌّ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ ، وَلَا مَعْدُومٍ ; وَالتَّحْقِيقُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْحَالَ الْمَعْنَوِيَّة َ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُطْلَقُ تَخْيِيلَاتٍ يَتَخَيَّلُونَه َا ; لِأَنَّ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ حَاكِمٌ حُكْمًا لَا يَتَطَرَّقُهُ شَكٌّ بِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّقِيضَيْنِ الْبَتَّةَ ، فَالْعُقَلَاءُ كَافَّةٌ مُطْبِقُونَ عَلَى أَنَّ النَّقِيضَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلَا يَرْتَفِعَانِ ، وَلَا وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا الْبَتَّةَ ، فَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، فَإِنَّهُ مَعْدُومٌ قَطْعًا ، وَكُلُّ مَا هُوَ غَيْرُ مَعْدُومٍ ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ قَطْعًا ، وَهَذَا مِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ كَمَا تَرَى .
[ ص: 23 ] وَقَدْ بَيَّنَّا فِي اتِّصَافِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِالْمَعَانِي الْمَذْكُورَةِ مُنَافَاةَ صِفَةِ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ ، وَبِهِ تَعْلَمُ مِثْلَهُ فِي الِاتِّصَافِ بِالْمَعْنَوِيّ َةِ الْمَذْكُورَةِ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا صِفَاتٌ زَائِدَةٌ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي ، مَعَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهَا عِبَارَةٌ عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِهَا .
وَأَمَّا الصِّفَاتُ السَّلْبِيَّةُ عِنْدَهُمْ : فَهِيَ خَمْسٌ ، وَهِيَ عِنْدُهُمُ : الْقِدَمُ ، وَالْبَقَاءُ ، وَالْوَحْدَانِي َّةُ ، وَالْمُخَالَفَة ُ لِلْخَلْقِ ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ ، الْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ بِالْقِيَامِ بِالنَّفْسِ .
وَضَابِطُ الصِّفَةِ السَّلْبِيَّةِ عِنْدَهُمْ : هِيَ الَّتِي لَا تَدُلُّ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ عَنِ اللَّهِ .
أَمَّا الصِّفَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ : فَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ بِصِفَةِ الْمَعْنَى ، فَالْقِدَمُ مَثَلًا عِنْدَهُمْ لَا مَعْنَى لَهُ بِالْمُطَابَقَة ِ ، إِلَّا سَلْبَ الْعَدَمِ السَّابِقِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْقُدْرَةُ مَثَلًا تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْعَجْزِ ، وَالْعِلْمُ يَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْجَهْلِ ، وَالْحَيَاةُ تَدُلُّ عَلَى سَلْبِ الْمَوْتِ ، فَلِمَ لَا يُسَمُّونَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ سَلْبِيَّةً أَيْضًا ؟
فَالْجَوَابُ : أَنَّ الْقُدْرَةَ مَثَلًا تَدُلُّ بِالْمُطَابَقَة ِ عَلَى مَعْنًى وُجُودِيٍّ قَائِمٍ بِالذَّاتِ ، وَهُوَ الصِّفَةُ الَّتِي يَتَأَتَّى بِهَا إِيجَادُ الْمُمْكِنَاتِ وَإِعْدَامُهَا عَلَى وِفْقِ الْإِرَادَةِ ، وَإِنَّمَا سَلَبَتِ الْعَجْزَ بِوَاسِطَةِ مُقَدِّمَةٍ عَقْلِيَّةٍ ، وَهِيَ أَنَّ الْعَقْلَ يَحْكُمُ بِأَنَّ قِيَامَ الْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ بِالذَّاتِ يَلْزَمُهُ نَفْيُ ضِدِّهِ عَنْهَا لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ عَقْلًا ، وَهَكَذَا فِي بَاقِي الْمَعَانِي .
أَمَّا الْقِدَمُ عِنْدَهُمْ مَثَلًا : فَإِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ زَائِدٍ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوُجُودُ ، إِلَّا سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ ، وَهَكَذَا فِي بَاقِي السَّلْبِيَّاتِ ، فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْقِدَمَ ، وَالْبَقَاءَ اللَّذَيْنِ يَصِفُ الْمُتَكَلِّمُو نَ بِهِمَا اللَّهَ تَعَالَى زَاعِمِينَ ، أَنَّهُ وَصَفَ بِهِمَا نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ الْآيَةَ [ 57 \ 3 ] - جَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَصْفُ الْحَادِثِ بِهِمَا أَيْضًا ، قَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْقِدَمِ : وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [ 36 \ 39 ] ، وَقَالَ : قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ [ 12 \ 95 ] ، وَقَالَ : أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [ 26 \ 75 ، 76 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْبَقَاءِ : وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [ 37 \ 77 ] ، وَقَالَ : مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [ 16 \ 96 ] ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ الْحَادِثَ بِالْأَوَّلِيَّ ةِ وَالْآخِرِيَّةِ الْمَذْكُورَتَي ْنِ فِي الْآيَةِ ، قَالَ : أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ ، قَالَ : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [ 2 \ 163 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ [ ص: 24 ] وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْغِنَى : وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [ 35 \ 15 ] ، وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [ 14 \ 8 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغِنَى : وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِف ْ الْآيَةَ [ 4 \ 6 ] ، إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ الْآيَةَ [ 24 \ 32 ] ، فَهُوَ جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَالْحَادِثُ مَوْصُوفٌ بِهَا أَيْضًا عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحُدُوثِهِ وَفَنَائِهِ ، وَعَجْزِهِ وَافْتِقَارِهِ ، وَبَيْنَ صِفَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي صِفَاتِ الْمَعَانِي .
وَأَمَّا الصِّفَةُ النَّفْسِيَّةُ عِنْدَهُمْ ، فَهِيَ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ : الْوُجُودُ ، وَقَدْ عَلِمْتَ مَا فِي إِطْلَاقِهَا عَلَى اللَّهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ الْوُجُودَ عَيْنَ الذَّاتِ فَلَمْ يَعُدَّهُ صِفَةً ، كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَلَا يَخْفَى أَنَّ الْخَالِقَ مَوْجُودٌ ، وَالْمَخْلُوقَ مَوْجُودٌ ، وَوُجُودُ الْخَالِقِ يُنَافِي وُجُودَ الْمَخْلُوقِ ، كَمَا بَيَّنَّا .
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقِدَمَ وَالْبَقَاءَ صِفَتَانِ نَفْسِيَّتَانِ ، زَاعِمًا أَنَّهُمَا طَرَفَا الْوُجُودِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ فِي زَعْمِهِمْ .
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْفِعْلِيَّةُ ، فَإِنَّ وَصْفَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الْخَالِقِ مُنَافٍ لِفِعْلِ الْمَخْلُوقِ كَمُنَافَاةِ ذَاتِهِ لِذَاتِهِ ، فَمِنْ ذَلِكَ وَصْفُهُ جَلَّ وَعَلَا نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَرْزُقُ خَلْقَهُ ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الْآيَةَ [ 51 \ 58 ] ، وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [ 34 \ 39 ] ، وَقَالَ : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا الْآيَةَ [ 11 \ 6 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ الْآيَةَ [ 4 \ 8 ] ، وَقَالَ : وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ الْآيَةَ [ 2 \ 233 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعَمَلِ ، فَقَالَ : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا الْآيَةَ [ 36 \ 71 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ 66 \ 7 ] وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِتَعْلِيمِ خَلْقِهِ فَقَالَ : الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [ 55 \ 1 - 4 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الْآيَةَ [ 62 \ 2 ] .
وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تُعَلِّمُونَهُن َّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ [ 5 \ 4 ] ، وَوَصَفَ [ ص: 25 ] نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يُنَبِّئُ ، وَوَصَفَ الْمَخْلُوقَ بِذَلِكَ ، وَجَمَعَ الْمِثَالَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ [ 66 \ 3 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِالْإِيتَاءِ ، فَقَالَ : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [ 2 \ 258 ] ، وَقَالَ : يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [ 2 \ 269 ] ، وَقَالَ : وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [ 11 \ 3 ] ، وَقَالَ : ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ [ 57 \ 21 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِذَلِكَ : وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [ 4 \ 20 ] ، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [ 4 \ 2 ] ، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [ 4 \ 4 ] ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; وَمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا فَهُوَ ثَابِتٌ لَهُ أَيْضًا ، عَلَى الْوَجْهِ الْمُنَاسِبِ لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ وَصْفِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ .
وَأَمَّا الصِّفَاتُ الْجَامِعَةُ ، كَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ وَالْعُلُوِّ ، وَالْمُلْكِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْجَبَرُوتِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ . فَإِنَّهَا أَيْضًا يَكْثُرُ جَدًّا وَصْفُ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ بِهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ مِنْهَا مُنَافٍ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ ، كَمُنَافَاةِ ذَاتِ الْخَالِقِ لِذَاتِ الْمَخْلُوقِ . قَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْعُلُوِّ وَالْعِظَمِ وَالْكِبَرِ : وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [ 2 \ 255 ] ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [ 4 \ 34 ] ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [ 13 \ 9 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِظَمِ : فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ 26 \ 63 ] ، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [ 17 \ 40 ] ، وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [ 27 \ 23 ] ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [ 9 \ 129 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْكِبَرِ : لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ 67 \ 12 ] ، وَقَالَ : إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا [ 17 \ 31 ] ، وَقَالَ : إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [ 8 \ 73 ] ، وَقَالَ : وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [ 2 \ 143 ] ، وَقَالَ : وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ 2 \ 45 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2020-12-12, 02:28 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (95)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(5)
صـ 26 إلى صـ 30
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعُلُوِّ : وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [ 19 \ 57 ] ، وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا [ 19 \ 50 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمُلْكِ : يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْآيَةَ [ 59 \ 23 ] ، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ الْآيَةَ [ 59 \ 23 ] ، وَقَالَ : فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ الْآيَةَ [ 12 \ 43 ] ، وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ [ 12 \ 50 ] ، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [ 18 \ 79 ] ، أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ [ 2 \ 247 ] ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ [ 3 \ 26 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْعِزَّةِ : فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [ 2 \ 209 ] ، يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [ 62 \ 1 ] ، أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [ 38 \ 9 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْعِزَّةِ : قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآيَةَ [ 12 \ 51 ] ، فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ [ 38 \ 23 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ جَلَّ وَعَلَا بِأَنَّهُ جَبَّارٌ مُتَكَبِّرٌ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [ 59 \ 23 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِمَا : كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [ 40 \ 35 ] ، أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِ ينَ [ 39 \ 60 ] ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [ 26 \ 130 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْقُوَّةِ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ 51 \ 58 ] ، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ 22 \ 40 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً الْآيَةَ [ 41 \ 15 ] ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 52 ] ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ [ 28 \ 26 ] ، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً الْآيَةَ [ 30 \ 54 ] [ ص: 27 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَأَمْثَالُ هَذَا مِنَ الصِّفَاتِ الْجَامِعَةِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا مُتَّصِفٌ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ حَقِيقَةً عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِكَمَالِهِ ، وَجَلَالِهِ . وَإِنَّ مَا وُصِفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْهَا مُخَالِفٌ لِمَا وُصِفَ بِهِ الْخَالِقُ ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِ الْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا لِذَوَاتِ الْحَوَادِثِ ، وَلَا إِشْكَالَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْمُتَكَلِّمُو نَ ; هَلْ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي أَوْ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَنَارَ اللَّهُ بَصِيرَتَهُ أَنَّهَا صِفَاتُ مَعَانٍ أَثْبَتَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - لِنَفْسِهِ ، كَالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ .
قَالَ فِي وَصْفِهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِهِمَا :
فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [ 16 \ 47 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [ 9 \ 128 ] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْحِلْمِ : لَيُدْخِلَنَّهُ مْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ [ 22 \ 59 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهِ : فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ [ 37 \ 101 ] ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [ 9 \ 114 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ نَفْسِهِ بِالْمَغْفِرَةِ : إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ 2 \ 182 ] وَ [ 5 \ 34 ] وَ [ 5 \ 39 ] وَ [ 5 \ 98 ] وَ [ 8 \ 69 ] وَ [ 9 \ 5 ] وَ [ 9 \ 99 ] وَ [ 9 \ 102 ] وَ [ 24 \ 62 ] وَ [ 29 \ 14 ] وَ [ 60 \ 12 ] وَ [ 73 \ 20 ] . لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [ 49 \ 3 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِهَا : وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [ 42 \ 43 ] ، قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ الْآيَةَ [ 45 \ 14 ] ، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [ 2 \ 263 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالرِّضَى وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهِ أَيْضًا فَقَالَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [ 5 \ 119 ] ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ جَلَّ وَعَلَا بِالْمَحَبَّةِ ، وَوَصَفَ الْحَادِثَ بِهَا ، فَقَالَ : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ [ 5 \ 54 ] ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ 3 \ 31 ] .
[ ص: 28 ] وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ يَغْضَبُ إِنِ انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُهُ فَقَالَ : قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 5 \ 60 ] ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 4 \ 93 ] .
وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالْغَضَبِ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا .
وَالْمَقْصُودُ عِنْدَنَا ذِكْرُ أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، مَعَ إِيضَاحِ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ جَلَّ وَعَلَا مِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ بَالِغٌ مِنْ غَايَاتِ الْكَمَالِ وَالْعُلُوِّ وَالشَّرَفِ مَا يَقْطَعُ عَلَائِقَ جَمِيعِ أَوْهَامِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَبَيْنَ صِفَاتِ خَلْقِهِ ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَإِذَا حَقَّقْتَ كُلَّ ذَلِكَ عَلِمْتَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَصَفَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ ، وَوَصَفَ غَيْرَهُ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَتَمَدَّحَ جَلَّ وَعَلَا فِي سَبْعِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ بِاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ صِفَةَ الِاسْتِوَاءِ إِلَّا مَقْرُونَةً بِغَيْرِهَا مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ ، وَالْجَلَالِ ; الْقَاضِيَةِ بِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَأَنَّهُ الرَّبُّ وَحْدَهُ ، الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ .
الْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ : بِحَسَبِ تَرْتِيبِ الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ . قَوْلُهُ هُنَا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ 54 ] .
الْمَوْضِعُ الثَّانِي : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُونُسَ : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ الْآيَةَ [ \ 3 ، 4 ] .
الْمَوْضِعُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ [ ص: 29 ] يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 ، 3 ، 4 ] .
الْمَوْضِعُ الرَّابِعُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ طه : مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [ 2 - 6 ] .
الْمَوْضِعُ الْخَامِسُ : قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا [ 58 ، 59 ] .
الْمَوْضِعُ السَّادِسُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 4 ، 5 ] .
الْمَوْضِعُ السَّابِعُ : قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ : هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [ 4 ] .
وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي وَصْفِ الْحَادِثِ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ : لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ [ 43 \ 13 ] ، فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ الْآيَةَ [ 23 \ 28 ] ، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ الْآيَةَ [ 11 \ 44 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي ذَلِكَ ، وَأَنَّ لِلْخَالِقِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِوَاءً لَائِقًا بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَلِلْمَخْلُوقِ أَيْضًا اسْتِوَاءً مُنَاسِبًا لِحَالِهِ ، وَبَيْنَ اسْتِوَاءِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ مِنَ الْمُنَافَاةِ مَا بَيْنَ ذَاتِ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ; عَلَى نَحْوِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ .
وَيَنْبَغِي لِلنَّاظِرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ التَّأَمُّلُ فِي أُمُورٍ :
الْأَمْرُ الْأَوَّلُ : أَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهَا وَاحِدٌ ، وَلَا [ ص: 30 ] يَجُوزُ فِي حَقِّهِ مُشَابَهَةُ الْحَوَادِثِ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ ، فَمَنْ أَثْبَتَ مَثَلًا أَنَّهُ : سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، وَسَمْعُهُ وَبَصَرُهُ مُخَالِفَانِ لِأَسْمَاعِ الْحَوَادِثِ وَأَبْصَارِهِمْ ، لَزِمَهُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الصِّفَاتِ ; كَالِاسْتِوَاءِ ، وَالْيَدِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَلَا يُمْكِنُ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ بِحَالٍ .
الْأَمْرُ الثَّانِي : أَنَّ الذَّاتَ وَالصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ أَيْضًا ، فَكَمَا أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، لَهُ ذَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ ذَوَاتِ الْخَلْقِ ، فَلَهُ تَعَالَى صِفَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْخَلْقِ .
الْأَمْرُ الثَّالِثُ : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ فِي الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ السَّابِقِ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ آيَاتِ الصِّفَاتِ ; كَالِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا .
اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّهُ غَلِطَ فِي هَذَا خَلْقٌ لَا يُحْصَى كَثْرَةً مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، فَزَعَمُوا أَنَّ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ السَّابِقَ إِلَى الْفَهْمِ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ مَثَلًا فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ - هُوَ مُشَابَهَةُ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ ، وَقَالُوا : يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَصْرِفَهُ عَنْ ظَاهِرِهِ إِجْمَاعًا ; لِأَنَّ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ كُفْرٌ ; لِأَنَّ مَنْ شَبَّهَ الْخَالِقَ بِالْمَخْلُوقِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى الْفَهْمِ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَالْقَوْلُ فِيهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ جَلَّ وَعَلَا .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قِيلَ لَهُ : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [ 16 \ 44 ] ، لَمْ يُبَيِّنْ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِ مَنْ يَعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ ، عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، وَأَحْرَى فِي الْعَقَائِدِ وَلَا سِيَّمَا مَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ الْكُفْرُ وَالضَّلَالُ الْمُبِينُ ، حَتَّى جَاءَ هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، فَزَعَمُوا أَنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ عَلَى نَفْسِهِ الْوَصْفَ بِمَا ظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ لَا يَلِيقُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ أَنَّ ذَلِكَ الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ كُفْرٌ وَضَلَالٌ يَجِبُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْهُ ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ غَيْرِ اعْتِمَادٍ عَلَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ، سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ أَكْبَرِ الضَّلَالِ وَمِنْ أَعْظَمِ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْحَقُّ الَّذِي لَا يَشُكُّ فِيهِ أَدْنَى عَاقِلٍ أَنَّ كُلَّ وَصْفٍ وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَظَاهِرُهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِ مَنْ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ مِنَ الْإِيمَانِ ، هُوَ التَّنْزِيهُ التَّامُّ عَنْ مُشَابَهَةِ شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:30 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (96)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(6)
صـ 31 إلى صـ 35
الْفَهُمُ الْمُتَبَادِرُ لِكُلِّ عَاقِلٍ : هُوَ مُنَافَاةُ الْخَالِقِ لِلْمَخْلُوقِ فِي ذَاتِهِ ، وَجَمِيعِ صِفَاتِهِ ، لَا وَاللَّهِ لَا يُنْكِرُ ذَلِكَ إِلَّا مُكَابِرٌ * . ***
وَالْجَاهِلُ الْمُفْتَرِي الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّ ظَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ كُفْرٌ وَتَشْبِيهٌ - إِنَّمَا جَرَّ إِلَيْهِ ذَلِكَ تَنْجِيسُ قَلْبِهِ ، بِقَدْرِ التَّشْبِيهِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ ، فَأَدَّاهُ شُؤْمُ التَّشْبِيهِ إِلَى نَفْيِ صِفَاتِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَعَدَمِ الْإِيمَانِ بِهَا ، مَعَ أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، هُوَ الَّذِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ ، فَكَانَ هَذَا الْجَاهِلُ مُشَبِّهًا أَوَّلًا ، وَمُعَطِّلًا ثَانِيًا ، فَارْتَكَبَ مَا لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ، وَلَوْ كَانَ قَلْبُهُ عَارِفًا بِاللَّهِ كَمَا يَنْبَغِي ، مُعَظِّمًا لِلَّهِ كَمَا يَنْبَغِي ، طَاهِرًا مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ - لَكَانَ الْمُتَبَادِرُ عِنْدَهُ السَّابِقُ إِلَى فَهْمِهِ : أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، بَالِغٌ مِنَ الْكَمَالِ ، وَالْجَلَالِ مَا يَقْطَعُ أَوْهَامَ عَلَائِقِ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ ، فَيَكُونُ قَلْبُهُ مُسْتَعِدًّا لِلْإِيمَانِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ ، مَعَ التَّنْزِيهِ التَّامِّ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، فَلَوْ قَالَ مُتَنَطِّعٌ : بَيِّنُوا لَنَا كَيْفِيَّةَ الِاتِّصَافِ بِصِفَةِ الِاسْتِوَاءِ وَالْيَدِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ لِنَعْقِلَهَا ، قُلْنَا : أَعَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ الْمُتَّصِفَةِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ ؟
فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ : لَا ، فَنَقُولُ : مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَافِ بِالصِّفَاتِ مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى مَعْرِفَةِ كَيْفِيَّةِ الذَّاتِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ غَيْرُهُ أَنْ يُحْصِيَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ هُوَ ، كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ : يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [ 20 \ 110 ] ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [ 112 \ 1 - 4 ] ، فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [ 16 \ 74 ] .
فَتَحَصَّلَ مِنْ جَمِيعِ هَذَا الْبَحْثِ أَنَّ الصِّفَاتِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، وَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ :
الْأَوَّلُ : تَنْزِيهُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَنْ مُشَابَهَةِ الْخَلْقِ .
وَالثَّانِي : الْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِثْبَاتًا ، أَوْ نَفْيًا ; وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، وَالسَّلَفُ الصَّالِحُ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَشُكُّونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا كَانَ يَشْكُلُ عَلَيْهِمْ ، أَلَا تَرَى إِلَى [ ص: 32 ] قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ وَهُوَ شَاعِرٌ فَقَطْ ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ ، فَهُوَ عَامِّيٌّ [ الطَّوِيلُ ] :
وَكَيْفَ أَخَافُ النَّاسَ وَاللَّهُ قَابِضٌ عَلَى النَّاسِ وَالسَّبْعَيْنِ فِي رَاحَةِ الْيَدِ
وَمُرَادُهُ بِالسَّبْعَيْنِ : سَبْعُ سَمَاوَاتٍ ، وَسَبْعُ أَرْضِينَ . فَمَنْ عَلِمَ مِثْلَ هَذَا مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِينَ فِي يَدِهِ جَلَّ وَعَلَا أَصْغَرَ مِنْ حَبَّةِ خَرْدَلٍ ، فَإِنَّهُ عَالِمٌ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مُشَابَهَةُ صِفَاتِهِ لِصِفَاتِ الْخَلْقِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ زَالَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي أَشْكَلَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِي نَ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ، وَالْإِيمَانِ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، هُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ .
وَيُرْوَى نَحْوُ قَوْلِ مَالِكٍ هَذَا عَنْ شَيْخِهِ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ رَحْمَتَهُ جَلَّ وَعَلَا قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُحْسِنِينَ ، وَأَوْضَحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ صِفَاتِ عَبِيدِهِ الَّذِينَ سَيَكْتُبُهَا لَهُمْ فِي قَوْلِهِ : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ الْآيَةَ [ 7 \ 156 ] .
وَوَجْهُ تَذْكِيرِ وَصْفِ الرَّحْمَةِ مَعَ أَنَّهَا مُؤَنَّثَةٌ فِي قَوْلِهِ : قَرِيبٌ [ 7 \ 56 ] وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةٌ ، فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ أَقْوَالٌ تَزِيدُ عَلَى الْعَشْرَةِ . نَذْكُرُ مِنْهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بَعْضًا ، وَنَتْرُكُ مَا يَظْهَرُ لَنَا ضَعْفُهُ أَوْ بُعْدُهُ عَنِ الظَّاهِرِ .
مِنْهَا : أَنَّ الرَّحْمَةَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الرَّحِمِ ، فَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى .
وَمِنْهَا : أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْقَرَابَةَ إِذَا كَانَتْ قَرَابَةَ نَسَبٍ تَعَيَّنَ التَّأْنِيثُ فِيهَا فِي الْأُنْثَى فَتَقُولُ : هَذِهِ الْمَرْأَةُ قَرِيبَتِي أَيْ فِي النَّسَبِ ، وَلَا تَقُولُ : قَرِيبٌ مِنِّي . وَإِنْ كَانَتْ قَرَابَةَ مَسَافَةٍ جَازَ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ ، فَتَقُولُ : دَارُهُ قَرِيبٌ وَقَرِيبَةٌ مِنِّي ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [ 42 \ 17 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [ 33 \ 63 ] ، وَقَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]
لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلَا أُمُّ هَاشِمٍ قَرِيبٌ وَلَا الْبَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا
وَمِنْهَا : أَنَّ وَجْهَ ذَلِكَ إِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا .
وَمِنْهَا : أَنَّ قَوْلَهُ : قَرِيبٌ صِفَةُ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ شَيْءٌ قَرِيبٌ مِنْ [ ص: 33 ] الْمُحْسِنِينَ .
وَمِنْهَا : أَنَّهَا شُبِّهَتْ بِفَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ الَّذِي يَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي عَلَى فَعِيلٍ رُبَّمَا شُبِّهَتْ بِالْمَصْدَرِ الْآتِي عَلَى فَعِيلٍ ، فَأُفْرِدَتْ لِذَلِكَ ; قَالَ بَعْضُهُمْ : وَلِذَلِكَ أَفْرَدَ الصَّدِيقَ فِي قَوْلِهِ : أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ [ 24 \ 61 ] ، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
وَهُنَّ صَدِيقٌ لِمَنْ لَمْ يَشِبْ
ا اهـ وَالظَّهِيرَ فِي قَوْلِهِ : وَالْمَلَائِكَة ُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [ 66 \ 4 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْجُهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ .
قِرَاءَةُ عَاصِمٍ بُشْرًا بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ ، وَإِسْكَانِ الشِّينِ : جَمْعُ بَشِيرٍ ، لِأَنَّهَا تَنْتَشِرُ أَمَامَ الْمَطَرِ مُبَشِّرَةً بِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ الْآيَةَ [ 30 \ 46 ] ، وَقَوْلُهُ : بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [ 7 \ 57 ] ، يَعْنِي بِرَحْمَتِهِ الْمَطَرَ كَمَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ : وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ الْآيَةَ [ 42 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [ 42 \ 28 ] .
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَحْمِلُ السَّحَابَ عَلَى الرِّيحِ ، ثُمَّ يَسُوقُهُ إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ مِنْ بِقَاعِ الْأَرْضِ ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ الْآيَةَ [ 35 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ [ 32 \ 27 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ الْآيَةَ ، أَنْكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ ، وَقَوْمِ هُودٍ عَجَبَهُمْ مِنْ إِرْسَالِ رَجُلٍ ; وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ جَمِيعَ الْأُمَمِ عَجِبُوا مِنْ ذَلِكَ . قَالَ فِي عَجَبِ قَوْمِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ : أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [ 10 \ 2 ] ، وَقَالَ : بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الْآيَةَ [ 50 \ 2 ] ، وَقَالَ عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ : ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ [ ص: 34 ] رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [ 64 \ 6 ] ، وَقَالَ : كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ الْآيَةَ [ 54 \ 23 ، 24 ] ، وَقَالَ : وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [ 23 \ 34 ] ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ هَذَا الْعَجَبَ مِنْ إِرْسَالِ بَشَرٍ مَانِعٍ لِلنَّاسِ مِنَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ : وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [ 17 \ 94 ] .
وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا الْآيَةَ [ 21 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ الْآيَةَ [ 25 \ 20 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا الْآيَةَ [ 6 \ 9 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ إِغْرَاقِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ الْآيَةَ [ 54 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [ 29 \ 14 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَتُجَادِلُونَن ِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الْآيَةَ ، لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا شَيْئًا مِنْ هَذَا الْجِدَالِ الْوَاقِعِ بَيْنَ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَبَيْنَ عَادٍ . وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَيْفِيَّةَ قَطْعِهِ دَابِرَ عَادٍ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الْآيَةَ [ 69 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ : وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الْآيَةَ [ 51 \ 41 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَعَقَرُوا النَّاقَةَ الْآيَةَ .
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَقْرَهَا بَاشَرَتْهُ جَمَاعَةٌ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ الْقَمَرِ : أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ نَادَوْا وَاحِدًا مِنْهُمْ ، فَبَاشَرَ [ ص: 35 ] عَقْرَهَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [ 29 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ الْعَذَابُ كَقَوْلِهِ : وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ [ 11 \ 64 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [ 7 \ 73 ] ، وَقَوْلِهِ : تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [ 11 \ 65 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ . لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا سَبَبَ رَجْفَةِ الْأَرْضِ بِهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ صَيْحَةُ الْمَلَكِ بِهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ الْآيَةَ [ 11 \ 67 ] ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَلَكَ لَمَّا صَاحَ بِهِمْ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ مِنْ شِدَّةِ الصَّيْحَةِ ، وَفَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي .
وَبَيَّنَ تَعَالَى هَذِهِ الرِّسَالَةَ الَّتِي أَبْلَغَهَا نَبِيُّهُ صَالِحٌ إِلَى قَوْمِهِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ .
بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ الْفَاحِشَةِ اللِّوَاطُ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ الْآيَةَ [ 7 \ 81 ] ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ : أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ [ 26 \ 165 ] ، وَقَوْلِهِ : وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ [ 29 \ 29 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:31 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (97)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(7)
صـ 36 إلى صـ 40
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ .
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مَعَ لُوطٍ إِلَّا خُصُوصُ أَهْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي " الذَّارِيَاتِ " بِقَوْلِهِ : فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ 51 \ 35 ، 36 ] ، وَقَوْلِهِ هُنَا : إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ [ 7 \ 83 ] ، أَوْضَحَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : فَبَيَّنَ أَنَّهَا خَائِنَةٌ ، وَأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، وَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ فِيمَا أَصَابَ قَوْمَهَا مِنَ الْهَلَاكِ ، قَالَ فِيهَا هِيَ وَامْرَأَةِ نُوحٍ : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ [ 66 \ 10 ] ، وَقَالَ فِيهَا وَحْدَهَا : أَعْنِي امْرَأَةَ لُوطٍ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 81 ] [ ص: 36 ] وَقَوْلُهُ هُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [ 7 \ 84 ] .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا الْمَطَرَ مَا هُوَ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَطَرُ حِجَارَةٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهَا كَقَوْلِهِ : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [ 15 \ 74 ] ، وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ السِّجِّيلَ الطِّينُ بِقَوْلِهِ فِي " الذَّارِيَاتِ " : لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ [ 51 \ 33 ] ، ، وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْمَطَرَ مَطَرُ سُوءٍ لَا رَحْمَةٍ بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [ 25 \ 40 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي " الشُّعَرَاءِ " : وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ [ 173 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا .
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : وَتَبْغُونَهَا رَاجِعٌ إِلَى السَّبِيلِ وَهُوَ نَصٌّ قُرْآنِيٌّ عَلَى أَنَّ السَّبِيلَ مُؤَنَّثَةٌ ، وَلَكِنَّهُ جَاءَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى تَذْكِيرِ السَّبِيلِ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [ 7 \ 146 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ .
بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [ 11 \ 94 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [ 7 \ 78 ] ، وَقَوْلِهِ : الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ [ 7 \ 92 ] ، وَقَوْلِهِ : فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ الْآيَةَ [ 26 \ 189 ] ، فَإِنْ قِيلَ : الْهَلَاكُ الَّذِي أَصَابَ قَوْمَ شُعَيْبٍ ذَكَرَ تَعَالَى فِي الْأَعْرَافِ أَنَّهُ رَجْفَةٌ ، وَذَكَرَ فِي هُودٍ أَنَّهُ صَيْحَةٌ ، وَذَكَرَ فِي الشُّعَرَاءِ أَنَّهُ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ .
فَالْجَوَابُ : مَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهِ قَالَ : وَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ كُلُّهُ أَصَابَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وَهِيَ سَحَابَةٌ أَظَلَّتْهُمْ فِيهَا شَرَرٌ مِنْ نَارٍ وَلَهَبٍ وَوَهَجٍ عَظِيمٍ ، ثُمَّ جَاءَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ، وَرَجْفَةٌ مِنَ الْأَرْضِ شَدِيدَةٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ ، فَزَهَقَتِ الْأَرْوَاحُ ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ ، وَخَمَدَتِ الْأَجْسَامُ . اهـ مِنْهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ .
بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا الرِّسَالَاتِ الَّتِي أَبْلَغَهَا رَسُولُهُ شُعَيْبٌ إِلَى قَوْمِهِ [ ص: 37 ] فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ الْآيَةَ [ 11 \ 84 ] ، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ ، وَبَيَّنَ نُصْحَهُ لَهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ الْآيَةَ [ 11 \ 89 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ [ 7 \ 93 ] ، أَنْكَرَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْأَسَى ، أَيِ : الْحُزْنَ عَلَى الْكُفَّارِ إِذَا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ إِبْلَاغِهِمْ ، وَإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ مَعَ تَمَادِيهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ لَجَاجًا وَعِنَادًا ، وَإِنْكَارُهُ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فَنَهَى نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ 5 \ 68 ] ، وَمَعْنَى لَا تَأْسَ : لَا تَحْزَنْ ، وَقَوْلِهِ : وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [ 16 \ 127 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا .
ذَكَرَ أَنْبَاءَهُمْ مُفَصَّلَةً فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ، كَالْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا خَبَرُ نُوحٍ وَهُودٍ ، وَصَالِحٍ وَلُوطٍ ، وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ ، مَعَ أُمَمِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ لِلْعُلَمَاءِ أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ : بَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ .
مِنْهَا : أَنَّ الْمَعْنَى فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ يَوْمَ أَخَذَ الْمِيثَاقَ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ ، لِاسْتِحَالَةِ التَّغَيُّرِ فِيمَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ الْأَزَلِيُّ ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَأَنَسٍ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [ 10 \ 96 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [ 10 \ 101 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ ، فَآمَنُوا كَرْهًا ، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بَعْدَ ذَلِكَ طَوْعًا . وَيُرْوَى هَذَا عَنِ السُّدِّيِّ وَهُوَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى الْأَوَّلِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا مَرَّةً لَكَفَرُوا أَيْضًا ، فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا فِي الرَّدِّ إِلَى الدُّنْيَا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ؛ أَيْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ مُجَاهِدٍ . وَيَدُلُّ لِمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ الْآيَةَ [ 6 \ 28 ] لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ .
[ ص: 38 ] وَمِنْهَا : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَقِّ أَوَّلَ مَا وَرَدَ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ، وَاسْتَحْسَنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَهُوَ مِنْ أَقْرَبِ الْأَقْوَالِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ . وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ شُؤْمَ الْمُبَادَرَةِ إِلَى تَكْذِيبِ الرُّسُلِ سَبَبٌ لِلطَّبْعِ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْإِبْعَادِ عَنِ الْهُدَى ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [ 4 \ 155 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [ 61 \ 5 ] ، وَقَوْلِهِ : فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [ 2 \ 10 ] ، وَقَوْلِهِ : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [ 63 \ 3 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ تَكُونُ فِيهَا أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ كُلُّهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ ، وَكُلُّهَا حَقٌّ . فَنَذْكُرُ جَمِيعَهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا الْآيَةَ .
بَيَّنَ تَعَالَى هُنَا أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ ظَلَمُوا بِالْآيَاتِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا مُوسَى ، وَصَرَّحَ فِي النَّمْلِ بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ جَاحِدِينَ لَهَا ، مَعَ أَنَّهُمْ مُسْتَيْقِنُونَ أَنَّهَا حَقٌّ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ وَعُلُوِّهِمْ ; وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْ هَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ 13 ، 14 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ .
ذَكَرَ تَعَالَى هُنَا أَنَّ مُوسَى نَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ ذَلِكَ الْبَيَاضَ خَالٍ مِنَ الْبَرَصِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " وَ " الْقَصَصِ " فِي قَوْلِهِ فِيهِمَا : تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [ 12 \ 32 ] ، أَيْ مِنْ غَيْرِ بَرَصٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ .
بَيَّنَ هُنَا أَنَّ مُوسَى لَمَّا جَاءَ بِآيَةِ الْعَصَا وَالْيَدِ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ سَاحِرٌ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا قَالَ فِرْعَوْنُ : وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي " الشُّعَرَاءِ " أَنَّ فِرْعَوْنَ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ [ 26 \ 34 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوه ُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذَا السِّحْرَ الْعَظِيمَ مَا هُوَ ؟ وَلِمَ يُبَيِّنْ هَلْ أَوْجَسَ مُوسَى فِي نَفْسِهِ الْخَوْفَ مِنْهُ ؟ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ ذَلِكَ فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي [ ص: 39 ] يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [ 66 - 96 ] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَنَّهُمْ تَوَاعَدُوا مَعَ مُوسَى مَوْعِدًا لِوَقْتِ مُغَالَبَتِهِ مَعَ السَّحَرَةِ ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " طَهَ " فِي قَوْلِهِ عَنْهُمْ : فَلَنَأْتِيَنَّ كَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ الْآيَةَ [ 58 - 59 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ لَأَصُلِّبَنَّك ُمْ أَجْمَعِينَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الشَّيْءَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَصْلُبُهُمْ فِيهِ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، كَقَوْلِهِ فِي " طَهَ " وَلَأُصَلِّبَنّ َكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ الْآيَةَ [ 71 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ إِنْ أَصَابَتْهُمْ سَيِّئَةٌ أَيْ قَحْطٌ وَجَدْبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، تَطَيَّرُوا بِمُوسَى وَقَوْمِهِ فَقَالُوا : مَا جَاءَنَا هَذَا الْجَدْبُ وَالْقَحْطُ إِلَّا مِنْ شُؤْمِكُمْ ، وَذُكِرَ مِثْلُ هَذَا عَنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ مَعَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ الْآيَةَ [ 4 \ 78 ] ، وَذُكِرَ نَحْوُهُ أَيْضًا عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَعَ صَالِحٍ فِي قَوْلِهِ : قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ الْآيَةَ [ 27 \ 47 ] ، وَذُكِرَ نَحْوُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ فِي قَوْلِهِ : قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُ مْ الْآيَةَ [ 36 \ 18 ] ، وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ شُؤْمَهُمْ مِنْ قِبَلِ كُفْرِهِمْ ، وَمَعَاصِيهِمْ ، لَا مِنْ قِبَلِ الرُّسُلِ ؛ قَالَ فِي " الْأَعْرَافِ " : أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [ 131 ] ، وَقَالَ فِي سُورَةِ " النَّمْلِ " فِي قَوْمِ صَالِحٍ : قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [ 27 \ 47 ] ، وَقَالَ فِي " يس " : قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ الْآيَةَ [ 19 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " : بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِهِ فِي الْقِصَّةِ بِعَيْنِهَا كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [ 59 ] ، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [ 7 \ 137 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ الْحُسْنَى الَّتِي تَمَّتْ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَهَا فِي الْقَصَصِ بِقَوْلِهِ : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [ 28 \ 5 ، 6 ] .
[ ص: 40 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي الْآيَةَ .
اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ النَّافُونَ لِرُؤْيَةِ اللَّهِ بِالْأَبْصَارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمُ الْبَاطِلِ ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفْيَ الرُّؤْيَةِ الْمَذْكُورَ ، إِنَّمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ جَلَّ وَعَلَا بِأَبْصَارِهِمْ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [ 75 \ 22 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الْكُفَّارِ : كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ 83 \ 15 ] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مَحْجُوبِينَ عَنْهُ جَلَّ وَعَلَا .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [ 10 \ 26 ] الْحُسْنَى : الْجَنَّةُ ، وَالزِّيَادَةُ : النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ ، وَذَلِكَ هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ 50 \ 35 ] ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ ، وَتَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا بِالْأَبْصَارِ : جَائِزَةٌ عَقْلًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى جَوَازِهَا عَقْلًا فِي دَارِ الدُّنْيَا : قَوْلُ مُوسَى رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [ 7 \ 143 ] ; لِأَنَّ مُوسَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْجَائِزُ وَالْمُسْتَحِيل ُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَأَمَّا شَرْعًا فَهِيَ جَائِزَةٌ وَوَاقِعَةٌ فِي الْآخِرَةِ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ ، وَتَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَمَمْنُوعَةٌ شَرْعًا كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ " الْأَعْرَافِ " هَذِهِ ، وَحَدِيثُ " إِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا " ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا ( دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ) .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ سَخَافَةَ عُقُولِ عَبَدَةِ الْعِجْلِ ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ، وَأَوْضَحَ هَذَا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا الْآيَةَ [ 89 ] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " أَنَّ جَمِيعَ آيَاتِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ إِلَهًا حُذِفَ فِيهَا الْمَفْعُولُ الثَّانِي فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا : وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا الْآيَةَ [ 7 \ 148 ] ، أَيِ اتَّخَذُوهُ إِلَهًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النُّكْتَةَ فِي حَذْفِهِ دَائِمًا التَّنْبِيهُ : عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي التَّلَفُّظُ بِأَنَّ عِجْلًا مُصْطَنَعًا مِنْ جَمَادٍ إِلَهٌ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَفْعُولِ الْمَحْذُوفِ دَائِمًا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى [ 20 \ 88 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (98)
سُورَةُ الْأَعْرَافِ(8)
صـ 41 إلى صـ 45
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لِنَكُونُنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ .
[ ص: 41 ] بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عَبَدَةَ الْعِجْلِ اعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا فَعَلُوا ، وَصَرَّحَ فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " بِتَوْبَتِهِمْ وَرِضَاهُمْ بِالْقَتْلِ وَتَوْبَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ : وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ 54 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ الْآيَةَ .
أَوْضَحَ اللَّهُ مَا ذَكَرَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ فِي " طَهَ " قَالَ يَاقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا الْآيَةَ [ 86 ، 87 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي الْآيَةَ .
أَشَارَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِلَى مَا اعْتَذَرَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ هَارُونَ لِأَخِيهِ مُوسَى عَمَّا وَجَّهَهُ إِلَيْهِ مِنَ اللَّوْمِ ، وَأَوْضَحَهُ فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : قَالَ يَاابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [ 94 ] ، وَصَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِبَرَاءَتِهِ بِقَوْلِهِ :
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [ 20 \ 90 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 34 \ 28 ] ، وَقَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [ 25 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [ 11 \ 17 ] ، وَقَيَّدَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عُمُومَ رِسَالَتِهِ بِبُلُوغِ هَذَا الْقُرْآنِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ 6 \ 19 ] ، وَصَرَّحَ بِشُمُولِ رِسَالَتِهِ لِأَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ الْعَرَبِ بِقَوْلِهِ : وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّين َ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ [ 3 \ 20 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ الْآيَةَ .
لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا كَثْرَةَ كَلِمَاتِهِ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ : [ ص: 42 ] قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [ 18 \ 109 ] ، وَقَوْلِهِ : الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [ 31 \ 27 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ الْآيَةَ .
هَذَا الْمِيثَاقُ الْمَذْكُورُ يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [ 3 \ 187 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَى أَخْذِهِ ذُرِّيَّةَ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ : هُوَ إِيجَادُ قَرْنٍ مِنْهُمْ بَعْدَ قَرْنٍ ، وَإِنْشَاءُ قَوْمٍ بَعْدَ آخَرِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [ 6 \ 133 ] ، وَقَالَ : هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ [ 35 \ 39 ] ، وَقَالَ : وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ [ 27 \ 62 ] ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ : وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [ 7 \ 172 ] ، أَنَّ إِشْهَادَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا هُوَ بِمَا نُصِبَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ بِأَنَّهُ رَبُّهُمُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْهُمْ لِأَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قَالُوا بَلَى ، أَيْ : قَالُوا ذَلِكَ بِلِسَانِ حَالِهِمْ لِظُهُورِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ ، وَنَظِيرُهُ مِنْ إِطْلَاقِ الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ لِسَانِ الْحَالِ قَوْلُهُ تَعَالَى : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [ 9 \ 17 ] ، أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِذَلِكَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [ 100 \ 6 ، 7 ] أَيْ : بِلِسَانِ حَالِهِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ أَيْضًا .
وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ هَذَا الْإِشْهَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ جَلَّ وَعَلَا فِي قَوْلِهِ : أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [ 7 \ 172 ، 173 ] ، قَالُوا : فَلَوْ كَانَ الْإِشْهَادُ الْمَذْكُورُ الْإِشْهَادَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْمِيثَاقِ ، وَهُمْ فِي صُورَةِ الذَّرِّ لَمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ ; [ ص: 43 ] لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ عِنْدَ وُجُودِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَمَا لَا عِلْمَ لِلْإِنْسَانِ بِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ ، فَإِنْ قِيلَ : إِخْبَارُ الرُّسُلِ بِالْمِيثَاقِ الْمَذْكُورِ كَافٍ فِي ثُبُوتِهِ ، قُلْنَا :
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ : " الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُكَذِّبُونَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ مِنْ هَذَا وَغَيْرِهِ ، وَهَذَا جُعِلَ حُجَّةً مُسْتَقِلَّةً عَلَيْهِمْ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ الْفِطْرَةُ الَّتِي فُطِرُوا عَلَيْهَا مِنَ التَّوْحِيدِ ، وَلِهَذَا قَالَ : أَنْ تَقُولُوا الْآيَةَ اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا الْوَجْهَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ، وَمَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ قَائِلُهُ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَ الْآخَرَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ جَمِيعَ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِ الْآبَاءِ فِي صُورَةِ الذَّرِّ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِلِسَانِ الْمَقَالِ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى ، ثُمَّ أَرْسَلَ بَعْدَ ذَلِكَ الرُّسُلَ مُذَكِّرَةً بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ الَّذِي نَسِيَهُ الْكُلُّ وَلَمْ يُولَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ ذَاكِرٌ لَهُ وَإِخْبَارُ الرُّسُلِ بِهِ يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ بِوُجُودِهِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الْوَجْهُ الْأَخِيرُ يَدُلُّ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .
أَمَّا وَجْهُ دَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ أَنَّ مُقْتَضَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَا أَقَامَ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْبَرَاهِينِ الْقَطْعِيَّةِ كَخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَا فِيهِمَا مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ الرَّبُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ ، وَمَا رَكَّزَ فِيهِمْ مِنَ الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا - تَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهِ الْحُجَّةُ ، وَلَوْ لَمْ يَأْتِهِمْ نَذِيرٌ ، وَالْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ مُصَرِّحَةٌ - بِكَثْرَةٍ - بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ بِإِنْذَارِ الْفِطْرَةِ ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [ 17 \ 55 ] ، فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا : حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ، وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى نَخْلُقَ عُقُولًا ، وَنَنْصُبَ أَدِلَّةً ، وَنُرَكِّزَ فِطْرَةً .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [ 17 \ 15 ] ، فَصَرَّحَ بِأَنَّ الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ ، وَيَنْقَطِعُ بِهِ عُذْرُهُمْ : هُوَ إِنْذَارُ الرُّسُلِ لَا نَصْبَ الْأَدِلَّةِ وَالْخَلْقِ عَلَى الْفِطْرَةِ .
وَهَذِهِ الْحُجَّةُ الَّتِي بُعِثَ الرُّسُلُ لِقَطْعِهَا بَيَّنَهَا فِي " طَهَ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى [ 134 ] ، وَأَشَارَ لَهَا فِي " الْقَصَصِ " بِقَوْلِهِ : وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [ 47 ] ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ النَّارِ قُطِعَ عُذْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِإِنْذَارِ الرُّسُلِ ، وَلَمْ يَكْتَفِ فِي ذَلِكَ [ ص: 44 ] بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ [ 67 \ 8 ، 9 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُ مْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [ 39 \ 71 ] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ : كُلَّمَا ، فِي قَوْلِهِ : كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ ، صِيغَةُ عُمُومٍ ، وَأَنَّ لَفْظَةَ : الَّذِينَ ، فِي قَوْلِهِ : وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، صِيغَةُ عُمُومٍ أَيْضًا ; لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يَعُمُّ كُلَّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَتُهُ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَإِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَخْرَجَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي صُورَةِ الذَّرِّ فَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ كَمَا ذَكَرَ هُنَا ، وَبَعْضُهَا صَحِيحٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : قَالَ أَبُو عُمَرَ ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الْبَرِّ ، لَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ ثَابِتَةٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ وَغَيْرِهِمُ اهـ . مَحَلُّ الْحَاجَةِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرْنَا هَلْ يُكْتَفَى فِي الْإِلْزَامِ بِالتَّوْحِيدِ بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ لِيُنْذِرُوا ؟ هُوَ مَبْنَى الْخِلَافِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ ، هَلْ يَدْخُلُونَ النَّارَ بِكُفْرِهِمْ ؟ وَحَكَى الْقَرَافِيُّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ وَجَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " ، أَوْ يُعْذَرُونَ بِالْفَتْرَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، وَإِلَى هَذَا الْخِلَافِ أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " بِقَوْلِهِ :
ذُو فَتْرَةٍ بِالْفَرْعِ لَا يُرَاعُ وَفِي الْأُصُولِ بَيْنَهُمْ نِزَاعُ وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ مُنَاقَشَةِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ فِي كِتَابِنَا ( دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ ) فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهَا هُنَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ الْآيَةَ .
ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَثَلَ لِهَذَا الْخَسِيسِ الَّذِي آتَاهُ آيَاتِهِ فَانْسَلَخَ مِنْهَا - بِالْكَلْبِ ، وَلَمْ تَكُنْ حَقَارَةُ الْكَلْبِ مَانِعَةً مِنْ ضَرْبِهِ تَعَالَى الْمَثَلَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالذُّبَابِ فِي قَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [ 22 \ 73 ] ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِبَيْتِ [ ص: 45 ] الْعَنْكَبُوتِ فِي قَوْلِهِ : مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ 29 \ 41 ] ، وَكَذَلِكَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْحِمَارِ فِي قَوْلِهِ : مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ 62 \ 5 ] ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَحِي مِنْ بَيَانِ الْعُلُومِ النَّفِيسَةِ عَنْ طَرِيقِ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِالْأَشْيَاءِ الْحَقِيرَةِ ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَدْلُولِ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .
هَدَّدَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ بِتَهْدِيدَيْنِ :
الْأَوَّلُ : صِيغَةُ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ : وَذَرُوا فَإِنَّهَا لِلتَّهْدِيدِ .
وَالثَّانِي : فِي قَوْلِهِ : سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، وَهَدَّدَ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِهِ فِي سُورَةِ حم " السَّجْدَةِ " بِأَنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا [ 40 ] ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ الْآيَةَ ، وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ : الْمَيْلُ ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ ، وَمَعْنَى إِلْحَادِهِمْ فِي أَسْمَائِهِ هُوَ مَا كَاشْتِقَاقِهِم ُ اسْمَ اللَّاتِ مِنِ اسْمِ اللَّهِ ، وَاسْمَ الْعُزَّى مِنِ اسْمِ الْعَزِيزِ ، وَاسْمَ مَنَاةَ مِنَ الْمَنَّانِ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ لَحَدَ وَأَلْحَدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، وَعَلَيْهِمَا الْقِرَاءَتَانِ يُلْحِدُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ مِنَ الْأَوَّلِ ، وَبِضَمِّهَا وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنَ الثَّانِي .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ قِيَامِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا ، وَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [ 79 \ 42 ، 43 ، 44 ] ، وَقَوْلِهِ : وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [ 6 \ 59 ] ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا الْخَمْسُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الْآيَةَ [ 31 \ 34 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:33 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (99)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (1)
صـ 46 إلى صـ 50
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ .
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فِي قَوْلِهِ فِي " الْأَنْعَامِ " : قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [ ص: 46 ] [ 50 ] ، وَقَالَ : عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ الْآيَةَ [ 62 \ 26 ، 27 ] ، وَقَالَ : قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ الْآيَةَ [ 27 \ 65 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قِيلَ : الْمَالُ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ الْخَيْرِ بِمَعْنَى الْمَالِ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [ 100 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [ 2 \ 180 ] ، وَقَوْلِهِ : قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ الْآيَةَ [ 2 \ 215 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالْخَيْرِ فِيهَا الْعَمَلُ الصَّالِحُ كَمَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْتَكْثِرٌ جِدًّا مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ; لِأَنَّ عَمَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ دِيمَةً ، وَفِي رِوَايَةٍ كَانَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا الْآيَةَ .
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ آدَمَ لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ، أَيْ : لِيَأْلَفَهَا وَيَطْمَئِنَّ بِهَا ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ جَعَلَ أَزْوَاجَ ذُرِّيَّتِهِ كَذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [ 30 \ 21 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْقُرْآنُ يَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا :
الْأَوَّلُ : أَنَّ حَوَّاءَ كَانَتْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ ، فَحَمَلَتْ ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ ، فَقَالَ لَهَا سَمِّي هَذَا الْوَلَدَ عَبْدَ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ يَعِيشُ ، وَالْحَارِثُ مِنْ أَسْمَاءِ الشَّيْطَانِ ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ فَقَالَ تَعَالَى : فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا [ 7 \ 190 ] أَيْ وَلَدًا إِنْسَانًا ذَكَرًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ بِتَسْمِيَتِهِ عَبْدَ الْحَارِثِ ، وَقَدْ جَاءَ بِنَحْوِ هَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَهُوَ مَعْلُولٌ كَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ لَمَّا آتَى آدَمَ وَحَوَّاءَ صَالَحًا كَفَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا ، وَأَسْنَدَ فِعْلَ الذُّرِّيَّةِ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ ; لِأَنَّهُمَا أَصْلٌ لِذُرِّيَّتِهِم َا كَمَا قَالَ : وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [ 7 \ 11 ] ، أَيْ بِتَصْوِيرِنَا لِأَبِيكُمْ آدَمَ لِأَنَّهُ أَصْلُهُمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ : ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ الْأَخِيرِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ : [ ص: 47 ] فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [ 7 \ 190 ، 191 ] ، وَهَذَا نَصٌّ قُرْآنِيٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ ، لَا آدَمُ وَحَوَّاءُ ، وَاخْتَارَ هَذَا الْوَجْهَ غَيْرُ وَاحِدٍ لِدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ الْجَهَلَةُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ . فَبَيَّنَ أَنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ يُعَامَلُ بِاللِّينِ ، وَأَخْذِ الْعَفْوِ ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ جَهْلِهِ وَإِسَاءَتِهِ . وَأَنَّ شَيْطَانَ الْجِنِّ لَا مَنْجَى مِنْهُ إِلَّا بِالِاسْتِعَاذَ ةِ بِاللَّهِ مِنْهُ ، قَالَ فِي الْأَوَّلِ : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [ 7 \ 199 ] ، وَقَالَ فِي الثَّانِي : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [ 7 \ 200 ] ، وَبَيَّنَ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا فِي مَوْضِعَيْنِ آخَرَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ 32 \ 1 ] ، قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ [ 96 ] ، وَقَالَ فِي الْآخَرِ : وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [ 79 ، 98 ] .
وَالثَّانِي : فِي حم " السَّجْدَةِ " قَالَ فِيهِ فِي شَيْطَانِ الْإِنْسِ : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [ 41 \ 34 ] ، وَزَادَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْطَاهُ كُلُّ النَّاسِ ، بَلْ لَا يُعْطِيهِ اللَّهُ إِلَّا لِذِي الْحَظِّ الْكَبِيرِ وَالْبَخْتِ الْعَظِيمِ عِنْدَهُ فَقَالَ : وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [ 41 \ 35 ] ، ثُمَّ قَالَ فِي شَيْطَانِ الْجِنِّ : وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [ 41 \ 36 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ .
ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِخْوَانَ الْإِنْسِ مِنَ الشَّيَاطِينِ يَمُدُّونَ الْإِنْسَ فِي الْغَيِّ ، ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [ 19 \ 83 ] ، وَقَوْلِهِ : يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [ 6 \ 128 ] ، وَبَيَّنَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ بَعْضَ الْإِنْسِ إِخْوَانٌ لِلشَّيَاطِينِ وَهُوَ قَوْلُهُ : إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ الْآيَةَ [ 17 \ 27 ] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَنْفَالِ هُنَا عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ مَا شَذَّ عَنِ الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَأُخِذَ بِغَيْرِ حَرْبٍ كَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ يَذْهَبُ مِنَ الْكَافِرِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَالْمُرَادُ بِالْأَنْفَالِ هُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَيْئًا ، وَهُوَ الْآتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ [ 59 \ 6 ] ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْخُمُسُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُمُسُ الْخُمُسِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا الْغَنِيمَةُ كُلُّهَا ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيّ ُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا أَنْفَالُ السَّرَايَا خَاصَّةً ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الشَّعْبِيُّ ، وَنَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ : مَا يُنَفِّلُهُ الْإِمَامُ لِبَعْضِ السَّرَايَا زِيَادَةً عَلَى قِسْمِهِمْ مَعَ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ ، وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الزِّيَادَةُ عَلَى الْقَسْمِ . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ، وَقُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ قَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ ، فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبْضِ " قَالَ : فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي وَأَخْذِ سَلَبِي ، قَالَ : فَمَا جَاوَزْتُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " اذْهَبْ فَخُذْ سَلَبَكَ " ، وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا : [ ص: 49 ] حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شَفَانِيَ اللَّهُ الْيَوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ ، فَقَالَ : " إِنَّ هَذَا السَّيْفَ لَا لَكَ وَلَا لِي ضَعْهُ " قَالَ : فَوَضَعْتُهُ ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَقُلْتُ : عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا السَّيْفُ مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي ، قَالَ : فَإِذَا رَجُلٌ يَدْعُونِي مِنْ وَرَائِي قَالَ : قُلْتُ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيَّ شَيْئًا ، قَالَ : كُنْتَ سَأَلْتَنِي السَّيْفَ ، وَلَيْسَ هُوَ لِي وَإِنَّهُ قَدْ وُهِبَ لِيَ فَهُوَ لَكَ ، قَالَ : وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ 8 \ 1 ] ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ ُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ : أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ ، أَخْبَرَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ : سَمِعْتُ مُصْعَبَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ سَعْدٍ قَالَ : نَزَلَتْ فِيَّ أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ : أَصَبْتُ سَيْفًا يَوْمَ بَدْرٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ : نَفِّلْنِيهِ ، فَقَالَ : " ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ " مَرَّتَيْنِ ، ثُمَّ عَاوَدْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ الْآيَةَ ، وَتَمَامُ الْحَدِيثِ فِي نُزُولِ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [ 29 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الْآيَةَ [ 5 \ 90 ] ، وَآيَةِ الْوَصِيَّةِ ، وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ بَعْضِ بَنِي سَاعِدَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا أُسَيْدٍ مَالِكَ بْنَ رَبِيعَةَ يَقُولُ : أَصَبْتُ سَيْفَ ابْنِ عَائِذٍ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَانَ السَّيْفُ يُدْعَى بِالْمَرْزُبَان ِ ، فَلَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ أَنْ يَرُدُّوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ النَّفْلِ أَقْبَلْتُ بِهِ فَأَلْقَيْتُهُ فِي النَّفْلِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا يُسْأَلُهُ ، فَرَآهُ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيُّ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، اهـ كَلَامُ ابْنُ كَثِيرٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ لَمَّا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهَا ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : نَحْنُ هُمُ الَّذِينَ حُزْنَا الْغَنَائِمَ ، وَحَوَيْنَاهَا فَلَيْسَ لِغَيْرِنَا فِيهَا نَصِيبٌ ، وَقَالَتِ الْمَشْيَخَةُ : إِنَّا كُنَّا لَكُمْ رِدْءًا ، وَلَوْ هُزِمْتُمْ لَلَجَأْتُمْ إِلَيْنَا فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي " صَحِيحِهِ " ، وَالْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " ، وَقَالَ ، صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ; وَرَوَى نَحْوَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، فَالْآيَةُ [ ص: 50 ] مُشْكِلَةٌ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [ 8 \ 41 ] .
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ الَّتِي يَزُولُ بِهَا الْإِشْكَالُ فِي الْآيَةِ ، هُوَ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَنَسَبُهُ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَ أَبِي عُبَيْدٍ : إِنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ لَمْ تُخَمَّسْ لِأَنَّ آيَةَ الْخُمُسِ لَمْ تَنْزِلْ إِلَّا بَعْدَ قَسْمِ غَنَائِمِ بَدْرٍ - غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَئِذٍ " الْحَدِيثَ . فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ فِي تَخْمِيسِ غَنَائِمِ بَدْرٍ ; لِأَنَّ قَوْلَ عَلَيٍّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَوْمَئِذٍ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا تَرَى .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، بَيَّنَتْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ قَصْرَ الْغَنَائِمِ عَلَى الرَّسُولِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ ، وَأَنَّهَا تُعْطَى أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْهَا لَلْغَانِمِينَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ قَالَ : إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لَهَا ، وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِلْجُمْهُورِ ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا الْمَبْحَثِ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا الْآيَةَ . فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ التَّصْرِيحُ بِزِيَادَةِ الْإِيمَانِ ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ : وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [ 9 \ 124 ] ، وَقَوْلِهِ : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ الْآيَةَ [ 48 \ 4 ] ، وَقَوْلِهِ : لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا الْآيَةَ [ 74 \ 31 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى الْآيَةَ [ 47 \ 17 ] .
وَتَدُلُّ هَذِهِ الْآيَاتُ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّهُ يَنْقُصُ أَيْضًا ; لِأَنَّ كُلَّ مَا يَزِيدُ يَنْقُصُ ، وَجَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحَةِ كَقَوْلِهِ : " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ " ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:36 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (100)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (2)
صـ 51 إلى صـ 55
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَلْقَى النُّعَاسَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْعَلَ قُلُوبَهُمْ آمِنَةً غَيْرَ خَائِفَةٍ مِنْ عَدُوِّهَا ; لِأَنَّ الْخَائِفَ الْفَزِعَ لَا يَغْشَاهُ النُّعَاسُ ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا النُّعَاسَ أُلْقِيَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ [ ص: 51 ] هُنَا فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ ، كَمَا لَا يَخْفَى .
وَذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّ النُّعَاسَ غَشِيَهُمْ أَيْضًا يَوْمَ أُحُدٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا الْآيَةَ [ 154 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ .
الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : الْحُكْمُ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَأَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْحَجِيجَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ الْجَمَاعَةَ ، وَقَطَعَ الرَّحِمَ ، وَسَفَّهَ الْآبَاءَ ، وَعَابَ الدِّينَ ، ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِأَنْ يُهْلِكَ الظَّالِمَ مِنْهُمْ ، وَيَنْصُرَ الْمُحِقَّ ، فَحَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَهْلَكَهُمْ ، وَنَصَرَهُ ، وَأَنْزَلَ الْآيَةَ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ هُنَا الْحُكْمُ أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ [ 8 \ 19 ] ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ عَنْ شُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ : عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ 7 \ 87 ] ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : عَنْ شُعَيْبٍ فِي نَفْسِ الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [ 7 \ 87 ] ، وَهَذِهِ لُغَةُ حِمْيَرَ ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْقَاضِيَ فَتَّاحًا وَالْحُكُومَةَ فَتَّاحَةً .
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْوَافِرُ ]
أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولًا بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ
أَيْ عَنْ حُكُومَتِكُمْ وَقَضَائِكُمْ ، أَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا لِلْمُؤْمِنِينَ ، أَيْ : تَطْلُبُوا الْفَتْحَ وَالنَّصْرَ مِنَ اللَّهِ ، وَأَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِلْكَافِرِينَ ، فَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، كَمَا تَرَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .
أَمَرَ تَعَالَى النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَعْلَمُوا : أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ فِتْنَةٌ يُخْتَبَرُونَ بِهَا ، هَلْ يَكُونُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ؟ وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ فِتْنَةٌ أَيْضًا ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ ، فَأَمَرَ الْإِنْسَانَ بِالْحَذَرِ مِنْهُمْ أَنْ يُوقِعُوهُ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ إِنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا يَكْرَهُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ لَهُ وَأَخَصُّهُمْ بِهِ وَهُمُ الْأَوْلَادُ وَالْأَزْوَاجُ - أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ وَلَا يُؤَاخِذَهُمْ فَيَحَذَرَ مِنْهُمْ أَوَّلًا وَيَصْفَحَ [ ص: 52 ] عَنْهُمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّيْءِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي " التَّغَابُنِ " : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [ 64 \ 14 ، 15 ] .
وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ تُلْهِيَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذِكْرِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْخَاسِرُ الْمَغْبُونُ فِي حُظُوظِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ 63 \ 9 ] ، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ فِي الْآيَاتِ : الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْفِتْنَةِ فِي الْقُرْآنِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالضَّحَاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ : فُرْقَانًا : مَخْرَجًا ، زَادَ مُجَاهِدٌ : فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فُرْقَانًا : نَجَاةً ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : نَصْرًا . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : فُرْقَانًا أَيْ : فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ : الْمَخْرَجُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا الْآيَةَ [ 65 \ 2 ] ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ النَّجَاةُ أَوِ النَّصْرُ ، رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى هَذَا ; لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا أَنْجَاهُ وَنَصَرَهُ ، لَكِنَّ الَّذِي يَدُلُّ الْقُرْآنُ وَاللُّغَةُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ ; لِأَنَّ الْفُرْقَانَ مَصْدَرٌ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ ، وَأُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ أَيِ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [ 25 \ 1 ] ، أَيِ الْكِتَابَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَقَوْلِهِ : وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [ 3 \ 4 ] ، وَقَوْلِهِ : وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ 2 \ 53 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [ 21 \ 48 ] ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ هُنَا : الْعِلْمُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيدِ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْآيَةَ [ 57 \ 28 ] .
لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا : وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ، يَعْنِي : عِلْمًا وَهُدًى تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ هُنَا الْهُدَى ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ كَانَ [ ص: 53 ] كَافِرًا فَهَدَاهُ اللَّهُ : لَمُشْرِكُونَ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ الْآيَةَ [ 6 \ 122 ] ، فَجَعَلَ النُّورَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيدِ : هُوَ مَعْنَى الْفُرْقَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَنْفَالِ كَمَا تَرَى ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ ، وَالْغُفْرَانَ الْمُرَتَّبَ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ ، كَذَلِكَ جَاءَ مُرَتَّبًا أَيْضًا عَلَيْهَا فِي آيَةِ الْحَدِيدِ ، وَهُوَ بَيَانٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا الْآيَةَ .
قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِكَذِبِهِمْ ، وَتَعْجِيزِ اللَّهِ لَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهَا هُنَا ، وَقَوْلُهُ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْهُمْ : إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [ 8 \ 31 ] ، رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُم ْ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [ 25 \ 5 ، 6 ] ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَالِمُ السِّرِّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ ، وَكَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ 16 \ 103 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ :
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .
ذَكَرَ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ حَيْثُ قَالُوا : فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الْآيَةَ [ 8 \ 32 ] ، وَلَمْ يَقُولُوا فَاهْدِنَا إِلَيْهِ ، وَجَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ : وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ 38 \ 16 ] ، وَقَوْلِهِ : وَيَسْتَعْجِلُو نَكَ بِالْعَذَابِ الْآيَةَ [ 22 \ 47 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ [ 11 \ 8 ] ، وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ شِبْهَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ شُعَيْبٍ : فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ 26 \ 187 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ : يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ 7 \ 77 ] ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ " سَأَلَ سَائِلٌ " [ 70 \ 1 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ .
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَأَثْبَتَهَا لِخُصُوصِ الْمُتَّقِينَ ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [ ص: 54 ] أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [ 9 \ 17 ، 18 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً .
الْمُكَاءُ : الصَّفِيرُ ، وَالتَّصْدِيَةُ : التَّصْفِيقُ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَالْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ بِالصَّفِيرِ وَالتَّصْفِيقِ التَّخْلِيطُ حَتَّى لَا يَسْمَعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [ 41 \ 26 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ .
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَوَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ حَسْبَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ ، سَوَاءً أَوْجَفُوا عَلَيْهِ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ أَوْ لَا ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ ، أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ وَمَصَارِفُهُ الَّتِي بَيَّنَ أَنَّهُ يُصْرَفُ فِيهَا كَمَصَارِفِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فِي فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الْآيَةَ [ 6 ] ، ثُمَّ بَيَّنَ شُمُولَ الْحُكْمِ لِكُلِّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى بِقَوْلِهِ : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْآيَةَ [ 7 ] .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ : فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَقَالُوا : الْفَيْءُ : هُوَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ انْتِزَاعِهِ مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ ، كَفَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَكَّنُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَفْعَلُ فِيهَا مَا يَشَاءُ لِشِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَرَضِيَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْتَحِلُوا بِمَا يَحْمِلُونَ عَلَى الْإِبِلِ غَيْرَ السِّلَاحِ ، وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ : فَهِيَ مَا انْتَزَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكَفَّارِ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، مَعَ قَوْلِهِ : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أَوْجَفُوا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهِ كَمَا تَرَى ، وَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ عَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ : [ الرَّجَزُ ]
وَفَيْئُهُمْ وَالْفَيْءُ فِي الْأَنْفَالِ مَا لَمْ يَكُنْ أُخِذَ عَنْ قِتَالِ [ ص: 55 ] أَمَّا الْغَنِيمَةُ فَعَنْ زِحَافٍ
وَالْأَخْذُ عَنْوَةً لَدَى الزِّحَافِ
لِخَيْرِ مُرْسَلٍ إِلَخْ .
وَقَوْلُهُ : وَفَيْئُهُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِخَيْرِ مُرْسَلٍ ، وَقَوْلُهُ : وَالْفَيْءُ فِي الْأَنْفَالِ . . . إِلَخْ ، كَلَامٌ اعْتِرَاضِيٌّ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بَيَّنَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَاتِ ; لِأَنَّ آيَةَ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ ، ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْغَنِيمَةِ ، وَآيَةَ : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْفَيْءِ وَأُشِيرَ لِوَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْ نِ بِقَوْلِهِ : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ غَنِيمَةً لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ وَلَمْ تَنْتَزِعُوهُ بِالْقُوَّةِ مِنْ مَالِكِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ وَاحِدٌ ، فَجَمِيعُ مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ غَنِيمَةً وَفَيْئًا ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ ، فَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ الْفَيْءِ عَلَى الْغَنِيمَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ التَّغْلِبِيِّ : [ الْوَافِرُ ]
فَلَا وَأَبِي جَلِيلَةَ مَا أَفَأْنَا مِنَ النَّعَمِ الْمُؤَبَّلِ مِنْ بَعِيرِ
وَلَكِنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْبًا عَلَى الْأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنُّحُورِ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:37 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (101)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (3)
صـ 56 إلى صـ 60
فَلَا وَأَبِي جَلِيلَةَ مَا أَفَأْنَا مِنَ النَّعَمِ الْمُؤَبَّلِ مِنْ بَعِيرِ
وَلَكِنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْبًا عَلَى الْأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنُّحُورِ
يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِسَوْقِ الْغَنَائِمِ وَلَكِنْ بِقَتْلِ الرِّجَالِ فَقَوْلُهُ :
أَفَأْنَا : يَعْنِي غَنِمْنَا ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ [ 33 \ 50 ] ; لِأَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ شُمُولُ ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْمَسْبِيَّاتِ وَلَوْ كُنَّ مُنْتَزَعَاتٍ قَهْرًا ، وَلَكِنَّ الِاصْطِلَاحَ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَتَدُلُّ لَهُ آيَةُ الْحَشْرِ الْمُتَقَدِّمَة ُ ، وَعَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ فَآيَةُ الْحَشْرِ مُشْكِلَةٌ مَعَ آيَةِ الْأَنْفَالِ هَذِهِ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ الْإِشْكَالِ قَالَ قَتَادَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : إِنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، نَاسِخَةٌ لِآيَةِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ الْآيَةَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ ، وَلَمْ يُلْجِئْ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ إِلَّا دَعْوَاهُ اتِّحَادَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ ، فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلَ غَيْرُهُ لَعُلِمَ أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَآيَةَ الْحَشْرِ فِي الْفَيْءِ ، وَلَا إِشْكَالَ . وَوَجْهُ بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ : أَنَّ آيَةَ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ ، نَزَلَتْ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ، قَبْلَ قَسْمِ غَنِيمَةِ بَدْرٍ بِدَلِيلِ حَدِيثِ عَلِيٍّ الثَّابِتِ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " ، الدَّالِّ عَلَى أَنَّ غَنَائِمَ بَدْرٍ خُمِّسَتْ ، وَآيَةُ التَّخْمِيسِ الَّتِي شَرَعَهُ اللَّهُ بِهَا هِيَ هَذِهِ ، وَأَمَّا آيَةُ الْحَشْرِ فَهِيَ نَازِلَةٌ فِي غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ بِإِطْبَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَغَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ غَزْوَةِ بَدْرٍ بِإِجْمَاعِ [ ص: 56 ] الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا مُنَازَعَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ ، فَظَهَرَ مِنْ هَذَا عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ ظَهَرَ لَكَ أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ لَا إِشْكَالَ فِي الْآيَاتِ ، وَكَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى أَمْرَ الْغَنَائِمِ وَالْفَيْءِ رَاجِعًا إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ ، فَلَا مُنَافَاةَ عَلَى قَوْلِهِ بَيْنَ آيَةِ " الْحَشْرِ " ، وَآيَةِ التَّخْمِيسِ إِذَا رَآهُ الْإِمَامُ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
مَسَائِلُ مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ لِلْغُزَاةِ الَّذِينَ غَنِمُوهَا ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْعَلَ تِلْكَ الْغَنِيمَةَ لِغَيْرِهِمْ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : غَنِمْتُمْ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا غَنِيمَةٌ لَهُمْ فَلَمَّا قَالَ : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ، عَلِمْنَا أَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ الْبَاقِيَةَ لَهُمْ لَا لِغَيْرِهِمْ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ، أَيْ : وَلِأَبِيهِ الثُّلْثَانِ الْبَاقِيَانِ إِجْمَاعًا ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ، أَيْ : وَلِلْغَانِمِين َ مَا بَقِيَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، وَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَمِمَّنْ حَكَى إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَالدَّاوُدِيُّ ، وَالْمَازِرِيُّ ، وَالْقَاضِي عِيَاضٌ ، وَابْنُ الْعَرَبِيِّ ، وَالْأَخْبَارُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُتَظَاهِرَةٌ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمُ الْمَازِرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا ، قَالُوا : لِلْإِمَامِ أَنْ يَصْرِفَ الْغَنِيمَةَ فِيمَا يَشَاءُ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَمْنَعَ مِنْهَا الْغُزَاةَ الْغَانِمِينَ .
وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [ 18 \ 1 ] قَالُوا : الْأَنْفَالُ : الْغَنَائِمُ كُلُّهَا ، وَالْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَا مَنْسُوخَةٌ ، وَاحْتَجُّوا لِذَلِكَ أَيْضًا بِمَا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ ، وَقِصَّةِ حُنَيْنٍ قَالُوا : إِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَحَ مَكَّةَ عَنْوَةً بِعَشَرَةِ آلَافِ مُقَاتِلٍ ، وَمَنَّ عَلَى أَهْلِهَا فَرَدَّهَا عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا غَنِيمَةً وَلَمْ يُقَسِّمْهَا عَلَى الْجَيْشِ ، فَلَوْ كَانَ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ وَاجِبًا لَفَعْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ ، قَالُوا : وَكَذَلِكَ غَنَائِمُ هَوَازِنَ فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ ، أَعْطَى مِنْهَا عَطَايَا عَظِيمَةً جِدًّا ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا مَعَ أَنَّهُمْ مِنْ خِيَارِ الْمُجَاهِدِينَ الْغَازِينَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ أَشَارَ لِعَطَايَاهُ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ فِي وَقْعَةِ حُنَيْنٍ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
[ ص: 57 ]
أَعْطَى عَطَايَا شَهِدَتْ بِالْكَرَمِ يَوْمَئِذٍ لَهُ وَلَمْ تُجَمْجَمِ أَعْطَى عَطَايَا أَخْجَلَتْ دَلْحَ الدِّيَمْ
إِذْ مَلَأَتْ رَحْبَ الْغَضَا مِنَ النَّعَمْ زُهَاءَ أَلْفَيْ نَاقَةٍ مِنْهَا وَمَا
مَلَأَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ غَنَمَا لِرَجُلٍ وَبَلِهٍ مَا لِحَلْقِهِ
مِنْهَا وَمِنْ رَقِيقِهِ وَوَرْقِهِ
إِلَخْ . . .
قَالُوا : لَوْ كَانَ يَجِبُ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ الَّذِي غَنِمَهَا ، لَمَا أَعْطَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْفَيْ نَاقَةٍ مِنْ غَنَائِمِ هَوَازِنَ لِغَيْرِ الْغُزَاةِ ، وَلَمَا أَعْطَى مَا مَلَأَ بَيْنَ جَبَلَيْنِ مِنَ الْغَنَمِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التَّمِيمِيَّ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ، وَكَذَلِكَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْفَزَارِيُّ ، حَتَّى غَارَ مِنْ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرَهُ الْمَشْهُورَ : [ الْمُتَقَارِبُ ]
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعِ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
إِلَّا أَبَاعِيرَ أُعْطِيتُهَا عَدِيدَ قَوَائِمِهِ الْأَرْبَعِ
وَكَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتُهَا بِكَرِّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِيَ الْقَوْمَ إِنْ يَرْقُدُوا إِذَا هَجَعَ النَّاسُ لَمْ أَهْجَعِ
قَالُوا : فَلَوْ كَانَ قَسْمُ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَيْشِ الْغَانِمِينَ وَاجِبًا ، لَمَا فُضِّلَ الْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ فِي الْعَطَاءِ مِنَ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شِعْرَهُ الْمَذْكُورَ ، وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الِاحْتِجَاجَات ِ : فَالْجَوَابُ عَنْ آيَةِ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [ 8 \ 41 ] ، وَنَسَبَهُ الْقُرْطُبِيُّ لِجُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَالْجَوَابُ عَمَّا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ مِنْ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ زَعَمُوا أَنَّ مَكَّةَ لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً ، وَلَكِنَّ أَهْلَهَا أَخَذُوا الْأَمَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَاسْتَدَلَّ قَائِلُوا هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " ، وَهُوَ [ ص: 58 ] ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي مَكَّةَ هَلْ أَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْوَةً ؟ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ ، أَوْ أَخَذَ لَهَا الْأَمَانَ ; وَالْأَمَانُ شِبْهُ الصُّلْحِ ، عَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ : فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ يَعْنِي مَكَّةَ : [ الرَّجَزُ ]
وَاخْتَلَفُوا فِيهَا فَقِيلَ أَمِنَتْ وَقِيلَ عَنْوَةً وَكَرْهًا أُخِذَتْ وَالْحَقُّ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً كَمَا سَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَجْوِبَةِ عَمَّا وَقَعَ فِي فَتْحِ مَكَّةَ ، أَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنَ الْبِلَادِ ; لِأَنَّهَا حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ مِنْ يَوْمِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ ، فَلَيْسَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْبِلَادِ الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا هَذِهِ الْحُرْمَةُ الْعَظِيمَةُ .
وَأَمَّا مَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ حُنَيْنٍ فَالْجَوَابُ عَنْهُ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَطَابَ نُفُوسَ الْغُزَاةِ عَنِ الْغَنِيمَةِ ; لِيُؤَلِّفَ بِهَا قُلُوبَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لِأَجْلِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِين َ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ أَنَّ بَعْضَ الْأَنْصَارِ قَالَ : يَمْنَعُنَا وَيُعْطِي قُرَيْشًا ، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ ، جَمَعَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَلَّمَهُمْ كَلَامَهُ الْمَشْهُورَ الْبَالِغَ فِي الْحُسْنِ ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ : " أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رِحَالِكُمْ " ، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ ، وَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ ، وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِسْمًا وَحَظًّا ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَنَوَّهَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِحُسْنِ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَهُمْ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : فِي غَزْوَةِ حُنَيْنٍ : [ الرَّجَزُ ]
وَوَكَّلَ الْأَنْصَارَ خَيْرَ الْعَالَمِينَ لِدِينِهِمْ إِذْ أَلَّفَ الْمُؤَلَّفِينَ
فَوَجَدُوا عَلَيْهِ أَنْ مَنَعَهُمْ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ مَنْ جَمَعَهُمْ
وَقَالَ قَوْلًا كَالْفَرِيدِ الْمُؤْنَقِ عَنْ نَظْمِهِ ضَعُفَ سِلْكُ مَنْطِقِي
فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي أَوْجَفَ الْجَيْشُ عَلَيْهَا الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ لِلْغُزَاةِ الْغَانِمِينَ عَلَى التَّحْقِيقِ ، الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَقَدْ عَلِمْتَ الْجَوَابَ عَنْ حُجَجِ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ ; وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَخْمَاسِ الْأَرْبَعَةِ ; لِأَنَّهَا مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ .
[ ص: 59 ] وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنْفِّلَ مِنْهَا بَعْضَ الشَّيْءِ بِاجْتِهَادِهِ ، وَهُوَ أَظْهَرُ دَلِيلًا ، وَسَيَأْتِي لَهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هِيَ تَحْقِيقُ الْمَقَامِ فِي مَصَارِفِ الْخُمُسِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ; فَظَاهِرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُجْعَلُ سِتَّةَ أَنْصِبَاءَ : نُصِيبٍ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَنَصِيبٍ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَنَصِيبٍ لِذِي الْقُرْبَى ، وَنَصِيبٍ لِلْيَتَامَى ، وَنَصِيبٍ لِلْمَسَاكِينِ ، وَنَصِيبٍ لِابْنِ السَّبِيلِ .
وَبِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ ، عَنِ الرَّبِيعِ ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ ، قَالَ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيُخَمِّسُهَا عَلَى خَمْسَةٍ تَكُونُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْهَا لِمَنْ شَهِدَهَا ، ثُمَّ يُؤْخَذُ الْخُمُسُ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فِيهِ ، فَيَأْخُذُ الَّذِي قَبَضَ كَفَّهُ ، فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ ، ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ، فَيَكُونُ سَهْمٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَهْمٌ لِذِي الْقُرْبَى ، وَسَهْمٌ لِلْيَتَامَى ، وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ ، وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَنَصِيبُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا يُجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ هَذَا الْقَوْلِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : إِنَّ نَصِيبَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا يُرَدُّ عَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ نَصِيبَ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَنَصِيبَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ ، وَذِكْرُ اسْمِهِ جَلَّ وَعَلَا اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ لِلتَّعْظِيمِ ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الضَّحَّاكُ . وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُغِيرَةَ وَغَيْرِ وَاحِدٍ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ ، عَنْ رَجُلٍ ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى ، وَهُوَ يَعْرِضُ فَرَسًا ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَقُولُ فِي الْغَنِيمَةِ ؟ فَقَالَ : " لِلَّهِ خُمُسُهَا ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِلْجَيْشِ " ، قُلْتُ : فَمَا أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَ : " لَا وَلَا السَّهْمُ تَسْتَخْرِجُهُ مِنْ جَيْبِكَ لَسْتَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ " ، وَهَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ الْكِنْدِيِّ ، أَنَّهُ جَلَسَ مَعَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ، وَأَبِي الدَّرْدَاءِ ، وَالْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَتَذَاكَرُوا [ ص: 60 ] حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لِعُبَادَةَ : يَا عُبَادَةُ : يَا عُبَادَةُ كَلِمَاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا فِي شَأْنِ الْأَخْمَاسِ ، فَقَالَ عُبَادَةُ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ فِي غَزْوَةٍ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ ; فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَتَنَاوَلَ وَبَرَةً بَيْنَ أُنْمُلَتَيْهِ ، فَقَالَ : " إِنَّ هَذِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ ، وَإِنَّهُ لَيْسَ لِي فِيهَا إِلَّا نَصِيبِي مَعَكُمُ الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ ، فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمَخِيطَ وَأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَصْغَرَ ، وَلَا تَغُلُّوا فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَجَاهِدُوا النَّاسَ فِي اللَّهِ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ ، وَلَا تُبَالُوا فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ ، وَأَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ عَظِيمٌ يُنْجِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ " .
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ أَحْمَدَ هَذَا عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ عَظِيمٌ ، وَلَمْ أَرَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكُتُبِ السِّتَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَكِنْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ فِي قِصَّةِ الْخُمُسِ ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْغُلُولِ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِهِمْ إِلَى بَعِيرٍ مِنَ الْمَغْنَمِ ، فَلَمَّا سَلَّمَ أَخَذَ وَبَرَةً مِنْ هَذَا الْبَعِيرِ ، ثُمَّ قَالَ : " وَلَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ مِثْلُ هَذِهِ إِلَّا الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ .
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الْخُمُسَ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يُقَسَّمُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ ; لِأَنَّ اسْمَ اللَّهِ ذُكِرَ لِلتَّعْظِيمِ وَافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِهِ ، مَعَ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَمْلُوكٌ لَهُ جَلَّ وَعَلَا ، فَاعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصْرِفُ نَصِيبَهُ ، الَّذِي هُوَ خُمُسُ الْخُمُسِ ، فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا : " وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " ، وَهُوَ الْحَقُّ .
وَيَدُلُّ لَهُ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ : مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ قُوتَ سَنَتِهِ مِنْ فَيْءِ بَنِيَ النَّضِيرِ ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَانْتِقَالِهِ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ; فَإِنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ بِسُقُوطِ نَصِيبِهِ بِوَفَاتِهِ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ : أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ سُقُوطَ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى أَيْضًا بِوَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:38 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (102)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (4)
صـ 61 إلى صـ 65
وَالصَّحِيحُ أَنَّ نَصِيبَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاقٍ ، وَأَنَّ إِمَامَ الْمُسْلِمِينَ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ [ ص: 61 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَكُونُ نَصِيبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعَلِيٍّ ، وَقَتَادَةَ ، وَجَمَاعَةٍ ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَجَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الصَّحِيحُ ، وَأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ لِمَنْ يَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ ، أَنَّهُ يَصْرِفُهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالنَّبِيُّ قَالَ : " الْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ كُلَّ الْأَقْوَالِ فِي نَصِيبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ رَاجِعَةٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ; وَهُوَ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يَصْرِفُونَهُ فِيمَا كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَصْرِفَانِهِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ ذَوِي الْقُرْبَى بَاقٍ ، وَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ :
الْأُولَى : هَلْ يَسْقُطُ بِوَفَاتِهِ أَوْ لَا ؟
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ السُّقُوطِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ .
الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِذِي الْقُرْبَى .
الثَّالِثَةُ : هَلْ يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ أَوْ لَا ؟
أَمَّا ذَوُو الْقُرْبَى : فَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ; عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا ، وَإِلَيْهِ ذَهَبُ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ، وَابْنُ جُرَيْجٍ ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ ، فِي كِتَابِ " فَرْضِ الْخُمُسِ " .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ عُقَيْلٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ : مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكْتَنَا ، وَنَحْنُ وَهَمَ مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَقَالَ [ ص: 62 ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّمَا بَنُو الْمُطَّلِبِ ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ " .
قَالَ اللَّيْثَ : حَدَّثَنِي يُونُسُ وَزَادَ قَالَ جُبَيْرٌ : وَلَمْ يُقَسِّمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، وَلَا لِبَنِي نَوْفَلٍ . اهـ .
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْمَغَازِي : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ ، قَالَ : مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْنَا : أَعْطَيْتَ بَنِي الْمُطَّلِبِ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ ، وَتَرَكْتَنَا ، وَنَحْنُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْكَ ، فَقَالَ : " إِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ " ، قَالَ جُبَيْرٌ : لَمْ يُقَسِّمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، وَبَنِي نَوْفَلٍ شَيْئًا اهـ .
وَإِيضَاحُ كَوْنِهِمْ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ : أَنَّ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ .
فَأَوْلَادُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ أَرْبَعَةٌ :
هَاشِمٌ ، وَالْمُطَّلِبُ ، وَعَبْدُ شَمْسٍ .
وَهُمْ : أَشِقَّاءُ أُمِّهِمْ : عَاتِكَةَ ، بِنْتِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ السُّلَمِيَّةَ ، إِحْدَى عَوَاتِكِ سُلَيْمٍ ; اللَّاتِي هُنَّ جَدَّاتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُنَّ ثَلَاثٌ :
هَذِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا .
وَالثَّانِيَةُ : عَمَّتُهَا ; وَهِيَ : عَاتِكَةُ بِنْتُ هِلَالٍ الَّتِي هِيَ أُمُّ عَبْدِ مَنَافٍ .
وَالثَّالِثَةُ : بِنْتُ أَخِي الْأُولَى ; وَهِيَ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالٍ ، وَهِيَ أُمُّ وَهْبٍ ، وَالِدِ آمِنَةَ ، أُمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَرَابِعُ أَوْلَادِ عَبْدِ مَنَافٍ : نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَأُمُّهُ : وَاقِدَةُ بِنْتُ أَبِي عَدِيٍّ ، وَاسْمُهُ نَوْفَلُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ صَعْصَعَةَ .
قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ : [ الرَّجَزُ ]
عَبْدُ مَنَافٍ قَمَرُ الْبَطْحَاءِ
أَرْبَعَةٌ بَنُوهُ هَؤُلَاءِ
مُطَّلِبٌ ، وَهَاشِمٌ ، وَنَوْفَلُ
وَعَبْدُ شَمْسٍ ، هَاشِمٌ لَا يُجْهَلُ
وَقَالَ فِي بَيَانِ عَوَاتِكِ سُلَيْمٍ اللَّاتِي هُنَّ جَدَّاتٌ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ الرَّجَزُ ]
عَوَاتِكُ النَّبِيِّ : أُمُّ وَهْبِ
وَأُمُّ هَاشِمٍ ، وَأُمُّ النَّدْبِ
عَبْدِ مَنَافٍ ، وَذِهِ الْأَخِيرِهْ
عَمَّةُ عَمَّةِ الْأُولَى الصَّغِيرَهْ
[ ص: 63 ]
وَهُنَّ بِالتَّرْتِيبِ ذَا لِذِي الرِّجَالِ
الْأَوْقَصِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ هِلَالِ
فَبِهَذَا الَّذِي بَيَّنَّا يَتَّضِحُ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذِي الْقُرْبَى فِي الْآيَةِ : بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ دُونَ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، وَبَنِي نَوْفَلٍ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ، وَبَنِي نَوْفَلٍ عَادَوُا الْهَاشِمِيِّين َ ، وَظَاهَرُوا عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا ، فَصَارُوا كَالْأَبَاعِدِ مِنْهُمْ ; لِلْعَدَاوَةِ ، وَعَدَمِ النُّصْرَةِ .
وَلِذَا قَالَ فِيهِمْ أَبُو طَالِبٍ ; فِي لَامِيَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ : [ الطَّوِيلُ ]
جَزَى اللَّهُ عَنَّا عَبَدَ شَمْسٍ ، وَنَوْفَلًا
عُقُوبَةَ شَرٍّ ، عَاجِلٍ ، غَيْرِ آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يَخِيسُ شَعِيرَةً
لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ ، غَيْرُ عَائِلِ
لَقَدْ سَفِهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدَّلُوا
بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا ، وَالْغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصَّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ
وَآلِ قُصَيٍّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ
بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي ذَكَرْنَا : يَتَّضِحُ عَدَمُ صِحَّةِ قَوْلِ مَنْ قَالَ : بِأَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُمْ قُرَيْشٌ كُلُّهُمْ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ فَقَطْ : عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ ، وَمَالِكٌ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَغَيْرُهُمْ .
وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّافِعِيُّ ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَمُسْلِمٌ ، وَابْنُ جَرِيرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ فِي سُنَنِهِ : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ نَجْدَةَ الْحَرُورِيَّ كَتَبَ إِلَيْهِ : يَسْأَلُهُ عَنْ ذَوِي الْقُرْبَى الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ : إِنَّا كُنَّا نَرَى أَنَّا هُمْ ، فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا ، وَقَالُوا : قُرَيْشٌ كُلُّهَا ذَوُو قُرْبَى .
وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ : وَقَالُوا : " قُرَيْشٌ كُلُّهَا " تَفَرَّدَ بِهَا أَبُو مَعْشَرٍ ، وَفِيهِ ضَعْفٌ .
وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِعْلِهِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحِ : يُعَيِّنُ أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ ، وَالْمُطَّلِبِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَكَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِخُمُسِ الْخُمُسِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ لِبَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ ، وَأَنَّهُمْ هُمْ ذَوُو الْقُرْبَى الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ .
فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا : هَلْ يُفَضَّلُ ذَكَرُهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ ، أَوْ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ ؟
فَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ كَالْمِيرَاثِ ، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ; وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ [ ص: 64 ] أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْن ِ .
قَالَ صَاحِبُ " الْإِنْصَافِ " : هَذَا الْمَذْهَبُ جَزَمَ بِهِ الْخِرَقِيُّ ، وَصَاحِبُ " الْهِدَايَةِ " ، وَ " الْمُذْهَبِ " ، وَ " مَسْبُوكِ الذَّهَبِ " ، وَ " الْعُمْدَةِ " ، وَ " الْوَجِيزِ " ، وَغَيْرِهِمْ ; وَقَدَّمَهُ فِي " الرِّعَايَتَيْن ِ " ، وَ " الْحَاوِيَيْنِ " ، وَغَيْرِهِمْ ، وَصَحَّحَهُ فِي " الْبُلْغَةِ " ، وَ " النَّظْمِ " ، وَغَيْرِهِمَا .
وَعَنْهُ : الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى ; سَوَاءٌ . قَدَّمَهُ ابْنُ رُزَيْنٍ فِي شَرْحِهِ ; وَأَطْلَقَهُمَا فِي " الْمُغْنِي " ، وَ " الشَّرْحِ " ، وَ " الْمُحَرَّرِ " ، وَ " الْفُرُوعِ " ، اهـ مِنْ " الْإِنْصَافِ " .
وَتَفْضِيلُ ذَكَرِهِمْ عَلَى أُنْثَاهُمُ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ : هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا .
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : أَنَّهُ سَهْمٌ اسْتُحِقَّ بِقَرَابَةِ الْأَبِ شَرْعًا ; بِدَلِيلِ أَنَّ أَوْلَادَ عَمَّاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كَالزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ ; لَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ ، وَكَوْنُهُ مُسْتَحِقًّا بِقَرَابَةِ الْأَبِ خَاصَّةً يَجْعَلُهُ كَالْمِيرَاثِ ; فَيُفَضَّلُ فِيهِ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ سَوَاءٌ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ الْمُزَنِيُّ : وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ أَظْهَرُ عِنْدِي ; لِأَنَّ تَفْضِيلَ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ ، وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ دَلِيلٌ ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَنَّهُ فَضَّلَ ذَكَرَهُمْ عَلَى أُنْثَاهُمْ فِي خُمُسِ الْخُمُسِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَالْمِيرَاثِ : أَنَّ الِابْنَ مِنْهُمْ يَأْخُذُ نَصِيبَهُ مَعَ وُجُودِ أَبِيهِ ، وَجَدِّهِ اهـ .
وَصَغِيرُهُمْ ، وَكَبِيرُهُمْ سَوَاءٌ ; وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ الْقَائِلِينَ بِنَصِيبِ الْقَرَابَةِ عَلَى أَنَّهُ يُقَسَّمُ عَلَى جَمِيعِهِمْ ; وَلَمْ يُتْرَكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ خِلَافًا لِقَوْمٍ .
وَالظَّاهِرُ شُمُولُ غَنِيِّهِمْ ، خِلَافًا لِمَنْ خَصَّصَ بِهِ فُقَرَاءَهُمْ ; لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُخَصِّصْ بِهِ فُقَرَاءَهُمْ ، بِخِلَافِ نَصِيبِ الْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ .
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُخَصَّصُ بِهِ فُقَرَاؤُهُمْ ، وَلَا شَيْءَ لِأَغْنِيَائِهِ مْ ، فَقَدْ بَانَ لَكَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ سَهْمَ اللَّهِ ، وَسَهْمَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ ; وَأَنَّهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ; وَأَنَّ سَهْمَ الْقَرَابَةِ لِبَنِي [ ص: 65 ] هَاشِمٍ ، وَبَنِي الْمُطَّلِبِ ; لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَأَنَّهُ لِجَمِيعِهِمْ : غَنِيِّهِمْ وَفَقِيرِهِمْ ، قَاتَلُوا أَمْ لَمْ يُقَاتِلُوا ، وَأَنَّ لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ الثَّلَاثَةَ الْبَاقِيَةَ لِخُصُوصِ الْفُقَرَاءِ مِنَ الْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ : سُقُوطُ سَهْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَسَهْمِ قَرَابَتِهِ بِمَوْتِهِ ، وَأَنَّ الْخُمُسَ يُقَسَّمُ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْبَاقِيَةِ : الَّتِي هِيَ الْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينُ ، وَابْنُ السَّبِيلِ .
قَالَ : وَيَبْدَأُ مِنَ الْخُمُسِ بِإِصْلَاحِ الْقَنَاطِرِ ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ ، وَالْجُنْدِ ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنِ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا .
وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَمْرَ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ مَوْكُولٌ إِلَى نَظَرِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ ; فِيمَا يَرَاهُ مَصْلَحَةً ، فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ ، وَيُعْطِي الْقَرَابَةَ بِاجْتِهَادِهِ ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِي فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا : وَبِقَوْلِ مَالِكٍ هَذَا : قَالَ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ ، وَبِهِ عَمِلُوا ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَالِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إِلَّا الْخُمُسَ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ " ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَسِّمْهُ أَخْمَاسًا ، وَلَا أَثْلَاثًا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ مَنْ ذَكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِمْ ; لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهَمِّ مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ .
قَالَ الزَّجَّاجُ : مُحْتَجًّا لِمَالِكٍ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْ نِ وَالْأَقْرَبِين َ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [ 2 \ 215 ] .
وَلِلرَّجُلِ جَائِزٌ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ يُنْفِقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ ، إِذَا رَأَى ذَلِكَ ، وَذَكَرَ النَّسَائِيُّ عَنْ عَطَاءٍ ، قَالَ : " خُمُسُ اللَّهِ ، وَخُمُسُ رَسُولِهِ وَاحِدٌ ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْمِلُ مِنْهُ ، وَيُعْطِي مِنْهُ ، وَيَضَعُهُ حَيْثُ شَاءَ " اهـ مِنَ الْقُرْطُبِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ : " وَقَالَ آخَرُونَ : إِنَّ الْخُمُسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْإِمَامُ بِالْمَصْلَحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ ، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْفَيْءِ .
وَقَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَةَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ ، وَأَكْثَرُ السَّلَفِ ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ اهـ مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ .
وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ رَأْيُ الْبُخَارِيِّ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ، يَعْنِي لِلرَّسُولِ قَسْمُ ذَلِكَ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:39 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (103)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (5)
صـ 66 إلى صـ 70
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : " إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ ، وَخَازِنٌ ، وَاللَّهُ يُعْطِي " ، ثُمَّ سَاقَ الْبُخَارِيُّ أَحَادِيثَ الْبَابِ ، فِي كَوْنِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاسِمًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ ، وَسَتَأْتِي لَهُ أَدِلَّةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذَا ، وَلَكِنَّ أَقْرَبَ الْأَقْوَالِ لِلسَّلَامَةِ هُوَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ خُمُسَ مَا غَنِمْنَا لِهَذِهِ الْمَصَارِفِ الْمَذْكُورَةِ ، ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا ، كَمَا تَرَى .
وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْبَيْتِ ; كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : بِأَنَّ الْخُمُسَ كُلَّهُ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَتَامَى ، وَالْمَسَاكِينِ : يَتَامَاهُمْ ، وَمَسَاكِينُهُم ْ ، وَقَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَكُونُ لِقَرَابَةِ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يُوَلِّيهِ الْمُسْلِمُونَ ، فَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُمَا ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ ، وَالْفِضَّةَ ، وَسَائِرَ الْأَمْتِعَةِ ; كُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ الْآيَةِ : يُخَمَّسُ ، وَيُقْسَّمُ الْبَاقِي عَلَى الْغَانِمِينَ ، كَمَا ذَكَرْنَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَمَّا أَرْضُهُمُ الْمَأْخُوذَةُ عَنْوَةً ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا ، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يُخَيَّرُ الْإِمَامُ بَيْنَ قِسْمَتِهَا ، كَمَا يُفْعَلُ بِالذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَلَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ، بَلْ هِيَ أَرْضُ عُشْرٍ مَمْلُوكَةٌ لِلْغَانِمِينَ ، وَبَيْنَ وَقْفِهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِصِيغَةٍ .
وَقِيلَ : بِغَيْرِ صِيغَةٍ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ تَرْكُهَا لِلْمُسْلِمِينَ بِخَرَاجٍ مُسْتَمِرٍّ يُؤْخَذُ مِمَّنْ تَقَرُّ بِيَدِهِ ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ : إِذَا قَسَّمَهَا الْإِمَامُ ، فَقِيلَ : تُخَمَّسُ ، وَهُوَ أَظْهَرُ ، وَقِيلَ : لَا ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ قَائِلًا : إِنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ لَمْ يُخَمَّسْ مَا قُسِّمَ مِنْهَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَرْضَ خَيْبَرَ خُمِّسَتْ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ .
وَهَذَا التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَسْمِ ، وَإِبْقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - هُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ .
وَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا تَصِيرُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّهَا غَنِيمَةٌ يَجِبُ قَسْمُهَا عَلَى الْمُجَاهِدِينَ ، بَعْدَ [ ص: 67 ] إِخْرَاجِ الْخُمُسِ ، وَسَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ حُجَجَ الْجَمِيعِ ، وَمَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ بِالدَّلِيلِ .
أَمَّا حُجَّةُ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهِيَ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ .
أَمَّا الْكِتَابُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ ، فَهُوَ يَقْتَضِي بِعُمُومِهِ شُمُولَ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا ثَبَتَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَسَّمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ ، بَعْدَ أَنْ خَمَّسَهَا ، وَبَنِي النَّضِيرِ ، وَنَصَّفَ أَرْضَ خَيْبَرَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ .
قَالَ : فَلَوْ جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ إِخْرَاجَ الْأَرْضِ ، جَازَ أَنْ يَدَّعِيَ إِخْرَاجَ غَيْرِهَا ، فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْآيَةِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ ، الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ : ظَاهِرٌ ، وَبِالسُّنَّةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِالتَّخْيِيرِ ; لِأَنَّهُ يَقُولُ : كَانَ مُخَيَّرًا فَاخْتَارَ الْقَسْمَ ، فَلَيْسَ الْقَسْمُ وَاجِبًا ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى .
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ بِالتَّخْيِيرِ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَسَمَ نِصْفَ أَرْضِ خَيْبَرَ ، وَتَرَكَ نِصْفَهَا ، وَقَسَمَ أَرْضَ قُرَيْظَةَ ، وَتَرَكَ قَسْمَ مَكَّةَ ، فَدَلَّ قَسَمُهُ تَارَةً ، وَتَرْكُهُ الْقَسْمَ أُخْرَى ، عَلَى التَّخْيِيرِ .
فَفِي " السُّنَنِ " وَ " الْمُسْتَدْرَكِ " : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا ، جَمْعُ كُلِّ سَهْمٍ مِائَةُ سَهْمٍ ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلِلْمُسْلِمِي نَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَزَلَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لِمَنْ يَنْزِلُ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ ، وَالْأُمُورِ ، وَنَوَائِبِ النَّاسِ " ، هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ .
وَفِي لَفْظٍ : " عَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا ، وَهُوَ الشَّطْرُ لِنَوَائِبِهِ ، وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ ذَلِكَ : الْوَطِيحَ ، وَالْكُتَيْبَةَ ، وَالسُّلَالِمَ ، وَتَوَابِعَهَا " .
وَفِي لَفْظٍ أَيْضًا : " عَزَلَ نِصْفَهَا لِنَوَائِبِهِ ، وَمَا يَنْزِلُ بِهِ ; الْوَطِيحَةَ ، وَالْكُتَيْبَةَ ، وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا ، وَعَزَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ : فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، الشَّقَّ ، وَالنَّطَاةَ ، وَمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا ، وَكَانَ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُحِيزَ مَعَهُمَا " .
وَرَدَّ الْمُخَالِفُ هَذَا الِاحْتِجَاجَ ، بِأَنَّ النِّصْفَ الْمَقْسُومَ مِنْ خَيْبَرَ : مَأْخُوذٌ عَنْوَةً ، وَالنِّصْفَ الَّذِي لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهَا : مَأْخُوذٌ صُلْحًا ، وَجَزَمَ بِهَذَا ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِيِّ " .
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ مُسْلِمٍ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِ أَنَسٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ : وَأَصَبْنَاهَا [ ص: 68 ] عَنْوَةً ، مَا نَصُّهُ قَالَ الْقَاضِي : قَالَ الْمَازِرِيُّ : ظَاهِرُ هَذَا أَنَّهَا كُلَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ بَعْضَهَا فُتِحَ عَنْوَةً ، وَبَعْضُهَا صُلْحًا ، قَالَ : وَقَدْ يَشْكُلُ مَا رُوِيَ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ ، أَنَّهُ قَسَمَهَا نِصْفَيْنِ : نِصْفًا لِنَوَائِبِهِ ، وَحَاجَتِهِ ، وَنِصْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، قَالَ : وَجَوَابُهُ ، مَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّهُ كَانَ حَوْلَهَا ضِيَاعٌ وَقُرًى أُجْلِيَ عَنْهَا أَهْلُهَا ، فَكَانَتْ خَالِصَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا سِوَاهَا لِلْغَانِمِينَ ، فَكَانَ قَدْرُ الَّذِي جَلَوْا عَنْهُ النِّصْفَ ، فَلِهَذَا قُسِمَ نِصْفَيْنِ . اهـ مِنْهُ بِلَفْظِهِ .
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي " سُنَنِهِ " : حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْعِجْلِيُّ ، ثَنَا يَحْيَى - يَعْنِي ابْنَ آدَمَ - ثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، وَبَعْضِ وَلَدِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ ، قَالُوا : بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ تَحَصَّنُوا ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ يَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ ، وَيُسَيِّرَهُمْ ، فَفَعَلَ ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَهْلُ فَدَكَ ، فَنَزَلُوا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً ; لِأَنَّهَا لَمْ يُوجَفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ فَارِسٍ ، ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ جُوَيْرِيَةَ ، عَنْ مَالِكٍ ، عَنِ الزُّهْرِيِّ : أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، افْتَتَحَ بَعْضَ خَيْبَرَ عَنْوَةً " .
قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَقُرِئَ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ ، وَأَنَا شَاهِدٌ ، أَخْبَرَهُمُ ابْنُ وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي مَالِكٌ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ : أَنَّ خَيْبَرَ كَانَ بَعْضُهَا عَنْوَةً ، وَبَعْضُهَا صُلْحًا ، وَالْكُتَيْبَةُ أَكْثَرُهَا عَنْوَةً ، وَفِيهَا صُلْحٌ ; قُلْتُ لِمَالِكٍ : وَمَا الْكُتَيْبَةُ ؟ قَالَ : أَرْضُ خَيْبَرَ ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ أَلْفَ عَذْقٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا : يَقْدَحُ فِي الِاحْتِجَاجِ لِتَخْيِيرِ الْإِمَامِ فِي الْقَسْمِ ، وَالْوَقْفِيَّة ُ بِقَضِيَّةِ خَيْبَرَ كَمَا تَرَى وَحُجَّةُ قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ فِي أَنَّ أَرْضَ الْعَدُوِّ الْمَفْتُوحَةَ عَنْوَةً تَكُونُ وَقْفًا لِلْمُسْلِمِينَ ، بِمُجَرَّدِ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا - أُمُورٌ :
مِنْهَا : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثَّابِتُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " مُنِعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا ، وَمُنِعَتِ الشَّامُ مُدْيَهَا وَدِينَارَهَا ، وَمُنِعَتْ مِصْرُ إِرْدَبَّهَا وَدِينَارَهَا ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ ، وَعُدْتُمْ مِنْ حَيْثُ بَدَأْتُمْ ، شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ ، لَحْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَدَمُهُ " .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ عِنْدَهُمْ بِالْحَدِيثِ : أَنَّ : " مُنِعَتِ الْعِرَاقُ . . . إِلَخْ " بِمَعْنَى [ ص: 69 ] سَتُمْنَعُ ; وَعَبَّرَ بِالْمَاضِي إِيذَانًا بِتَحَقُّقِ الْوُقُوعِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الْآيَةَ [ 18 \ 99 ] وَ [ 36 \ 51 ] وَ [ 39 ، 68 ] [ 50 \ 20 ] ، وَقَوْلِهِ : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ الْآيَةَ [ 16 \ 1 ] .
قَالُوا : فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْغَانِمِينَ ; لِأَنَّ مَا مَلَكَهُ الْغَانِمُونَ لَا يَكُونُ فِيهِ قَفِيزٌ وَلَا دِرْهَمٌ ، وَلِحَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا شَاهِدٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا ، وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا عِنْدَ الْبُخَارِيِّ .
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِيِّ " فِي كِتَابِ " فَرْضِ الْخُمُسِ " مَا نَصُّهُ : وَذَكَرَ ابْنُ حَزْمٍ : أَنَّ بَعْضَ الْمَالِكِيَّةِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : " مُنِعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا " الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ : لَا تُبَاعُ ، وَلَا تُقَسَّمُ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْعِ : مَنْعُ الْخَرَاجِ ، وَرَدُّهُ بِأَنَّ الْحَدِيثَ وَرَدَ فِي الْإِنْذَارِ بِمَا يَكُونُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ ، وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ سَيُمْنَعُونَ حُقُوقَهُمْ فِي آخِرِ الْأَمْرِ ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ .
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " لَوْلَا آخِرُ الْمُسْلِمِينَ مَا فُتِحَتْ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا بَيْنَ أَهْلِهَا ، كَمَا قَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ " .
وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ : " أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْلَا أَنْ أَتْرُكَ آخِرَ النَّاسِ بَبَّانًا لَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ مَا فُتِحَتْ عَلَيَّ قَرْيَةٌ إِلَّا قَسَمْتُهَا ، كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ ، وَلَكِنِّي أَتْرُكُهَا خِزَانَةً لَهُمْ يَقْتَسِمُونَهَ ا " .
وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا : بِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَغْنُومَةَ لَوْ كَانَتْ تُقَسَّمُ ، لَمْ يَبْقَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الْغَانِمِينَ شَيْءٌ ، وَاللَّهُ أَثْبَتَ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ شَرِكَةً بِقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا الْآيَةَ [ 59 \ 10 ] ، فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا [ 59 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ [ 59 \ 9 ] ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ ، مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ : يَقُولُونَ ، غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ يَقُولُ : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الْآيَةَ .
وَالْوَاقِعُ خِلَافُهُ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ يَسُبُّونَ الصَّحَابَةَ وَيَلْعَنُونَهُ مْ ، وَالْحَقُّ أَنَّ قَوْلَهُ : وَالَّذِينَ جَاءُوا ، مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ ، وَجُمْلَةَ يَقُولُونَ ، حَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ فِي " آلِ عِمْرَانَ " ، وَهِيَ قَيْدٌ لِعَامِلِهَا وَصْفٌ لِصَاحِبِهَا .
[ ص: 70 ] قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذِهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الْمَالِكِيَّةُ ، لَا تَنْهَضُ فِيمَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ لَا يَتَعَيَّنُ وَجْهُ الدَّلَالَةِ فِيهَا ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا ، فَاخْتَارَ إِبْقَاءَهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، كَمَا قَدَّمْنَا .
وَالِاسْتِدْلَا لُ بِآيَةِ الْحَشْرِ الْمَذْكُورَةِ وَاضِحُ السُّقُوطِ ; لِأَنَّهَا فِي الْفَيْءِ ، وَالْكَلَامُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مَعْلُومٌ كَمَا قَدَّمْنَا .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا أَنَّ الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ عُمَرَ فِي الْأَثَرِ الْمَارِّ آنِفًا ، وَبِهِ تَنْتَظِمُ الْأَدِلَّةُ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا تَعَارُضٌ ، وَالْجَمْعُ وَاجِبٌ مَتَى مَا أَمْكَنَ .
وَغَايَةُ مَا فِي الْبَابِ : أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ دَلَّتْ عَلَى تَخْصِيصٍ وَاقِعٍ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ .
وَتَخْصِيصُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ كَثِيرٌ .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْقَوْلَ بِالتَّخْيِيرِ ، مَا نَصُّهُ : " قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَكَأَنَّ هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ ، وَوَسَطٌ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ ، وَهُوَ الَّذِي فَهِمَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَطْعًا .
وَلِذَلِكَ قَالَ : " لَوْلَا آخِرُ النَّاسِ " ، فَلَمْ يُخْبِرْ بِنَسْخِ فِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; وَلَا بِتَخْصِيصِهِ بِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّ مَا وَقَعَ فِيهِ الْقَسْمُ مِنْ خَيْبَرَ مَأْخُوذٌ عَنْوَةً ، وَمَا لَمْ يُقَسَّمْ مِنْهَا مَأْخُوذٌ صُلْحًا ، وَالنَّضِيرُ فَيْءٌ ، وَقُرَيْظَةُ قُسِّمَتْ .
وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّهَا فَيْءٌ أَيْضًا ; لِنُزُولِهِمْ عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَبْلَ أَنْ يُحَكِّمَ فِيهِمْ سَعْدًا ، لَكَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ ، وَلَكِنْ يَرُدُّهُ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمَّسَهَا ، كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَغَيْرُهُ .
وَمَكَّةُ مَأْخُوذَةٌ صُلْحًا ; بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " .
هَذَا ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، وَلِذَلِكَ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:40 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (104)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (6)
صـ 71 إلى صـ 75
مِنْهَا : أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَهَا زَمَنَ الْفَتْحِ ، وَلَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَصَالَحَهُ عَلَى الْبَلَدِ ، وَإِنَّمَا جَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دَخَلَ دَارَهُ ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ ، [ ص: 71 ] أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، أَوْ أَلْقَى سِلَاحَهُ .
وَلَوْ كَانَتْ قَدْ فُتِحَتْ صُلْحًا لَمْ يَقُلْ : " مَنْ دَخَلَ دَارَهُ ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ ، أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ - فَهُوَ آمِنٌ " ، فَإِنَّ الصُّلْحَ يَقْتَضِي الْأَمَانَ الْعَامَّ .
وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِين َ ، وَإِنَّهُ أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " .
وَفِي لَفْظِ : " إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " .
وَفِي لَفْظٍ : " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُولُوا : إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ " ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، " أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ جَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى ، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي ، ثُمَّ قَالَ : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ " ، فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ ، فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، هَلْ تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : " انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصِدُوهُمْ حَصْدًا " ، وَأَخْفَى بِيَدِهِ ، وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ ، وَقَالَ : " مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا " ، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا ، قَالَ : فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَامُوهُ ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " .
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .
وَذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي تَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا ، فَبَيَّنُوا أَنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ اثْنَا عَشَرَ ، وَقِيلَ : قُتِلَ مِنْ قُرَيْشٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَمِنْ هُذَيْلٍ أَرْبَعَةٌ ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ ، وَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْمُيَلَاءِ الْجُهَنِيُّ ، وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ نِسْبَةً إِلَى مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ ، أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ ، وَقَالَ كُرْزٌ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ فِي دِفَاعِهِ عَنْ خُنَيْسٍ : [ الرَّجَزُ ]
[ ص: 72 ]
قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ مِنْ بَنِي فِهْرِ
نَقِيَّةُ اللَّوْنِ نَقِيَّةُ الصَّدْرِ
لَأَضْرِبَنَّ الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخْرِ
وَفِيهِ نَقْلُ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ ، وَرَجَزُ حَمَاسِ بْنِ قَيْسٍ الْمَشْهُورِ يَدُلُّ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَذَكَرَهُ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]
وَزَعَمَ ابْنُ قَيْسٍ أَنْ سَيَحْفِدَا
نِسَاءَهُمْ خِلْتَهُ وَأَنْشَدَا
إِنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَالِيَ عِلَّهْ
هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ
وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ
وَشَهِدَ الْمَأْزَقَ فِيهِ حُطَمَا
مُرَبَّبٌ مِنْ قَوْمِهِ فَانْهَزَمَا
وَجَاءَ فَاسْتَغْلَقَ بَابَهَا الْبَتُولْ
فَاسْتَفْهَمَتْ هُ أَيْنَمَا كُنْتَ تَقُولْ
فَقَالَ وَالْفَزَعُ زَعْفَرَ دَمَهْ
إِنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ
إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
وَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُؤْتَمَهْ
وَاسْتَقْبَلَتْ نَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ
لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ
يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ
ضَرْبًا فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ
لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وَهَذَا الرَّجَزُ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَمِصْدَاقُهُ فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْهَا أَيْضًا : أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ ، بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَجَارَتْ رَجُلًا ، فَأَرَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ " ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي ، فَأَدْخَلْتُهُم َا بَيْتًا ، وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا بَابًا ، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّي عَلَيَّ ، فَتَفَلْتُ عَلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ " فَذَكَرْتُ حَدِيثَ الْأَمَانِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ " ، وَذَلِكَ ضُحًى بِبَطْنِ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَقِصَّتُهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ .
فَإِجَارَتُهَا لَهُ ، وَإِرَادَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ ، وَإِمْضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجَارَتَهَا - صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمَرَ بِقَتْلِ مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ ، وَابْنِ خَطَلٍ ، وَجَارِيَتَيْنِ .
وَلَوْ كَانَتْ فُتِحَتْ صُلْحًا ، لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَكَانَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ [ ص: 73 ] عَقْدِ الصُّلْحِ .
وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ مَنْ ذَكَرَ ، ثَابِتٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . \ 5 وَفِي السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، قَالَ : أَمِّنُوا النَّاسَ إِلَّا امْرَأَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ ; اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ " ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ .
فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ - فُتِحَتْ عَنْوَةً .
وَكَوْنُهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً : يَقْدَحُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ قَسْمِ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ عَنْوَةً .
فَالَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا أَيُّ تَعَارُضٍ : هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ قَسْمِ الْأَرْضِ ، وَإِبْقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْحُجَجِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي رِبَاعِ مَكَّةَ : هَلْ يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا ، وَبَيْعُهَا ، وَإِيجَارُهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْأَوْزَاعِي ُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَالْحَسَنُ ، وَإِسْحَاقُ . وَغَيْرُهُمْ .
وَكَرِهَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَجَازَ جَمِيعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ .
وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .
وَتَوَسَّطَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : تُمَلَّكُ ، وَتُوَرَّثُ ، وَلَا تُؤَجَّرُ ، وَلَا تُبَاعُ ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ : تَنَاظَرَ فِيهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَاضِرٌ ، فَأَسْكَتَ الشَّافِعِيُّ إِسْحَاقَ بِالْأَدِلَّةِ ، بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ : مَا أَحْوَجَنِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُكَ فِي مَوْضِعِكَ ، فَكُنْتُ آمُرُ بِفَرْكِ أُذُنَيْهِ ، أَنَا أَقُولُ لَكَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْتَ تَقُولُ : قَالَ طَاوُسٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَهَلْ لِأَحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ ؟ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ ، وَمَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ مِنْهَا .
[ ص: 74 ] فَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأُمُورٍ :
الْأَوَّلُ : حَدِيثُ أُسَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ : أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ ؟ " ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " مِنْ مَنْزِلٍ " ، وَفِي بَعْضِهَا " مَنْزِلًا " ، أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " فِي بَابِ " تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ ، وَشِرَائِهَا " إِلَخْ ، وَفِي كِتَابِ " الْمَغَازِي " فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فِي بَابِ : " أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ " ، وَفِي كِتَابِ " الْجِهَادِ " فِي بَابِ : " إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرْضُونَ فَهِيَ لَهُمْ " ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " فِي بَابِ : " النُّزُولِ بِمَكَّةَ لِلْحَاجِّ وَتَوْرِيثِ دُورِهَا " ، بِثَلَاثِ رِوَايَاتٍ هِيَ مِثْلُ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ .
فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ " ، صَرِيحٌ فِي إِمْضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تِلْكَ الرِّبَاعَ .
وَلَوْ كَانَ بَيْعُهَا ، وَتَمَلُّكُهَا لَا يَصِحُّ لَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَضَافَ لِلْمُهَاجِرِين َ مِنْ مَكَّةَ دِيَارَهُمْ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُمْ فِي قَوْلِهِ : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [ 59 \ 8 ] .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَكُونُ الْإِضَافَةُ لِلْيَدِ وَالسُّكْنَى ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [ 33 \ 33 ] .
فَالْجَوَابُ : أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ حَكَمَ بِمِلْكِهَا لِزَيْدٍ ، وَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ السُّكْنَى وَالْيَدَ ، لَمْ يُقْبَلْ .
وَنَظِيرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : مَا احْتُجَّ بِهِ أَيْضًا مِنَ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " الْحَدِيثَ . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " .
الثَّالِثُ : الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ : " أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ ، اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، دَارَ السِّجْنِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بِأَرْبَعِمِائَ ةٍ " ، وَفِي رِوَايَةٍ : " بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ " ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ .
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَالْبَيْهَقِيّ ُ : أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بَاعَ دَارَ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِائَةِ أَلْفٍ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : يَا أَبَا خَالِدٍ بِعْتَ مَأْثَرَةَ [ ص: 75 ] قُرَيْشٍ وَكَرِيمَتَهَا ، فَقَالَ : هَيْهَاتَ ذَهَبَتِ الْمَكَارِمُ فَلَا مَكْرُمَةَ الْيَوْمَ إِلَّا الْإِسْلَامُ ، فَقَالَ : اشْهَدُوا أَنَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ يَعْنِي الدَّرَاهِمَ الَّتِي بَاعَهَا بِهَا .
وَعَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي قُصَيًّا : [ الرَّجَزُ ]
وَاتَّخَذَ النَّدْوَةَ لَا يُخْتَرَعُ
فِي غَيْرِهَا أَمْرٌ وَلَا تُدَّرَعُ
جَارِيَةٌ أَوْ يُعْذَرُ الْغُلَامُ
إِلَّا بِأَمْرِهِ بِهَا يُرَامُ
وَبَاعَهَا بَعْدُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامْ
وَأَنَّبُوهُ وَتَصَدَّقَ الْهُمَامْ
سَيِّدُ نَادِيهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ
إِذِ الْعُلَى بِالدِّينِ لَا بِالدِّمَنِ
الرَّابِعُ : أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، فَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ أَهْلِهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ضَعْفَ هَذَا الْوَجْهِ .
الْخَامِسُ : الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ أَرْضٌ حَيَّةٌ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً ، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَرْضِ .
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : بِأَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ لَا تُمَلَّكُ وَلَا تُبَاعُ بِأَدِلَّةٍ :
مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي [ 22 \ 25 ] ، قَالُوا : وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ : جَمِيعُ الْحَرَمِ كُلِّهِ لِكَثْرَةِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ فِي النُّصُوصِ ، كَقَوْلِهِ : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [ 17 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [ 9 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ 5 \ 95 ] ، مَعَ أَنَّ الْمَنْحَرَ الْأَكْبَرَ مِنَ الْحَرَمِ " مِنًى " .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [ 27 \ 91 ] قَالُوا : وَالْمُحَرَّمُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .
وَمِنْهَا : مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَكَّةُ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا ، وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا " .
وَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَكَّةُ حَرَامٌ ، وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا ، وَحَرَامٌ أَجْرُ بُيُوتِهَا " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-01-22, 12:41 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (105)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (7)
صـ 76 إلى صـ 80
وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَبْنِي لَكَ بَيْتًا أَوْ بِنَاءً يُظِلُّكَ مِنَ الشَّمْسِ ؟ قَالَ : " لَا ، إِنَّمَا هُوَ مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ " ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ .
وَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْكِنَانِيِّ ، قَالَ : كَانَتْ بُيُوتُ مَكَّةَ تُدْعَى السَّوَائِبَ ، لَمْ تُبَعْ رِبَاعُهَا فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا أَبِي بَكْرٍ ، وَلَا عُمَرَ ، مَنِ احْتَاجَ سَكَنَ ، وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ .
وَمِنْهَا : مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ " .
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " فِي الْجَنَائِزِ ، فِي " بَابِ الدَّفْنِ " فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، رَوَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ الدَّارِمِيُّ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيّ ُ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَغَيْرُهُمْ ، بِأَسَانِيدَ جَيِّدَةٍ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَذَكَرَ فِي الْبُيُوعِ ، فِي الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ دُورِ مَكَّةَ ، وَغَيْرِهَا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ صَحِيحٌ .
وَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ، قَالَ : كَانَ عَطَاءٌ يَنْهَى عَنِ الْكِرَاءِ فِي الْحَرَمِ ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، كَانَ يَنْهَى عَنْ تَبْوِيبِ دُورِ مَكَّةَ لِأَنْ يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِهَا ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَوَّبَ دَارَهُ ، سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ : أَنْظِرْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي كُنْتُ امْرَءًا تَاجِرًا ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ بَابَيْنِ يَحْبِسَانِ لِي ظَهْرِي ، فَقَالَ : ذَلِكَ لَكَ إِذَنْ .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ مَنْصُورٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ، قَالَ : يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا ، لِيَنْزِلِ الْبَادِي حَيْثُ يَشَاءُ . اهـ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ : إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ ، لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، كَمَا قَدَّمْنَا ، وَلِلْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا غَيْرُهُ ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ مَكَّةَ بَقِيَتْ لَهُمْ دِيَارُهُمْ بَعْدَ الْفَتْحِ يَفْعَلُونَ بِهَا مَا شَاءُوا مِنْ بَيْعٍ ، وَإِجَارَةٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَأَجَابَ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ عَنْ أَدِلَّةِ الْمُخَالِفِينَ ; فَأَجَابُوا عَنْ قَوْلِهِ : [ ص: 77 ] سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي [ 22 \ 25 ] ، بِأَنَّ الْمُرَادَ خُصُوصُ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ ، بِدَلِيلِ التَّصْرِيحِ بِنَفْسِ الْمَسْجِدِ فِي قَوْلِهِ : وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْآيَةَ [ 22 \ 25 ] ، وَعَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [ 27 \ 91 ] ، بِأَنَّ الْمُرَادَ : حَرَّمَ صَيْدَهَا ، وَشَجَرَهَا ، وَخَلَاهَا ، وَالْقِتَالَ فِيهَا ، كَمَا بَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مَعَ كَثْرَتِهَا النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ دُورِهَا ، وَعَنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ أَبِيهِ : بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ ، قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : هُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْمُحَدِّثِينَ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِ إِسْمَاعِيلَ ، وَأَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ . اهـ .
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى : إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ضَعِيفٌ ، وَأَبُوهُ غَيْرُ قَوِيٍّ ، وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ فَرُوِيَ عَنْهُ هَكَذَا ، وَرُوِيَ عَنْهُ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا بِبَعْضِ مَعْنَاهُ ، وَعَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَوَاتِ مِنَ الْحَرَمِ .
قَالَ النَّوَوِيُّ : وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ .
وَعَنْ حَدِيثِ أَبِي حَنِيفَةَ : بِأَنَّهُ ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : تَضْعِيفُ إِسْنَادِهِ بِابْنِ أَبِي زِيَادٍ الْمَذْكُورِ فِيهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الصَّوَابَ فِيهِ عِنْدَ الْحُفَّاظِ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَقَالُوا : رَفْعُهُ وَهْمٌ ، قَالَهُ : الدَّارَقُطْنِي ُّ ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيّ ُ .
وَعَنْ حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ بِجَوَابَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ ، كَمَا قَالَهُ الْبَيْهَقِيُّ .
الثَّانِي : مَا قَالَ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ ، وَغَيْرُهُمْ : أَنَّ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ : الْإِخْبَارُ عَنْ عَادَتِهِمُ الْكَرِيمَةِ فِي إِسْكَانِهِمْ مَا اسْتَغْنَوْا عَنْهُ مِنْ بُيُوتِهِمْ بِالْإِعَارَةِ تَبَرُّعًا ، وَجُودًا .
وَقَدْ أَخْبَرَ مَنْ كَانَ أَعْلَمَ بِشَأْنِ مَكَّةَ مِنْهُ عَنْ جَرَيَانِ الْإِرْثِ ، وَالْبَيْعِ فِيهَا .
وَعَنْ حَدِيثِ " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ " ، بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَوَاتِهَا ، وَمَوَاضِعِ نُزُولِ الْحَجِيجِ مِنْهَا ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ اهـ .
وَاعْلَمْ أَنَّ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لِحَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، وَحَدِيثِ [ ص: 78 ] عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ تَعَقَّبَهُ عَلَيْهِ مُحَشِّيهِ صَاحِبُ " الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ " ، بِمَا نَصُّهُ : " ذَكَرَ فِيهِ حَدِيثًا فِي سَنَدِهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، فَضَعَّفَ إِسْمَاعِيلَ ، وَقَالَ عَنْ أَبِيهِ غَيْرُ قَوِيٍّ ، ثُمَّ أَسْنَدَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، ثُمَّ قَالَ : رَفْعُهُ وَهْمٌ ، وَالصَّحِيحُ مَوْقُوفٌ ، قُلْتُ : أَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْبَيْهَقِيُّ ، ثُمَّ صَحَّحَ الْأَوَّلَ ، وَجَعَلَ الثَّانِيَ شَاهِدًا عَلَيْهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ فِي آخِرِهِ حَدِيثًا عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا مُنْقَطِعٌ .
قُلْتُ : هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِي ُّ وَغَيْرُهُ ، وَعَلْقَمَةُ هَذَا صَحَابِيٌّ ، كَذَا ذَكَرَهُ عُلَمَاءُ هَذَا الشَّأْنِ ، وَإِذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ ، كَانَ مَرْفُوعًا عَلَى مَا عُرِفَ بِهِ ، وَفِيهِ تَصْرِيحُ عُثْمَانَ بِالسَّمَاعِ عَنْ عَلْقَمَةَ ، فَمِنْ أَيْنَ الِانْقِطَاعُ ؟ اهـ كَلَامُ صَاحِبِ " الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ " .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَخْفَى سُقُوطُ اعْتِرَاضِ ابْنِ التُّرْكُمَانِي ِّ هَذَا عَلَى الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ ، فِي تَضْعِيفِهِ الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ : فَلِأَنَّ تَصْحِيحَ الْحَاكِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِحَدِيثٍ ضَعِيفٍ لَا يُصَيِّرُهُ صَحِيحًا .
وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ ضَعِيفٍ صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَتَسَاهُلُهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي التَّصْحِيحِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرِ بْنِ جَابِرٍ الْبَجَلِيُّ قَدْ يَكُونُ لِلْمُنَاقَشَةِ فِي تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ بِهِ وَجْهٌ ; لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ بِالرِّجَالِ وَثَّقَهُ وَهُوَ مِنْ رِجَالِ مُسْلِمٍ .
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ ، فِي " التَّقْرِيبِ " : " صَدُوقٌ لَيِّنُ الْحِفْظِ " ، أَمَّا ابْنُهُ إِسْمَاعِيلُ فَلَمْ يُخْتَلَفْ فِي أَنَّهُ ضَعِيفٌ ، وَتَضْعِيفُ الْحَدِيثِ بِهِ ظَاهِرٌ لَا مَطْعَنَ فِيهِ .
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : ضَعِيفٌ ، فَتَصْحِيحُ هَذَا الْحَدِيثِ لَا وَجْهَ لَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي اعْتِرَاضِهِ تَضْعِيفَ الْبَيْهَقِيِّ لِحَدِيثِ الثَّانِي ، فَمِنْ أَيْنَ الِانْقِطَاعُ - فَجَوَابُهُ : أَنَّ الِانْقِطَاعَ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ نَضْلَةَ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ ، وَزَعْمُ الشَّيْخِ ابْنِ التُّرْكُمَانِي ِّ ، أَنَّهُ صَحَابِيٌّ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : عَلْقَمَةُ بْنُ نَضْلَةَ - بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُعْجَمَةِ - الْمَكِّيُّ كِنَانِيٌّ .
وَقِيلَ : كِنْدِيٌّ تَابِعِيٌّ صَغِيرٌ مَقْبُولٌ ، أَخْطَأَ مَنْ عَدَّهُ فِي الصَّحَابَةِ ، وَإِذَنْ فَوَجْهُ انْقِطَاعِهِ ظَاهِرٌ ، فَظَهَرَ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْحَافِظِ الْبَيْهَقِيِّ ، وَالنَّوَوِيِّ وَغَيْرِهِمَا فِي تَضْعِيفِ [ ص: 79 ] الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ تَوَرَّعَ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِ مَكَّةَ ، وَإِيجَارِهَا خُرُوجًا مِنَ الْخِلَافِ ، أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ ; لِأَنَّ مَنِ اتَّقَى الشُّبَهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ .
تَنْبِيهٌ
أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَوَاضِعَ النُّسُكِ مِنَ الْحَرَمِ كَمَوْضِعِ السَّعْيِ ، وَمَوْضِعِ رَمْيِ الْجِمَارِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَسَاجِدِ ، وَالْمُسْلِمُون َ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِيهَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْحَجِيجُ مِنْ مِنًى ، وَمُزْدَلِفَةَ كَذَلِكَ ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَيِّقَهُمَا بِالْبِنَاءِ الْمَمْلُوكِ حَتَّى تَضِيقَا بِالْحَجِيجِ ، وَيَبْقَى بَعْضُهُمْ لَمْ يَجِدْ مَنْزِلًا ; لِأَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ ، وَبِمِنًى لَيَالِيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ .
فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُضَيِّقَ مَحَلِّ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، حَتَّى لَا يَبْقَى مَا يَسَعُ الْحَجِيجَ كُلَّهُ ، وَيَدُلُّ لَهُ حَدِيثُ : " مِنًى مُنَاخٌ لِمَنْ سَبَقَ " كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ فِيمَا لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ ، وَسَنَذْكُرُ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ، وَأَدِلَّتَهُمْ ، وَمَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ .
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، كَمَا أَشَرْنَا لَهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَوَعَدْنَا بِإِيضَاحِهِ هُنَا ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إِلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُنَفِّلَ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ; لِأَنَّ الْأَخْمَاسَ الْأَرْبَعَةَ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ الْمُوجِفِينَ عَلَيْهَا بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، هَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِهِ ، وَعَنْهُ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهَا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ .
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ أَخْمَاسَ الْخُمُسِ الْأَرْبَعَةِ ، غَيْرُ خُمُسِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَصَارِفَ مُعَيَّنَةٍ فِي قَوْلِهِ : وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، وَأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ الْبَاقِيَةِ مِلْكٌ لِلْغَانِمِينَ .
وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ عَنِ الشَّافِعِيِّ : أَنَّ الْإِمَامَ لَا يُنَفِّلُ إِلَّا مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ ، وَدَلِيلُهُ : مَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا نَفْلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي " : وَلَعَلَّهُ يَحْتَجُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [ ص: 80 ]
وَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ ، وَالثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ . أَنَّ لِلْإِمَامِ قَبْلَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنْ يُنَفِّلَ الرُّبُعَ ، أَوِ الثُّلُثَ ، أَوْ أَكْثَرَ ، أَوْ أَقَلَّ بَعْدَ الْخُمُسِ ، وَبَعْدَ إِحْرَازِ الْغَنِيمَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّنْفِيلُ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا جُمْلَةَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ ، وَنَحْنُ الْآنُ نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ .
اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّ التَّنْفِيلَ الَّذِي اقْتَضَى الدَّلِيلُ جَوَازَهُ أَقْسَامٌ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشِ : إِنْ غَنِمْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ شَيْئًا ، فَلَكُمْ مِنْهُ كَذَا بَعْدَ إِخْرَاجِ خُمُسِهِ ، فَهَذَا جَائِزٌ ، وَلَهُ أَنْ يُنَفِّلَهُمْ فِي حَالَةِ إِقْبَالِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْكُفَّارِ الرُّبُعَ ، وَفِي حَالَةِ رُجُوعِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَوْطَانِهِمُ الثُّلُثَ بَعْدَ إِخْرَاجِ الْخُمُسِ .
وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ يَقُولُونَ : إِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ فِي إِفْسَادِ نِيَّاتِ الْمُجَاهِدِينَ ; لِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُقَاتِلِينَ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ الَّذِي وَعَدَهُمُ الْإِمَامُ تَنْفِيلَهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازٍ ذَلِكَ : مَا رَوَاهُ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ مَالِكٍ الْقُرَشِيُّ الْفِهْرِيُّ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَّلَ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي بَدْأَتِهِ ، وَنَفَّلَ الثُّلُثَ بَعْدَ الْخُمُسِ فِي رَجْعَتِهِ " ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ ، وَالْحَاكِمُ ، وَابْنُ الْجَارُودِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي حَبِيبٍ الْمَذْكُورِ : أَنَّهُ صَحَابِيٌّ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " : مُخْتَلَفٌ فِي صُحْبَتِهِ ، وَالرَّاجِحُ ثُبُوتُهَا لَكِنَّهُ كَانَ صَغِيرًا ، وَلَهُ ذِكْرٌ فِي " الصَّحِيحِ " ، فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 10:50 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (106)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (8)
صـ 81 إلى صـ 85
وقد روى عنه أبو داود هذا الحديث من ثلاثة أوجه :
منها : عن مكحول بن عبد الله الشامي ، قال : كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل ، فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه ، فيما أرى ، ثم أتيت الحجاز ، فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى ، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى ، ثم أتيت الشام فغربلتها ، كل ذلك : أسأل عن النفل فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشيء ، حتى لقيت شيخا يقال له : زياد بن [ ص: 81 ] جارية التميمي ، فقلت له : هل سمعت في النفل شيئا ؟ قال : نعم ، سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة ، والثلث في الرجعة اهـ .
وقد علمت أن الصحيح أنه صحابي ، وقد صرح في هذه الرواية بأنه شهد النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع إلى آخر الحديث .
ومما يدل على ذلك أيضا : ما رواه عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع ، وفي الرجعة الثلث " أخرجه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وصححه ابن حبان .
وفي رواية عند الإمام أحمد : كان إذا غاب في أرض العدو نفل الربع ، وإذا أقبل راجعا وكل الناس نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ، ويقول : ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم .
وهذه النصوص تدل على ثبوت التنفيل من غير الخمس .
ويدل لذلك أيضا : ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن معن بن يزيد ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا نفل إلا بعد الخمس " ، قال الشوكاني : في " نيل الأوطار " : هذا الحديث صححه الطحاوي اهـ .
والفرق بين البدأة والرجعة : أن المسلمين في البدأة : متوجهون إلى بلاد العدو ، والعدو في غفلة ، وأما في الرجعة : فالمسلمون راجعون إلى أوطانهم من أرض العدو ، والعدو في حذر ويقظة ، وبين الأمرين فرق ظاهر .
والأحاديث المذكورة تدل على أن السرية من العسكر إذا خرجت ، فغنمت ، أن سائر الجيش شركاؤهم ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، كما قاله القرطبي .
الثاني : من الأقسام التي اقتضى الدليل جوازها : تنفيل بعض الجيش ، لشدة بأسه ، وعنائه ، وتحمله ما لم يتحمله غيره ، والدليل على ذلك ما ثبت في " صحيح مسلم " ، ورواه الإمام أحمد ، وأبو داود عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ، في قصة إغارة عبد الرحمن الفزاري ، على سرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستنقاذه منه ، قال سلمة : فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير فرساننا اليوم ، أبو قتادة ، وخير رجالتنا سلمة " ، قال : ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين : سهم الفارس ، وسهم الراجل فجمعهما لي [ ص: 82 ] جميعا ، الحديث . هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث طويل .
وقد قدمنا أن هذه غزوة " ذي قرد " في سورة " النساء " ، ويدل لهذا أيضا : حديث سعد بن أبي وقاص المتقدم في أول السورة ، فإن فيه : أن سعدا رضي الله عنه قال : لعله يعطي هذا السيف لرجل لم يبل بلائي ، ثم أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لسعد رضي الله عنه لحسن بلائه وقتله صاحب السيف كما تقدم .
الثالث : من أقسام التنفيل التي اقتضى الدليل جوازها : أن يقول الإمام : " من قتل قتيلا فله سلبه " .
ومن الأدلة على ذلك : ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة ، قال : فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين ، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ، ثم أدركه الموت فأرسلني ، فلحقت عمر بن الخطاب ، فقال : ما للناس ؟ فقلت : أمر الله ، ثم إن الناس رجعوا ، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه " ، قال : فقمت ، ثم قلت : من يشهد لي ؟ ثم جلست ، ثم قال مثل ذلك ، قال : فقمت ، فقلت : من يشهد لي ؟ ، ثم جلست ، ثم قال ذلك الثالثة ، فقمت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما لك يا أبا قتادة ؟ " فقصصت عليه القصة ، فقال رجل من القوم ، صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي ; فأرضه من حقه ، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لا ها الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله ، فيعطيك سلبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق فأعطه إياه " ، فأعطاني ، قال : فبعت الدرع فابتعت بها مخرفا في بني سلمة ، فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام . والأحاديث بذلك كثيرة .
وروى أبو داود ، وأحمد ، عن أنس : أن أبا طلحة يوم حنين قتل عشرين رجلا ، وأخذ أسلابهم ، وفي رواية عنه عند أحمد ، أحدا وعشرين ، وذكر أصحاب المغازي : أن أبا طلحة قال في قتله من ذكر : [ الرجز ]
أنا أبو طلحة واسمي زيد
وكل يوم في سلاحي صيد
والحق أنه لا يشترط في ذلك أن يكون في مبارزة ، ولا أن يكون الكافر المقتول [ ص: 83 ] مقبلا .
أما الدليل على عدم اشتراط المبارزة : فحديث أبي قتادة هذا المتفق عليه .
وأما الدليل على عدم اشتراط كونه قتله مقبلا إليه : فحديث سلمة بن الأكوع ، قال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن ، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه ، ثم انتزع طلقا من حقوه فقيد به الجمل ، ثم تقدم يتغدى مع القوم ، وجعل ينظر ، وفينا ضعفة ورقة في الظهر ، وبعضنا مشاة إذ خرج يشتد فأتى جمله ، فأطلق قيده ثم أناخه ، وقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل ، فاتبعه رجل على ناقة ورقاء ، قال سلمة : وخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة ، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل ، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته ، فلما وضع ركبته في الأرض اخترطت سيفي ، فضربت به رأس الرجل فندر ، ثم جئت بالجمل أقوده وعليه رحله وسلاحه ، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس معه ، فقال : " من قتل الرجل ؟ " ، قالوا : ابن الأكوع ، قال : " له سلبه أجمع " ، متفق عليه ، واللفظ المذكور لمسلم في " كتاب الجهاد والسير " في باب : " استحقاق القاتل سلب القتيل " ، وأخرجه البخاري بمعناه " في كتاب الجهاد " في باب : " الحربي إذا دخل دار الإسلام بغير أمان " وهو صريح في عدم اشتراط المبارزة ، وعدم اشتراط قتله مقبلا لا مدبرا كما ترى .
ولا يستحق القاتل سلب المقتول ، إلا أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتالهم .
فأما إن قتل امرأة ، أو صبيا ، أو شيخا فانيا ، أو ضعيفا مهينا ، أو مثخنا بالجراح لم تبق فيه منفعة ، فليس له سلبه .
ولا خلاف بين العلماء : في أن من قتل صبيا ، أو امرأة ، أو شيخا فانيا ، لا يستحق سلبهم ، إلا قولا ضعيفا جدا يروى عن أبي ثور ، وابن المنذر : في استحقاق سلب المرأة .
والدليل على أن من قتل مثخنا بالجراح لا يستحق سلبه ، أن عبد الله بن مسعود ، هو الذي ذفف على أبي جهل يوم بدر ، وحز رأسه ، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح الذي أثبته ، ولم يعط ابن مسعود شيئا .
وهذا هو الحق الذي جاء به الحديث المتفق عليه ، فلا يعارض بما رواه الإمام [ ص: 84 ] أحمد ، وأبو داود عن ابن مسعود : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفله سيف أبي جهل يوم بدر " ; لأنه من رواية ابنه أبي عبيدة ، ولم يسمع منه ، وكذلك المقدم للقتل صبرا لا يستحق قاتله سلبه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر بقتل النضر بن الحارث العبدري ، وعقبة بن أبي معيط الأموي صبرا يوم بدر ولم يعط من قتلهما شيئا من سلبهما .
واختلفوا فيمن أسر أسيرا : هل يستحق سلبه إلحاقا للأسر بالقتل أو لا ؟ والظاهر أنه لا يستحقه ، لعدم الدليل ، فيجب استصحاب عموم واعلموا أنما غنمتم الآية ، حتى يرد مخصص من كتاب أو سنة صحيحة ، وقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، أسارى بدر ، وقتل بعضهم صبرا كما ذكرنا ، ولم يعط أحدا من الذين أسروهم شيئا من أسلابهم ، ولا من فدائهم بل جعل فداءهم غنيمة .
أما إذا قاتلت المرأة أو الصبي المسلمين : فالظاهر أن لمن قتل أحدهما سلبه ; لأنه حينئذ ممن يجوز قتله ، فيدخل في عموم " من قتل قتيلا " الحديث ، وبهذا جزم غير واحد ، والعلم عند الله تعالى .
واعلم أن العلماء اختلفوا في استحقاق القاتل السلب ، هل يشترط فيه قول الإمام : " من قتل قتيلا فله سلبه " أو يستحقه مطلقا ، قال الإمام ذلك أو لم يقله ؟
وممن قال بهذا الأخير : الإمام أحمد ، والشافعي ، والأوزاعي ، والليث ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، والطبري ، وابن المنذر .
وممن قال بالأول : الذي هو أنه لا يستحقه إلا بقول الإمام : " من قتل قتيلا " إلخ ، الإمام أبو حنيفة ، ومالك ، والثوري .
وقد قدمنا عن مالك وأصحابه : أن قول الإمام ذلك : لا يجوز قبل القتال ، لئلا يؤدي إلى فساد النية ، ولكن بعد وقوع الواقع ، يقول الإمام : من قتل قتيلا . . . إلخ .
واحتج من قال : باستحقاق القاتل سلب المقتول مطلقا بعموم الأدلة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن من قتل قتيلا فله سلبه ، ولم يخصص بشيء ، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، كما علم في الأصول .
واحتج مالك ، وأبو حنيفة ، ومن وافقهما بأدلة :
منها : قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سلمة بن الأكوع ، المتفق عليه السابق ذكره ، له سلبه [ ص: 85 ] أجمع ، قالوا : فلو كان السلب مستحقا له بمجرد قتله لما احتاج إلى تكرير هذا القول .
ومنها : حديث عبد الرحمن بن عوف ، المتفق عليه في قصة قتل معاذ بن عمرو بن الجموح ، ومعاذ بن عفراء الأنصاريين لأبي جهل يوم بدر ، فإن فيه : " ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه ، فقال : " أيكما قتله ؟ ! " ، فقال كل واحد منهما : أنا قتلته ، فقال : " هل مسحتما سيفيكما ؟ " قالا : لا ، فنظر في السيفين ، فقال : " كلاكما قتله " ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح اهـ .
قالوا : فتصريحه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ، المتفق عليه ، بأن كليهما قتله ، ثم تخصيص أحدهما بسلبه ، دون الآخر ، صريح في أن القاتل لا يستحق السلب ، إلا بقول الإمام : إنه له ، إذ لو كان استحقاقه له بمجرد القتل لما كان لمنع معاذ بن عفراء وجه ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأنه قتله مع معاذ بن عمرو ، ولجعله بينهما .
ومنها : ما رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، عن عوف بن مالك قال : قتل رجل من حمير ، رجلا من العدو ، فأراد سلبه ، فمنعه خالد بن الوليد ، وكان واليا عليهم ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عوف بن مالك فأخبره . فقال لخالد : " ما منعك أن تعطيه سلبه ؟ " ، قال : استكثرته يا رسول الله ، قال : " ادفعه إليه " ، فمر خالد بعوف فجر بردائه ، ثم قال : هل أنجزت ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فاستغضب ، فقال : لا تعطه يا خالد ، لا تعطه يا خالد ، هل أنتم تاركون لي أمرائي ، إنما مثلكم ومثلهم ، كمثل رجل استرعى إبلا ، أو غنما فرعاها ، ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه ، فشربت صفوه ، وتركت كدره ، فصفوه لكم وكدره عليهم .
وفي رواية عند مسلم أيضا : عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : خرجت مع من خرج مع زيد بن حارثة ، في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من اليمن ، وساق الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، غير أنه قال في الحديث : قال عوف بن مالك : فقلت : يا خالد ، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ، قال بلى ، ولكني استكثرته ، هذا لفظ مسلم في صحيحه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 10:54 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (107)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (9)
صـ 86 إلى صـ 90
وفي رواية عن عوف أيضا ، عند الإمام أحمد وأبي داود قال خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من أهل اليمن ، ومضينا فلقينا جموع الروم ، وفيهم رجل على فرس له ، أشقر ، عليه سرج مذهب ، وسلاح مذهب ، فجعل الرومي يفري في [ ص: 86 ] المسلمين ، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه ، فخر وعلاه فقتله . وحاز فرسه وسلاحه ، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد ، فأخذ السلب ، قال عوف : فأتيته ، فقلت : يا خالد ، أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل ، قال : بلى ، ولكن استكثرته ، قلت : لتردنه إليه ، أو لأعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يرد عليه ، قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقصصت عليه قصة المددي ، وما فعل خالد ، وذكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم اهـ .
فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح : " لا تعطه يا خالد " دليل على أنه لم يستحق السلب بمجرد القتل ، إذ لو استحقه به ، لما منعه منه النبي صلى الله عليه وسلم .
ومنها : ما ذكره ابن أبي شيبة ، قال : حدثنا أبو الأحوص ، عن الأسود بن قيس ، عن بشر بن علقمة ، قال : بارزت رجلا يوم القادسية ، فقتلته ، وأخذت سلبه ، فأتيت سعدا ، فخطب سعد أصحابه ، ثم قال : هذا سلب بشر بن علقمة فهو خير من اثني عشر ألف درهم ، وإنا قد نفلناه إياه .
فلو كان السلب للقاتل قضاء من النبي صلى الله عليه وسلم ، لما أضاف الأمراء ذلك التنفيل إلى أنفسهم باجتهادهم ، ولأخذه القاتل دون أمرهم ، قاله القرطبي .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر القولين عندي دليلا ، أن القاتل لا يستحق السلب إلا بإعطاء الإمام ; لهذه الأدلة الصحيحة ، التي ذكرنا فإن قيل : هي شاهدة لقول إسحاق : إن كان السلب يسيرا فهو للقاتل ، وإن كان كثيرا خمس .
فالجواب : أن ظاهرها العموم مع أن سلب أبي جهل لم يكن فيه كثرة زائدة ، وقد منع منه النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء .
تنبيه
جعل بعض العلماء منشأ الخلاف في سلب القاتل ، هل يحتاج إلى تنفيذ الإمام أو لا ؟ هو الاختلاف في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا " الحديث ، هل هو حكم ؟ وعليه فلا يعم بل يحتاج دائما إلى تنفيذ الإمام ، أو هو فتوى ؟ فيكون حكما عاما غير محتاج إلى تنفيذ الإمام .
قال صاحب " نشر البنود شرح مراقي السعود " في شرح قوله : [ الرجز ]
[ ص: 87 ]
وسائر حكاية الفعل بما
منه العموم ظاهرا قد علما ما نصه : تنبيه : حكى ابن رشيد خلافا بين العلماء ، في قوله صلى الله عليه وسلم : " من قتل قتيلا له عليه بينة ، فله سلبه " ، هل يحتاج سلب القتيل إلى تنفيذ الإمام ، بناء على أن الحديث حكم فلا يعم ، أو لا يحتاج إليه بناء على أنه فتوى ؟ وكذا قوله لهند : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " فيه خلاف ، هل هو حكم فلا يعم ، أو فتوى فيعم .
قال ميارة في " التكميل " : [ الرجز ]
وفي حديث هند الخلاف : هل
حكم يخصها أو افتاء شمل واعلم أن العلماء اختلفوا في السلب ، هل يخمس أو لا ؟ على ثلاثة أقوال :
الأول : لا يخمس .
الثاني : يخمس .
الثالث : إن كان كثيرا خمس ، وإلا فلا .
وممن قال : إنه لا يخمس : الشافعي ، وأحمد ، وابن المنذر ، وابن جرير ، ويروى عن سعد بن أبي وقاص .
وممن روي عنه أنه يخمس : ابن عباس ، والأوزاعي ، ومكحول .
وممن فرق بين القليل والكثير : إسحاق ، واحتج من قال : لا يخمس بما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن حبان ، والطبراني ، عن عوف بن مالك ، وخالد بن الوليد رضي الله عنهما ; أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخمس السلب .
وقال القرطبي في " تفسيره " ، بعد أن ساق حديث عوف بن مالك الذي قدمنا عند مسلم ما نصه : " وأخرجه أبو بكر البرقاني بإسناده ، الذي أخرجه به مسلم ، وزاد بيانا أن عوف بن مالك ، قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يخمس السلب " اهـ .
وقال ابن حجر في " التلخيص " في حديث خالد وعوف المتقدم ، ما لفظه : " وهو ثابت في " صحيح مسلم " في حديث طويل فيه قصة لعوف مع خالد بن الوليد ، وتعقبه الشوكاني في " نيل الأوطار " بما نصه : وفيه نظر ؛ فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم ، بل الذي فيه هو ما سيأتي قريبا ، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش ، وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مرارا " ، اهـ .
[ ص: 88 ] قال مقيده عفا الله عنه : وقد قدمنا حديث عوف المذكور بلفظ مسلم في صحيحه ، وليس فيه ما ذكره الحافظ بن حجر ، فهو وهم منه ، كما نبه عليه الشوكاني رحمهما الله تعالى .
والتحقيق في إسماعيل بن عياش أن روايته عن غير الشاميين ضعيفة ، وهو قوي في الشاميين ، دون غيرهم .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الحديث من رواية إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك ، وإسماعيل ، وشيخه في هذا الحديث ، الذي هو صفوان بن عمرو ، كلاهما حمصي ، فهو بلدي له :
وبه تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور ، مع قوة شاهده ، الذي قدمنا عن أبي بكر البرقاني ، بسند على شرط مسلم .
واحتج من قال بأن السلب يخمس : بعموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية .
واحتج من قال : يخمس الكثير دون اليسير : بما رواه أنس ، عن البراء بن مالك أنه قتل من المشركين مائة رجل ، إلا رجلا مبارزة ، وأنهم لما غزوا الزارة ، خرج دهقان الزارة ، فقال : رجل ورجل ، فبرز البراء فاختلفا بسيفيهما ، ثم اعتنقا فتوركه البراء فقعد على كبده ، ثم أخذ السيف فذبحه ، وأخذ سلاحه ومنطقته ، وأتى به عمر ، فنفله السلاح ، وقوم المنطقة بثلاثين ألفا ، فخمسها ، وقال : إنها مال . اهـ بنقل القرطبي .
وقال قبل هذا : وفعله عمر بن الخطاب مع البراء بن مالك ، حين بارز " المرزبان " فقتله ، فكانت قيمة منطقته ، وسواريه ثلاثين ألفا ، فخمس ذلك اهـ .
وقال ابن قدامة في " المغني " : وقال إسحاق : إن استكثر الإمام السلب ، فذلك إليه ، لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز " مرزبان " الزارة بالبحرين فطعنه ، فدق صلبه ، وأخذ سواريه ، وسلبه ، فلما صلى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره ، فقال : إنا كنا لا نخمس السلب ، وإن سلب البراء قد بلغ مالا ، وأنا خامسه ، فكان أول سلب خمس في الإسلام سلب البراء ، رواه سعيد في السنن .
وفيها أن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا .
[ ص: 89 ] قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلا عندي أن السلب لا يخمس لحديث عوف وخالد المتقدم ، ويجاب عن أخذ الخمس من سلب البراء بن مالك ، بأن الذي تدل عليه القصة أن السلب لا يخمس ; لأن قول عمر : إنا كنا لا نخمس السلب ، وقول الراوي كان أول سلب خمس في الإسلام : يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ، وعمر صدرا من خلافته لم يخمسوا سلبا ، واتباع ذلك أولى .
قال الجوزجاني : لا أظنه يجوز لأحد في شيء سبق فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم شيء إلا اتباعه ، ولا حجة في قول أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن قدامة في " المغني " ، والأدلة التي ذكرنا يخصص بها عموم قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم الآية [ 8 \ 41 ] .
واختلف العلماء فيما إذا ادعى أنه قتله ، ولم يقم على ذلك بينة ، فقال الأوزاعي : يعطاه بمجرد دعواه ، وجمهور العلماء على أنه لا بد من بينة على أنه قتله ، قال مقيده عفا الله عنه : لا ينبغي أن يختلف في اشتراط البينة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " من قتل قتيلا له عليه بينة " الحديث ، فهو يدل بإيضاح على أنه لا بد من البينة ، فإن قيل : فأين البينة التي أعطى بها النبي صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله السابق ذكره .
فالجواب من وجهين : الأول : ما ذكره القرطبي في " تفسيره " ، قال : سمعت شيخنا الحافظ المنذري الشافعي أبا محمد عبد العظيم ، يقول : إنما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم بشهادة الأسود بن خزاعي ، وعبد الله بن أنيس ، وعلى هذا يندفع النزاع ، ويزول الإشكال ، ويطرد الحكم . اهـ .
الثاني : أنه أعطاه إياه بشهادة الرجل الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق ، سلب ذلك القتيل عندي " ، الحديث ، فإن قوله " صدق " شهادة صريحة لأبي قتادة أنه هو الذي قتله ، والاكتفاء بواحد في باب الخبر ، والأمور التي لم يقع فيها ترافع قال به كثير من العلماء ، وعقده ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله : [ الرجز ]
وواحد يجزئ في باب الخبر
واثنان أولى عند كل ذي نظر وقال القرطبي في " تفسيره " :
إن أكثر العلماء على إجزاء شهادة واحد ، وقيل : يثبت ذلك بشاهد ويمين ، والله أعلم .
وأما على قول من قال : إن السلب موكول إلى نظر الإمام ، فللإمام أن يعطيه إياه ، [ ص: 90 ] ولو لم تقم بينة ، وإن اشترطها فذلك له ، قاله القرطبي ، والظاهر عندي أنه لا بد من بينة لورود النص الصحيح بذلك .
واختلف العلماء في السلب ما هو ؟
قال مقيده عفا الله عنه : لهذه المسألة طرفان ، وواسطة :
طرف أجمع العلماء على أنه من السلب : وهو سلاحه ، كسيفه ، ودرعه ، ونحو ذلك ، وكذلك ثيابه .
وطرف أجمع العلماء على أنه ليس من السلب : وهو ما لو وجد في هميانه ، أو منطقته دنانير . أو جواهر ، أو نحو ذلك .
وواسطة اختلف العلماء فيها : منها فرسه الذي مات وهو يقاتل عليه ، ففيه للعلماء قولان : وهما روايتان عن الإمام أحمد ، أصحهما أنه منه ، ومنها ما يتزين به للحرب ، فقال الأوزاعي : ذلك كله من السلب ، وقالت : فرقة ليس منه ، وهذا مروي عن سحنون إلا المنطقة ، فإنها عنده من السلب ، وقال ابن حبيب في الواضحة ، والسواران من السلب ، والله أعلم .
واعلم أن حديث عبد الله بن عمر المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية قبل نجد ، وفيهم ابن عمر ، وأن سهمانهم بلغت اثني عشر بعيرا ، ونفلوا بعيرا بعيرا - دليل واضح على بطلان قول من قال : " لا تنفيل إلا من خمس الخمس " ; لأن الحديث صريح في أنه نفلهم نصف السدس .
ولا شك أن نصف السدس أكثر من خمس الخمس ، فكيف يصح تنفيل الأكثر من الأقل ، وهو واضح كما ترى ، وأما غير ذلك من الأقوال ، فالحديث محتمل له .
والذي يسبق إلى الذهن ، أن ما ثبت في " صحيح مسلم " من حديث ابن عمر بلفظ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش ، والخمس في ذلك واجب كله اهـ .
يدل على أن ذلك التنفيل من الغنيمة بعد إخراج الخمس ، وهو ما دل عليه حديث حبيب بن سلمة المتقدم ، وهو الظاهر المتبادر خلافا لما قاله ابن حجر في " الفتح " من أنه محتمل لكل الأقوال المذكورة ، والله تعالى أعلم . \
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 10:58 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (108)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (10)
صـ 91 إلى صـ 95
[ ص: 91 ] المسألة السادسة : الحق الذي لا شك فيه أن الفارس يعطى من الغنيمة ثلاثة أسهم : سهمان لفرسه ، وسهم لنفسه ، وأن الراجل يعطى سهما واحدا ، والنصوص الصحيحة مصرحة بذلك ، فمن ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه ، ولفظ البخاري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : جعل للفرس سهمين ، ولصاحبه سهما " .
ولفظ مسلم ، حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر ، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين ، وللرجل سهما " اهـ .
وأكثر الروايات بلفظ : " وللرجل " ، فرواية الشيخين صريحة فيما ذكرنا ، وبذلك فسره راويه نافع ، قال البخاري في " صحيحه " في غزوة خيبر : قال : فسره نافع ، فقال : إذا كان مع الرجل فرس فله ثلاثة أسهم ، فإن لم يكن له فرس فله سهم اهـ . وذلك هو معناه الذي لا يحتمل غيره في رواية الصحيحين المذكورة .
ومنها ما رواه أبو داود ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم : سهما له ، وسهمين لفرسه " .
حدثنا أحمد بن حنبل ، ثنا أبو معاوية ، ثنا عبد الله بن يزيد ، حدثني المسعودي ، حدثني أبو عمرة عن أبيه ، قال : " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ، ومعنا فرس ، فأعطى كل واحد منا سهما ، وأعطى الفرس سهمين " .
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، وعمر بن عبد العزيز ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث ، وحسين بن ثابت ، وأبي يوسف ، ومحمد ، وإسحاق ، وأبي عبيد ، وابن جرير ، وأبي ثور .
وخالف أبو حنيفة - رحمه الله - الجمهور ، فقال : للفارس سهمان ، وللراجل سهم ; محتجا بما جاء في بعض الروايات : " أنه صلى الله عليه وسلم ، قسم يوم خيبر للفارس سهمين ، وللراجل سهما " رواه أبو داود من حديث مجمع بن جارية الأنصاري رضي الله عنه ، وكان أحد القراء الذين قرؤوا القرآن ، ويجاب عنه من وجهين :
الأول : أن المراد بسهمي الفارس خصوص السهمين اللذين استحقهما بفرسه ، كما يشعر به لفظ الفارس .
[ ص: 92 ] الثاني : أن النصوص المتقدمة أصح منه ، وأولى بالتقديم ، وقد قال أبو داود : حديث أبي معاوية أصح ، والعمل عليه ، وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال : ثلاثمائة فارس ، وكانوا مائتي فارس اهـ .
وقال النووي في " شرح مسلم " : لم يقل بقول أبي حنيفة هذا أحد ، إلا ما روي عن علي ، وأبي موسى اهـ .
وإن كان عند بعض الغزاة خيل فلا يسهم إلا لفرس واحد ، وهذا مذهب الجمهور منهم مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والحسن ، ومحمد بن الحسن ، وغيرهم .
واحتجوا بأنه لا يمكنه أن يقاتل إلا على فرس واحد ، وقال الأوزاعي والثوري ، والليث ، وأبو يوسف : يسهم لفرسين دون ما زاد عليهما ، وهو مذهب الإمام أحمد ، ويروى عن الحسن ، ومكحول ، ويحيى الأنصاري ، وابن وهب ، وغيره من المالكيين .
واحتج أهل هذا القول بما روي عن الأوزاعي : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للخيل ، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كان معه عشرة أفراس " ، وبما روي عن أزهر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح ، أن يسهم للفرس من سهمين ، وللفرسين أربعة أسهم ، ولصاحبهما سهم ، فذلك خمسة أسهم ، وما كان فوق الفرسين فهي جنائب ، رواهما سعيد بن منصور ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
واحتجوا أيضا بأنه محتاج إلى الفرس الثاني ; لأن إدامة ركوب واحد تضعفه ، وتمنع القتال عليه فيسهم للثاني ; لأنه محتاج إليه كالأول ، بخلاف الثالث فإنه مستغن عنه ، ولم يقل أحد إنه يسهم لأكثر من فرسين ، إلا شيئا روي عن سليمان بن موسى ، قاله النووي في " شرح مسلم " ، وغيره .
واختلف العلماء في البراذين والهجن على أربعة أقوال :
الأول : أنها يسهم لها كسهم الخيل العراب ، وممن قال به مالك ، والشافعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والثوري ، ونسبه الزرقاني في " شرح الموطأ " للجمهور ، واختاره الخلال ، وقال : رواه ثلاثة متيقظون عن أحمد ، وحجة هذا القول ما ذكره مالك في الموطأ ، قال : لا أرى البراذين والهجن ، إلا من الخيل ; لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة [ 16 \ 8 ] .
وقال عز وجل : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [ 8 \ 60 ] [ ص: 93 ] فأنا أرى البراذين والهجن من الخيل إذا أجازها الوالي .
وقد قال سعيد بن المسيب ، وسئل عن البراذين : هل فيها من صدقة ؟ قال : وهل في الخيل من صدقة ؟ اهـ .
وحاصل هذا الاستدلال أن اسم الخيل في الآيتين المذكورتين يشمل البراذين والهجن فهما داخلان في عمومه ; لأنهما ليسا في البغال ولا الحمير بل من الخيل .
القول الثاني : أنه يسهم للبرذون والهجين سهم واحد قدر نصف سهم الفرس ، واحتج أهل هذا القول بما رواه الشافعي في " الأم " وسعيد بن منصور من طريق علي بن الأقمر الوادعي ، قال : أغارت الخيل فأدركت العراب ، وتأخرت البراذين ، فقام ابن المنذر الوادعي ، فقال : لا أجعل ما أدرك كما لم يدرك ، فبلغ ذلك عمر فقال : هبلت الوادعي أمه لقد أذكرت به ! أمضوها على ما قال ، فكان أول من أسهم للبراذين دون سهام العراب ، وفي ذلك يقول شاعرهم : [ الطويل ]
ومنا الذي قد سن في الخيل سنة وكانت سواء قبل ذاك سهامها وهذا منقطع كما ترى .
واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود في المراسيل ، وسعيد بن منصور ، عن مكحول : " أن النبي صلى الله عليه وسلم هجن الهجين يوم خيبر ، وعرب العربي ، فجعل للعربي سهمين ، وللهجين سهما " ، وهو منقطع أيضا كما ترى ، وبه أخذ الإمام أحمد في أشهر الروايات عنه .
واحتجوا أيضا بأن أثر الخيل العراب في الحرب أفضل من أثر البراذين وذلك يقتضي تفضيلها عليها في السهام .
القول الثالث : التفصيل بين ما يدرك من البراذين إدراك العراب ، فيسهم له كسهامها ، وبين ما لا يدرك إدراكها فلا يسهم له ، وبه قال ابن أبي شيبة ، وابن أبي خيثمة ، وأبو أيوب ، والجوزجاني .
ووجهه أنها من الخيل ، وقد عملت عملها فوجب جعلها منها .
القول الرابع : لا يسهم لها مطلقا ، وهو قول مالك بن عبد الله الخثعمي ووجهه أنها حيوان لا يعمل عمل الخيل فأشبه البغال .
قال ابن قدامة في " المغني " : ويحتمل أن تكون هذه الرواية فيما لا يقارب العتاق [ ص: 94 ] منها ، لما روى الجوزجاني بإسناده عن أبي موسى ، أنه كتب إلى عمر بن الخطاب : إنا وجدنا بالعراق خيلا عراضا دكنا ، فما ترى يا أمير المؤمنين في سهمانها ، فكتب إليه : تلك البراذين فما قارب العتاق منها ، فاجعل له سهما واحدا ، وألغ ما سوى ذلك . اهـ .
والبراذين : جمع برذون ، بكسر الموحدة وسكون الراء وفتح المعجمة ، والمراد : الجفاة الخلقة من الخيل ، وأكثر ما تجلب من بلاد الروم ، ولها جلد على السير في الشعاب والجبال والوعر بخلاف الخيل العربية .
والهجين : هو ما أحد أبويه عربي ، وقيل : هو الذي أبوه عربي ، وأما الذي أمه عربية فيسمى المقرف ، وعن أحمد : الهجين البرذون ، ويحتمل أنه أراد في الحكم .
ومن إطلاق الإقراف على كون الأم عربية قول هند بنت النعمان بن بشير : [ الطويل ]
وما هند إلا مهرة عربية سليلة أفراس تحللها بغل
فإن ولدت مهرا كريما فبالحرى وإن يك إقراف فما أنجب الفحل
وقول جرير : [ الوافر ]
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب واختلف العلماء فيمن غزا على بعير ، هل يسهم لبعيره ؟ فذهب أكثر العلماء إلى أنه لا يسهم للإبل ، قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن من غزا على بعير فله سهم راجل ، كذلك قال الحسن ، ومكحول ، والثوري ، والشافعي ، وأصحاب الرأي ، واختاره أبو الخطاب من الحنابلة .
قال ابن قدامة في " المغني " : وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أنه أسهم لغير الخيل من البهائم وقد كان معه يوم " بدر " سبعون بعيرا ، ولم تخل غزاة من غزواته من الإبل ، هي كانت غالب دوابهم فلم ينقل عنه أنه أسهم لها ، ولو أسهم لها لنقل ، وكذلك من بعد النبي صلى الله عليه وسلم من خلفائه وغيرهم مع كثرة غزواتهم لم ينقل عن أحد منهم فيما علمناه أنه أسهم لبعير ، ولو أسهم لبعير لم يخف ذلك ، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر ، فلم يسهم له كالبغل والحمار ، اهـ .
وقال الإمام أحمد : من غزا على بعير ، وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان ، وظاهره أنه لا يسهم للبعير مع إمكان الغزو على فرس ، وعن أحمد : أنه يسهم [ ص: 95 ] للبعير سهم ، ولم يشترط عجز صاحبه عن غيره ، وحكي نحو هذا عن الحسن ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
واحتج أهل هذا القول بقوله تعالى : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب [ 59 \ 6 ] ، قالوا : فذكر الركاب وهي الإبل مع الخيل ، وبأنه حيوان تجوز المسابقة عليه بعوض فيسهم له كالفرس ; لأن تجويز المسابقة بعوض إنما هو في ثلاثة أشياء ، هي : النصل ، والخف ، والحافر ، دون غيرها ; لأنها آلات الجهاد ، فأبيح أخذ الرهن في المسابقة بها ، تحريضا على رياضتها ، وتعلم الإتقان فيها .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي - والله أعلم - أنه لا يسهم للإبل لما قدمنا آنفا ، وأما غير الخيل والإبل ، من البغال والحمير والفيلة ونحوها ، فلا يسهم لشيء منه ، وإن عظم غناؤها وقامت مقام الخيل .
قال ابن قدامة : ولا خلاف في ذلك ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يقسم لشيء من ذلك ، ولأنها مما لا تجوز المسابقة عليه بعوض فلم يسهم لها كالبقر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 11:03 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (109)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (11)
صـ 96 إلى صـ 100
المسألة السابعة : اختلف العلماء في حرق رحل الغال من الغنيمة ، والمراد بالغال من يكتم شيئا من الغنيمة ، فلا يطلع عليه الإمام ، ولا يضعه مع الغنيمة .
قال بعض العلماء : يحرق رحله كله إلا المصحف وما فيه روح ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وبه قال الحسن وفقهاء الشام ، منهم مكحول ، والأوزاعي ، والوليد بن هشام ، ويزيد بن يزيد بن جابر ، وأتى سعيد بن عبد الملك بغال فجمع ماله وأحرقه ، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه .
وقال يزيد بن يزيد بن جابر : السنة في الذي يغل أن يحرق رحله ، رواهما سعيد في سنته ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
ومن حجج أهل هذا القول : ما رواه أبو داود في سننه ، عن صالح بن محمد بن زائدة قال أبو داود وصالح هذا أبو واقد قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم ، فأتى برجل قد غل ، فسأل سالما عنه فقال : سمعت أبي يحدث ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه " ، قال : فوجدنا في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه ، فقال : بعه وتصدق بثمنه . اهـ بلفظه من أبي داود .
وذكر ابن قدامة أنه رواه أيضا الأثرم ، وسعيد ، وقال أبو داود أيضا : حدثنا أبو صالح [ ص: 96 ] محبوب بن موسى الأنطاكي ، قال : أخبرنا أبو إسحاق عن صالح بن محمد ، قال : غزونا مع الوليد بن هشام ، ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، فغل رجل متاعا ، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ، ولم يعطه سهمه ، قال أبو داود : وهذا أصح الحديثين رواه غير واحد : أن الوليد بن هشام أحرق رحل زياد بن سعد ، وكان قد غل ، وضربه .
حدثنا محمد بن عوف ، قال : ثنا موسى بن أيوب ، قال : ثنا الوليد بن مسلم ، قال : ثنا زهير بن محمد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ، وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه " .
قال أبو داود : وزاد فيه علي بن بحر : عن الوليد ، ولم أسمعه منه ، ومنعوه سهمه ، قال أبو داود : وحدثنا به الوليد بن عتبة ، وعبد الوهاب بن نجدة ، قالا : ثنا الوليد ، عن زهير بن محمد ، عن عمرو بن شعيب قوله ، ولم يذكر عبد الوهاب بن نجدة الحوطي منع سهمه ، اهـ من أبي داود بلفظه ، وحديث صالح بن محمد الذي ذكرنا عند أبي داود أخرجه أيضا الترمذي ، والحاكم ، والبيهقي .
قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقال : سألت محمدا عن هذا الحديث ، فقال : إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة ، الذي يقال له أبو واقد الليثي ، وهو منكر الحديث .
قال المنذري : وصالح بن محمد بن زائدة : تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وقد قيل : إنه تفرد به ، وقال البخاري : عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول ، وهو باطل ليس بشيء ، وقال الدارقطني : أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد ، قال : وهذا حديث لم يتابع عليه ، ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والمحفوظ أن سالما أمر بذلك ، وصحح أبو داود وقفه ، فرواه موقوفا من وجه آخر ، وقال : هذا أصح كما قدمنا ، وحديث عمرو بن شعيب الذي ذكرنا عند أبي داود ، أخرجه أيضا الحاكم ، والبيهقي ، وزهير بن محمد الذي ذكرنا في إسناده الظاهر أنه هو الخراساني ، وقد قال فيه ابن حجر في " التقريب " : رواية أهل الشام عنه غير مستقيمة ، فضعف بسببها ، وقال البخاري عن أحمد : كان زهير الذي يروي عنه الشاميون آخر ، وقال أبو حاتم : حدث بالشام من حفظه فكثر غلطه . اهـ .
وقال البيهقي : ويقال إنه غير الخراساني ، وإنه مجهول . اهـ ، وقد علمت فيما قدمنا [ ص: 97 ] عن أبي داود ، أنه رواه من وجه آخر موقوفا على عمرو بن شعيب وقال ابن حجر : إن وقفه هو الراجح .
وذهب الأئمة الثلاثة ، مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة : إلى أنه لا يحرق رحله ، واحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق رحل غال ، و بما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس ، فيجيئون بغنائمهم ، فيخمسه ، ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر ، فقال : يا رسول الله ، هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة ، فقال : " أسمعت بلالا ينادي ثلاثا " ، قال : نعم ، قال : " فما منعك أن تجيء به ؟ " فاعتذر إليه ، فقال : " كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك " ، هذا لفظ أبي داود ، وهذا الحديث سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، وأخرجه الحاكم وصححه .
وقال البخاري : قد روي في غير حديث عن الغال ، ولم يؤمر بحرق متاعه ، فقد علمت أن أدلة القائلين بعدم حرق رحل الغال أقوى ، وهم أكثر العلماء .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة : هو ما اختاره ابن القيم ، قال في " زاد المعاد " بعد أن ذكر الخلاف المذكور في المسألة : والصواب أن هذا من باب التعزير والعقوبات المالية الراجعة إلى اجتهاد الأئمة ، فإنه حرق وترك ، وكذلك خلفاؤه من بعده ، ونظير هذا قتل شارب الخمر في الثالثة أو الرابعة ، فليس بحد ، ولا منسوخ ، وإنما هو تعزير يتعلق باجتهاد الإمام . اهـ .
وإنما قلنا : إن هذا القول أرجح عندنا ; لأن الجمع واجب إذا أمكن ، وهو مقدم على الترجيح بين الأدلة ، كما علم في الأصول ، والعلم عند الله تعالى .
أما لو سرق واحد من الغانمين من الغنيمة قبل القسم ، أو وطئ جارية منها قبل القسم ، فقال مالك وجل أصحابه : يحد حد الزنى والسرقة في ذلك ; لأن تقرر الملك لا يكون بإحراز الغنيمة ، بل بالقسم .
وذهب الجمهور - منهم الأئمة الثلاثة - إلى أنه لا يحد للزنى ولا للسرقة ; لأن استحقاقه بعض الغنيمة شبهة تدرأ عنه الحد ، وبعض من قال بهذا يقول : إن ولدت فالولد حر يلحق نسبه به ، وهو قول أحمد ، والشافعي ، خلافا لأبي حنيفة ، وفرق بعض المالكية بين السرقة والزنى ، فقال : لا يحد للزنى ، ويقطع إن سرق أكثر من نصيبه بثلاثة دراهم .
[ ص: 98 ] وبهذا قال عبد الملك من المالكية ، كما نقله عنه ابن المواز .
واختلف العلماء فيما إذا مات أحد المجاهدين قبل قسم الغنيمة ، هل يورث عنه نصيبه ؟
فقال مالك في أشهر الأقوال ، والشافعي : إن حضر القتال : ورث عنه نصيبه وإن مات قبل إحراز الغنيمة ، وإن لم يحضر القتال فلا سهم له .
وقال أبو حنيفة : إن مات قبل إحراز الغنيمة في دار الإسلام خاصة ، أو قسمها في دار الحرب فلا شيء له ; لأن ملك المسلمين لا يتم عليها عنده إلا بذلك .
وقال الأوزاعي : إن مات بعد ما يدرب قاصدا في سبيل الله ، قبل أو بعد ، أسهم له .
وقال الإمام أحمد : إن مات قبل حيازة الغنيمة فلا سهم له ; لأنه مات قبل ثبوت ملك المسلمين عليها ، وسواء مات حال القتال أو قبله ، وإن مات بعد إحراز الغنيمة فسهمه لورثته .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا أظهر الأقوال عندي ، والله تعالى أعلم .
ولا يخفى أن مذهب الإمام مالك رحمه الله في هذه المسألة مشكل ; لأن حكمه بحد الزاني والسارق ، يدل على أنه لا شبهة للغانمين في الغنيمة قبل القسم ، وحكمه بإرث نصيب من مات قبل إحراز الغنيمة إن حضر القتال يدل على تقرر الملك بمجرد حضور القتال ، وهو كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة : أصح الأقوال دليلا : أنه لا يقسم للنساء والصبيان الذين لا قدرة لهم على القتال ، وما جرى مجراهم ، ولكن يرضخ لهم من الغنيمة باجتهاد الإمام ، ودليل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه : عن ابن عباس ، لما سأله نجدة عن خمس خلال .
منها : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء ؟ وهل كان يضرب لهم بسهم ؟ فيكتب إليه ابن عباس : كتبت تسألني : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء ، وقد كان يغزو بهن ، فيداوين الجرحى ، ويحذين من الغنيمة ، وأما بسهم فلم يضرب لهن . الحديث .
وهو صريح فيما ذكرنا ، فيجب حمل ما ورد في غيره من أن النساء يسهم لهن على الرضخ المذكور في هذا الحديث المعبر عنه بقوله : " يحذين من الغنيمة " .
قال النووي : قوله " يحذين " ، هو بضم الياء وإسكان الحاء المهملة ، وفتح الذال المعجمة ، أي يعطين تلك العطية ، وتسمى الرضخ ، وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ ، [ ص: 99 ] ولا تستحق السهم ، وبهذا قال أبو حنيفة ، والثوري ، والليث ، والشافعي ، وجماهير العلماء .
وقال الأوزاعي : تستحق السهم إن كانت تقاتل ، أو تداوي الجرحى ، وقال مالك : لا رضخ لها ، وهذان المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح اهـ .
المسألة التاسعة : اعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير ، لا من المغانم .
ودليل ذلك : حديث مالك بن أوس بن الحدثان المتفق عليه ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : دخلت على عمر ، فأتاه حاجبه يرفأ ، فقال : هل لك في عثمان ، وعبد الرحمن ، والزبير ، وسعد ؟ قال : نعم ، فأذن لهم ، ثم قال : هل لك في علي ، وعباس ؟ قال : نعم ، قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا ، قال : أنشدكم بالله ، الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " ، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ فقال : الرهط ، قد قال ذلك ، فأقبل على علي ، وعباس ، فقال : هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك ، قال عمر : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ، إن الله كان خص رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فقال عز وجل : وما أفاء الله على رسوله إلى قوله : قدير [ 59 \ 6 ] ، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه ، وبثها فيكم حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، أنشدكم بالله ، هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم ، ثم قال لعلي ، وعباس : أنشدكما بالله ، هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم ، قال عمر : فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضها فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضتها سنتين أعمل فيها ما عمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، ثم جئتماني ، وكلمتكما واحدة ، وأمركما جميع : جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وأتاني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك فتلتمسان مني قضاء غير ذلك ، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إلي اهـ .
هذا لفظ البخاري في " الصحيح " في بعض رواياته ، ومحل الشاهد من الحديث [ ص: 100 ] تصريح عمر بأنه صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله نفقة سنته من فيء بني النضير ، وتصديق الجماعة المذكورة له في ذلك ، وهذا الحديث مخرج في " الصحيحين " وغيرهما من طرق متعددة بألفاظ متقاربة المعنى ، وهو نص في أن نفقة أهله صلى الله عليه وسلم كانت من الفيء ، لا من الغنيمة .
ويدل له أيضا الحديث المتقدم " مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم " ، فإن قيل ما وجه الجمع بين ما ذكرتم ، وبين ما أخرجه أبو داود من طريق أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن مالك بن أوس بن الحدثان ، قال : كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث صفايا : بنو النضير ، وخيبر ، وفدك ; فأما بنو النضير فكانت حبسا لنوائبه ، وأما فدك فكانت حبسا لأبناء السبيل ، وأما خيبر فجزأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء : جزئين بين المسلمين ، وجزءا نفقة لأهله ، فما فضل عن نفقة أهله جعله بين فقراء المهاجرين .
فالجواب - والله تعالى أعلم - أنه لا تعارض بين الروايتين ; لأن " فدك " ونصيبه صلى الله عليه وسلم من " خيبر " كلاهما فيء كما قدمنا عليه الأدلة الواضحة ، وكذلك " بنو النضير " ، فالجميع فيء كما تقدم إيضاحه ، فحكم الكل واحد .
وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : وكانت فاطمة رضي الله عنها تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ، وفدك ، وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك ، وقال : لست تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به ، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ .
فأما صدقته بالمدينة فدفعها عمر إلى علي ، وعباس ، وأما خيبر ، وفدك فأمسكهما عمر ، وقال : هما صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه ، وأمرهما إلى من ولي الأمر ، قال : فهما على ذلك إلى اليوم . و هذا لفظ البخاري في صحيحه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 11:10 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (110)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (12)
صـ 101 إلى صـ 105
وقال ابن حجر في " الفتح " : وقد ظهر بهذا أن صدقة النبي صلى الله عليه وسلم تختص بما كان من بني النضير ، وأما سهمه من خيبر ، وفدك فكان حكمه إلى من يقوم بالأمر بعده ، وكان أبو بكر يقدم نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يصرفه فيصرفه من خيبر ، وفدك ، وما فضل من ذلك جعله في المصالح ، وعمل عمر بعده بذلك ، فلما كان عثمان تصرف في فدك بحسب ما رآه ، فروى أبو داود من طريق مغيرة بن مقسم ، قال : جمع عمر بن عبد العزيز بني مروان ، فقال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق من فدك على بني هاشم ، ويزوج أيمهم ، [ ص: 101 ] وإن فاطمة سألته أن يجعلها لها فأبى ، وكانت كذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر ، ثم أقطعها مروان ؛ يعني في أيام عثمان .
قال الخطابي : إنما أقطع عثمان " فدك " لمروان ; لأنه تأول أن الذي يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم يكون للخليفة بعده ، فاستغنى عثمان عنها بأمواله ، فوصل بها بعض قرابته ، ويشهد لصنيع أبي بكر حديث أبي هريرة المرفوع الثابت في الصحيح بلفظ : " ما تركت بعد نفقة نسائي ، ومئونة عاملي فهو صدقة " .
فقد عمل أبو بكر وعمر بتفصيل ذلك بالدليل الذي قام لهما . اهـ .
واعلم أن فيء " بني النضير " تدخل فيه أموال " مخيريق " رضي الله عنه ، وكان يهوديا من " بني قينقاع " مقيما في بني النضير ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، قال لليهود : " ألا تنصرون محمدا صلى الله عليه وسلم ، والله إنكم لتعلمون أن نصرته حق عليكم " ، فقالوا : اليوم يوم السبت ، فقال : لا سبت ، وأخذ سيفه ومضى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقاتل حتى أثبتته الجراحة ، فلما حضره الموت قال : أموالي إلى محمد صلى الله عليه وسلم يضعها حيث شاء ، وكان له سبع حوائط ببني النضير وهي " الميثب " ، " والصائفة " ، " والدلال " ، " وحسنى " ، " وبرقة " ، " والأعواف " ، " ومشربة أم إبراهيم " .
وفي رواية الزبير بن بكار " الميثر " بدل " الميثب " ، " والمعوان " عوض " الأعواف " وزاد " مشربة أم إبراهيم " الذي يقال له " مهروز " .
وسميت " مشربة أم إبراهيم " ; لأنها كانت تسكنها " مارية " ، قاله بعض أصحاب المغازي ، وعد الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي " مخيريق " المذكور من شهداء أحد ، حيث قال في سردهم : [ الرجز ]
وذو الوصايا الجم للبشير وهو مخيريق بني النضير ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام التي لها تعلق بهذه الآية الكريمة ، خوف الإطالة المملة .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .
أمر الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة بالثبات عند لقاء العدو ، وذكر الله كثيرا مشيرا إلى أن ذلك سبب للفلاح ، والأمر بالشيء نهي عن ضده ، أو مستلزم للنهي عن ضده ، كما علم في الأصول ، فتدل الآية الكريمة على النهي عن عدم الثبات [ ص: 102 ] أمام الكفار ، وقد صرح تعالى بهذا المدلول في قوله : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [ 8 \ 15 ] ، إلى قوله : وبئس المصير [ 8 \ 16 ] ، وفي الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى في أضيق الأوقات وهو وقت التحام القتال دليل واضح على أن المسلم ينبغي له الإكثار من ذكر الله على كل حال ، ولا سيما في وقت الضيق ، والمحب الصادق في حبه لا ينسى محبوبه عند نزول الشدائد .
قال عنترة في معلقته : [ الكامل ]
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي وقال الآخر :
ذكرتك والخطي يخطر بيننا وقد نهلت فينا المثقفة السمر تنبيه
قال بعض العلماء : كل " لعل " في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 129 ] ، فهي بمعنى " كأنكم تخلدون " .
قال مقيده عفا الله عنه : لفظة " لعل " قد ترد في كلام العرب مرادا بها التعليل ، ومنه قوله : [ الطويل ]
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق فقوله " لعلنا نكف " يعني : " لأجل أن نكف " ، وكونها للتعليل لا ينافي " معنى الترجي " ; لأن وجود المعلول يرجى عند وجود علته .
قوله تعالى : ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم الآية .
نهى الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن التنازع ، مبينا أنه سبب الفشل ، وذهاب القوة ، ونهى عن الفرقة أيضا في مواضع أخر ، كقوله : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ 3 \ 103 ] ، ونحوها من الآيات ، وقوله في هذه الآية : وتذهب ريحكم [ 8 \ 46 ] ، أي : قوتكم .
وقال بعض العلماء : نصركم ، كما تقول العرب : الريح لفلان ؛ إذا كان غالبا ، ومنه قوله : [ الوافر ]
[ ص: 103 ]
إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل عاصفة سكون واسم " إن " ضمير الشأن .
وقال صاحب الكشاف : الريح : الدولة ، شبهت في نفوذ أمرها ، وتمشيه بالريح في هبوبها ، فقيل : هبت رياح فلان ، إذا دالت له الدولة ، ونفذ أمره ، ومنه قوله : [ البسيط ]
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي إلا عبيد قعود بين أذوادي
أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإن الريح للعادي
قوله تعالى : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ، إلى قوله : إني بريء منكم .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان غر الكفار ، وخدعهم ، وقال لهم : لا غالب لكم وأنا جار لكم .
وذكر المفسرون : أنه تمثل لهم في صورة " سراقة بن مالك بن جعشم " سيد بني مدلج بن بكر بن كنانة ، وقال لهم ما ذكر الله عنه ، وأنه مجيرهم من بني كنانة ، وكانت بينهم عداوة ، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه [ 8 \ 48 ] ، عندما رأى الملائكة وقال لهم : إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ، فكان حاصل أمره أنه غرهم ، وخدعهم حتى أوردهم الهلاك ، ثم تبرأ منهم .
وهذه هي عادة الشيطان مع الإنسان كما بينه تعالى في آيات كثيرة ، كقوله : كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك الآية [ 59 \ 16 ] . وقوله : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى قوله : إني كفرت بما أشركتموني من قبل . وكقوله : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه : [ البسيط ]
سرنا وساروا إلى بدر لحينهم لو يعلمون يقين الأمر ما ساروا دلاهم بغرور ثم أسلمهم إن الخبيث لمن ولاه غرار
[ ص: 104 ] قوله تعالى : ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال [ 13 \ 11 ] ، وقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 \ 30 ] ، وقوله : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ 4 \ 79 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين .
قال بعض العلماء : إن قوله : ومن اتبعك [ 8 \ 64 ] ، في محل رفع بالعطف على اسم الجلالة ، أي حسبك الله ، وحسبك أيضا من اتبعك من المؤمنين .
وممن قال بهذا : الحسن ، واختاره النحاس وغيره ، كما نقله القرطبي ، وقال بعض العلماء : هو في محل خفض بالعطف على الضمير الذي هو الكاف في قوله : حسبك ، وعليه فالمعنى : حسبك الله أي : كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين ، وبهذا قال الشعبي ، وابن زيد وغيرهما ، وصدر به صاحب " الكشاف " ، واقتصر عليه ابن كثير وغيره ، والآيات القرآنية تدل على تعيين الوجه الأخير ، وأن المعنى كافيك الله ، وكافي من اتبعك من المؤمنين لدلالة الاستقراء في القرآن على أن الحسب والكفاية لله وحده ، كقوله تعالى : ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون [ 9 \ 59 ] ، فجعل الإيتاء لله ورسوله ، كما قال : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، وجعل الحسب له وحده ، فلم يقل : وقالوا حسبنا الله ورسوله ، بل جعل الحسب مختصا به وقال : أليس الله بكاف عبده [ 39 \ 36 ] ؟ فخص الكفاية التي هي الحسب به وحده ، وتمدح تعالى بذلك في قوله : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ 65 \ 3 ] ، وقال تعالى : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين [ 8 \ 62 ] ، ففرق بين الحسب والتأييد ، فجعل الحسب له وحده ، وجعل التأييد له بنصره وبعباده .
وقد أثنى سبحانه وتعالى على أهل التوحيد والتوكل من عباده حيث أفردوه [ ص: 105 ] بالحسب ، فقال تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [ 3 \ 173 ] وقال تعالى : فإن تولوا فقل حسبي الله الآية [ 9 \ 129 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، فإن قيل : هذا الوجه الذي دل عليه القرآن ، فيه أن العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، ضعفه غير واحد من علماء العربية ، قال ابن مالك في " الخلاصة " : [ الرجز ]
وعود خافض لدى عطف على ضمير خفض لازما قد جعلا فالجواب من أربعة أوجه :
الأول : أن جماعة من علماء العربية صححوا جواز العطف من غير إعادة الخافض ، قال ابن مالك في " الخلاصة " : [ الرجز ]
وليس عندي لازما إذ قد أتى في النظم والنثر الصحيح مثبتا وقد قدمنا في " سورة النساء " في الكلام على قوله : وما يتلى عليكم في الكتاب [ 127 ] شواهده العربية ، ودلالة قراءة حمزة عليه ، في قوله تعالى : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام [ 4 \ 1 ] .
الوجه الثاني : أنه من العطف على المحل ; لأن الكاف مخفوض في محل نصب ; إذ معنى حسبك : يكفيك ، قال في " الخلاصة " : [ الرجز ]
وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن
الوجه الثالث : نصبه بكونه مفعولا معه ، على تقدير ضعف وجه العطف ، كما قال في " الخلاصة " : [ الرجز ]
والعطف إن يمكن بلا ضعف أحق والنصب مختار لدى ضعف النسق الوجه الرابع : أن يكون ومن مبتدأ خبره محذوف ، أي ومن اتبعك من المؤمنين ، فحسبهم الله أيضا ، فيكون من عطف الجملة ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 11:14 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (111)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (13)
صـ 106 إلى صـ 110
قوله تعالى : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم .
لم يعين تعالى في هذه الآية [ ص: 106 ] الكريمة المراد بأولي الأرحام ، واختلف العلماء في هذه الآية ، هل جاء في القرآن ما يبين المراد منها أو لا ، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها بينتها آيات المواريث ، كما قدمنا نظيره في قوله : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون [ 4 \ 7 ] .
قالوا : فلا إرث لأحد من أولي الأرحام غير من عينت لهم حقوقهم في آيات المواريث .
وممن قال بهذا زيد بن ثابت ، ومالك ، والشافعي ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وداود ، وابن جرير وغيرهم ، وقالوا : الباقي عن نصيب الورثة المنصوص على إرثهم لبيت مال المسلمين ، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصية لوارث " رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي ، من حديث عمرو بن خارجة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ورواه أيضا الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسنه الترمذي وابن حجر ، ولا يضعف بأن في إسناده إسماعيل بن عياش ، لما قدمنا مرارا أن روايته عن الشاميين قوية ، وشيخه في حديث أبي أمامة هذا شرحبيل بن مسلم ، وهو شامي ثقة ، وقد صرح في روايته بالتحديث .
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق فيه لين ، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي صححه الترمذي ، من رواية عمرو بن خارجة ، وحسنه الترمذي ، وابن حجر من رواية أبي أمامة : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه " يدل بعمومه على أنه لم يبق في التركة حق لغير من عينت لهم أنصباؤهم في آيات المواريث .
وقد قال بعض أهل هذا القول : المراد بذوي الأرحام العصبة خاصة ، قالوا : ومنه قول العرب : وصلتك رحم ، يعنون قرابة الأب دون قرابة الأم ، ومنه قول قتيلة بن الحارث ، أو بنت النضر بنت الحارث : [ الكامل ]
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق فأطلقت الأرحام على قرابة بني أبيه ، والأظهر على القول بعدم التوريث ، أن المراد بذوي الأرحام القرباء ، الذين بينت حقوقهم بالنص مطلقا . واحتج أيضا من قال : لا يرث ذوو الأرحام ، بما روي عن عطاء بن يسار ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير في ميراث العمة والخالة فأنزل عليه : " لا ميراث لهما " ، أخرجه أبو داود ، في المراسيل والدارقطني ، والبيهقي ، من طريق زيد بن أسلم ، عن عطاء ، مرسلا ، وأخرجه النسائي في [ ص: 107 ] " سننه " ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، من مرسل زيد بن أسلم ، ليس فيه ذكر عطاء ، ورد المخالف هذا بأنه مرسل .
وأجيب بأن مشهور مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد : الاحتجاج بالمرسل ، وبأنه رواه البيهقي ، والحاكم ، والطبراني ، موصولا من حديث أبي سعيد ، وما ذكره البيهقي من وصله من طريقين .
إحداهما : من رواية ضرار بن صرد أبي نعيم .
والثانية : من رواية شريك بن أبي نمر ، عن الحارث بن عبد ، مرفوعا .
وقال محشيه ، صاحب " الجوهر النقي " في ضرار المذكور : إنه متروك ، وعزا ذلك للنسائي ، وعزا تكذيبه ليحيى بن معين .
وقال في ابن أبي نمر : فيه كلام يسير ، وفي الحارث بن عبد : إنه لا يعرفه ، ولا ذكر له إلا عند الحاكم في " المستدرك " في هذا الحديث .
قال مقيده عفا الله عنه : ما ذكره من أن ضرار بن صرد متروك غير صحيح ; لأنه صدوق له بعض أوهام لا توجب تركه .
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق له أوهام وخطأ ، ورمي بالتشيع ، وكان عارفا بالفرائض .
وأما ابن أبي نمر : فهو من رجال البخاري ، ومسلم .
وأما إسناد الحاكم : فقال فيه الشوكاني ، في " نيل الأوطار " : إنه ضعيف وقال في إسناد الطبراني : فيه محمد بن الحارث المخزومي ، قلت : قال فيه ابن حجر في " التقريب " : مقبول ، وقال الشوكاني أيضا ، قالوا : وصله أيضا الطبراني من حديث أبي هريرة .
ويجاب : بأنه ضعفه بمسعدة بن اليسع الباهلي .
قالوا : وصله الحاكم أيضا من حديث ابن عمر ، وصححه .
ويجاب : بأن في إسناده عبد الله بن جعفر المدني ، وهو ضعيف .
قالوا : روى له الحاكم شاهدا من حديث شريك بن عبد الله بن أبي نمر ، عن الحارث بن عبد ، مرفوعا .
[ ص: 108 ] ويجاب : بأن في إسناده سليمان بن داود الشاذكوني ، وهو متروك .
قالوا : أخرجه الدارقطني من وجه آخر عن شريك .
ويجاب : بأنه مرسل . اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذه الطرق الموصولة والمرسلة يشد بعضها بعضا ، فيصلح مجموعها للاحتجاج ، ولا سيما أن منها ما صححه بعض العلماء ، كالطريق التي صححها الحاكم ، وتضعيفها بعبد الله بن جعفر المدني : فيه أنه من رجال مسلم ، وأخرج له البخاري تعليقا ، وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : ليس به بأس . اهـ .
واحتجوا أيضا بما رواه مالك في " الموطأ " ، والبيهقي ، عن محمد بن أبي بكر بن حزم ، عن عبد الرحمن بن حنظلة الزرقي : أنه أخبره عن مولى لقريش كان قديما يقال له ابن موسى ، أنه قال : كنت جالسا عند عمر بن الخطاب ، فلما صلى الظهر ، قال : " يا يرفأ " ، هلم ذلك الكتاب - لكتاب كتبه في شأن العمة - فنسأل عنها ، ونستخبر عنها ، فأتاه به " يرفأ " فدعا بتور أو قدح فيه ماء ، فمحا ذلك الكتاب فيه ، ثم قال : لو رضيك الله أقرك ، لو رضيك الله أقرك .
وقال مالك في " الموطأ " عن محمد بن أبي بكر بن حزم : أنه سمع أباه : كثيرا يقول : كان عمر بن الخطاب يقول : عجبا للعمة ترث ولا تورث ، والجميع فيه مقال ، وقال جماعة من أهل العلم : لا بيان للآية من القرآن ، بل هي باقية على عمومها ، فأوجبوا الميراث لذوي الأرحام .
وضابطهم : أنهم الأقارب الذين لا فرض لهم ولا تعصيب .
وهم أحد عشر حيزا :
1 - أولاد البنات .
2 - وأولاد الأخوات .
3 - وبنات الإخوة .
4 - وأولاد الإخوة من الأم .
5 - والعمات من جميع الجهات .
6 - والعم من الأم .
[ ص: 109 ] 7 - والأخوال .
8 - والخالات .
9 - وبنات الأعمام .
10 - والجد أبو الأم .
11 - وكل جدة أدلت بأب بين أمين ، أو بأب أعلى من الجد .
فهؤلاء ، ومن أدلى لهم يسمون ذوي الأرحام ، وممن قال بتوريثهم إذا لم يوجد وارث بفرض أو تعصيب إلا الزوج والزوجة الإمام أحمد .
ويروى هذا القول ، عن عمر ، وعلي ، وعبد الله ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وأبي الدرداء رضي الله عنهم ، وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز ، وعطاء ، وطاوس ، وعلقمة ، ومسروق ، وأهل الكوفة ، وغيرهم .
نقله ابن قدامة في " المغني " ، واحتجوا بعموم قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ 8 \ 75 ] ، وعموم قوله تعالى : للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية ، ومن السنة بحديث المقدام بن معديكرب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " من ترك مالا فلورثته ، وأنا وارث من لا وارث له ، أعقل عنه ، وأرثه ، والخال وارث من لا وارث له ، يعقل عنه ويرثه " أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، والنسائي وابن ماجه ، وابن حبان ، والحاكم وصححاه ، وحسنه أبو زرعة الرازي ، وأعله البيهقي بالاضطراب ، ونقل عن يحيى بن معين ، أنه كان يقول : ليس فيه حديث قوي ، قاله في " نيل الأوطار " .
واحتجوا أيضا بما رواه أبو أمامة بن سهل ، أن رجلا رمى رجلا بسهم فقتله ، وليس له وارث إلا خال ، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر ، فكتب إليه عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الله ورسوله مولى من لا مولى له ، والخال وارث من لا وارث له " رواه أحمد ، وابن ماجه ، وروى الترمذي المرفوع منه ، وقال : حديث حسن .
قال الشوكاني رحمه الله : وفي الباب عن عائشة عند الترمذي والنسائي ، والدارقطني ، من رواية طاوس ، عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخال وارث من لا وارث له " ، قال الترمذي : حسن غريب ، وأعله النسائي بالاضطراب ، ورجح الدارقطني ، [ ص: 110 ] والبيهقي وقفه .
قال الترمذي : وقد أرسله بعضهم ولم يذكر فيه عائشة .
وقال البزار : أحسن إسناد فيه حديث أبي أمامة بن سهل ، وأخرجه عبد الرزاق عن رجل من أهل المدينة ، والعقيلي وابن عساكر عن أبي الدرداء ، وابن النجار عن أبي هريرة ، كلها مرفوعة . اهـ .
قال الترمذي : وإلى هذا الحديث ذهب أكثر أهل العلم في توريث ذوي الأرحام ، واحتجوا أيضا بما رواه أبو داود ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها : وفيه ابن لهيعة .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلا عندي ، أن الخال يرث من لا وارث له ، دون غيره من ذوي الأرحام ; لثبوت ذلك فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديثين المذكورين دون غيره ; لأن الميراث لا يثبت إلا بدليل ، وعموم الآيتين المذكورتين لا ينهض دليلا ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه " كما تقدم .
فإذا علمت أقوال العلماء ، وحججهم في إرث ذوي الأرحام وعدمه ، فاعلم أن القائلين بالتوريث : اختلفوا في كيفيته ، فذهب المعروفون منهم بأهل التنزيل إلى تنزيل كل واحد منهم منزلة من يدلي به من الورثة ، فيجعل له نصيبه ، فإن بعدوا نزلوا درجة درجة ، إلى أن يصلوا من يدلون به ، فيأخذون ميراثه ، فإن كان واحدا أخذ المال كله ، وإن كانوا جماعة ، قسم المال بين من يدلون به ، فما حصل لكل وارث جعل لمن يدلي به ، فإن بقي من سهام المسألة شيء ، رد عليهم على قدر سهامهم .
وهذا هو مذهب الإمام أحمد ، وهو قول علقمة ، ومسروق ، والشعبي ، والنخعي ، وحماد ، ونعيم ، وشريك ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، وغيرهم ; كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " .
وقال أيضا : قد روي عن علي ، وعبد الله رضي الله عنهما : أنهما نزلا بنت البنت منزلة البنت ، وبنت الأخ منزلة الأخ ، وبنت الأخت منزلة الأخت ، والعمة منزلة الأب ، والخالة منزلة الأم ، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه في العمة ، والخالة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 11:24 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (112)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(1)
صـ 111 إلى صـ 115
وعن علي أيضا : أنه نزل العمة منزلة العم ، وروي ذلك عن علقمة ، ومسروق ، وهي الرواية الثانية عن أحمد ، وعن الثوري وأبي عبيد : أنهما نزلاها منزلة الجد مع ولد [ ص: 111 ] الإخوة والأخوات ، ونزلها آخرون منزلة الجدة .
وإنما صار هذا الخلاف في العمة ; لأنها أدلت بأربع جهات وارثات : فالأب والعم أخواها ، والجد والجدة أبواها ، ونزل قوم الخالة منزلة جدة ; لأن الجدة أمها ، والصحيح من ذلك تنزيل العمة أبا ، والخالة أما . اهـ . من " المغني " .
وذهبت جماعة أخرى ممن قال بالتوريث منهم أبو حنيفة ، وأصحابه إلى أنهم يورثون على ترتيب العصبات ، فقالوا : يقدم أولاد الميت وإن سفلوا ، ثم أولاد أبويه أو أحدهما وإن سفلوا ، ثم أولاد أبوي أبويه وإن سفلوا ، وهكذا أبدا لا يرث بنو أب أعلى وهناك بنو أب أقرب منه ، وإن نزلت درجتهم .
وعن أبي حنيفة : أنه جعل أبا الأم ، وإن علا أولى من ولد البنات ، ويسمى مذهب هؤلاء : مذهب أهل القرابة .
و العلم عند الله تعالى
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ التَّوْبَةِ
اعلم أولا أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا سطر بسم الله الرحمن الرحيم في سورة " براءة " ، هذه في المصاحف العثمانية ، واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة منها على أقوال :
منها : أن البسملة رحمة وأمان و " براءة " نزلت بالسيف ، فليس فيها أمان ، وهذا القول مروي عن علي رضي الله عنه ، وسفيان بن عيينة .
ومنها : أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتابا فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة ، فلما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم ، قرأها ، ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد ، نقل هذا القول بعض أهل العلم ، ولا يخفى ضعفه .
ومنها : أن الصحابة لما اختلفوا : هل " براءة " و " الأنفال " سورة واحدة أو سورتان ، تركوا بينهما فرجة لقول من قال : إنهما سورتان ، وتركوا البسملة لقول من قال : هما سورة واحدة ، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف .
ومنها : أن سورة " براءة " نسخ أولها فسقطت معه البسملة ، وهذا القول رواه ابن وهب ، وابن القاسم ، وابن عبد الحكم ، عن مالك ، كما نقله القرطبي .
وعن ابن عجلان ، وسعيد بن جبير ، أنها كانت تعدل سورة " البقرة " .
وقال القرطبي : والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة ; لأن جبريل لم ينزل بها فيها . قاله القشيري . اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة : أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة ، هو ما قاله عثمان رضي الله عنه لابن عباس .
فقد أخرج النسائي ، والترمذي ، وأبو داود ، والإمام أحمد ، وابن حبان ، في " صحيحه " والحاكم في " المستدرك " وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه : عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي [ ص: 113 ] من المثاني وإلى براءة وهي من المائين فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم [ 1 \ 1 ] ووضعتموهما في السبع الطول فما حملكم على ذلك ؟
فقال عثمان رضي الله عنه : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده ، فيقول : " ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا " ، وتنزل عليه الآيات فيقول : " ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا " ، وكانت " الأنفال " من أوائل ما أنزل بالمدينة ، و " براءة " من آخر ما أنزل من القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها ، فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم [ 1 \ 1 ] ، ووضعتها في السبع الطول . اهـ .
تنبيهان
الأول : يؤخذ من هذا الحديث أن ترتيب آيات القرآن بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو كذلك بلا شك ، كما يفهم منه أيضا : أن ترتيب سوره بتوقيف أيضا ، فيما عدا سورة " براءة " ، وهو أظهر الأقوال ، ودلالة الحديث عليه ظاهرة .
التنبيه الثاني : قال أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى : في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين : ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص ، ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها ، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن ، فما ظنك بسائر الأحكام .
قوله تعالى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم إلى قوله تعالى : أربعة أشهر .
ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين ، وأنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله : في الأرض أربعة أشهر [ 9 \ 2 ] ، لا عهد لكافر .
وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء ، والذي يبينه القرآن ، ويشهد له من تلك الأقوال ، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير الموقتة بوقت معين ، أو من كانت مدة عهده الموقت أقل من أربعة أشهر ، فتكمل له أربعة أشهر ، أما أصحاب العهود الموقتة الباقي من مدتها أكثر من أربعة أشهر ، فإنه يجب لهم إتمام مدتهم ، ودليله المبين له من القرآن ، هو قوله تعالى : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين [ ص: 114 ] [ 9 \ 4 ] ، وهو اختيار ابن جرير ، وروي عن الكلبي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وغير واحد ، قاله ابن كثير ويؤيده حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ، بعثه حين أنزلت " براءة " بأربع : ألا يطوف بالبيت عريان . \ 5 ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا .
ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته .
ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة .
قوله تعالى : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .
قال بعض العلماء : كان ابتداء التأجيل بالأشهر الأربعة المذكورة من شوال ، وآخره سلخ المحرم ، وبه قال الزهري رحمه الله تعالى ولكن القرآن يدل على أن ابتداءها من يوم النحر على الأصح من أنه يوم الحج الأكبر ، أو يوم عرفة على القول بأنه هو يوم الحج الأكبر ، وذلك في قوله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر . وهو صريح في أن ابتداء الإعلام المذكور من يوم الحج الأكبر ، وهو يوم النحر ، ولا يخفى انتهاؤها في العشر من ربيع الثاني .
قال ابن كثير : في تفسير هذه الآية وقال الزهري : كان ابتداء التأجيل من شوال ، وآخره سلخ المحرم ، وهذا القول غريب ، وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها ، وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر ، حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، ولهذا قال تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر .
قوله تعالى : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم .
يفهم من مفهوم مخالفة هذه الآية : أن المشركين إذا نقضوا العهد جاز قتالهم ، ونظير ذلك أيضا قوله تعالى : فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم [ 9 \ 7 ] ، وهذا المفهوم في الآيتين صرح به جل وعلا في قوله : وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون [ 9 \ 12 ] .
قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم الآية .
اختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية .
[ ص: 115 ] فقال ابن جرير : إنها المذكورة في قوله تعالى . منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ 9 \ 36 ] ، قال أبو جعفر الباقر .
ولكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم ، وحكى نحو قوله هذا علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وإليه ذهب الضحاك .
ولكن السياق يدل على أن المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .
قال ابن كثير : في تفسير هذه الآية : والذي يظهر من حيث السياق ، ما ذهب إليه ابن عباس ، في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق ، وقتادة ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أن المراد بها الأشهر الأربعة المنصوص عليها بقوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، ثم قال : فإذا انسلخ الأشهر الحرم [ 9 \ 5 ] ، أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم قتالهم فيها ، وأجلناهم فيها ، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ; لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ، مع أن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى اهـ .
قوله تعالى : وهموا بإخراج الرسول .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن كفار مكة هموا بإخراجه صلى الله عليه وسلم من مكة ، وصرح في مواضع أخر بأنهم أخرجوه بالفعل ، كقوله : يخرجون الرسول وإياكم الآية [ 60 \ 1 ] ، وقوله : وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك [ 47 \ 13 ] ، وقوله : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا الآية [ 9 \ 40 ] ، وذكر في مواضع أخر : محاولتهم لإخراجه قبل أن يخرجوه ، كقوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك [ 8 \ 30 ] ، وقوله : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان الآية .
نهى الله تعالى في هذه الآية الكريمة عن موالاة الكفار ، ولو كانوا قرباء ، وصرح في موضع آخر : بأن الاتصاف بوصف الإيمان مانع من موادة الكفار ولو كانوا قرباء ، وهو قوله : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم الآية [ 58 \ 22 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 11:29 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (113)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(2)
صـ 116 إلى صـ 120
قوله تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين .
[ ص: 116 ] ذكر تعالى ما أصاب المسلمين يوم حنين في هذه الآية الكريمة ، وذكر ما أصابهم يوم أحد بقوله : إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم [ 3 \ 153 ] ، وصرح بأنه تاب على من تولى يوم أحد بقوله : إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم [ 3 \ 155 ] ، وأشار هنا إلى توبته على من تولى يوم حنين بقوله : ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم [ 9 \ 26 ] كما أشار بعض العلماء إليه .
قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله أظهر الأقوال وأقربها للصواب في معنى : يكنزون [ 9 \ 34 ] في هذه الآية الكريمة ، أن المراد بكنزهم الذهب والفضة وعدم إنفاقهم لها في سبيل الله ، أنهم لا يؤدون زكاتهما .
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وأما الكنز ؟ فقال مالك : عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : هو المال الذي لا تؤدى زكاته .
وروى الثوري ، وغيره ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وقد روي هذا عن ابن عباس ، وجابر ، وأبي هريرة ، موقوفا ومرفوعا .
وقال عمر بن الخطاب نحوه : أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه ، وإن كان على وجه الأرض اهـ .
وممن روي عنه هذا القول عكرمة ، والسدي ، ولا شك أن هذا القول أصوب الأقوال ; لأن من أدى الحق الواجب في المال الذي هو الزكاة لا يكوى بالباقي إذا أمسكه ; لأن الزكاة تطهره كما قال تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، ولأن المواريث ما جعلت إلا في أموال تبقى بعد مالكيها .
ومن أصرح الأدلة في ذلك ، حديث طلحة بن عبيد الله وغيره في قصة الأعرابي أخي بني سعد ، من هوازن ، وهو ضمام بن ثعلبة لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم : بأن الله فرض عليه الزكاة ، وقال : هل علي غيرها ، فإن النبي قال له : " لا ، إلا أن تطوع " : وقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو [ 2 \ 219 ] ، وقد قدمنا في " البقرة " تحقيقا أنه ما زاد [ ص: 117 ] على الحاجة التي لا بد منها ، وقوله : " ليس فيما دون خمسة أوسق " الحديث ; لأن صدقة نكرة في سياق النفي فهي تعم نفي كل صدقة .
وفي الآية أقوال أخر :
منها : أنها منسوخة بآيات الزكاة كقوله : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم الآية .
وذكر البخاري هذا القول بالنسخ عن ابن عمر أيضا ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك . اهـ .
وعن علي أنه قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة ، وما كان أكثر من ذلك فهو كنز ، ومذهب أبي ذر رضي الله عنه في هذه الآية معروف ، وهو أنه يحرم على الإنسان أن يدخر شيئا فاضلا عن نفقة عياله . اهـ . ولا يخفى أن ادخار ما أديت حقوقه الواجبة لا بأس به ، وهو كالضروري عند عامة المسلمين .
فإن قيل : ما الجواب عما رواه الإمام أحمد ، عن علي رضي الله عنه ، قال : مات رجل من أهل الصفة ، وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان ، صلوا على صاحبكم " اهـ . وما رواه قتادة عن شهر بن حوشب ، عن أبي أمامة ، صدي بن عجلان ، قال : مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كية " ، ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيتان " ، وما روى عبد الرزاق وغيره ، عن علي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تبا للذهب ، تبا للفضة " يقولها ثلاثا ، فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : فأي مال نتخذ ؟ فقال عمر رضي الله عنه : أنا أعلم لكم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله : إن أصحابك قد شق عليهم ، وقالوا : فأي المال نتخذ ؟ فقال : " لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه " . ونحو ذلك من الأحاديث .
فالجواب - والله تعالى أعلم - أن هذا التغليظ كان أولا ثم نسخ بفرض الزكاة ، كما ذكره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما .
وقال ابن حجر في " فتح الباري " : قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك .
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانع الزكاة ، إلى أن [ ص: 118 ] قال : فكان ذلك واجبا في أول الأمر ، ثم نسخ ، ثم ذكر عن شداد بن أوس أنه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول . اهـ .
وقال بعض العلماء : هي في خصوص أهل الكتاب ، بدليل اقترانها مع قوله : إن كثيرا من الأحبار والرهبان الآية [ 9 \ 34 ] .
فإذا علمت أن التحقيق أن الآية عامة ، وأنها في من لا يؤدي الزكاة ، فاعلم أن المراد بها هو المشار إليه في آيات الزكاة ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أن البيان بالقرآن إذا كان غير واف بالمقصود نتمم البيان من السنة ، من حيث إنها بيان للقرآن المبين به ، وآيات الزكاة كقوله : خذ من أموالهم صدقة الآية ، وقوله : وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] وقوله : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض [ 2 \ 267 ] ، لا تفي بالبيان فتبينه بالسنة ، وقد قال ابن خويز منداد المالكي ، تضمنت هذه الآية : زكاة العين ، وهي تجب بأربعة شروط ، حرية ، وإسلام ، وحول ، ونصاب سليم من الدين . اهـ وفي بعض هذه الشروط خلاف .
مسائل من أحكام هذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : في قدر نصاب الذهب والفضة ، وفي القدر الواجب إخراجه منهما .
أما نصاب الفضة ، فقد أجمع جميع العلماء على أنه مائتا درهم شرعي ، ووزن الدرهم الشرعي ستة دوانق ، وكل عشرة دراهم شرعية فهي سبعة مثاقيل ، والأوقية أربعون درهما شرعيا .
وكل هذا أجمع عليه المسلمون فلا عبرة بقول المريسي ، الذي خرق به الإجماع ، وهو اعتبار العدد في الدراهم لا الوزن ، ولا بما انفرد به السرخسي من الشافعية ، زاعما أنه وجه في المذهب ، من أن الدارهم المغشوشة إذا بلغت قدرا لو ضم إليه قيمة الغش من نحاس مثلا لبلغ نصابا أن الزكاة تجب فيه ، كما نقل عن أبي حنيفة ، ولا بقول ابن حبيب الأندلسي ، إن أهل كل بلد يتعاملون بدراهمهم ، ولا بما ذكره ابن عبد البر من اختلاف الوزن بالنسبة إلى دراهم الأندلس وغيرها من دراهم البلاد ; لأن النصوص الصحيحة [ ص: 119 ] الصريحة التي أجمع عليها المسلمون مبينة أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي بالوزن الذي كان معروفا في مكة . اهـ .
إلى ص 435 وكل سبعة مثاقيل فهي عشرة دراهم ، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس فيما دون خمس أواق صدقة " ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه ، وقد أجمع جميع المسلمين ، وجمهور أهل اللسان العربي ، على أن الأوقية أربعون درهما ، وما ذكره أبو عبيد وغيره - من أن الدرهم كان مجهولا قدره حتى جاء عبد الملك بن مروان ، فجمع العلماء فجعلوا كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل - لا يخفى سقوطه ، وأنه لا يمكن أن يكون نصاب الزكاة وقطع السرقة مجهولا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضي الله عنهم ، حتى يحققه عبد الملك ، والظاهر أن معنى ما نقل من ذلك : أنه لم يكن شيء منها من ضرب الإسلام ، وكانت مختلفة الوزن بالنسبة إلى العدد : فعشرة مثلا وزن عشرة ، وعشرة وزن ثمانية ، فاتفق الرأي على أن تنقش بكتابة عربية ويصيرونها وزنا واحدا .
وقد ذكرنا تحقيق وزن الدرهم في الأنعام ، وقال بعض العلماء : يغتفر في نصاب الفضة النقص اليسير الذي تروج معه الدراهم رواج الكاملة .
وظاهر النصوص أنه لا زكاة إلا في نصاب كامل ; لأن الناقص ولو بقليل يصدق عليه أنه دون خمس أواق ، والنبي صلى الله عليه وسلم : " صرح بأن ما دونها ليس فيه صدقة " .
فإذا حققت النص والإجماع : على أن نصاب الفضة مائتا درهم شرعي ، وهي وزن مائة وأربعين مثقالا من الفضة الخالصة ، فاعلم أن القدر الواجب إخراجه منها ربع العشر بإجماع المسلمين ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " وفي الرقة ربع العشر " والرقة : الفضة .
قال البخاري في صحيحه في باب " زكاة الغنم " : حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني ثمامة بن عبد الله بن أنس ، أن أنسا حدثه ، أن أبا بكر رضي الله عنه ، كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه فريضة الصدقة ، التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين ، والتي أمر الله بها رسوله " الحديث : وفيه ، وفي الرقة : ربع العشر ، وهو نص صريح صحيح [ ص: 120 ] أجمع عليه جميع المسلمين .
فتحصل أنه لا خلاف بين المسلمين في وجوب الزكاة في الفضة ، ولا خلاف بينهم في أن نصابها مائتا درهم شرعي ، ولا خلاف بينهم في أن اللازم فيها ربع العشر .
وجمهور العلماء : على أنها لا وقص فيها خلافا لأبي حنيفة ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وطاوس ، والحسن البصري ، والشعبي ، ومكحول ، وعمرو بن دينار ، والزهري ، القائلين : بأنه لا شيء في الزيادة على المائتين حتى تبلغ أربعين ، ففيها درهم .
وأما الذهب : فجماهير علماء المسلمين ، على أن نصابه عشرون دينارا ، والدينار : هو المثقال ، فلا عبرة بقول من شذ وخالف جماهير علماء المسلمين ، كما روي عن الحسن في أحد قوليه : أن نصاب الذهب أربعون دينارا ، وكقول طاوس ، إن نصاب الذهب معتبر بالتقويم بالفضة ، فما بلغ منه قيمة مائتي درهم وجبت فيه الزكاة ، وجماهير علماء المسلمين أيضا ، على أن الواجب فيه ربع العشر .
والدليل على ما ذكرنا عن جمهور علماء الأمة ، أن نصاب الذهب عشرون دينارا ، والواجب فيه ربع العشر ، ما أخرجه أبو داود ، في سننه ، حدثنا سليمان بن داود المهري ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني جرير بن حازم ، وسمي آخر ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، والحارث الأعور ، عن علي رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " فإذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم ، وليس عليك شيء " يعني في الذهب " حتى يكون لك عشرون دينارا ، فإذا كان لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ، ففيها نصف دينار ، فما زاد فبحساب ذلك " ، قال : فلا أدري أعلي يقول فبحساب ذلك ، أو رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ، إلا أن جريرا قال : ابن وهب ، يزيد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول " اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 11:33 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (114)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(3)
صـ 121 إلى صـ 125
فإن قيل : هذا الحديث مضعف بالحارث الأعور ، وعاصم بن ضمرة ; لأنهما ضعيفان ، وبأن الدارقطني ، قال : الصواب وقفه على علي ، وبأن ابن المواق قال : إن فيه علة خفية وهي : أن جرير بن حازم ، لم يسمعه من أبي إسحاق ، فقد رواه حفاظ أصحاب ابن وهب : سحنون ، وحرملة ، ويونس ، وبحر بن نصر ، وغيرهم ، عن ابن وهب ، عن جرير بن حازم ، والحارث بن نبهان ، عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق ، فذكره ، قال ابن المواق : الحمل فيه على سليمان ، شيخ أبي داود ، فإنه وهم في إسقاط [ ص: 121 ] رجل اهـ .
وبأن الشافعي رحمه الله قال : فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الورق صدقة ، وأخذ المسلمون بعده في الذهب صدقة ، إما بخبر عنه لم يبلغنا ، وإما قياسا ، اهـ : وهو صريح عن الشافعي : بأنه يرى أن الذهب لم يثبت فيه شيء في علمه ، وبأن ابن عبد البر ، قال : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الذهب شيء من جهة نقل الآحاد الثقات .
لكن روى الحسن بن عمارة ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم ، والحارث ، عن علي ، فذكره ، وكذا رواه أبو حنيفة : ولو صح عنه لم يكن فيه حجة ; لأن الحسن بن عمارة متروك .
وبأن ابن حزم قال : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في نصاب الذهب ، ولا في القدر الواجب فيه شيء .
وذكر : أن الحديث المذكور ، من رواية الحارث الأعور مرفوع ، والحارث ضعيف لا يحتج به ، وكذبه غير واحد ، قال : وأما رواية عاصم بن ضمرة ، فهي موقوفة على علي رضي الله عنه ، قال : وكذلك رواه شعبة ، وسفيان ، ومعمر عن أبي إسحاق ، عن عاصم ، موقوفا : وكذا كل ثقة رواه عن عاصم .
فالجواب من أوجه :
الأول : أن بعض العلماء قال : إن هذا الحديث ثابت ، قال الترمذي : وقد روى طرفا من هذا الحديث : وروى هذا الحديث الأعمش ، وأبو عوانة ، وغيرهما ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، ورواه سفيان الثوري ، وابن عيينة ، وغير واحد ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث عن علي ، وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث ، فقال : كلاهما عندي صحيح ، اهـ .
فترى الترمذي نقل عن البخاري ، تصحيح هذا الحديث ، وقال النووي في " شرح المهذب " : وأما حديث عاصم عن علي رضي الله عنه ، فرواه أبو داود وغيره بإسناد حسن ، أو صحيح ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، اهـ .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحديث علي هو من حديث أبي إسحاق ، عن الحارث الأعور ، وعاصم بن ضمرة ، وقد تقدم أن البخاري قال : كلاهما عنده صحيح ، وقد حسنه الحافظ ، اهـ محل الغرض من كلام الشوكاني .
[ ص: 122 ] الوجه الثاني : أنه يعتضد بما رواه الدارقطني ، من حديث محمد بن عبد الله بن جحش ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه أمر معاذا ، حين بعثه إلى اليمن ، أن يأخذ من كل أربعين دينارا دينارا ، الحديث ذكره ابن حجر ، في " التلخيص " وسكت عليه ، وبما رواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " ولا في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء " ، قال النووي : غريب ، اهـ .
الوجه الثالث : المناقشة بحسب صناعة علم الحديث والأصول ، فنقول :
سلمنا أن الحارث الأعور ضعيف كما تقدم في المائدة ، وإن وثقه ابن معين ، فيبقى عاصم بن ضمرة ، الذي روى معه الحديث ، فإن حديثه حجة ، وقد وثقه ابن المديني .
وقال : النسائي : ليس به بأس .
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : عاصم بن ضمرة السلولي الكوفي ، صدوق وتعتضد روايته برواية الحارث ، وإن كان ضعيفا . وبما ذكرنا عن محمد بن عبد الله بن جحش ، وعمرو بن شعيب .
فبهذا تعلم أن تضعيف الحديث بضعف سنده مردود .
وقد قدمنا عن الترمذي ، أن البخاري قال : كلاهما صحيح .
وقد قدمنا أن النووي قال فيه : حسن أو صحيح .
ونقل الشوكاني ، عن ابن حجر : أنه حسنه .
أما ما أعله به ابن المواق ، من أن جرير بن حازم لم يسمعه من أبي إسحاق ; لأن بينهما الحسن بن عمارة وهو متروك ، فهو مردود ; لأن الحديث ثابت من طرق متعددة صحيحة إلى أبي إسحاق ، وقد قدمنا أن الترمذي قال ، وذكر طرفا منه ، هذا الحديث رواه الأعمش ، وأبو عوانة وغيرهما ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة ، عن علي ، ورواه سفيان ، الثوري ، وابن عيينة ، وغير واحد ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي . اهـ .
فترى : أن أبا عوانة ، والأعمش ، والسفيانين ، وغيرهم ، كلهم رووه عن أبي إسحاق .
وبه تعلم بأن إعلال ابن المواق له بأن راويه عن أبي إسحاق الحسن بن عمارة ، وهو متروك - إعلال ساقط ; لصحة الحديث إلى أبي إسحاق ، فإذا حققت رد تضعيفه بأن عاصما صدوق ، ورد إعلال ابن المواق له ، فاعلم أن إعلال ابن حزم له بأن المرفوع رواية [ ص: 123 ] الحارث ، وهو ضعيف : وأن رواية عاصم بن ضمرة ، موقوفة على علي ، مردود من وجهين :
الأول : أن قدر نصاب الزكاة ، وقدر الواجب فيه ، كلاهما أمر توقيفي لا مجال للرأي فيه والاجتهاد ، والموقوف إن كان كذلك فله حكم الرفع ، كما علم في علم الحديث والأصول .
قال العلوي الشنقيطي في " طلعة الأنوار " :
وما أتى عن صاحب مما منع فيه مجال الرأي عندهم رفع وقال العراقي في ألفيته : [ الرجز ]
وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا حكمه الرفع على ما قال في المحصول نحو من أتى فالحاكم الرفع لهذا أثبتا الثاني : أن سند أبي داود الذي رواه به حسن ، أو صحيح ، كما قاله النووي ، وغيره ، والرفع من زيادات العدول ، وهي مقبولة ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]
والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ إلخ . . .
الوجه الرابع : اعتضاد الحديث المذكور بإجماع الحجة من علماء المسلمين إلا من شذ عن السواد الأعظم على العمل بمقتضاه ، وإجماع المسلمين إذا وافق خبر آحاد ، فبعض العلماء يقول : يصير بمواقفة الإجماع له قطعيا كالمتواتر .
وأكثر الأصوليين يقولون : لا يصير قطعيا بذلك .
وفرق قوم ، فقالوا : إن صرحوا بأن معتمدهم في إجماعهم هو ذلك الخبر - أفاد القطع ، وإلا فلا ، وأشار إلى ذلك في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
ولا يفيد القطع ما يوافق الإجماع والبعض بقطع ينطق وبعضهم يفيد حيث عولا عليه . . . . . . إلخ وعلى كل حال ، فلا يخفى أنه يعتضد بعمل المسلمين به .
الخامس : دلالة الكتاب ، والإجماع ، على أن الزكاة واجبة في الذهب .
أما الكتاب : فقوله تعالى : [ ص: 124 ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون [ 9 \ 34 ، 35 ] .
وأما السنة : فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه ، ووجهه ، وظهره ، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ، فيرى سبيله إما إلى الجنة ، وإما إلى النار " ، الحديث . هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وهو صريح في وجوب الحق في الذهب ، كالفضة ، وقد أجمع على ذلك جميع العلماء ، وإذن يكون الحديث المذكور بيانا لشيء ثابت قطعا ، وقد تقرر في الأصول أن البيان يجوز بما هو دون المبين دلالة وسندا ، كما أوضحناه في ترجمة هذا الكتاب .
فتحصل أن نصاب الذهب عشرون مثقالا ، وما زاد فبحسابه ، وأن الواجب فيه ربع العشر ، كالفضة ، وأن الذهب والفضة ليس فيهما وقص ، بل كل ما زاد على النصاب فبحسابه ، خلافا لمن شذ فخالف في بعض ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه يجب اعتبار الوزن في نصاب الفضة والذهب بالوزن الذي كان معروفا عند أهل مكة ، كما يجب اعتبار الكيل في خمسة الأوسق التي هي نصاب الحبوب والثمار بالكيل الذي كان معروفا عند أهل المدينة .
قال النسائي في " سننه " في " كتاب الزكاة " : أخبرنا أحمد بن سليمان ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن حنظلة ، عن طاوس عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المكيال مكيال أهل المدينة ، والوزن وزن أهل مكة " .
وقال أبو داود في " سننه " في " كتاب البيوع " : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا ابن دكين عن حنظلة ، عن طاوس ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوزن وزن أهل مكة ، والمكيال مكيال أهل المدينة " ، وقال النووي في " شرح المهذب " : وأما حديث " الميزان ميزان أهل مكة " إلى آخره فرواه أبو داود ، والنسائي بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم ، من رواية ابن عمر ، رضي الله عنهما .
وقال أبو داود : روي من رواية ابن عباس ، رضي الله عنهما ، اهـ .
[ ص: 125 ] قال الخطابي : معنى هذا الحديث أن الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة وزن أهل مكة ، وهي دار الإسلام ، قال ابن حزم : وبحثت عنه غاية البحث من كل من وثقت بتمييزه : وكل اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنتان وثمانون حبة ، وثلاثة أعشار حبة من حب الشعير المطلق ، والدرهم سبعة أعشار المثقال ، فوزن الدرهم : سبع وخمسون وستة أعشار حبة ، وعشر عشر حبة ، فالرطل مائة وواحد وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور . اهـ .
وفي القاموس في مادة " م ك ك " ، والمثقال : درهم وثلاثة أسباع ، والدرهم : ستة دوانق ، والدانق : قيراطان ، والقيراط : طسوجان ، والطسوج : حبتان ، والحبة : سدس ثمن درهم ، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءا من الدرهم . اهـ .
وقد قدمنا الكلام على قدر خمسة الأوسق في سورة " الأنعام " .
المسألة الثانية : هل يضم الذهب والفضة بعضهما إلى بعض في الزكاة أو لا ؟ لم أر في ذلك نصا صريحا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والعلماء مختلفون فيه ، وقد توقف الإمام أحمد - رحمه الله - عن ضم أحدهما إلى الآخر في رواية الأثرم ، وجماعة ، وقطع في رواية حنبل بأنه لا زكاة عليه حتى يبلغ كل واحد منهما نصابا .
وممن قال بأن الذهب والفضة لا يضم بعضهما إلى بعض : الشافعي ، وأبو ثور ، وأبو عبيد وابن أبي ليلى ، والحسن بن صالح ، وشريك ، قال ابن قدامة : في " المغني " : واختاره أبو بكر عبد العزيز .
وممن قال : إن الذهب والفضة يضم بعضهما إلى بعض في تكميل النصاب : مالك ، والأوزاعي ، والحسن ، وقتادة ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه .
قال مقيده عفا الله عنه : والذي يظهر لي رجحانه بالدليل من القولين أن الذهب والفضة لا يضم أحدهما إلى الآخر لما ثبت في بعض الروايات الصحيحة ، كما رواه مسلم في " صحيحه " عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة " الحديث .
فلو كان عنده أربع أواق من الورق الذي هو : الفضة ، وما يكمل النصاب من الذهب فإنه يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه ليس عنده خمس أواق من الورق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-03-12, 11:37 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (115)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(4)
صـ 126 إلى صـ 130
وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه لا صدقة في أقل من خمس أواق [ ص: 126 ] من الورق ، وظاهر نص الحديث على اسم الورق يدل على أنه : لا زكاة في أقل من خمس أواق من الفضة ، ولو كان عنده ذهب كثير ، ولا دليل من النصوص يصرف عن هذا الظاهر ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اختلف العلماء في زكاة الحلي المباح ، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا زكاة فيه ، وممن قال به : مالك ، والشافعي ، وأحمد في أصح قوليهما ، وبه قال عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وعائشة ، وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعطاء بن أبي رباح ، ومجاهد ، والشعبي ، ومحمد بن علي ، والقاسم بن محمد ، وابن سيرين ، والزهري ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأبو عبيد ، وابن المنذر .
وممن قال بأن الحلي المباح تجب فيه الزكاة : أبو حنيفة رحمه الله ، وروي عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وبه قال ابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وميمون بن مهران ، وجابر بن زيد ، والحسن بن صالح ، وسفيان الثوري ، وداود ، وحكاه ابن المنذر أيضا عن ابن المسيب ، وابن جبير ، وعطاء ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وعبد الله بن شداد ، والزهري .
وسنذكر إن شاء الله تعالى حجج الفريقين ، ومناقشة أدلتهما على الطرق المعروفة في الأصول ، وعلم الحديث ; ليتبين للناظر الراجح من الخلاف .
اعلم أن من قال بأن الحلي المباح لا زكاة فيه ، تنحصر حجته في أربعة أمور :
الأول : حديث جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : آثار صحيحة عن بعض الصحابة يعتضد بها الحديث المذكور .
الثالث : القياس .
الرابع : وضع اللغة .
أما الحديث : فهو ما رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار من طريق عافية بن أيوب ، عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا زكاة في الحلي " .
قال البيهقي : وهذا الحديث لا أصل له ، إنما روي عن جابر من قوله غير مرفوع ، والذي يروى عن عافية بن أيوب ، عن الليث ، عن أبي الزبير ، عن جابر مرفوعا لا أصل له ، وعافية بن أيوب مجهول : فمن احتج به مرفوعا ، كان مغررا بدينه ، داخلا [ ص: 127 ] فيما نعيب به المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين ، والله يعصمنا من أمثال هذا .
قال مقيده عفا الله عنه : ما قاله الحافظ البيهقي - رحمه الله تعالى - من أن الحكم برواية عافية المذكور لهذا الحديث مرفوعا من جنس الاحتجاج برواية الكذابين فيه نظر ; لأن عافية المذكور لم يقل فيه أحد إنه كذاب ، وغاية ما في الباب أن البيهقي ظن أنه مجهول ; لأنه لم يطلع على كونه ثقة ، وقد اطلع غيره على أنه ثقة فوثقه ، فقد نقل ابن أبي حاتم توثيقه ، عن أبي زرعة ، قال ابن حجر في " التلخيص " : عافية بن أيوب ، قيل : ضعيف ، وقال ابن الجوزي : ما نعلم فيه جرحا ، وقال البيهقي ، مجهول ، ونقل ابن أبي حاتم توثيقه عن أبي زرعة .
ولا يخفى أن من قال إنه مجهول يقدم عليه من قال إنه ثقة ; لأنه اطلع على ما لم يطلع عليه مدعي أنه مجهول ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، والتجريح لا يقبل مع الإجمال ، فعافية هذا وثقه أبو زرعة ، والتعديل والتجريح يكفي فيهما واحد على الصحيح في الرواية دون الشهادة ، قال العراقي في ألفيته : [ الرجز ]
وصححوا اكتفاءهم بالواحد جرحا وتعديلا خلاف الشاهد والتعديل يقبل مجملا
بخلاف الجرح للاختلاف في أسبابه
قال العراقي في ألفيته : [ الرجز ]
وصححوا قبول تعديل بلا ذكر لأسباب له أن تثقلا
ولم يروا قبول جرح أبهما للخلف في أسبابه وربما استفسر
الجرح فلم يقدح كما فسره شعبة بالركض فما هذا الذي عليه حفاظ الأثر كشيخي الصحيح مع أهل النظر إلخ . . .
وهذا هو الصحيح ، فلا شك أن قول البيهقي في عافية : إنه مجهول أولى منه بالتقديم قول أبي زرعة : إنه ثقة ; لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وإذا ثبت الاستدلال بالحديث المذكور ، فهو نص في محل النزاع .
ويؤيد ما ذكر من توثيق عافية المذكور أن ابن الجوزي مع سعة اطلاعه ، وشدة بحثه عن الرجال ، قال : إنه لا يعلم فيه جرحا .
وأما الآثار الدالة على ذلك : فمنها ما رواه الإمام مالك في " الموطأ " ، عن [ ص: 128 ] عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه : " أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي ، فلا تخرج من حليهن الزكاة " ، وهذا الإسناد عن عائشة في غاية الصحة ، كما ترى .
ومنها ما رواه مالك في " الموطأ " أيضا ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه كان يحلي بناته وجواريه الذهب ، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة ، وهذا الإسناد عن ابن عمر رضي الله عنهما في غاية الصحة كما ترى .
وما قاله بعض أهل العلم من أن المانع من الزكاة في الأول أنه مال يتيمة ، وأنه لا تجب الزكاة على الصبي ، كما لا تجب عليه الصلاة ، مردود بأن عائشة ترى وجوب الزكاة في أموال اليتامى ، فالمانع من إخراجها الزكاة ، كونه حليا مباحا على التحقيق ، لا كونه مال يتيمة ، وكذلك دعوى أن المانع لابن عمر من زكاة الحلي أنه لجوار مملوكات ، وأن المملوك لا زكاة عليه ، مردود أيضا بأنه كان لا يزكي حلي بناته مع أنه كان يزوج البنت له على ألف دينار يحليها منها بأربعمائة ، ولا يزكي ذلك الحلي ، وتركه لزكاته لكونه حليا مباحا على التحقيق .
ومن الآثار الواردة في ذلك ما رواه الشافعي ، أنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، سمعت رجلا يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي ، فقال " زكاته عاريته " ، ذكره البيهقي في " السنن الكبرى " ، وابن حجر في " التلخيص " وزاد البيهقي ، فقال : وإن كان يبلغ ألف دينار فقال جابر : كثير .
ومنها ما رواه البيهقي عن علي بن سليم قال : سألت أنس بن مالك عن الحلي ، فقال : ليس فيه زكاة .
ومنها ما رواه البيهقي ، عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تحلي بناتها الذهب ولا تزكيه نحوا من خمسين ألفا .
وأما القياس فمن وجهين :
الأول : أن الحلي لما كان لمجرد الاستعمال لا للتجارة والتنمية ، ألحق بغيره من الأحجار النفيسة كاللؤلؤ والمرجان ، بجامع أن كلا معد للاستعمال لا للتنمية ، وقد أشار إلى هذا الإلحاق مالك رحمه الله في " الموطأ " بقوله : فأما التبر والحلي المكسور الذي يريد أهله إصلاحه ولبسه ، فإنما هو بمنزلة المتاع الذي يكون عند أهله ، [ ص: 129 ] فليس على أهله فيه زكاة ، قال مالك : ليس في اللؤلؤ ، ولا في المسك ، والعنبر زكاة .
الثاني من وجهي القياس : هو النوع المعروف بقياس العكس ، وأشار له في " مراقي السعود " بقوله في كتاب الاستدلال : [ الرجز ]
منه قياس المنطقي والعكس ومنه فقد الشرط دون لبس
وخالف بعض العلماء في قبول هذا النوع من القياس ، وضابطه : هو إثبات عكس حكم شيء لشيء آخر لتعاكسهما في العلة ، ومثاله حديث مسلم : أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر ؟ ! قال : " أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ؟ " الحديث ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : أثبت في الجماع المباح أجرا ، وهو حكم عكس حكم الجماع الحرام ; لأن فيه الوزر ; لتعاكسهما في العلة ; لأن علة الأجر في الأول إعفاف امرأته ونفسه ، وعلة الوزر في الثاني كونه زنى .
ومن أمثلة هذا النوع من القياس عند المالكية : احتجاجهم على أن الوضوء لا يجب من كثير القيء ، بأنه لما لم يجب من قليله لم يجب من كثيره عكس البول لما وجب من قليله وجب من كثيره .
ومن أمثلته عند الحنفية ، قولهم : لما لم يجب القصاص من صغير المثقل ، لم يجب من كبيره عكس المحدد لما وجب من صغيره وجب من كبيره .
ووجه هذا النوع من القياس في هذه المسألة التي نحن بصددها ، هو أن العروض لا تجب في عينها الزكاة ، فإذا كانت للتجارة والنماء ، وجبت فيها الزكاة عكس العين ، فإن الزكاة واجبة في عينها ، فإذا صيغت حليا مباحا للاستعمال ، وانقطع عنها قصد التنمية بالتجارة ، صارت لا زكاة فيها ، فتعاكست أحكامها لتعاكسهما في العلة ، ومنع هذا النوع من القياس بعض الشافعية ، وقال ابن محرز : إنه أضعف من قياس الشبه ، ولا يخفى أن القياس يعتضد به ما سبق من الحديث المرفوع ، والآثار الثابتة عن بعض الصحابة ، لما تقرر في الأصول ، من أن موافقة النص للقياس من المرجحات ، وأما وضع اللغة ، فإن بعض العلماء يقول : الألفاظ الواردة في الصحيح في زكاة العين لا تشمل الحلي في لسان العرب .
قال أبو عبيد : الرقة عند العرب : الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس ، ولا تطلقها العرب على المصوغ ، وكذلك قيل في الأوقية .
[ ص: 130 ] قال مقيده عفا الله عنه : ما قاله أبو عبيد هو المعروف في كلام العرب ، قال الجوهري في " صحاحه " : الورق الدراهم المضروبة ، وكذلك الرقة ، والهاء عوض عن الواو ، وفي " القاموس " : الورق - مثلثة - وككتف : الدراهم المضروبة ، وجمعه أوراق ووراق كالرقة .
هذا هو حاصل حجة من قال : لا زكاة في الحلي .
وما ادعاه بعض أهل العلم من الاحتجاج لذلك بعمل أهل المدينة ، فيه أن بعض أهل المدينة مخالف في ذلك ، والحجة بعمل أهل المدينة عند من يقول بذلك - مالك - إنما هي في إجماعهم على أمر لا مجال للرأي فيه ، لا إن اختلفوا ، أو كان من مسائل الاجتهاد ، كما أشار له في " مراقي السعود " ، بقوله : [ الرجز ]
وأوجبن حجية للمدني فيما على التوقيف أمره بني
وقيل : مطلقا . . إلخ .
لأن مراده بالمدني : الإجماع المدني الواقع من الصحابة أو التابعين ، لا ما اختلفوا فيه كهذه المسألة ، وقيده بما بني على التوقيف دون مسائل الاجتهاد في القول الصحيح .
وأما حجة القائلين بأن الحلي تجب فيه الزكاة : فهي منحصرة في أربعة أمور أيضا :
الأول : أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوجب الزكاة في الحلي .
الثاني : آثار وردت بذلك عن بعض الصحابة .
الثالث : وضع اللغة .
الرابع : القياس .
أما الأحاديث الواردة بذلك ، فمنها ما رواه أبو داود في " سننه " ، حدثنا أبو كامل ، وحميد بن مسعدة " المعنى " أن خالد بن الحارث حدثهم : ثنا حسين ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : " أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، فقال لها : " أتعطين زكاة هذا ؟ " قالت : لا ، قال : " أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار ؟ ! " قال : فخلعتهما ، فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : هما لله عز وجل ولرسوله " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-04-08, 05:42 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (116)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(5)
صـ 131 إلى صـ 135
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت حسينا ، قال : حدثني عمرو بن شعيب ، قال : جاءت امرأة ، ومعها بنت لها ، وفي يد ابنتها مسكتان ، نحوه ، مرسل . قال أبو عبد الرحمن : خالد أثبت من المعتمر . اهـ .
وهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود ، والنسائي من طريق حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب أقل درجاته الحسن ، وبه تعلم أن قول الترمذي رحمه الله : لا يصح في الباب شيء غير صحيح ; لأنه لم يعلم برواية حسين المعلم له عن عمرو بن شعيب ، بل جزم بأنه لم يرو عن عمرو بن شعيب إلا من طريق ابن لهيعة ، والمثنى بن الصباح ، وقد تابعهما حجاج بن أرطاة والجميع ضعاف .
ومنها ما رواه أبو داود أيضا ، حدثنا محمد بن عيسى ، ثنا عتاب يعني ابن بشير ، عن ثابت بن عجلان ، عن عطاء ، عن أم سلمة ، قالت : كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال : " ما بلغ أن تؤدي زكاته ، فزكي فليس بكنز " ، وأخرج نحوه الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي . اهـ .
ومنها ما رواه أبو داود أيضا ، حدثنا محمد بن إدريس الرازي ، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق ، ثنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن أبي جعفر : أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال : دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق ، فقال : " ما هذا يا عائشة ؟ ! " ، فقلت : صنعتهن أتزين لك يا رسول الله ، قال : " أتؤدين زكاتهن ؟ " قلت : لا ، أو ما شاء الله ، قال : " هو حسبك من النار " .
حدثنا صفوان بن صالح ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا سفيان ، عن عمر بن يعلى ، فذكر الحديث نحو حديث الخاتم ، قيل لسفيان : كيف تزكيه ؟ قال : تضمه إلى غيره . اهـ .
وحديث عائشة هذا أخرج نحوه أيضا الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي . اهـ .
وأخرج الدارقطني ، عن عائشة ، من طريق عمرو بن شعيب ، عن عروة عنها ، قالت : لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته . اهـ .
[ ص: 132 ] قال البيهقي رحمه الله :
وقد انضم إلى حديث عمرو بن شعيب حديث أم سلمة ، وحديث عائشة ، وساقهما .
ومنها ما رواه الإمام أحمد ، عن أسماء بنت يزيد بلفظ : قالت : " دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلينا أساور من ذهب فقال لنا : " أتعطيان زكاته ؟ " ، فقلنا : لا ، قال : " أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار ؟ ! أديا زكاته " . اهـ .
وروى الدارقطني نحوه من حديث فاطمة بنت قيس ، وفي سنده أبو بكر الهذلي ، وهو متروك ، اهـ . قاله ابن حجر في " التلخيص " .
وأما الآثار : فمنها ما رواه ابن أبي شيبة ، والبيهقي من طريق شعيب بن يسار قال : كتب عمر إلى أبي موسى : أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهن . اهـ .
قال البيهقي : هذا مرسل ، شعيب بن يسار لم يدرك عمر . اهـ .
وقال ابن حجر في " التلخيص " : وهو مرسل ، قاله البخاري ، وقد أنكر الحسن ذلك فيما رواه ابن أبي شيبة قال : لا نعلم أحدا من الخلفاء قال : " في الحلي زكاة " .
ومنها ما رواه الطبراني ، والبيهقي ، عن ابن مسعود : أن امرأته سألته ، عن حلي لها ، فقال : إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة ، قالت : أضعها في بني أخ لي في حجري ؟ قال : نعم .
قال البيهقي : وقد روي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بشيء ، وقال : قال البخاري : مرسل ، ورواه الدارقطني من حديث ابن مسعود مرفوعا ، وقال : هذا وهم والصواب موقوف . قاله ابن حجر في " التلخيص " .
ومنها ما رواه البيهقي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنه كان يكتب إلى خازنه سالم ، أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة ، وما روي من ذلك عن ابن عباس ، قال الشافعي : لا أدري أيثبت عنه أم لا ؟ وحكاه ابن المنذر ، والبيهقي ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، وغيرهما . قاله في " التلخيص " أيضا .
وأما القياس : فإنهم قاسوا الحلي على المسكوك والمسبوك بجامع أن الجميع نقد .
وأما وضع اللغة : فزعموا أن لفظ الرقة ، ولفظ الأوقية الثابت في الصحيح يشمل [ ص: 133 ] المصوغ كما يشمل المسكوك ، وقد قدمنا أن التحقيق خلافه .
فإذا علمت حجج الفريقين ، فسنذكر لك ما يمكن أن يرجع به كل واحد منهما .
أما القول بوجوب زكاة الحلي ، فله مرجحات :
منها : أن من رواه من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ، كما قدمنا روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعائشة ، وأم سلمة ، وأسماء بنت يزيد ، رضي الله عنهم .
أما القول بعدم وجوب الزكاة فيه ، فلم يرو مرفوعا إلا من حديث جابر ، كما تقدم .
وكثرة الرواة من المرجحات على التحقيق ، كما قدمنا في سورة " البقرة " في الكلام على آية الربا .
ومنها : أن أحاديثه كحديث عمرو بن شعيب ، ومن ذكر معه أقوى سندا من حديث سقوط الزكاة الذي رواه عافية بن أيوب .
ومنها : أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة ; للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار المدلول : [ الرجز ]
وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة . . . إلخ .
ومعنى قوله : "
ثم هذا الآخر على إباحة " أن ما دل على الأمر مقدم على ما دل على الإباحة كما ذكرنا .
ومنها : دلالة النصوص الصريحة على وجوب الزكاة في أصل الفضة ، والذهب ، وهي دليل على أن الحلي من نوع ما وجبت الزكاة في عينه ، هذا حاصل ما يمكن أن يرجح به هذا القول .
وأما القول بعدم وجوب الزكاة في الحلي المباح ، فيرجح بأن الأحاديث الواردة في التحريم إنما كانت في الزمن الذي كان فيه التحلي بالذهب محرما على النساء ، والحلي المحرم تجب فيه الزكاة اتفاقا .
وأما أدلة عدم الزكاة فيه ، فبعد أن صار التحلي بالذهب مباحا .
والتحقيق : أن التحلي بالذهب كان في أول الأمر محرما على النساء ، ثم أبيح ، كما يدل له ما ساقه البيهقي من أدلة تحريمه أولا وتحليله ثانيا ، وبهذا يحصل الجمع بين [ ص: 134 ] الأدلة ، والجمع واجب إن أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " : [ الرجز ]
والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا
ووجهه ظاهر ; لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ومعلوم أن الجمع إذا أمكن أولى من جميع الترجيحات .
فإن قيل : هذا الجمع يقدح فيه حديث عائشة المتقدم ، فإن فيه " فرأى في يدي فتخات من ورق " الحديث .
والورق : الفضة ، والفضة لم يسبق لها تحريم ، فالتحلي بها لم يمتنع يوما ما .
فالجواب ما قاله الحافظ البيهقي - رحمه الله تعالى - قال : من قال : لا زكاة في الحلي ، زعم أن الأحاديث والآثار الواردة في وجوب زكاته كانت حين كان التحلي بالذهب حراما على النساء ، فلما أبيح لهن سقطت زكاته .
قال : وكيف يصح هذا القول مع حديث عائشة ، إن كان ذكر الورق فيه محفوظا ، غير أن رواية القاسم ، وابن أبي مليكة ، عن عائشة في تركها إخراج زكاة الحلي مع ما ثبت من مذهبها من إخراج زكاة أموال اليتامى - يوقع ريبة في هذه الرواية المرفوعة ، فهي لا تخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه ، إلا فيما علمته منسوخا . اهـ .
وقد قدمنا في سورة " البقرة " الكلام على مخالفة الصحابي لما روي في آية الطلاق ، وبالجملة فلا يخفى أنه يبعد أن تعلم عائشة أن عدم زكاة الحلي فيه الوعيد من النبي لها بأنه حسبها من النار ، ثم تترك إخراجها بعد ذلك عمن في حجرها ، مع أنها معروف عنها القول بوجوب الزكاة في أموال اليتامى .
ومن أجوبة أهل هذا القول : أن المراد بزكاة الحلي عاريته ، ورواه البيهقي ، عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، في إحدى الروايتين عنه .
هذا حاصل الكلام في هذه المسألة .
وأقوى الوجوه بحسب المقرر في الأصول وعلم الحديث : الجمع إذا أمكن ، وقد أمكن هنا .
قال مقيده عفا الله عنه : وإخراج زكاة الحلي أحوط ; لأن " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " - " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 135 ] المسألة الرابعة : اعلم أن جماهير علماء المسلمين من الصحابة ومن بعدهم على وجوب الزكاة في عروض التجارة ، فتقوم عند الحول ، ويخرج ربع عشرها كزكاة العين ، قال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة ، قال : رويناه عن عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وابن عباس ، والفقهاء السبعة : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وخارجة بن زيد ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسليمان بن يسار ، والحسن البصري ، وطاوس ، وجابر بن زيد ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، والنعمان ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي عبيد ، اهـ ، بواسطة نقل النووي في " شرح المهذب " ، وابن قدامة في " المغني " ، ولمالك - رحمه الله - تفصيل في عروض التجارة ; لأن عروض التجارة عنده تنقسم إلى عرض تاجر مدير ، وعرض تاجر محتكر ، فالمدير هو الذي يبيع ويشتري دائما ، والمحتكر هو الذي يشتري السلع ويتربص بها حتى يرتفع سعرها فيبيعها ، وإن لم يرتفع سعرها لم يبعها ولو مكثت سنين .
فعروض المدير عنده وديونه التي يطالب بها الناس إن كانت مرجوة يزكيها عند كل حول ، والدين الحال يزكيه بالعدد ، والمؤجل بالقيمة .
أما عرض المحتكر فلا يقوم عنده ولا زكاة فيه حتى يباع بعين فيزكي العين على حول أصل العرض ، وإلى هذا أشار ابن عاشر ، في " المرشد المعين " بقوله : [ الرجز ]
والعرض ذو التجر ودين من أدار قيمتها كالعين ثم ذو احتكار زكى لقبض ثمن أو دين
عينا بشرط الحول للأصلين زاد مالك في مشهور مذهبه شرطا ، وهو أنه يشترط في وجوب تقويم عروض المدير أن يصل يده شيء ناض من ذات الذهب أو الفضة ، ولو كان ربع درهم أو أقل ، وخالفه ابن حبيب من أهل مذهبه ، فوافق الجمهور في عدم اشتراط ذلك .
ولا يخفى أن مذهب الجمهور هو الظاهر ، ولم نعلم بأحد من أهل العلم خالف في وجوب زكاة عروض التجارة ، إلا ما يروى عن داود الظاهري ، وبعض أتباعه .
ودليل الجمهور آية ، وأحاديث ، وآثار وردت بذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يعلم أن أحدا منهم خالف في ذلك ، فهو إجماع سكوتي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-04-08, 05:58 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (117)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(6)
صـ 136 إلى صـ 140
فمن الأحاديث الدالة على ذلك : ما رواه أبو ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه [ ص: 136 ] قال : " في الإبل صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البز صدقته " الحديث . أخرجه الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي .
وقال النووي في " شرح المهذب " : هذا الحديث رواه الدارقطني ، في " سننه " ، والحاكم أبو عبد الله في " المستدرك " ، والبيهقي ، بأسانيدهم ، ذكره الحاكم بإسنادين ، ثم قال : هذان الإسنادان صحيحان على شرط البخاري ، ومسلم ، اهـ .
ثم قال : قوله : " وفي البز صدقته " ، هو بفتح الباء وبالزاي ، هكذا رواه جميع الرواة ، وصرح بالزاي الدارقطني ، والبيهقي ، وقال ابن حجر في " التلخيص " : حديث أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " في الإبل صدقتها وفي البز صدقته " ، أخرجه الدارقطني ، عن أبي ذر من طريقين ، وقال في آخره : " وفي البز صدقته " ، قالها بالزاي ، وإسناده غير صحيح ، مداره على موسى بن عبيدة الربذي ، وله عنده طريق ثالث من رواية ابن جريج ، عن عمران بن أبي أنس ، عن مالك بن أوس ، عن أبي ذر وهو معلول ; لأن ابن جريج ، رواه عن عمران : أنه بلغه عنه ، ورواه الترمذي في العلل من هذا الوجه ، وقال : سألت البخاري عنه فقال : لم يسمعه ابن جريج من عمران ، وله طريقة رابعة ، رواه الدارقطني أيضا ، والحاكم ، من طريق سعيد بن سلمة بن أبي الحسام ، عن عمران ، ولفظه : " في الإبل صدقتها ، وفي الغنم صدقتها ، وفي البقر صدقتها ، وفي البز صدقته ، ومن رفع دراهم أو دنانير لا يعدها لغريم ، ولا ينفقها في سبيل الله ، فهو كنز يكوى به يوم القيامة ، وهذا إسناد لا بأس به ، اهـ .
فترى ابن حجر قال : إن هذا الإسناد لا بأس به مع ما قدمنا عن الحاكم من صحة الإسنادين المذكورين ، وتصحيح النووي لذلك والذي رأيته في سنن البيهقي : أن سعيد بن سلمة بن أبي الحسام يروي الحديث عن موسى المذكور ، عن عمران ، لا عن عمران مباشرة فانظره .
فإن قيل : قال ابن دقيق العيد : الذي رأيته في نسخة من " المستدرك " في هذا الحديث : " البر " بضم الموحدة وبالراء المهملة ، ورواية الدارقطني التي صرح فيها بالزاي في لفظة البز في الحديث ضعيفة ، وإذن فلا دليل في الحديث على تقرير صحته على وجوب زكاة عروض التجارة .
فالجواب هو ما قدمنا عن النووي ، من أن جميع رواته رووه بالزاي ، وصرح بأنه بالزاي البيهقي ، والدارقطني ، كما تقدم .
[ ص: 137 ] ومن الأحاديث الدالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة ما أخرجه أبو داود في " سننه " عن سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه ، قال : " أما بعد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعد للبيع " ، وهذا الحديث سكت عليه أبو داود رحمه الله ، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج عنده . وقد قال ابن حجر في " التلخيص " في هذا الحديث : رواه أبو داود ، والدارقطني ، والبزار ، من حديث سليمان بن سمرة عن أبيه وفي إسناده جهالة ، اهـ .
قال مقيده ، عفا الله عنه : في إسناد هذا الحديث عند أبي داود حبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب ، وهو مجهول ، وفيه جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، وهو ليس بالقوي ، وفيه سليمان بن موسى الزهري أبو داود ، وفيه لين ، ولكنه يعتضد بما قدمنا من حديث أبي ذر ، ويعتضد أيضا بما ثبت عن أبي عمرو بن حماس ، أن أباه حماسا قال : مررت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعلى عنقي أدم أحملها ، فقال : ألا تؤدي زكاتك يا حماس ؟ فقال : ما لي غير هذا ، وأهب في القرظ قال : ذلك مال فضع ، فوضعها بين يديه ، فحسبها فوجدت قد وجبت فيها الزكاة فأخذ منها الزكاة ، قال ابن حجر في " التلخيص " في هذا الأثر : رواه الشافعي ، عن سفيان ، حدثنا يحيى ، عن عبد الله بن أبي سلمة ، عن أبي عمرو بن حماس أن أباه قال : مررت بعمر بن الخطاب ، فذكره ، ورواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، عن يحيى بن سعيد به ، ورواه الدارقطني ، من حديث حماد بن زيد ، عن يحيى بن سعيد ، عن أبي عمرو بن حماس ، عن أبيه ، نحوه ، ورواه الشافعي أيضا عن سفيان ، عن ابن عجلان ، عن أبي الزناد ، عن أبي عمرو بن حماس ، عن أبيه ، اهـ .
وحماس بكسر الحاء وتخفيف الميم وآخره سين مهملة ، فقد رأيت ثبوت أخذ الزكاة من عروض التجارة عن عمر ، ولم يعلم له مخالف من الصحابة ، وهذا النوع يسمى إجماعا سكوتيا ، وهو حجة عند أكثر العلماء ، ويؤيده أيضا ما رواه البيهقي عن ابن عمر : " أخبرنا أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن عمر بن قتادة ، من كتابه أنبأ أبو الحسن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدة ، حدثنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي ، حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا حفص بن غياث ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة . اهـ .
[ ص: 138 ] قال : وهذا قول عامة أهل العلم ، فالذي روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : لا زكاة في العرض ، قال فيه الشافعي في كتاب القديم : إسناد الحديث عن ابن عباس ضعيف ، فكان اتباع حديث ابن عمر لصحته ، والاحتياط في الزكاة أحب إلي ، والله أعلم ، قال : وقد حكى ابن المنذر ، عن عائشة ، وابن عباس مثل ما روينا عن ابن عمر ، ولم يحك خلافهم عن أحد فيحتمل أن يكون معنى قوله - إن صح - لا زكاة في العرض إذا لم يرد به التجارة " اهـ من سنن البيهقي ، ويؤيده ما رواه مالك في " الموطإ " ، عن يحيى بن سعيد ، عن زريق بن حيان ، وكان زريق على جواز مصر في زمان الوليد بن عبد الملك ، وسليمان ، وعمر بن عبد العزيز ، فذكر أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه أن انظر من يمر بك من المسلمين ، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون من التجارات من كل أربعين دينارا دينارا ، فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرين دينارا فإن نقصت ثلث دينار فدعها ، ولا تأخذ منها شيئا .
وأما الآية : فهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم [ 2 \ 267 ] ، على ما فسرها به مجاهد رحمه الله تعالى ، قال البيهقي في " سننه " باب : " زكاة التجارة " قال الله تعالى وجل ثناؤه : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم الآية ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، وأبو بكر بن الحسن القاضي ، وأبو سعيد بن أبي عمرو ، قالوا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا الحسن بن علي بن عفان ، ثنا يحيى بن آدم ، ثنا ورقاء ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، قال : التجارة ، ومما أخرجنا لكم من الأرض ، قال : النخل ، وقال البخاري في " صحيحه " ، " باب صدقة الكسب والتجارة " لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، إلى قوله : أن الله غني حميد ، قال ابن حجر في " الفتح " : هكذا أورد هذه الترجمة مقتصرا على الآية بغير حديث .
وكأنه أشار إلى ما رواه شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد في هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ، قال : من التجارة الحلال ، أخرجه الطبري ، وابن أبي حاتم من طريق آدم عنه ، وأخرجه الطبري من طريق هشيم ، عن شعبة ، ولفظه : من طيبات ما كسبتم قال : من التجارة ومما أخرجنا لكم من الأرض ، قال : [ ص: 139 ] من الثمار .
ولا شك أن ما ذكره مجاهد داخل في عموم الآية ، فتحصل أن جميع ما ذكرناه من طرق حديث أبي ذر ، وحديث سمرة بن جندب المرفوعين وما صح من أخذ عمر زكاة الجلود من حماس ، وما روي عن أبي عمر ، وعمر بن عبد العزيز ، وظاهر عموم الآية الكريمة ، وما فسرها به مجاهد ، وإجماع عامة أهل العلم إلا من شذ عن السواد الأعظم - يكفي في الدلالة على وجوب الزكاة في عروض التجارة ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة : في زكاة الدين ، وهل الدين مسقط للزكاة عن المدين أو لا ؟ !
اختلف العلماء في ذلك ، ومذهب مالك - رحمه الله - أن الدين الذي للإنسان على غيره يجري مجرى عروض التجارة في الفرق بين المدير وبين المحتكر ، وقد أوضحنا ذلك في المسألة التي قبل هذا .
ومذهبه رحمه الله : أن الدين مانع من الزكاة في العين وعروض التجارة إن لم يفضل عن وفائه قدر ما تجب فيه الزكاة ، قال في " موطئه " : الأمر المجتمع عليه عندنا أن الرجل يكون عليه دين وعنده من العروض ما فيه وفاء لما عليه من الدين ، ويكون عنده من الناض سوى ذلك ما تجب فيه الزكاة فإنه يزكي ما بيده من ناض تجب فيه الزكاة ، وإن لم يكن عنده من العروض والنقد إلا وفاء دينه فلا زكاة عليه ، حتى يكون عنده من الناض فضل عن دينه ما تجب فيه الزكاة ، فعليه أن يزكيه .
وأما الماشية ، والزروع ، والثمار ، فلا يسقط الدين وجوب زكاتها عنده . ومذهب الإمام الشافعي رحمه الله أن الدين إذا كان حالا على موسر مقر ، أو منكر وعليه بينة ، فزكاته واجبة إن كان عينا أو عرض تجارة ، وهذا قوله الجديد ، وأما القديم : فهو أن الزكاة لا تجب في الدين بحال .
أما إن كان الغريم معسرا ، أو جاحدا ولا بينة ، أو مماطلا ، أو غائبا ، فهو عنده كالمغصوب ، وفي وجوب الزكاة فيه خلاف ، والصحيح الوجوب ، ولكن لا تؤخذ منه بالفعل إلا بعد حصوله في اليد .
وإن كان الدين مؤجلا ففيه وجهان :
أحدهما لأبي إسحاق : أنه كالدين الحال على فقير أو على جاحد . فيكون على الخلاف الذي ذكرناه آنفا .
[ ص: 140 ] والثاني : لأبي علي بن أبي هريرة : لا تجب فيه الزكاة ، فإذا قبضه استقبل به الحول ، والأول أصح ، قاله صاحب المهذب .
أما إذا كان الدين ماشية ، كأربعين من الغنم ، أو غير لازم كدين الكتابة ، فلا تجب فيه الزكاة اتفاقا عندهم ، وإن كان عليه دين مستغرق ، أو لم يبق بعده كمال النصاب فقال الشافعي في " القديم " : يسقط الدين المستغرق ، أو الذي ينقص به المال عن النصاب وجوب الزكاة ; لأن الملك فيه غير مستقر ; لأنه ربما أخذه الحاكم لحق الغرماء ، وقال في " الجديد " : تجب الزكاة ولا يسقطها الدين لاختلاف جهتهما ; لأن الزكاة تتعلق بعين المال والدين يتعلق بالذمة ، وإن حجر عليه ففيه خلاف كثير .
أصحه عند الشافعية : أنه يجري على حكم زكاة المغصوب ، وقد قدمنا حكمه ، وللشافعية قول ثالث ، وهو أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة ، وعروض التجارة ، ولا يمنعها في الظاهرة وهي الزروع ، والثمار ، والمواشي ، والمعادن .
والفرق أن الأموال الظاهرة نامية بنفسها بخلاف الباطنة ، وهذا هو مذهب مالك كما تقدم ، ودين الآدمي ، ودين الله عندهم سواء في منع وجوب الزكاة ، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله : أن من كان له دين على مليء مقر به غير مماطل ، فليس عليه إخراج زكاته حتى يقبضه ، فإن قبضه أدى زكاته فيما مضى من السنين .
وروي نحوه عن علي رضي الله عنه ، وبه قال الثوري ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وقال : عثمان ، وابن عمر ، وجابر ، رضي الله عنهم ، وطاوس ، والنخعي ، وجابر بن زيد ، والحسن ، وميمون بن مهران ، والزهري ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان ، وإسحاق ، وأبو عبيد : عليه إخراج زكاته في الحال ; لأنه قادر على قبضه .
وقد قدمنا أنه قول مالك ، والشافعي ، فإن كان الدين على معسر ، أو جاحد ، أو مماطل ، فروايتان :
إحداهما : لا تجب فيه الزكاة ، وهو قول قتادة ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأهل العراق ; لأنه غير مقدور على الانتفاع به .
والثانية : يزكيه إذا قبضه لما مضى ، وهو قول الثوري ، وأبي عبيد ، وعن عمر بن عبد العزيز ، والحسن ، والليث ، والأوزاعي : يزكيه إذا قبضه لعام واحد ، وهذا هو قول مالك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-04-08, 08:25 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (118)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(7)
صـ 141 إلى صـ 145
[ ص: 141 ] ومذهب أحمد رحمه الله : أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة ، التي هي الذهب والفضة ، وعروض التجارة ، وهذا لا خلاف فيه عنه ، وهو قول عطاء ، وسليمان بن يسار ، وميمون بن مهران ، والحسن ، والنخعي ، والليث ، والثوري ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، وقد قدمنا نحوه عن مالك رحمه الله .
وقال ربيعة ، وحماد بن أبي سليمان : لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الباطنة ، وقد قدمناه عن الشافعي ، في جديد قوليه .
وأما الأموال الظاهرة ، وهي السائمة ، والثمار ، والحبوب ، فقد اختلفت فيها الرواية ، عن أحمد رحمه الله ، فروي عنه أن الدين يمنع الزكاة فيها أيضا كالأموال الباطنة ، وعنه في رواية إسحاق بن إبراهيم : يبتدئ بالدين فيقضيه ، ثم ينظر ما بقي عنده بعد إخراج النفقة ، فيزكي ما بقي .
ولا يكون على أحد دينه أكثر من ماله صدقة في إبل ، أو بقر ، أو غنم ، أو زرع ، ولا زكاة ، وبهذا قال عطاء ، والحسن ، وسليمان ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، والثوري ، والليث ، وإسحاق .
وروي أن الدين لا يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة ، وبه قال الأوزاعي ، وقد قدمناه عن الشافعي في " الجديد " وهو قول مالك .
إذا عرفت أقوال العلماء في زكاة الدين ، وهل هو مانع من الزكاة ، فاعلم أن اختلافهم في الدين ، هل يزكى قبل القبض ، وهل إذا لم يزكه قبل القبض يكفي زكاة سنة واحدة ؟ ! أو لا بد من زكاته لما مضى من السنين ؟ !
الظاهر فيه أنه من الاختلاف في تحقيق المناط ، هل القدرة على التحصيل كالحصول بالفعل ، أو لا ؟ ! ولا نعلم في زكاة الدين نصا من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا كون الدين مانعا من وجوب الزكاة على المدين إن كان يستغرق ، أو ينقص النصاب ، إلا آثارا وردت عن بعض السلف .
منها ما رواه مالك في " الموطإ " عن ابن شهاب ، عن السائب بن يزيد ، عن عثمان بن عفان : أنه كان يقول : هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤد دينه ، حتى تحصل أموالكم فتؤدون منه الزكاة .
ومنها ما رواه مالك في " الموطإ " أيضا عن أيوب بن أبي ثميمة السختياني ، عن [ ص: 142 ] عمر بن عبد العزيز : أنه كتب في مال قبضه بعض الولاة ظلما ، يأمر برده إلى أهله ، ويؤخذ زكاته لما مضى من السنين ، ثم عقب بعد ذلك بكتاب ألا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة ، فإنه كان ضمارا . اهـ . وهو بكسر الضاد ، أي : غائبا عن ربه لا يقدر على أخذه ولا يعرف موضعه .
المسألة السادسة : في زكاة المعادن والركاز .
اعلم أن العلماء أجمعوا على وجوب إخراج حق شرعي من المعادن في الجملة ، لكن وقع بينهم الاختلاف في بعض الصور لذلك ، فقال قوم : لا يجب في شيء من المعادن الزكاة ، إلا الذهب والفضة خاصة ، فإذا أخرج من المعدن عشرين مثقالا من الذهب ، أو مائتي درهم من الفضة ، وجب عليه إخراج ربع العشر من ذلك من حين إخراجه ، ولا يستقبل به حولا .
وممن قال بهذا : مالك ، والشافعي ، ومذهب الإمام أحمد كمذهبهما . إلا أنه يوجب الزكاة في جميع المعادن من ذهب ، وفضة ، وزئبق ، ورصاص ، وصفر ، وحديد ، وياقوت ، وزبرجد ، ولؤلؤ ، وعقيق ، وسبج ، وكحل ، وزجاج ، وزرنيخ ، ومغرة ، ونحو ذلك ، وكذلك المعادن الجارية ، كالقار ، والنفط ، ونحوهما ، ويقوم بمائتي درهم ، أو عشرين مثقالا ، ما عدا الذهب والفضة ، فجميع المعادن عنده تزكى ، واللازم فيها ربع العشر .
وذهب أبو حنيفة رحمه الله ، إلى أن المعدن من جملة الركاز ، ففيه عنده الخمس ، وهو عنده الذهب والفضة ، وما ينطبع كالحديد والصفر والرصاص في أشهر الروايتين ، ولا يشترط عنده النصاب في المعدن والركاز .
وممن قال بلزوم العشر في المعدن : عمر بن عبد العزيز ، وحجة من قال بوجوب الزكاة في جميع المعادن ، عموم قوله تعالى ومما أخرجنا لكم من الأرض .
وحجة من قال بوجوبها في معدن الذهب والفضة فقط : أن الأصل عدم وجوب الزكاة ، فلم تجب في غير الذهب والفضة للنص عليهما دون غيرهما ، واحتجوا أيضا بحديث : " لا زكاة في حجر " ، وهو حديث ضعيف ، قال فيه ابن حجر في " التلخيص " رواه ابن عدي ، من حديث عمر بن أبي عمر الكلاعي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، ورواه البيهقي ، من طريقه ، وتابعه عثمان الوقاصي ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي ، كلاهما عن عمرو بن شعيب ، وهما متروكان . اهـ . وعمر بن أبي عمر الكلاعي ضعيف ، من [ ص: 143 ] شيوخ بقية المجهولين ، قاله في " التقريب " واحتج لوجوب الزكاة في المعدن بما رواه مالك في " الموطإ " عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن غير واحد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قطع لبلال بن الحارث المزني معادن القبلية ، وهي من ناحية الفرع . فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلى اليوم إلا الزكاة . وقال ابن حجر في " التلخيص " : ورواه أبو داود ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي موصولا ، ليست فيه زيادة : وهي من ناحية الفرع ، إلخ .
وقال الشافعي : بعد أن روى حديث مالك : ليس هذا ما يثبته أهل الحديث ولم يثبتوه ولم يكن فيه رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إقطاعه ، وأما الزكاة دون الخمس فليست مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال البيهقي : وهو كما قال الشافعي في رواية مالك ، وقد روي عن الدراوردي ، عن ربيعة ، موصولا ، ثم أخرجه عن الحاكم ، والحاكم أخرجه في " المستدرك " وكذا ذكره ابن عبد البر من رواية الدراوردي ، قال : ورواه أبو سبرة المديني ، عن مطرف ، عن مالك ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن ابن عباس قلت : أخرجه أبو داود ، من الوجهين . اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : الاستدلال بهذه الزيادة على الحديث المرفوع التي ذكرها مالك في " الموطإ " ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم - من نوع الاستدلال بالاستصحاب المقلوب ، وهو حجة عند جماعة من العلماء من المالكية ، والشافعية .
والاستصحاب المقلوب : هو الاستدلال بثبوت الأمر في الزمن الحاضر على ثبوته في الزمن الماضي ، لعدم ما يصلح للتغيير من الأول إلى الثاني .
قال صاحب " جمع الجوامع " : أما ثبوته في الأول لثبوته في الثاني فمقلوب ، وقد يقال فيه : لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس لكان غير ثابت ، فيقتضي استصحاب أمس أنه الآن غير ثابت ، وليس كذلك ، فدل على أنه ثابت .
وقال : في " نشر البنود " : وقد يقال في الاستصحاب المقلوب ليظهر الاستدلال به : لو لم يكن الثابت اليوم ثابتا أمس لكان غير ثابت أمس ; إذ لا واسطة بين الثبوت وعدمه ، فيقتضي استصحاب أمس الخالي عن الثبوت فيه ، أنه الآن غير ثابت ، وليس كذلك لأنه مفروض الثبوت الآن ، فدل ذلك على أنه ثابت أمس أيضا ، ومثل له بعض المالكية بالوقف ، إذا جهل مصرفه ووجد على حالة فإنه يجري عليها ; لأن وجوده على تلك الحالة [ ص: 144 ] دليل على أنه كان كذلك في عقد الوقف ، ومثل له " المحلى " ، بأن يقال في المكيال الموجود : كان على عهده صلى الله عليه وسلم ، باستصحاب الحال في الماضي ، ووجهه في المسألة التي نحن بصددها ; أن لفظ : فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم يدل بالاستصحاب المقلوب أنها كانت كذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لعدم ما يصلح للتغيير كما ذكرنا .
وقد أشار في " مراقي السعود " إلى مسألة الاستصحاب المذكور في " كتاب الاستدلال " بقوله : [ الرجز ]
ورجحن كون الاستصحاب للعدم الأصلي من ذا الباب بعد قصارى البحث عن نص فلم يلف وهذا
البحث وفقا منحتم إلى أن قال ، وهو محل الشاهد : [ الرجز ]
وما بماض مثبت للحال فهو مقلوب وعكس الخالي
كجري ما جهل فيه المصرف على الذي الآن لذاك يعرف
وأما الركاز : ففيه الخمس بلا نزاع ; لقوله صلى الله عليه وسلم " وفي الركاز الخمس " أخرجه الشيخان ، وأصحاب السنن ، والإمام أحمد ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، إلا أنهم اختلفوا في المراد بالركاز .
فذهب جمهور ، منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد ، إلى أن الركاز هو دفن الجاهلية ، وأنه لا يصدق على المعادن اسم الركاز .
واحتجوا بما جاء في حديث أبي هريرة المتفق عليه الذي ذكرنا بعضا منه آنفا ; فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس " ، ففرق بين المعدن والركاز بالعطف المقتضي للمغايرة .
وذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وغيرهما إلى أن المعدن ركاز ، واحتجوا بما رواه البيهقي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وفي الركاز الخمس ، قيل يا رسول الله ، وما الركاز ؟ قال : الذهب والفضة المخلوقان في الأرض يوم خلق الله السماوات والأرض " ، ورده الجمهور بأن الحديث ضعيف ، قال ابن حجر في " التلخيص " : رواه : البيهقي من حديث أبي يوسف ، عن عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه ، عن جده ، عن أبي هريرة مرفوعا ، وتابعه حبان بن علي ، عن عبد الله بن سعيد ، [ ص: 145 ] وعبد الله متروك الحديث ، وحبان ضعيف .
وأصل الحديث ثابت في " الصحاح " ، وغيرها بدون الزيادة المذكورة . وقال الشافعي في " الجديد " : يشترط في وجوب الخمس في الركاز أن يكون ذهبا ، أو فضة دون غيرهما ، وخالفه جمهور أهل العلم ، وقال بعض العلماء : إذا كان في تحصيل المعدن مشقة ففيه ربع العشر ، وإن كان لا مشقة فيه فالواجب فيه الخمس ، وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا الآية .
لا يخفى ما في هذه الآية الكريمة من التشديد في الخروج إلى الجهاد على كل حال ، ولكنه تعالى بين رفع هذا التشديد بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج الآية [ 9 \ 91 ] ، فهي ناسخة لها .
قوله تعالى : وفي الرقاب .
قال الشافعي ، والليث : إن المراد بالرقاب : المكاتبون .
وروي نحوه عن أبي موسى الأشعري ، والحسن البصري ، ومقاتل بن حيان ، وعمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد ، ويدل لهذا القول قوله تعالى في المكاتبين : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم [ 24 \ 33 ] ، وقال ابن عباس : الرقاب أعم من المكاتبين ، فلا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب مالك ، وأحمد ، وإسحاق .
قوله تعالى : والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم له العذاب الأليم .
وذكر في " الأحزاب " أنه ملعون في الدنيا والآخرة ، وأن له العذاب المهين ، وذلك في قوله : إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا [ 33 \ 57 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-04-08, 08:32 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (119)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(8)
صـ 146 إلى صـ 150
قوله تعالى : يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة إلى قوله : ما تحذرون .
صرح في هذه الآية الكريمة بأن المنافقين يحذرون أن ينزل الله سورة تفضحهم ، وتبين ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخبث ، ثم بين أنه مخرج ما كانوا يحذرونه ، وذكر في موضع آخر أنه فاعل ذلك ، وهو قوله تعالى : أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم [ ص: 146 ] [ 47 \ 29 ] إلى قوله : ولتعرفنهم في لحن القول [ 47 \ 30 ] ، وبين في موضع آخر شدة خوفهم ، وهو قوله : يحسبون كل صيحة عليهم [ 63 \ 4 ] .
قوله تعالى : لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله .
صرح في هذه الآية الكريمة : أن المنافقين ما وجدوا شيئا ينقمونه ، أي : يعيبونه وينتقدونه ، إلا أن الله تفضل عليهم فأغناهم بما فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة .
والمعنى أنه لا يوجد شيء يحتمل أن يعاب أو ينقم بوجه من الوجوه ، والآية كقوله : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد [ 85 \ 8 ] ، وقوله : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا [ 7 \ 126 ] ، وقوله : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 40 ] .
ونظير ذلك من كلام العرب : قول نابغة ذبيان : [ الطويل ]
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب وقول الآخر : [ المنسرح ]
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يضربون إن غضبوا
وقول الآخر : [ الوافر ]
فما يك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل
قوله تعالى : قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة شدة حر نار جهنم أعاذنا الله والمسلمين منها ، وبين ذلك في مواضع أخر كقوله : نارا وقودها الناس والحجارة [ 66 \ 6 ] ، وقوله : كلا إنها لظى نزاعة للشوى [ 7 \ 15 ، 16 ] ، وقوله : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها [ 4 \ 56 ] ، وقوله : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد [ 22 \ 19 - 21 ] ، وقوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] ، وقوله : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
اختلف العلماء في وزن جهنم بالميزان الصرفي ، فذهب بعض علماء العربية إلى أن [ ص: 147 ] وزنه " فعنل " فالنون المضعفة زائدة ، وأصل المادة : الجيم والهاء والميم ، من : تجهم : إذا عبس وجهه ; لأنها تلقاهم بوجه متجهم عابس ، وتتجهم وجوههم وتعبس فيها لما يلاقون من ألم العذاب .
ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري : [ الطويل ]
شكوت إليها حبها فتبسمت ولم أر شمسا قبلها تتبسم فقلت لها جودي فأبدت تجهما
لتقتلني يا حسنها إذ تجهم وتقول العرب : جهمه : إذا استقبله بوجه كريه مجتمع ، ومنه قول عمرو بن الفضفاض الجهني : [ الطويل ]
ولا تجهمينا أم عمرو فإنما بنا داء ظبي لم تخنه عوامله
وقال بعض العلماء : جهنم فارسي معرب ، والأصل " كهنام " وهو بلسانهم " النار " ، فعربته العرب وأبدلوا الكاف جيما .
قوله تعالى : فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ، إلى قوله : الخالفين ، عاقب الله في هذه الآية الكريمة المتخلفين عن غزوة تبوك بأنهم لا يؤذن لهم في الخروج مع نبيه ، ولا القتال معه صلى الله عليه وسلم ; لأن شؤم المخالفة يؤدي إلى فوات الخير الكثير .
وقد جاء مثل هذا في آيات أخر كقوله : سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم [ 48 \ 15 ] إلى قوله : كذلكم قال الله من قبل ، وقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، والخالف هو الذي يتخلف عن الرجال في الغزو فيبقى مع النساء والصبيان ، ومنه قول الشنفرى : [ الطويل ]
ولا خالف دارية متربب يروح ويغدو داهنا يتكحل
قوله تعالى : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين .
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه إذا أنزل سورة فيها الأمر بالإيمان ، والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم استأذن الأغنياء من المنافقين في التخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتركهم مع القاعدين المتخلفين عن الغزو .
وبين في موضع آخر أن هذا ليس من صفات المؤمنين ، وأنه من صفات الشاكين [ ص: 148 ] الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، وذلك في قوله : لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 \ 44 ، 45 ] ، وبين أن السبيل عليهم بذلك ، وأنهم مطبوع على قلوبهم ، بقوله : إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم الآية [ 9 \ 93 ] ، وبين في مواضع أخر شدة جزعهم من الخروج إلى الجهاد ، كقوله : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت الآية [ 47 \ 20 ] ، وقوله : فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] إلى غير ذلك من الآيات
قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار بإحسان ، أنهم داخلون معهم في رضوان الله تعالى ، والوعد بالخلود في الجنات ، والفوز العظيم ، وبين في مواضع أخر ، أن الذين اتبعوا السابقين بإحسان يشاركونهم في الخير كقوله جل وعلا : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم الآية [ 62 \ 3 ] ، وقوله : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الآية [ 59 \ 10 ] ، وقوله : والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم [ 8 \ 75 ] .
ولا يخفى أنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة ، أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، وهو دليل قرآني صريح في أن من يسبهم ويبغضهم ، أنه ضال مخالف لله جل وعلا ; حيث أبغض من رضي الله عنه ، ولا شك أن بغض من رضي الله عنه مضادة له جل وعلا ، وتمرد وطغيان .
قوله تعالى : ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم الآية .
صرح في هذه الآية الكريمة أن من الأعراب ، ومن أهل المدينة منافقين لا يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر تعالى نظير ذلك عن نوح في قوله عنه : قال وما علمي بما كانوا يعملون الآية [ 26 \ 112 ] .
[ ص: 149 ] وذكر نظيره عن شعيب عليهم كلهم صلوات الله وسلامه في قوله : بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ اهـ .
وقد أطلع الله نبيه على بعض المنافقين كما تقدم في الآيات الماضية ، وقد أخبر صاحبه حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ، بشيء من ذلك ، كما هو معلوم .
قوله تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه .
لم يبين هنا هذه الموعدة التي وعدها إياه ، ولكنه بينها في سورة " مريم " بقوله : قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا .
قوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .
هذه الآية الكريمة تدل على أن بعث هذا الرسول الذي هو من أنفسنا الذي هو متصف بهذه الصفات المشعرة بغاية الكمال ، وغاية شفقته علينا - هو أعظم منن الله تعالى ، وأجزل نعمه علينا ، وقد بين ذلك في مواضع أخر ، كقوله تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] ، وقوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] وقوله : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوكل عليه جل وعلا .
ولا شك أنه ممتثل ذلك ، فهو سيد المتوكلين عليه صلوات الله وسلامه ، والتوكل على الله تعالى ، هو شأن إخوانه من المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه .
كما بين تعالى ذلك في آيات أخر ، كقوله عن هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم الآية [ 11 \ 54 - 56 ] وقوله تعالى عن نوح : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون وقوله تعالى عن جملة الرسل : وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا [ ص: 150 ] سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا :
ومن أوضح الأدلة على عظم توكل نبينا صلى الله عليه وسلم على الله قوله يوم حنين ، وهو على بغلة في ذلك الموقف العظيم :
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-04-08, 08:41 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (120)
سُورَةُ يُونُسَ (1)
صـ 151 إلى صـ 155
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ يُونُسَ
قوله تعالى : والذين كفروا لهم شراب من حميم الآية .
ذكر في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يعذبون يوم القيامة بشرب الحميم ، وبالعذاب الأليم ، والحميم : الماء الحار ، وذكر أوصاف هذا الحميم في آيات أخر ، كقوله : يطوفون بينها وبين حميم آن [ 55 \ 44 ] ، وقوله : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] ، وقوله : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود [ 22 \ 19 ، 20 ] ، وقوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] ، وقوله : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 ، 55 ] .
وذكر في موضع آخر أن الماء الذي يسقون صديد ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من ذلك بفضله ورحمته ، وذلك في قوله تعالى : من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه الآية [ 14 \ 16 ] :
وذكر في موضع آخر أنهم يسقون مع الحميم الغساق ، كقوله : هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 57 ، 58 ] ، وقوله : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا [ 78 \ 24 ، 25 ] ، والغساق : صديد أهل النار - أعاذنا الله والمسلمين منها - وأصله من غسقت العين : سال دمعها ، وقيل : هو لغة : البارد المنتن ، والحميم الآني : الماء البالغ غاية الحرارة ، والمهل : دردي الزيت ، أو المذاب من النحاس ، والرصاص ونحو ذلك ، والآيات المبينة لأنواع عذاب أهل النار كثيرة جدا .
قوله تعالى : وتحيتهم فيها سلام .
ذكر تعالى في هذه الآية : أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام ، أي يسلم بعضهم على بعض بذلك ، ويسلمون على الملائكة ، وتسلم عليهم الملائكة بذلك ، وقد بين تعالى هذا في مواضع أخر ، كقوله : تحيتهم يوم يلقونه سلام الآية [ 33 \ 44 ] ، وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم الآية [ 13 \ 23 ، 24 ] ، وقوله : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما الآية [ ص: 152 ] [ 19 \ 6 ] ، وقوله : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما الآية [ 65 \ 25 ، 26 ] وقوله : سلام قولا من رب رحيم [ 36 \ 58 ] إلى غير ذلك من الآيات .
ومعنى السلام : الدعاء بالسلامة من الآفات .
والتحية : مصدر حياك الله ، بمعنى أطال حياتك .
قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الإنسان في وقت الكرب يبتهل إلى ربه بالدعاء في جميع أحواله ، فإذا فرج الله كربه أعرض عن ذكر ربه ، ونسي ما كان فيه كأنه لم يكن فيه قط .
وبين هذا في مواضع أخر كقوله : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل الآية [ 39 \ 8 ] ، وقوله : فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم الآية [ 39 \ 49 ] ، وقوله : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض [ 41 \ 51 ] والآيات في مثل ذلك كثيرة .
إلا أن الله استثنى من هذه الصفات الذميمة عباده المؤمنين بقوله في سورة هود : ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير [ 10 ، 11 ] ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له ، إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " .
قوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي .
أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول : إنه ما يكون له أن يبدل شيئا من القرآن من تلقاء نفسه ، ويفهم من قوله : من تلقاء نفسي أن الله تعالى يبدل منه ما شاء بما شاء .
وصرح بهذا المفهوم في مواضع أخر كقوله : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] ، وقوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها الآية [ 2 \ 106 ] ، وقوله : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 6 ، 7 ] .
[ ص: 153 ] قوله تعالى : فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون .
في هذه الآية الكريمة حجة واضحة على كفار مكة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث إليهم رسولا حتى لبث فيهم عمرا من الزمن ، وقدر ذلك أربعون سنة ، فعرفوا صدقه ، وأمانته ، وعدله ، وأنه بعيد كل البعد من أن يكون كاذبا على الله تعالى ، وكانوا في الجاهلية يسمونه الأمين ، وقد ألقمهم الله حجرا بهذه الحجة في موضع آخر ، وهو قوله : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون [ 23 \ 69 ] ولذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ، ومن معه عن صفاته صلى الله عليه وسلم ، قال هرقل لأبي سفيان : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا ، وكان أبو سفيان في ذلك الوقت زعيم الكفار ، ورأس المشركين ومع ذلك اعترف بالحق ، والحق ما شهدت به الأعداء .
فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ، ثم يذهب فيكذب على الله . اهـ .
ولذلك وبخهم الله تعالى بقوله هنا : أفلا تعقلون [ 10 \ 16 ] .
قوله تعالى : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء إلى قوله : لقوم يتفكرون .
ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للدنيا بالنبات الناعم المختلط بعضه ببعض ، وعما قليل ييبس ، ويكون حصيدا يابسا كأنه لم يكن قط ، وضرب لها أيضا المثل المذكور في " الكهف " في قوله : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء [ 18 \ 45 ] إلى قوله : وكان الله على كل شيء مقتدرا ، وأشار لهذا المثل بقوله في " الزمر " : ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب [ 21 ] ، وقوله في " الحديد " : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما الآية [ 20 ] .
تنبيه
التشبيه في الآيات المذكورة عند البلاغيين من التشبيه المركب ; لأن وجه الشبه صورة منتزعة من أشياء ، وهو كون كل من المشبه والمشبه به يمكث ما شاء الله ، وهو في إقبال وكمال ، ثم عما قليل يضمحل ويزول ، والعلم عند الله تعالى :
قوله تعالى : ويوم نحشرهم جميعا الآية .
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يجمع الناس جميعا ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
[ ص: 154 ] وصرح في " الكهف " بأنه لا يترك منهم أحدا ، بقوله : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 47 ] .
قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت الآية .
صرح في هذه الآية الكريمة ، بأن كل نفس يوم القيامة تبلو ، أي : تخبر وتعلم ما أسلفت ، أي قدمت من خير وشر ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقوله : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] ، وقوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 ، 14 ] ، وقوله : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا الآية [ 18 \ 49 ] .
وأما على قراءة " تتلو " بتاءين ففي معنى الآية وجهان :
أحدهما : أنها تتلو بمعنى تقرأ في كتاب أعمالها جميع ما قدمت ، فيرجع إلى الأولى .
والثاني : أن كل أمة تتبع عملها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " لتتبع كل أمة ما كانت تعبده فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس " الحديث .
قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت إلى قوله : فقل أفلا تتقون .
صرح الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، بأن الكفار يقرون بأنه جل وعلا ، هو ربهم الرزاق المدبر للأمور المتصرف في ملكه بما يشاء ، وهو صريح في اعترافهم بربوبيته ، ومع هذا أشركوا به جل وعلا .
والآيات الدالة على أن المشركين مقرون بربوبيته جل وعلا ولم ينفعهم ذلك لإشراكهم معه غيره في حقوقه جل وعلا - كثيرة ، كقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ 43 \ 9 ] ، وقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 84 ، 85 ] إلى قوله : فأنى تسحرون إلى غير ذلك من الآيات ، ولذا قال تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] .
والآيات المذكورة صريحة في أن الاعتراف بربوبيته جل وعلا لا يكفي في الدخول في دين الإسلام إلا بتحقيق معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا ، وقد أوضحناه في سورة [ ص: 155 ] " الفاتحة " في الكلام على قوله تعالى : إياك نعبد [ 1 \ 5 ] .
أما تجاهل فرعون - لعنه الله - لربوبيته جل وعلا ، في قوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] فإنه تجاهل عارف ; لأنه عبد مربوب ، كما دل عليه قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 \ 102 ] ، وقوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 \ 14 ] .
قوله تعالى : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق إلى قوله : فأنى تؤفكون .
ألقم الله تعالى المشركين في هذه الآيات حجرا ، بأن الشركاء التي يعبدونها من دونه لا قدرة لها على فعل شيء ، وأنه هو وحده جل وعلا الذي يبدأ الخلق ثم يعيده بالإحياء مرة أخرى ، وأنه يهدي من يشاء .
وصرح بمثل هذا في آيات كثيرة ، كقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] ، وقوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [ 25 \ 3 ] ، وقوله : ياأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 35 \ 3 ] ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية [ 16 \ 17 ] .
وقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه [ 13 \ 16 ] وقوله : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره الآية [ 39 \ 38 ] ، وقوله : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه الآية [ 67 \ 21 ] ، وقوله : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق الآية [ 29 \ 17 ] .
والآيات في مثل ذلك كثيرة ، ومعلوم أن تسوية ما لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يقدر على شيء مع من بيده الخير كله المتصرف بكل ما شاء - لا تصدر إلا ممن لا عقل له ، كما قال تعالى عن أصحاب ذلك : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [ 67 \ 10 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:05 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (121)
سُورَةُ يُونُسَ (2)
صـ 156 إلى صـ 160
قوله تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن لا يكون مفترى من دون الله مكذوبا به عليه ، وأنه لا شك في أنه من رب العالمين جل وعلا ، [ ص: 156 ] وأشار إلى أن تصديقه للكتب السماوية المنزلة قبله ، وتفصيله للعقائد ، والحلال ، والحرام ، ونحو ذلك مما لا شك أنه من الله جل وعلا دليل على أنه غير مفترى ، وأنه لا ريب في كونه من رب العالمين ، وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 12 \ 111 ] ، وقوله : وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون [ 26 \ 210 ، 211 ] ، وقوله : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] ، والآيات في مثل ذلك كثيرة .
ثم إنه تعالى لما صرح هنا بأن هذا القرآن ما كان أن يفترى على الله ، أقام البرهان القاطع على أنه من الله ، فتحدى جميع الخلق بسورة واحدة مثله ، ولا شك أنه لو كان من جنس كلام الخلق لقدر الخلق على الإتيان بمثله ، فلما عجزوا عن ذلك كلهم حصل اليقين والعلم الضروري أنه من الله جل وعلا ، قال جل وعلا في هذه السورة : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 10 \ 38 ] ، وتحداهم أيضا في سورة " البقرة " بسورة واحدة من مثله ، بقوله : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله الآية [ 2 \ 23 ] ، وتحداهم في " هود " بعشر سور مثله ، بقوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات الآية [ 13 ] ، وتحداهم في " الطور " به كله بقوله : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين [ 34 ] ، وصرح في سورة " بني إسرائيل " بعجز جميع الخلائق عن الإتيان بمثله بقوله : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا [ 17 \ 88 ] ، كما قدمنا ، وبين أنهم لا يأتون بمثله أيضا بقوله : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا الآية [ 2 \ 24 ] .
قوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله .
التحقيق أن تأويله هنا ، هو حقيقة ما يئول إليه الأمر يوم القيامة ، كما قدمنا في أول " آل عمران " ، ويدل لصحة هذا قوله في " الأعراف " : هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء [ 53 ] .
ونظير الآية قوله تعالى : بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب [ 38 \ 8 ] .
[ ص: 157 ] قوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون .
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، أن يظهر البراءة من أعمال الكفار القبيحة إنكارا لها ، وإظهارا لوجوب التباعد عنها ، وبين هذا المعنى في قوله : قل ياأيها الكافرون [ 109 \ 1 ] ، إلى قوله : ولي دين [ 109 \ 6 ] ، ونظير ذلك قول إبراهيم الخليل وأتباعه لقومه : إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله \ الآية [ 60 \ 4 ] 30 .
وبين تعالى في موضع آخر أن اعتزال الكفار ، والأوثان ، والبراءة منهم من فوائده تفضل الله تعالى بالذرية الطيبة الصالحة ، وهو قوله في " مريم " : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب [ 49 ] ، إلى قوله : عليا [ 19 \ 50 ] .
وقال ابن زيد ، وغيره : إن آية : وإن كذبوك فقل لي عملي الآية [ 10 \ 41 ] ، منسوخة بآيات السيف .
والظاهر أن معناها محكم ; لأن البراءة إلى الله من عمل السوء لا شك في بقاء مشروعيتها .
قوله تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار إذا حشروا استقلوا مدة مكثهم في دار الدنيا ، حتى كأنها قدر ساعة عندهم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله في آخر " الأحقاف " : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار [ 35 ] ، وقوله في آخر " النازعات " : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها الآية [ 46 ] ، وقوله في آخر " الروم " : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة الآية [ 55 ] .
وقد بينا بإيضاح في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين هذه الآيات المقتضية أن الدنيا عندهم كساعة وبين الآيات المقتضية أنها عندهم كأكثر من ذلك ، كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 \ 103 ] ، وقوله : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين [ 23 \ 113 ] ، فانظره في سورة قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 1 ] في الكلام على قوله : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين .
قوله تعالى : يتعارفون بينهم .
صرح في هذه الآية الكريمة : أن أهل المحشر [ ص: 158 ] يعرف بعضهم بعضا ، فيعرف الآباء الأبناء ، كالعكس ، ولكنه بين في مواضع أخر أن هذه المعارفة لا أثر لها ، فلا يسأل بعضهم بعضا شيئا ، كقوله : ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم [ 70 \ 10 ، 11 ] وقوله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .
وقد بينا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أيضا وجه الجمع بين قوله : فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، وبين قوله : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] ، في سورة قد أفلح المؤمنون أيضا .
قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بخسران المكذبين بلقائه ، وأنهم لم يكونوا مهتدين ، ولم يبين هنا المفعول به لقوله : " خسر " وذكر في مواضع كثيرة أسبابا من أسباب الخسران ، وبين في مواضع أخر المفعول المحذوف هنا ، فمن الآيات المماثلة لهذه الآية قوله تعالى في " الأنعام " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 31 ] ، وقوله تعالى في " البقرة " : الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون [ 27 ] وقوله في " البقرة " أيضا : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون [ 27 ] ، وقوله في " الأعراف " : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 121 ] ، وقوله في " الأعراف " أيضا : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 178 ] ، وقوله في " الزمر " : له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون [ 63 ] .
والآيات في مثل هذا كثيرة ، وقد أقسم تعالى على أن هذا الخسران لا ينجو منه إنسان إلا بأربعة أمور :
الأول : الإيمان .
الثاني : العمل الصالح .
الثالث : التواصي بالحق .
الرابع : التواصي بالصبر .
وذلك في قوله : والعصر إن الإنسان [ 103 \ 1 ، 2 ] وبين في مواضع أخر [ ص: 159 ] أن المفعول المحذوف الواقع عليه الخسران هو أنفسهم ، كقوله في " الأعراف " : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ 9 ] ، وقوله في " المؤمنون " : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ 103 ] ، وقوله في " هود " : أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 45 ] .
وزاد في مواضع أخر خسران الأهل مع النفس ، كقوله في " الزمر " : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين [ 15 ] ، وقوله في " الشورى " : وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم [ 45 ] .
وبين في موضع آخر أن خسران الخاسرين قد يشمل الدنيا والآخرة ، وهو قوله : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .
قوله تعالى : وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم الآية .
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه إما أن يريه في حياته بعض ما يعد الكفار من النكال والانتقام ، أو يتوفاه قبل ذلك ، فمرجعهم إليه جل وعلا لا يفوته شيء مما يريد أن يفعله بهم لكمال قدرته عليهم ، ونفوذ مشيئته جل وعلا فيهم ، وبين هذا المعنى أيضا في مواضع أخر ، كقوله في سورة " المؤمن " : فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون [ 77 ] ، وقوله في " الزخرف " : فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون [ 41 ، 42 ] إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
لم يأت في القرآن العظيم فعل المضارع بعد " إن " الشرطية المدغمة في " ما " المزيدة لتوكيد الشرط ، إلا مقترنا بنون التوكيد الثقيلة ، كقوله هنا : وإما نرينك الآية [ 10 \ 46 ] ، فإما نذهبن الآية [ 43 \ 41 ] ، فإما تثقفنهم الآية [ 8 \ 57 ] ، وإما تخافن من قوم الآية [ 8 \ 58 ] .
ولذلك زعم بعض علماء العربية وجوب اقتران المضارع بالنون المذكورة في الحال [ ص: 160 ] المذكورة ، والحق أن عدم اقترانه بها جائز ، كقول الشاعر : [ المتقارب ]
فإما تريني ولي لمة فإن الحوادث أودى بها
وقول الآخر : [ الكامل ]
زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
قوله تعالى : ولكل أمة رسول .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن لكل أمة رسولا ، وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولكل قوم هاد [ 13 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن عدد الأمم سبعون أمة في حديث معاوية بن حيدة القشيري ، رضي الله عنه " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله " ، وقد بينا هذه الآيات في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ووجه الجمع بينها وبين قوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الآية [ 6 ] ، في سورة " الرعد " في الكلام على قوله تعالى : ولكل قوم هاد .
قوله تعالى : فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون .
أوضح الله تعالى معنى هذه الآية الكريمة في سورة " الزمر " بقوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون .
قوله تعالى :
لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن لكل أمة أجلا ، وأنه لا يسبق أحد أجله المحدد له ، ولا يتأخر عنه .
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون [ 15 \ 5 - 23 \ 43 ] ، وقوله : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون [ 71 \ 4 ] ، وقوله : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:06 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (122)
سُورَةُ يُونُسَ (3)
صـ 161 إلى صـ 164
قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون في الدنيا تعجيل العذاب كفرا وعنادا ، فإذا عاينوا العذاب آمنوا ، وذلك الإيمان عند معاينة العذاب وحضوره لا يقبل منهم ، وقد أنكر ذلك [ ص: 161 ] تعالى عليهم هنا بقوله : أثم إذا ما وقع آمنتم به [ 10 \ 51 ] ، ونفى أيضا قبول إيمانهم في ذلك الحين بقوله : آلآن وقد كنتم به تستعجلون .
وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 84 ، 85 ] ، وقوله : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 ، 91 ] ، وقوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآية [ 4 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
واستثنى الله تعالى قوم يونس دون غيرهم بقوله : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .
قوله تعالى : إن الله سيبطله الآية .
ذكر تعالى عن موسى في هذه الآية ، أنه قال : إن الله سيبطل سحر سحرة فرعون .
وصرح في مواضع أخر بأن ذلك الذي قال موسى إنه سيقع من إبطال الله لسحرهم ، أنه وقع بالفعل ، كقوله : فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين [ 7 \ 118 ، 119 ] ونحوها من الآيات :
قوله تعالى : ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق الآية .
ذكر تعالى في هذه الآية أنه بوأ بني إسرائيل مبوأ صدق .
وبين ذلك في آيات أخر كقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] ، وقوله : فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم [ 62 \ 57 ، 58 ] إلى قوله : كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ 26 \ 59 ] وقوله : كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم [ 44 \ 25 ، 26 ] إلى قوله : كذلك وأورثناها قوما آخرين [ 44 \ 28 ] ، ومعنى بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق : أنزلناهم منزلا مرضيا حسنا .
قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة ، أن من حقت عليه كلمة [ ص: 162 ] العذاب ، وسبقت له في علم الله الشقاوة لا ينفعه وضوح أدلة الحق ، وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقوله : وإن يروا آية يعرضوا [ 54 \ 2 ] ، وقوله : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 6 \ 4 ] ، وقوله : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، وقوله : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 2 \ 6 ] .
والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين .
ظاهر هذه الآية الكريمة أن إيمان قوم يونس ما نفعهم إلا في الدنيا دون الآخرة ، لقوله : كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا .
ويفهم من مفهوم المخالفة في قوله : في الحياة الدنيا أن الآخرة ليست كذلك ، ولكنه تعالى أطلق عليهم اسم الإيمان من غير قيد في سورة " الصافات " ، والإيمان منقذ من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، كما أنه بين في " الصافات " أيضا كثرة عددهم ، وكل ذلك في قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 147 ، 148 ] .
قوله تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا الآية .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء إيمان جميع أهل الأرض لآمنوا كلهم جميعا ، وهو دليل واضح على أن كفرهم واقع بمشيئته الكونية القدرية ، وبين ذلك أيضا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : ولو شاء الله ما أشركوا الآية [ 6 \ 107 ] ، وقوله : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، وقوله : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 107 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن من لم يهده الله فلا هادي له ، ولا يمكن أحدا أن يقهر قلبه على الانشراح إلى الإيمان إلا إذا أراد الله به ذلك .
وأوضح ذلك المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] ، وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ ص: 163 ] [ 16 \ 37 ] ، وقوله : إنك لا تهدي من أحببت الآية [ 28 \ 56 ] ، وقوله : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا كما تقدم في " النساء " .
والظاهر أنها غير منسوخة ، وأن معناها أنه لا يهدي القلوب ويوجهها إلى الخير إلا الله تعالى ، وأظهر دليل على ذلك أن الله أتبعه بقوله : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله الآية [ 10 \ 100 ] .
قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية .
أمر الله جل وعلا جميع عباده أن ينظروا ماذا خلق في السماوات والأرض من المخلوقات الدالة على عظم خالقها ، وكماله ، وجلاله ، واستحقاقه لأن يعبد وحده جل وعلا .
وأشار لمثل ذلك بقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق الآية [ 41 \ 53 ] ، ووبخ في سورة " الأعراف " من لم يمتثل هذا الأمر ، وهدده بأنه قد يعاجله الموت فينقضي أجله قبل أن ينظر فيما أمره الله جل وعلا أن ينظر فيه ; لينبه بذلك على وجوب المبادرة في امتثال أمر الله جل وعلا ، وذلك في قوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم الآية [ 185 ] .
تنبيه
آية " الأعراف " هذه التي ذكرنا تدل دلالة واضحة على أن الأمر يقتضي الفور ، وهو الذي عليه جمهور الأصوليين ، خلافا لجماعة من الشافعية وغيرهم .
قوله تعالى : وأن أقم وجهك للدين .
أوضح هذا المعنى في قوله : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها .
قوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك .
أوضح معناه أيضا بقوله : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون .
قوله تعالى : واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين .
لم يبين هنا ما حكم الله به بين نبيه وبين أعدائه ، وقد بين في آيات كثيرة أنه حكم بنصره عليهم ، وإظهار دينه على كل [ ص: 164 ] دين ، كقوله : إذا جاء نصر الله والفتح [ 110 \ 1 ] إلى آخر السورة ، وقوله : إنا فتحنا لك فتحا مبينا [ 48 \ 1 ] إلى آخرها ، وقوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه الآية [ 13 \ 41 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:07 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (123)
سُورَةُ هُودٍ (1)
صـ 165 إلى صـ 170
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ هُودٍ
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ .
اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافا كثيرا ، واستقراء القرآن العظيم يرجح واحدا من تلك الأقوال ، وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول ، وبالله جل وعلا نستعين :
قال بعض العلماء : هي مما استأثر الله تعالى بعلمه ، كما بينا في " آل عمران " وممن روي عنه هذا القول : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود - رضي الله عنهم - وعامر الشعبي ، وسفيان الثوري ، والربيع بن خثيم ، واختاره أبو حاتم بن حبان .
وقيل : هي أسماء للسور التي افتتحت بها ، وممن قال بهذا القول : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، قال الزمخشري في تفسيره : وعليه إطباق الأكثر . ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ، ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم [ 32 \ 1 ] السجدة ، و هل أتى على الإنسان [ 76 \ 1 ] .
ويدل له أيضا قول قاتل محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل ، وهو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن :
يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلا : إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور ، وذكر أبو مخنف أنه لمدلج بن كعب السعدي ، ويقال كعب بن مدلج ، وذكر الزبير بن بكار أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر ، قال المرزباني : وهو الثبت ، وأنشد له البيت المذكور ، وقبله :
وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
[ ص: 166 ] هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شيء غير أن ليس تابعا عليا ومن لا يتبع الحق يندم
يذكرني حاميم . . . البيت . اهـ من " فتح الباري " .
فقوله : " يذكرني حاميم " ، بإعراب " حاميم " إعراب ما لا ينصرف فيه الدلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة .
وقيل : هي من أسماء الله تعالى ، وممن قال بهذا : سالم بن عبد الله ، والشعبي ، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير ، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضا : أنها أقسام أقسم الله بها ، وهي من أسمائه ، وروي نحوه عن عكرمة .
وقيل : هي حروف ، كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا . فالألف من " الم " مثلا : مفتاح اسم الله ، واللام مفتاح اسمه لطيف ، والميم : مفتاح اسمه مجيد ، وهكذا . ويروى هذا عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وأبي العالية ، واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة ، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز :
قلت لها قفي فقالت لي قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف
فقوله : " قاف " أي وقفت ، وقول الآخر :
بالخير خيرات وإن شرا فا ولا أريد الشر إلا أن تا
يعني : وإن شرا فشر ، ولا أريد الشر إلا أن تشاء ، فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين .
قال القرطبي : وفي الحديث " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " الحديث ، قال سفيان : هو أن يقول في اقتل : اق ، إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور ، وهي نحو ثلاثين قولا .
أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو : أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لإعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد ، وجمع من المحققين ، وحكاه القرطبي عن الفراء ، وقطرب ، ونصره الزمخشري في الكشاف .
[ ص: 167 ] قال ابن كثير : وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية ، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي ، وحكاه لي عن ابن تيمية .
ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول : أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه ، وأنه الحق الذي لا شك فيه .
وذكر ذلك بعدها دائما دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن ، وأنه حق .
قال تعالى في " البقرة " : الم [ 2 \ 1 ] ، وأتبع ذلك بقوله : ذلك الكتاب لا ريب فيه ، وقال في " آل عمران " : الم [ 3 \ 1 ] ، وأتبع ذلك بقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق الآية [ 3 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الأعراف " : المص [ 7 \ 1 ] ، ثم قال : كتاب أنزل إليك الآية [ 7 \ 2 ] ، وقال في سورة " يونس " : الر [ 10 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب الحكيم [ 10 \ 1 ] ، وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها ، أعني سورة " هود " الر \ [ 11 \ 1 ] 30 ، ثم قال : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وقال في " يوسف " : الر [ 12 \ 1 ] ثم قال : تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ 12 \ 1 ، 2 ] ، وقال في " الرعد " : المر [ 13 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق [ 13 \ 1 ] ، وقال في سورة " إبراهيم " : الر [ 14 \ 1 ] ، ثم قال : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور الآية [ 14 \ 1 ] ، وقال في " الحجر " : الر [ 15 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ، وقال في سورة " طه " طه [ 20 \ 1 ] ، ثم قال : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى [ 20 \ 2 ] ، وقال في " الشعراء " : طسم [ 26 \ 1 ] ، ثم قال : تلك آيات الكتاب المبين لعلك باخع نفسك الآية [ 26 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " النمل " : طس [ 27 \ 2 ] ، ثم قال : تلك آيات القرآن وكتاب مبين [ 27 \ 1 ] ، وقال في " القصص " : طسم [ 28 \ 1 ] ، ثم قال تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون الآية [ 28 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " لقمان " الم [ 31 \ 3 ] ، ثم قال تلك آيات الكتاب الحكيم هدى ورحمة للمحسنين [ 31 \ 2 ، 3 ] ، وقال في [ ص: 168 ] " السجدة " : الم [ 32 \ 1 ] ، ثم قال تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 32 \ 2 ] ، وقال في " يس " : يس [ 36 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن الحكيم الآية [ 36 \ 2 ] ، وقال في " ص " : ص [ 38 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن ذي الذكر الآية [ 38 \ 1 ] وقال في " سورة المؤمن " : حم [ 40 \ 1 ] ، ثم قال تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم الآية [ 40 \ 2 ] .
وقال في " فصلت " : حم [ 41 \ 2 ] ، ثم قال تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون الآية [ 42 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الشورى : " حم عسق [ 42 \ 1 ، 2 ] ، ثم قال : كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الآية [ 42 \ 3 ] ، وقال في " الزخرف " : حم [ 43 \ 3 ] ، ثم قال : والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا الآية [ 43 \ 2 ، 3 ] وقال في " الدخان " : حم [ 44 \ 1 ] ، ثم قال : والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة الآية [ 44 \ 2 ، 3 ] وقال في " الجاثية " : حم [ 45 \ 1 ] ، ثم قال : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين [ 45 \ 2 ، 3 ] ، وقال في " الأحقاف " حم [ 46 \ 1 ] ، ثم قال : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الآية [ 46 \ 2 ، 3 ] ، وقال في سورة " ق " : ق [ 50 \ 1 ] ، ثم قال : والقرآن المجيد الآية [ 50 \ 1 ] .
وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا .
وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة ، وآل عمران ، والأعراف ، ويونس ; لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالبا ، والبقرة وآل عمران مدنيتان ، والغالب له الحكم ، واخترنا لبيان ذلك سورة هود ; لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح ; لأن قوله تعالى كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، بعد قوله : الر [ 11 \ 1 ] واضح جدا فيما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ الْعُظْمَى الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ مِنْ أَجْلِهَا : هِيَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ ، وَلَا يُشْرَكَ بِهِ فِي عِبَادَتِهِ شَيْءٌ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا : كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ الْآيَةَ [ 11 \ 1 ، 2 ] صَرِيحٌ فِي أَنَّ [ ص: 169 ] آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ فُصِّلَتْ مِنْ عِنْدِ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ ، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ " أَنْ " هِيَ الْمُفَسِّرَةُ ، أَوْ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْهَا وَمِنْ صِلَتِهَا مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ ; لِأَنَّ ضَابِطَ " أَنْ " الْمُفَسِّرَةَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَهَا مُتَضَمِّنًا مَعْنَى الْقَوْلِ ، وَلَا يَكُونُ فِيهِ حُرُوفُ الْقَوْلِ .
وَوَجْهُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ : أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ 11 \ 1 ] ، فِيهِ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْإِحْكَامِ وَالتَّفْصِيلِ دُونَ حُرُوفِ الْقَوْلِ ، فَيَكُونُ تَفْسِيرُ ذَلِكَ هُوَ : أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .
وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ " أَنْ " وَصِلَتِهَا مَفْعُولٌ لَهُ ، فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، فَمَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّ حَاصِل تَفْصِيلِ الْقُرْآنِ هُوَ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ : قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [ 21 \ 108 ] ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لَفْظَةَ " إِنَّمَا " مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ ، فَكَأَنَّ جَمِيعَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مُنْحَصِرٌ فِي مَعْنَى " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " أَنَّ حَصْرَ الْوَحْيِ فِي آيَةِ الْأَنْبِيَاءِ هَذِهِ فِي تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ حَصْرٌ لَهُ فِي أَصْلِهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ جَمِيعُ الْفُرُوعِ ; لِأَنَّ شَرَائِعَ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ دَاخِلَةٌ فِي ضِمْنِ مَعْنَى " لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " لِأَنَّ مَعْنَاهَا خَلْعُ جَمِيعِ الْمَعْبُودَاتِ غَيْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ، وَإِفْرَادِهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ جَمِيعُ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْقَوْلِيَّةِ ، وَالْفِعْلِيَّة ِ ، وَالِاعْتِقَادِ يَّةِ .
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ ، وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ لِأَجْلِ أَنْ يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ 16 \ 36 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [ 21 \ 25 ] ، وَقَوْلِهِ : وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [ 43 \ 45 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى هَذَا الْبَحْثِ فِي " سُورَةِ الْفَاتِحَةِ " وَسَنَسْتَقْصِي الْكَلَامَ عَلَيْهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - فِي " سُورَةِ النَّاسِ " لِتَكُونَ خَاتِمَةَ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ حُسْنَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّوْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الذُّنُوبِ سَبَبٌ لِأَنْ يُمَتِّعَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ; لِأَنَّهُ رَتَّبَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ وَالتَّوْبَةِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ [ ص: 170 ] عَلَى شَرْطِهِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَتَاعِ الْحَسَنِ : سَعَةُ الرِّزْقِ ، وَرَغَدُ الْعَيْشِ ، وَالْعَافِيَةُ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى : الْمَوْتُ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ [ 11 \ 52 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ " نُوحٍ " : فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 96 ] ، وَقَوْلُهُ : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [ 5 \ 66 ] ، وَقَوْلُهُ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [ 65 \ 2 ، 3 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:08 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (124)
سُورَةُ هُودٍ (2)
صـ 171 إلى صـ 175
قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور .
يبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لا يخفى عليه شيء ، وأن السر كالعلانية عنده ، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر ، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدا ، كقوله : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] ، وقوله جل وعلا : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] ، وقوله : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء الآية [ 10 \ 61 ] ، ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى .
تنبيه مهم
اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظا أكبر ، ولا زاجرا أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن ، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه ، رقيب عليهم ، ليس بغائب عما يفعلون ، وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر ، والزاجر الأعظم مثلا ليصير به كالمحسوس ، فقالوا : لو فرضنا أن ملكا قتالا للرجال ، [ ص: 171 ] سفاكا للدماء ، شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلما ، وسيافه قائم على رأسه ، والنطع مبسوط للقتل ، والسيف يقطر دما ، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته ، فهل ترى أن أحدا من الحاضرين يهم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه ، وهو ينظر إليه عالم بأنه مطلع عليه ؟ ! لا ، وكلا ! بل جميع الحاضرين يكونون خائفين ، وجلة قلوبهم ، خاشعة عيونهم ، ساكنة جوارحهم خوفا من بطش ذلك الملك .
ولا شك " ولله المثل الأعلى " أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علما ، وأعظم مراقبة ، وأشد بطشا ، وأعظم نكالا وعقوبة من ذلك الملك ، وحماه في أرضه محارمه ، فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه ، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه ، وخشي الله تعالى ، وأحسن عمله لله جل وعلا .
ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملا ، ولم يقل : أيهم أكثر عملا ، فالابتلاء في إحسان العمل ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا الآية [ 11 \ 7 ] .
وقال في الملك : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [ 67 \ 2 ] .
ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلى - أي يختبر بإحسان العمل - فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار ، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أخبرني عن الإحسان " أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى ، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه ، فقال له : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .
واختلف العلماء في المراد بقوله في هذه الآية الكريمة ألا إنهم يثنون صدورهم [ 11 \ 5 ] ، وقوله : يستغشون ثيابهم [ 11 \ 5 ] ، وفي مرجع الضمير في قوله : منه [ 11 \ 5 ] .
[ ص: 172 ] فقال بعض العلماء : معنى يثنون صدورهم [ 11 \ 5 ] يزورون عن الحق ، وينحرفون عنه ; لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره ، وطوى عنه كشحه . بهذا فسره الزمخشري في الكشاف .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، فهم يعبرون باعوجاج الصدر عن العدول عن الشيء والميل عنه ، ويعبرون بإقامة الصدر عن القصد إلى الشيء وعدم الميل عنه .
فمن الأول قول ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب :
خليلي عوجا بارك الله فيكما على دار مي من صدور الركائب تكن عوجة يجزيكما الله عنده
بها الأجر أو تقضى ذمامة صاحب
يعني : اثنيا صدور الركائب إلى دار مي .
ومن الثاني قول الشنفرى :
أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل
وقول الآخر :
أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيش شطر بني تميم
وقيل : نزلت هذه الآية الكريمة في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة .
كان حلو المنطق ، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء .
وقيل : نزلت في بعض المنافقين ، كان إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره ، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان ، حكي معناه عن عبد الله بن شداد .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم كانوا يكرهون أن يجامعوا أو يتغوطوا وليس بينهم وبين السماء حجاب ، يستحيون من الله .
وقال بعض العلماء : معنى يستغشون ثيابهم [ 11 \ 5 ] ، يغطون رءوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله ، كقوله تعالى عن نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم الآية [ 71 \ 7 ] .
وقيل : كانوا إذا عملوا سوءا ثنوا صدورهم وغطوا رءوسهم ، يظنون أنهم إن فعلوا [ ص: 173 ] ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] .
وقرأ ابن عباس هذه الآية الكريمة : ألا إنهم تثنوني صدورهم [ 11 \ 5 ] ، وتثنوني مضارع اثنونى ، ووزنه افعوعل من الثني كما تقول احلولى من الحلاوة و صدورهم في قراءة ابن عباس بالرفع فاعل : تثنوني ، والضمير في قوله منه عائد إلى الله تعالى في أظهر القولين ، وقيل : راجع إليه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأقوال في الآية .
قوله تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، صرح في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق ، ولم يخلقهما عبثا ولا باطلا ، ونزه نفسه تعالى عن ذلك ، وصرح بأن من ظن ذلك فهو من الذين كفروا وهددهم بالنار ، قال تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 ، 116 ] ، وقال وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] ، وقال : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة الآية ، المراد بالأمة هنا : المدة من الزمن ، ونظيره قوله تعالى : وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة ، أي : تذكر بعد مدة .
تنبيه
استعمل لفظ " الأمة " في القرآن أربعة استعمالات :
الأول : هو ما ذكرنا هنا من استعمال الأمة في البرهة من الزمن .
الثاني : استعمالها في الجماعة من الناس ، وهو الاستعمال الغالب ، كقوله وجد عليه أمة من الناس يسقون الآية [ 28 \ 23 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول الآية [ 10 \ 47 ] ، وقوله كان الناس أمة الآية [ 2 \ 213 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثالث : استعمال " الأمة " في الرجل المقتدى به ، كقوله : إن إبراهيم كان أمة [ ص: 174 ] الآية [ 16 \ 120 ] .
الرابع : استعمال " الأمة " في الشريعة والطريقة ، كقوله : إنا وجدنا آباءنا على أمة الآية [ 43 \ 22 ] ، وقوله : إن هذه أمتكم أمة واحدة الآية [ 23 \ 52 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من عمل عملا يريد به الحياة الدنيا أعطاه جزاء عمله في الدنيا ، وليس له في الآخرة إلا النار .
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الشورى : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] ، ولكنه تعالى يبين في " سورة بني إسرائيل " تعليق ذلك على مشيئته جل وعلا بقوله : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية [ 17 \ 18 ] ، وقد أوضحنا هذه المسألة غاية الإيضاح في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية الكريمة ، ولذلك اختصرناها هنا .
قوله تعالى : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ، صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائنا من كان إلا دخل النار . وهو صريح في عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة ، كقوله تعالىوأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] وقوله : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الآية [ 7 \ 158
قوله تعالى : فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك الآية ، نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك في هذا القرآن العظيم ، وصرح أنه الحق من الله ، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا ، كقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه الآية [ 2 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : الم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين ، ونحو ذلك من الآيات ، والمرية : الشك .
قوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ، صرح تعالى [ ص: 175 ] في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنون ، وبين ذلك أيضا في مواضع كثيرة ، كقوله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 6 \ 116 ] ، وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ، 67 ، 103 ، 121 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يضاعف لهم العذاب الآية ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجا يضاعف لهم العذاب يوم القيامة ; لأنهم يعذبون على ضلالهم ، ويعذبون أيضا على إضلالهم غيرهم ، كما أوضحه تعالى بقوله : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] .
وبين في موضع آخر أن العذاب يضاعف للأتباع والمتبوعين ، وهو قوله في الأعراف حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف الآية [ 7 \ 38 ] ، قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه ، بعضها يشهد له القرآن :
الأول وهو اختيار ابن جرير الطبري في تفسيره ، ونقله عن ابن عباس وقتادة : أن معنى ما كانوا يستطيعون السمع الآية [ 11 \ 20 ] : أنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحق سماع منتفع ، ولا أن يبصروه إبصار مهتد ; لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين عن استعمال جوارحهم في طاعة الله تعالى ، وقد كانت لهم أسماع وأبصار .
ويدل لهذا قوله تعالى : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله الآية [ 46 \ 26 ] .
الثاني وهو أظهرها عندي : أن عدم الاستطاعة المذكور في الآية إنما هو للختم الذي ختم الله على قلوبهم وأسماعهم ، والغشاوة التي جعل على أبصارهم .
ويشهد لهذا القول قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، ونحو ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:10 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (125)
سُورَةُ هُودٍ (3)
صـ 176 إلى صـ 180
وذلك الختم والأكنة على القلوب جزاء من الله تعالى لهم على مبادرتهم إلى الكفر [ ص: 176 ] وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، وقوله فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقوله : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 125 ] ، وقوله ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثالث : أن المعنى : ما كانوا يستطيعون السمع ، أي : لشدة كراهيتهم لكلام الرسل ، على عادة العرب في قولهم : لا أستطيع أن أسمع كذا : إذا كان شديد الكراهية والبغض له ، ويشهد لهذا القول قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] ، وقوله تعالى وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن الآية [ 41 \ 26 ] ، وقوله وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم .
الرابع : أن " ما " مصدرية ظرفية ، أي يضاعف لهم العذاب مدة كونهم يستطيعون أن يسمعوا ويبصروا ، أي يضاعف لهم العذاب دائما .
الخامس : أن " ما " مصدرية في محل نصب بنزع الخافض ، أي يضاعف لهم العذاب بسبب كونهم يستطيعون السمع والإبصار في دار الدنيا ، وتركوا الحق مع أنهم يستطيعون إدراكه بأسماعهم وأبصارهم ، وقد قدمنا في سورة النساء قول الأخفش الأصغر بأن النصب بنزع الخافض مقيس مطلقا عند أمن اللبس .
السادس : أن قوله : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] من صفة الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله ، فيكون متصلا بقوله وما كان لهم من دون الله من أولياء [ 11 \ 20 ] وتكون جملة يضاعف لهم العذاب [ 11 \ 20 ] اعتراضية ، وتقرير المعنى على هذا القول : وما كان لهم من دون الله من أولياء ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون ، أي الأصنام التي اتخذوها أولياء من دون الله ، وما لا يسمع ولا يبصر لا يصح أن يكون وليا لأحد .
ويشهد لمعنى هذا القول قوله تعالى في " الأعراف " : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها الآية [ 7 \ 195 ] ، ونحوها من الآيات .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية الكريمة قد تكون فيها أقوال ، [ ص: 177 ] وكلها يشهد له قرآن فنذكر الجميع ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية .
ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة المثل للكافر بالأعمى والأصم ، وضرب المثل للمؤمن بالسميع والبصير ، وبين أنهما لا يستويان ، ولا يستوي الأعمى والبصير ، ولا يستوي الأصم والسميع ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة :
قوله : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير [ 35 \ 19 - 23 ] .
وقوله : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى الآية [ 13 \ 19 ] .
وقوله : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 27 \ 80 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الملأ من قوم نوح قالوا له : ما نراك اتبعك منا إلا الأسافل والأراذل ، وذكر في سورة الشعراء أن اتباع الأراذل له في زعمهم مانع لهم من اتباعه بقوله : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون [ 26 \ 111 ] .
وبين في هذه السورة الكريمة أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أبى أن يطرد أولئك المؤمنين الذين اتبعوه بقوله : وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية [ 11 \ 29 ، 30 ] ، وذكر تعالى عنه ذلك في الشعراء أيضا بقوله : إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون وما أنا بطارد المؤمنين .
قوله تعالى : قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح : أنه قال لقومه : أرأيتم [ 11 \ 28 ] ، أي : أخبروني إن كنت على بينة من ربي [ 11 \ 28 ] ، أي : على يقين ونبوة صادقة لا شك فيها ، وأعطاني رحمة منه مما أوحى إلي من التوحيد والهدى ، فخفي ذلك كله عليكم ، ولم تعتقدوا أنه حق ، أيمكنني أن ألزمكم به ، وأجبر قلوبكم على الانقياد والإذعان لتلك البينة التي تفضل الله علي بها ، ورحمني بإيتائها ، والحال أنكم كارهون لذلك ؟ يعني ليس بيدي توفيقكم إلى الهدى وإن كان واضحا جليا لا [ ص: 178 ] لبس فيه ، إن لم يهدكم الله جل وعلا إليه .
وهذا المعنى صرح به جل وعلا عن نوح أيضا في هذه السورة الكريمة بقوله : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم الآية [ 11 \ 34 ] .
قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالا في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى ، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجانا من غير أخذ أجرة في مقابله .
وبين في آيات كثيرة أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، كقوله في " سبإ " عن نبينا صلى الله عليه وسلم : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله الآية [ 34 \ 47 ] .
وقوله فيه أيضا في آخر " سورة ص " : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] .
وقوله في " الطور " ، و " القلم " : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ 52 \ 40 ] [ 68 \ 46 ] .
وقوله في " الفرقان " : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] .
وقوله في " الأنعام " : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 \ 90 ] .
وقوله عن هود في " سورة هود " : ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني الآية [ 11 \ 51 ] .
وقوله في " الشعراء " عن نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 ] .
وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في " يس " : اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا الآية [ 36 \ 20 ، 21 ] .
وقد بينا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى : [ ص: 179 ] قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في " سورة سبإ " في الكلام على قوله تعالى قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] .
ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة : أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجانا من غير أخذ عوض على ذلك ، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى ، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام .
ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه ، فمن ذلك ما رواه ابن ماجه ، والبيهقي ، والروياني في مسنده ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، قال : علمت رجلا القرآن ، فأهدى لي قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن أخذتها أخذت قوسا من نار " ، فرددتها .
قال البيهقي ، وابن عبد البر في هذا الحديث : هو منقطع ، أي بين عطية الكلاعي ، وأبي بن كعب ، وكذلك قال المزي .
وتعقبه ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأعله ابن القطان بأن راويه عن عطية المذكور هو عبد الرحمن بن سلم وهو مجهول .
وقال فيه ابن حجر في التقريب : شامي مجهول .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وله طرق عن أبي . قال ابن القطان : لا يثبت منها شيء . قال الحافظ : وفيما قاله نظر .
وذكر المزي في الأطراف له طرقا ، منها : أن الذي أقرأه أبي هو الطفيل بن عمرو ، ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط عن الطفيل بن عمرو الدوسي قال : أقرأني أبي بن كعب القرآن ، فأهديت له قوسا ، فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تقلدها من جهنم " الحديث ، وقال الشوكاني أيضا : وفي الباب عن معاذ عند الحاكم ، والبزار بنحو حديث أبي ، وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضا .
ومن ذلك ما رواه أبو داود ، وابن ماجه ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ، قال : علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن ، فأهدى إلي رجل منهم قوسا ، فقلت ليست بمال ، وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل ، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه ، فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، أهدى إلي رجل قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب ، والقرآن ، وليست بمال ، وأرمي عليها في سبيل الله ؟ فقال : " إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها " ، وفي إسناده المغيرة بن زياد الموصلي ، قال الشوكاني : وثقه وكيع ، ويحيى بن معين ، وتكلم فيه جماعة .
[ ص: 180 ] وقال الإمام أحمد : ضعيف الحديث ، حدث بأحاديث مناكير ، وكل حديث رفعه فهو منكر ، وقال أبو زرعة الرازي : لا يحتج بحديثه . اهـ . وقال فيه ابن حجر في التقريب : المغيرة بن زياد البجلي أبو هشام - أو هاشم - الموصلي صدوق له أوهام ، وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق أخرى ليس فيها المغيرة المذكور ، حدثنا عمرو بن عثمان ، وكثير بن عبيد ، قالا : ثنا بقية ، حدثني بشر بن عبد الله بن بشار ، قال عمرو : وحدثني عبادة بن نسي ، عن جنادة بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت نحو هذا الخبر ، والأول أتم ، فقلت : ما ترى فيها يا رسول الله ؟ فقال : " جمرة بين كتفيك تقلدتها " ، أو " تعلقتها " اهـ منه بلفظه ، وفي سند هذه الرواية بقية بن الوليد وقد تكلم فيه جماعة ، ووثقه آخرون إذا روى عن الثقات ، وهو من رجال مسلم ، وأخرج له البخاري تعليقا .
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق ، كثير التدليس عن الضعفاء ، والظاهر أن أعدل الأقوال فيه أنه إن صرح بالسماع عن الثقات فلا بأس به ، مع أن حديثه هذا معتضد بما تقدم وبما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اقرءوا القرآن واسألوا الله به ، فإن من بعدكم قوما يقرءون القرآن يسألون به الناس " ، قال الترمذي في هذا الحديث : ليس إسناده بذلك .
ومنها ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا وهب بن بقية ، أخبرنا خالد ، عن حميد الأعرج ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن ، وفينا الأعرابي ، والأعجمي : فقال : " اقرءوا فكل حسن ، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه " حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمر ، وابن لهيعة ، عن بكر بن سوادة ، عن وفاء بن شريح الصدفي ، عن سهل بن سعد الساعدي قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقتري فقال : " الحمد لله ، كتاب الله واحد ، وفيكم الأحمر ، وفيكم الأبيض ، وفيكم الأسود ، اقرءوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله " اهـ .
ومنها ما رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن شبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به " ، قال الشوكاني رحمه الله في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : قال في مجمع الزوائد : رجال أحمد ثقات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:11 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (126)
سُورَةُ هُودٍ (4)
صـ 181 إلى صـ 185
ومنها ما أخرجه الأثرم في سننه عن أبي رضي الله عنه قال : كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة ، قد احتبس في بيته أقرئه القرآن ، فيؤتى بطعام لا آكل مثله بالمدينة ، [ ص: 181 ] فحاك في نفسي شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه ، وإن كان يتحفك به فلا تأكله " ا هـ بواسطة نقل ابن قدامة في " المغني " والشوكاني في " نيل الأوطار " .
فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن تعليم القرآن والمسائل الدينية لا يجوز أخذ الأجرة عليه .
وممن قال بهذا : الإمام أحمد في إحدى الروايتين ، وأبو حنيفة ، والضحاك بن قيس ، وعطاء .
وكره الزهري ، وإسحاق تعليم القرآن بأجر .
وقال عبد الله بن شقيق : هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت .
وممن كره أجرة التعليم مع الشرط : الحسن ، وابن سيرين ، وطاوس ، والشعبي ، والنخعي ، قاله في " المغني " ، وقال : إن ظاهر كلام الإمام أحمد جواز أخذ المعلم ما أعطيه من غير شرط .
وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وهو مذهب مالك ، والشافعي .
وممن رخص في أجور المعلمين : أبو قلابة ، وأبو ثور ، وابن المنذر .
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس ، التعليم أحب إلي .
وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم ، قاله ابن قدامة في " المغني " .
واحتج أهل هذا القول بأدلة ، منها ما رواه الشيخان ، وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله ، إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ " ، فقال : ما عندي إلا إزاري ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
" إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك " ، فالتمس شيئا . فقال : ما أجد شيئا ، فقال : " التمس ولو خاتما من حديد " ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هل معك من القرآن شيء ؟ " قال نعم ، سورة كذا وكذا يسميها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد [ ص: 182 ] زوجتكها بما معك من القرآن " ، وفي رواية " قد ملكتكها بما معك من القرآن " فقالوا : هذا الرجل أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضا عن صداقها ، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز ، وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكراما له لحفظه ذلك المقدار من القرآن ، ولم يجعل التعليم صداقا لها - مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن " وفي رواية لأبي داود " علمها عشرين آية وهي امرأتك " .
واحتجوا أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس : " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " ، قالوا : الحديث وإن كان واردا في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضا على تعليم القرآن ، والعقائد ، والحلال ، والحرام ، للأدلة الماضية ، وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين ; لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة .
والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن ، والعقائد ، والحلال والحرام ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين الآية ، ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أمر نبيه نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين ، وبين في سورة قد أفلح المؤمنون أنه أمره أن يسلكهم - أي يدخلهم - فيها .
فدل ذلك على أن فيها بيوتا يدخل فيها الراكبون ، وذلك في قوله فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين [ 23 \ 27 ] ، ومعنى اسلك أدخل فيها من كل زوجين اثنين ، تقول العرب : سلكت الشيء في الشيء : أدخلته فيه ، وفيه لغة أخرى وهي : أسلكته فيه ، رباعيا بوزن : أفعل ، والثلاثية لغة القرآن ، كقوله : فاسلك فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 23 \ 27 ] ، وقوله اسلك يدك في جيبك الآية [ 28 \ 32 ] ، وقوله : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين الآية [ 26 \ 200 ] ، وقوله : [ ص: 183 ] كذلك نسلكه في قلوب المجرمين الآية [ 15 \ 12 ] ، وقوله : ما سلككم في سقر الآية [ 74 \ 42 ] ، ومنه قول الشاعر :
وكنت لزاز خصمك لم أعدد وقد سلكوك في يوم عصيب
ومن الرباعية قول عبد مناف بن ربع الهذلي :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة شلا كما تطرد الجمالة الشردا
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي أن أصل السلك الذي هو الخيط فعل بمعنى مفعول كذبح بمعنى مذبوح ، وقتل بمعنى مقتول ; لأن الخيط يسلك أي يدخل في الخرز لينظمه ، كما قال العباس بن مرداس السلمي :
عين تأوبها من شجوها أرق فالماء يغمرها طورا وينحدر
كأنه نظم در عند ناظمة تقطع السلك منه فهو منتثر
والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وأهلك إلا من سبق عليه القول الآية ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أمر نوحا أن يحمل في السفينة أهله إلا من سبق عليه القول ، أي سبق عليه من الله القول بأنه شقى ، وأنه هالك مع الكافرين .
ولم يبين هنا من سبق عليه القول منهم ، ولكنه بين بعد هذا أن الذي سبق عليه القول من أهله هو ابنه وامرأته .
قال في ابنه الذي سبق عليه القول : ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين [ 11 \ 42 ] إلى قوله وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ 11 \ 43 ] ، وقال فيه أيضا : قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح الآية [ 11 \ 46 ] ، وقال في امرأته : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح إلى قوله مع الداخلين [ 66 \ 01 ] .
قوله تعالى : وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم .
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أمر أصحابه الذين قيل له احملهم فيها أن يركبوا فيها قائلا : بسم الله مجراها ومرساها [ 11 \ 41 ] ، أي : بسم الله يكون جريها على وجه الماء ، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها .
وبين في " سورة الفلاح " : أنه أمره إذا استوى على السفينة هو ومن معه أن يحمدوا [ ص: 184 ] الله الذي نجاهم من الكفرة الظالمين ، ويسألوه أن ينزلهم منزلا مباركا ، وذلك في قوله : فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين [ 23 \ 28 ، 29 ] .
وبين في " سورة الزخرف " ما ينبغي أن يقال عند ركوب السفن وغيرها بقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] ، ومعنى قوله مقرنين ، أي : مطيقين ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب :
لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا
وقول الآخر :
ركبتم صعبتي أشر وجبن ولستم للصعاب بمقرنينا
وقول ابن هرمة :
وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر
قوله تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال الآية .
ذكر الله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن السفينة تجري بنوح ومن معه في ماء عظيم ، أمواجه كالجبال .
وبين جريانها هذا في ذلك الماء الهائل في مواضع أخر ، كقوله : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية [ 69 \ 11 ، 12 ] ، وقوله : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر [ 54 \ 11 - 15 ] .
وبين في موضع آخر : أن أمواج البحر الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه كالجبال أيضا بقوله : فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 \ 36 ] ، والطود : الجبل العظيم .
قوله تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية .
لم يبين هنا أمره الذي نجى منه هودا والذين آمنوا معه عند مجيئه ، ولكنه بين في مواضع أخر : أنه الإهلاك المستأصل بالريح العقيم التي أهلكهم الله بها فقطع دابرهم ، كقوله : [ ص: 185 ] وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 51 \ 41 ، 42 ] .
وقوله : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما الآية [ 69 \ 6 ، 7 ] .
وقوله : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 19 ، 20 ] .
وقوله : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي الآية [ 41 \ 16 ] .
قوله تعالى : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا الآية .
وبين هذا الأمر الذي جاء بقوله : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ 11 \ 67 ، 68 ] ، ونحوها من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:12 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (127)
سُورَةُ هُودٍ (5)
صـ 186 إلى صـ 190
قوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما الآية .
لم يبين هنا ما المراد بهذه البشرى التي جاءت بها رسل الملائكة إبراهيم ولكنه أشار بعد هذا إلى أنها البشارة بإسحاق ويعقوب في قوله : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] ; لأن البشارة بالذرية الطيبة شاملة للأم والأب ، كما يدل لذلك قوله : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] .
وقوله : قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم [ 51 \ 28 ] ، وقوله : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ، وقيل : البشرى هي إخبارهم له بأنهم أرسلوا لإهلاك قوم لوط ، وعليه فالآيات المبينة لها كقوله هنا في هذه السورة : قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط الآية [ 11 \ 70 ] .
وقوله : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط الآية [ 15 \ 58 ، 59 ] .
وقوله : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 32 ، 33 ] ، وقوله : ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين [ 29 \ 31 ] .
والظاهر : القول الأول ، وهذه الآية الأخيرة تدل عليه ; لأن فيها التصريح بأن إخبارهم بإهلاك قوم لوط بعد مجيئهم بالبشرى ; لأنه مرتب عليه بأداة الشرط التي هي " لما " كما [ ص: 186 ] ترى .
قوله تعالى : فما لبث أن جاء بعجل حنيذ فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم الآية ، ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم لما سلم على رسل الملائكة وكان يظنهم ضيوفا من الآدميين أسرع إليهم بالإتيان بالقرى وهو لحم عجل حنيذ أي منضج بالنار ، وأنهم لما لم يأكلوا أوجس منهم خيفة فقالوا لا تخف وأخبروه بخبرهم .
وبين في " الذاريات " : أنه راغ إلى أهله ، أي مال إليهم فجاء بذلك العجل وبين أنه سمين ، وأنه قربه إليهم ، وعرض عليهم الأكل برفق فقال لهم : ألا تأكلون [ 51 \ 27 ] ، وأنه أوجس منهم خيفة وذلك في قوله : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة الآية [ 51 \ 24 - 28 ] .
تنبيه
يؤخذ من قصة إبراهيم مع ضيفه هؤلاء أشياء من آداب الضيافة : منها تعجيل القرى ; لقوله : فما لبث أن جاء بعجل حنيذ [ 11 \ 69 ] .
ومنها كون القرى من أحسن ما عنده ; لأنهم ذكروا أن الذي عنده البقر وأطيبه لحما الفتي السمين المنصح .
ومنها تقريب الطعام إلى الضيف .
ومنها ملاطفته بالكلام بغاية الرفق ، كقوله ألا تأكلون [ 51 \ 27 ] .
ومعنى قوله نكرهم [ 11 \ 70 ] ، أي : أنكرهم لعدم أكلهم ، والعرب تطلق نكر ، وأنكر بمعنى واحد ، وقد جمعهما قول الأعشى :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وروي عن يونس : أن أبا عمرو بن العلاء حدثه : أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : قالت ياويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب .
بين الله جل وعلا في هذه السورة الكريمة ما قالته امرأة إبراهيم لما بشرت بالولد وهي [ ص: 187 ] عجوز ، ولم يبين هنا ما فعلت عند ذلك ، ولكنه بين ما فعلت في " الذاريات " بقوله : فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم [ 51 \ 29 ] ، وقوله : في صرة ، أي : ضجة وصيحة ، وقوله : فصكت وجهها ، أي : لطمته .
قوله تعالى : وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط ، لم يبين هنا ما جادل به إبراهيم الملائكة في قوم لوط ، ولكنه أشار إليه في " العنكبوت " بقوله : قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته الآية [ 29 \ 31 ، 32 ] .
فحاصل جداله لهم أنه يقول : إن أهلكتم القرية وفيها أحد من المؤمنين أهلكتم ذلك المؤمن بغير ذنب ، فأجابوه عن هذا بقولهم نحن أعلم بمن فيها الآية [ 29 \ 32 ] .
ونظير ذلك قوله : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 ، 36 ] .
قوله تعالى : يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود .
هذا العذاب الذي صرح هنا بأنه آت قوم لوط لا محالة وأنه لا مرد له بينه في مواضع متعددة ، كقوله في هذه السورة الكريمة : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 82 ، 83 ] .
وقوله في " الحجر " : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ 15 \ 74 ، 75 ] .
وقوله : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء الآية [ 25 \ 40 ] .
وقوله : ثم دمرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين [ 26 \ 172 ، 173 ] .
وقوله : لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 33 ، 34 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب .
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن لوطا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لما جاءته رسل ربه من الملائكة حصلت له بسبب مجيئهم مساءة عظيمة ضاق صدره بها ، وأشار في مواضع متعددة إلى أن سبب مساءته وكونه ضاق بهم ذرعا ، وقال هذا يوم عصيب : أنه ظن أنهم ضيوف من بني آدم ، كما ظنه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام ، وظن أن قومه ينتهكون حرمة ضيوفه فيفعلون بهم فاحشة اللواط ; لأنهم إن علموا بقدوم [ ص: 188 ] ضيف فرحوا واستبشروا به ليفعلوا به الفاحشة المذكورة ، فمن ذلك قوله هنا : وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد [ 11 \ 78 ، 79 ] .
وقوله في " الحجر " : وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ 15 \ 67 - 72 ] .
وقوله : يهرعون [ 11 \ 78 ] ، أي : يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك ، ومنه قول مهلهل :
فجاءوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف
وقوله : ولا تخزون ، أي : لا تهينون ولا تذلون بانتهاك حرمة ضيفي ، والاسم منه : الخزي بكسر الخاء وإسكان الزاي . ومنه قول حسان في عتبة بن أبي وقاص :
فأخزاك ربي يا عتيب بن مالك ولقاك قبل الموت إحدى الصواعق
وقال بعض العلماء : قوله : ولا تخزون [ 15 \ 69 ] من الخزاية ، وهي الخجل والاستحياء من الفضيحة ، أي لا تفعلوا بضيفي ما يكون سببا في خجلي واستحيائي ، ومنه قول ذي الرمة يصف ثورا وحشيا تطارده الكلاب في جانب حبل من الرمل :
حتى إذا دومت في الأرض راجعه كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب
خزاية أدركته بعد جولته من جانب الحبل مخلوطا بها الغضب
يعني أن هذا الثور لو شاء نجا من الكلاب بالهرب ، ولكنه استحيا وأنف من الهرب فكر راجعا إليها ، ومنه قوله الآخر :
أجاعلة أم الثوير خزاية على فراري أن لقيت بني عبس
والفعل منه : خزي يخزى ، كرضي يرضى ، ومنه قول الشاعر :
من البيض لا تخزى إذا الريح ألقعت بها مرطها أو زايل الحلى جيدها
وقول الآخر :
وإني لا أخزى إذا قيل مملق سخي وأخزى أن يقال بخيل
[ ص: 189 ] وقوله : لعمرك معناه : أقسم بحياتك ، والله جل وعلا له أن يقسم بما شاء من خلقه ، ولم يقسم في القرآن بحياة أحد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم ، وفي ذلك من التشريف له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى .
ولا يجوز لمخلوق أن يحلف بغير الله ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت " .
وقوله : لعمرك ، مبتدأ خبره محذوف ، أي لعمرك قسمي ، وسمع عن العرب تقديم الراء على اللام في لعمرك ، فتقول فيها : رعملك ، ومنه قول الشاعر :
رعملك إن الطائر الواقع الذي تعرض لي من طائر لصدوق
وقوله : لفي سكرتهم [ 15 \ 72 ] ، أي : عماهم وجهلهم وضلالهم ، والعمه : عمى القلب ، فمعنى يعمهون [ 15 \ 72 ] : يترددون متحيرين لا يعرفون حقا من باطل ، ولا نافعا من ضار ، ولا حسنا من قبيح .
واختلف العلماء في المراد بقول لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : هؤلاء بناتي [ 11 \ 78 ] في الموضعين على أقوال :
أحدها : أنه أراد المدافعة عن ضيفه فقط ، ولم يرد إمضاء ما قال ، وبهذا قال عكرمة ، وأبو عبيدة .
الثاني : أن المراد بناته لصلبه ، وأن المعنى : دعوا فاحشة اللواط وأزوجكم بناتي ، وعلى هذا فتزويج الكافر المسلمة كان جائزا في شرعه ، كما كانت بنات نبينا صلى الله عليه وسلم تحت الكفار في أول الإسلام كما هو معروف ، وقد أرسلت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها الذي زفتها به أمها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها إلى زوجها أبي العاص بن الربيع ، أرسلته إليه في فداء زوجها أبي العاص المذكور لما أسره المسلمون كافرا يوم بدر ، والقصة مشهورة ، وقد عقدها الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في مغازيه بقوله في غزوة بدر :
وابن الربيع صهر هادي الملة إذ في فداه زينب أرسلت بعقدها الذي به أهدتها له خديجة وزففتها سرحه بعقدها وعهدا إليه أن يردها له غدا إلخ . . . القول الثالث : أن المراد بالبنات : جميع نساء قومه ; لأن نبي القوم أب ديني لهم ، [ ص: 190 ] كما يدل له قوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم [ 33 \ 6 ] وفي قراءة أبي بن كعب : " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " وروي نحوها عن ابن عباس ، وبهذا القول قال كثير من العلماء .
وهذا القول تقربه قرينة وتبعده أخرى ، أما القرينة التي تقربه فهي : أن بنات لوط لا تسع جميع رجال قومه كما هو ظاهر ، فإذا زوجهن لرجال بقدر عددهن بقي عامة رجال قومه لا أزواج لهم ، فيتعين أن المراد عموم نساء قومه ، ويدل للعموم قوله : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم [ 26 \ 165 ، 166 ] ، وقوله : أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء [ 27 \ 55 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وأما القرينة التي تبعده : فهي أن النبي ليس أبا للكافرات ، بل أبوة الأنبياء الدينية للمؤمنين دون الكافرين ، كما يدل عليه قوله : النبي أولى بالمؤمنين الآية [ 33 \ 6 ] .
وقد صرح تعالى في " الذاريات " : بأن قوم لوط ليس فيهم مسلم إلا أهل بيت واحد وهم أهل بيت لوط ، وذلك في قوله : فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 36 ] .
قوله تعالى : قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه لوطا وعظ قومه ونهاهم أن يفضحوه في ضيفه ، وعرض عليهم النساء وترك الرجال ، فلم يلتفتوا إلى قوله ، وتمادوا فيما هم فيه من إرادة الفاحشة ، فقال لوط : لو أن لي بكم قوة الآية [ 11 \ 80 ] ، فأخبرته الملائكة بأنهم رسل ربه ، وأن الكفار الخبثاء لا يصلون إليه بسوء .
وبين في القمر أنه تعالى طمس أعينهم ، وذلك في قوله : ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر [ 54 \ 37 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:14 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (128)
سُورَةُ هُودٍ (6)
صـ 191 إلى صـ 195
قوله تعالى : فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه أمر نبيه لوطا أن يسري بأهله بقطع من الليل ، ولم يبين هنا هل هو من آخر الليل ، أو وسطه أو أوله ، ولكنه بين في " القمر " أن ذلك من آخر الليل وقت السحر ، وذلك في قوله : إلا آل لوط نجيناهم بسحر [ 54 \ 34 ] ، ولم يبين هنا أنه أمره أن يكون من ورائهم وهم أمامه ، ولكنه بين ذلك في [ ص: 191 ] " الحجر " بقوله : فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون [ 15 \ 65 ] ، وقوله تعالى : ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم [ 11 \ 81 ] ، قرأه جمهور القراء إلا امرأتك ، بالنصب ، وعليه فالأمر واضح ; لأنه استثناء من الأهل ، أي أسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها ، واتركها في قومها فإنها هالكة معهم .
ويدل لهذا الوجه قوله فيها في مواضع : كانت من الغابرين [ 29 \ 32 ، 33 ] ، والغابر : الباقي ، أي من الباقين في الهلاك .
وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير : إلا امرأتك بالرفع على أنه بدل من أحد ، وعليه فالمعنى : أنه أمر لوطا أن ينهى جميع أهله عن الالتفات إلا امرأته فإنه أوحي إليه أنها هالكة لا محالة ، ولا فائدة في نهيها عن الالتفات لكونها من جملة الهالكين .
وعلى قراءة الجمهور فهو لم يسر بها ، وظاهر قراءة أبي عمرو ، وابن كثير : أنه أسرى بها والتفتت فهلكت .
قال بعض العلماء : لما سمعت هدة العذاب التفتت ، وقالت : واقوماه ، فأدركها حجر فقتلها .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن وجه الجمع بين القراءتين المذكورتين أن السر في أمر لوط بأن يسري بأهله هو النجاة من العذاب الواقع صبحا بقوم لوط ، وامرأة لوط مصيبها ذلك العذاب الذي أصاب قومها لا محالة ، فنتيجة إسراء لوط بأهله لم تدخل فيها امرأته على كلا القولين ، وما لا فائدة فيه كالعدم ، فيستوي معنى أنه تركها ولم يسر بها أصلا ، وأنه أسرى بها وهلكت مع الهالكين .
فمعنى القولين راجع إلى أنها هالكة ، وليس لها نفع في إسراء لوط بأهله ، فلا فرق بين كونها بقيت معهم ، أو خرجت وأصابها ما أصابهم .
فإذا كان الإسراء مع لوط لم ينجها من العذاب ، فهي ومن لم يسر معه سواء ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله : فأسر بأهلك [ 11 \ 81 ] ، قرأه نافع وابن كثير : " فاسر " بهمزة وصل ، من سرى يسري ، وقرأه جمهور القراء : فأسر بأهلك بقطع الهمزة ، من أسرى الرباعي على وزن أفعل ، وسرى وأسرى : لغتان وقراءتان صحيحتان سبعيتان ، ومن سرى الثلاثية ، قوله تعالى : والليل إذا يسري [ 89 \ 4 ] ، فإن فتح ياء يسر يدل على أنه مضارع سرى [ ص: 192 ] الثلاثية .
وجمع اللغتين قول نابغة ذبيان :
أسرت عليه من الجوزاء سارية تزجي الشمال عليها جامد البرد
فإنه قال : أسرت ، رباعية في أشهر روايتي البيت ، وقوله : سارية ، اسم فاعل " سرى " الثلاثية ، وجمعهما أيضا قول الآخر :
حتى النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
بفتح تاء " تسري " واللغتان كثيرتان جدا في كلام العرب ، ومصدر الرباعية الإسراء على القياس ، ومصدر الثلاثية السرى بالضم على وزن فعل بضم ففتح على غير قياس ، ومنه قول عبد الله بن رواحة :
عند الصباح يحمد القوم السرى وتنجلي عنهم غيابات الكرى
قوله تعالى : إن موعدهم الصبح .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن موعد إهلاك قوم لوط وقت الصبح من تلك الليلة ، وكذلك قال في " الحجر " في قوله : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين [ 15 \ 66 ] ، وزاد في " الحجر " أن صبيحة العذاب وقعت عليهم وقت الإشراق ، وهو وقت طلوع الشمس بقوله : فأخذتهم الصيحة مشرقين .
قوله تعالى : وأمطرنا عليها حجارة من سجيل الآية .
اختلف العلماء في المراد بحجارة السجيل اختلافا كثيرا ، والظاهر أنها حجارة من طين في غاية الشدة والقوة ، والدليل على أن المراد بالسجيل : الطين ، قوله تعالى في " الذاريات " في القصة بعينها : لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 33 ، 34 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن . والدليل على قوتها وشدتها : أن الله ما عذبهم بها في حالة غضبه عليهم إلا لأن النكال بها بالغ شديد ، وأيضا فإن بعض العلماء قالوا : السجيل والسجين : أختان ، كلاهما الشديد من الحجارة والضرب . ومنه قول ابن مقبل :
ورجلة يضربون البيض ضاحية ضربا تواصى به الأبطال سجينا
وعلى هذا ، فمعنى من سجيل ، : أي من طين شديد القوة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد .
في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من التفسير للعلماء : اثنان منها كلاهما يشهد له القرآن ، وواحد يظهر أنه ضعيف .
أما الذي [ ص: 193 ] يظهر أنه ضعيف فهو أن المعنى : أن تلك الحجارة ليست بعيدة من قوم لوط ، أي لم تكن تخطئهم .
قاله القرطبي ، وغيره ; لأن هذا يكفي عنه قوله تعالى : وأمطرنا عليها حجارة [ 11 \ 82 ] ونحوها من الآيات . أما الوجهان اللذان يشهد لكل واحد منهما قرآن :
فالأول منهما : أن ديار قوم لوط ليست ببعيدة من الكفار المكذبين لنبينا ، فكان عليهم أن يعتبروا بما وقع لأهلها إذا مروا عليها في أسفارهم إلى الشام ، ويخافوا أن يوقع الله بهم بسبب تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما وقع من العذاب بأولئك ، بسبب تكذيبهم لوطا عليه الصلاة والسلام ، والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا . كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 ، 138 ] ، وقوله : وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين [ 15 \ 76 ، 77 ] ، وقوله : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم [ 51 \ 37 ] ، وقوله : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] إلى غير ذلك من الآيات . وعلى هذا القول فالضمير في قوله : وما هي راجع إلى ديار قوم لوط المفهومة من المقام .
الوجه الثاني أن المعنى : وما تلك الحجارة التي أمطرت على قوم لوط ببعيد من الظالمين للفاعلين مثل فعلهم ، فهو تهديد لمشركي العرب كالذي قبله .
ومن الآيات الدالة على هذا الوجه قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] ، فإن قوله : وللكافرين أمثالها ظاهر جدا في ذلك ، والآيات بنحو ذلك كثيرة .
تنبيه
اختلف العلماء في عقوبة من ارتكب فاحشة قوم لوط ، وسنذكر إن شاء الله أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم وما يظهر رجحانه بالدليل من ذلك فنقول وبالله جل وعلا نستعين :
قال بعض العلماء : الحكم في ذلك : أن يقتل الفاعل والمفعول به مطلقا سواء كانا محصنين أو بكرين ، أو أحدهما محصنا والآخر بكرا .
وممن قال بهذا القول : مالك بن أنس ، وأصحابه ، وهو أحد قولي الشافعي ، وإحدى الروايتين عن أحمد . وحكى غير واحد إجماع الصحابة على هذا القول ، إلا أن القائلين به اختلفوا في كيفية قتل من فعل تلك الفاحشة .
[ ص: 194 ] قال بعضهم : يقتل بالسيف .
وقال بعضهم : يرجم بالحجارة .
وقال بعضهم : يحرق بالنار .
وقال بعضهم : يرفع على أعلى بناء في البلد فيرمى منه منكسا ويتبع بالحجارة .
وحجة من قال بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط مطلقا ما أخرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم ، والبيهقي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " .
قال ابن حجر : ورجاله موثقون ، إلا أن فيه اختلافا اهـ .
وما ذكره يحيى بن معين من أن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب ينكر عليه حديث عكرمة هذا عن ابن عباس ، فيه أن عمرا المذكور ثقة ، أخرج له الشيخان ومالك كما قدمناه مستوفى .
ويعتضد هذا الحديث بما رواه سعيد بن جبير ، ومجاهد ، عن ابن عباس في البكر يوجد على اللوطية : أنه يرجم . أخرجه أبو داود ، والنسائي ، والبيهقي .
وبما أخرجه الحاكم ، وابن ماجه ، عن أبي هريرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اقتلوا الفاعل والمفعول به أحصنا أو لم يحصنا " قال الشوكاني : وإسناده ضعيف .
قال ابن الطلاع في أحكامه : لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رجم في اللواط ، ولا أنه حكم فيه ، وثبت عنه أنه قال : " اقتلوا الفاعل والمفعول به " رواه عنه ابن عباس ، وأبو هريرة . اهـ .
قال الحافظ : وحديث أبي هريرة لا يصح ، وقد أخرجه البزار من طريق عاصم بن عمر العمري ، عن سهيل ، عن أبيه ، عنه ، وعاصم متروك . وقد رواه ابن ماجه من طريقه بلفظ : " فارجموا الأعلى والأسفل " اهـ .
وأخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه : أنه رجم لوطيا ، ثم قال : قال الشافعي : وبهذا نأخذ برجم اللوطي محصنا كان أو غير محصن .
وقال : هذا قول ابن عباس ، قال : وسعيد بن المسيب يقول : السنة أن يرجم اللوطي أحصن أو لم يحصن .
وقال البيهقي أيضا : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة ، وأبو بكر محمد بن إبراهيم الفارسي ، [ ص: 195 ] قالا : ثنا أبو عمرو بن مطر ، ثنا إبراهيم بن علي ، ثنا يحيى بن يحيى ، أنبأ عبد العزيز بن أبي حازم ، أنبأ داود بن بكر ، عن محمد بن المنكدر ، عن صفوان بن سليم أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في خلافته يذكر له : أنه وجد رجلا في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة ، وأن أبا بكر رضي الله عنه جمع الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ذلك ، فكان من أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ، قال : إن هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم ، نرى أن تحرقه بالنار ، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار ، فكتب أبو بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه يأمره أن يحرقه بالنار . هذا مرسل .
وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه في غير هذه القصة قال : يرجم ويحرق بالنار .
ويذكر عن ابن أبي ليلى ، عن رجل من همدان : أن عليا رضي الله عنه رجم رجلا محصنا في عمل قوم لوط ، هكذا ذكره الثوري عنه مقيدا بالإحصان . وهشيم رواه عن ابن أبي ليلى مطلقا . اهـ منه بلفظه .
فهذه حجج القائلين بقتل الفاعل والمفعول به في اللواط .
وحجة من قال : إن ذلك القتل بالنار هو ما ذكرناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم آنفا .
وحجة من قال : إن قتله بالسيف قوله صلى الله عليه وسلم : " فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ، والقتل إذا أطلق انصرف إلى القتل بالسيف .
وحجة من قال : إن قتله بالرجم هو ما قدمنا من رواية سعيد بن جبير ، ومجاهد ، عن ابن عباس : أنه يرجم ، وما ذكره البيهقي ، وغيره عن علي أنه رجم لوطيا ، ويستأنس لذلك بأن الله رمى أهل تلك الفاحشة بحجارة السجيل .
وحجة من قال : يرفع على أعلى بناء ، أو جبل ويلقى منكسا ، ويتبع بالحجارة : أن ذلك هو الذي فعله الحكيم الخبير بقوم لوط ، كما قال : جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:16 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (129)
سُورَةُ هُودٍ (7)
صـ 196 إلى صـ 201
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الأخير غير ظاهر ; لأن قوم لوط لم يكن عقابهم على اللواط وحده ، بل عليه وعلى الكفر ، وتكذيب نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فهم قد جمعوا إلى اللواط [ ص: 196 ] ما هو أعظم من اللواط ، وهو الكفر بالله ، وإيذاء رسوله صلى الله عليه وسلم .
القول الثاني : هو أن اللواط زنى فيجلد مرتكبه مائة إن كان بكرا ويغرب سنة ، ويرجم إن كان محصنا . وهذا القول هو أحد قولي الشافعي .
وذكر البيهقي عن الربيع بن سليمان : أن الشافعي رجع إلى أن اللواط زنى ، فيجري عليه حكم الزنى ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد رحمهم الله تعالى .
ورواه البيهقي ، عن عطاء ، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وقتادة ، والنخعي ، والثوري ، والأوزاعي ، وغيرهم .
واحتج أهل هذا القول بما رواه البيهقي ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن خالد الحذاء ، عن ابن سيرين ، عن أبي موسى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان ، وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، ثنا أبو العباس بن يعقوب ، ثنا يحيى بن أبي طالب ، ثنا أبو بدر ، ثنا محمد بن عبد الرحمن فذكره . قال الشيخ : ومحمد بن عبد الرحمن هذا لا أعرفه ، وهو منكر بهذا الإسناد . انتهى منه بلفظه .
وقال الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن ، كذبه أبو حاتم .
وقال البيهقي : لا أعرفه ، والحديث منكر بهذا الإسناد ، ورواه أبو الفتح الأزدي في الضعفاء ، والطبراني في الكبير من وجه آخر عن أبي موسى ، وفيه بشر بن المفضل البجلي وهو مجهول .
وقد أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده عنه . اهـ منه .
واستدل القائلون بهذا القول أيضا بقياس اللواط على الزنى بجامع أن الكل إيلاج فرج في فرج محرم شرعا ، مشتهى طبعا .
ورد بأن القياس لا يكون في الحدود ; لأنها تدرأ بالشبهات . والأكثرون على جواز القياس في الحدود ، وعليه درج في " مراقي السعود " بقوله :
والحد والكفارة التقدير جوازه فيها هو المشهور
إلا أن قياس اللائط على الزاني يقدح فيه بالقادح المسمى : " فساد الاعتبار " ; لمخالفته لحديث ابن عباس المتقدم : أن الفاعل والمفعول به يقتلان مطلقا ، أحصنا أو لم يحصنا ، ولا شك أن صاحب الفطرة السليمة لا يشتهي اللواط ، بل ينفر منه غاية النفور [ ص: 197 ] بطبعه كما لا يخفى .
القول الثالث : أن اللائط لا يقتل ولا يحد حد الزنى ، وإنما يعزر بالضرب والسجن ونحو ذلك . وهذا قولأبي حنيفة .
واحتج أهل هذا القول بأن الصحابة اختلفوا فيه ، واختلافهم فيه يدل على أنه ليس فيه نص صحيح ، وأنه من مسائل الاجتهاد ، والحدود تدرأ بالشبهات ، قالوا : ولا يتناوله اسم الزنى ; لأن لكل منهما اسما خاصا به ، كما قال الشاعر :
من كف ذات حر في زي ذي ذكر لها محبان لوطي وزناء
قالوا : ولا يصح إلحاقه بالزنى لوجود الفارق بينهما ; لأن الداعي في الزنى من الجانبين بخلاف اللواط ، ولأن الزنى يفضي إلى الاشتباه في النسب وإفساد الفراش بخلاف اللواط ، قال في " مراقي السعود " : والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح أو مانع في الفرع . . . إلخ . . . . . . واستدل أهل هذا القول أيضا بقوله تعالى : واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الآية [ 4 \ 16 ] .
قالوا : المراد بذلك : اللواط . والمراد بالإيذاء : السب أو الضرب بالنعال .
وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : واللذان يأتيانها منكم ، قال : الرجلان الفاعلان .
وأخرج آدم ، والبيهقي في سننه ، عن مجاهد في قوله : فآذوهما ، يعني سبا ، قاله صاحب " الدر المنثور " .
قوله تعالى : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه الآية .
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن نبيه شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، أنه أخبر قومه : أنه إذا نهاهم عن شيء انتهى هو عنه وأن فعله لا يخالف قوله .
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن الإنسان يجب عليه أن يكون منتهيا عما ينهى عنه غيره ، مؤتمرا بما يأمر به غيره .
وقد بين تعالى ذلك في مواضع أخر ، كقوله : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ 2 \ 44 ] ، وقوله : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] .
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : [ ص: 198 ] " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار ، فيدور بها كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون : أي فلان ، ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ ! فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه " .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : " فتندلق أقتابه " ، أي : تتدلى أمعاؤه .
وأخرج وكيع ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وأبو نعيم في " الحلية " ، وابن مردويه ، والبيهقي في " شعب الإيمان " ، وغيرهم ، عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، كلما قرضت رجعت ، فقلت لجبريل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء خطباء من أمتك ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون " ، قاله صاحب " الدر المنثور " . اهـ . وقد قال الشاعر :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وقد أجاد من قال :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض
ومعلوم أن عمل الإنسان بما ينصح به غيره أدعى لقبول غيره منه ، كما قال الشاعر :
فإنك إذ ما تأت ما أنت آمر به تلف من إياه تأمر آتيا
قوله تعالى : قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن نبيه شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار ، وأعز جانبه بسبب العواطف العصبية ، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كفار .
وهو دليل على أن المتمسك بدينه قد يعينه الله ، ويعزه بنصرة قريبه الكافر ، كما بينه تعالى في مواضع أخر ، كقوله في صالح وقومه : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله . الآية [ 27 \ 49 ]
ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء ، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءا ، ولا شهدوا ذلك ولا حضروه خوفا من عصبته . فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكفار ، وقد قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم : [ ص: 199 ] ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي : آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب .
وذلك بسبب العواطف العصبية ، والأواصر النسبية ، ولا صلة له بالدين البتة ، فكونه جل وعلا يمتن على رسوله صلى الله عليه وسلم بإيواء أبي طالب له دليل على أن الله قد ينعم على المتمسك بدينه بنصرة قريبه الكافر .
ومن ثمرات تلك العصبية النسبية قول أبي طالب :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
أبشر بذاك وقر منه عيونا
وقوله أيضا :
ونمنعه حتى نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ولهذا لما كان نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس له عصبة في قومه الذين أرسل إليهم ظهر فيه أثر عدم العصبة ، بدليل قوله تعالى عنه : قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ 11 \ 80 ] .
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين .
ولما ناصر بنو المطلب بن عبد مناف بني هاشم ، ولم يناصرهم بنو عبد شمس بن عبد مناف ، وبنو نوفل بن عبد مناف - عرف النبي صلى الله عليه وسلم لبني المطلب تلك المناصرة التي هي عصبية نسبية لا صلة لها بالدين ، فأعطاهم من خمس الغنيمة مع بني هاشم ، وقال : " إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام " ومنع بني عبد شمس ، وبني نوفل من خمس الغنيمة ، مع أن الجميع أولاد عبد مناف بن قصي .
وقال أبو طالب في بني عبد شمس وبني نوفل :
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا عقوبة شر عاجل غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا بني خلف قيضا بنا والغياطل
والغياطل " بالغين المعجمة " ، ومراد أبي طالب بهم : بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي " القبيلة المشهورة من قبائل قريش " ، وإنما سموا الغياطل ; لأن قيس بن عدي بن سعد بن سهم الذي هو من سادات قريش العظام ، وهو الذي يعنيه عبد المطلب بقوله يرقص ابنه عبد الله وهو صغير :
كأنه في العز قيس بن عدي في دار سعد ينتدي أهل الندى
[ ص: 200 ] تزوج امرأة من كنانة تسمى " الغيطلة " وهي أم بعض أولاده . فسمي بنو سهم الغياطل ; لأن قيس بن عدي المذكور سيدهم .
فهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله قد يعين المؤمن بالكافر لتعصبه له ، وربما كان لذلك أثر حسن على الإسلام والمسلمين ، وقد يكون من منن الله على بعض أنبيائه المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم ، وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " ، وفي المثل : " اجتن الثمار وألق الخشبة في النار " .
فإذا عرفت دلالة القرآن على أن المسلم قد ينتفع برابطة نسب وعصبية من كافر ، فاعلم أن النداء بالروابط العصبية لا يجوز . لإجماع المسلمين على أن المسلم لا يجوز له الدعاء بـ " يا لبني فلان " ونحوها .
وقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في تلك الدعوة : " دعوها فإنها منتنة " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " دعوها " يدل على وجوب تركها ; لأن صيغة " افعل " للوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وليس هنا دليل صارف عنه ، ويؤكد ذلك تعليله الأمر بتركها بأنها منتنة ، وما صرح النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بتركه وأنه منتن لا يجوز لأحد تعاطيه ، وإنما الواجب على المسلمين النداء برابطة الإسلام التي هي من شدة قوتها تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد إنسان واحد ، فهي تربطك بأخيك المسلم كربط أعضائك بعضها ببعض ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " .
وإذا تأملت قوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [ 58 \ 22 ] ، تحققت أن الروابط النسبية تتلاشى مع الروابط الإسلامية ، وقد قال تعالى : إنما المؤمنون إخوة [ 49 \ 10 ] ، وقال : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] .
ولا يخفى أن أسلافنا معاشر المسلمين إنما فتحوا البلاد ومصروا الأمصار بالرابطة الإسلامية ، لا بروابط عصبية ، ولا بأواصر نسبية .
قوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك الآية .
قيد تعالى خلود أهل الجنة وأهل النار بالمشيئة ، فقال في كل منهما : إلا ما شاء ربك [ 11 \ 107 ] ، ثم بين عدم الانقطاع في كل منهما ، فقال في خلود أهل الجنة : عطاء غير مجذوذ [ ص: 201 ] [ 11 \ 108 ] .
وقال في خلود أهل النار : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] .
ومعلوم أن كلما تقتضي التكرار بتكرر الفعل الذي بعدها .
وقد أوضحنا هذه المسألة إيضاحا تاما في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله [ 6 \ 128 ] وفي سورة النبإ في الكلام على قوله تعالى : لابثين فيها أحقابا [ 78 \ 23 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-05-24, 02:17 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (130)
سُورَةُ يُوسُفَ (1)
صـ 202 إلى صـ 205
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ يُوسُفَ
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ .
لم يبين هنا تأويل هذه الرؤيا ، ولكنه بينه في هذه السورة الكريمة في قوله : فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا الآية [ 12 \ 99 ، 100 ] .
ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي .
قوله تعالى : وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث .
بين الله جل وعلا أنه علم نبيه يوسف من تأويل الأحاديث ، وصرح بذلك أيضا في قوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث [ 12 \ 21 ] .
وقوله : رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث [ 12 \ 101 ] .
واختلف العلماء في المراد بتأويل الأحاديث .
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بذلك : تعبير الرؤيا ، فالأحاديث على هذا القول هي الرؤيا ، قالوا : لأنها إما حديث نفس ، أو ملك ، أو شيطان .
وكان يوسف أعبر الناس للرؤيا ، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على خبرته بتأويل الرؤيا ، كقوله : ياصاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان [ 12 \ 41 ] ، وقوله :
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله [ 12 \ 47 ] إلى قوله : يعصرون [ 12 \ 49 ] .
وقال بعض العلماء : المراد بتأويل الأحاديث معرفة معاني كتب الله وسنن الأنبياء ، وما غمض وما اشتبه على الناس من أغراضها ومقاصدها ، يفسرها لهم ويشرحها ، ويدلهم على مودعات حكمها .
وسميت أحاديث ; لأنها يحدث بها عن الله ورسله ، فيقال : قال الله كذا ، وقال رسوله كذا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : فبأي حديث بعده يؤمنون [ 7 \ 185 ] .
وقوله : [ ص: 203 ] الله نزل أحسن الحديث الآية [ 39 \ 23 ] ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما [ 28 \ 14 ] ، وقوله : قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي الآية [ 12 \ 37 ] .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن الآيات المذكورة تشمل ذلك كله من تأويل الرؤيا ، وعلوم كتب الله وسنن الأنبياء ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين .
الظاهر أن مراد أولاد يعقوب بهذا الضلال الذي وصفوا به أباهم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - في هذه الآية الكريمة إنما هو الذهاب عن علم حقيقة الأمر كما ينبغي .
ويدل لهذا ورود الضلال بهذا المعنى في القرآن وفي كلام العرب . فمنه بهذا المعنى قوله تعالى عنهم مخاطبين أباهم : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] ، وقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] ، أي لست عالما بهذه العلوم التي لا تعرف إلا بالوحي ، فهداك إليها وعلمكها بما أوحى إليك من هذا القرآن العظيم ، ومنه بهذا المعنى قول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
يعني أنها غير عالمة بالحقيقة في ظنها أنه يبغي بها بدلا وهو لا يبغي بها بدلا .
وليس مراد أولاد يعقوب الضلال في الدين ; إذ لو أرادوا ذلك لكانوا كفارا ، وإنما مرادهم أن أباهم في زعمهم في ذهاب عن إدراك الحقيقة ، وإنزال الأمر منزلته اللائقة به ، حيث آثر اثنين على عشرة ، مع أن العشرة أكثر نفعا له ، وأقدر على القيام بشئونه وتدبير أموره .
واعلم أن الضلال أطلق في القرآن إطلاقين آخرين :
أحدهما الضلال في الدين ، أي الذهاب عن طريق الحق التي جاءت بها الرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، وهذا أشهر معانيه في القرآن ، ومنه بهذا المعنى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] وقوله : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، وقوله : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 62 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثاني إطلاق الضلال بمعنى الهلاك ، والغيبة ، من قول العرب : ضل السمن في [ ص: 204 ] الطعام ، إذا غاب فيه وهلك فيه ، ولذلك تسمي العرب الدفن إضلالا ; لأنه تغييب في الأرض يئول إلى استهلاك عظام الميت فيها ; لأنها تصير رميما وتمتزج بالأرض ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : وقالوا أئذا ضللنا في الأرض الآية [ 32 \ 10 ] .
ومن إطلاق الضلال على الغيبة قوله تعالى : وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 7 \ 53 ] ، أي : غاب واضمحل .
ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان :
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
فقوله : مضلوه ، يعني دافنيه ، وقوله : بعين جلية ، أي : بخبر يقين ، والجولان : جبل دفن عنده المذكور .
ومن الضلال بمعنى الغيبة والاضمحلال قول الأخطل :
كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا
وقول الآخر :
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
قوله تعالى : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون .
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أنه سينبئ إخوته بهذا الأمر الذي فعلوا به في حال كونهم لا يشعرون .
ثم صرح في هذه السورة الكريمة بأنه جل وعلا أنجز ذلك الوعد في قوله : قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون [ 12 \ 89 ] .
وصرح بعدم شعورهم بأنه يوسف في قوله : وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون [ 12 \ 58 ] .
وهذا الذي ذكرنا أن العامل في الجملة الحالية هو قوله : لتنبئنهم [ 12 \ 15 ] ، أى : لتخبرنهم بأمرهم هذا في حال كونهم لا يشعرون بأنك يوسف ، هو الظاهر .
وقيل : إن عامل الحال هو قوله : وأوحينا إليه [ 12 \ 15 ] ، وعليه فالمعنى : أن ذلك الإيحاء وقع في حال كونهم لا يشعرون بأنه أوحي إليه ذلك .
وقرأ هذه الآية جمهور القراء : غيابة الجب [ 12 \ 15 ] بالإفراد ، وقرأ نافع " غيابات الجب " بصيغة الجمع ، وكل شيء غيب عنك شيئا فهو غيابة ، ومنه قيل للقبر [ ص: 205 ] غيابة ، ومنه قول الشاعر :
وإن أنا يوما غيبتني غيابتي فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
والجمع في قراءة نافع نظرا إلى تعدد أجزاء قعر الجب التي تغيب الداخل فيها عن العيان .
واختلف العلماء في جواب " لما " من قوله فلما ذهبوا به أمثبت هو أم محذوف ؟
فقيل : هو مثبت ، وهو قوله : قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق الآية [ 12 \ 17 ] ، أي : لما كان كذا وكذا قالوا ياأبانا واستحسن هذا الوجه أبو حيان .
وقيل : جواب " لما " هو قوله : أوحينا [ 12 \ 15 ] والواو صلة ، وهذا مذهب الكوفيين ، تزاد عندهم الواو في جواب " لما ، وحتى ، وإذا " ، وعلى ذلك خرجوا قوله تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه الآية [ 37 \ 103 ، 104 ] ، وقوله : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها الآية [ 39 \ 73 ] ، وقول امرئ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى بنا بطن حقف ذي ركام عقنقل
أي : لما أجزنا ساحة الحي انتحى .
وقيل : جواب " لما " محذوف ، وهو قول البصريين ، واختلف في تقديره ، فقيل : إن تقديره فعلوا به ما فعلوا من الأذى .
وقدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم .
وقدره بعضهم : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب جعلوه فيها .
واستظهر هذا الأخير أبو حيان ; لأن قوله : وأجمعوا أن يجعلوه [ 12 \ 15 ] يدل على هذا المقدر . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:28 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (131)
سُورَةُ يُوسُفَ (2)
صـ 206 إلى صـ 210
قوله تعالى : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه .
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام هم بأن يفعل مع تلك المرأة مثل ما همت هي به منه ، ولكن القرآن العظيم بين براءته عليه الصلاة والسلام من الوقوع فيما لا ينبغي حيث بين شهادة كل من له تعلق بالمسألة ببراءته ، وشهادة الله له بذلك واعتراف إبليس به .
أما الذين لهم تعلق بتلك الواقعة فهم : يوسف ، والمرأة ، وزوجها ، والنسوة ، [ ص: 206 ] والشهود .
أما جزم يوسف بأنه بريء من تلك المعصية فذكره تعالى في قوله : هي راودتني عن نفسي [ 12 \ 26 ] ، وقوله : قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه .
وأما اعتراف المرأة بذلك ففي قولها للنسوة : ولقد راودته عن نفسه فاستعصم [ 12 \ 32 ] ، وقولها : الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ 12 \ 51 ] .
وأما اعتراف زوج المرأة ففي قوله : قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين [ 12 \ 28 ، 29 ] .
وأما اعتراف الشهود بذلك ففي قوله : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين الآية [ 12 \ 26 ] .
وأما شهادة الله جل وعلا ببراءته ففي قوله : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين [ 12 \ 24 ] .
قال الفخر الرازي في " تفسيره " : قد شهد الله تعالى في هذه الآية الكريمة على طهارته أربع مرات :
أولها : لنصرف عنه السوء ، واللام للتأكيد والمبالغة .
والثاني قوله : والفحشاء ، أي : وكذلك لنصرف عنه الفحشاء .
والثالث قوله : إنه من عبادنا ، مع أنه تعالى قال : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] .
والرابع قوله : المخلصين ، وفيه قراءتان : قراءة باسم الفاعل ، وأخرى باسم المفعول .
فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص .
ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه ، واصطفاه لحضرته .
وعلى كلا الوجهين : فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزها عما أضافوه إليه . اهـ من تفسير الرازي .
ويؤيد ذلك قوله تعالى : معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون [ 12 \ 23 ] .
[ ص: 207 ] وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله تعالى : قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 ، 83 ] ، فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين ، ولا شك أن يوسف من المخلصين ، كما صرح تعالى به في قوله : إنه من عبادنا المخلصين ، فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي .
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية ما نصه : وعند هذا نقول : هؤلاء الجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه الفضيحة ، إن كانوا من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته ، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته ، ولعلهم يقولون : كنا في أول الأمر تلامذة إبليس ، إلى أن تخرجنا عليه فزدنا في السفاهة عليه ، كما قال الخوارزمي :
وكنت امرأ من جند إبليس فارتقى بي الدهر حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
طرائق فسق ليس يحسنها بعدي
فثبت بهذه الدلائل : أن يوسف عليه السلام بريء مما يقول هؤلاء الجهال . ا هـ كلام الرازي .
ولا يخفى ما فيه من قلة الأدب مع من قال تلك المقالة من الصحابة وعلماء السلف الصالح ، وعذر الرازي في ذلك هو اعتقاده أن ذلك لم يثبت عن أحد من السلف الصالح .
وسترى في آخر هذا المبحث أقوال العلماء في هذه المسألة إن شاء الله تعالى .
فإن قيل : قد بينتم دلالة القرآن على براءته عليه السلام مما لا ينبغي في الآيات المتقدمة ، ولكن ماذا تقولون في قوله تعالى : وهم بها ؟ [ 12 \ 24 ]
فالجواب من وجهين :
الأول : إن المراد بهم يوسف بها خاطر قلبي صرف عنه وازع التقوى ، وقال بعضهم : هو الميل الطبيعي والشهوة الغريزية المزمومة بالتقوى ، وهذا لا معصية فيه ; لأنه أمر جبلي لا يتعلق به التكليف ، كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : " اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " ، يعني ميل القلب الطبيعي .
ومثال هذا ميل الصائم بطبعه إلى الماء البارد ، مع أن تقواه تمنعه من الشرب وهو صائم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة " ; لأنه ترك ما تميل [ ص: 208 ] إليه نفسه بالطبع خوفا من الله ، وامتثالا لأمره ، كما قال تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 ، 41 ] .
وهم بني حارثة وبني سلمة بالفرار يوم أحد ، كهم يوسف هذا ، بدليل قوله : إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما [ 3 \ 122 ] ; لأن قوله : والله وليهما يدل على أن ذلك الهم ليس معصية ; لأن إتباع المعصية بولاية الله لذلك العاصي إغراء على المعصية .
والعرب تطلق الهم وتريد به المحبة والشهوة ، فيقول الإنسان فيما لا يحبه ولا يشتهيه : هذا ما يهمني ، ويقول فيما يحبه ويشتهيه : هذا أهم الأشياء إلي . بخلاف هم امرأة العزيز ، فإنه هم عزم وتصميم ، بدليل أنها شقت قميصه من دبر وهو هارب عنها ، ولم يمنعها من الوقوع فيما لا ينبغي إلا عجزها عنه .
ومثل هذا التصميم على المعصية معصية يؤاخذ بها صاحبها ، بدليل الحديث الثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي بكرة : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " ، فصرح صلى الله عليه وسلم بأن تصميم عزمه على قتل صاحبه معصية أدخله الله بسببها النار .
وأما تأويلهم هم يوسف بأنه قارب الهم ولم يهم بالفعل ، كقول العرب : قتلته لو لم أخف الله ، أي قاربت أن أقتله ، كما قاله الزمخشري .
وتأويل الهم بأنه هم بضربها ، أو هم بدفعها عن نفسه ، فكل ذلك غير ظاهر ، بل بعيد من الظاهر ولا دليل عليه .
والجواب الثاني وهو اختيار أبي حيان : أن يوسف لم يقع منه هم أصلا ، بل هو منفي عنه لوجود البرهان .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الوجه الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية ; لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب : أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه ، كقوله : فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين [ 10 \ 84 ] ، أي : إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه ، فالأول : دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب ; لأن جواب الشروط وجواب لولا لا يتقدم ، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه كالآية [ ص: 209 ] المذكورة ، وكقوله : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] ، أي : إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم .
وعلى هذا القول : فمعنى الآية ، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ، أي لولا أن رآه هم بها ، فما قبل لولا هو دليل الجواب المحذوف ، كما هو الغالب في القرآن واللغة .
ونظير ذلك قوله تعالى : إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها [ 28 \ 10 ] ، فما قبل لولا دليل الجواب ، أي : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به .
واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب لولا [ 12 \ 24 ] ، وتقديم الجواب في سائر الشروط ، وعلى هذا القول يكون جواب لولا في قوله : لولا أن رأى برهان ربه [ 12 \ 24 ] ، هو ما قبله من قوله : وهم بها [ 12 \ 24 ] .
وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون ، ومن أعلام البصريين : أبو العباس المبرد ، وأبو زيد الأنصاري .
وقال الشيخ أبو حيان في " البحر المحيط " ما نصه : والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة ، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان ، كما تقول : لقد قارفت لولا أن عصمك الله ، ولا نقول : إن جواب لولا متقدم عليها ، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك ، بل صريح أدوات الشروط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها ، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون ، ومن أعلام البصريين : أبو زيد الأنصاري ، وأبو العباس المبرد .
بل نقول : إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه ، كما يقول جمهور البصريين في قول العرب : أنت ظالم إن فعلت . فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم ، ولا يدل قوله أنت ظالم على ثبوت الظلم ، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل ، وكذلك هنا التقدير : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فكان وجود الهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان ، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم ، ولا التفات إلى قول الزجاج . ولو كان الكلام : ولهم بها ، كان بعيدا ، فكيف مع سقوط اللام ؟ لأنه يوهم أن قوله : وهم بها هو جواب لولا ونحن لم نقل بذلك ، وإنما هو دليل الجواب ، وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة ، لجواز أن يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي [ ص: 210 ] باللام ، وبغير لام ، تقول : لولا زيد لأكرمتك ، ولولا زيد أكرمتك ، فمن ذهب إلى أن قوله : هم بها نفس الجواب لم يبعد ، ولا التفات لقول ابن عطية : إن قول من قال : إن الكلام قد تم في قوله : ولقد همت به وإن جواب لولا في قوله : وهم بها وإن المعنى : لولا أن رأى برهان ربه لهم بها ، فلم يهم يوسف عليه السلام .
قال : وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف اهـ .
أما قوله : يرده لسان العرب فليس كما ذكر ، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب ، قال الله تعالى : إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين \ [ 28 \ 10 ] 30 فقوله : إن كادت لتبدي به إما أن يتخرج على أن الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل ، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب ، والتقدير : لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به .
وأما أقوال السلف : فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك ; لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا ، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة .
والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب ; لأنهم قدروا جواب لولا محذوفا ولا يدل عليه دليل ; لأنهم لم يقدروا الهم بها ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط ; لأن ما قبل الشرط دليل عليه اهـ . محل الغرض من كلام أبي حيان بلفظه .
وقد قدمنا أن هذا القول هو أجرى الأقوال على لغة العرب ، وإن زعم بعض العلماء خلاف ذلك .
فبهذين الجوابين تعلم أن يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بريء من الوقوع فيما لا ينبغي ، وأنه إما أن يكون لم يقع منه أصلا بناء على أن الهم معلق بأداة الامتناع التي هي لولا على انتفاء رؤية البرهان ، وقد رأى البرهان فانتفى المعلق عليه ، وبانتفائه ينتفي المعلق الذي هو همه بها كما تقدم إيضاحه في كلام أبي حيان .
وإما أن يكون همه خاطرا قلبيا صرف عنه وازع التقوى ، أو هو الشهوة والميل الغريزي المزموم بالتقوى كما أوضحناه ، فبهذا يتضح لك أن قوله : وهم بها لا يعارض ما قدمنا من الآيات على براءة يوسف من الوقوع فيما لا ينبغي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:29 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (132)
سُورَةُ يُوسُفَ (3)
صـ 211 إلى صـ 215
فإذا علمت مما بينا دلالة القرآن العظيم على براءته مما لا ينبغي ، فسنذكر لك أقوال العلماء الذين قالوا : إنه وقع منه بعض ما لا ينبغي ، وأقوالهم في المراد بالبرهان فنقول :
قال صاحب " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " : أخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لما همت به تزينت ، ثم استلقت على فراشها ، وهم بها جلس بين رجليها يحل تبانه نودي من السماء " يا ابن يعقوب ، لا تكن كطائر ينتف ريشه فيبقى لا ريش له " فلم يتعظ على النداء شيئا ، حتى رأى برهان ربه : جبريل عليه السلام في صورة يعقوب عاضا على أصبعيه ، ففزع فخرجت شهوته من أنامله ، فوثب إلى الباب فوجده مغلقا ، فرفع يوسف رجله فضرب بها الباب الأدنى فانفرج له ، واتبعته فأدركته ، فوضعت يديها في قميصه فشقته حتى بلغت عضلة ساقه ، فألفيا سيدها لدى الباب .
وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ ، وأبو نعيم في " الحلية " عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سئل عن هم يوسف عليه السلام ما بلغ ؟ قال : حل الهميان - يعني السراويل - وجلس منها مجلس الخاتن ، فصيح به ، يا يوسف لا تكن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش !
وأخرج أبو نعيم في " الحلية " عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في قوله : ولقد همت به وهم بها [ 12 \ 24 ] ، قال : طمعت فيه وطمع فيها ، وكان من الطمع أن هم بحل التكة ، فقامت إلى صنم مكلل بالدر واليواقيت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه ، فقال : أي شيء تصنعين ؟ فقالت : استحي من إلهي أن يراني على هذه الصورة ، فقال يوسف عليه السلام : تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ، ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت ، ثم قال : لا تنالينها مني أبدا . وهو البرهان الذي رأى .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : وهم بها [ 12 \ 24 ] ، قال : حل سراويله حتى بلغ ثنته ، وجلس منها مجلس الرجل من امرأته ، فمثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده على صدره فخرجت شهوته من أنامله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس [ ص: 212 ] رضي الله عنهما في قوله : لولا أن رأى برهان ربه قال : رأى صورة أبيه يعقوب في وسط البيت عاضا على إبهامه ، فأدبر هاربا وقال : " وحقك يا أبت لا أعود أبدا " .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة ، وسعيد بن جبير في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قالا : حل السراويل ، وجلس منها مجلس الخاتن ، فرأى صورة فيها وجه يعقوب عاضا على أصابعه ، فدفع صدره فخرجت الشهوة من أنامله ، فكل ولد يعقوب قد ولد له اثنا عشر ولدا إلا يوسف عليه السلام ، فإنه نقص بتلك الشهوة ولدا فلم يولد له غير أحد عشر ولدا .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : تمثل له يعقوب عليه السلام فضرب في صدر يوسف فطارت شهوته من أطراف أنامله ، فولد لكل ولد يعقوب اثنا عشر ذكرا غير يوسف لم يولد له إلا غلامان .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن الحسن رضي الله عنه ، في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : رأى يعقوب عاضا على أصابعه يقول : " يوسف ! يوسف ! " .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية ، قال : رأى آية من آيات ربه حجزه الله بها عن معصيته ، ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضا على أصبعيه ، وهو يقول له : يا يوسف ! أتهم بعمل السفهاء ، وأنت مكتوب في الأنبياء ؟ ! فذلك البرهان . فانتزع الله كل شهوة كانت في مفاصله .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن سيرين رضي الله عنه ، في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : مثل له يعقوب عليه السلام عاضا على إصبعيه يقول : " يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، اسمك مكتوب في الأنبياء ، وتعمل عمل السفهاء ! " .
وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن مجاهد رضي الله عنه ، قال : رأى صورة يعقوب عليه السلام في الجدار .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن الحسن رضي الله عنه ، قال : زعموا أن سقف البيت انفرج ، فرأى يعقوب عاضا على إصبعيه .
[ ص: 213 ] وأخرج عبد الله بن أحمد في " زوائد الزهد " ، عن الحسن رضي الله عنه ، في قوله : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه . قال : إنه لما هم قيل له ارفع رأسك يا يوسف ، فرفع رأسه فإذا هو بصورة في سقف البيت تقول : يا يوسف ! يا يوسف ! أنت مكتوب في الأنبياء ، فعصمه الله عز وجل .
وأخرج أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي صالح رضي الله عنه ، قال : رأى صورة يعقوب في سقف البيت تقول : " يوسف ! يوسف ! " .
وأخرج ابن جرير من طريق الزهري ، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره أن البرهان الذي رأى يوسف عليه السلام هو يعقوب .
وأخرج ابن جرير ، عن القاسم بن أبي بزة ، نودي : " يا ابن يعقوب ، لا تكونن كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش " ، فلم يعرض للنداء وقعد ، فرفع رأسه ، فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه ، فقام مرعوبا استحياء من أبيه .
وأخرج ابن جرير ، عن علي بن بذيمة ، قال : كان يولد لكل رجل منهم اثنا عشر إلا يوسف عليه السلام ولد له أحد عشر من أجل ما خرج من شهوته .
وأخرج ابن جرير ، عن شمر بن عطية ، قال : نظر يوسف إلى صورة يعقوب عاضا على إصبعه يقول : يا يوسف ، فذاك حين كف وقام .
وأخرج ابن جرير ، عن الضحاك رضي الله عنه ، قال : يزعمون أنه مثل له يعقوب عليه السلام فاستحيا منه .
وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الأوزاعي ، قال : كان ابن عباس رضي الله عنهما ، يقول في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : رأى آية من كتاب الله فنهته ، مثلت له في جدار الحائط .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن محمد بن كعب القرظي رضي الله عنه ، قال : البرهان الذي رأى يوسف عليه السلام ثلاث آيات من كتاب الله : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 ، 11 ] ، وقول الله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [ 10 \ 61 ] ، وقول الله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] .
[ ص: 214 ] وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن محمد بن كعب قال : رأى في البيت في ناحية الحائط مكتوبا : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن وهب بن منبه رضي الله عنه ، قال : لما خلا يوسف وامرأة العزيز خرجت كف بلا جسد بينهما ، مكتوب عليها بالعبرانية : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] ، ثم انصرفت الكف ، وقاما مقامهما ، ثم رجعت الكف مكتوبا عليها بالعبرانية : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 ، 12 ] ، ثم انصرفت الكف ، وقاما مقامهما ، فعادت الكف الثالثة مكتوبا عليها : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وانصرفت الكف ، وقاما مقامهما ، فعادت الكف الرابعة مكتوبا عليها بالعبرانية : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ 2 \ 281 ] ، فولى يوسف عليه السلام هاربا .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : لولا أن رأى برهان ربه ، قال : آيات ربه ، أري تمثال الملك .
وأخرج أبو الشيخ ، وأبو نعيم في " الحلية " ، عن جعفر بن محمد رضي الله عنه ، قال : لما دخل يوسف معها البيت وفي البيت صنم من ذهب قالت : كما أنت ، حتى أغطي الصنم ، فإني أستحي منه ، فقال يوسف : هذه تستحيي من الصنم ، أنا أحق أن أستحيي من الله ؟ فكف عنها وتركها . اهـ من " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " .
قال مقيده عفا الله عنه : هذه الأقوال التي رأيت نسبتها إلى هؤلاء العلماء منقسمة إلى قسمين :
قسم لم يثبت نقله عمن نقله عنه بسند صحيح ، وهذا لا إشكال في سقوطه .
وقسم ثبت عن بعض من ذكر ، ومن ثبت عنه منهم شيء من ذلك ، فالظاهر الغالب على الظن المزاحم لليقين : أنه إنما تلقاه عن الإسرائيليات ; لأنه لا مجال للرأي فيه ، ولم يرفع منه قليل ولا كثير إليه صلى الله عليه وسلم .
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي التجرؤ على القول في نبي الله يوسف بأنه جلس بين رجلي كافرة أجنبية ، يريد أن يزني بها ، اعتمادا على مثل هذه الروايات ، مع أن في الروايات [ ص: 215 ] المذكورة ما تلوح عليه لوائح الكذب ، كقصة الكف التي خرجت له أربع مرات ، وفي ثلاث منهن لا يبالي بها ; لأن ذلك على فرض صحته فيه أكبر زاجر لعوام الفساق ، فما ظنك بخيار الأنبياء ؟ مع أنا قدمنا دلالة القرآن على براءته من جهات متعددة ، وأوضحنا أن الحقيقة لا تتعدى أحد أمرين :
إما أن يكون لم يقع منه هم بها أصلا ، بناء على تعليق همه على عدم رؤية البرهان ، وقد رأى البرهان ، وإما أن يكون همه الميل الطبيعي المزموم بالتقوى ، والعلم عند الله تعالى .
واختلف العلماء في المراد بالسوء والفحشاء ، اللذين ذكر الله في هذه الآية أنه صرفهما عن نبيه يوسف .
فروى ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر رضي الله عنه ، في قوله : لنصرف عنه السوء والفحشاء [ 12 \ 24 ] ، قال : الزنى ، والثناء القبيح اهـ .
وقال بعض العلماء : السوء : مقدمات الفاحشة ، كالقبلة ، والفاحشة : الزنى .
وقيل : السوء : جناية اليد ، والفاحشة : الزنى . وأظهر الأقوال في تقدير متعلق الكاف في قوله : كذلك لنصرف ، أي : فعلنا له ذلك من إراءة البرهان ، كذلك الفعل لنصرف واللام لام كي .
وقوله : المخلصين [ 12 \ 24 ] قرأه نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، بفتح اللام بصيغة اسم المفعول ، وقرأه ابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل ، والعلم عند الله تعالى اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:31 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (133)
سُورَةُ يُوسُفَ (4)
صـ 216 إلى صـ 220
قوله تعالى : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم .
يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر ; لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب ; لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها ، وهي تنوشه من خلفه ، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها [ ص: 216 ] قرينة أقوى منها ، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها ، وذلك في قوله تعالى : وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل [ 12 \ 18 ] ; لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب ، جعلوا على قميصه دم سخلة ; ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب . ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له ، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها ، وهي عدم شق القميص ، فقال : سبحان الله ! متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه ; ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله : بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [ 12 \ 18 ] .
وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن .
ومن أمثلة الحكم بالقرينة : الرجل يتزوج المرأة من غير أن يراها سابقا ، فتزفها إليه ولائد لا يثبت بشهادتهن أن هذه هي فلانة التي وقع عليها العقد ، فيجوز له جماعها من غير احتياج إلى بينة تشهد على عينها أنها هي التي وقع العقد عليها ، اعتمادا على قرينة النكاح .
وكالرجل ينزل ضيفا عند قوم ، فتأتيه الوليدة أو الغلام بالطعام ، فيجوز له الأكل من غير احتياج إلى ما يثبت إذن مالك الطعام له في الأكل ، اعتمادا على القرينة .
وكقول مالك ومن وافقه : إن من شم في فيه ريح الخمر يحد حد الشارب ، اعتمادا على القرينة ; لأن وجود ريحها في فيه قرينة على أنه شربها ، وكمسائل اللوث وغير ذلك .
وقد قدمنا في سورة المائدة صحة الاحتجاج بمثل هذه القرائن ، وأوضحنا بالأدلة القرآنية ، أن التحقيق أن شرع من قبلنا الثابت بشرعنا شرع لنا ، إلا بدليل على النسخ غاية الإيضاح ، والعلم عند الله تعالى .
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : وجاءوا على قميصه بدم كذب . [ 12 \ 18 ]
استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل من الفقه ، كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص .
وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت ، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح ، وهي قوة التهمة ، ولا خلاف في الحكم بها ، قاله ابن العربي . اهـ كلام القرطبي .
[ ص: 217 ] واختلف العلماء في الشاهد في قوله : وشهد شاهد من أهلها [ 12 \ 26 ] .
فقال بعض العلماء : هو صبي في المهد ، وممن قال ذلك ابن عباس ، والضحاك ، وسعيد بن جبير .
وعن ابن عباس أيضا أنه رجل ذو لحية ، ونحوه عن الحسن .
وعن زيد بن أسلم أنه ابن عم لها كان حكيما ، ونحوه عن قتادة ، وعكرمة .
وعن مجاهد أنه ليس بإنسي ، ولا جان ، هو خلق من خلق الله .
قال مقيده عفا الله عنه : قول مجاهد هذا يرده قوله تعالى : من أهلها [ 12 \ 26 ] ; لأنه صريح في أنه إنسي من أهل المرأة . وأظهر الأقوال : أنه صبي ، لما رواه أحمد ، وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم " اهـ .
قوله تعالى : إن كيدكن عظيم .
هذه الآية الكريمة إذا ضمت لها آية أخرى حصل بذلك بيان أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان ، والآية المذكورة هي قوله : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] ; لأن قوله في النساء : إن كيدكن عظيم [ 12 \ 28 ] ، وقوله في الشيطان : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] ، يدل على أن كيدهن أعظم من كيده .
قال القرطبي : قال مقاتل ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان " ; لأن الله تعالى يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا ، وقال : إن كيدكن عظيم ا هـ .
وقال الأديب الحسن بن آية الحسني الشنقيطي :
ما استعظم الإله كيدهنه إلا لأنهن هن هنه
قوله تعالى : وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم .
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة ثناء هؤلاء النسوة على يوسف بهذه الصفات الحميدة فيما بينهن ، ثم بين اعترافهن بذلك عند سؤال الملك لهن أمام الناس في قوله : قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه الآية [ 12 \ 51 ] .
[ ص: 218 ] قوله تعالى : وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون .
لم يبين هنا هذا الذي أجمعوا أمرهم عليه ، ولم يبين هنا أيضا المراد بمكرهم ، ولكنه بين في أول هذه السورة الكريمة أن الذي أجمعوا أمرهم عليه هو جعله في غيابة الجب ، وأن مكرهم هو ما فعلوه بأبيهم يعقوب وأخيهم يوسف ، وذلك في قوله : فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب إلى قوله : والله المستعان على ما تصفون [ 12 \ 18 ] .
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ; لأنه أنزل عليه هذا القرآن ، وفصل له هذه القصة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن حاضرا لدى أولاد يعقوب حين أجمعوا أمرهم على المكر به ، وجعله في غيابة الجب ، فلولا أن الله أوحى إليه ذلك ما عرفه من تلقاء نفسه .
والآيات المشيرة لإثبات رسالته ، بدليل إخباره بالقصص الماضية التي لا يمكنه علم حقائقها إلا عن طريق الوحي كثيرة ، كقوله : وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم الآية [ 3 \ 44 ] .
وقوله : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر الآية [ 28 \ 44 ] .
وقوله : وما كنت ثاويا في أهل مدين [ 28 \ 45 ] .
وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك الآية [ 28 \ 46 ] .
وقوله : ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين [ 38 \ 69 ، 70 ] .
وقوله : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا الآية [ 11 \ 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فهذه الآيات من أوضح الأدلة على أنه صلى الله عليه وسلم رسول كريم ، وإن كانت المعجزات الباهرة الدالة على ذلك أكثر من الحصر .
قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون .
قال ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وعامر الشعبي ، وأكثر المفسرين : إن معنى هذه الآية أن أكثر الناس ، وهم الكفار ما كانوا يؤمنون بالله بتوحيدهم له في ربوبيته إلا وهم مشركون به غيره في عبادته .
فالمراد بإيمانهم اعترافهم بأنه ربهم الذي هو خالقهم ، ومدبر شئونهم ، والمراد بشركهم عبادتهم غيره معه ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا ، كقوله : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ ص: 219 ] [ 10 \ 31 ] ، وكقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون [ 43 \ 87 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم [ 43 \ 9 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون [ 29 \ 61 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون [ 29 \ 63 ] ، وقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون [ 23 \ 84 - 88 ] إلى غير ذلك من الآيات .
ومع هذا فإنهم قالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] .
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن توحيد الربوبية لا ينقذ من الكفر إلا إذا كان معه توحيد العبادة ، أي عبادة الله وحده لا شريك له ، ويدل لذلك قوله تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] .
وفي هذه الآية الكريمة إشكال : وهو أن المقرر في علم البلاغة أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها ، وعليه فإن عامل هذه الجملة الحالية الذي هو " يؤمن " مقيد بها ، فيصير المعنى تقييد إيمانهم بكونهم مشركين ، وهو مشكل لما بين الإيمان والشرك من المنافاة .
قال مقيده عفا الله عنه : لم أر من شفى الغليل في هذا الإشكال ، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن هذا الإيمان المقيد بحال الشرك إنما هو إيمان لغوي لا شرعي ; لأن من يعبد مع الله غيره لا يصدق عليه اسم الإيمان البتة شرعا .
أما الإيمان اللغوي فهو يشمل كل تصديق ، فتصديق الكافر بأن الله هو الخالق الرازق يصدق عليه اسم الإيمان لغة مع كفره بالله ، ولا يصدق عليه اسم الإيمان شرعا .
وإذا حققت ذلك علمت أن الإيمان اللغوي يجامع الشرك فلا إشكال في تقييده به ، وكذلك الإسلام الموجود دون الإيمان في قوله تعالى : قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ 49 \ 14 ] ، فهو الإسلام اللغوي ; لأن الإسلام الشرعي لا يوجد ممن لم يدخل الإيمان في قلبه ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 220 ] وقال بعض العلماء : " نزلت آية وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، في قول الكفار في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، وهو راجع إلى ما ذكرنا .
قوله تعالى : لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب .
ذكر الله جل وعلا في هذه الآية أن في أخبار المرسلين مع أممهم ، وكيف نجى الله المؤمنين وأهلك الكافرين - عبرة لأولي الألباب ، أي عظة لأهل العقول .
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 ] ، كما تقدمت الإشارة إليه مرارا ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:32 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (134)
سُورَةُ الرَّعْدِ(1)
صـ 221 إلى صـ 225
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الرَّعْدِ
قوله تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش .
ظاهر هذه الآية الكريمة قد يفهم منه أن السماء مرفوعة على عمد ، ولكننا لا نراها ، ونظير هذه الآية قوله أيضا في أول سورة " لقمان " : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 31 \ 10 ] .
واختلف العلماء في قوله : ترونها على قولين :
أحدهما أن لها عمدا ولكننا لا نراها ، كما يشير إليه ظاهر الآية ، وممن روي عنه هذا القول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد ، كما قاله ابن كثير .
وروي عن قتادة أيضا أن المعنى أنها مرفوعة بلا عمد أصلا ، وهو قول إياس بن معاوية ، وهذا القول يدل عليه تصريحه تعالى في سورة " الحج " أنه هو الذي يمسكها أن تقع على الأرض في قوله : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] .
قال ابن كثير : فعلى هذا يكون قوله : ترونها تأكيدا لنفي ذلك ، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها كذلك ، وهذا هو الأكمل في القدرة اهـ .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن هذا القول من قبيل السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ، والمراد أن المقصود نفي اتصاف المحكوم عليه بالمحكوم به ، وذلك صادق بصورتين :
الأولى : أن يكون المحكوم عليه موجودا ، ولكن المحكوم به منتف عنه ، كقولك ليس الإنسان بحجر ، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه .
الثانية : أن يكون المحكوم عليه غير موجود فيعلم منه انتفاء الحكم عليه بذلك الأمر الموجودي ، وهذا النوع من أساليب اللغة العربية ، كما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، ومثاله في اللغة قول امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
[ ص: 222 ] أي لا منار له أصلا حتى يهتدي به ، وقوله :
لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
يعني : لا أرانب فيها ولا ضباب .
وعلى هذا فقوله : بغير عمد ترونها ، أي : لا عمد لها حتى تروها ، والعمد : جمع عمود على غير قياس ، ومنه قول نابغة ذبيان :
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
والصفاح بالضم والتشديد : الحجر العريض .
قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات الآية .
المراد بالسيئة هنا : العقوبة وإنزال العذاب قبل الحسنة أي : قبل العافية ، وقبل الإيمان ، وقد بين تعالى في هذه الآية أن الكفار يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يعجل لهم العذاب الذي يخوفهم به إن تمادوا على الكفر ، وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده [ 22 \ 47 ] ، وكقوله : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون [ 29 \ 53 ] ، وكقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] ، وقوله : سأل سائل بعذاب واقع للكافرين [ 70 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء الآية [ 8 \ 32 ] .
وقوله : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق [ 42 \ 18 ] ، وقوله : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وسبب طلبهم لتعجيل العذاب هو العناد ، وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كاذب فيما يخوفهم به من بأس الله وعقابه ، كما قال تعالى : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه [ 11 \ 8 ] ، وكقوله : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وقوله : قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 11 \ 32 ] ، كما تقدمت الإشارة إلى هذا .
والمثلاث : العقوبات ، واحدتها مثلة .
[ ص: 223 ] والمعنى : أنهم يطلبون تعجيل العذاب تمردا وطغيانا ، ولم يتعظوا بما أوقع الله بالأمم السالفة من المثلاث - أي العقوبات - كما فعل بقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وفرعون وقومه وغيرهم .
قوله تعالى : وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وأنه شديد العقاب ، فجمع بين الوعد والوعيد ليعظم رجاء الناس في فضله ، ويشتد خوفهم من عقابه وعذابه الشديد ; لأن مطامع العقلاء محصورة في جلب النفع ودفع الضر ، فاجتماع الخوف والطمع أدعى للطاعة وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين [ 6 \ 147 ] ، وقوله : إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم [ 6 \ 156 و 7 \ 167 ] ، وقوله جل وعلا : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ 15 \ 49 ، 50 ] ، وقوله : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إنما أنت منذر ، أي : إنما عليك البلاغ والإنذار ، أما هداهم وتوفيقهم فهو بيد الله تعالى ، كما أن حسابهم عليه جل وعلا .
وقد بين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء [ 2 \ 272 ] ، وقوله : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولكل قوم هاد .
أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة أن المراد بالقوم الأمة ، والمراد بالهادي الرسول ، كما يدل له قوله تعالى : ولكل أمة رسول الآية [ 10 \ 47 ] ، وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، وقد أوضحنا أقوال العلماء وأدلتها في هذه الآية الكريمة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى .
لفظة " ما " في هذه الآية يحتمل أن تكون موصولة والعائد محذوف ، أي يعلم الذي تحمله كل أنثى . وعلى هذا فالمعنى : يعلم ما تحمله من الولد على أي حال هو من ذكورة ، وأنوثة ، وخداج ، وحسن ، وقبح ، [ ص: 224 ] وطول ، وقصر ، وسعادة ، وشقاوة إلى غير ذلك من الأحوال .
وقد دلت على هذا المعنى آيات من كتاب الله ، كقوله : ويعلم ما في الأرحام [ 31 \ 34 ] ; لأن " ما " فيه موصولة بلا نزاع ، وكقوله : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم [ 53 \ 32 ] ، وقوله : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء الآية [ 3 \ 6 ] .
ويحتمل أيضا : أن تكون لفظة " ما " في الآية الكريمة مصدرية ، أي يعلم حمل كل أنثى بالمعنى المصدري ، وقد جاءت آيات تدل أيضا على هذا المعنى ، كقوله : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ، وقوله : إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه الآية [ 41 \ 47 ] .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون لها وجهان كلاهما حق ، وكلاهما يشهد له قرآن ، فنذكر الجميع .
وأما احتمال كون لفظة " ما " في هذه الآية استفهامية ، فهو بعيد فيما يظهر لي ، وإن قال به بعض أهل العلم ، وقد دلت السنة الصحيحة على أن علم ما في الأرحام المنصوص عليه في الآيات المذكورة ، مما استأثر الله به دون خلقه ، وذلك هو ما ثبت في صحيح البخاري من أن المراد بمفاتح الغيب في قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] الخمس المذكورة في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت [ 31 \ 34 ] ، والاحتمالان المذكوران في لفظة " ما " من قوله : يعلم ما تحمل الآية [ 13 \ 8 ] جاريان أيضا في قوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد [ 13 \ 8 ] فعلى كونها موصولة فيهما ، فالمعنى يعلم الذي تنقصه وتزيده ، وعلى كونها مصدرية ، فالمعنى يعلم نقصها وزيادتها .
واختلف العلماء في المراد بقوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد [ 13 \ 8 ] ، وهذه أقوالهم في الآية بواسطة نقل " صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور " : أخرج ابن جرير ، عن الضحاك في قوله وما تغيض الأرحام وما تزداد ، قال : " هي المرأة ترى الدم في حملها " .
[ ص: 225 ] وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : وما تغيض الأرحام ، قال : " خروج الدم " وما تزداد ، قال : " استمساكه " .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : وما تغيض الأرحام ، قال : " أن ترى الدم في حملها " وما تزداد ، قال : " في التسعة الأشهر " .
وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق الضحاك ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : وما تغيض الأرحام وما تزداد ، قال : " ما تزداد على التسعة وما تنقص من التسعة " .
وأخرج ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : وما تغيض الأرحام ، قال : " ما دون تسعة أشهر وما تزداد فوق التسعة " .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : وما تغيض الأرحام ، يعني : " السقط " ، وما تزداد ، يقول : " ما زادت في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماما ، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهن من تزيد في الحمل ، ومنهن من تنقص ، فذلك الغيض ، والزيادة التي ذكر الله تعالى ، وكل ذلك بعلمه تعالى " .
وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك رضي الله عنه ، قال : " ما دون التسعة أشهر فهو غيض وما فوقها فهو زيادة " .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن عكرمة - رضي الله عنه - قال : " ما غاض الرحم بالدم يوما إلا زاد في الحمل يوما حتى تكمل تسعة أشهر طاهرا " .
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن - رضي الله عنه - في قوله : وما تغيض الأرحام ، قال : " السقط " وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد - رضي الله عنه - في الآية ، قال : " إذا رأت الدم هش الولد وإذا لم تر الدم عظم الولد " اهـ . من " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:33 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (135)
سُورَةُ الرَّعْدِ(2)
صـ 226 إلى صـ 230
وقيل : الغيض والزيادة يرجعان إلى الولد ، كنقصان إصبع وغيرها ، وزيادة إصبع وغيرها .
وقيل : الغيض : انقطاع دم الحيض ، وما تزداد : بدم النفاس بعد الوضع .
ذكر هذين القولين القرطبي .
وقيل : تغيض : تشتمل على واحد ، وتزداد : تشتمل على توأمين فأكثر .
قال مقيده عفا الله عنه : مرجع هذه الأقوال كلها إلى شيء واحد ، وهو أنه تعالى عالم بما تنقصه الأرحام وما تزيده ; لأن معنى تغيض : تنقص ، وتزداد ، أي : تأخذه زائدا ، فيشمل النقص المذكور : نقص العدد ، ونقص العضو من الجنين ، ونقص جسمه إذا حاضت عليه فتقلص ، ونقص مدة الحمل بأن تسقطه قبل أمد حمله المعتاد ، كما أن الازدياد يشمل : زيادة العضو ، وزيادة العدد ، وزيادة جسم الجنين إن لم تحض وهي حامل ، وزيادة أمد الحمل عن القدر المعتاد ، والله جل وعلا يعلم ذلك كله والآية تشمله كله .
تنبيه
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن أقل أمد الحمل وأكثره ، وأقل أمد الحيض وأكثره ، مأخوذ من طريق الاجتهاد ; لأن الله استأثر بعلم ذلك لقوله : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام الآية .
ولا يجوز أن يحكم في شيء من ذلك إلا بقدر ما أظهره الله لنا ووجد ظاهرا في النساء نادرا ، أو معتادا ، وسنذكر - إن شاء الله - أقوال العلماء في أقل الحمل وأكثره ، وأقل الحيض وأكثره ، ونرجح ما يظهر رجحانه بالدليل .
فنقول وبالله تعالى نستعين :
اعلم أن العلماء أجمعوا على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، وسيأتي بيان أن القرآن دل على ذلك ; لأن قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ، إن ضممت إليه قوله تعالى : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] ، بقي عن مدة الفصال من الثلاثين شهرا لمدة الحمل ستة أشهر ، فدل ذلك على أنها أمد للحمل يولد فيه الجنين كاملا كما يأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .
وقد ولد عبد الملك بن مروان لستة أشهر ، وهذه الأشهر الستة بالأهلة ، كسائر أشهر الشريعة ; لقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس الآية [ 2 \ 189 ] .
قال القرطبي : " ولذلك قد روي في المذهب عن بعض أصحاب مالك وأظنه في كتاب [ ص: 227 ] ابن حارث أنه إن نقص عن الأشهر الستة ثلاثة أيام فإن الولد يلحق لعلة نقص الأشهر وزيادتها . حكاه ابن عطية . اهـ " .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى اعلم أن الشهر المعدود من أوله يعتبر على حاله من كمال أو نقصان ، وأن المنكسر يتمم ثلاثين ، أما أكثر أمد الحمل فلم يرد في تحديده شيء من كتاب ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه ، وكلهم يقول بحسب ما ظهر له من أحوال النساء .
فذهب الإمام أحمد ، والشافعي إلى أن أقصى أمد الحمل : أربع سنين ، وهو إحدى الروايتين المشهورتين عن مالك ، والرواية المشهورة الأخرى عن مالك : خمس سنين ، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن أقصاه : سنتان ، وهو رواية عن أحمد ، وهو مذهب الثوري ، وبه قالت عائشة رضي الله عنها ، وعن الليث : ثلاث سنين ، وعن الزهري : ست ، وسبع ، وعن محمد بن الحكم : سنة لا أكثر ، وعن داود : تسعة أشهر .
وقال ابن عبد البر : هذه مسألة لا أصل لها إلا الاجتهاد والرد إلى ما عرف من أمر النساء ، وقال القرطبي : " روى الدارقطني ، عن الوليد بن مسلم ، قال : قلت لمالك بن أنس : إني حدثت عن عائشة أنها قالت : لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل ، فقال : سبحان الله من يقول هذا ؟ ! هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل وتضع في أربع سنين ، وكانت تسمى حاملة الفيل " .
وروي أيضا : بينما مالك بن دينار يوما جالس إذ جاءه رجل ، فقال : " يا أبا يحيى ، ادع لامرأتي حبلى منذ أربع سنين ! قد أصبحت في كرب شديد " ، فغضب مالك وأطبق المصحف ، ثم قال :
" ما يرى هؤلاء القوم إلا أنا أنبياء " ، ثم قرأ ، ثم دعا ، ثم قال : " اللهم هذه المرأة إن كان في بطنها ريح فأخرجه عنها ، وإن كان في بطنها جارية فأبدلها غلاما ، فإنك تمحو وتثبت وعندك أم الكتاب " ، ورفع مالك يده ، ورفع الناس أيديهم ، وجاء الرسول إلى الرجل ، فقال : أدرك امرأتك ، فذهب الرجل ، فما حط مالك يده حتى طلع الرجل من باب المسجد على رقبته غلام جعد قطط ابن أربع سنين قد استوت أسنانه ما قطعت سراره .
وروي أيضا : أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : " يا أمير المؤمنين ، إني غبت عن امرأتي سنتين فجئت وهي حبلى " ، فشاور عمر الناس في رجمها ، فقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : " يا أمير المؤمنين ، إن كان لك عليها سبيل فليس لك [ ص: 228 ] على ما في بطنها سبيل فاتركها حتى تضع " ، فتركها فوضعت غلاما قد خرجت ثنيتاه فعرف الرجل الشبه ، فقال : " ابني ورب الكعبة " ، فقال عمر : " عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ ، لولا معاذ لهلك عمر " .
وقال الضحاك : " وضعتني أمي وقد حملت بي في بطنها سنتين ، فولدتني وقد خرجت سني " .
ويذكر عن مالك أنه حمل به في بطن أمه سنتين وقيل : ثلاث سنين ، ويقال : إن محمد بن عجلان مكث في بطن أمه ثلاث سنين ، فماتت به وهو يضطرب اضطرابا شديدا ، فشق بطنها وأخرج وقد نبتت أسنانه ، وقال حماد بن سلمة : إنما سمي هرم بن حيان هرما ; لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين .
وذكر الغزنوي أن الضحاك ولد لسنتين وقد طلعت سنه ; فسمي ضحاكا .
وعن عباد بن العوام ، قال : " ولدت جارة لنا لأربع سنين غلاما شعره إلى منكبيه ، فمر به طير فقال له : كش " . اهـ كلام القرطبي .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال دليلا أنه لا حد لأكثر أمد الحمل ، وهو الرواية الثالثة عن مالك ، كما نقله عنه القرطبي ; لأن كل تحديد بزمن معين لا أصل له ولا دليل عليه ، وتحديد زمن بلا مستند صحيح لا يخفى سقوطه ، والعلم عند الله تعالى .
وأما أقل الحيض وأكثره فقد اختلف فيه العلماء أيضا ، فذهب مالك إلى أن أقل الحيض بالنسبة إلى العبادة كالصوم ووجوب الغسل لا حد له ، بل لو نزلت من المرأة قطرة دم واحدة لكانت حيضة بالنسبة إلى العبادة ، أما بالنسبة إلى الاستبراء والعدة ، فقيل كذلك أيضا ، والمشهور أنه يرجع في قدر ذلك للنساء العارفات بالقدر الذي يدل على براءة الرحم من الحيض ، قال خليل بن إسحاق في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى : ورجع في قدر الحيض هنا ، هل هو يوم أو بعضه إلى قوله للنساء ، أي : رجع في ذلك كله للنساء . اهـ .
والظاهر أنه عند مالك من قبيل تحقيق المناط ، والنساء أدرى بالمناط في ذلك .
أما أكثر الحيض عند مالك فهو بالنسبة إلى الحيضة الأولى التي لم تحض قبلها : نصف شهر ، ثم إن تمادى عليها الدم بعد نصف الشهر فهي مستحاضة ، وأما المرأة التي اعتادت الحيض فأكثر مدة حيضها عنده هو زيادة ثلاثة أيام استظهارا على أكثر أزمنة عادتها إن تفاوت زمن حيضها ، فإن حاضت مرة ستا ومرة خمسا ومرة سبعا استظهرت بالثلاثة على [ ص: 229 ] السبعة ; لأنها أكثر عادتها ، ومحل هذا إذا لم يزد ذلك على نصف الشهر ، فإن زاد على نصف الشهر فهي طاهر عند مضي نصف الشهر ، وكل هذا في غير الحامل ، وسيأتي الكلام في هذا المبحث - إن شاء الله - على الدم الذي تراه الحامل .
هذا حاصل مذهب مالك في أقل الحيض وأكثره ، وأما أكثر الطهر فلا حد له ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء ، وأقل الطهر في مذهب مالك لم يصرح به مالك ، بل قال : يسأل النساء عن عدد أيام الطهر .
وقال الشيخ أبو محمد في رسالته : إنه نحو ثمانية أيام ، أو عشرة أيام . وقال ابن سراج : " ينبغي أن تكون الفتوى بذلك " ; لأن الشيخ أبا محمد استقرأ ذلك من " المدونة " ، وهو قول سحنون ، وقال ابن مسلمة : " أقل الطهر في مذهب مالك خمسة عشر يوما " ، واعتمده صاحب " التلقين " ، وجعله ابن شاس المشهور ، وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره ; حيث قال : وأكثره لمبتدئه نصف شهر كأقل الطهر .
وذهب الإمام الشافعي ، والإمام أحمد - رحمهما الله - في المشهور الصحيح عنهما : أن أقل الحيض يوم وليلة ، وأكثره خمسة عشر يوما ، وهو قول عطاء ، وأبي ثور ، وأقل الطهر عند الشافعي باتفاق أصحابه خمسة عشر يوما ، ونقل الماوردي عن أكثر أهل العلم أن أقل الطهر خمسة عشر يوما ، وقال الثوري أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما .
قال أبو ثور : وذلك مما لا يختلفون فيه فيما نعلم .
وذهب الإمام أحمد إلى أن أقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما ، وروى عنه ذلك الأثرم ، وأبو طالب ، وقد قدمنا مرارا أن أكثر الطهر لا حد له إجماعا ، قال النووي في " شرح المهذب " : ودليل الإجماع الاستقراء ; لأن ذلك موجود مشاهد ، ومن أظرفه ما نقله القاضي أبو الطيب في تعليقه ، قال : " أخبرتني امرأة عن أختها أنها تحيض في كل سنة يوما وليلة وهي صحيحة تحبل وتلد ونفاسها أربعون يوما " .
وذهب الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - إلى أن أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأكثره عشرة . وعن أبي يوسف : أقله يومان وأكثر الثالث . وأقل الطهر عند أبي حنيفة وأصحابه : خمسة عشر يوما ولا حد لأكثره عنده ، كما قدمنا حكاية الإجماع عليه مرارا ، ويستثنى من ذلك مراعاة المعتادة المستحاضة لزمن طهرها وحيضها .
وعن يحيى بن أكثم : أقل الطهر تسعة عشر يوما ، وحكى الماوردي عن مالك ثلاث [ ص: 230 ] روايات في أكثر الحيض ، إحداها : خمسة عشر ، والثانية : سبعة عشر ، والثالثة : غير محدودة .
وعن مكحول : أكثر الحيض سبعة أيام ، وعن عبد الملك بن الماجشون : أقل الطهر خمسة أيام ، ويحكى عن نساء الماجشون أنهن كن يحضن سبع عشرة ، قال أحمد : " وأكثر ما سمعنا سبع عشرة " .
هذا حاصل أقوال العلماء في أقل الحيض وأكثره ، وهذه أدلتهم . أما أبو حنيفة ومن وافقه ، فاحتجوا لمذهبهم أن أقل الحيض ثلاثة وأكثره عشرة بحديث واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام " .
وبما روي عن أبي أمامة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يكون الحيض أكثر من عشرة أيام ولا أقل من ثلاثة أيام " وبما روي عن أنس - رضي الله عنه - قال : " الحيض ثلاث ، أربع ، خمس ، ست ، سبع ، ثمان ، تسع ، عشر " ، قالوا : وأنس لا يقول هذا إلا توقيفا ، قالوا : ولأن هذا تقدير ، والتقدير لا يصح إلا بتوقيف ، أو اتفاق ، وإنما حصل الاتفاق على ثلاثة ، ورد الجمهور الاستدلال بالأحاديث المذكورة بأنها ضعيفة لا تثبت بمثلها حجة .
قال النووي في " شرح المهذب " ما نصه : " وأما حديث واثلة ، وأبي أمامة ، وأنس ، فكلها ضعيفة متفق على ضعفها عند المحدثين ، وقد أوضح ضعفها الدارقطني ، ثم البيهقي في كتاب " الخلافيات " ثم " السنن الكبير " اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:34 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (136)
سُورَةُ الرَّعْدِ(3)
صـ 231 إلى صـ 235
وقال ابن قدامة في " المغني " : حديث واثلة يرويه محمد بن أحمد الشامي وهو ضعيف ، عن حماد بن المنهال ، وهو مجهول ، وحديث أنس يرويه الجلد بن أيوب ، وهو ضعيف ، قال ابن عيينة : هو حديث لا أصل له ، وقال أحمد في حديث أنس : ليس هو شيئا هذا من قبل الجلد بن أيوب ، قيل : إن محمد بن إسحاق رواه ، قال ما أراه سمعه إلا من الحسن بن دينار ، وضعفه جدا ، وقال يزيد بن زريع ذاك : أبو حنيفة لم يحتج إلا بالجلد بن أيوب ، وحديث الجلد قد روي عن علي رضي الله عنه ما يعارضه ، فإنه قال : ما زاد على خمسة عشر استحاضة ، وأقل الحيض يوم وليلة ، وقال البيهقي في " السنن الكبرى " : فهذا حديث يعرف بالجلد بن أيوب ، وقد أنكر عليه ذلك ، وقال البيهقي أيضا : قال ابن علية : الجلد أعرابي لا يعرف الحديث ، وقال أيضا : قال الشافعي : نحن وأنت لا نثبت مثل حديث [ ص: 231 ] الجلد ، ونستدل على غلط من هو أحفظ منه بأقل من هذا .
وقال أيضا : قال سليمان بن حرب : كان حماد - يعني ابن زيد - يضعف الجلد ، ويقول لم يكن يعقل الحديث .
وروى البيهقي أيضا بإسناده عن حماد بن زيد ، قال : ذهبت أنا وجرير بن حازم إلى الجلد بن أيوب ، فحدثنا بحديث معاوية بن قرة ، عن أنس في الحائض ، فذهبنا نوقفه ، فإذا هو لا يفصل بين الحائض ، والمستحاضة . وروى أيضا بإسناده عن أحمد بن سعيد الدارمي ، قال : سألت أبا عاصم ، عن الجلد بن أيوب فضعفه جدا ، وقال : كان شيخا من مشايخ العرب تساهل أصحابنا في الرواية عنه .
وروى البيهقي أيضا عن عبد الله بن المبارك أن أهل البصرة كانوا ينكرون حديث الجلد بن أيوب ، ويقولون : شيخ من شيوخ العرب ليس بصاحب حديث ، قال ابن المبارك : وأهل مصره أعلم به من غيرهم . قال يعقوب : وسمعت سليمان بن حرب ، وصدقة بن الفضل ، وإسحاق بن إبراهيم ، وبلغني عن أحمد بن حنبل أنهم كانوا يضعفون الجلد بن أيوب ، ولا يرونه في موضع الحجة ، وروى بإسناده أيضا عن ابن عيينة أنه كان يقول : ما جلد ؟ ومن جلد ؟ ومن كان جلد ؟ وروى بإسناده أيضا عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، قال : سمعت أبي ذكر الجلد بن أيوب ، فقال : ليس يسوى حديثه شيئا ، ضعيف الحديث . اهـ . وإنما أطلنا الكلام في تضعيف هذا الأثر ; لأنه أقوى ما جاء في الباب على ضعفه كما ترى . وقد قال البيهقي في " السنن الكبرى " : روي في أقل الحيض وأكثره أحاديث ضعاف قد بينت ضعفها في " الخلافيات " .
وأما حجة من قال : إن أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر ، كالشافعي ، وأحمد ، ومن وافقهما ، فهي أنه لم يثبت في ذلك تحديد من الشرع فوجب الرجوع إلى المشاهد في الوجود ، والمشاهد أن الحيض لا يقل عن يوم وليلة ولا يزيد على نصف شهر ، قالوا : وثبت مستفيضا عن السلف من التابعين فمن بعدهم وجود ذلك عيانا ، ورواه البيهقي ، وغيره ، عن عطاء ، والحسن ، وعبيد الله بن عمر ، ويحيى بن سعيد ، وربيعة ، وشريك ، والحسن بن صالح ، وعبد الرحمن بن مهدي رحمهم الله تعالى .
قال النووي : " فإن قيل : روى إسحاق بن راهويه ، عن بعضهم أن امرأة من نساء الماجشون حاضت عشرين يوما ، وعن ميمون بن مهران أن بنت سعيد بن جبير كانت تحته وكانت تحيض من السنة شهرين ، فجوابه بما أجاب به المصنف في كتابه النكت أن هذين النقلين ضعيفان .
[ ص: 232 ] فالأول : عن بعضهم وهو مجهول ، وقد أنكره بعضهم ، وقد أنكره الإمام مالك بن أنس ، وغيره من علماء المدينة .
والثاني : رواه الوليد بن مسلم ، عن رجل ، عن ميمون ، والرجل مجهول . والله أعلم " اهـ .
وأما حجة مالك في أكثر الحيض للمبتدئة ، فكحجة الشافعي ، وأحمد ، وحجته في أكثره للمعتادة ما رواه الإمام مالك ، وأحمد ، والشافعي ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها استفتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة تهراق الدم فقال : " لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن وقدرهن من الشهر فتدع الصلاة ، ثم لتغتسل ، ولتستثفر ، ثم تصلي " اهـ .
وهذا الحديث نص في الرجوع إلى عادة الحائض .
قال ابن حجر في " التلخيص " في هذا الحديث : قال النووي إسناده على شرطهما ، وقال البيهقي : هو حديث مشهور ، إلا أن سليمان بن يسار لم يسمعه من أم سلمة ، وفي رواية لأبي داود ، عن سليمان أن رجلا أخبره عن أم سلمة ، وقال المنذري : لم يسمعه سليمان منها ، وقد رواه موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن سليمان ، عن مرجانة ، عنها ، وساقه الدارقطني من طريق صخر بن جويرة ، عن نافع ، عن سليمان أنه حدثه رجل عنها . اهـ .
وللحديث شواهد متعددة تقوي رجوع النساء إلى عادتهن في الحيض ، كحديث حمنة بنت جحش ، وحديث عائشة في قصة فاطمة بنت أبي حبيش ، وأما زيادة ثلاثة أيام ، فهي لأجل الاستظهار والتحري في انقضاء الحيضة ، ولا أعلم لها مستندا من نصوص الوحي الثابتة ، وأما حجة مالك في أقل الحيض بالنسبة إلى العبادات فهي التمسك بظاهر إطلاق النصوص ، ولم يرد نص صحيح في التحديد .
وأما أقله بالنسبة إلى العدة والاستبراء فحجته فيه أنه من قبيل تحقيق المناط ; لأن الحيض دليل عادي على براءة الرحم فلا بد فيما طلبت فيه بالحيض الدلالة على براءة الرحم من حيض يدل على ذلك بحسب العادة المطردة ، ولذا جعل الرجوع في ذلك إلى النساء العارفات بذلك ; لأن تحقيق المناط يرجع فيه لمن هو أعرف به وإن كان لا حظ له من علوم الوحي ، وحجة يحيى بن أكثم في قوله : " إن أقل الطهر تسعة عشر " ، هي أنه يرى أن أكثر الحيض عشرة أيام ، وأن الشهر يشتمل على طهر وحيض ، فعشرة منه للحيض والباقي [ ص: 233 ] طهر ، وقد يكون الشهر تسعا وعشرين فالباقي بعد عشرة الحيض تسعة عشر . وهذا هو حاصل أدلتهم وليس على شيء منها دليل من كتاب ولا سنة يجب الرجوع إليه . وأقرب المذاهب في ذلك هو أكثرها موافقة للمشاهد ككون الحيض لا يقل عن يوم وليلة ولا يكثر عن نصف شهر ، وكون أقل الطهر نصف شهر ، والله تعالى أعلم .
مسألة
اختلف العلماء في الدم الذي تراه الحامل هل هو حيض ، أو دم فساد ؟ فذهب مالك ، والشافعي في أصح قوليه إلى أنه حيض ، وبه قال قتادة والليث ، وروي عن الزهري ، وإسحاق وهو الصحيح عن عائشة . وذهب الإمام أبو حنيفة ، والإمام أحمد إلى أنه دم فساد ، وعلة ، وأن الحامل لا تحيض ، وبه قال جمهور التابعين منهم سعيد بن المسيب ، وعطاء ، والحسن ، وجابر بن زيد ، وعكرمة ، ومحمد بن المنكدر ، والشعبي ، ومكحول ، وحماد ، والثوري ، والأوزاعي ، وابن المنذر ، وأبو عبيد ، وأبو ثور .
واحتج من قال : إن الدم الذي تراه الحامل حيض بأنه دم بصفات الحيض في زمن إمكانه ، وبأنه متردد بين كونه فسادا لعلة أو حيضا ، والأصل السلامة من العلة ، فيجب استصحاب الأصل .
واحتج من قال بأنه دم فساد بأدلة ، منها : ما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر في طلاقه امرأته في الحيض أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر : " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا ، أو حاملا " ، وهذه الرواية أخرجها أحمد ، ومسلم ، وأصحاب السنن الأربعة ، قالوا : قد جعل صلى الله عليه وسلم الحمل علامة على عدم الحيض ، كما جعل الطهر علامة لذلك .
ومنها : حديث : " لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " ، رواه أحمد ، وأبو داود ، والحاكم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، وصححه الحاكم وله شواهد ، قالوا : فجعل صلى الله عليه وسلم الحيض علامة على براءة الرحم فدل ذلك على أنه لا يجتمع مع الحمل .
ومنها : أنه دم في زمن لا يعتاد فيه الحيض غالبا فكان غير حيض قياسا على ما تراه اليائسة بجامع غلبة عدم الحيض في كل منهما .
وقد قال الإمام أحمد رحمه الله : " إنما يعرف النساء الحمل بانقطاع الدم " .
ومنها : أنه لو كان دم حيض ما انتفت عنه لوازم الحيض ، فلما انتفت عنه دل ذلك على أنه غير حيض ; لأن انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم ، فمن لازم الحيض حرمة [ ص: 234 ] الطلاق ، ودم الحامل لا يمنع طلاقها ، للحديث المذكور آنفا الدال على إباحة طلاق الحامل والطاهر ، ومن لازم الحيض أيضا انقضاء العدة به ، ودم الحامل لا أثر له في انقضاء عدتها لأنها تعتد بوضع حملها لقوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] وفي هذه الأدلة مناقشات ذكر بعضها النووي في شرح المهذب .
واعلم أن مذهب مالك التفصيل في أكثر حيض الحامل ، فإن رأته في شهرها الثالث إلى انتهاء الخامس تركت الصلاة نصف شهر ونحوه - وفسروا نحوه بزيادة خمسة أيام - فتجلس عشرين يوما ، فإن حاضت في شهرها السادس فما بعده تركت الصلاة عشرين يوما ونحوها - وفسروا نحوها بزيادة خمسة أيام - فتجلس خمسا وعشرين ، وفسره بعضهم بزيادة عشرة ، فتجلس شهرا ، فإن حاضت الحامل قبل الدخول في الشهر الثالث ، فقيل : حكمه حكم الحيض في الثالث وقد تقدم .
وقيل : حكمه حكم حيض غير الحامل ، فتجلس قدر عادتها وثلاثة أيام استظهارا .
وإلى هذه المسألة أشار خليل بن إسحاق المالكي في مختصره بقوله : ولحامل بعد ثلاثة أشهر النصف ، ونحوه ، وفي ستة فأكثر عشرون يوما ونحوها ، وهل ما قبل الثلاثة كما بعدها أو كالمعتاد ؟ قولان .
هذا هو حاصل كلام العلماء في أقل الحيض وأكثره ، وأقل الطهر وأكثره ، وأدلتهم في ذلك ، ومسائل الحيض كثيرة ، وقد بسط العلماء الكلام عليها في كتب الفروع .
مسألة
اختلف العلماء في أقل النفاس وأكثره أيضا ، فذهب مالك ، والشافعي إلى أن أكثره ستون يوما ، وبه قال عطاء ، والأوزاعي ، والشعبي ، وعبيد الله بن الحسن العنبري ، والحجاج بن أرطاة ، وأبو ثور ، وداود ، وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال : أدركت الناس يقولون : أكثر النفاس ستون يوما ، وذهب الإمام أبو حنيفة وأحمد إلى أن أكثره أربعون يوما وعليه أكثر العلماء ، قال أبو عيسى الترمذي : أجمع أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ، فتغتسل وتصلي اهـ .
قال الخطابي ، وقال أبو عبيد : وعلى هذا جماعة الناس ، وحكاه ابن المنذر ، عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وأنس ، وعثمان بن أبي العاص ، وعائذ بن عمرو ، وأم سلمة ، وابن [ ص: 235 ] المبارك ، وإسحاق ، وأبي عبيد . اهـ .
وحكى الترمذي ، وابن المنذر ، وابن جرير ، وغيرهم ، عن الحسن البصري أنه خمسون ، وروي عن الليث أنه قال : قال بعض الناس : إنه سبعون يوما ، وذكر ابن المنذر ، عن الأوزاعي ، عن أهل دمشق : أن أكثر النفاس من الغلام ثلاثون يوما ، ومن الجارية أربعون ، وعن الضحاك : أكثره أربعة عشر يوما ، قاله النووي .
وأما أقل النفاس فهو عند مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبي حنيفة في أصح الروايات عنه لا حد له ، وهو قول جمهور العلماء ، وعن أبي حنيفة : أقله أحد عشر يوما ، وعنه أيضا : خمسة وعشرون ، وحكى الماوردي ، عن الثوري : أقله ثلاثة أيام ، وقال المزني : أقله أربعة أيام ، وأما أدلة العلماء في أكثر النفاس وأقله ، فإن حجة كل من حدد أكثره بغير الأربعين هي الاعتماد على المشاهد في الخارج ، وأكثر ما شاهدوه في الخارج ستون يوما ، وكذلك حججهم في أقله فهي أيضا الاعتماد على المشاهد في الخارج ، وقد يشاهد الولد يخرج ولا دم معه ، ولذا كان جمهور العلماء على أن أقله لا حد له ، وأما حجة من حدده بأربعين ، فهي ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : " كانت النفساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تجلس أربعين يوما " الحديث ، روي هذا الحديث من طريق علي بن عبد الأعلى ، عن أبي سهل ، واسمه كثير بن زياد ، عن مسة الأزدية ، عن أم سلمة ، وعلي بن عبد الأعلى ثقة ، وأبو سهل وثقه البخاري وضعفه ابن حبان ، وقال ابن حجر : لم يصب في تضعيفه ، وقال في التقريب في أبي سهل المذكور : ثقة ، وقال في " التقريب " في مسة المذكورة : مقبولة ، وقال النووي في " شرح المهذب " في حديث أم سلمة هذا : حديث حسن رواه أبو داود ، والترمذي ، وغيرهما .
قال الخطابي : أثنى البخاري على هذا الحديث ، ويعتضد هذا الحديث بأحاديث بمعناه من رواية أبي الدرداء ، وأنس ، ومعاذ ، وعثمان بن أبي العاص ، وأبي هريرة رضي الله عنهم ، وقال النووي أيضا بعد هذا الكلام : " واعتمد أكثر أصحابنا جوابا آخر وهو تضعيف الحديث ، وهذا الجواب مردود ، بل الحديث جيد كما سبق " .
وأجاب القائلون بأن أكثر النفاس ستون عن هذا الحديث الدال على أنه أربعون بأجوبة ، أوجهها عندي أن الحديث إنما يدل على أنها تجلس أربعين ، ولا دلالة فيه على أن الدم إن تمادى بها لم تجلس أكثر من الأربعين ، فمن الممكن أن تكون النساء المذكورة في الحديث لم يتماد الحيض بها إلا أربعين فنص الحديث على أنها تجلس الأربعين ، ولا [ ص: 236 ] ينافي أن الدم لو تمادى عليها أكثر من الأربعين لجلست أكثر من الأربعين ، ويؤيده أن الأوزاعي رحمه الله قال : " عندنا امرأة ترى النفاس شهرين " ، وذلك مشاهد كثيرا في النساء . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:35 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (137)
سُورَةُ الرَّعْدِ(4)
صـ 236 إلى صـ 240
قوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن السر والجهر عنده سواء ، وأن الاختفاء والظهور عنده أيضا سواء ; لأنه يسمع السر كما يسمع الجهر ، ويعلم الخفي كما يعلم الظاهر ، وقد أوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير وقوله : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ، وقوله : ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور ، وقوله : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأظهر القولين في المستخفي بالليل والسارب بالنهار : أن المستخفي هو المختفي المستتر عن الأعين ، والسارب هو الظاهر البارز الذاهب حيث يشاء ، ومنه قول الأخنس بن شهاب التغلبي :
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ونحن خلعنا قيده فهو سارب
أي : ذاهب حيث يشاء ظاهر غير خاف .
وقول قيس بن الخطيم :
أني سربت وكنت غير سروب وتقرب الأحلام غير قريب
وقيل : السارب : الداخل في السرب ليتوارى فيه ، والمستخفي : الظاهر ، من : خفاه يخفيه : إذا أظهره ، ومنه قول امرئ القيس :
خفاهن من أنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
قوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعة الله جل وعلا .
والمعنى : أنه لا يسلب قوما نعمة أنعمها عليهم حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : ذلك بأن الله لم يك [ ص: 237 ] مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم الآية [ 8 \ 53 ] ، وقوله : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 \ 30 ] .
وقد بين في هذه الآية أيضا : أنه إذا أراد قوما بسوء فلا مرد له ، وبين ذلك أيضا في مواضع أخر ، كقوله : ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين [ 6 \ 147 ] ، ونحوها من الآيات ، وقوله في هذه الآية الكريمة : حتى يغيروا ما بأنفسهم ، يصدق بأن يكون التغيير من بعضهم كما وقع يوم أحد بتغيير الرماة ما بأنفسهم فعمت البلية الجميع ، وقد سئل صلى الله عليه وسلم : " أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث " . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا الآية .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يري خلقه البرق خوفا وطمعا ، قال قتادة : خوفا للمسافر يخاف أذاه ومشقته ، وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله ، وعن الحسن : الخوف لأهل البحر ، والطمع لأهل البر ، وعن الضحاك : الخوف من الصواعق ، والطمع في الغيث .
وبين في موضع آخر : أن إراءته خلقه البرق خوفا وطمعا من آياته جل وعلا الدالة على أنه المستحق لأن يعبد وحده لا شريك له . وذلك في قوله : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء الآية [ 30 \ 24 ] .
قوله تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يسجد له أهل السماوات والأرض طوعا وكرها وتسجد له ظلالهم بالغدو والآصال ، وذكر أيضا سجود الظلال وسجود أهل السماوات والأرض في قوله أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون [ 16 \ 48 ، 49 ] إلى قوله يؤمرون [ 16 \ 50 ] ، واختلف العلماء في المراد بسجود الظل وسجود غير المؤمنين ، فقال بعض العلماء : سجود من في السماوات والأرض من العام المخصوص ، فالمؤمنون والملائكة يسجدون لله سجودا حقيقيا ، وهو وضع الجبهة على الأرض ، يفعلون ذلك طوعا ، والكفار يسجدون كرها ، أعني المنافقين لأنهم كفار في الباطن ولا يسجدون لله إلا كرها ، كما قال تعالى : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس الآية [ 4 \ 142 ] ، وقال تعالى : وما [ ص: 238 ] منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ 9 \ 54 ] ، والدليل على أن سجود أهل السماوات والأرض من العام المخصوص ، قوله تعالى في " سورة الحج " : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب [ 22 \ 18 ] ، فقوله : وكثير من الناس [ 22 \ 18 ] دليل على أن بعض الناس غير داخل في السجود المذكور ، وهذا قول الحسن ، وقتادة ، وغيرهما ، وذكره الفراء ، وقيل الآية عامة . والمراد بسجود المسلمين طوعا انقيادهم لما يريد الله منهم طوعا ، والمراد بسجود الكافرين كرها انقيادهم لما يريد الله منهم كرها ; لأن إرادته نافذة فيهم وهم منقادون خاضعون لصنعه فيهم ونفوذ مشيئته فيهم ، وأصل السجود في لغة العرب : الذل والخضوع ، ومنه قول زيد الخيل :
بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
ومنه قول العرب : أسجد : إذا طأطأ رأسه وانحنى ، قال حميد بن ثور :
فلما لوين على معصم وكف خضيب وأسوارها
فضول أزمتها أسجدت سجود النصارى لأحبارها
وعلى هذا القول فالسجود لغوي لا شرعي ، وهذا الخلاف المذكور جار أيضا في سجود الظلال ، فقيل : سجودها حقيقي ، والله تعالى قادر على أن يخلق لها إدراكا تدرك به وتسجد لله سجودا حقيقيا ، وقيل : سجودها ميلها بقدرة الله أول النهار إلى جهة المغرب ، وآخره إلى جهة المشرق ، وادعى من قال هذا أن الظل لا حقيقة له ; لأنه خيال فلا يمكن منه الإدراك .
ونحن نقول : إن الله جل وعلا قادر على كل شيء ، فهو قادر على أن يخلق للظل إدراكا يسجد به لله تعالى سجودا حقيقيا ، والقاعدة المقررة عند علماء الأصول هي : حمل نصوص الوحي على ظواهرها إلا بدليل من كتاب أو سنة ، ولا يخفى أن حاصل القولين :
أن أحدهما : أن السجود شرعي وعليه فهو في أهل السماوات والأرض من العام المخصوص .
والثاني : أن السجود لغوي بمعنى الانقياد والذل والخضوع ، وعليه فهو باق على عمومه ، والمقرر في الأصول عند المالكية والحنابلة وجماعة من الشافعية أن النص إن دار [ ص: 239 ] بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية حمل على الشرعية ، وهو التحقيق ، خلافا لأبي حنيفة في تقديم اللغوية ، ولمن قال يصير اللفظ مجملا لاحتمال هذا وذاك ، وعقد هذه المسألة صاحب " مراقي السعود " بقوله :
واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي
فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب وقيل : المراد بسجود الكفار كرها سجود ظلالهم كرها ، وقيل : الآية في المؤمنين فبعضهم يسجد طوعا ; لخفة امتثال أوامر الشرع عليه ، وبعضهم يسجد كرها ; لثقل مشقة التكليف عليه مع أن إيمانه يحمله على تكلف ذلك . والعلم عند الله تعالى :
وقوله تعالى : بالغدو [ 13 \ 15 ] يحتمل أن يكون مصدرا أو يحتمل أن يكون جمع غداة ، والآصال جمع أصل بضمتين وهو جمع أصيل ، وهو ما بين العصر والغروب ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفيائه بالأصائل
قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار .
أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ; لأنه هو الخالق ولا يستحق من الخلق أن يعبدوه إلا من خلقهم وأبرزهم من العدم إلى الوجود ; لأن المقصود من قوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم [ 13 \ 16 ] إنكار ذلك وأنه هو الخالق وحده بدليل قوله بعده : قل الله خالق كل شيء [ 13 \ 16 ] أي : وخالق كل شيء هو المستحق لأن يعبد وحده ، ويبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] ، وقوله : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 25 \ 3 ] ، وقوله : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] ، وقوله : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ 31 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات ; لأن المخلوق محتاج إلى خالقه فهو عبد مربوب مثلك يجب عليه أن يعبد من خلقه وحده ، كما يجب عليك ذلك ، فأنتما سواء بالنسبة إلى وجوب عبادة الخالق وحده لا شريك له .
قوله تعالى : ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا عليه صلى الله عليه وسلم الإتيان بآية ينزلها عليه ربه ، وبين هذا المعنى في [ ص: 240 ] مواضع متعددة كقوله فليأتنا بآية كما أرسل الأولون [ 21 \ 5 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وبين تعالى في موضع آخر أن في القرآن العظيم كفاية عن جميع الآيات ، في قوله : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ 29 \ 51 ] ، وبين في موضع آخر حكمة عدم إنزال آية كناقة صالح ونحوها ، بقوله وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة الآية [ 17 \ 59 ] ، كما تقدمت الإشارة إليه .
قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى الآية .
جواب " لو " في هذه الآية محذوف . قال بعض العلماء تقديره : لكان هذا القرآن ، وقال بعضهم تقديره : لكفرتم بالرحمن ، ويدل لهذا الأخير قوله قبله : وهم يكفرون بالرحمن [ 13 \ 30 ] ، وقد قدمنا شواهد حذف جواب " لو " في سورة البقرة . وقد قدمنا في سورة " يوسف " أن الغالب في اللغة العربية أن يكون الجواب المحذوف من جنس المذكور قبل الشرط ليكون ما قبل الشرط دليلا على الجواب المحذوف .
قوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية الآية .
بين في هذه الآية الكريمة أن الرسل قبله صلى الله عليه وسلم من جنس البشر ، يتزوجون ، ويلدون ، وليسوا ملائكة ، وذلك أن الكفار استغربوا بعث آدمي من البشر ، كما قال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، فأخبر أنه يرسل البشر الذين يتزوجون ويأكلون ، كقوله وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] ، وقوله وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام الآية [ 21 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدمت الإشارة إليه .
قوله تعالى : قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب .
الظاهر أن قوله ومن عنده علم الكتاب عطف على لفظ الجلالة وأن المراد به أهل العلم بالتوراة والإنجيل ، ويدل له قوله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ، وقوله : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك الآية [ 16 \ 43 ] ، وقوله : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون الآية [ 16 \ 43 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:36 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (138)
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ (1)
صـ 241 إلى صـ 245
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
قوله تعالى : الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم ليخرج به الناس من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان والهدى ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور الآية [ 57 \ 9 ] ، وقوله : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور الآية [ 2 \ 275 ] إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدمت الإشارة إليه ، وقد بين تعالى هنا أنه لا يخرج أحدا من الظلمات إلى النور إلا بإذنه جل وعلا في قوله : بإذن ربهم الآية [ 14 \ 1 ] ، وأوضح ذلك في آيات أخر ، كقوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله الآية [ 4 \ 64 ] ، وقوله : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله الآية [ 10 \ 100 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء .
بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه لم يرسل رسولا إلا بلغة قومه ; لأنه لم يرسل رسولا إلا إلى قومه دون غيرهم ، ولكنه بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم أرسل إلى جميع الخلائق دون اختصاص بقومه ولا بغيرهم ، كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم رسالته لأهل كل لسان ، فهو صلى الله عليه وسلم يجب عليه إبلاغ أهل كل لسان ، وقد قدمنا في سورة البقرة قول ابن عباس رضي الله عنهما : " إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء ، فقالوا : بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء ؟ فقال : إن الله تعالى قال : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [ 21 \ 29 ] ، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ ص: 242 ] [ 48 \ 1 ، 2 ] قالوا : فما فضله على الأنبياء ؟ قال : قال الله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [ 4 \ 14 ] ، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ 34 \ 28 ] ، فأرسله إلى الجن والإنس " ، ذكره أبو محمد الدارمي في " مسنده " كما تقدم وهو تفسير من ابن عباس للآية بما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم الآية .
اختلف العلماء في معنى هذه الآية الكريمة ، فقال بعض العلماء معناها أن أولئك الكفار جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ; ليعضوا عليها غيظا وحنقا لما جاءت به الرسل ; إذ كان فيه تسفيه أحلامهم ، وشتم أصنامهم ، وممن قال بهذا القول عبد الله بن مسعود ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير ، واستدل له بقوله تعالى : وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ الآية [ 3 \ 119 ] ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب ومنه قول الشاعر :
تردون في فيه غش الحسود حتى يعض على الأكف
يعني : أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أصابعه وكفيه ، قال القرطبي : ومنه قول الآخر أيضا :
قد أفنى أنامله أزمه فأضحى يعض علي الوظيفا
أي أفنى أنامله عضا ، وقال الراجز :
لو أن سلمى أبصرت تخددي ودقة بعظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي عضت من الوجد بأطراف اليد
وفي الآية الكريمة أقوال غير هذا ، منها : أنهم لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم من العجب . ويروى عن ابن عباس . ومنها : أنهم كانوا إذا قال لهم نبيهم : أنا رسول الله إليكم ، أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له وردا لقوله . ويروى هذا عن أبي صالح ، ومنها : أن معنى الآية أنهم ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم ، فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار ، وعلى هذا القول فـ " في " بمعنى الباء . ويروى هذا القول عن مجاهد ، وقتادة ، ومحمد بن كعب ، قال ابن جرير : وتوجيهه أن " في " هنا بمعنى الباء ، قال : وقد سمع من العرب : أدخلك الله بالجنة ، يعنون : في الجنة ، وقال الشاعر :
[ ص: 243 ]
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه ولكنني عن سنبس لست أرغب
يريد وأرغب بها : قال ابن كثير : ويؤيد هذا القول تفسير ذلك بتمام الكلام ، وهو قوله تعالى : وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر عندي خلاف ما استظهره ابن كثير رحمه الله تعالى ; لأن العطف بالواو يقتضي مغايرة ما بعده لما قبله ، فيدل على أن المراد بقوله : فردوا أيديهم الآية غير التصريح بالتكذيب بالأفواه ، والعلم عند الله تعالى . وقيل : المعنى أن الكفار جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم ، وعليه فالضمير الأول للكفار والثاني للرسل ، ويروى هذا عن الحسن ، وقيل : جعل الكفار أيدي الرسل على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم ، ويروى هذا عن مقاتل ، وقيل : رد الرسل أيدي الكفار في أفواههم ، وقيل غير ذلك ، فقد رأيت الأقوال وما يشهد له القرآن منها ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
جمع الفم مكسرا على أفواه يدل على أن أصله فوه ، فحذفت الفاء والواو وعوضت عنهما الميم .
قوله تعالى : إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب .
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للرسل بأنهم كافرون بهم ، وأنهم شاكون فيما جاءوهم به من الوحي ، وقد نص تعالى على بعضهم بالتعيين أنهم صرحوا بالكفر به ، وأنهم شاكون فيما يدعونهم إليه ، كقول قوم صالح له : أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب [ 11 \ 62 ] ، وصرحوا بالكفر به في قوله : قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون [ 7 \ 75 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر عموما في آية ، ثم يصرح في آية أخرى بدخول بعض أفراد ذلك العموم فيه كما هنا ، وكما [ ص: 244 ] تقدم المثال له بقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] ، مع قوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 22 \ 36 ] .
قوله تعالى : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار توعدوا الرسل بالإخراج من أرضهم ، والنفي من بين أظهرهم إن لم يتركوا ما جاءوا به من الوحي ، وقد نص في آيات أخر أيضا على بعض ذلك مفصلا ، كقوله عن قوم شعيب : لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم الآية [ 7 \ 88 ، 89 ] ، وقوله عن قوم لوط : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ 27 \ 56 ] ، وقوله عن مشركي قريش : وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا [ 17 \ 76 ] ، وقوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين [ 8 \ 30 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أوحى إلى رسله أن العاقبة والنصر لهم على أعدائهم ، وأنه يسكنهم الأرض بعد إهلاك أعدائهم ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز [ 58 \ 21 ] ، وقوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] .
وقوله : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [ 7 \ 128 ] ، وقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وخاب كل جبار عنيد .
لم يبين هنا كيفية خيبة الجبار العنيد ، ولكنه أشار إلى معنى خيبته وبعض صفاته القبيحة في قوله في سورة " ق " : ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد [ ص: 245 ] [ 50 \ 24 - 25 ] ، والجبار : المتجبر في نفسه ، والعنيد : المعاند للحق ، قاله ابن كثير .
قوله تعالى : من ورائه جهنم الآية .
" وراء " هنا بمعنى " أمام " كما هو ظاهر ، ويدل له إطلاق " وراء " بمعنى " أمام " في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أي : أمامهم ملك ، وكان ابن عباس يقرؤها : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ، ومن إطلاق " وراء " بمعنى " أمام " في كلام العرب قول لبيد :
أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحني عليها الأصابع
وقول الآخر :
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي وقومي تميم والفلاة ورائيا
وقوله الآخر :
ومن ورائك يوم أنت بالغه لا حاضر معجز عنه ولا باد
فـ " وراء " بمعنى " أمام " في الأبيات ، وقال بعض العلماء معنى من ورائه جهنم ، أي : من بعد هلاكه جهنم ، وعليه فـ " وراء " في الآية بمعنى بعد ، ومن إطلاق " وراء " بمعنى " بعد " قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أي : ليس بعد الله مذهب ، قاله القرطبي ، والأول هو الظاهر وهو الحق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:37 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (139)
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ (2)
صـ 246 إلى صـ 250
قوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف الآية .
ضرب الله تعالى لأعمال الكفار مثلا في هذه الآية الكريمة برماد اشتدت به الرياح في يوم عاصف ، أي شديد الريح ، فإن تلك الريح الشديدة العاصفة تطير ذلك الرماد ولم تبق له أثرا ، فكذلك أعمال الكفار كصلات الأرحام ، وقرى الضيف ، والتنفيس عن المكروب ، وبر الوالدين ، ونحو ذلك يبطلها الكفر ويذهبها ، كما تطير تلك الريح ذلك الرماد . وضرب أمثالا أخر في آيات أخر لأعمال الكفار بهذا المعنى ، كقوله : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] ، وقوله : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا [ ص: 246 ] أنفسهم فأهلكته الآية [ 3 \ 117 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين [ 2 \ 264 ] ، وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبين في موضع آخر أن الحكمة في ضربه للأمثال أن يتفكر الناس فيها فيفهموا الشيء بنظرة ، وهو قوله : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] ، ونظيره قوله : ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون [ 14 \ 25 ] ، وبين في موضع آخر أن الأمثال لا يعقلها إلا أهل العلم ، وهو قوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] ، وبين في موضع آخر أن المثل المضروب يجعله الله سبب هداية لقوم فهموه ، وسبب ضلال لقوم لم يفهموا حكمته ، وهو قوله : فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] ، وبين في موضع آخر أنه تعالى لا يستحيي أن يضرب مثلا ما ولو كان المثل المضروب بعوضة فما فوقها ، قيل : فما هو أصغر منها ; لأنه يفوقها في الصغر ، وقيل : فما فوقها أي فما هو أكبر منها ، وهو قوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ 2 \ 26 ] ، ولذلك ضرب المثل بالعنكبوت في قوله : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون [ 29 \ 41 ] ، وضربه بالحمار في قوله : كمثل الحمار يحمل أسفارا الآية [ 62 \ 5 ] ، وضربه بالكلب في قوله : ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث [ 7 \ 176 ] ، إلى غير ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء .
هذه المحاجة التي ذكرها الله هنا عن الكفار بينها في مواضع أخر ، كقوله : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد [ 40 \ 47 ، 48 ] ، كما تقدم إيضاحه .
[ ص: 247 ] قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم .
بين في هذه الآية أن الله وعدهم وعد الحق ، وأن الشيطان وعدهم فأخلفهم ما وعدهم ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله في وعد الله : وعد الله حقا [ 4 \ 122 ] ، وقوله : إن الله لا يخلف الميعاد [ 13 \ 31 ] ، وقوله في وعد الشيطان : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، ونحو ذلك من الآيات قوله تعالى : تحيتهم فيها سلام [ 14 \ 23 ] .
بين في هذه الآية الكريمة أن تحية أهل الجنة في الجنة سلام ، وبين في مواضع أخر أن الملائكة تحييهم بذلك ، وأن بعضهم يحيي بعضا بذلك ، فقال في تحية الملائكة لهم : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم الآية [ 13 \ 23 ، 24 ] ، وقال : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم الآية [ 39 \ 73 ] ، وقال : ويلقون فيها تحية وسلاما [ 25 \ 75 ] ، وقال في تحية بعضهم بعضا : دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام الآية [ 10 \ 10 ] ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار .
هذا تهديد منه تعالى لهم بأن مصيرهم إلى النار ، وذلك المتاع القليل في الدنيا لا يجدي من مصيره إلى النار وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] ، وقوله : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] ، وقوله : متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 70 ] ، وقوله : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم الآية [ 3 \ 196 ، 197 ] ، إلى ذلك من الآيات .
قوله تعالى : قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال .
أمر تعالى في هذه الآية الكريمة بالمبادرة إلى الطاعات ، كالصلوات والصدقات من قبل إتيان يوم القيامة الذي هو اليوم الذي لا بيع فيه ولا مخالة بين خليلين ، فينتفع أحدهما بخلة الآخر ، فلا يمكن أحدا أن تباع له نفسه فيفديها ، ولا خليل ينفع خليله يومئذ ، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة الآية [ 2 \ 254 ] ، وقوله : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا [ 57 \ 15 ] وقوله : [ ص: 248 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا الآية [ 2 \ 48 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
والخلال في هذه الآية ، قيل : جمع خلة كقلة وقلال ، والخلة : المصادقة ، وقيل : هو مصدر خاله على وزن فاعل مخالة وخلالا ، ومعلوم أن فاعل ينقاس مصدرها على المفاعلة والفعال ، وهذا هو الظاهر ، ومنه قول امرئ القيس :
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى ولست بمقلي الخلال ولا قال
أي : لست بمكروه المخالة .
قوله تعالى : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام الآية .
لم يبين هنا هل أجاب دعاء نبيه إبراهيم هذا ولكنه بين في مواضع أخر أنه أجابه في بعض ذريته دون بعض ، كقوله : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] ، وقوله : وجعلها كلمة باقية في عقبه الآية [ 43 \ 28 ] .
قوله تعالى : فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال : إن من تبعه فإنه منه ، وأنه رد أمر من لم يتبعه إلى مشيئة الله تعالى ، إن شاء الله غفر له ; لأنه هو الغفور الرحيم ، وذكر نحو هذا عن عيسى ابن مريم في قوله : إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم [ 5 \ 118 ] ، وذكر عن نوح وموسى التشديد في الدعاء على قومهما فقال عن نوح إنه قال : رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إلى قوله : فاجرا كفارا [ 71 \ 26 ، 27 ] ، وقال عن موسى إنه قال : ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 88 ] والظاهر أن نوحا وموسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ما دعوا ذلك الدعاء على قومهما إلا بعد أن علما من الله أنهم أشقياء في علم الله لا يؤمنون أبدا ، أما نوح فقد صرح الله تعالى له بذلك في قوله :
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ 11 \ 36 ] ، وأما موسى فقد فهم ذلك من قول قومه له : مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] ، فإنهم قالوا هذا القول بعد مشاهدة تلك الآيات العظيمة المذكورة في الأعراف وغيرها .
قوله تعالى : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لذريته الذين [ ص: 249 ] أسكنهم بمكة المكرمة أن يرزقهم الله من الثمرات ، وبين في " سورة البقرة " أن إبراهيم خص بهذا الدعاء المؤمنين منهم ، وأن الله أخبره أنه رازقهم جميعا مؤمنهم وكافرهم ، ثم يوم القيامة يعذب الكافر ، وذلك بقوله : وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا الآية [ 2 \ 126 ] قال بعض العلماء : سبب تخصيص إبراهيم المؤمنين في هذا الدعاء بالرزق ، أنه دعا لذريته أولا أن يجعلهم الله أئمة ، ولم يخصص بالمؤمنين فأخبره الله أن الظالمين من ذريته لا يستحقون ذلك ، قال تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] ، فلما أراد أن يدعو لهم بالرزق خص المؤمنين بسبب ذلك ، فقال : وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ، فأخبره الله أن الرزق ليس كالإمامة فالله يرزق الكافر من الدنيا ولا يجعله إماما ; ولذا قال له في طلب الإمامة : لا ينال عهدي الظالمين ، ولما خص المؤمنين بطلب الرزق قال له : ومن كفر فأمتعه قليلا الآية [ 2 \ 126 ] .
قوله تعالى : ربنا اغفر لي ولوالدي الآية .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم طلب المغفرة لوالديه ، وبين في آيات أخر أن طلبه الغفران لأبيه إنما كان قبل أن يعلم أنه عدو لله فلما علم ذلك تبرأ منه ، كقوله : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه [ 9 \ 114 ] ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يؤخر عقاب الكفار إلى يوم تشخص فيه الأبصار من شدة الخوف ، وأوضح ذلك في قوله تعالى : واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا الآية [ 21 \ 97 ] ، ومعنى شخوص الأبصار أنها تبقى منفتحة لا تغمض من الهول وشدة الخوف .
قوله تعالى : مهطعين .
الإهطاع في اللغة : الإسراع ، وقد بين تعالى في مواضع أخر أنهم يوم القيامة يأتون مهطعين ، أي : مسرعين إذا دعوا للحساب ، كقوله تعالى : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي الآية [ 54 \ 7 ] ، وقوله : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 \ 43 ] ، وقوله : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير [ 50 \ 44 ] إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 250 ] ومن إطلاق الإهطاع في اللغة بمعنى الإسراع قول الشاعر :
بدجلة دارهم ولقد أراهم بدجلة مهطعين إلى السماع
أي مسرعين إليه .
قوله تعالى : وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن المجرمين وهم الكفار يوم القيامة يقرنون في الأصفاد ، وبين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا [ 25 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
والأصفاد : هي الأغلال والقيود ، واحدها : صفد بالسكون ، وصفد بالتحريك ، ومنه قول عمرو بن كلثوم :
فآبوا بالنهاب وبالسبايا وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله تعالى : والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد [ 38 \ 37 ، 38 ] .
قوله تعالى : وتغشى وجوههم النار .
بين في هذه الآية الكريمة أن النار يوم القيامة تغشى وجوه الكفار فتحرقها ، وأوضح ذلك في مواضع أخر ، كقوله : تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 23 \ 104 ] ، وقوله : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم الآية [ 21 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : هذا بلاغ للناس .
بين في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن بلاغ لجميع الناس ، وأوضح هذا المعنى في قوله : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] وبين أن من بلغه ولم يؤمن به فهو في النار كائنا من كان ، في قوله : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه الآية [ 11 \ 17 ] .
قوله تعالى : وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب .
بين في هذه الآية الكريمة أن من حكم إنزال القرآن العظيم العلم بأنه تعالى إله واحد ، وأن من حكمه أن يتعظ أصحاب العقول ، وبين هذا في مواضع أخر فذكر الحكمة الأولى في أول سورة هود في قوله : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله [ 11 \ 1 ، 2 ] كما تقدم إيضاحه ، وذكر الحكمة الثانية في قوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] [ ص: 251 ] وهم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، واحد الألباب لب بالضم ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-09, 11:38 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (140)
سُورَةُ الْحِجْرِ(1)
صـ 251 إلى صـ 255
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْحِجْرِ
قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين .
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عرفوا حقيقة الأمر تمنوا أنهم كانوا في دار الدنيا مسلمين ، وندموا على كفرهم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [ 6 \ 27 ] وقوله : حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها [ 6 \ 31 ] ، وقوله : ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [ 25 \ 27 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد ; لأن من يقول : إن الكافر إذا احتضر وعاين الحقيقة تمنى أنه كان مسلما ، ومن يقول : إنه إذا عاين النار ووقف عليها تمنى أنه كان مسلما ، ومن يقول : إنهم إذا عاينوا إخراج الموحدين من النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين ، كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة ندموا على الكفر وتمنوا أنهم كانوا مسلمين .
وقرأ نافع وعاصم ربما بتخفيف الباء ، وقرأ الباقون بتشديدها ، والتخفيف لغة أهل الحجاز ، والتثقيل لغة تميم وقيس وربيعة ، ومن الأول قول عدي بن الرعلاء الغساني :
ربما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء
والثاني : كثير جدا ، ومنه قول الآخر :
ألا ربما أهدت لك العين نظرة قصاراك منها أنها عنك لا تجدي
ورب في هذا الموضع قال بعض العلماء للتكثير ، أي : يود الكفار في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين . ونقل القرطبي هذا القول عن الكوفيين قال ومنه قول الشاعر :
ألا ربما أهدت لك العين . . . . . . . . .
البيت [ ص: 253 ] وقال بعض العلماء : هي هنا للتقليل ; لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب . فإن قيل : ربما لا تدخل إلا على الماضي ، فما وجه دخولها على المضارع في هذا الموضع ؟ فالجواب : أن الله تعالى لما وعد بوقوع ذلك صار ذلك الوعد للجزم بتحقيق وقوعه ، كالواقع بالفعل ، ونظيره قوله تعالى أتى أمر الله الآية [ 16 \ 1 ] ونحوها من الآيات ، فعبر بالماضي تنزيلا لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل .
قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون .
هدد الله تعالى الكفار في هذه الآية الكريمة بأمره نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يتركهم يأكلون ويتمتعون ، فسوف يعلمون حقيقة ما يئول إليه الأمر من شدة تعذيبهم وإهانتهم . وهددهم هذا النوع من التهديد في مواضع أخر كقوله : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار [ 14 ] وقوله كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون [ 77 \ 46 ] وقوله : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] وقوله : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [ 43 \ 83 ] ، [ 70 \ 42 ] وقوله فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون [ 52 \ 45 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد تقرر في فن المعاني وفي مبحث الأمر عند الأصوليين أن من المعاني التي تأتي لها صيغة افعل التهديد ، كما في الآية المذكورة ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ذرهم يعني اتركهم ، وهذا الفعل لم يستعمل منه إلا الأمر والمضارع ، فماضيه ترك ، ومصدره الترك ، واسم الفاعل منه تارك ، واسم المفعول منه متروك . وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بآيات السيف ، والعلم عند الله تعالى . قال القرطبي : " والأمل الحرص على الدنيا والانكباب عليها ، والحب لها والإعراض عن الآخرة " وعن الحسن - رحمه الله - أنه قال : " ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل " وقد قدمنا علاج طول الأمل في سورة البقرة .
قوله تعالى وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون قد يقال في هذه الآية الكريمة : كيف يقرون بأنه أنزل إليه الذكر وينسبونه للجنون مع ذلك ؟ والجواب أن قولهم : ( ياأيها الذي نزل عليه الذكر ) يعنون في زعمه تهكما منهم به ، ويوضح هذا المعنى ورود مثله من الكفار متهكمين بالرسل - عليهم صلوات الله وسلامه - في مواضع أخر ، كقوله تعالى عن فرعون مع موسى قال : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 26 \ 27 ] [ ص: 254 ] وقوله عن قوم شعيب إنك لأنت الحليم الرشيد . [ 11 \ 87
قوله تعالى لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين . لو ما في هذه الآية الكريمة للتحضيض ، وهو طلب الفعل طلبا حثيثا . ومعنى الآية : أن الكفار طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - طلب تخصيص أن يأتيهم بالملائكة ليكون إتيان الملائكة معه دليلا على صدقه أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين طلب الكفار هذا في آيات أخر كقوله عن فرعون مع موسى : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 \ 53 ] وقوله : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا [ 25 \ 21 ] ، وقوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر الآية [ 6 \ 8 ] وقوله : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [ 25 \ 7 ] وقوله : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 17 \ 92 ] إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم أن لو تركب مع لا وما لمعنيين : الأول منهما التحضيض ، ومثاله في لو ما في هذه الآية الكريمة ، ومثاله في لولا قول جرير :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
يعني : فهلا تعدون الكمي المقنع ، المعنى الثاني هو امتناع شيء لوجود غيره ، وهو في لولا كثير جدا كقول عامر بن الأكوع - رضي الله عنه - :
تالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
ومثاله في ( لو ما ) قول ابن مقبل :
لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض .
تنبيه
قد ترد أدوات التحضيض للتوبيخ والتنديم ، فتختص بالماضي أو ما في تأويله نحو فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس الآية [ 10 \ 98 ] وقوله : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء الآية [ 24 \ 13 ] وقوله : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة الآية [ 46 \ 28 ] ، وجعل بعضهم منه قول جرير : [ ص: 255 ] تعدون عقر النيب البيت المتقدم آنفا
قائلا : إن مراده توبيخهم على ترك عد الكمي المقنع في الماضي .
قوله تعالى : ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ما ينزل الملائكة إلا بالحق ، أي بالوحي ، وقيل بالعذاب ، وقال الزمخشري : " إلا تنزيلا متلبسا بالحكمة والمصلحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم الملائكة عيانا ، تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار " ، قال : " ومثل هذا قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ 15 \ 85 ] وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لو نزلت عليهم الملائكة ، ما كانوا منظرين وذلك في قوله : وما كانوا إذا منظرين [ 15 \ 8 ] لأن التنوين في قوله ( إذا ) عوض عن جملة ، ففيه شرط وجزاء ، وتقرير المعنى : ولو نزلت عليهم الملائكة ما كانوا منظرين ، أي ممهلين بتأخير العذاب عنهم ، وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين [ 25 \ 22 ] وقوله : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون [ 6 \ 8 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : ما ننزل الملائكة [ 15 \ 8 ] قرأه حفص وحمزة والكسائي : ( ننزل ) بنونين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة مع كسر الزاي المشددة ، و ( الملائكة ) بالنصب مفعول به لننزل . وقرأ شعبة : ( تنزل ) بتاء مضمومة ونون مفتوحة مع تشديد الزاي مفتوحة بالبناء للمفعول ، و ( الملائكة ) بالرفع نائب فاعل تنزل . وقرأ الباقون ( تنزل ) بفتح التاء والنون والزاي المشددة ، أصله تتنزل فحذفت إحدى التاءين ، و ( الملائكة ) بالرفع فاعل تنزل كقوله : تنزل الملائكة والروح الآية [ 97 \ 4 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 02:53 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (141)
سُورَةُ الْحِجْرِ(2)
صـ 256 إلى صـ 260
قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم ، وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 41 - 42 ] وقوله : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 ] إلى قوله : ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 19 ] وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله : وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] [ ص: 256 ] راجع إلى الذكر الذي هو القرآن . وقيل الضمير راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله : والله يعصمك من الناس [ 5 \ 67 ] والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق .
قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل في السماء بروجا ، وذكر هذا أيضا في مواضع أخر كقوله : تبارك الذي جعل في السماء بروجا [ 25 \ 61 ] وقوله تعالى : والسماء ذات البروج الآية [ 85 \ 1 ] ، والبروج : جمع برج .
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآيات المذكورة ، فقال بعضهم : البروج : الكواكب ، وممن روي عنه هذا القول مجاهد وقتادة . وعن أبي صالح : أنها الكواكب العظام ، وقيل : هي قصور في السماء عليها الحرس . وممن قال به عطية ، وقيل : هي منازل الشمس والقمر ، قاله ابن عباس . وأسماء هذه البروج : الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أطلق تعالى في ( ( سورة النساء ) ) البروج على القصور الحصينة في قوله : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد . لأن أصل البروج في اللغة الظهور ، ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها ، فالكواكب ظاهرة ، والقصور ظاهرة ، ومنازل القمر والشمس كالقصور ، بجامع أن الكل محل ينزل فيه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وزيناها للناظرين . صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه زين السماء للناظرين ، وبين في مواضع أخر أنه زينها بالنجوم ، وأنها السماء الدنيا كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح الآية [ 67 \ 5 ] ، وقوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] .
قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين . صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : وحفظا من كل شيطان مارد [ 37 \ 7 ] وقوله : وجعلناها رجوما للشياطين [ 67 \ 5 ] وقوله : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] وقوله : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] وقوله : [ ص: 257 ] أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين [ 52 \ 38 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله : إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [ 15 \ 18 ] . قال بعض العلماء : هو استثناء منقطع ، وجزم به الفخر الرازي ، أي لكن من استرق السمع أي الخطفة اليسيرة ، فإنه يتبعه شهاب فيحرقه كقوله تعالى : ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 8 - 10 ] وقيل : الاستثناء متصل ، أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئا من الوحي وغيره ، إلا من استرق السمع ، فإنا لم نحفظها من أن تسمع لخبر من أخبار السماء سوى الوحي ، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئا ; لقوله تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] قاله القرطبي ، ونظيره إلا من خطف الآية [ 37 \ 10 ] فإنه استثناء من الواو في قوله تعالى : لا يسمعون إلى الملإ الآية [ 37 \ 8 ] .
[ أصحاب الأقمار الصناعية
تنبيه
يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتشدق به أصحاب الأقمار الصناعية ، من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر ، كله كذب وشقشقة لا طائل تحتها ، ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ، ويرجعون خاسئين أذلاء عاجزين ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 4 ] ووجه دلالة الآيات المذكورة على ذلك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن ، يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب ، ومنه قوله تعالى : وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم الآية [ 2 \ 14 ] ، وقوله : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [ 6 \ 112 ] ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الكلب الأسود شيطان " وقول جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا ولا شك أن أصحاب الأقمار الصناعية يدخلون في اسم الشياطين دخولا أوليا ; لعتوهم وتمردهم . وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى صرح بحفظ السماء من كل شيطان ، كائنا من كان في عدة آيات من كتابه كقوله هنا : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] [ ص: 258 ] وقوله : وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم [ 41 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وصرح بأن من أراد استراق السمع أتبعه شهاب راصد له في مواضع أخر كقوله : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] وقوله : إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [ 15 \ 18 ] وقوله : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 9 ] وقال : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] وقال : أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين [ 52 \ 38 ] وهو تعجيز دال على عجز البشر عن ذلك عجزا مطلقا ، وقال : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ 38 \ 10 - 11 ] فقوله في هذه الآية الكريمة : فليرتقوا في الأسباب ، أي فليصعدوا في أسباب السماوات التي توصل إليها . وصيغة الأمر في قوله : فليرتقوا للتعجيز ، وإيرادها للتعجيز دليل على عجز البشر عن ذلك عجزا مطلقا . وقوله - جل وعلا - بعد ذلك التعجيز : جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ 38 \ 11 ] يفهم منه أنه لو تنطع جند من الأحزاب للارتقاء في أسباب السماء ، أنه يرجع مهزوما صاغرا داخرا ذليلا ، ومما يدل على أن الآية الكريمة يشار فيها إلى شيء ما كان يظنه الناس وقت نزولها إبهامه - جل وعلا - لذلك الجند بلفظة ( ما ) في قوله : جند ما [ 38 \ 11 ] وإشارته إلى مكان ذلك الجند أو مكان انهزامه إشارة البعيد في قوله : هنالك [ 38 \ 11 ] ولم يتقدم في الآية ما يظهر رجوع الإشارة إليه ، إلا الارتقاء في أسباب السماوات .
فالآية الكريمة يفهم منها ما ذكرنا ، ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء ، بل عبارات المفسرين تدور على أن الجند المذكور الكفار الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - سوف يهزمهم ، وأن ذلك تحقق يوم بدر أو يوم فتح مكة ، ولكن كتاب الله لا تزال تظهر غرائبه وعجائبه متجددة على مر الليالي والأيام ، ففي كل حين تفهم منه أشياء لم تكن مفهومة من قبل ، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح أنه لما سأل عليا - رضي الله عنه - هل خصهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء ؟ قال له علي - رضي الله عنه - : لا والذي فلق الحبة ، وبرأ النسمة ، إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتاب الله ، وما في هذه الصحيفة . الحديث . فقوله - رضي الله عنه - : إلا فهما يعطيه الله رجلا في كتاب الله ، يدل على أن فهم كتاب الله [ ص: 259 ] تتجدد به العلوم والمعارف التي لم تكن عند عامة الناس ، ولا مانع من حمل الآية على ما حملها عليه المفسرون .
وما ذكرنا أيضا أنه يفهم منها لما تقرر عند العلماء من أن الآية إن كانت تحتمل معاني كلها صحيحة ، تعين حملها على الجميع ، كما حققه بأدلته الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن .
وصرح تعالى بأن القمر في السبع الطباق في قوله : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 15 - 16 ] فعلم من الآيات أن القمر في السبع الطباق ، وأن الله حفظها من كل شيطان رجيم ، فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين أصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داخرين صاغرين ، عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء ، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يراد بها مطلق ما علاك ، وإن كان لفظ السماء قد يطلق لغة على كل ما علاك ، كسقف البيت ، ومنه قوله تعالى : فليمدد بسبب إلى السماء الآية [ 22 \ 15 ] . وقد قال الشاعر :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
لتصريحه تعالى بأن القمر في السبع الطباق . لأن الضمير في قوله : وجعل القمر فيهن [ 71 \ 16 ] راجع إلى السبع الطباق ، وإطلاق المجموع مرادا بعضه كثير في القرآن وفي كلام العرب .
ومن أصرح أدلته : قراءة حمزة والكسائي فإن قاتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] من القتل في الفعلين . لأن من قتل - بالبناء للمفعول - لا يمكن أن يؤمر بعد موته بأن يقتل قاتله ، ولكن المراد : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، كما هو ظاهر . وقال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] . وصح كون السماوات ظرفا للقمر . لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف . تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها .
واعلم أن لفظ الآية صريح في أن نفس القمر في السبع الطباق . لأن لفظة جعل [ 71 \ 15 ] في الآية هي التي بمعنى صير ، وهي تنصب المبتدأ والخبر ، والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيء آخر ، فقولك : جعلت الطين خزفا ، والحديد خاتما ، لا يخفى فيه أن الطين هو الخزف بعينه ، والحديد هو الخاتم ، وكذلك قوله : وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] .
[ ص: 260 ] فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه ، فلا يفهم من الآية بحسب الوضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق ، وكون المجعول فيها مطلق نوره . لأنه لو أريد ذلك لقيل : وجعل نور القمر فيهن أما قوله : وجعل القمر فيهن نورا فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر ، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه ، ويوضح ذلك أنه تعالى صرح في سورة الفرقان بأن القمر في خصوص السماء ذات البروج بقوله : تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] وصرح في سورة الحجر بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 16 ] وما يزعمه بعض الناس من أنه - جل وعلا - أشار إلى الاتصال بين أهل السماء والأرض في قوله : ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير [ 42 \ 29 ] يقال فيه : إن المراد جمعهم يوم القيامة في المحشر ، كما أطبق عليه المفسرون . ويدل له قوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] .
ويوضح ذلك تسمية يوم القيامة يوم الجمع في قوله تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن الآية [ 64 \ 9 ] . وكثرة الآيات الدالة على أن جمع جميع الخلائق كائن يوم القيامة ، كقوله : ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] وقوله : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] وقوله : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 4 \ 87 ] وقوله : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا [ 25 \ 25 ] وقوله وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقوله وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] .
ومع أن بعض العلماء قال : المراد ما بث من الدواب في الأرض فقط ، فيكون من إطلاق المجموع مرادا بعضه ، وهو كثير في القرآن وفي لسان العرب ، وبعضهم قال : المراد بدواب السماء الملائكة ، زاعما أن الدبيب يطلق على كل حركة .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ظاهر الآية الكريمة أن الله بث في السماء دواب كما بث في [ ص: 261 ] الأرض دواب . ولا شك أن الله قادر على جمع أهل السماوات وأهل الأرض وعلى كل شيء ، ولكن الآيات القرآنية التي ذكرنا بينت أن المراد بجمعهم حشرهم جميعا يوم القيامة ، وقد أطبق على ذلك المفسرون ، ولو سلمنا تسليما جدليا أنها تدل على جمعهم في الدنيا ، فلا يلزم من ذلك بلوغ أهل الأرض إلى أهل السماء ، بل يجوز عقلا أن ينحدر من في السماء إلى من في الأرض ; لأن الهبوط أهون من الصعود وما يزعمه من لا علم عنده بكتاب الله تعالى من أن قوله - جل وعلا - : يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان [ 55 \ 33 ] يشير إلى الوصول إلى السماء بدعوى أن المراد بالسلطان في الآية هو هذا العلم الحادث الذي من نتائجه الصواريخ والأقمار الصناعية . وإذا فإن الآية قد تكون فيها الدلالة على أنهم ينفذون بذلك العلم من أقطار السماوات والأرض مردود من أوجه : الأول : أن معنى الآية الكريمة هو إعلام الله - جل وعلا - خلقه أنهم لا محيص لهم ولا مفر عن قضائه ونفوذ مشيئته فيهم ، وذلك عندما تحف بهم صفوف الملائكة يوم القيامة ، فكلما فروا إلى جهة وجدوا صفوف الملائكة أمامهم ، ويقال لهم في ذلك الوقت يامعشر الجن والإنس [ 55 \ 33 ] والسلطان : قيل الحجة والبينة ، وقيل الملك والسلطنة ، وكل ذلك معدوم عندهم يوم القيامة فلا نفوذ لهم كما قال تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقال : إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم [ 40 \ 32 - 33 ] .
الوجه الثاني : أن الجن أعطاهم الله القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السماوات والأرض ، وكانوا يسترقون السمع من السماء كما صرح به تعالى في قوله عنهم : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع . الآية [ 72 \ 9 ] وإنما منعوا من ذلك حين بعث - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] فالجن كانوا قادرين على بلوغ السماء من غير حاجة إلى صاروخ ولا قمر صناعي ، فلو كان معنى الآية هو ما يزعمه أولئك الذين لا علم لهم بكتاب الله لم يقل - جل وعلا - يا معشر الجن ; لأنهم كانوا ينفذون إلى السماء قبل حدوث السلطان المزعوم .
الوجه الثالث : أن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية أهون على الله - جل وعلا - من أن يطلق عليه اسم السلطان ; لأنه لا يجاوز أغراض هذه الحياة الدنيا ولا نظر فيه [ ص: 262 ] ألبتة لما بعد الموت . ولأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة .
وقد نص تعالى على كمال حقارتها عنده في قوله - جل وعلا - : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله للمتقين [ 43 \ 33 - 35 ] وعلم هؤلاء الكفار نفي الله عنه اسم العلم الحقيقي ، وأثبت له أنه علم ظاهر من الحياة الدنيا وذلك في قوله : وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 \ 6 - 7 ] فحذق الكفار في الصناعات اليدوية كحذق بعض الحيوانات في صناعتها ، بإلهام الله لها ذلك ، فالنحل تبني بيت عسلها على صورة شكل مسدس ، يحار فيه حذاق المهندسين . ولما أرادوا أن يتعلموا منها كيفية ذلك البناء ، وجعلوها في أجباح زجاج لينظروا إلى كيفية بنائها ، أبت أن تعلمهم ، فطلت الزجاج بالعسل قبل البناء ، كيلا يروا كيفية بنائها ، كما أخبرتنا الثقة بذلك .
الوجه الرابع : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن ذلك المعنى المزعوم كذبا هو معنى الآية ، فإن الله أتبع ذلك بقوله يرسل عليكما شواظ من نار الآية [ 55 \ 35 ] فهو يدل على ذلك التقدير على أنهم لو أرادوا النفوذ في أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس ، والشواظ اللهب الخالص ، والنحاس الدخان ومنه قول النابغة :
يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا
وكذلك ما يزعمه بعض من لا علم له بمعنى كتاب الله من أن الله أشار إلى اتصال أهل السماوات وأهل الأرض بقوله تعالى : قال ربي يعلم القول في السماء والأرض [ 21 \ 4 ] بصيغة الأمر في لفظة قل على قراءة الجمهور ، وبصيغة الماضي قال ربي يعلم الآية . في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، فإن الآية الكريمة لا تدل على ذلك لا بدلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ; لأن غاية ما تفيده الآية الكريمة أن الله - جل وعلا - أمر نبيه أن يقول إن ربه يعلم كل ما يقوله أهل السماء وأهل الأرض ، على قراءة الجمهور وعلى قراءة الأخوين وحفص ، فمعنى الآية أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر قائلا إن ربه - جل وعلا - يعلم كل ما يقال في السماء والأرض ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، ولا شك أنه - جل وعلا - عالم بكل أسرار أهل السماء والأرض وعلانياتهم ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .
وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله - جل وعلا - من أنه تعالى أشار [ ص: 263 ] إلى أن أهل الأرض سيصعدون إلى السماوات واحدة بعد أخرى بقوله : لتركبن طبقا عن طبق [ 84 \ 19 ] زاعما أن معنى الآية الكريمة لتركبن أيها الناس طبقا أي سماء عن طبق أي بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماوات ، فهو أيضا جهل بكتاب الله وحمل له على غير ما يراد به .
اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين مشهورتين ، إحداهما : لتركبن بفتح الباء وبها قرأ من السبعة ابن كثير وحمزة والكسائي ، وعلى هذه القراءة ففي فاعل لتركبن ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء الأول وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : لتركبن أنت يا نبي الله طبقا عن طبق أي بعد طبق أي حالا بعد حال أي فتترقى في الدرجات درجة بعد درجة ، والطبق في لغة العرب الحال ومنه قول الأقرع بن حابس التميمي :
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منها إلى طبق
وقول الآخر :
كذلك المرء إن ينسأ له أجل يركب على طبق من بعده طبق
أي : حال بعد حال في البيتين ، وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكلبي وغيرهم لتركبن طبقا عن طبق [ 84 \ 19 ] أي لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء ، وقد وقع ذلك ليلة الإسراء .
والثاني أن الفاعل ضمير السماء أي لتركبن هي أي السماء طبقا بعد طبق ، أي لتنتقلن السماء من حال إلى حال ، أي تصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتارة تتشقق بالغمام وتارة تطوى كطي السجل للكتب .
والثالث أن الفاعل ضمير يعود إلى الإنسان المذكور في قوله ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا [ 84 \ 6 ] أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من صغر إلى كبر ومن صحة إلى سقم كالعكس ، ومن غنى إلى فقر كالعكس ، ومن موت إلى حياة كالعكس ، ومن هول من أهوال القيامة إلى آخر وهكذا ، والقراءة الثانية وبها قرأ من السبعة نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ( لتركبن ) بضم الباء وهو خطاب عام للناس [ ص: 264 ] المذكورين في قوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله وأما من أوتي كتابه وراء ظهره [ 84 \ 7 - 10 ] ومعنى الآية لتركبن أيها الناس حالا بعد حال ، فتنتقلون في دار الدنيا من طور إلى طور ، وفي الآخرة من هول إلى هول ، فإن قيل يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن على قراءة ضم الباء أن يكون المعنى لتركبن أيها الناس طبقا بعد طبق أي سماء بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماء السابعة كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان هذا جائزا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق الحال المنتقل إليها من موت ونحوه وهول القيامة ، بدليل قوله بعده مرتبا له عليه بالفاء فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون [ 84 \ 20 - 21 ] فهو قرينة ظاهرة على أن المراد إذا كانوا ينتقلون من حال إلى حال ، ومن هول إلى هول ، فما المانع لهم من أن يؤمنوا ويستعدوا لتلك الشدائد ، ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي بنات طبق ، كما هو معروف في لغتهم .
الوجه الثاني : أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب ، وهم أولى الناس بالدخول فيه بحسب الوضع العربي ، ولم يركب أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين ، فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية ولو كان هو معناها لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك .
الوجه الثالث : هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنا من كان ، فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق . والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة ، وكذلك ما يزعمه بعض من ليس له علم بمعنى كتاب الله - جل وعلا - من أن الله تعالى أشار إلى بلوغ أهل الأرض إلى السماوات بقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية [ 45 \ 13 ] فقالوا : تسخيره - جل وعلا - ما في السماوات لأهل الأرض دليل على أنهم سيبلغون السماوات ، والآية الكريمة لا تدل على ذلك الذي زعموا أنها تدل عليه ; لأن القرآن بين في آيات كثيرة كيفية تسخير ما في السماء لأهل الأرض ، فبين أن تسخير الشمس والقمر لمنافعهم ، وانتشار الضوء عليهم ، ولكي يعلموا عدد السنين والحساب كما قال تعالى : وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار الآية [ 14 \ 33 ] [ ص: 265 ] ومنافع الشمس والقمر اللذين سخرهما الله لأهل الأرض لا يحصيها إلا الله كما هو معروف وقال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب [ 10 \ 5 ] ، وقال تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ 17 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لذلك التسخير لأهل الأرض . وكذلك سخر لأهل الأرض النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر كما قال تعالى : والنجوم مسخرات بأمره الآية [ 16 \ 12 ] وقال تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الآية [ 6 \ 97 ] وقال : وعلامات وبالنجم هم يهتدون الآية [ 16 \ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات . فهذا هو تسخير ما في السماء لأهل الأرض وخير ما يفسر به القرآن . ومما يوضح ما ذكرنا أن المخاطبين الأولين بقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض الآية [ 45 \ 13 ] وهم الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسخر لهم شيء مما في السماوات إلا هذا التسخير الذي ذكرنا ، الذي بينه القرآن العظيم في آيات كثيرة . فلو كان يراد به التسخير المزعوم عن طريق الصواريخ والأقمار الصناعية لدخل فيه المخاطبون الأولون كما هو ظاهر ، وكذلك قوله وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، فإن معنى مرورهم على ما في السماوات من الآيات نظرهم إليها كما بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض الآية [ 7 \ 185 ] وقوله : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية [ 10 \ 101 ] وقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم - وفقني الله وإياك - أن التلاعب بكتاب الله - جل وعلا - وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء كفرة الإفرنج ، ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة ، وإنما فيه فساد الدارين ، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه ، نحض جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم ، كما قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] كما سترى بسطه إن شاء الله في سورة بني إسرائيل .
فإن قيل . هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في [ ص: 266 ] حفظها من استراق السمع ، وذلك إنما يكون من شياطين الجن ، فدل ذلك على اختصاص الآيات المذكورة بشياطين الجن ؟ فالجواب : أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار . قال في لسان العرب : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان . وقال في القاموس : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة اه .
ولا شك أن من أشد الكفار تمردا وعتوا الذين يحاولون بلوغ السماء ، فدخولهم في اسم الشيطان لغة لا شك فيه ، وإذا كان لفظ الشيطان يعم كل متمرد عات فقوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] صريح في حفظ السماء من كل متمرد عات كائنا من كان ، وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب ، إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول . وحفظ السماء من الشياطين معناه حراستها منهم ، قال الجوهري في صحاحه : حفظت الشيء حفظا أي حرسته اه . وقال صاحب لسان العرب : وحفظت الشيء حفظا أي حرسته اه . وهذا معروف في كلام العرب ، فيكون مدلول هذه الآية بدلالة المطابقة وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] أي وحرسناها أي السماء من كل عات متمرد .
ولا مفهوم مخالفة لقوله رجيم [ 15 \ 17 ] وقوله مارد [ 37 \ 7 ] لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة فكل شيطان يوصف بأنه رجيم وبأنه مارد ، وإن كان بعضهم أقوى تمردا من بعض ، وما حرسه الله - جل وعلا - من كل عات متمرد ، لا شك أنه لا يصل إليه عات متمرد كائنا من كان ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 4 ] والعلم عند الله تعالى . اه
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 02:57 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (142)
سُورَةُ الْحِجْرِ(3)
صـ 261 إلى صـ 265
قال مقيده - عفا الله عنه - : ظاهر الآية الكريمة أن الله بث في السماء دواب كما بث في [ ص: 261 ] الأرض دواب . ولا شك أن الله قادر على جمع أهل السماوات وأهل الأرض وعلى كل شيء ، ولكن الآيات القرآنية التي ذكرنا بينت أن المراد بجمعهم حشرهم جميعا يوم القيامة ، وقد أطبق على ذلك المفسرون ، ولو سلمنا تسليما جدليا أنها تدل على جمعهم في الدنيا ، فلا يلزم من ذلك بلوغ أهل الأرض إلى أهل السماء ، بل يجوز عقلا أن ينحدر من في السماء إلى من في الأرض ; لأن الهبوط أهون من الصعود وما يزعمه من لا علم عنده بكتاب الله تعالى من أن قوله - جل وعلا - : يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان [ 55 \ 33 ] يشير إلى الوصول إلى السماء بدعوى أن المراد بالسلطان في الآية هو هذا العلم الحادث الذي من نتائجه الصواريخ والأقمار الصناعية . وإذا فإن الآية قد تكون فيها الدلالة على أنهم ينفذون بذلك العلم من أقطار السماوات والأرض مردود من أوجه : الأول : أن معنى الآية الكريمة هو إعلام الله - جل وعلا - خلقه أنهم لا محيص لهم ولا مفر عن قضائه ونفوذ مشيئته فيهم ، وذلك عندما تحف بهم صفوف الملائكة يوم القيامة ، فكلما فروا إلى جهة وجدوا صفوف الملائكة أمامهم ، ويقال لهم في ذلك الوقت يامعشر الجن والإنس [ 55 \ 33 ] والسلطان : قيل الحجة والبينة ، وقيل الملك والسلطنة ، وكل ذلك معدوم عندهم يوم القيامة فلا نفوذ لهم كما قال تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقال : إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم [ 40 \ 32 - 33 ] .
الوجه الثاني : أن الجن أعطاهم الله القدرة على الطيران والنفوذ في أقطار السماوات والأرض ، وكانوا يسترقون السمع من السماء كما صرح به تعالى في قوله عنهم : وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع . الآية [ 72 \ 9 ] وإنما منعوا من ذلك حين بعث - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] فالجن كانوا قادرين على بلوغ السماء من غير حاجة إلى صاروخ ولا قمر صناعي ، فلو كان معنى الآية هو ما يزعمه أولئك الذين لا علم لهم بكتاب الله لم يقل - جل وعلا - يا معشر الجن ; لأنهم كانوا ينفذون إلى السماء قبل حدوث السلطان المزعوم .
الوجه الثالث : أن العلم المذكور الذي لا يجاوز صناعة يدوية أهون على الله - جل وعلا - من أن يطلق عليه اسم السلطان ; لأنه لا يجاوز أغراض هذه الحياة الدنيا ولا نظر فيه [ ص: 262 ] ألبتة لما بعد الموت . ولأن الدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة .
وقد نص تعالى على كمال حقارتها عنده في قوله - جل وعلا - : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة إلى قوله للمتقين [ 43 \ 33 - 35 ] وعلم هؤلاء الكفار نفي الله عنه اسم العلم الحقيقي ، وأثبت له أنه علم ظاهر من الحياة الدنيا وذلك في قوله : وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 \ 6 - 7 ] فحذق الكفار في الصناعات اليدوية كحذق بعض الحيوانات في صناعتها ، بإلهام الله لها ذلك ، فالنحل تبني بيت عسلها على صورة شكل مسدس ، يحار فيه حذاق المهندسين . ولما أرادوا أن يتعلموا منها كيفية ذلك البناء ، وجعلوها في أجباح زجاج لينظروا إلى كيفية بنائها ، أبت أن تعلمهم ، فطلت الزجاج بالعسل قبل البناء ، كيلا يروا كيفية بنائها ، كما أخبرتنا الثقة بذلك .
الوجه الرابع : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن ذلك المعنى المزعوم كذبا هو معنى الآية ، فإن الله أتبع ذلك بقوله يرسل عليكما شواظ من نار الآية [ 55 \ 35 ] فهو يدل على ذلك التقدير على أنهم لو أرادوا النفوذ في أقطارها حرقهم ذلك الشواظ والنحاس ، والشواظ اللهب الخالص ، والنحاس الدخان ومنه قول النابغة :
يضيء كضوء سراج السليط لم يجعل الله فيه نحاسا
وكذلك ما يزعمه بعض من لا علم له بمعنى كتاب الله من أن الله أشار إلى اتصال أهل السماوات وأهل الأرض بقوله تعالى : قال ربي يعلم القول في السماء والأرض [ 21 \ 4 ] بصيغة الأمر في لفظة قل على قراءة الجمهور ، وبصيغة الماضي قال ربي يعلم الآية . في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، فإن الآية الكريمة لا تدل على ذلك لا بدلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ; لأن غاية ما تفيده الآية الكريمة أن الله - جل وعلا - أمر نبيه أن يقول إن ربه يعلم كل ما يقوله أهل السماء وأهل الأرض ، على قراءة الجمهور وعلى قراءة الأخوين وحفص ، فمعنى الآية أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر قائلا إن ربه - جل وعلا - يعلم كل ما يقال في السماء والأرض ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، ولا شك أنه - جل وعلا - عالم بكل أسرار أهل السماء والأرض وعلانياتهم ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .
وكذلك ما يزعمه من لا علم عنده بمعنى كتاب الله - جل وعلا - من أنه تعالى أشار [ ص: 263 ] إلى أن أهل الأرض سيصعدون إلى السماوات واحدة بعد أخرى بقوله : لتركبن طبقا عن طبق [ 84 \ 19 ] زاعما أن معنى الآية الكريمة لتركبن أيها الناس طبقا أي سماء عن طبق أي بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماوات ، فهو أيضا جهل بكتاب الله وحمل له على غير ما يراد به .
اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين مشهورتين ، إحداهما : لتركبن بفتح الباء وبها قرأ من السبعة ابن كثير وحمزة والكسائي ، وعلى هذه القراءة ففي فاعل لتركبن ثلاثة أوجه معروفة عند العلماء الأول وهو أشهرها أن الفاعل ضمير الخطاب الواقع على النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : لتركبن أنت يا نبي الله طبقا عن طبق أي بعد طبق أي حالا بعد حال أي فتترقى في الدرجات درجة بعد درجة ، والطبق في لغة العرب الحال ومنه قول الأقرع بن حابس التميمي :
إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره وساقني طبق منها إلى طبق
وقول الآخر :
كذلك المرء إن ينسأ له أجل يركب على طبق من بعده طبق
أي : حال بعد حال في البيتين ، وقال ابن مسعود والشعبي ومجاهد وابن عباس في إحدى الروايتين والكلبي وغيرهم لتركبن طبقا عن طبق [ 84 \ 19 ] أي لتصعدن يا محمد سماء بعد سماء ، وقد وقع ذلك ليلة الإسراء .
والثاني أن الفاعل ضمير السماء أي لتركبن هي أي السماء طبقا بعد طبق ، أي لتنتقلن السماء من حال إلى حال ، أي تصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتارة تتشقق بالغمام وتارة تطوى كطي السجل للكتب .
والثالث أن الفاعل ضمير يعود إلى الإنسان المذكور في قوله ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا [ 84 \ 6 ] أي لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من صغر إلى كبر ومن صحة إلى سقم كالعكس ، ومن غنى إلى فقر كالعكس ، ومن موت إلى حياة كالعكس ، ومن هول من أهوال القيامة إلى آخر وهكذا ، والقراءة الثانية وبها قرأ من السبعة نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ( لتركبن ) بضم الباء وهو خطاب عام للناس [ ص: 264 ] المذكورين في قوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه إلى قوله وأما من أوتي كتابه وراء ظهره [ 84 \ 7 - 10 ] ومعنى الآية لتركبن أيها الناس حالا بعد حال ، فتنتقلون في دار الدنيا من طور إلى طور ، وفي الآخرة من هول إلى هول ، فإن قيل يجوز بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن على قراءة ضم الباء أن يكون المعنى لتركبن أيها الناس طبقا بعد طبق أي سماء بعد سماء حتى تصعدوا فوق السماء السابعة كما تقدم نظيره في قراءة فتح الباء خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان هذا جائزا في لغة القرآن فما المانع من حمل الآية عليه ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : أن ظاهر القرآن يدل على أن المراد بالطبق الحال المنتقل إليها من موت ونحوه وهول القيامة ، بدليل قوله بعده مرتبا له عليه بالفاء فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون [ 84 \ 20 - 21 ] فهو قرينة ظاهرة على أن المراد إذا كانوا ينتقلون من حال إلى حال ، ومن هول إلى هول ، فما المانع لهم من أن يؤمنوا ويستعدوا لتلك الشدائد ، ويؤيده أن العرب تسمي الدواهي بنات طبق ، كما هو معروف في لغتهم .
الوجه الثاني : أن الصحابة - رضي الله عنهم - هم المخاطبون الأولون بهذا الخطاب ، وهم أولى الناس بالدخول فيه بحسب الوضع العربي ، ولم يركب أحد منهم سماء بعد سماء بإجماع المسلمين ، فدل ذلك على أن ذلك ليس معنى الآية ولو كان هو معناها لما خرج منه المخاطبون الأولون بلا قرينة على ذلك .
الوجه الثالث : هو ما قدمنا من الآيات القرآنية المصرحة بحفظ السماء وحراستها من كل شيطان رجيم كائنا من كان ، فبهذا يتضح أن الآية الكريمة ليس فيها دليل على صعود أصحاب الأقمار الصناعية فوق السبع الطباق . والواقع المستقبل سيكشف حقيقة تلك الأكاذيب والمزاعم الباطلة ، وكذلك ما يزعمه بعض من ليس له علم بمعنى كتاب الله - جل وعلا - من أن الله تعالى أشار إلى بلوغ أهل الأرض إلى السماوات بقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية [ 45 \ 13 ] فقالوا : تسخيره - جل وعلا - ما في السماوات لأهل الأرض دليل على أنهم سيبلغون السماوات ، والآية الكريمة لا تدل على ذلك الذي زعموا أنها تدل عليه ; لأن القرآن بين في آيات كثيرة كيفية تسخير ما في السماء لأهل الأرض ، فبين أن تسخير الشمس والقمر لمنافعهم ، وانتشار الضوء عليهم ، ولكي يعلموا عدد السنين والحساب كما قال تعالى : وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار الآية [ 14 \ 33 ] [ ص: 265 ] ومنافع الشمس والقمر اللذين سخرهما الله لأهل الأرض لا يحصيها إلا الله كما هو معروف وقال تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب [ 10 \ 5 ] ، وقال تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ 17 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لذلك التسخير لأهل الأرض . وكذلك سخر لأهل الأرض النجوم ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر كما قال تعالى : والنجوم مسخرات بأمره الآية [ 16 \ 12 ] وقال تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الآية [ 6 \ 97 ] وقال : وعلامات وبالنجم هم يهتدون الآية [ 16 \ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات . فهذا هو تسخير ما في السماء لأهل الأرض وخير ما يفسر به القرآن . ومما يوضح ما ذكرنا أن المخاطبين الأولين بقوله وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض الآية [ 45 \ 13 ] وهم الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسخر لهم شيء مما في السماوات إلا هذا التسخير الذي ذكرنا ، الذي بينه القرآن العظيم في آيات كثيرة . فلو كان يراد به التسخير المزعوم عن طريق الصواريخ والأقمار الصناعية لدخل فيه المخاطبون الأولون كما هو ظاهر ، وكذلك قوله وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، فإن معنى مرورهم على ما في السماوات من الآيات نظرهم إليها كما بينه تعالى في آيات كثيرة كقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض الآية [ 7 \ 185 ] وقوله : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية [ 10 \ 101 ] وقوله : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم - وفقني الله وإياك - أن التلاعب بكتاب الله - جل وعلا - وتفسيره بغير معناه لمحاولة توفيقه مع آراء كفرة الإفرنج ، ليس فيه شيء ألبتة من مصلحة الدنيا ولا الآخرة ، وإنما فيه فساد الدارين ، ونحن إذ نمنع التلاعب بكتاب الله وتفسيره بغير معناه ، نحض جميع المسلمين على بذل الوسع في تعليم ما ينفعهم من هذه العلوم الدنيوية مع تمسكهم بدينهم ، كما قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] كما سترى بسطه إن شاء الله في سورة بني إسرائيل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 03:03 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (143)
سُورَةُ الْحِجْرِ(4)
صـ 266 إلى صـ 270
فإن قيل . هذه الآيات التي استدللتم بها على حفظ السماء من الشياطين واردة في [ ص: 266 ] حفظها من استراق السمع ، وذلك إنما يكون من شياطين الجن ، فدل ذلك على اختصاص الآيات المذكورة بشياطين الجن ؟ فالجواب : أن الآيات المذكورة تشمل بدلالتها اللغوية شياطين الإنس من الكفار . قال في لسان العرب : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من الإنس والجن والدواب شيطان . وقال في القاموس : والشيطان معروف ، وكل عات متمرد من إنس أو جن أو دابة اه .
ولا شك أن من أشد الكفار تمردا وعتوا الذين يحاولون بلوغ السماء ، فدخولهم في اسم الشيطان لغة لا شك فيه ، وإذا كان لفظ الشيطان يعم كل متمرد عات فقوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] صريح في حفظ السماء من كل متمرد عات كائنا من كان ، وحمل نصوص الوحي على مدلولاتها اللغوية واجب ، إلا لدليل يدل على تخصيصها أو صرفها عن ظاهرها المتبادر منها كما هو مقرر في الأصول . وحفظ السماء من الشياطين معناه حراستها منهم ، قال الجوهري في صحاحه : حفظت الشيء حفظا أي حرسته اه . وقال صاحب لسان العرب : وحفظت الشيء حفظا أي حرسته اه . وهذا معروف في كلام العرب ، فيكون مدلول هذه الآية بدلالة المطابقة وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] أي وحرسناها أي السماء من كل عات متمرد .
ولا مفهوم مخالفة لقوله رجيم [ 15 \ 17 ] وقوله مارد [ 37 \ 7 ] لأن مثل ذلك من الصفات الكاشفة فكل شيطان يوصف بأنه رجيم وبأنه مارد ، وإن كان بعضهم أقوى تمردا من بعض ، وما حرسه الله - جل وعلا - من كل عات متمرد ، لا شك أنه لا يصل إليه عات متمرد كائنا من كان ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 4 ] والعلم عند الله تعالى . اه
قوله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح . اللواقح جمع لاقح ، وأصل اللاقح التي قبلت اللقاح فحملت الجنين ، ومنه قول ذي الرمة :
إذا قلت عاج أو تفتيت أبرقت بمثل الخوافي لاقحا أو تلقح وأصل تلقح : تتلقح ، حذفت إحدى التاءين ، أي توهم أنها لاقح وليس كذلك ، ووصف الرياح بكونها لواقح ; لأنها حوامل تحمل المطر كما قال تعالى حتى إذا أقلت سحابا ثقالا [ 7 \ 57 ] [ ص: 267 ] أي حملت سحابا ثقالا ، فاللواقح من الإبل حوامل الأجنة ، واللواقح من الريح حوامل المطر ، فالجميع يأتي بخير ، ولذا كانت الناقة التي لا تلد يقال لها عقيم ، كما أن الريح التي لا خير فيها يقال لها عقيم كما قال تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم الآية [ 51 \ 41 ] وقال بعض العلماء : اللواقح بمعنى الملاقح ، أي التي تلقح غيرها من السحاب والشجر ، وعلى هذا ففيه وجهان : أحدهما : أن المراد النسبة ، فقوله : لواقح ، أي ذوات لقاح كما يقال : سائف ورامح ، أي ذو سيف ورمح ومن هذا قول الشاعر : وغررتني وزعمت أنك لابن في الحي تامر أي ذو لبن وتمر ، وعلى هذا فمعنى لواقح أي ذوات لقاح ، لأنها تلقح السحاب والشجر .
الوجه الثاني : أن لواقح بمعنى ملاقح جمع ملقحة ، وملقح اسم فاعل ألقحت السحاب والشجر كما يلقح الفحل الأنثى ، وغاية ما في هذا القول إطلاق لواقح وإرادة ملاقح ، ونظيره قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره :
ليبك يزيد ضارع لخصومة
ومختبط مما تطيح الطوائح
فإن الرواية تطيح بضم التاء من أطاح الرباعي ، والمناسب لذلك المطيحات لا الطوائح ، ولكن الشاعر أطلق الطوائح وأراد المطيحات ، كما قيل هنا بإطلاق اللواقح وإرادة الملاقح أي الملقحات باسم الفاعل ، ومعنى إلقاح الرياح السحاب والشجر ، أن الله يجعلها لهما كما يجعل الذكر للأنثى ، فكما أن الأنثى تحمل بسبب ضراب الفحل ، فكذلك السحاب يمتلئ ماء بسبب مري الرياح له ، والشجر ينفتق عن أكمامه وأوراقه بسبب إلقاح الريح له . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة وأرسلنا الرياح لواقح [ 15 \ 22 ] أي تلقح السحاب فتدر ماء ، وتلقح الشجر فتنفتح عن أوراقها وأكمامها ، وقال السيوطي في الدر المنثور : " وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله وأرسلنا الرياح لواقح قال : يرسل الله الريح فتحمل الماء فتلقح به السحاب فيدر كما تدر اللقحة ثم يمطر " . وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يرسل الله الريح ، فتحمل الماء من السحاب ، فتمري به السحاب ، فيدر كما تدر [ ص: 268 ] اللقحة . وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح ، قال : تلقح الشجرة وتمري السحاب : وأخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي رجاء - رضي الله عنه - قال قلت للحسن - رضي الله عنه - : وأرسلنا الرياح لواقح قال : لواقح للشجر ، قلت : أو السحاب ، قال : وللسحاب تمر به حتى يمطر . وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح قال : تلقح الماء في السحاب . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك في قوله : وأرسلنا الرياح لواقح قال : الريح يبعثها الله على السحاب ، فتلقحه فيمتلئ ماء . وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب ، وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه والديلمي في مسند الفردوس بسند ضعيف عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " ريح الجنوب من الجنة " وهي الريح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس ، والشمال من النار تخرج فتمر بالجنة ، فيصيبها نفخة منها فبردها هذا من ذلك . وأخرج ابن أبي الدنيا عن قتادة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور ، والجنوب من الجنة ، وهي الريح اللواقح " .
هذا حاصل معنى كلام العلماء في الرياح اللواقح ، وقد قدمنا قول من قال : إن اللواقح هي حوامل المطر ، وأن ذلك القول يدل له قوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا [ 7 \ 57 ] أي حملتها ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ، أن يكون للشيء أوصاف ، فيذكر بعضها في موضع ، فإنا نبين بقية تلك الأوصاف المذكورة في مواضع أخر ، ومثلنا لذلك بظل أهل الجنة فإنه تعالى وصفه في سورة النساء بأنه ظليل في قوله : وندخلهم ظلا ظليلا [ 4 \ 57 ] وقد وصفه بأوصاف أخر في مواضع أخر ، وقد بينا صفات ظل أهل الجنة المذكورة في غير ذلك الموضع كقوله : أكلها دائم وظلها [ 13 \ 35 ] وقوله : وظل ممدود [ 56 ] إلى غير ذلك من أوصافه ، وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى وصف الرياح في هذه الآية بكونها لواقح ، وقد بينا معنى ذلك آنفا ، ووصفها في مواضع أخر بأوصاف أخر ، من ذلك وصفه لها بأنها تبشر بالسحاب في قوله :ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات [ 30 \ 46 ] وقوله : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته على قراءة من قرأها بالباء ، ومن ذلك وصفه لها بإثارة السحاب كقوله : الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا الآية [ 25 \ 48 ] [ ص: 269 ] وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبيد بن عمير قال " يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما ، ثم يبعث المبشرة فتثير السحاب ، فيجعله كسفا ، ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه ، فيجعله ركاما ، ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر "
وأخرج ابن المنذر بن عمير قال : " الأرواح أربعة : ريح تقم ، وريح تثير تجعله كسفا ، وريح تجعله ركاما ، وريح تمطر " اه .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة المسألة الأولى : أخذ مالك - رحمه الله - من هذه الآية الكريمة أن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك واللفظ لأشهب .
قال مالك : قال الله تعالى وأرسلنا الرياح لواقح [ 15 \ 22 ] فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ، ولا أدري ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس لم يكن فسادا لا خير فيه ، ولقاح الشجر كلها أن تثمر ، ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت منها ما يثبت ، وليس ذلك بأن تورد . قال ابن العربي : إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل ، وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله ; لأنه سمي باسم تشترك فيه كل حاملة ، وعليه جاء الحديث : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الحب حتى يشتد " اه من القرطبي .
قال مقيده - عفا الله عنه - : استنباط الإمام مالك المذكور من هذه الآية ، لأن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل ، واستدلال ابن العربي له بالحديث المذكور ليس بظاهر عندي كل الظهور .
المسألة الثانية : اعلم أن تلقيح الثمار هو إبارها ، وهو أن يؤخذ شيء من طلع ذكور النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث ، ومعنى ذلك في سائر الثمار طلوع الثمار من التين وغيره ، حتى تكون الثمرة مرئية منظورا إليها . والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير ، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط ، وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض ، قاله مالك . وقد روي عنه أن إباره أن يحبب اه ، قاله القرطبي . وقال أيضا : لم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه ، فأخر إباره ، وقد أبر غيره مما حاله مثل حاله ، أن حكمه حكم ما أبر ، فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعا له ، كما أن [ ص: 270 ] الحائط إذا بدا صلاح بعضه كان سائر الحائط تبعا لذلك الصلاح في جواز بيعه اه . وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح .
المسألة الثالثة : إذا بيع حائط نخل بعد أن أبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطها المبتاع ، فإن اشترطها المبتاع فهي له ، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع الذي باعها إلا أن يشترطها المبتاع " متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - . فإن بيعت النخل قبل التأبير فالثمرة للمشتري ، واختلف في استثناء البائع لها ، فمشهور مذهب مالك أنها كالجنين لا يجوز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها بناء على أن المستثنى مشترى ، خلافا لتصحيح اللخمي جواز استثناء البائع لها بناء على أن المستثنى مبقى ، وجواز استثنائها هو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وهو أظهر عندي ; لأن كون المستثنى مبقى أظهر من كونه مشترى لأنه كان مملوكا للبائع ، ولم يزل على ملكه ; لأن البيع لم يتناوله لاستثنائه من جملة المبيع كما ترى . وهذا الذي ذكرنا في هذه المسألة هو الحق إن شاء الله تعالى ، فما أبر فهو للبائع إلا بشرط ، وما لم يؤبر فهو للمشتري إلا بشرط ، خلافا لابن أبي ليلى القائل : هي للمشتري في الحالين ; لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة له كالأغصان . وهذا الاستدلال فاسد الاعتبار ; لمخالفته لحديث ابن عمر المتفق عليه المذكور آنفا ، فقد صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن البيع إن كان وقع بعد التأبير فالثمرة للبائع ، وخلافا للإمام أبي حنيفة والأوزاعي - رحمهما الله تعالى - في قولهما : إنها للبائع في الحالين . والحديث المذكور يرد عليهما ، بدليل خطابه أعني مفهوم مخالفته ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - " من ابتاع نخلا قد أبرت " الحديث . يفهم منه أنها إن كانت غير مؤبرة فليس الحكم كذلك ، وإلا كان قوله " قد أبرت " وقوله " بعد أن تؤبر " في بعض الروايات لغوا لا فائدة فيه ، فيتعين أن ذكر وصف التأبير ليحترز به عن غيره ، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - لا يقول بحجته مفهوم المخالفة ، فالجاري على أصوله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور نص على حكم الثمرة المؤبرة ، وسكت عن غير المؤبرة ، فلم يتعرض لها أصلا . وإن أبر بعض الثمرة التي بيعت أصولها ، وبعضها الآخر لم يؤبر ، فمذهب مالك أنه إن كان أحدهما أكثر فالأقل تابع له ، وإن استويا فلكل حكمه ، فالمؤبر للبائع وغيره للمشتري . ومذهب الإمام أحمد أن لكل واحد من المؤبر وغيره حكمه ، وأبو حنيفة لا فرق عنده بين المؤبر وغيره ، فالجميع عنده للبائع إلا إذا اشترطه المبتاع ، ومذهب الشافعي - رحمه الله - الصحيح من الخلاف ، أن ما لم يؤبر تبع للمؤبر [ ص: 271 ] فيبقى الجميع للبائع دفعا لضرر اختلاف الأيدي . واعلم أن استثناء بعض الثمرة دون بعض يجوز في قول جمهور العلماء ، وفاقا لأشهب من أصحاب مالك وخالف ابن القاسم فقال : لا يجوز استثناء بعض المؤبرة . وحجة الجمهور أن ما جاز استثناء جميعه جاز استثناء بعضه ، وحجة ابن القاسم أن النص إنما ورد في اشتراط الجميع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 03:10 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (144)
سُورَةُ الْحِجْرِ(5)
صـ 271 إلى صـ 275
واعلم أن أكثر العلماء على أن الثمرة المؤبرة التي هي للبائع إن لم يستثنها المشتري ، فإنها تبقى إلى وقت الانتفاع المعتاد بها ، ولا يكلفه المشتري بقطعها في الحال ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد . وخالف في ذلك أبو حنيفة قائلا : يلزم قطعها في الحال وتفريغ النخل منها ; لأنه مبيع مشغول بملك البائع ، فلزم نقله وتفريغه منه ، كما لو باع دارا فيها طعام أو قماش له . واحتج الجمهور بأن النقل والتفريغ للمبيع على حسب العرف والعادة ، كما لو باع دارا فيها طعام لم يجب نقله على حسب العادة في ذلك ، وهو أن ينقله نهارا شيئا بعد شيء ، ولا يلزمه النقل ليلا ، ولا جمع دواب البلد لنقله ، كذلك هاهنا يفرغ النخل من الثمرة في أوان وهو وقت الجذاذ ، قاله ابن قدامة في المغني .
المسألة الرابعة : لو اشتريت النخل وبقيت الثمرة للبائع ، فهل لمشتري الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها ؟ أولا : اختلف العلماء في ذلك ، فمشهور مذهب مالك جواز ذلك ; لأن لها عنده حكم التبعية وإن أفردت بالعقد ، وعنه في رواية أخرى : لا يجوز ذلك . وللشافعية والحنابلة وجهان بالمنع والجواز . قال ابن قدامة في المغني : ونسب القرطبي للشافعي وأبي حنيفة والثوري وأهل الظاهر وفقهاء الحديث القول بمنع ذلك ثم قال : وهو الأظهر من أحاديث النهي عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها .
المسألة الخامسة : إذا اشتريت الثمرة وحدها دون الأصل قبل بدو صلاحها فلها ثلاث حالات : الأولى : أن يبيعها بشرط التبقية إلى وقت الجذاذ ، وفي هذه الحالة لا يصح البيع إجماعا . الثانية : أن يبيعها بشرط قطعها في الحال ، وفي هذه الحالة يصح البيع إجماعا . الثالثة : أن يبيعها من غير شرط تبقية ولا قطع ، بل سكتا عن ذلك ، وعقدا البيع مطلقا دون شرط ، وفي هذه الحالة لا يصح البيع عند جمهور العلماء ، منهم : مالك والشافعي وأحمد - رحمهم الله تعالى - وأجاز أبو حنيفة - رحمه الله - البيع في هذه الحالة ، وأوجب قطع الثمرة حالا ، قال : لأن إطلاق العقد يقتضي القطع ، فهو كما لو اشترطه ، وحجة الجمهور إطلاق النصوص الواردة بذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما أخرجه الشيخان [ ص: 272 ] والإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمبتاع ، وفي لفظ : نهى عن بيع النخل حتى تزهو ، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة . رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا ابن ماجه . ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أنس - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تزهي ، قيل وما زهوتها ؟ قال تحمار وتصفار " . ومن ذلك أيضا ما رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تبايعوا الثمار حتى يبدو صلاحها " . ومن ذلك ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححاه عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع العنب حتى يسود ، وعن بيع الحب حتى يشتد " .
فإطلاقات هذه النصوص ونحوها تدل على منع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها في حالة الإطلاق وعدم الاشتراط كما تقدم .
وقرأ هذه الآية الكريمة جماهير القراء وأرسلنا الرياح بصيغة الجمع وقرأها حمزة وأرسلنا الريح بالإفراد ، والألف على قراءة حمزة للجنس ، ولذلك صح الجمع في قوله لواقح قال أبو حيان في البحر المحيط : ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس ، كما قالوا أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض اه والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه . بين تعالى في هذه الآية الكريمة عظيم منته بإنزال الماء من السماء ، وجعله إياه عذبا صالحا للسقيا ، وبين ذلك أيضا في مواضع أخر كقوله أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون [ 56 \ 68 - 70 ] وقوله : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات [ 16 \ 10 - 11 ] وقوله وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا [ 25 \ 48 - 49 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والتحقيق أن أسقى وسقى لغتان معناهما واحد كأسرى وسرى ، والدليل على ذلك [ ص: 273 ] القراءتان السبعيتان في قوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه [ 16 \ 66 ] فإنه قرأه بعض السبعة بضم النون من أسقى الرباعي ، وقرأه بعضهم بفتحها من سقى الثلاثي ، ويدل على ذلك أيضا قول لبيد :
سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
قوله تعالى : وما أنتم له بخازنين .
فيه للعلماء وجهان من التفسير كلاهما يشهد له قرآن الأول : أن معنى وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] أي ليست خزائنه عندكم بل نحن الخازنون له ، ننزله متى شئنا ، وهذا الوجه تدل عليه آيات كقوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] وقوله : ولله خزائن السماوات والأرض الآية [ 63 \ 7 ] ونحو ذلك من الآيات ، الوجه الثاني : أن معنى وما أنتم له بخازنين بعد أن أنزلناه عليكم ، أي لا تقدرون على حفظه في الآبار والعيون والغدران ، بل نحن الحافظون له فيها ، ليكون ذخيرة لكم عند الحاجة ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] وقوله : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 ] وقوله : أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا [ 18 \ 41 ] وقوله : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض الآية [ 39 \ 21 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإنا لنحن نحي ونميت .
بين في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يحيي ويميت ، وأوضح ذلك من آيات كثيرة كقوله : إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير [ 50 \ 43 ] وقوله تعالى : ربي الذي يحيي ويميت [ 2 \ 258 ] وقوله لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين [ 44 \ 8 ] وبين في مواضع أخر أنه أحياهم مرتين وأماتهم مرتين كقوله : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين [ 40 \ 11 ] وقوله كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم الآية [ 2 \ 28 ] والإماتة الأولى هي كونهم نطفا وعلقا ومضغا ، والإماتة الثانية هي موتهم عند انقضاء آجالهم في الدنيا ، والإحياءة الأولى نفخ الروح فيهم وإخراجهم أحياء من بطون أمهاتهم ، والإحياءة الثانية بعثهم من قبورهم أحياء يوم القيامة ، وسيأتي له إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح .
[ ص: 274 ] قوله تعالى : ونحن الوارثون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه الوارث ، ولم يبين الشيء الذي يرثه ، وبين في مواضع أخر أنه يرث الأرض ومن عليها كقوله : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون [ 19 \ 40 ] وقوله : ونرثه ما يقول ويأتينا فردا [ 19 \ 80 ] ومعنى ما يقول : أي نرثه الذي يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من المال والولد ، كما ذكره الله عنه في قوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ومعنى كونه يرث الأرض ومن عليها أنه يبقى بعد فناء خلقه متصفا بصفات الكمال والجلال يفعل ما يشاء كيف يشاء .
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه خلق أبانا آدم من صلصال من حمأ مسنون ، والصلصال الطين اليابس الذي يصل أي يصوت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسه النار ، فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار ، وأصل الصليل والصلصلة واحد ، والفرق بينهما أنك إذا توهمت في الصوت مدا فهو صليل ، وإذا توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة ، والحمأ : الطين الأسود المتغير ، والمسنون قيل : المصور من سنة الوجه وهي صورته ، ومنه قول ذي الرمة :
تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن معنى المسنون وأجابه بأن معناه المصور قال له : وهل تعرف العرب ذلك ؟ فقال له ابن عباس : نعم ، أما سمعت قول حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - وهو يمدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
أغر كأن البدر سنة وجهه جلا الغيم عنه ضوءه فتبددا
وقيل المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها ، وقيل : المسنون المنتن ، وقال بعض العلماء : المسنون الأملس ، قال : ومنه قول عبد الرحمن بن حسان : ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشي في مرمر مسنون أي أملس صقيل ، قاله ابن كثير ، وقال مجاهد : الصلصال هو المنتن ، وما قدمنا هو الحق بدليل قوله تعالى : خلق الإنسان من صلصال كالفخار [ 55 \ 14 ] إذا عرفت هذا فاعلم أن الله - جل وعلا - أوضح في كتابه أطوار هذا الطين الذي خلق منه آدم ، فبين أنه [ ص: 275 ] أولا تراب بقوله : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] وقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] وقوله : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 40 \ 67 ] إلى غير ذلك من الآيات ، ثم أشار إلى أن ذلك التراب بل فصار طينا يعلق بالأيدي في مواضع أخر كقوله : إنا خلقناهم من طين لازب [ 37 \ 11 ] وقوله ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ 23 \ 12 ] وقوله : وبدأ خلق الإنسان من طين [ 32 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وبين أن ذلك الطين أسود ، وأنه متغير بقوله هنا من حمإ مسنون وبين أيضا أنه يبس حتى صار صلصالا ، أي تسمع له صلصلة من يبسه بقوله : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال الآية [ 15 \ 26 ] وقوله : خلق الإنسان من صلصال كالفخار الآية [ 55 \ 14 ] والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين . بين في هذه الآية الكريمة أن إبليس أبى أن يسجد لآدم ، وبين في مواضع أخر أنه تكبر عن امتثال أمر ربه ، كقوله في البقرة : إلا إبليس أبى واستكبر الآية [ 2 \ 34 ] وقوله في ص إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين [ 38 \ 74 ] وأشار إلى ذلك هنا بقوله : قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون [ 15 \ 33 ] . كما تقدمت الإشارة إليه .
قوله تعالى قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين . بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه سأل إبليس سؤال توبيخ وتقريع عن الموجب لامتناعه من السجود لآدم الذي أمره به ربه - جل وعلا - وبين أيضا في الأعراف وص أنه وبخه أيضا بهذا السؤال قال في الأعراف قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] وقال في ص : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية [ 38 \ 75 ] وناداه باسمه إبليس في الحجر وص ، ولم يناده به في الأعراف .
قوله تعالى : قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون .
هذا القول الذي ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عن إبليس - لعنه الله - أنه لم يكن ليسجد لبشر مخلوق من الطين ، مقصوده به أنه خير من آدم ; لأن آدم خلق من الطين وهو خلق من النار ، كما يوضحه قوله تعالى : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 38 \ 76 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 03:17 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (145)
سُورَةُ الْحِجْرِ(6)
صـ 276 إلى صـ 280
قوله تعالى : قال فاخرج منها فإنك رجيم .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أمر إبليس بالخروج من الجنة ، مؤكدا أنه رجيم ، وبين في الأعراف أنه خروج هبوط ، وأنه يخرج متصفا بالصغار والذل والهوان بقوله : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] .
قوله تعالى : وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين بين في هذه الآية الكريمة أن اللعنة على إبليس إلى يوم الدين ، وصرح في ص بأن لعنته - جل وعلا - على إبليس إلى يوم الدين بقوله : وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ 38 \ 78 ] وقد قدمنا في الفاتحة بيان يوم الدين .
قوله تعالى قال رب بما أغويتني الآية . قال بعض العلماء هذا قسم من إبليس بإغواء الله له على أنه يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلصين ، ويدل له أنه أقسم بعزته تعالى على ذلك في قوله قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين الآية [ 38 \ 82 ] وقيل : الباء في قوله بما أغويتني [ 15 \ 39 ] سببية .
قوله تعالى : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبليس أخبر أنه سيبذل جهده في إضلال بني آدم حتى يضل أكثرهم ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 16 - 17 ] وقوله : وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا الآية [ 4 \ 118 ] وقوله : قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا [ 17 \ 62 ] وهذا قاله إبليس قبل أن يقع ظنا منه أنه يتمكن من إضلال أكثر بني آدم ، وقد بين تعالى أنه صدق ظنه هذا بقوله ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [ 34 \ 20 ] وكل آية فيها ذكر إضلال إبليس لبني آدم بين فيها أن إبليس وجميع من تبعه كلهم في النار ، كما قال هنا وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب الآية [ 15 \ 43 - 44 ] ، وقال في الأعراف : قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين [ 7 \ 18 ] وقال في سورة بني إسرائيل : قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا [ 17 \ 63 ] وقال في ص : قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] .
[ ص: 277 ] قوله تعالى : إلا عبادك منهم المخلصين .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان لما أوعد بأنه سيضل أكثر بني آدم ، استثنى من ذلك عباد الله المخلصين ، معترفا بأنه لا قدرة له على إضلالهم ، ونظيره قوله في ص أيضا قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 - 83 ] وعباد الله المخلصون هم المرادون بالاستثناء في قوله في بني إسرائيل لأحتنكن ذريته إلا قليلا [ 17 \ 62 ] وقوله في سبأ ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [ 34 \ 20 ] وهم الذين احترز منهم بقوله ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 17 ] وبين تعالى في مواضع أخر أن الشيطان لا سلطان له على أولئك المخلصين كقوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الآية [ 15 \ 42 ] وقوله : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك الآية [ 34 \ 21 ] . وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] وقوله : المخلصين [ 15 \ 40 ] قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام اسم فاعل ، وقرأه نافع والكوفيون بفتح اللام بصيغة اسم المفعول .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين .
بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين يوم القيامة في جنات وعيون ، ويقال لهم يوم القيامة : ادخلوها بسلام آمنين وذكر في مواضع أخر صفات ثوابهم ، وربما بين بعض تقواهم التي نالوا بها هذا الثواب الجزيل كقوله في الذاريات : إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [ 51 \ 15 - 19 ] وقوله في الدخان : إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين كذلك وزوجناهم بحور عين يدعون فيها بكل فاكهة آمنين لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم [ 44 \ 51 - 57 ] وقوله في الطور : إن المتقين في جنات ونعيم فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين [ 52 \ 17 - 20 ] .
[ ص: 278 ] وقوله في القمر : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [ 54 \ 54 - 55 ] وقوله في المرسلات : إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون [ 77 \ 41 - 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن الشيء الذي له أوصاف متعددة في القرآن نبين أوصافه عند ذكر بعضها ، كما تقدم مثاله مرارا وكما هنا .
والمتقي اسم فاعل الاتقاء ، وأصل مادة الاتقاء ( و ق ي ) لفيف مفروق فاؤه واو وعينه قاف ولامه ياء ، فدخله تاء الافتعال فصارت وقي أو تقي ، فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء للقاعدة المقررة في التصريف : أن كل واو هي فاء الكلمة إذا دخلت عليها تاء الافتعال يجب إبدالها - أعني الواو - تاء وإدغامها في تاء الافتعال نحو اتصل من الوصل واتزن من الوزن واتحد من الوحدة واتقى من الوقاية وعقد هذه القاعدة ابن مالك في الخلاصة بقوله :
ذو اللين فاتا في افتعال أبدلا وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا والاتقاء في اللغة : اتخاذ الوقاية دون المكروه ، ومنه قول نابغة ذبيان :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
يعني استقبلتنا بيدها جاعلة إياها وقاية تقيها من أن ننظر إلى وجهها لأنها تستره بها ، وقول الآخر : فألقت قناعا دونه الشمس واتقت بأحسن موصولين كف ومعصم والتقوى في اصطلاح الشرع : هي اتخاذ الوقاية دون عذاب الله وسخطه ، وهي مركبة من أمرين هما : امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه .
قوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من الغل ، في حال كونهم إخوانا ، وبين هذا المعنى في الأعراف ، وزاد أنهم تجري من تحتهم الأنهار في نعيم الجنة وذلك في قوله : ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا [ 7 \ 43 ] .
[ ص: 279 ] قوله تعالى : على سرر متقابلين .
بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين الذين هم أهل الجنة يوم القيامة يكونون على سرر ، وأنهم متقابلون ينظر بعضهم إلى وجه بعض ، ووصف سررهم بصفات جميلة في غير هذا الموضع ، منها أنها منسوجة بقضبان الذهب وهي الموضوعة قال في الواقعة : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين [ 56 \ 13 - 16 ] وقيل : الموضونة المصفوفة كقوله : متكئين على سرر مصفوفة الآية [ 52 \ 20 ] ومنها أنها مرفوعة كقوله في الغاشية : فيها سرر مرفوعة الآية [ 88 \ 13 ] وقوله في الواقعة : وفرش مرفوعة [ 56 \ 34 ] ، وقوله : متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان [ 55 \ 76 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : لا يمسهم فيها نصب .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب وهو التعب والإعياء ، وقوله ( نصب ) نكرة في سياق النفي فتعم كل نصب ، فتدل الآية على سلامة أهل الجنة من جميع أنواع التعب والمشقة ، وأكد هذا المعنى في قوله تعالى : الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 35 ] لأن اللغوب هو التعب والإعياء أيضا ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب " .
قوله تعالى : وما هم منها بمخرجين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يخرجون منها ، وأكد نفي إخراجهم منها بالباء في قوله بمخرجين فهم دائمون في نعيمها أبدا بلا انقطاع . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا [ 18 \ 107 - 108 ] وقوله : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] وقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] وقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ونبئهم عن ضيف إبراهيم .
بين في مواضع أخر أن ضيف إبراهيم المذكورين في هذه الآية أنهم ملائكة ، كقوله في هود : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ [ 11 \ 69 ] كما تقدم وقوله : قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين [ 51 \ 31 - 32 ] [ ص: 280 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون .
لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة هل رد إبراهيم السلام على الملائكة أو لا ; لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم ، وإنما قال عنه إنه قال لهم إنا منكم وجلون ، وبين في هود والذاريات أنه رد عليهم السلام بقوله في هود قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ [ الآية 69 ] وقوله في الذاريات : قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين [ 51 \ 25 - 26 ] وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف ; لقوله في القصة بعينها في هود : وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف [ 51 \ 70 ] وقوله في الذاريات : فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف [ 11 \ 28 ] . وقد قدمنا أن من أنواع البيان في هذا الكتاب بيان اللفظ بمرادف له أشهر منه كما هنا ، لأن الخوف يرادف الوجل وهو أشهر منه ، وبين أن سبب خوفه هو عدم أكلهم بقوله : فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة [ 11 \ 70 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 03:23 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (146)
سُورَةُ الْحِجْرِ(7)
صـ 281 إلى صـ 285
قوله تعالى : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الكرام الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلام موصوف بالعلم ، ونظير ذلك قوله تعالى أيضا في الذاريات : قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم [ 51 \ 28 ] وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم [ 51 28 - 30 ] لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة ، وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم ، يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ، ويزيده إيضاحا تصريحه تعالى ببشارتها هي بأنها تلده مصرحا باسمه واسم ولده يعقوب ، وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب قالت ياويلتى أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب [ 11 \ 71 - 72 ] وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك الآية [ 37 \ 99 - 102 ] فهو إسماعيل وسترى إن شاء [ ص: 281 ] الله تعالى في سورة الصافات دلالة الآيات القرآنية على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع ، والغلام يطلق في لغة العرب على العبد وعلى الصغير الذي لم يبلغ وعلى الرجل البالغ ، ومن إطلاقه على البالغ قول علي - رضي الله عنه - يوم النهروان
: أنا الغلام القرشي المؤتمن أبو حسين فاعلمن والحسن وقول صفوان بن المعطل السلمي لحسان - رضي الله عنهما - :
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف :
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها
وربما قالوا للأنثى غلامة ، ومنه قول أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسا :
ومركضة صريحي أبوها يهان لها الغلامة والغلام
قوله تعالى : قال أبشرتموني على أن مسني الكبر .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال : إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر . وصرح في هود بأن امرأته أيضا قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها : وهذا بعلي شيخا [ 11 \ 72 ] كما صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود : ياويلتى أألد وأنا عجوز الآية [ 11 \ 72 ] ، وقوله في الذاريات : فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم [ 51 \ 29 ] . وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضا ، وذلك قوله تعالى : الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء [ 14 \ 39 ] .
قوله تعالى : فبم تبشرون .
الظاهر أن استفهام نبي الله إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - للملائكة بقوله فبم تبشرون [ 15 \ 54 ] استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى ، ويدل لذلك أنه تعالى ذكر أن ما وقع له وقع نظيره لامرأته حيث قالت أألد وأنا عجوز وقد بين تعالى أن ذلك الاستفهام لعجبها من ذلك الأمر الخارق للعادة في قوله : قالوا أتعجبين من أمر الله الآية [ 11 \ 73 ] ويدل له أيضا وقوع مثله من نبي الله زكريا - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لأنه لما قال : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة [ 3 \ 38 ] .
[ ص: 282 ] وقوله فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى [ 3 \ 39 ] عجب من كمال قدرة الله تعالى فقال : رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر الآية [ 3 \ 40 ] وقوله فبم تبشرون قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بفتح النون مخففة وهي نون الرفع ، وقرأه نافع بكسر النون مخففة وهي نون الوقاية مع حذف ياء المتكلم لدلالة الكسرة عليها ، وقرأه ابن كثير بالنون المكسورة المشددة مع المد ، فعلى قراءة ابن كثير لم يحذف نون الرفع ولا المفعول به ، بل نون الرفع مدغمة في نون الوقاية وياء المتكلم هي المفعول به ، وعلى قراءة الجمهور فنون الرفع ثابتة والمفعول به محذوف على حد قول ابن مالك .
وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر
وعلى قراءة نافع فنون الرفع محذوفة لاستثقال اجتماعها مع نون الوقاية .
تنبيه
حذف نون الرفع له خمس حالات ثلاث منها يجب فيها حذفها ، وواحدة يجوز فيها حذفها وإثباتها ، وواحدة يقصر فيها حذفها على السماع ، أما الثلاث التي يجب فيها الحذف : فالأولى منها إذا دخل على الفعل عامل جزم ، والثانية إذا دخل عليه عامل نصب ، والثالثة إذا أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة نحو لتبلون ، وأما الحالة التي يجوز فيها الإثبات والحذف فهي ما إذا اجتمعت مع نون الرفع نون الوقاية ، لكون المفعول ياء المتكلم فيجوز الحذف والإثبات ، ومن الحذف قراءة نافع في هذه الآية فبم تبشرون بالكسر وكذلك قوله تعالى : قال أتحاجوني في الله [ 6 \ 80 ] . وقوله تعالى : ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم [ 16 \ 27 ] بكسر النون مع التخفيف في الجمع أيضا وقوله قل أفغير الله تأمروني أعبد الآية [ 39 \ 64 ] بالكسر مع التخفيف أيضا ، وكلها قرأها بعض القراء بالتشديد لإثبات نون الرفع وإدغامها في نون الوقاية ، وأما الحالة الخامسة المقصورة على السماع فهو حذفها لغير واحد من الأسباب الأربعة المذكورة ، كقول الراجز :
أبيت أسري وتبيت تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
أما بقاء نون الرفع مع الجازم في قوله : [ ص: 283 ]
لولا فوارس من نعم وأسرتهم يوم الصليفاء لم يوفون بالجار
فهو نادر حملا للم على أختها لا النافية أو ما النافية ، وقيل هو لغة قوم كما صرح به في التسهيل ، وكذلك بقاء النون مع حرف النصب في قوله :
أن تقرآن على أسماء ويحكما مني السلام وألا تشعرا
أحدا فهو لغة قوم حملوا أن المصدرية على أختها ما المصدرية في عدم النصب بها ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وبعضهم أهمل أن حملا على ما أختها حيث استحقت عملا
ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قدرة الله قول الملائكة له فيما ذكر الله عنهم : قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين بدليل قوله : قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون [ 15 \ 56 ] . لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ولا قانط ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال للملائكة إنه لا يقنط من رحمة الله - جل وعلا - إلا الضالون عن طريق الحق وبين أن هذا المعنى قاله أيضا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لبنيه في قوله : يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [ 12 \ 87 ] قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى : إنه لا ييئس من روح الله الآية . وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه .
قوله تعالى : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط .
أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن المراد بهؤلاء القوم المجرمين قوم لوط الذين أرسل إليهم فكذبوه ، ووجه إشارته تعالى لذلك استثناء لوط وأهله غير امرأته في قوله : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته الآية [ 15 \ 59 - 60 ] وصرح بأنهم قوم لوط بقوله في هود في القصة بعينها : قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط الآية [ 11 \ 70 ] وصرح في الذاريات بأنهم أرسلوا إلى هؤلاء القوم المجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين في قوله : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 32 - 33 ] وصرح في العنكبوت أنهم قالوا إنهم مهلكوهم بسبب ظلمهم ، ومنزلون عليهم [ ص: 284 ] رجزا من السماء بسبب فسقهم وذلك في قوله تعالى : ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها الآية [ 29 \ 31 - 32 ] ، وقوله : وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون [ 29 \ 33 - 34 ] وقوله : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين [ 15 \ 59 ] بين في هذه الآية الكريمة أنه استثنى آل لوط من ذلك العذاب النازل بقومه ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كما تقدم في هود في قوله : قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك الآية [ 11 \ 81 ] وقوله في العنكبوت : وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك الآية [ 29 \ 33 ] وقوله فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين [ 7 \ 83 ] وقوله : فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين الآية [ 26 \ 170 - 171 ] وقوله : فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين [ 27 \ 57 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكر في هذه الآية الكريمة من استثناء امرأته من أهله الناجين في قوله : إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين أوضحه في هذه الآيات التي ذكرنا آنفا ونحوها من الآيات ، وبين في الذاريات أنه أنجى من كان في قوم لوط من المؤمنين ، وأنهم لم يكن فيهم من المسلمين إلا بيت واحد وهم آل لوط وذلك في قوله فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 29 \ 35 - 36 ] .
تنبيه
في هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء ; لأنه تعالى استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله : إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين [ 15 \ 59 ] ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله : إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين [ 15 \ 60 ] وبهذا تعلم أن قول ابن مالك في الخلاصة :
وحكمها في القصد حكم الأول ليس صحيحا على إطلاقه . وأوضح مسألة تعدد الاستثناء بأقسامها صاحب مراقي [ ص: 285 ] السعود في مبحث المخصص المتصل بقوله :
وذا تعدد بعطف حصل بالاتفاق مسجلا للأول
إلا فكل للذي به اتصل وكلها مع التساوي قد بطل
إن كان غير الأول المستغرقا فالكل للمخرج منه حققا
وحيثما استغرق الاول فقط فألغ واعتبر بخلف في النمط
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 03:29 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (147)
سُورَةُ الْحِجْرِ(8)
صـ 286 إلى صـ 290
قوله تعالى : فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطا - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم : إنكم قوم منكرون . وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم ، وأنه ضاق ذرعا بذلك ، كقوله في هود : ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب [ 11 \ 77 ] وقوله في العنكبوت : ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا [ 29 \ 33 ] ، وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضا : قوم منكرون ، كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله : قال سلام قوم منكرون [ 51 \ 25 ] وقوله قوم منكرون قيل : معناه أنهم غير معروفين ، والنكرة ضد المعرفة ، وقيل : إنه رآهم في صفة شباب حسان الوجوه ، فخاف أن يفعل بهم قومه فاحشة اللواط فقال : إنكم قوم منكرون [ 15 \ 62 ] وقال الزمخشري في الكشاف : منكرون أي تنكركم نفسي وتفر منكم ، فأخاف أن تطرقوني بشر بدليل قوله : بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق الآية [ 15 \ 63 - 64 ] ويدل لهذا الوجه أنه بين في هود أن سبب إنكار إبراهيم لهم عدم أكلهم من لحم العجل الذي قدمه إليهم ، وذلك في قوله : فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة [ 11 \ 70 ] لأن من استضاف وامتنع من الأكل خيف منه الشر . وقوله تعالى في هذه الآيات : إنا لمنجوهم [ 15 \ 59 ] قرأه حمزة والكسائي بإسكان النون بعد الميم المضمومة مخففا اسم فاعل أنجى على وزن أفعل ، وقرأه غيرهما من القراء بفتح النون وتشديد الجيم اسم فاعل نجي على وزن فعل بالتضعيف ، والإنجاء والتنجية معناهما واحد وقوله : قدرنا إنها لمن الغابرين [ 15 \ 60 ] قرأه أبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال ، وقرأه غيره بتشديدها وهما لغتان معناهما واحد ، وقوله : جاء آل لوط [ 15 \ 61 ] قرأه قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى وتحقيق الثانية مع [ ص: 286 ] القصر والمد ، وقرأه ورش بتحقيق الأولى وإبدال الثانية ألفا مع القصر والمد ، وعن ورش أيضا تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع القصر والتوسط والمد ، وقرأه قنبل مثل قراءة ورش إلا أنه ليس له مع التسهيل إلا القصر ، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين وكل على أصله من المد ، وما ذكر من قراءة ورش وقنبل هو التحقيق عنهما وإن قيل غيره ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وجاء أهل المدينة يستبشرون .
سبب استبشار قوم لوط أنهم ظنوا الملائكة شبابا من بني آدم ، فحدثتهم أنفسهم بأن يفعلوا بهم فاحشة اللواط ، كما يشير لذلك قوله تعالى : إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون [ 15 \ 68 ] وقوله تعالى : ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم الآية [ 54 \ 37 ] وقوله : وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات [ 11 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن فيما أوقع من النكال بقوم لوط آيات للمتأملين في ذلك ، تحصل لهم بها الموعظة والاعتبار والخوف من معصية الله أن ينزل بهم مثل ذلك العذاب الذي أنزل بقوم لوط لما عصوه وكذبوا رسوله . وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في العنكبوت : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] وقوله في الذاريات : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم [ 151 \ 37 ] وقوله هنا : إن في ذلك لآيات للمتوسمين [ 15 \ 75 ] وقوله في الشعراء بعد ذكر قصة قوم لوط : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين الآية [ 26 \ 174 ] ، كما صرح بمثل ذلك في إهلاك قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب في الشعراء وقوله : للمتوسمين أصل التوسم تفعل من الوسم ، وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها . يقال : توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسمه فيه ، أي علامته التي تدل عليه ، ومنه قول عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - في النبي - صلى الله عليه وسلم - :
إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت النظر
وقال الآخر :
توسمته لما رأيت مهابة عليه وقلت المرء من آل هاشم
هذا أصل التوسم ، وللعلماء فيه أقوال متقاربة يرجع معناها كلها إلى شيء واحد . [ ص: 287 ] فعن قتادة : للمتوسمين أي المعتبرين ، وعن مجاهد للمتوسمين أي المتفرسين ، وعن ابن عباس والضحاك للمتوسمين أي للناظرين ، وعن مالك عن بعض أهل المدينة للمتوسمين أي للمتأملين .
ولا يخفى أن الاعتبار والنظر والتفرس والتأمل معناها واحد ، وكذلك قول ابن زيد ومقاتل : للمتوسمين أي للمتفكرين ، وقول أبي عبيدة للمتوسمين أي للمتبصرين ، فمآل جميع الأقوال راجع إلى شيء واحد وهو أن ما وقع لقوم لوط فيه موعظة وعبرة لمن نظر في ذلك وتأمل فيه حق التأمل ، وإطلاق التوسم على التأمل والنظر والاعتبار مشهور في كلام العرب ومنه قول زهير : :
وفيهن ملهى للصديق ومنظر أنيق لعين الناظر المتوسم
أي المتأمل في ذلك الحسن ، وقول طريف بن تميم العنبري :
أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إلي عريفهم يتوسم
أي ينظر ويتأمل . وقال صاحب الدر المنثور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : لآيات للمتوسمين [ 15 \ 75 ] قال : للناظرين .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة في قوله : لآيات للمتوسمين : قال للمعتبرين . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله : لآيات للمتوسمين قال : هم المتفرسون . وأخرج أبو نعيم في الحلية عن جعفر بن محمد في قوله : إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال : هم المتفرسون . وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن السني وأبو نعيم معا في الطب وابن مردويه والخطيب عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال : " للمتفرسين " . وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا فراسة المؤمن ، فإن المؤمن ينظر بنور الله " . وأخرج ابن جرير عن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله " . وأخرج الحكيم الترمذي والبزار وابن السني وأبو نعيم عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم " . اهـ .
قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن ديار قوم [ ص: 288 ] لوط ، وآثار تدمير الله لها بسبيل مقيم أي بطريق ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد ، يمر بها أهل الحجاز في ذهابهم إلى الشام ، والمراد أن آثار تدمير الله لهم التي تشاهدون في أسفاركم فيها لكم عبرة ومزدجر يوجب عليكم الحذر من أن تفعلوا كفعلهم ، لئلا ينزل الله بكم مثل ما أنزل بهم ، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] وقوله : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] . وقوله فيها وفي ديار أصحاب الأيكة : وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين وأنه - جل وعلا - انتقم منهم بسبب ظلمهم ، وأوضح هذه القصة في مواضع أخر كقوله في الشعراء كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين قالوا إنما أنت من المسحرين وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين قال ربي أعلم بما تعملون فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 176 - 190 ] فبين في هذه الآية أن ظلمهم هو تكذيب رسولهم وتطفيفهم في الكيل ، وبخسهم الناس أشياءهم ، وأن انتقامه منهم بعذاب يوم الظلة ، وبين أنه عذاب يوم عظيم ، والظلة سحابة أظلتهم فأضرمها الله عليهم نارا فأحرقتهم ، والعلم عند الله تعالى .
وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير " ليكة " . في " الشعراء " و " ص " بلام مفتوحة أول الكلمة وتاء مفتوحة آخرها من غير همز ولا تعريف على أنه اسم للقرية غير منصرف . وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي " الأيكة " بالتعريف والهمز وكسر التاء ، وقرأ كذلك جميع القراء في " ق " و " الحجر " . قال أبو عبيدة : ليكة والأيكة اسم مدينتهم كمكة وبكة ، والأيكة في لغة العرب الغيضة وهي جماعة الشجر ، والجمع الأيك ، وإنما سموا أصحاب الأيكة لأنهم كانوا أصحاب غياض [ ص: 289 ] ورياض ، ويروى أن شجرهم كان دوما وهو المقل ، ومن إطلاق الأيكة على الغيضة قول النابغة :
تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالإثمد وقال الجوهري في صحاحه : ومن قرأ أصحاب الأيكة فهي الغيضة ، ومن قرأ ليكة فهي اسم القرية ، ويقال : هما مثل بكة ومكة . وقال بعض العلماء : الأيكة الشجرة ، والأيك هو الشجر الملتف .
قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين .
الحجر : منازل ثمود بين الحجاز والشام عند وادي القرى . فمعنى الآية الكريمة : كذبت ثمود المرسلين ، وقد بين تعالى تكذيب ثمود لنبيه صالح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - في مواضع أخر . كقوله : كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون الآيات [ 26 \ 141 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] وقوله : كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 23 - 24 ] وقوله : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وإنما قال إنهم كذبوا المرسلين مع أن الذي كذبوه هو صالح وحده ، لأن دعوة جميع الرسل واحدة ، وهي تحقيق معنى " لا إله إلا الله " كما بينه تعالى بأدلة عمومية وخصوصية . قال معمما لجميعهم : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا الآية [ 21 \ 25 ] . وقال : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] وقال : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقال في تخصيص الرسل بأسمائهم : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 23 \ 23 ] وقال : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 50 ] وقال : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 84 ] إلى غير ذلك من الآيات .
فإذا حققت أن دعوة الرسل واحدة عرفت أن من كذب واحدا منهم فقد كذب جميعهم . ولذا صرح تعالى بأن من كفر ببعضهم فهو كافر حقا . قال : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا [ 4 \ 150 - 151 ] ، [ ص: 390 ] وبين أنه لا تصح التفرقة بينهم بقوله : لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 و 3 \ 84 ] ، وقوله : لا نفرق بين أحد من رسله [ 2 \ 285 ] ، ووعد الأجر على عدم التفرقة بينهم في قوله : والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم . الآية [ 4 \ 152 ] ، وقد بينا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 03:35 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (148)
سُورَةُ الْحِجْرِ(9)
صـ 291 إلى صـ 295
تنبيه .
اعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بالحجر المذكور في هذه الآية في طريقه في غزوة تبوك ، فقد أخرج البخاري في صحيحه في غزوة تبوك ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : لما مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحجر ، قال : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم ، إلا أن تكونوا باكين " ، ثم قنع رأسه ، وأسرع السير حتى أجاز الوادي " ، هذا لفظ البخاري . وأخرج البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء أيضا عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزل الحجر في غزوة تبوك ، أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها ، فقالوا : قد عجنا منها واستقينا ، فأمرهم أن يطرحوا ذلك العجين ، ويهرقوا ذلك الماء " . ثم قال البخاري : ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإلقاء الطعام ، ثم قال : وقال أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من اعتجن بمائه " .
ثم ساق بسنده ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه أخبره : أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهرقوا ما استقوا من بيارهم ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستسقوا من البئر التي تردها الناقة " .
ثم قال : تابعه أسامة ، عن نافع ، ثم ساق بسنده ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مر بالحجر قال : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم " ، ثم تقنع بردائه وهو على الرحل .
ثم ساق أيضا بسنده ، عن سالم : أن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم " ، هذا كله لفظ البخاري في صحيحه . وقال ابن حجر في الفتح : أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد [ ص: 291 ] والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد ، عن أبيه ، عن جده سبرة - وهو بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة - الجهني ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه حين راح من الحجر : " من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة أو حاس حيسا ; فليلقه " ، وليس لسبرة بن معبد في البخاري إلا هذا الموضع . وأما حديث أبي الشموس - وهو بمعجمة ثم مهملة - ، وهو بكري لا يعرف اسمه - فوصله البخاري في الأدب المفرد ، والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير ، عن أبيه ، عنه ، قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . . . . . . . فذكر الحديث وفيه : فألقى ذو العجين عجينه ، وذو الحيس حيسه " . ورواه ابن أبي عاصم من هذا الوجه ، وزاد : " فقلت يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قد حست حيسة فألقمها راحلتي ؟ قال : نعم " .
وقال ابن حجر أيضا : قوله : وقال أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " من اعتجن بمائه " وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه : " أنهم كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، فآتوا على واد ، فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنكم بواد ملعون فأسرعوا " وقال : " من اعتجن عجينة ، أو طبخ قدرا ; فليكبها " . الحديث . قال : لا أعلمه إلا بهذا الإسناد . وأخرج البخاري في تفسير قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين [ 15 \ 80 ] ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحاب الحجر : " لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ; أن يصيبكم مثل ما أصابهم " وأخرج البخاري أيضا ، عن ابن عمر في كتاب الصلاة ، في باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين ، إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ; لا يصيبكم ما أصابهم " . وبعض هذه الروايات التي ذكرناها عن البخاري أخرجه مسلم أيضا في صحيحه ، فقد اتفقا على النهي عن دخول ديارهم إلا في حال البكاء ، وعلى إسراعه - صلى الله عليه وسلم - حتى جاوز ديارهم . وفي هذه الروايات الصحيحة النهي عن الدخول إلى مواضع الخسف والعذاب إلا في حالة البكاء ، وفيها الإسراع بمجاوزتها ، وعدم الاستسقاء من مياهها ، وعدم أكل الطعام الذي عجن بها ، ومن هنا قال بعض العلماء : لا يجوز التطهر بمائها ، ولا تصح الصلاة فيها ; لأن ماءها لما لم يصلح للأكل والشرب ، علم أنه غير صالح للطهارة التي هي تقرب إلى الله تعالى .
قال البخاري في صحيحه : باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب : " ويذكر أن عليا - رضي الله عنه - كره الصلاة بخسف بابل . وقال ابن حجر في الفتح : هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من [ ص: 292 ] طريق عبد الله بن أبي المحل - وهو بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام - ، قال " كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي ببابل ، فلم يصل حتى أجازه - أي : تعداه - " ومن طريق أخرى ، عن علي ، قال : " ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرار " . والظاهر أن قوله ثلاث مرار ليس متعلقا بالخسف ; لأنه ليس فيها إلا خسف واحد . وإنما أراد أن عليا قال ذلك ثلاثا . ورواه أبو داود مرفوعا من وجه آخر عن علي ولفظه : " نهاني حبيبي - صلى الله عليه وسلم - أن أصلي في أرض بابل ; فإنها ملعونة " في إسناده ضعف ، واللائق بتعليق المصنف ما تقدم ، والمراد بالخسف هنا ما ذكره الله تعالى في قوله : فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم الآية [ 16 \ 26 ] ، ذكر أهل التفسير والأخبار : أن المراد بذلك أن النمروذ بن كنعان بنى ببابل بنيانا عظيما ، يقال : إن ارتفاعه كان خمسة آلاف ذراع فخسف الله بهم . قال الخطابي : " لا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل " انتهى . محل الغرض من فتح الباري .
وقول الخطابي يعارضه ما رأيته عن علي - رضي الله عنه - ، ولكنه يشهد له عموم الحديث الصحيح : " وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا " ، وحديث أبي داود المرفوع ، عن علي الذي أشار له ابن حجر : أن فيه ضعفا هو قوله : " حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا ابن وهب ، قال حدثني ابن لهيعة ، ويحيى بن أزهر ، عن عمار بن سعد المرادي ، عن أبي صالح الغفاري : أن عليا - رضي الله عنه - مر ببابل وهو يسير ، فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر . فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة ، فلما فرغ منها قال : " إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي في المقبرة ، ونهاني أن أصلي في أرض بابل ; فإنها ملعونة " .
حدثنا أحمد بن صالح ، ثنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أزهر ، وابن لهيعة ، عن الحجاج بن شداد ، عن أبي صالح الغفاري ، عن علي بمعنى سليمان بن داود ، قال : " فلما خرج - مكان فلما برز - اهـ .
وقد يظهر للناظر في إسنادي هذا الحديث أنه لا يقل عن درجة القبول ، ولكن فيه علة خفية نبه عليها ابن يونس ، أما كونه لا يقل عن درجة القبول ; فلأن طريقته الأولى أول طبقاتها : سليمان بن داود ولا خلاف في كونه ثقة ، وفي الثانية : أحمد بن صالح مكان سليمان المذكور ، وأحمد بن صالح ثقة حافظ . وكلام النسائي فيه غلط مردود عليه ، كما قال العراقي في ألفيته :
وربما رد كلام الجارح كالنسائي في أحمد بن صالح
وسبب غلطه في ذلك أن ابن معين كذب أحمد بن صالح الشموني . فظن النسائي أن [ ص: 293 ] مراد ابن معين أحمد بن صالح هذا الذي هو أبو جعفر بن الطبري المصري ، وليس كذلك كما جزم به ابن حبان .
والطبقة الثانية في كلا الإسنادين :
ابن وهب وهو : عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي ، مولاهم أبو محمد المصري ثقة حافظ عابد مشهور .
والطبقة الثالثة من الإسنادين : يحيى بن أزهر ، وعبد الله بن لهيعة ، ويحيى بن أزهر البصري مولى قريش صدوق ، وعبد الله بن لهيعة صدوق خلط بعد احتراق كتبه . والظاهر أن اعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن . ويؤيد ذلك أن راوي الحديث ابن وهب ومعلوم أن رواية ابن وهب ، وابن المبارك ، عن ابن لهيعة ، أعدل من رواية غيرهما عنه .
والطبقة الرابعة في الإسناد الأول : عمار بن سعد المرادي . وفي الإسناد الثاني : الحجاج بن شداد ، وعمار بن سعد المرادي ، ثم السلهمي ، والحجاج بن شداد الصنعاني نزيل مصر ، كلاهما مقبول كما قاله ابن حجر في التقريب ، واعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن .
والطبقة الخامسة في كلا الإسنادين : أبو صالح الغفاري وهو سعيد بن عبد الرحمن ، وعداده في أهل مصر ، وهو ثقة .
والطبقة السادسة في كليهما : أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - ، فالذي يظهر صلاحية الحديث للاحتجاج ، ولكنه فيه علة خفية ذكرها ابن يونس ، وهي : أن رواية أبي صالح الغفاري ، عن علي مرسلة ، كما ذكره ابن حجر في التقريب . وقال البيهقي في السنن الكبرى : " باب من كره الصلاة في موضع الخسف والعذاب ، " أنبأ أبو علي الروذباري ، أنبأ أبو بكر بن داسة ، ثنا أبو داود ، ثم ساق حديث أبي داود المذكور آنفا بلفظه في المتن والإسنادين . ثم قال : وروينا عن عبد الله بن أبي محل العمري ، قال : كنا مع علي بن أبي طالب ، فمر بنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى أجازه . وعن حجر الحضرمي ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : " ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرات " . ثم قال البيهقي : وهذا النهي عن الصلاة فيها إن ثبت مرفوعا ليس لمعنى يرجع إلى الصلاة ; فلو صلى فيها لم يعد ، ثم ساق البيهقي بعض روايات حديث ابن عمر الذي قدمنا عن البخاري ومسلم ، ثم قال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب الخروج من تلك المساكن ، وكره المقام فيها إلا باكيا ، فدخل في ذلك المقام للصلاة وغيرها . اهـ .
[ ص: 294 ] وهذا الذي ذكرنا هو حاصل ما جاء في الصلاة في مواضع الخسف والتطهر بمياهها ، فذهب بعض أهل العلم إلى أن الصلاة بها صحيحة والتطهر بمائها مجزئ ، واستدلوا بعموم النصوص كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وجعلت لي الأرض كلها مسجدا " الحديث . وكعموم الأدلة على رفع الحدث ، وحكم الخبث بالماء المطلق . وذهب بعض أهل العلم إلى أنها لا تجوز الصلاة فيها ، ولا تصح الطهارة بمائها ، واستدلوا بحديث علي المرفوع : أن حبيبه - صلى الله عليه وسلم - نهاه عن الصلاة في خسف بابل ; لأنها أرض ملعونة . قالوا : والنهي يقتضي الفساد ; لأن ما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - ليس من أمرنا ، ومن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد كما ثبت في الحديث . واحتجوا لعدم الطهارة بمائها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من استعماله في الأكل والشرب وهما ليسا بقربة . فدل ذلك على منع الطهارة به من باب أولى .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لنا رجحانه ; أن من مر عليها ينبغي له أن يسرع في سيره حتى يخرج منه ، كفعله - صلى الله عليه وسلم - وفعل صهره ، وابن عمه ، وأبي سبطيه - رضي الله عنهم - جميعا ، وأنه لا يدخل إلا باكيا للحديث الصحيح . فلو نزل فيها وصلى فالظاهر صحة صلاته إذ لم يقم دليل صحيح بدلالة واضحة على بطلانها ، والحكم ببطلان العبادة يحتاج إلى نص قوي المتن والدلالة . والعلم عند الله تعالى .
مسائل لها تعلق بهذه الآية الكريمة .
قد علمت أن الحجر المذكور في هذه الآية في قوله : ولقد كذب أصحاب الحجر الآية [ 15 \ 80 ] : هو ديار ثمود ، وأنه ورد النهي عن الصلاة في مواضع الخسف ; فبهذه المناسبة نذكر الأماكن التي نهي عن الصلاة فيها ونبين ما صح فيه النهي وما لم يصح .
والمواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها تسعة عشر موضعا ستأتي كلها .
عن زيد بن جبيرة ، عن داود بن حصين ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهى أن يصلى في سبعة مواطن : في المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفي الحمام وفي أعطان الإبل ، وفوق ظهر بيت الله " . رواه عبد بن حميد في مسنده ، والترمذي ، وابن ماجه . وقال الترمذي في إسناده : ليس بذاك . وقد روى الليث بن سعد هذا الحديث ، عن عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله . والحديث ضعيف لا تقوم به حجة ; لأن الإسناد الأول فيه زيد بن جبيرة وهو متروك ، قال فيه ابن حجر في [ ص: 295 ] التقريب : متروك . وقال في تهذيب التهذيب : قال ابن معين : هو لا شيء . وقال البخاري : منكر الحديث . وقال في موضع آخر : متروك الحديث . وقال النسائي : ليس بثقة . وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ، منكر الحديث جدا ، متروك الحديث لا يكتب حديثه . وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد . قلت : وقال الساجي : حدث عن داود بن الحصين بحديث منكر جدا ، يعني حديث النهي عن الصلاة في سبع مواطن . وقال الفسوي : ضعيف منكر الحديث . وقال الأزدي : متروك . وقال ابن حبان : يروي المناكير عن المشاهير ; فاستحق التنكب عن روايته . وقال الحاكم : روى عن أبيه وداود بن الحصين وغيرهما المناكير . وقال الدارقطني : ضعيف . قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه ضعيف اهـ كلام ابن حجر . وأحد إسنادي ابن ماجه فيه أبو صالح كاتب الليث ، وهو كثير الغلط ، وفيه ابن عمر العمري ضعفه بعض أهل العلم وأخرج له مسلم . وقال ابن أبي حاتم في العلل : هما جميعا - يعني الحديثين - واهيان . وصحح الحديث المذكور ابن السكن وإمام الحرمين .
اعلم أولا أن المواضع التي ورد النهي عن الصلاة فيها ، هي السبعة المذكورة ، والصلاة إلى المقبرة وإلى جدار مرحاض عليه نجاسة ، والكنيسة والبيعة ، وإلى التماثيل ، وفي دار العذاب ، وفي المكان المغصوب ، والصلاة إلى النائم ، والمتحدث ، وفي بطن الوادي ، وفي مسجد الضرار ، والصلاة إلى التنور ، فالمجموع تسعة عشر موضعا . وسنبين أدلة النهي عنها مفصلة - إن شاء الله تعالى - أما في مواضع الخسف والعذاب فقد تقدم حكم ذلك قريبا .
وأما الصلاة في المقبرة والصلاة إلى القبر : فكلاهما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عنه . أما الصلاة في المقابر : فقد وردت أحاديث صحيحة في النهي عنها ، منها ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ، يحذر ما صنعوا ، ولولا ذلك أبرز قبره - صلى الله عليه وسلم - غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا . وفي الصحيحين أيضا نحوه عن أبي هريرة ، وقد ثبت في الصحيح أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وفي بعض الروايات المتفق عليها : " لعن الله اليهود والنصارى " ، وفي بعض الروايات الصحيحة الاقتصار على اليهود . والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلعن إلا على فعل حرام شديد الحرمة . وعن جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي - رضي الله عنه - ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو [ ص: 296 ] يقول : " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ; فإن الله تعالى قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد . إلا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك " . أخرجه مسلم في صحيحه بهذا اللفظ ، رواه النسائي أيضا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 03:37 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (149)
سُورَةُ الْحِجْرِ(10)
صـ 296 إلى صـ 300
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ، ولا تتخذوها قبورا " أخرجه الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، إلا ابن ماجه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : " ولا تتخذوها قبورا " دليل على أن القبور ليست محل صلاة ، وقال بعض العلماء : يحتمل أن يكون معنى الحديث : صلوا ولا تكونوا كالأموات في قبورهم ; فإنهم لا يصلون . وأخرج الإمام أحمد بسند جيد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - مرفوعا : " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ، والذين يتخذون القبور مساجد " . ورواه ابن أبي حاتم أيضا .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة صحيحة لا مطعن فيها ، وهي تدل دلالة واضحة على تحريم الصلاة في المقبرة ; لأن كل موضع صلي فيه يطلق عليه اسم المسجد ; لأن المسجد في اللغة مكان السجود ، ويدل لذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح : " وجعلت لي الأرض مسجدا " . الحديث . أي : كل مكان منها تجوز الصلاة فيه . وظاهر النصوص المذكورة العموم ، سواء نبشت المقبرة واختلط ترابها بصديد الأموات أو لم تنبش ; لأن علة النهي ليست بنجاسة المقابر كما يقوله الشافعية ; بدليل اللعن الوارد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على من اتخذ قبور الأنبياء مساجد . ومعلوم أن قبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ليست نجسة ، فالعلة للنهي سد الذريعة ; لأنهم إذا عبدوا الله عند القبور آل بهم الأمر إلى عبادة القبور .
فالظاهر من النصوص المذكورة : منع الصلاة عند المقابر مطلقا ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وفي صحتها عنده روايتان وإن تحققت طهارتها . وذهب مالك : إلى أن الصلاة فيها مكروهة . وذهب الشافعية : إلى أنها إذا كانت نجسة لاختلاط أرضها بصديد الأموات لأجل النبش ; فالصلاة فيها باطلة ، وإن كانت لم تنبش ; فالصلاة فيها مكروهة عندهم . وذكر النووي عن ابن المنذر : أنه قال : روينا عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، والنخعي ، أنهم كرهوا الصلاة في المقبرة . قال : ولم يكرهها أبو هريرة ، وواثلة بن الأسقع ، والحسن البصري ، ونقل صاحب الحاوي عن داود : أنه قال : تصح الصلاة وإن تحقق نبشها . وذكر ابن حزم النهي عن الصلاة في المقبرة عن خمسة من الصحابة وهم : عمر ، وعلي ، وأبو هريرة ، وأنس [ ص: 297 ] وابن عباس . وقال : ما نعلم لهم مخالفا ، وحكاه عن جماعة من التابعين : إبراهيم النخعي ، ونافع بن جبير بن مطعم ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، وخيثمة ، وغيرهم . وقد حكى الخطابي " في معالم السنن " عن عبد الله بن عمر : أنه رخص في الصلاة في المقبرة . وحكي أيضا عن الحسن : أنه صلى في المقبرة .
وعن ابن جريج ، قال : قلت لنافع : أكان ابن عمر يكره أن يصلى وسط القبور ؟ قال : لقد صلينا على عائشة ، وأم سلمة - رضي الله عنهما - وسط البقيع والإمام يوم صلينا على عائشة أبو هريرة - رضي الله عنه - ، وحضر ذلك عبد الله بن عمر . رواه البيهقي وغيره . وممن كره الصلاة في المقبرة : أبو حنيفة ، والثوري ، والأوزاعي . واحتج من قال بجواز الصلاة في المقبرة : بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على المسكينة السوداء بالمقبرة . وسيأتي قريبا - إن شاء الله - حكم الصلاة إلى جهة القبر .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي قول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - ; لأن النصوص صريحة في النهي عن الصلاة في المقابر ، ولعن من اتخذ المساجد عليها ، وهي ظاهرة جدا في التحريم . أما البطلان فمحتمل ; لأن النهي يقتضي الفساد لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " . والصلاة في المقابر منهي عنها ، فليست من أمرنا فهي رد . ويحتمل أن يقال : الصلاة من أمرنا فليست ردا ، وكونها في المكان المنهي عنه هو الذي ليس من أمرنا .
كما علم الخلاف بين العلماء في كل منهي عنه له جهتان : إحداهما مأمور به منها : ككونه صلاة ، والأخرى منهي عنه منها : ككونه في موضع نهي ، أو وقت نهي ، أو أرض مغصوبة ، أو بحرير ، أو ذهب ، ونحو ذلك ; فإنهم يقولون : إن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض النهي الفساد ، وإن لم تنفك عنها اقتضاه . ولكنهم عند التطبيق يختلفون ، فيقول أحدهم : الجهة هنا منفكة . ويقول الآخر : ليست منفكة كالعكس ، فيقول الحنبلي مثلا : الصلاة في الأرض المغصوبة لا يمكن أن تنفك فيها جهة الأمر عن جهة النهي ; لكون حركة أركان الصلاة كالركوع والسجود والقيام كلها يشغل المصلي به حيزا من الفراغ ليس مملوكا له ، فنفس شغله له ببدنه أثناء الصلاة حرام ، فلا يمكن أن يكون قربة بحال . فيقول المعترض كالمالكي والشافعي : الجهة منفكة هنا ; لأن هذا الفعل من حيث كونه صلاة قربة ، ومن حيث كونه غصبا حرام ، فله صلاته وعليه غصبه كالصلاة بالحرير . وإلى هذا المسألة وأقوال العلماء فيها أشار في مراقي السعود بقوله :
دخول ذي كراهة فيما أمر به بلا قيد وفصل قد حظر [ ص: 298 ] فنفي صحة ونفي الأجر
في وقت كره للصلاة يجري وإن يك النهي عن الأمر انفصل
فالفعل بالصحة لا الأجر اتصل وذا إلى الجمهور ذو انتساب
وقيل بالأجر مع العقاب وقد روي البطلان والقضاء
وقيل ذا فقط له انتفاء مثل الصلاة بالحرير والذهب
أو في مكان الغصب والوضو انقلب ومعطن ومنهج ومقبره
كنيسة وذي حميم مجزره
وأما الصلاة إلى القبور فإنها لا تجوز أيضا ، بدليل ما أخرجه مسلم في صحيحه ، والإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، عن أبي مرثد الغنوي - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " . هذا لفظ مسلم . وفي لفظ له أيضا : " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " . والقاعدة المقررة في الأصول : أن النهي يقتضي التحريم . فأظهر الأقوال دليلا منع الصلاة في المقبرة وإلى القبر ; لأن صيغة النهي المتجردة من القرائن تقتضي التحريم . أما اقتضاء النهي الفساد إذا كان للفعل جهة أمر وجهة نهي ، ففيه الخلاف الذي قدمناه آنفا ، وإن كانت جهته واحدة اقتضى الفساد . وقال صاحب المراقي في اقتضاء النهي الفساد :
وجاء في الصحيح للفساد إن لم يجي الدليل للسداد
وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح عن الصلاة إلى القبور ، وقد قال : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، وقال تعالى : وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقد قدمنا أن لعنه - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ القبور مساجد يدل دلالة واضحة على التحريم . واحتج من قال بصحة الصلاة في المقابر وإلى القبور بأدلة منها : عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح : " وجعلت لي الأرض مسجدا " الحديث . قالوا : عمومه يشمل المقابر ، ويجاب عن هذا الاستدلال من وجهين :
أحدهما : أن أحاديث النهي منه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في المقبرة وإلى القبر خاصة ، وحديث " جعلت لي الأرض مسجدا " عام ، والخاص يقضى به على العام كما تقرر في الأصول عند الجمهور .
والثاني : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى من عموم كون الأرض مسجدا المقبرة والحمام ، فقد أخرج أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، والشافعي ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححاه عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الأرض كلها مسجد [ ص: 299 ] إلا المقبرة والحمام " ، قال ابن حجر في " فتح الباري " في الكلام على قول البخاري باب " كراهية الصلاة في المقابر " في حديث أبي سعيد هذا : رواه أبو داود والترمذي ، ورجاله ثقات ، لكن اختلف في وصله وإرساله ، وحكم مع ذلك بصحته الحاكم وابن حبان . وقال الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " : صححه الحاكم في المستدرك ، وابن حزم الظاهري ، وأشار ابن دقيق العيد إلى صحته .
قال مقيده - عفا الله عنه - : التحقيق أن الحديث إذا اختلف في وصله وإرساله ، وثبت موصولا من طريق صحيحة حكم بوصله ، ولا يكون الإرسال في الرواية الأخرى علة فيه ; لأن الوصل زيادة وزيادات العدل مقبولة . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :
والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ
من أدلة من قال : تصح الصلاة في القبور - ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة : أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا ، فقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها أو عنه ، فقالوا : مات قال : " أفلا آذنتموني " ، قال : فكأنهم صغروا أمرها أو أمره . فقال : " دلوني على قبره " فدلوه فصلى عليها . ثم قال : " هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها ، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم " . وليس للبخاري : " إن هذه القبور مملوءة ظلمة " إلى آخر الخبر ، قالوا : فهذا الحديث يدل على مشروعية الصلاة إلى القبر .
ومن أدلتهم أيضا ما رواه الشيخان من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ، قال : انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قبر رطب ، فصلى عليه ، وصفوا خلفه ، وكبر أربعا .
ومن أدلتهم أيضا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر .
ومن أدلتهم ما قدمنا من الصلاة على عائشة وأم سلمة - رضي الله عنهما - وسط البقيع ، وهذه الأدلة يستدل بها على جواز الصلاة إلى القبور وصحتها ; لا مطلق صحتها دون الجواز .
ومن أدلتهم ما ذكره البخاري تعليقا عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بلفظ : " ورأى عمر أنس بن مالك - رضي الله عنه - يصلي عند قبر . فقال : القبر ، القبر ، ولم يأمره بالإعادة " اهـ . وقال ابن حجر في الفتح : أورد أثر عمر الدال على أن النهي في ذلك لا يقتضي فساد الصلاة . والأثر المذكور عن عمر رويناه موصولا في كتاب الصلاة لأبي [ ص: 300 ] نعيم شيخ البخاري . ولفظه : " بينما أنس يصلي إلى قبر ناداه عمر : القبر ، القبر ; فظن أنه يعني القمر . فلما رأى أنه يعني القبر ، جاوز القبر وصلى " وله طرق أخرى بينتها في تعليق التعليق . منها : من طريق حميد عن أنس نحوه ، زاد فيه : فقال بعض من يليني : إنما يعني القبر فتنحيت عنه . وقوله : القبر القبر ، بالنصب فيهما على التحذير . وقوله : ولم يأمره بالإعادة استنبطه من تمادي أنس على الصلاة . ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف . اهـ منه بلفظه .
قال مقيده - عفا الله عنه - : هذه الأدلة يظهر للناظر أنها متعارضة ، ومعلوم أن الجمع واجب إذا أمكن ، وإن لم يمكن وجب الترجيح ، وفي هذه المسألة يجب الجمع والترجيح معا . أما وجه الجمع : فإن جميع الأدلة المذكورة في الصلاة إلى القبور كلها في الصلاة على الميت ، وليس فيها ركوع ولا سجود ، وإنما هي دعاء للميت : فهي من جنس الدعاء للأموات عند المرور بالقبور .
ولا يفيد شيء من تلك الأدلة جواز صلاة الفريضة أو النافلة التي هي صلاة ذات ركوع وسجود . ويؤيده تحذير عمر لأنس من الصلاة عند القبر . نعم تتعارض تلك الأدلة مع ظاهر عموم : " لا تجلسوا على القبور ، ولا تصلوا إليها " ; فإنه يعم كل ما يصدق عليه اسم الصلاة ، فيشمل الصلاة على الميت ، فيتحصل أن الصلاة ذات الركوع والسجود لم يرد شيء يدل على جوازها إلى القبر أو عنده ، بل العكس . أما الصلاة على الميت : فهي التي تعارضت فيها الأدلة . والمقرر في الأصول : أن الدليل الدال على النهي مقدم على الدليل على الجواز ، وللمخالف أن يقول : لا يتعارض عام وخاص . فحديث : " لا تصلوا إلى القبور " عام في ذات الركوع والسجود والصلاة على الميت . والأحاديث الثابتة في الصلاة على قبر الميت خاصة ، والخاص يقضى به على العام .
فأظهر الأقوال بحسب الصناعة الأصولية : منع الصلاة ذات الركوع والسجود عند القبر وإليه مطلقا ; للعنه - صلى الله عليه وسلم - لمتخذي القبور مساجد ، وغير ذلك من الأدلة ، وأن الصلاة على قبر الميت - التي هي للدعاء له الخالية من الركوع والسجود - تصح ; لفعله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيح ، من حديث أبي هريرة ، وابن عباس ، وأنس ، ويومئ لهذا الجمع حديث لعن متخذي القبور مساجد ; لأنها أماكن السجود . وصلاة الجنازة لا سجود فيها ; فموضعها ليس بمسجد لغة ; لأنه ليس موضع سجود .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-06-25, 03:40 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (150)
سُورَةُ الْحِجْرِ(11)
صـ 301 إلى صـ 305
تنبيه .
[ ص: 301 ] اعلم أن ما يزعمه بعض من لا علم عنده : من أن الكتاب والسنة دلا على اتخاذ القبور مساجد ، يعني بالكتاب قوله تعالى : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] ، ويعني بالسنة ما ثبت في الصحيح من أن : موضع مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيه قبور المشركين ، في غاية السقوط ، وقائله من أجهل خلق الله .
أما الجواب عن الاستدلال بالآية فهو أن تقول : من هؤلاء القوم الذين قالوا : " لنتخذن عليهم مسجدا " ؟ أهم ممن يقتدى به ؟ أم هم كفرة لا يجوز الاقتداء بهم ؟ ، وقد قال أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - في هؤلاء القوم [ 18 \ 21 ] ، ما نصه : " وقد اختلف في قائل هذه المقالة ، أهم الرهط المسلمون أم هم الكفار ؟ فإذا علمت ذلك فاعلم أنهم على القول بأنهم كفار فلا إشكال في أن فعلهم ليس بحجة ; إذ لم يقل أحد بالاحتجاج بأفعال الكفار كما هو ضروري . وعلى القول : بأنهم مسلمون كما يدل له ذكر المسجد ; لأن اتخاذ المساجد من صفات المسلمين ، فلا يخفى على أدنى عاقل أن قول قوم من المسلمين في القرون الماضية : إنهم سيفعلون كذا ، لا يعارض به النصوص الصحيحة الصريحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من طمس الله بصيرته فقابل قولهم : لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] بقوله - صلى الله عليه وسلم - في مرض موته قبل انتقاله إلى الرفيق الأعلى بخمس : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . الحديث . يظهر لك أن من اتبع هؤلاء القوم في اتخاذهم المسجد على القبور ، ملعون على لسان الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - كما هو واضح ، ومن كان ملعونا على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو ملعون في كتاب الله كما صح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ; ولهذا صرح ابن مسعود - رضي الله عنه - : بأن الواصلة والواشمة ومن ذكر معهما في الحديث ، كل واحدة منهن ملعونة في كتاب الله . وقال للمرأة التي قالت له : قرأت ما بين الدفتين فلم أجد ، إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، ثم تلا الآية الكريمة ، وحديثه مشهور في الصحيحين وغيرهما ، وبه تعلم أن من اتخذ المساجد على القبور ملعون في كتاب الله - جل وعلا - على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لا دليل في آية : لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] .
وأما الاستدلال : بأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة مبني في محل مقابر المشركين فسقوطه ظاهر ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها فنبشت وأزيل ما فيها . ففي الصحيحين من حديث أنس - رضي [ ص: 302 ] الله عنه - : " فكان فيه ما أقول لكم : قبور المشركين ، وفيه خرب ، وفيه نخل ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبور المشركين ، فنبشت ، ثم بالخرب فسويت ، وبالنخل فقطع ، فصفوا النخل قبلة المسجد ، وجعلوا عضادتيه الحجارة . . . . . " . الحديث . هذا لفظ البخاري . ولفظ مسلم قريب منه بمعناه . فقبور المشركين لا حرمة لها ; ولذلك أمر - صلى الله عليه وسلم - بنبشها وإزالة ما فيها . فصار الموضع كأن لم يكن فيه قبر أصلا لإزالته بالكلية . وهو واضح كما ترى ا هـ .
والتحقيق الذي لا شك فيه : أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها . كما رواه مسلم في صحيحه ، وغيره عن أبي الهياج الأسدي : أن عليا - رضي الله عنه - قال له : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; ألا تدع تمثالا إلا طمسته ، ولا قبرا مشرفا إلا سويته " .
ولما ثبت في صحيح مسلم وغيره أيضا عن جابر - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصص القبر ، وأن يقعد عليه ، وأن يبنى عليه " .
فهذا النهي ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " . وقال - جل وعلا - : وما نهاكم عنه فانتهوا .
وقد تبين مما ذكرنا حكم الصلاة في مواضع الخسف ، وفي المقبرة ، وإلى القبر ، وفي الحمام .
وأما أعطان الإبل : فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضا النهي عن الصلاة فيها ، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أأتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : " إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا توضأ " ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : " نعم ; توضأ من لحوم الإبل " . قال : أصلي في مرابض الغنم ؟ قال : " نعم " ، قال : أصلي في " مبارك الإبل " : قال " لا " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .
وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه ، وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " صلوا في مرابض الغنم ، ولا تصلوا في أعطان الإبل " .
وأخرج النسائي ، والبيهقي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في أعطان الإبل .
وقال النووي في ( شرح المهذب ) : إن الإسناد الذي أخرجه به البيهقي حسن . وأخرج أبو داود في سننه في ( باب الوضوء من لحوم الإبل ) ، وفي ( باب النهي عن الصلاة في مبارك [ ص: 303 ] الإبل ) ، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في مبارك الإبل ، فقال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها من الشياطين " ، وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم ، فقال : " صلوا فيها ; فإنها بركة " .
وأخرج ابن ماجه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " صلوا في مراح الغنم ; ولا تصلوا في معاطن الإبل " .
وأخرج ابن ماجه ، عن سبرة بن معبد الجهني - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يصلى في أعطان الإبل ، ويصلى في مراح الغنم " .
وترجم البخاري - رحمه الله - في صحيحه لهذه المسألة ، فقال : ( باب الصلاة في مواضع الإبل ) ، ثم قال : حدثنا صدقة بن الفضل ، قال : أخبرنا سليمان بن حيان ، قال : حدثنا عبيد الله عن نافع ، قال : رأيت ابن عمر يصلي إلى بعيره ، وقال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله .
وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذه الترجمة ، التي لم يأت البخاري بحديث يطابقها ما نصه : كأنه يشير إلى أن الأحاديث الواردة في التفرقة بين الإبل والغنم ليست على شرطه ، ولكن لها طرق قوية ، منها حديث جابر بن سمرة عند مسلم ، وحديث البراء بن عازب عند أبي داود ، وحديث أبي هريرة عند الترمذي ، وحديث عبد الله بن مغفل عند النسائي ، وحديث سبرة بن معبد عند ابن ماجه ، وفي معظمها التعبير بمعاطن الإبل . ووقع في حديث جابر بن سمرة والبراء : " مبارك الإبل " ، ومثله في حديث سليك عند الطبراني ، وفي حديث سبرة ، وكذا في حديث أبي هريرة عند الترمذي : " أعطان الإبل " . وفي حديث أسيد بن حضير عند الطبراني : " مناخ الإبل " ، وفي حديث عبد الله بن عمرو ، عند أحمد : " مرابد الإبل " فعبر المصنف بالمواضع لأنها أشمل ، والمعاطن أخص من المواضع ; لأن المعاطن مواضع إقامتها عند الماء خاصة .
وقد ذهب بعضهم إلى أن النهي خاص بالمعاطن دون غيرها من الأماكن التي تكون فيها الإبل . وقيل مأواها مطلقا ، نقله صاحب المغني عن أحمد . ا هـ كلام ابن حجر .
وقال ابن حزم : إن أحاديث النهي عن الصلاة في أعطان الإبل متواترة بنقل تواتر يوجب العلم .
فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن العلماء اختلفوا في صحة الصلاة في أعطان الإبل .
فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنها لا تصح فيها ، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد ، وعليه جل أصحابه .
[ ص: 304 ] قال صاحب ( الإنصاف ) : هذا المذهب وعليه الأصحاب . وفي الفروع هو أشهر وأصح في المذهب . وقال المصنف وغيره : هذا ظاهر المذهب وهو من المفردات .
وممن قال بهذا القول ( ابن حزم ) .
وذهب جمهور أهل العلم إلى أن النهي للكراهة ، وأنه لو صلى فيها لصحت صلاته . وقد قدمنا كلام أهل الأصول في مثل هذه المسألة .
واعلم أن العلماء اختلفوا في علة النهي عن الصلاة في أعطان الإبل .
فقيل : لأنها خلقت من الشياطين ، كما تقدم في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الصحيح في التعليل ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تصلوا في مبارك الإبل ; فإنها خلقت من الشياطين " ، وترتيبه كونها خلقت من الشياطين بالفاء على النهي ، يدل على أنه هو علته كما تقرر في مبحث مسلك النص ، ومسلك الإيماء والتنبيه .
وقال جماعة من أهل العلم : معنى كونها : " خلقت من الشياطين " ، أنها ربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطع صلاته ، أو أذاه ، أو تشويش خاطره . وقد قدمنا أن كل عات متمرد تسميه العرب شيطانا . والإبل إذا نفرت فهي عاتية متمردة ، فتسميتها باسم الشياطين مطابق للغة العرب .
والعرب تقول : خلق من كذا للمبالغة ، كما يقولون : خلق هذا من الكرم ، ومنه قوله : خلق الإنسان من عجل [ 21 \ 37 ] ، على أصح التفسيرين .
وعلى هذا فيفرق بين كون الإبل في معاطنها ، وبين غيبتها عنها ; إذ يؤمن نفورها حينئذ .
قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : ويرشد إلى صحة هذا حديث ابن مغفل عند أحمد بإسناد صحيح بلفظ : " لا تصلوا في أعطان الإبل ; فإنها خلقت من الجن ، ألا ترون إلى عيونها وهيئاتها إذا نفرت " .
وقد يحتمل أن علة النهي أن يجاء بها إلى معاطنها بعد شروعه في الصلاة فيقطعها ، أو يستمر فيها مع شغل خاطره ، ا هــ كلام الشوكاني .
ومن هذا التعليل المنصوص ; فهم العلماء القائلون بعدم بطلانها أنه : لما كانت علة النهي ما ذكر ; دل ذلك على أن الصلاة إذا فعلها تامة أنها غير باطلة .
[ ص: 305 ] وقيل : العلة أن أصحاب الإبل يتغوطون في مباركها بخلاف أهل الغنم .
وقيل : العلة أن الناقة تحيض ، والجمل يمني .
وكلها تعليلات لا معول عليها . والصحيح التعليل المنصوص عنه - صلى الله عليه وسلم - بأنها خلقت من الشياطين . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:06 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (151)
سُورَةُ الْحِجْرِ(12)
صـ 306 إلى صـ 310
تنبيه .
فإن قيل : ما حكم الصلاة في مبارك البقر ؟ .
فالجواب أن أكثر العلماء يقولون : إنها كمرابض الغنم . ولو قيل : إنها كمرابض الإبل ; لكان لذلك وجه .
قال ابن حجر ( في فتح الباري ) : وقع في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مرابض الغنم ، ولا يصلي في مرابض الإبل والبقر ، اهـ . قال : وسنده ضعيف . فلو ثبت لأفاد أن حكم البقر حكم الإبل . بخلاف ما ذكره ابن المنذر : أن البقر في ذلك كالغنم . اهـ كلام ابن حجر .
وما يقوله أبو داود - رحمه الله - : من أن العمل بالحديث الضعيف خير من العمل بالرأي له وجه وجيه . والعلم عند الله تعالى .
وأما الصلاة في المزبلة ، والمجزرة ، وقارعة الطريق ، وفوق ظهر بيت الله الحرام ، فدليل النهي عنها هو ما تقدم من حديث زيد بن جبيرة ، عن داود بن حصين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قدمنا ما في إسناده من الكلام .
وأما الصلاة إلى جدار مرحاض عليه نجاسة ، فلما روي من النهي عن ذلك عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - .
قال العلامة الشوكاني - رحمه الله - في ( نيل الأوطار ) : وأما الصلاة إلى جدار مرحاض ; فلحديث ابن عباس في سبعة من الصحابة بلفظ : " نهى عن الصلاة في المسجد تجاهه حش " ، أخرجه ابن عدي . قال العراقي ولم يصح إسناده .
وروى ابن أبي شيبة في المصنف ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : لا يصلى إلى الحش .
وعن علي قال : لا يصلى تجاه حش .
[ ص: 306 ] وعن إبراهيم : كانوا يكرهون ثلاثة أشياء . . فذكر منها الحش .
وفي كراهة استقباله خلاف بين العلماء . اهـ كلام الشوكاني .
والمراد بالحش - بضم الحاء وفتحها - بيت الخلاء .
وأما الصلاة في الكنيسة والبيعة - والمراد بهما متعبدات اليهود والنصارى - ، فقد كرهها جماعة من أهل العلم .
قال النووي في ( شرح المذهب ) : حكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، ومالك - رضي الله عنهم - .
قال الشوكاني : وقد رويت الكراهة أيضا عن الحسن .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن ما روي من ذلك عن عمر وابن عباس ليس على إطلاقه ، وإنما هو في الكنائس والبيع التي فيها الصور خاصة . ومما يدل على ذلك ما ذكره البخاري - رحمه الله - في صحيحه ، قال : ( باب الصلاة في البيعة ) ، وقال عمر - رضي الله عنه - : " إنا لا ندخل كنائسكم من أجل التماثيل التي فيها الصور " . وكان ابن عباس يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل .
وقال ابن حجر في ( الفتح ) : إن الأثر الذي علقه البخاري عن عمر ، وصله عبد الرزاق من طريق أسلم - مولى عمر - . والأثر الذي علق عن ابن عباس ، وصله البغوي في الجعديات . اهـ .
ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم إلا ما هو ثابت عنده .
ورخص في الصلاة في الكنيسة والبيعة جماعة من أهل العلم ، منهم : أبو موسى ، وعمر بن عبد العزيز ، والشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وابن سيرين ، والنخعي ، والأوزاعي ، وغيرهم .
قال العلامة الشوكاني - رحمه الله - : ولعل وجه الكراهة هو ما تقدم من اتخاذ قبور أنبيائهم وصلحائهم مساجد ; لأنه يصير جميع البيع والكنائس مظنة لذلك .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ويحتمل أن تكون العلة أن الكنيسة والبيعة : موضع يعصى الله فيه ويكفر به فيه ، فهي بقعة سخط وغضب . وأما النهي عن الصلاة إلى التماثيل : فدليله ثابت في الصحيح .
[ ص: 307 ] فمن ذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه ( في كتاب الصلاة ) ، قال : ( باب إن صلى في ثوب مصلب ، أو تصاوير : هل يفسد صلاته ؟ وما ينهى عن ذلك ، حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو ، قال : حدثنا عبد الوارث ، قال : حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس : كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أميطي عنا قرامك هذا ; إنه لا تزال تصاويره تعرض في صلاتي " .
وقال البخاري أيضا ( في كتاب اللباس ، باب كراهية اللباس في التصاوير ) : حدثنا عمران بن ميسرة ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب ، عن أنس - رضي الله عنه - ، قال : كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها ، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أميطي عني ; فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي " .
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، قال : سمعت القاسم يحدث عن عائشة : أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إليه ، فقال : " أخريه عني " ، قالت : فأخرته فجعلته وسائد .
والثوب في هذه الرواية هو القرام المذكور ، والقرام - بالكسر - : ستر فيه رقم ونقوش ، أو الستر الرقيق ، ومنه قول لبيد في معلقته يصف الهودج :
من كل محفوف يظل عصيه زوج عليه كلة وقرامها
وقول الآخر يصف دارا :
على ظهر جرعاء العجوز كأنها دوائر رقم في سراة قرام
والكلة في بيت لبيد : هي القرام إذا خيط فصار كالبيت .
فهذه النصوص الصحيحة تدل على أنه لا تجوز الصلاة إلى التماثيل . ومما يدل لذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة - رضي الله عنها - : أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة ، فيها تصاوير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات ، بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " . اهـ . هذا لفظ مسلم ، ولفظ البخاري قريب منه . اهـ .
أما بطلان صلاة من صلى إلى التماثيل ، ففيه اختلاف بين العلماء ، وقد أشار له [ ص: 308 ] البخاري بقوله الذي قدمنا عنه ( باب إن صلى في ثوب مصلب ، أو تصاوير : هل تفسد صلاته ؟ ) الخ .
وقد قدمنا أن منشأ الخلاف في البطلان هو الاختلاف في انفكاك جهة النهي عن جهة الأمر . والعلم عند الله تعالى .
وأما منع تصوير الحيوان ، وتعذيب فاعليه يوم القيامة أشد العذاب ، وأمرهم بإحياء ما صوروا ، وكون الملائكة لا تدخل محلا فيه صورة أو كلب ، فكله معروف ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وأما الصلاة في المكان المغصوب : فإنها لا تجوز بإجماع المسلمين ; لأن اللبث فيها حرام في غير الصلاة ، فلأن يحرم في الصلاة أولى .
وذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه لو صلى في أرض مغصوبة فصلاته صحيحة ; لانفكاك الجهة أنه آثم بغصبه ، مطيع بصلاته : كالمصلي بحرير .
وذهب الإمام أحمد في أصح الروايات عنه ، والجبائي وغيره من المعتزلة : إلى أنها باطلة ; لعدم انفكاك جهة الأمر عن جهة النهي كما قدمنا ، وقد قدمنا أقوال عامة العلماء في هذه المسألة في أبيات مراقي السعود التي استشهدنا بها . وأما النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث : فدليله ما أخرجه أبو داود في سننه ، قال : ( باب الصلاة إلى المتحدثين والنيام ) ، حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، حدثنا عبد الملك بن محمد بن أيمن ، عن عبد الله بن يعقوب بن إسحاق ، عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي ، قال : قلت له - يعني لعمر بن عبد العزيز - : حدثني عبد الله بن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث " . اهـ .
وهذا الحديث لا يخفى ضعفه ; لأن الراوي في هذا الإسناد عن محمد بن كعب لا يدرى من هو كما ترى .
وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو المقدام ، عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس ، قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلى خلف المتحدث ، أو النائم " . وإسناد ابن ماجه هذا لا يحتج به أيضا ; لأن الراوي فيه عن محمد بن كعب : أبو المقدام وهو هشام بن زياد بن أبي يزيد ، وهو هشام بن أبي هشام ، ويقال له أيضا : هشام بن أبي الوليد المدني ، وهو لا يحتج بحديثه . قال فيه ابن حجر في التقريب : [ ص: 309 ] متروك . وقال في تهذيب التهذيب : قال عبد الله بن أحمد ، وأبو زرعة : ضعيف الحديث . وقال الدوري عن ابن معين : ليس بثقة . وقال في موضع آخر : ضعيف ، ليس بشيء . وقال البخاري : يتكلمون فيه . وقال أبو داود : غير ثقة . وقال الترمذي : يضعف . وقال النسائي وعلي بن الجنيد الأزدي : متروك الحديث . وقال النسائي أيضا : ضعيف . وقال النسائي : ليس بثقة ، ومرة : ليس بشيء . وقال أبو حاتم : ضعيف الحديث ليس بالقوي ، وكان جارا لأبي الوليد ، فلم يرو عنه ، وكان لا يرضاه . ويقال : إنه أخذ كتاب حفص المنقري ، عن الحسن فروى عن الحسن . وعنده عن الحسن أحاديث منكرة .
قلت : وقال ابن حبان : يروي الموضوعات عن الثقات : لا يجوز الاحتجاج به . وقال الدارقطني : ضعيف ، وترك ابن المبارك حديثه . وقال ابن سعد : كان ضعيفا في الحديث . وقال أبو بكر بن خزيمة : لا يحتج بحديثه . وقال العجلي : ضعيف . وقال يعقوب بن سفيان : ضعيف لا يفرح بحديثه . اهـ كلام ابن حجر . وبه تعلم أن الصلاة إلى النائم والمتحدث لم يثبت النهي عنها من طريق صحيح .
وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الصلاة إلى النائم ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعلها . قال البخاري في صحيحه ( باب الصلاة خلف النائم ) : حدثنا مسدد ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا هشام ، قال : حدثني أبي ، عن عائشة قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا راقدة معترضة على فراشه ، فإذا أراد أن يوتر أيقظني فأوترت .
وقال ابن حجر في الفتح : أورد فيه حديث عائشة أيضا من وجه آخر بلفظ آخر ; للإشارة إلى أنه قد يفرق مفرق بين كونها نائمة أو يقظى . وكأنه أشار أيضا إلى تضعيف الحديث الوارد في النهي عن الصلاة إلى النائم ، فقد أخرجه أبو داود وابن ماجه من حديث ابن عباس . اهـ . وقال أبو داود : طرقه كلها واهية - يعني حديث ابن عباس - اهـ .
وفي الباب عن ابن عمر أخرجه ابن عدي . وعن أبي هريرة أخرجه الطبراني في الأوسط ، وهما واهيان أيضا . وكره مجاهد وطاوس ومالك الصلاة إلى النائم ; خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته ، وظاهر تصرف المصنف : أن عدم الكراهة حيث يحصل الأمن من ذلك ، انتهى كلام ابن حجر في ( فتح الباري ) .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لم يثبت نص خاص في [ ص: 310 ] النهي عن الصلاة إلى النائم والمتحدث ، ولكن ذلك لا ينافي أخذ الكراهة من عموم نصوص أخر ، كتعليل كراهة الصلاة إلى النائم بما ذكر من خشية أن يبدو منه ما يلهي المصلي عن صلاته ; لأن النائم لا يدري عن نفسه .
وكتعليل كراهة الصلاة إلى المتحدث ; بأن الحديث يشوش على المصلي في صلاته ، - والله تعالى أعلم - .
وأما كراهة الصلاة في بطن الوادي ; فيستدل لها بما جاء في بعض روايات حديث زيد بن جبيرة المتقدم في المواضع التي نهي عن الصلاة فيها " وبطن الوادي " بدل " المقبرة " ، قال الشوكاني قال الحافظ : وهي زيادة باطلة لا تعرف .
وقال بعض العلماء : كراهة الصلاة في بطن الوادي مختصة بالوادي الذي حضر فيه الشيطان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فناموا عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس .
وأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يتأخروا عن ذلك الموضع الذي حضرهم فيه الشيطان .
ويجاب عن هذا : بأن الشيطان يمكن أن يكون ذهب عن الوادي . - والله تعالى أعلم - .
وأما النهي عن الصلاة في مسجد الضرار ; فدليله قوله تعالى : لا تقم فيه أبدا [ 9 \ 108 ] ، وقوله - جل وعلا - : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل الآية [ 9 \ 107 ] . وقوله : أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم الآية [ 9 \ 109 - 110 ] . فهذه الآيات تدل على التباعد عن موضع ذلك المسجد ، وعدم القيام فيه كما هو ظاهر .
وأما كراهة الصلاة إلى التنور ; فلما رواه ابن أبي شيبة في المصنف ، عن محمد بن سيرين : أنه كره الصلاة إلى التنور ، وقال : هو بيت نار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:15 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (152)
سُورَةُ الْحِجْرِ(13)
صـ 311 إلى صـ 315
وظاهر صنيع البخاري : أن الصلاة إلى التنور عنده غير مكروهة ، وأن عرض النار على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته يدل على عدم الكراهة . قال البخاري في صحيحه ( باب من صلى وقدامه تنور أو نار ، أو شيء مما يعبد فأراد به الله ) ، وقال الزهري : أخبرني أنس ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عرضت علي النار وأنا أصلي " ، حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عباس ، قال : " انخسفت الشمس فصلى [ ص: 311 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قال : " رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع " . اهـ .
وعرض النار عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو في صلاته ، دليل على عدم الكراهة ; لأنه لم يقطع .
وقد دل بعض الروايات الثابتة في الصحيح على أن النار عرضت عليه من جهة وجهه ، لا من جهة اليمين ولا الشمال ، ففي بعض الروايات الصحيحة : أنهم قالوا له بعد أن انصرف : يا رسول الله ، رأيناك تناولت شيئا في مقامك ، ثم رأيناك تكعكعت - أي : تأخرت - إلى خلف ؟ وفي جوابه : أن ذلك بسبب كونه " أري النار . . " إلخ .
فهذا هو حاصل كلام العلماء في الأماكن التي ورد نهي عن الصلاة فيها ، التي لها مناسبة بآية الحجر التي نحن بصددها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه آتى أصحاب الحجر - وهم ثمود - آياته فكانوا عنها معرضين . والإعراض : الصدود عن الشيء وعدم الالتفات إليه . كأنه مشتق من العرض - بالضم - وهو الجانب ; لأن المعرض لا يولي وجهه ، بل يثني عطفه ملتفتا صادا .
ولم يبين - جل وعلا - هنا شيئا من تلك الآيات التي آتاهم ، ولا كيفية إعراضهم عنها ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر . فبين أن من أعظم الآيات التي آتاهم : تلك الناقة التي أخرجها الله لهم . بل قال بعض العلماء : إن في الناقة المذكورة آيات جمة : كخروجها عشراء ، وبراء ، جوفاء من صخرة صماء ، وسرعة ولادتها عند خروجها ، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة ، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا ، وكثرة شربها ; كما قال تعالى : لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [ 26 \ 155 ] ، وقال : ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر [ 54 \ 28 ] .
فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن مما يبين قوله تعالى : وآتيناهم آياتنا [ 15 \ 81 ] ، قوله : فأت بآية إن كنت من الصادقين قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [ 26 \ 154 - 155 ] ، وقوله : قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء الآية [ 7 \ 73 ] . وقوله : وآتينا ثمود الناقة مبصرة [ 17 \ 59 ] . وقوله : إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر [ 54 \ 27 ] ، وقوله : ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب [ 11 \ 64 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 312 ] وبين إعراض قوم صالح عن تلك الآيات في مواضع كثيرة ; كقوله : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وقوله : فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام . . . الآية [ 11 \ 65 ] . وقوله : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها . . . . [ 91 \ 11 - 14 ] ، وقوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] . وقوله : وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها [ 17 \ 59 ] ، وقوله : قالوا إنما أنت من المسحرين ما أنت إلا بشر مثلنا الآية [ 26 \ 185 - 186 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الحجر - وهم ثمود قوم صالح - كانوا آمنين في أوطانهم ، وكانوا ينحتون الجبال بيوتا .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله تعالى : أتتركون في ما هاهنا آمنين في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين [ 26 \ 147 - 149 ] ، وقوله تعالى : واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله الآية [ 7 \ 74 ] ، وقوله : وثمود الذين جابوا الصخر بالواد [ 89 \ 9 ] ، أي : قطعوا الصخر بنحته بيوتا .
قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ; أي : ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده ، وأنه يكلف الخلق ويجازيهم على أعمالهم .
فدلت الآية على أنه لم يخلق عبثا ولا لعبا ولا باطلا . وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة ، كقوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقوله ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [ 3 \ 191 ] ، وقوله : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق الآية [ 44 \ 38 - 39 ] ، وقوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ، [ ص: 313 ] [ 23 \ 115 - 116 ] ، وقوله : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] ، وقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى [ 75 \ 36 - 37 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن الساعة لآتية .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الساعة آتية ، وأكد ذلك بحرف التوكيد الذي هو " إن " ، وبلام الابتداء التي تزحلقها إن المكسورة عن المبتدأ إلى الخبر . وذلك يدل على أمرين :
أحدهما : إتيان الساعة لا محالة .
والثاني : أن إتيانها أنكره الكفار ; لأن تعدد التوكيد يدل على إنكار الخبر ، كما تقرر في فن المعاني .
وأوضح هذين الأمرين في آيات أخر . فبين أن الساعة آتية لا محالة في مواضع كثيرة ; كقوله : إن الساعة آتية أكاد أخفيها [ 20 \ 15 ] ، وقوله : وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 7 ] ، وقوله : إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها . . . . الآية [ 22 \ 1 - 2 ] ، وقوله : وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة الآية [ 45 \ 32 ] ، وقوله : ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون [ 30 \ 12 ] ، وقوله : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ 30 \ 55 ] ، وقوله : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة [ 7 \ 178 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
وبين - جل وعلا - إنكار الكفار لها في مواضع أخر ; كقوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ 34 \ 3 ] ، وقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] ، وقوله : إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين [ 44 \ 34 - 35 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل .
أمر الله - جل وعلا - نبيه - عليه الصلاة والسلام - في هذه الآية الكريمة أن يصفح عمن أساء الصفح الجميل ; أي : بالحلم والإغضاء . وقال علي وابن عباس : الصفح الجميل : الرضا بغير عتاب . وأمره صلى الله عليه وسلم يشمل حكمة الأمة ; لأنه قدوتهم والمشرع لهم .
وبين تعالى ذلك المعنى في مواضع أخر ; كقوله : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ 43 \ 89 ] ، [ ص: 314 ] وقوله : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] ، وقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] ، وقوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . . . . الآية [ 2 \ 109 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقال بعض العلماء : هذا الأمر بالصفح منسوخ بآيات السيف . وقيل : هو غير منسوخ . والمراد به حسن المخالفة ، وهي : المعاملة بحسن الخلق .
قال الجوهري في صحاحه : والخلق : السجية ، يقال : خالص المؤمن ، وخالق الفاجر .
قوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل .
أمر الله - جل وعلا - نبيه - عليه الصلاة والسلام - في هذه الآية الكريمة أن يصفح عمن أساء الصفح الجميل ; أي : بالحلم والإغضاء . وقال علي وابن عباس : الصفح الجميل : الرضا بغير عتاب . وأمره صلى الله عليه وسلم يشمل حكمة الأمة ; لأنه قدوتهم والمشرع لهم .
وبين تعالى ذلك المعنى في مواضع أخر ; كقوله : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ 43 \ 89 ] ، [ ص: 314 ] وقوله : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] ، وقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] ، وقوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره . . . . الآية [ 2 \ 109 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وقال بعض العلماء : هذا الأمر بالصفح منسوخ بآيات السيف . وقيل : هو غير منسوخ . والمراد به حسن المخالفة ، وهي : المعاملة بحسن الخلق .
قال الجوهري في صحاحه : والخلق : السجية ، يقال : خالص المؤمن ، وخالق الفاجر .
قوله تعالى : إن ربك هو الخلاق العليم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه الخلاق العليم . والخلاق والعليم : كلاهما صيغة مبالغة .
والآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقا إلا وهو عليم بكل شيء ، لا يخفى عليه شيء ، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه .
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، وقوله : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ 67 \ 14 ] ، وقوله : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم [ 2 \ 29 ] ، وقوله : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] ، وقوله تعالى مجيبا للكفار لما أنكروا البعث وقالوا : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد [ 50 \ 3 ] ، مبينا أن العالم بما تمزق في الأرض من أجسادهم قادر على إحيائهم : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ [ 50 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه أتى نبيه - صلى الله عليه وسلم - سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، ولم يبين هنا المراد بذلك .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية الكريمة إن كان لها بيان في كتاب الله غير واف بالمقصود ، أننا نتمم ذلك البيان من السنة ، فنبين الكتاب بالسنة من حيث إنها بيان للقرآن المبين باسم الفاعل . فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين في الحديث الصحيح : أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم في هذه الآية الكريمة : هو فاتحة الكتاب . ففاتحة الكتاب مبينة للمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم ، وإنما بينت ذلك [ ص: 315 ] بإيضاح النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك في الحديث الصحيح .
قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة : حدثني محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي سعيد بن المعلى ، قال : مر بي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلي ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيت فقال : " ما منعك أن تأتيني ؟ " فقلت : كنت أصلي . فقال : " ألم يقل الله : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول [ 8 \ 24 ] ، ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد ، فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليخرج ، فذكرته ، فقال : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] ، هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم الذي أوتيته " . حدثنا آدم ، حدثنا ابن أبي ذئب ، حدثنا سعيد المقبري ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أم القرآن هي السبع المثاني ، والقرآن العظيم " .
فهذا نص صحيح من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم : فاتحة الكتاب ، وبه تعلم أن قول من قال : إنها السبع الطوال ، غير صحيح ، إذ لا كلام لأحد معه - صلى الله عليه وسلم - ومما يدل على عدم صحة ذلك القول : أن آية الحجر هذه مكية ، وأن السبع الطوال ما أنزلت إلا بالمدينة . والعلم عند الله تعالى .
وقيل لها : " مثاني " ; لأنها تثنى قراءتها في الصلاة .
وقيل لها : " سبع " ; لأنها سبع آيات .
وقيل لها : " القرآن العظيم " ; لأنها هي أعظم سورة ; كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المذكور آنفا .
وإنما عطف القرآن العظيم على السبع المثاني ، مع أن المراد بهما واحد وهو الفاتحة ; لما علم في اللغة العربية : من أن الشيء الواحد إذا ذكر بصفتين مختلفتين جاز عطف إحداهما على الأخرى ، تنزيلا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذوات . ومنه قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى [ 87 \ 4 ] ، وقول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:21 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (153)
سُورَةُ الْحِجْرِ(14)
صـ 316 إلى صـ 320
قوله تعالى : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم .
لما بين تعالى أنه آتى النبي - صلى الله عليه وسلم - السبع المثاني والقرآن العظيم ، وذلك أكبر نصيب ، وأعظم حظ عند الله تعالى ، [ ص: 316 ] نهاه أن يمد عينيه إلى متاع الحياة الدنيا الذي متع به الكفار ; لأن من أعطاه ربه - جل وعلا - النصيب الأكبر والحظ الأوفر ، لا ينبغي له أن ينظر إلى النصيب الأحقر الأخس ، ولا سيما إذا كان صاحبه إنما أعطيه لأجل الفتنة والاختبار . وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله في ( طه ) : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقىوأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 20 \ 130 - 132 ] ، والمراد بالأزواج هنا : الأصناف من الذين متعهم الله بالدنيا .
قوله تعالى : ولا تحزن عليهم .
الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة : أن الله نهى نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن الحزن على الكفار إذا امتنعوا من قبول الإسلام . ويدل لذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم . كقوله : ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون [ 16 \ 127 ] ، وقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ، وقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] ، وقوله : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والمعنى : قد بلغت ولست مسئولا عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان ، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياء .
قوله تعالى : واخفض جناحك للمؤمنين .
أمر الله - جل وعلا - نبيه في هذه الآية الكريمة بخفض جناحه للمؤمنين . وخفض الجناح كناية عن لين الجانب والتواضع ، ومنه قول الشاعر :
وأنت الشهير بخفض الجناح فلا تك في رفعه أجدلا
وبين هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في " الشعراء " : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين [ 26 \ 215 ] ، وكقوله : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر [ 3 \ 159 ] إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 317 ] ويفهم من دليل خطاب الآية الكريمة - أعني مفهوم مخالفتها - أن غير المؤمنين لا يخفض لهم الجناح ، بل يعاملون بالشدة والغلظة .
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر . كقوله تعالى : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ 9 \ 73 و 66 \ 9 ] ، وقوله : أشداء على الكفار رحماء بينهم [ 48 \ 29 ] ، وقوله : أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] ، كما قدمناه في " المائدة " .
قوله تعالى : كما أنزلنا على المقتسمين .
في المراد بالمقتسمين أقوال للعلماء معروفة ، وكل واحد منها يشهد له قرآن ، إلا أن في الآية الكريمة قرينة تضعف بعض تلك الأقوال :
الأول : أن المراد بالمقتسمين : الذين يحلفون على تكذيب الرسل ومخالفتهم ، وعلى هذا القول ; فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين ، وهو بمعنى التقاسم .
ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله الآية [ 27 \ 49 ] ، أي : نقتلهم ليلا ، وقوله : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] ، وقوله : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] ، وقوله : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة [ 7 \ 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه ; فسموا مقتسمين .
القول الثاني : أن المراد بالمقتسمين : اليهود والنصارى . وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون ; لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها .
ويدل لهذا القول قوله تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض الآية [ 2 \ 85 ] ، وقوله : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض الآية [ 4 \ 150 ] .
القول الثالث : أن المراد بالمقتسمين : جماعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة ; فقال بعضهم : هو شعر . وقال بعضهم : هو سحر . وقال بعضهم : كهانة . وقال بعضهم : أساطير الأولين ، وقال بعضهم : اختلقه محمد ، - صلى الله عليه وسلم - .
وهذا القول تدل له الآيات الدالة على أنهم قالوا في القرآن تلك الأقوال المفتراة [ ص: 318 ] الكاذبة ، كقوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون [ 69 \ 41 - 42 ] ، وقوله : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] ، وقوله : إن هذا إلا اختلاق [ 38 \ 7 ] ، وقوله : وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين [ 16 \ 24 ] ، وقوله : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 25 \ 5 ] إلى غير ذلك من الآيات . والقرينة في الآية الكريمة تؤيد هذا القول الثالث ، ولا تنافي الثاني بخلاف الأول ; لأن قوله : الذين جعلوا القرآن عضين [ 15 \ 91 ] أظهر في القول الثالث ; لجعلهم له أعضاء متفرقة بحسب اختلاف أقوالهم الكاذبة ، كقولهم : شعر ، سحر ، كهانة ، إلخ .
وعلى أنهم أهل الكتاب : فالمراد بالقرآن كتبهم التي جزؤوها ، فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ، أو القرآن ; لأنهم آمنوا بما وافق هواههم منه وكفروا بغيره .
وقوله عضين [ 15 \ 91 ] جمع عضة ، وهي العضو من الشيء ، أي : جعلوه أعضاء متفرقة . واللام المحذوفة أصلها واو . قال بعض العلماء : اللام المحذوفة أصلها هاء ، وعليه فأصل العضة عضهة . والعضه : السحر ; فعلى هذا القول فالمعنى : جعلوا القرآن سحرا ; كقوله : إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] ، وقوله : قالوا سحران تظاهرا [ 28 \ 48 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والعرب تسمي الساحر عاضها ، والساحرة عاضهة . والسحر عضها . ويقال : إن ذلك لغة قريش . ومنه قول الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا ت في عقد العاضه المعضه .
تنبيه .
فإن قيل : بم تتعلق الكاف في قوله : كما أنزلنا على المقتسمين ؟ [ 15 \ 90 ] .
فالجواب : ما ذكره الزمخشري في كشافه ، قال : فإن قلت بم تعلق قوله : كما أنزلنا ؟ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بقوله : ولقد آتيناك [ 15 \ 87 ] ، أي : أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب ، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين ، حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما ، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه . وقيل : كانوا يستهزئون به فيقول [ ص: 319 ] بعضهم : " سورة البقرة " لي ، ويقول الآخر : " سورة آل عمران " لي ، إلى أن قال : الوجه الثاني : أن يتعلق بقوله : وقل إني أنا النذير المبين [ 15 \ 89 ] ، أي : وأنذر قريشا مثل ما أنزلناه من العذاب على المقتسمين ( يعني اليهود ) ، وهو ما جرى على قريظة والنضير . جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز ; لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ، انتهى محل الغرض من كلام صاحب الكشاف .
ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في " البحر المحيط " ثم قال أبو حيان :
أما الوجه الأول وهو تعلق : كما [ 15 \ 90 ] ب : أتيناك [ 15 \ 87 ] ، فذكره أبو البقاء على تقدير ، وهو أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره : آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا ، أو إنزالا كما أنزلنا ; لأن " آتيناك " بمعنى : أنزلنا عليك .
قوله تعالى : فاصدع بما تؤمر .
أي : فاجهر به وأظهره من قولهم : صدع بالحجة ; إذا تكلم بها جهارا ، كقولك : صرح بها .
وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه - صلى الله عليه وسلم - بتبليغ ما أمر به علنا في غير خفاء ولا مواربة . وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة ، كقوله : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك [ 5 \ 67 ] .
وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر فبلغ على أكمل وجه في مواضع أخر ; كقوله : اليوم أكملت لكم دينكم [ 5 \ 3 ] ، وقوله : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه .
قوله : فاصدع [ 15 \ 94 ] ، قال بعض العلماء : أصله من الصدع بمعنى الإظهار ، ومنه قولهم : انصدع الصبح : انشق عنه الليل . والصديع : الفجر لانصداعه ، ومنه قول عمرو بن معديكرب :
ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديع
أي : فجر ، والمعنى على هذا القول : أظهر ما تؤمر به ، وبلغه علنا على رءوس الأشهاد ، وتقول العرب : صدعت الشيء : أظهرته . ومنه قول أبي ذؤيب :
[ ص: 320 ]
وكأنهن ربابة وكأنه يسر يفيض على القداح ويصدع
قاله صاحب اللسان .
وقال بعض العلماء : أصله من الصدع بمعنى التفريق والشق في الشيء الصلب : كالزجاج والحائط . ومنه بمعنى التفريق : قوله تعالى : من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون [ 30 \ 43 ] ، أي : يتفرقون ، فريق في الجنة وفريق في السعير ; بدليل قوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون [ 30 \ 14 ] ومنه قول غيلان ذي الرمة : عشية قلبي في المقيم صديعه وراح جناب الظاعنين صديع
يعني : أن قلبه افترق إلى جزءين : جزء في المقيم ، وجزء في الظاعنين .
وعلى هذا القول : فاصدع بما تؤمر [ 15 \ 94 ] ، أي : فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه . وقوله : بما تؤمر يحتمل أن تكون ( ما ) موصولة . ويحتمل أن تكون مصدرية ، بناء على جواز سبك المصدر من أن والفعل المبني للمفعول ، ومنع ذلك جماعة من علماء العربية . قال أبو حيان في ( البحر ) : والصحيح أن ذلك لا يجوز .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:27 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (154)
سُورَةُ الْحِجْرِ(15)
صـ 321 إلى صـ 325
قوله تعالى : وأعرض عن المشركين .
في هذه الآية الكريمة قولان معروفان للعلماء :
أحدهما : أن معنى : وأعرض عن المشركين ، أي : لا تبال بتكذيبهم واستهزائهم ، ولا يصعب عليك ذلك . فالله حافظك منهم .
والآية على هذا التأويل معناها : ( فاصدع بما تؤمر ) أي : بلغ رسالة ربك ، ( وأعرض عن المشركين ) ، أي : لا تبال بهم ولا تخشهم . وهذا المعنى كقوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس [ 5 \ 67 ] .
الوجه الثاني وهو الظاهر في معنى الآية : أنه كان في أول الأمر مأمورا بالإعراض عن المشركين ، ثم نسخ ذلك بآيات السيف . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] ، وقوله : فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون [ 32 \ 30 ] ، وقوله : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا [ 53 \ 29 ] ، وقوله : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم [ 33 \ 48 ] [ ص: 321 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إنا كفيناك المستهزئين .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه كفى نبيه - صلى الله عليه وسلم - المستهزئين الذين كانوا يستهزئون به وهم قوم من قريش . وذكر في مواضع أخر أنه كفاه غيرهم . كقوله في أهل الكتاب : فسيكفيكهم الله الآية [ 2 \ 137 ] ، وقوله : أليس الله بكاف عبده . . . . الآية [ 39 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والمستهزئون المذكورون هم : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث بن قيس السهمي ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب .
والآفات التي كانت سبب هلاكهم مشهورة في التاريخ .
قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يعلم أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - يضيق صدره بما يقول الكفار فيه من : الطعن ، والتكذيب ، والطعن في القرآن . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] ، وقوله : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك [ 11 \ 12 ] ، وقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] ، وقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا شيئا من ذلك من " الأنعام " .
قوله تعالى : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين .
أمر - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية بأمرين : أحدهما قوله : فسبح بحمد ربك [ 15 \ 98 ] ، والثاني قوله : وكن من الساجدين [ 15 \ 98 ] .
وقد كرر تعالى في كتابه الأمر بالشيئين المذكورين في هذه الآية الكريمة ، كقوله في الأول : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ 110 \ 3 ] ، وقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها [ 20 \ 130 ] ، وقوله : فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار [ 40 \ 55 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وأصل التسبيح في اللغة : الإبعاد عن السوء . ومعناه في عرف الشرع : تنزيه الله [ ص: 322 ] - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله . ومعنى : " سبح " : نزه ربك - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله . وقوله بحمد ربك ، أي في حال كونك متلبسا بحمد ربك ، أي : بالثناء عليه بجميع ما هو أهله من صفات الكمال والجلال ; لأن لفظة : بحمد ربك أضيفت إلى معرفة فتعم جميع المحامد من كل وصف كمال وجلال ثابت لله - جل وعلا - . فتستغرق الآية الكريمة الثناء بكل كمال ; لأن الكمال يكون بأمرين :
أحدهما : التخلي عن الرذائل ، والتنزه عما لا يليق ، وهذا معنى التسبيح .
والثاني التحلي بالفضائل والاتصاف بصفات الكمال ، وهذا معنى الحمد ، فتم الثناء بكل كمال .
ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( ( كلمتان خفيفتان على اللسان ، ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ) ) ، وكقوله في الثاني وهو السجود : كلا لا تطعه واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] ، وقوله : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا [ 76 \ 26 ] ، وقوله : واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [ 41 \ 37 ] ، ويكثر في القرآن العظيم إطلاق التسبيح على الصلاة .
وقالت جماعة من العلماء : المراد بقوله : فسبح بحمد ربك [ 15 \ 98 ] ، أي : صل له ، وعليه فقوله : وكن من الساجدين ، من عطف الخاص على العام ، والصلاة تتضمن غاية التنزيه ومنتهى التقديس . وعلى كل حال فالمراد بقوله : وكن من الساجدين ، أي : من المصلين ، سواء قلنا إن المراد بالتسبيح الصلاة ، أو أعم منها من تنزيه الله عما لا يليق به ; ولأجل كون المراد بالسجود الصلاة لم يكن هذا الموضع محل سجدة عند جمهور العلماء ، خلافا لمن زعم أنه موضع سجود .
قال القرطبي في تفسيره : قال ابن العربي : ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه ، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن ، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس - طهره الله - يسجد في هذا الموضع ، وسجدت معه فيه ، ولم يره جماهير العلماء .
قلت : قد ذكر أبو بكر النقاش : أن هاهنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب ، ورأى أنها واجبة . انتهى كلام القرطبي .
وقد تقدم معنى السجود في سورة ( ( الرعد ) ) ، وعلى أن المراد بالتسبيح الصلاة ; فالمسوغ لهذا الإطناب الذي هو عطف الخاص على العام هو أهمية السجود ; لأن أقرب [ ص: 323 ] ما يكون العبد من ربه في حال كونه في السجود .
قال مسلم في صحيحه : وحدثنا هارون بن معروف ، وعمرو بن سواد ، قالا : حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن عمارة بن غزية ، عن سمي مولى أبي بكر ، أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ; فأكثروا الدعاء " .
تنبيه
اعلم أن ترتيبه - جل وعلا - الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره - صلى الله عليه وسلم - بسبب ما يقولون له من السوء ، دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه ; ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة . وقال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الآية [ 2 \ 45 ] .
ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، من حديث نعيم بن همار - رضي الله عنه - : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قال الله تعالى : يا ابن آدم ، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " ، فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه ; أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها .
قوله تعالى : واعبد ربك
. أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يعبد ربه ، أي : يتقرب له على وجه الذل والخضوع والمحبة ، بما أمر أن يتقرب له به من جميع الطاعات على الوجه المشروع . وجل القرآن في تحقيق هذا الأمر الذي هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله ، مع حظ النفي منها . وقد بين القرآن أن هذا لا ينفع إلا مع تحقيق الجزء الثاني من كلمة التوحيد ، الذي هو حظ النفي منها ، وهو خلع جميع المعبودات سوى الله تعالى في جميع أنواع العبادات ; قال تعالى : فاعبده وتوكل عليه [ 11 \ 123 ] ، وقال فاعبده واصطبر لعبادته [ 19 \ 65 ] ، وقال : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا [ 4 \ 36 ] ، وقال فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] ، وقال : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، والآيات في مثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : حتى يأتيك اليقين .
قالت جماعة من أهل العلم ، منهم سالم بن عبد الله بن عمر ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهم : [ ص: 324 ] اليقين : الموت ، ويدل لذلك قوله تعالى : قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [ 74 \ 43 - 47 ] ، وهو : الموت .
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الزهري ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أم العلاء ( امرأة من الأنصار ) : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات ، قالت أم العلاء : رحمة الله عليك أبا السائب ! فشهادتي عليك لقد أكرمك الله . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله قد أكرمه " ؟ فقالت : بأبي وأمي يا رسول الله ، فمن يكرمه الله ؟ فقال : " أما هو فقد جاءه اليقين ، وإني لأرجو له الخير . . " الحديث . وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت . وقول من قال : إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة ، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا ; لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقينا . ولقد أجاد التهامي في قوله :
والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري
وقال صاحب الدر المنثور : أخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، والحاكم في التاريخ ، وابن مردويه ، والديلمي ، عن أبي مسلم الخولاني ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ، ولكن أوحي إلي أن : ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) [ 15 \ 98 - 99 ] .
وأخرج ابن مردويه ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ، ولكن أوحي إلي أن : " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " .
وأخرج ابن مردويه والديلمي ، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما أوحي إلي أن أكون تاجرا ولا أجمع المال متكاثرا ، ولكن أوحي إلي أن : " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " .
تنبيهان
الأول : هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حيا وله عقل ثابت يميز به ، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته . فإن لم يستطع الصلاة قائما فليصل قاعدا ، فإن لم [ ص: 325 ] يستطع فعلى جنب ، وهكذا قال تعالى عن نبيه عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] ، وقال البخاري في صحيحه " باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب " ، وقال عطاء : إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة ، صلى حيث كان وجهه ، حدثنا عبدان عن عبد الله ، عن إبراهيم بن طهمان ، قال : حدثني الحسين المكتب ، عن بريدة ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - ، قال : كانت بي بواسير ، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة ، فقال : " صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب " . اه .
ونحو هذا معلوم ; قال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، وقال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم . . . " الحديث .
التنبيه الثاني : اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف ، من أن معنى اليقين المعرفة بالله - جل وعلا - ، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين ، أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف ; لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة .
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة ، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين . وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلا ، بل يسمى لعبا كما قدمنا في " آل عمران " . ومعلوم أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه - هم أعلم الناس بالله ، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله - جل وعلا - ، وأشدهم خوفا منه وطمعا في رحمته . وقد قال - جل وعلا - : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ 35 \ 28 ] . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:34 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (155)
سُورَةُ النَّحْلِ(1)
صـ 326 إلى صـ 330
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ النَّحْلِ
قوله تعالى : أتى أمر الله .
أي : قرب وقت إتيان القيامة .
وعبر بصيغة الماضي ; تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع . واقتراب القيامة المشار إليه هنا بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ، كقوله : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ 21 \ 1 ] ، وقوله - جل وعلا - : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، وقوله : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] ، وقوله : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] ، وقوله - جل وعلا - : أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة [ 53 \ 75 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والتعبير عن المستقبل بصيغة الماضي ; لتحقق وقوعه كثير في القرآن ، كقوله : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات الآية [ 39 \ 68 ] ، وقوله : ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار . . . الآية [ 7 \ 44 ] ، وقوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون وسيق الذين كفروا . . الآية [ 39 \ 69 - 71 ] .
فكل هذه الأفعال الماضية بمعنى الاستقبال ، نزل تحقق وقوعها منزلة الوقوع .
قوله تعالى : فلا تستعجلوه ، نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عن استعجال ما وعد به من الهول والعذاب يوم القيامة ، والاستعجال هو طلبهم أن يعجل لهم ما يوعدون به من العذاب يوم القيامة .
والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله - جل وعلا - : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون " [ 29 \ 53 ] ، وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] ، وقوله : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها [ 42 \ 18 ] ، وقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه الآية [ 11 \ 8 ] ، وقوله : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] ، [ ص: 327 ] وقوله : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون [ 10 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والضمير في قوله : فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] في تفسيره وجهان :
أحدهما : أنه العذاب الموعد به يوم القيامة ، المفهوم من قوله : أتى أمر الله [ 16 \ 1 ] .
والثاني : أنه يعود إلى الله ; أي : لا تطلبوا من الله أن يعجل لكم العذاب . قال : معناه ابن كثير .
وقال القرطبي في تفسيره : قال ابن عباس : لما نزلت : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، قال الكفار : إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت ! فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون ، فأمسكوا فانتظروا فلم يروا شيئا ، فقالوا : ما نرى شيئا ! فنزلت : اقترب للناس حسابهم الآية [ 21 \ 1 ] ، فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة ; فامتدت الأيام ، فقالوا : ما نرى شيئا ، فنزلت : أتى أمر الله [ 16 \ 1 ] ، فوثب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون وخافوا ، فنزلت : فلا تستعجلوه فاطمأنوا . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " بعثت أنا والساعة كهاتين " ، وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها " . اه محل الغرض من كلام القرطبي ، وهو يدل على أن المراد بقوله : فلا تستعجلوه ، أي : لا تظنوه واقعا الآن عن عجل ، بل هو متأخر إلى وقته المحدد له عند الله تعالى .
وقول الضحاك ومن وافقه : إن معنى : أتى أمر الله ، أي : فرائضه وحدوده ، قول مردود ولا وجه له ، وقد رده الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره قائلا : إنه لم يبلغنا أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعجل فرائض قبل أن تفرض عليهم ، فيقال لهم من أجل ذلك : قد جاءتكم فرائض الله فلا تستعجلوها . أما مستعجلو العذاب من المشركين فقد كانوا كثيرا . اه .
والظاهر المتبادر من الآية الكريمة : أنها تهديد للكفار باقتراب العذاب يوم القيامة مع نهيهم عن استعجاله .
قال ابن جرير في تفسيره : وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال : هو تهديد من الله لأهل الكفر به وبرسوله ، وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك ، وذلك [ ص: 328 ] أنه عقب ذلك بقوله : سبحانه وتعالى عما يشركون [ 16 \ 1 ] ، فدل بذلك على تقريعه المشركين به ووعيده لهم . اه .
قوله تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده .
أظهر الأقوال في معنى الروح في هذه الآية الكريمة : أن المراد بها الوحي ; لأن الوحي به حياة الأرواح ، كما أن الغذاء به حياة الأجسام . ويدل لهذا قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ 42 \ 52 ] ، وقوله : رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 15 ، 16 ] .
ومما يدل على أن المراد بالروح الوحي ; إتيانه بعد قوله : ينزل الملائكة بالروح [ 16 \ 2 ] بقوله : أن أنذروا [ 16 \ 2 ] ; لأن الإنذار إنما يكون بالوحي ، بدليل قوله : قل إنما أنذركم بالوحي الآية [ 21 \ 45 ] ، وكذلك إتيانه بعد قوله : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده [ 40 \ 15 ] ، بقوله : لينذر يوم التلاق الآية [ 40 \ 15 ] ; لأن الإنذار إنما يكون بالوحي أيضا . وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو : " ينزل " - بضم الياء وإسكان النون وتخفيف الزاي - . والباقون بالضم والتشديد . ولفظة : " من " [ 16 \ 2 ] في الآية تبعيضية ، أو لبيان الجنس .
وقوله : على من يشاء من عباده [ 26 \ 2 ] ، أي : ينزل الوحي على من اختاره وعلمه أهلا لذلك .
كما بينه تعالى بقوله : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [ 22 \ 75 ] ، وقوله : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] ، وقوله : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده [ 40 \ 15 ] ، وقوله : بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده [ 2 \ 90 ] .
وهذه الآيات وأمثالها رد على الكفار في قولهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] .
قوله تعالى : أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون .
الأظهر في " أن " من قوله : أن أنذروا أنها هي المفسرة ; لأن إنزال الملائكة بالروح ، أي : بالوحي فيه معنى القول دون حروفه . فيكون المعنى : أن الوحي الذي أنزلت به الملائكة مفسر بإنذار الناس " [ ص: 329 ] بلا إله إلا الله " وأمرهم بتقواه .
وقد أوضح - جل وعلا - هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 26 \ 36 ] ، وقوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] ، وقوله : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا معنى الإنذار ، ومعنى التقوى .
قوله تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو خالق السماوات والأرض ، وأن من يخلق هذه المخلوقات العظيمة يتنزه ويتعاظم أن يعبد معه ما لا يخلق شيئا ، ولا يملك لنفسه شيئا .
فالآية تدل على أن من يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود ، لا يصح أن يعبد معه من لا يقدر على شيء ; ولهذا أتبع قوله : خلق السماوات والأرض بالحق [ 16 \ 3 ] بقوله : تعالى عما يشركون [ 16 \ 3 ] .
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] ; فدل على أن المعبود هو الخالق دون غيره ، وقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [ 25 \ 1 - 3 ] ، وقوله - جل وعلا - : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] ، وقوله : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات الآية [ 35 \ 40 ] ، وقوله : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] ، وقوله - جل وعلا - : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ، [ ص: 330 ] [ 7 \ 191 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [ 22 \ 73 ] ، وقوله : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض . . . الآية [ 52 \ 35 - 36 ] ، وقوله : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء الآية [ 16 \ 20 - 21 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فهذه الآيات تبين أن الذي يستحق أن يعبد هو من يخلق الخلق ، ويبرزهم من العدم إلى الوجود . أما غيره فهو مخلوق مربوب ، محتاج إلى من يخلقه ، ويدبر شئونه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:38 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (156)
سُورَةُ النَّحْلِ(2)
صـ 331 إلى صـ 335
قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الإنسان من نطفة ، وهي مني الرجل ومني المرأة ; بدليل قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، أي : أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة .
وقال صاحب الدر المنثور بعد ذكر بعض الروايات في تفسير الأمشاج بالأخلاط : من ماء الرجل وماء المرأة . وأخرج الطستي عن ابن عباس : أن نافع بن الأزرق ، قال : أخبرني عن قوله : من نطفة أمشاج ، قال : اختلاط ماء الرجل وماء المرأة إذا وقع في الرحم . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم . أما سمعت أبا ذؤيب وهو يقول :
كأن الريش والفوقين منه خلال النصل خالطه مشيج
ونسب في اللسان هذا البيت لزهير بن حرام الهذلي ، وأنشده هكذا :
كأن النصل والفوقين منها خلال الريش سيط به مشيج
قال : ورواه المبرد :
كأن المتن والشرجين منه خلاف النصل سيط به مشيج
قال : ورواه أبو عبيدة :
كأن الريش والفوقين منها خلال النصل سيط به المشيج
ومعنى " سيط به المشيج " : خلط به الخلط .
إذا عرفت معنى ذلك ، فاعلم أنه تعالى بين أن ذلك الماء الذي هو النطفة ، منه ما هو خارج من الصلب ، أي : وهو ماء الرجل ، ومنه ما هو خارج من الترائب وهو : ماء المرأة ، وذلك في قوله - جل وعلا - : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 5 - 7 ] [ ص: 331 ] لأن المراد بالصلب صلب الرجل وهو ظهره ، والمراد بالترائب : ترائب المرأة وهي موضع القلادة منها ، ومنه قول امرئ القيس :
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ترائبها مصقولة كالسجنجل
واستشهد ابن عباس لنافع بن الأزرق : على أن الترائب موضع القلادة بقول المخبل ، أو ابن أبي ربيعة :
والزعفران على ترائبها شرقا به اللبات والنحر
فقوله هنا : " من بين الصلب والترائب " [ 86 \ 7 ] ، يدل على أن الأمشاج هي الأخلاط المذكورة ، وأمر الإنسان بأن ينظر مم خلق في قوله : فلينظر الإنسان مم خلق [ 86 \ 5 ] تنبيه له على حقارة ما خلق منه ; ليعرف قدره ، ويترك التكبر والعتو ، ويدل لذلك قوله : ألم نخلقكم من ماء مهين الآية [ 77 \ 20 ] .
وبين - جل وعلا - حقارته بقوله : أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 38 ] ، والتعبير عن النطفة بما الموصولة في قوله : مما يعلمون [ 70 \ 39 ] ، فيه غاية تحقير ذلك الأصل الذي خلق منه الإنسان . وفي ذلك أعظم ردع ، وأبلغ زجر عن التكبر والتعاظم .
وقوله - جل وعلا - : فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، أظهر القولين فيه : أنه ذم للإنسان المذكور . والمعنى : خلقناه ليعبدنا ويخضع لنا ويطيع ، ففاجأ بالخصومة والتكذيب ، كما تدل عليه : " إذا " الفجائية . ويوضح هذا المعنى قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] ، مع قوله - جل وعلا - : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 77 - 79 ] ، وقوله : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا [ 25 \ 54 ] ، وقوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] إلى غير ذلك من الآيات . وسيأتي - إن شاء الله تعالى - زيادة إيضاح لهذا المبحث في " سورة الطارق " .
[ ص: 332 ] تنبيه .
اختلف علماء العربية في : " إذا " الفجائية ; فقال بعضهم : هي حرف . وممن قال به الأخفش . قال ابن هشام في " المغني " : ويرجح هذا القول قولهم : خرجت فإذا إن زيدا بالباب ( بكسر إن ) ; لأن " إن " - المكسورة - لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . وقال بعضهم : هي ظرف مكان . وممن قال به المبرد . وقال بعضهم : هي ظرف زمان . وممن قال به الزجاج . والخصيم : صيغة مبالغة ، أي : شديد الخصومة . وقيل : الخصيم المخاصم . وإتيان الفعيل بمعنى المفاعل كثير في كلام العرب ، كالقعيد بمعنى المقاعد ، والجليس بمعنى المجالس ، والأكيل بمعنى المؤاكل ، ونحو ذلك .
وقوله : " مبين " [ 16 \ 4 ] الظاهر أنه اسم فاعل أبان اللازمة ، بمعنى بان وظهر ; أي بين الخصومة . ومن إطلاق أبان بمعنى بان قول جرير :
إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب
أي : ظهر . وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدور
يعني : لظهر من آثارهن ورم في الجلد . وقيل : من أبان المتعدية والمفعول محذوف ; أي : مبين خصومته ومظهر لها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه خلق الأنعام لبني آدم ينتفعون بها تفضلا منه عليهم . وقد قدمنا في " آل عمران " : أن القرآن بين أن الأنعام هي الأزواج الثمانية التي هي : الذكر والأنثى من الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز . والمراد بالدفء على أظهر القولين : أنه اسم لما يدفأ به ، كالملء اسم لما يملأ به ، وهو الدفاء من اللباس المصنوع من أصواف الأنعام وأوبارها وأشعارها . .
ويدل لهذا قوله تعالى : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ 16 \ 80 ] ، وقيل : الدفء نسلها . والأول أظهر ; والنسل داخل في قوله : ومنافع [ 16 \ 5 ] ، أي : من نسلها ودرها : ومنها تأكلون .
[ ص: 333 ] ومنافع الأنعام التي بين الله - جل وعلا - امتنانه بها على خلقه في هذه الآية الكريمة ، بينها لهم أيضا في آيات كثيرة ، كقوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 21 ، 22 ] ، وقوله : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون [ 40 \ 79 - 81 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] ، وقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 ، 13 ] ، وقوله : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والأظهر في إعراب : والأنعام [ 16 \ 5 ] ، أن عامله وهو : خلق اشتغل عنه بالضمير فنصب بفعل مقدر وجوبا ، يفسره : " خلق " المذكور ، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهر
وإنما كان النصب هنا أرجح من الرفع ; لأنه معطوف على معمول فعل ، وهو قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة الآية [ 16 \ 4 ] ، فيكون عطف الجملة الفعلية على الجملة الفعلية أولى من عطف الاسمية على الفعلية لو رفع الاسم السابق ; وإلى هذا أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله عاطفا على ما يختار فيه النصب :
وبعد عاطف بلا فصل على معمول فعل مستقر أولا
وقال بعض العلماء : إن قوله : والأنعام معطوف على الإنسان ، من قوله خلق الإنسان [ 16 \ 4 ] ، والأول أظهر كما ترى .
وأظهر أوجه الإعراب في قوله : لكم فيها دفء [ 16 \ 5 ] أن قوله : دفء مبتدأ خبره لكم فيها ، وسوغ الابتداء بالنكرة ; اعتمادها على الجار والمجرور قبلها وهو الخبر كما هو معروف ، خلافا لمن زعم أن : دفء فاعل الجار والمجرور الذي هو [ ص: 334 ] لكم .
وفي الآية أوجه أخرى ذكرها بعض العلماء تركنا ذكرها ; لعدم اتجاهها عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله في هذه الآية الكريمة : ولكم فيها جمال [ 16 \ 6 ] ، يعني : أن اقتناء هذه الأنعام وملكيتها فيه لمالكها عند الناس جمال ; أي : عظمة ورفعة ، وسعادة في الدنيا لمقتنيها . وكذلك قال في الخيل والبغال والحمير : لتركبوها وزينة [ 16 \ 8 ] ، فعبر في الأنعام بالجمال ، وفي غيرها بالزينة . والجمال : مصدر جمل فهو جميل وهي جميلة . ويقال أيضا : هي جملاء . وأنشد لذلك الكسائي قول الشاعر :
فهي جملاء كبدر طالع بذت الخلق جميعا بالجمال
والزينة : ما يتزين به . وكانت العرب تفتخر بالخيل والإبل ونحو ذلك كالسلاح ، ولا تفتخر بالبقر والغنم . ويدل لذلك قول العباس بن مرداس يفتخر بمآثر قبيلته بني سليم :
واذكر بلاء سليم في مواطنها ففي سليم لأهل الفخر مفتخر
قوم هم نصروا الرحمن واتبعوا دين الرسول وأمر الناس مشتجر
لا يغرسون فسيل النخل وسطهم ولا تخاور في مشتاهم البقر
إلا سوابح كالعقبان مقربة في دارة حولها الأخطار والعكر
والسوابح : الخيل . والمقربة : المهيأة المعدة قريبا . والأخطار : جمع خطر - بفتح فسكون ، أو كسر فسكون - وهو عدد كثير من الإبل على اختلاف في قدره . والعكر - بفتحتين - : جمع عكرة ، وهي القطيع الضخم من الإبل أيضا على اختلاف في تحديد قدره . وقول الآخر :
لعمري لقوم قد ترى أمس فيهم مرابط للأمهار والعكر الدثر
أحب إلينا من أناس بقنة يروح على آثار شائهم النمر
وقوله : " العكر الدثر " ، أي : المال الكثير من الإبل . وبدأ بقوله : حين تريحون [ 16 \ 6 ] ; لأنها وقت الرواح أملأ ضروعا وبطونا منها وقت سراحها للمرعى .
وأظهر أوجه الإعراب في قوله : وزينة [ 16 \ 8 ] ، أنه مفعول لأجله ، معطوف على ما قبله ; أي : لأجل الركوب والزينة .
قوله تعالى : ويخلق ما لا تعلمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه [ ص: 335 ] يخلق ما لا يعلم المخاطبون وقت نزولها ، وأبهم ذلك الذي يخلقه ; لتعبيره عنه بالموصول ، ولم يصرح هنا بشيء منه ، ولكن قرينة ذكر ذلك في معرض الامتنان بالمركوبات تدل على أن منه ما هو من المركوبات ، وقد شوهد ذلك في إنعام الله على عباده بمركوبات لم تكن معلومة وقت نزول الآية : كالطائرات ، والقطارات ، والسيارات .
ويؤيد ذلك إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك في الحديث الصحيح . قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن عطاء بن ميناء ، عن أبي هريرة ، أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والله لينزلن ابن مريم حكما عادلا فليكسرن الصليب ، وليقتلن الخنزير ، وليضعن الجزية ، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها ، ولتذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد ، وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد " . اهـ .
ومحل الشاهد من هذا الحديث الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها " ; فإنه قسم من النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ستترك الإبل فلا يسعى عليها ، وهذا مشاهد الآن للاستغناء عن ركوبها بالمراكب المذكورة .
وفي هذا الحديث معجزة عظمى ، تدل على صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كانت معجزاته - صلوات الله عليه وسلامه - أكثر من أن تحصر .
وهذه الدلالة التي ذكرنا تسمى دلالة الاقتران ، وقد ضعفها أكثر أهل الأصول ، كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
أما قران اللفظ في المشهور فلا يساوي في سوى المذكور
وصحح الاحتجاج بها بعض العلماء ، ومقصودنا من الاستدلال بها هنا أن ذكر : ويخلق ما لا تعلمون [ 16 \ 8 ] في معرض الامتنان بالمركوبات لا يقل عن قرينة دالة على أن الآية تشير إلى أن من المراد بها بعض المركوبات ، كما قد ظهرت صحة ذلك بالعيان .
وقد ذكر في موضع آخر : أنه يخلق ما لا يعلمه خلقه غير مقترن بالامتنان بالمركوبات ، وذلك في قوله : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:42 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (157)
سُورَةُ النَّحْلِ(3)
صـ 336 إلى صـ 340
قوله تعالى : وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ، اعلم أولا : " أن قصد السبيل " [ 16 \ 9 ] : هو الطريق المستقيم القاصد ، الذي لا اعوجاج فيه ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى المزني : [ ص: 336 ]
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله وعري أفراس الصبا ورواحله وأقصرت عما تعلمين وسددت
علي سوى قصد السبيل معادله
وقول امرئ القيس :
ومن الطريقة جائر وهدى قصد السبيل ومنه ذو دخل
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن في معنى الآية الكريمة وجهين معروفين للعلماء ، وكل منهما له مصداق في كتاب الله ، إلا أن أحدهما أظهر عندي من الآخر . الأول منهما : أن معنى ( وعلى الله قصد السبيل : أن طريق الحق التي هي قصد السبيل على الله ، أي : موصلة إليه ، ليست حائدة ، ولا جائرة عن الوصول إليه وإلى مرضاته ، ( ومنها جائر ) أي : ومن الطريق جائر لا يصل إلى الله ، بل هو زائغ وحائد عن الوصول إليه ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ، وقوله : ( وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ) . ويؤيد هذا التفسير قوله بعده : ومنها جائر وهذا الوجه أظهر عندي ، واستظهره ابن كثير وغيره ، وهو قول مجاهد . الوجه الثاني : أن معنى الآية الكريمة : ( وعلى الله قصد السبيل ) ، أي : عليه جل وعلا أن يبين لكم طريق الحق على ألسنة رسله . ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقوله : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، وقوله : ( فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) ، إلى غير ذلك من الآيات . وعلى هذا القول ، فمعنى قوله : ( ومنها جائر ) ، غير واضح لأن المعنى : ومن الطريق جائر عن الحق ، وهو الذي نهاكم الله عن سلوكه . والجائر : المائل عن طريق الحق ، والوجهان المذكوران في هذه الآية جاريان في قوله : ( إن علينا للهدى . . . ) الآية . قوله تعالى ( ولو شاء لهداكم أجمعين ) بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لو شاء هداية جميع خلقه لهداهم أجمعين ، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ، كقوله : [ ص: 337 ] ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] ، وقوله : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها . . . [ 32 \ 13 ] ، وقوله : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] ، وقوله : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا . . . الآية [ 10 \ 99 ] ، وقوله : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة . . . الآية [ 11 \ 118 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا هذا في " سورة يونس " .
قوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ، تقدم الكلام على ما يوضح معنى هذه الآية الكريمة في " سورة الحجر " .
وقوله - جل وعلا - : ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن : إنباته بالماء ما يأكله الناس من الحبوب والثمار ، وما تأكله المواشي من المرعى من أعظم نعمه على بني آدم ، ومن أوضح آياته الدالة على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [ 20 \ 53 ، 54 ] ، وقوله : والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 30 - 33 ] ، وقوله : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد الآية [ 50 \ 9 - 11 ] ، وقوله : أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 27 \ 60 ] ، وقوله : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا [ 78 \ 14 - 16 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
تنبيهان .
الأول : اعلم أن النظر في هذه الآيات واجب ، لما تقرر في الأصول : " أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إلا لدليل يصرفها عن الوجوب " . والله - جل وعلا - أمر الإنسان أن ينظر [ ص: 338 ] إلى طعامه الذي به حياته ، ويفكر في الماء الذي هو سبب إنبات حبه من أنزله ؟ ثم بعد إنزال الماء وري الأرض من يقدر على شق الأرض عن النبات وإخراجه منها ؟ ثم من يقدر على إخراج الحب من ذلك النبات ؟ ثم من يقدر على تنميته حتى يصير صالحا للأكل ! ؟ : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه . . . الآية [ 6 \ 9 ] ، وذلك في قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .
وكذلك يجب على الإنسان النظر في الشيء الذي خلق منه ; لقوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق [ 86 \ 5 ] ، وظاهر القرآن : أن النظر في ذلك واجب ، ولا دليل يصرف عن ذلك .
التنبيه الثاني : اعلم أنه - جل وعلا - أشار في هذه الآيات من أول سورة " النحل " إلى براهين البعث الثلاثة ، التي قدمنا أن القرآن العظيم يكثر فيه الاستدلال بها على البعث . الأول : خلق السماوات والأرض المذكور في قوله : خلق السماوات والأرض بالحق . . . . الآية [ 64 \ 3 ] ، والاستدلال بذلك على البعث كثير في القرآن ، كقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها [ 79 \ 27 - 28 ] ، إلى قوله : متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 33 ] ، وقوله : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى [ 46 \ 33 ] ، وقوله : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس . . . الآية [ 40 \ 57 ] ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم .
البرهان الثاني : خلق الإنسان أولا المذكور في قوله : خلق الإنسان من نطفة [ 16 \ 4 ] ; لأن من اخترع قادر على الإعادة ثانيا . وهذا يكثر الاستدلال به أيضا على البعث ، كقوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، وقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون . . . . الآية [ 30 \ 27 ] ، وقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] ، وقوله : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] ، إلى غير ذلك من [ ص: 339 ] الآيات كما تقدم .
البرهان الثالث : إحياء الأرض بعد موتها المذكور هنا في قوله : ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب . . . [ 16 \ 11 ] ، فإنه يكثر في القرآن الاستدلال به على البعث أيضا ، كقوله : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] ، وقوله : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] ، أي : كذلك الأحياء خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] ، أي : من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] ، وقوله : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير [ 22 \ 5 ، 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم .
فهذه البراهين الثلاثة يكثر جدا الاستدلال بها على البعث في كتاب الله ، كما رأيت وكما تقدم .
وهناك برهان رابع يكثر الاستدلال به على البعث أيضا ولا ذكر له في هذه الآيات ، وهو إحياء الله بعض الموتى في دار الدنيا ، كما تقدمت الإشارة إليه في : " سورة البقرة " ; لأن من أحيا نفسا واحدة بعد موتها قادر على إحياء جميع النفوس : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [ 31 \ 28 ] .
وقد ذكر - جل وعلا - هذا البرهان في : " سورة البقرة " في خمسة مواضع :
الأول قوله : ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون [ 2 \ 56 ] .
الثاني قوله : فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون [ 2 \ 73 ] .
الثالث قوله - جل وعلا - : فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم [ 2 \ 243 ] .
الرابع قوله : فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير [ 2 \ 259 ] .
[ ص: 340 ] الخامس قوله تعالى : قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم [ 2 \ 260 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] ، أي : ترعون مواشيكم السائمة في ذلك الشجر الذي هو المرعى . والعرب تطلق اسم الشجر على كل ما تنبته الأرض من المرعى ; ومنه قول النمر بن تولب العكلي :
إنا أتيناك وقد طال السفر نقود خيلا ضمرا فيها صعر نطعمها اللحم
إذا عز الشجر
والعرب تقول : سامت المواشي ; إذا رعت في المرعى الذي ينبته الله بالمطر . وأسامها صاحبها : أي رعاها فيه ، ومنه قول الشاعر :
مثل ابن بزعة أو كآخر مثله أولى لك ابن مسيمة الأجمال
يعني يا ابن راعية الجمال التي تسيمها في المرعى .
وقوله : ينبت لكم به الزرع [ 16 \ 11 ] ، قرأه شعبة عن عاصم : " ننبت " بالنون ، والباقون بالياء التحتية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:47 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (158)
سُورَةُ النَّحْلِ(4)
صـ 341 إلى صـ 345
قوله تعالى : وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه سخر لخلقه خمسة أشياء عظام ، فيها من عظيم نعمته ما لا يعلمه إلا هو ، وفيها الدلالات الواضحات لأهل العقول : على أنه الواحد المستحق لأن يعبد وحده .
والخمسة المذكورة هي : الليل ، والنهار ، والشمس ، والقمر ، والنجوم .
وكرر في القرآن ذكر إنعامه بتسخير هذه الأشياء ، وأنها من أعظم أدلة وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده ; كقوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [ 7 \ 54 ] ، وإغشاؤه الليل النهار : هو تسخيرهما ، وقوله : وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار الآية [ 14 \ 33 ] ، وقوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم . [ 36 \ 37 - 39 ] ، [ ص: 341 ] وقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين الآية [ 67 \ 5 ] ، وقوله : وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وفي هذه الآية الكريمة ثلاث قراءات سبعيات في الأسماء الأربعة الأخيرة ، التي هي : " الشمس " ، و " القمر " ، و " النجوم " ، و " مسخرات " [ 16 \ 12 ] ; فقرأ بنصبها كلها نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية شعبة . وقرأ برفع الأسماء الأربعة ابن عامر ، على أن : والشمس مبتدأ وما بعده معطوف عليه و : مسخرات خبر المبتدأ . وقرأ حفص عن عاصم بنصب : ، والشمس والقمر عطفا على الليل والنهار ، ورفع : ، والنجوم مسخرات على أنه مبتدأ وخبر . وأظهر أوجه الإعراب في قوله : مسخرات على قراءة النصب أنها حال مؤكدة لعاملها . والتسخير في اللغة : التذليل .
قوله تعالى : وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون .
قوله : وما [ 16 \ 13 ] ، في محل نصب عطفا على قوله : وسخر لكم الليل والنهار ، أي : وسخر لكم ما ذرأ لكم في الأرض ، أي : ما خلق لكم فيها في حال كونه مختلفا ألوانه .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : امتنانه على خلقه بما سخر لهم مما خلق لهم في الأرض ; منبها على أن خلقه لما خلق لهم في الأرض مع ما فيه من النعم العظام ، فيه الدلالة الواضحة لمن يذكر ويتعظ على وحدانيته واستحقاقه لأن يعبد وحده . وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة ، كقوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا الآية [ 2 \ 29 ] ، وقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه الآية [ 45 \ 13 ] ، وقوله : والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 10 - 13 ] ، وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [ 67 \ 15 ] .
وأشار في هذه الآية الكريمة إلى أن اختلاف ألوان ما خلق في الأرض من الناس والدواب وغيرهما ، من أعظم الأدلة على أنه خالق كل شيء ، وأنه الرب وحده ، المستحق [ ص: 342 ] أن يعبد وحده .
وأوضح هذا في آيات أخر ; كقوله في " سورة فاطر " : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك [ 35 \ 27 ] ، وقوله : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم [ 30 \ 22 ] ، ولا شك أن اختلاف الألوان والمناظر والمقادير والهيئات وغير ذلك ; فيه الدلالة القاطعة على أن الله - جل وعلا - واحد ، لا شبيه له ولا نظير ولا شريك ، وأنه المعبود وحده .
وفيه الدلالة القاطعة على أن كل تأثير فهو بقدرة وإرادة الفاعل المختار ، وأن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته - جل وعلا - .
كما أوضح ذلك في قوله : وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [ 13 \ 4 ] ، فالأرض التي تنبت فيها الثمار واحدة ; لأن قطعها متجاورة ، والماء الذي تسقى به ماء واحد ، والثمار تخرج متفاضلة ، مختلفة في الألوان والأشكال والطعوم ، والمقادير والمنافع .
فهذا أعظم برهان قاطع على وجود فاعل مختار ، يفعل ما يشاء كيف يشاء ، سبحانه - جل وعلا - عن الشركاء والأنداد .
ومن أوضح الأدلة على أن الطبيعة لا تؤثر في شيء إلا بمشيئته - جل وعلا - : أن النار مع شدة طبيعة الإحراق فيها ; ألقي فيها الحطب وإبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ، ولا شك أن الحطب أصلب وأقسى وأقوى من جلد إبراهيم ولحمه ، فأحرقت الحطب بحرها ، وكانت على إبراهيم بردا وسلاما ; لما قال لها خالقها : قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم [ 21 \ 69 ] ، فسبحان من لا يقع شيء كائنا ما كان إلا بمشيئته - جل وعلا - ، فعال لما يريد .
وقوله في هذه الآية الكريمة : يذكرون [ 16 \ 13 ] ، أصله : يتذكرون ، فأدغمت التاء في الذال . والادكار : الاعتبار والاتعاظ .
قوله تعالى : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ، [ ص: 343 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه سخر البحر ، أي : ذلله لعباده حتى تمكنوا من ركوبه ، والانتفاع بما فيه من الصيد والحلية ، وبلوغ الأقطار التي تحول دونها البحار ، للحصول على أرباح التجارات ونحو ذلك .
فتسخير البحر للركوب من أعظم آيات الله كما بينه في مواضع أخر ; كقوله : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 ، 42 ] ، وقوله : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 45 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وذكر في هذه الآية أربع نعم من نعمه على خلقه بتسخير البحر لهم :
الأولى : قوله : لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، وكرر الامتنان بهذه النعمة في القرآن ; كقوله : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة الآية [ 5 \ 96 ] ، وقوله : ومن كل تأكلون لحما طريا الآية [ 35 \ 12 ] .
الثانية : قوله : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، وكرر الامتنان بهذه النعمة أيضا في القرآن ; كقوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 22 ، 23 ] ، واللؤلؤ والمرجان : هما الحلية التي يستخرجونها من البحر للبسها ، وقوله : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] .
الثالثة : قوله تعالى : وترى الفلك مواخر فيه [ 16 \ 14 ] ، وكرر في القرآن الامتنان بشق أمواج البحر على السفن ، كقوله : وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون الآية [ 36 \ 42 ] ، وقوله : وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره [ 14 \ 32 ] .
الرابعة : الابتغاء من فضله بأرباح التجارات بواسطة الحمل على السفن المذكور في قوله هنا : ولتبتغوا من فضله [ 16 \ 14 ] ، أي : كأرباح التجارات . وكرر في القرآن الامتنان بهذه النعمة أيضا .
كقوله في " سورة البقرة " : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس [ 2 \ 164 ] ، وقوله في " فاطر " : وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 35 \ 12 ] ، وقوله في " الجاثية " : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 45 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 344 ] مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :
المسألة الأولى : لا مفهوم مخالفة لقوله : لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، فلا يقال : يفهم من التقييد بكونه طريا أن اليابس كالقديد مما في البحر لا يجوز أكله ; بل يجوز أكل القديد مما في البحر بإجماع العلماء .
وقد تقرر في الأصول : أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كون النص مسوقا للامتنان ; فإنه إنما قيد بالطري ; لأنه أحسن من غيره فالامتنان به أتم .
وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود ، بقوله عاطفا على موانع اعتبار مفهوم المخالفة : أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع .
ومحل الشاهد قوله : " أو امتنان " ، وقد قدمنا هذا في " سورة المائدة " .
المسألة الثانية : اعلم أن علماء المالكية قد أخذوا من هذه الآية الكريمة : أن لحوم ما في البحر كلها جنس واحد ; فلا يجوز التفاضل بينها في البيع ، ولا بيع طريها بيابسها ; لأنها جنس واحد .
قالوا : لأن الله عبر عن جميعها بلفظ واحد ، وهو قوله في هذه الآية الكريمة : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، وهو شامل لما في البحر كله .
ومن هنا جعل علماء المالكية لللحوم أربعة أجناس لا خامس لها :
الأول : لحم ما في البحر كله جنس واحد ، لما ذكرنا .
الثاني : لحوم ذوات الأربع من الأنعام والوحوش كلها عندهم جنس واحد . قالوا : لأن الله فرق بين أسمائها في حياتها ، فقال : من الضأن اثنين ومن المعز اثنين [ 6 \ 143 ] ، ثم قال : ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين [ 6 \ 144 ] ، أما بعد ذبحها فقد عبر عنها باسم واحد ، فقال : أحلت لكم بهيمة الأنعام [ 5 \ 1 ] ، فجمعها بلحم واحد . وقال كثير من العلماء : يدخل في بهيمة الأنعام الوحش كالظباء .
الثالث : لحوم الطير بجميع أنواعها جنس واحد ; لقوله تعالى : ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 21 ] ، [ ص: 345 ] فجمع لحومها باسم واحد .
الرابع : الجراد هو جنس واحد عندهم ، وقد قدمنا في " سورة البقرة " الإشارة إلى الاختلاف في ربويته عندهم ، ومشهور مذهب مالك عدم ربويته ، بناء على أن غلبة العيش بالمطعوم من أجزاء العلة في الربا ; لأن علة الربا في الربويات عند مالك : هي الاقتيات والادخار . قيل : وغلبة العيش . وقد قدمنا : أن الاختلاف في اشتراط غلبة العيش تظهر فائدته في أربعة أشياء : وهي الجراد ، والبيض ، والتين ، والزيت ، وقد قدمنا تفصيل ذلك في " سورة البقرة " .
فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن كل جنس من هذه الأجناس المذكورة يجوز بيعه بالجنس الآخر متفاضلا يدا بيد . ويجوز بيع طريه بيابسه يدا بيد أيضا في مذهب مالك - رحمه الله تعالى - .
ومذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - : أن اللحوم تابعة لأصولها ، فكل لحم جنس مستقل كأصله : فلحم الإبل عنده جنس مستقل ، وكذلك لحم الغنم ولحم البقر ، وهكذا ; لأن اللحوم تابعة لأصولها وهي مختلفة كالأدقة والأدهان .
أما مذهب الشافعي ، وأحمد ، في هذه المسألة فكلاهما عنه فيها روايتان . أما الروايتان عن الشافعي ، فإحداهما : أن اللحوم كلها جنس واحد ; لاشتراكها في الاسم الخاص الذي هو اللحم . الثانية : أنها أجناس كأصولها : كقول أبي حنيفة .
وقال صاحب المهذب : إن هذا قول المزني وهو الصحيح .
وأما الروايتان في مذهب الإمام أحمد ; فإحداهما : أن اللحوم كلها جنس واحد . وهو ظاهر كلام الخرقي ، فإنه قال : وسائر اللحمان جنس واحد . قال صاحب المغني : وذكره أبو الخطاب وابن عقيل رواية عن أحمد . ثم قال : وأنكر القاضي أبو يعلى كون هذا رواية عن أحمد ، وقال : الأنعام والوحوش ، والطير ، ودواب الماء أجناس ، يجوز التفاضل فيها رواية واحدة ، وإنما في اللحم روايتان .
إحداهما : أنه أربعة أجناس كما ذكرنا . الثانية : أنه أجناس باختلاف أصوله . انتهى من المغني بتصرف يسير ، بحذف ما لا حاجة له ، فهذه مذاهب الأربعة في هذه المسألة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:51 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (159)
سُورَةُ النَّحْلِ(5)
صـ 346 إلى صـ 350
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : اختلاف العلماء في هذه المسألة من الاختلاف في تحقيق مناط من نصوص الشرع ، وذلك أنه ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث [ ص: 346 ] عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فإذا اختلفت هذه الأصناف ; فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " ، فعلم أن اختلاف الصنفين مناط جواز التفاضل .
واتحادهما مناط منع التفاضل ، واختلاف العلماء في تحقيق هذا المناط ، فبعضهم يقول : اللحم جنس واحد يعبر عنه باسم واحد ، فمناط تحريم التفاضل موجود فيه . وبعضهم يقول : هي لحوم مختلفة الجنس ; لأنها من حيوانات مختلفة الجنس ; فمناط منع التفاضل غير موجود . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : لا يجوز بيع اللحم بالحيوان الذي يجوز أكله من جنسه .
وهذا مذهب أكثر العلماء : منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد . وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : يجوز بيع اللحم بالحيوان ; لأن الحيوان غير ربوي ، فأشبه بيعه باللحم بيع اللحم بالأثمان .
واحتج الجمهور بما رواه مالك في الموطأ ، عن زيد بن أسلم ، عن سعيد بن المسيب : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان . وفي " الموطأ " أيضا ، عن مالك ، عن داود بن الحصين : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : من ميسر أهل الجاهلية بيع الحيوان باللحم بالشاة والشاتين . وفي " الموطأ " أيضا ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن سعيد بن المسيب : أنه كان يقول : نهي عن بيع الحيوان باللحم . قال أبو الزناد : فقلت لسعيد بن المسيب : أرأيت رجلا اشترى شارفا بعشر شياه ؟ ، فقال سعيد : إن كان اشتراها لينحرها فلا خير في ذلك . قال أبو الزناد : وكل من أدركت من الناس ينهون عن بيع الحيوان باللحم . قال أبو الزناد : وكان ذلك يكتب في عهود العمال في زمان أبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل ينهون عن ذلك . اهـ ، من الموطأ .
وقال ابن قدامة في المغني : لا يختلف المذهب أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان من جنسه ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وقول فقهاء المدينة السبعة . وحكي عن مالك : أنه لا يجوز بيع اللحم بحيوان معد لللحم ويجوز بغيره . وقال أبو حنيفة : يجوز مطلقا ; لأنه باع مال الربا بما لا ربا فيه ; فأشبه بيع اللحم بالدراهم ، أو بلحم من غير جنسه . ولنا ما روي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن بيع اللحم بالحيوان " ، رواه مالك في الموطأ ، عن زيد بن أسلم ، عن سعيد بن المسيب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن عبد البر : هذا أحسن أسانيده . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه نهى أن يباع حي بميت " ذكره الإمام أحمد . وروي عن ابن عباس : " أن جزورا نحرت فجاء رجل بعناق ، فقال أعطوني جزءا بهذه العناق - فقال أبو بكر : لا يصلح [ ص: 347 ] هذا ، قال الشافعي : لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك . وقال أبو الزناد : كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان ; ولأن اللحم نوع فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله فلم يجز ; كبيع السمسم بالشيرج اهـ .
وقال صاحب المهذب : ولا يجوز بيع حيوان يؤكل لحمه بلحمه ، لما روى سعيد بن المسيب - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يباع حي بميت " ، وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر - رضي الله عنه - ، فجاء رجل بعناق فقال : أعطوني بها لحما فقال أبو بكر : لا يصلح هذا " ; ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه مثله ; فلم يجز كبيع الشيرج بالسمسم ، اهـ .
وقال ابن السبكي في تكملته لشرح المهذب : حديث سعيد بن المسيب رواه أبو داود من طريق الزهري ، عن سعيد ، كما ذكره المصنف ، ورواه مالك في الموطأ ، والشافعي في المختصر والأم ، وأبو داود من طريق زيد بن أسلم ، عن سعيد بن المسيب : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان " ، هذا لفظ الشافعي عن مالك ، وأبي داود ، عن القعنبي ، عن مالك ، وكذلك هو في موطأ ابن وهب . ورأيت في موطأ القعنبي عن بيع الحيوان باللحم ، والمعنى واحد ، وكلا الحديثين - أعني : رواية الزهري وزيد بن أسلم - مرسل ، ولم يسنده واحد عن سعيد . وقد روي من طرق أخر ، منها عن الحسن ، عن سمرة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تباع الشاة باللحم " ، رواه الحاكم في المستدرك ، وقال : رواته عن آخرهم أئمة حفاظ ثقات . وقد احتج البخاري بالحسن عن سمرة ، وله شاهد مرسل في الموطأ ، هذا كلام الحاكم . ورواه البيهقي في سننه الكبير ، وقال : هذا إسناد صحيح . ومن أثبت سماع الحسن عن سمرة عده موصولا . ومن لم يثبته فهو مرسل جيد انضم إلى مرسل سعيد . ومنها عن سهل بن سعد قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع اللحم بالحيوان " ، رواه الدارقطني ، وقال : تفرد به يزيد بن مروان ، عن مالك بهذا الإسناد ولم يتابع عليه ، وصوابه في الموطأ عن ابن المسيب مرسلا . وذكره البيهقي في سننه الصغير ، وحكم بأن ذلك من غلط يزيد بن مروان ، ويزيد المذكور تكلم فيه يحيى بن معين . وقال ابن عدي : وليس هذا بذلك المعروف . ومنها عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن بيع الحيوان باللحم " ، قال عبد الحق : أخرجه البزار في مسنده من رواية ثابت بن زهير عن نافع ، وثابت رجل من أهل البصرة منكر الحديث لا يستقل به . ذكره أبو حاتم الرازي . انتهى محل الغرض من كلام صاحب تكملة المجموع .
[ ص: 348 ] قال مقيده - عفا الله عنه - : لا يخفى أن هذا الذي ذكرنا يثبت به منع بيع اللحم بالحيوان . أما على مذهب من يحتج بالمرسل : كمالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، فلا إشكال ، وأما على مذهب من لا يحتج بالمرسل : فمرسل سعيد بن المسيب حجة عند كثير ممن لا يحتج بالمرسل ، ولا سيما أنه اعتضد بحديث الحسن عن سمرة . فعلى قول من يصحح سماع الحسن عن سمرة ; فلا إشكال في ثبوت ذلك ; لأنه حينئذ حديث صحيح متصل وأما على قول من لا يثبت سماع الحسن عن سمرة - فأقل درجاته أنه مرسل صحيح ، اعتضد بمرسل صحيح . ومثل هذا يحتج به من يحتج بالمرسل ومن لا يحتج به ، وقد قدمنا في " سورة المائدة " ، كلام العلماء في سماع الحسن عن سمرة ، وقدمنا في " سورة الأنعام " أن مثل هذا المرسل يحتج به بلا خلاف عنه الأئمة الأربعة ، فظهر بهذه النصوص : أن بيع الحيوان باللحم من جنسه لا يجوز ; خلافا لأبي حنيفة . وأما إن كان من غير جنسه كبيع شاة بلحم حوت ، أو بيع طير بلحم إبل فهو جائز عند مالك ; لأن المزابنة تنتفي باختلاف الجنس ، وحمل معنى الحديث على هذا وإن كان ظاهره العموم . ومذهب الشافعي مع اختلاف الجنس فيه قولان : أحدهما : جواز بيع اللحم بالحيوان إذا اختلف جنسهما .
والثاني : المنع مطلقا لعموم الحديث . ومذهب أحمد في المسألة ذكره ابن قدامة في المغني بقوله : وأما بيع اللحم بحيوان من غير جنسه فظاهر كلام أحمد والخرقي : أنه لا يجوز ; فإن أحمد سئل عن بيع الشاة باللحم ، فقال : لا يصح ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ، نهى أن يباع حتى بميت " ، واختار القاضي جوازه ، وللشافعي فيه قولان . واحتج من منعه بعموم الأخبار ، وبأن اللحم كله جنس واحد ومن أجازه ، قال : مال الربا بيع بغير أصله ولا جنسه ، فجاز كما لو باعه بالأثمان . وإن باعه بحيوان غير مأكول اللحم جاز في ظاهر قول أصحابنا ، وهو قول عامة الفقهاء . انتهى كلام صاحب المغني .
قال مقيده - عفا الله عنه - : قد عرفت مما تقدم أن بعض العلماء قال : إن اللحم كله جنس واحد . وبعضهم قال : إن اللحوم أجناس . فعلى أن اللحم جنس واحد ; فمنع بيع الحيوان باللحم هو الظاهر . وعلى أن اللحوم أجناس مختلفة ; فبيع اللحم بحيوان من غير جنسه الظاهر فيه الجواز ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإذا اختلفت الأجناس فبيعوا كيف شئتم " ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 349 ] تنبيه .
اشترط المالكية في منع بيع الحيوان باللحم من جنسه : إلا يكون اللحم مطبوخا . فإن كان مطبوخا : جاز عندهم بيعه بالحيوان من جنسه ، وهو معنى قول خليل في مختصره . وفسد منهي عنه إلا بدليل كحيوان بلحم جنسه إن لم يطبخ . واحتجوا لذلك ; بأن الطبخ ينقل اللحم عن جنسه ; فيجوز التفاضل بينه وبين اللحم الذي لم يطبخ ; فبيعه بالحيوان من باب أولى . هكذا يقولون . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة : اعلم أن ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أنه يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ والمرجان ; لأن الله - جل وعلا - قال فيها في معرض الامتنان العام على خلقه عاطفا على الأكل : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، وهذا الخطاب خطاب الذكور كما هو معروف . ونظير ذلك قوله تعالى في سورة فاطر : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] ، وقال القرطبي في تفسيره : امتن الله سبحانه على الرجال والنساء امتنانا عاما بما يخرج من البحر ، فلا يحرم عليهم شيء منه ، وإنما حرم تعالى على الرجال الذهب والحرير . وقال صاحب الإنصاف : يجوز للرجل والمرأة التحلي بالجوهر ونحوه ، وهو الصحيح من المذهب . وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز للرجل أن يلبس الثوب المكلل باللؤلؤ مثلا ، ولا أعلم للتحريم مستندا إلا عموم الأحاديث الواردة بالزجر البالغ عن تشبه الرجال بالنساء ، كالعكس ! قال البخاري في صحيحه : " باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال " : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ، قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " . فهذا الحديث نص صريح في أن تشبه الرجال بالنساء حرام ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلعن أحدا إلا على ارتكاب حرام شديد الحرمة . ولا شك أن الرجل إذ لبس اللؤلؤ والمرجان فقد تشبه بالنساء . فإن قيل : يجب تقديم الآية على هذا الحديث ، وما جرى مجراه من الأحاديث من وجهين :
الأول : أن الآية نص متواتر ، والحديث المذكور خبر آحاد ، والمتواتر مقدم على الآحاد .
[ ص: 350 ] الثاني : أن الحديث عام في كل أنواع التشبه بالنساء ، والآية خاصة في إباحة الحلية المستخرجة من البحر ، والخاص مقدم على العام ؟ فالجواب : أنا لم نر من تعرض لهذا . والذي يظهر لنا - والله تعالى أعلم - : أن الآية الكريمة وإن كانت أقوى سندا وأخص ، في محل النزاع ; فإن الحديث أقوى دلالة على محل النزاع منها ; وقوة الدلالة في نص صالح للاحتجاج على محل النزاع أرجح من قوة السند ; لأن قوله : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، يحتمل معناه احتمالا قويا : أن وجه الامتنان به أن نساءهم يتجملن لهم به ، فيكون تلذذهم وتمتعهم بذلك الجمال والزينة الناشئ عن تلك الحلية من نعم الله عليهم ، وإسناد اللباس إليهم لنفعهم به ، وتلذذهم بلبس أزواجهم له ، بخلاف الحديث فهو نص صريح غير محتمل في لعن من تشبه بالنساء ، ولا شك أن المتحلي باللؤلؤ مثلا متشبه بهن ; فالحديث يتناوله بلا شك . وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور ، واستدل به على أنه يحرم على الرجال لبس الثوب المكلل باللؤلؤ ، وهو واضح ، لورود علامات التحريم وهو لعن من فعل ذلك : وأما قول الشافعي : ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ ، إلا لأنه من زي النساء ، فليس مخالفا لذلك ; لأن مراده أنه لم يرد في النهي عنه بخصوصه شيء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-07-14, 02:54 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (160)
سُورَةُ النَّحْلِ(6)
صـ 351 إلى صـ 355
المسألة الخامسة : لا يخفى أن الفضة والذهب يمنع الشرب في آنيتهما مطلقا ، ولا يخفى أيضا أنه يجوز لبس الذهب والحرير للنساء ويمنع للرجال . وهذا مما لا خلاف فيه ; لكثرة النصوص الصحيحة المصرحة به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين على ذلك ، ومن شذ فهو محجوج بالنصوص الصريحة وإجماع من يعتد به من المسلمين على ذلك . وسنذكر طرفا قليلا من النصوص الكثيرة الواردة في ذلك .
أما الشرب في آنيتهما : فقد أخرج الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، عن حذيفة - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ; فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ، ولفظة : " ولا تأكلوا في صحافها " في صحيح مسلم : وعن أم سلمة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ، متفق عليه . وفي رواية لمسلم : " إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة ، إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة .
وأما لبس الحرير والديباج الذي هو نوع من الحرير : فعن حذيفة - رضي الله عنه - [ ص: 351 ] قال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ; فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ، أخرجه الشيخان وباقي الجماعة . وعن عمر - رضي الله عنه - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تلبسوا الحرير ; فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " ، متفق عليه . وعن أنس - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من لبس الحرير في الدنيا فلن يلبسه في الآخرة " ، متفق عليه أيضا . والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا .
وأما لبس الذهب : فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهاهم عن خاتم الذهب " ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا أشعث بن سليم ، قال : سمعت معاوية بن سويد بن مقرن ، قال : سمعت البراء بن عازب - رضي الله عنهما - يقول : " نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سبع : نهى عن خاتم الذهب - أو قال حلقة الذهب - ، وعن الحرير ، والإستبرق ، والديباج ، والميثرة الحمراء ، والقسي ، وآنية الفضة ، وأمرنا بسبع : بعيادة المريض ، واتباع الجنائز ، وتشميت العاطس ، ورد السلام ، وإجابة الداعي ، وإبرار المقسم ، ونصر المظلوم " ، ولفظ مسلم في صحيحه قريب منه ، إلا أن مسلما قدم السبع المأمور بها على السبع المنهي عنها . وقال في حديثه : " ونهانا عن خواتيم ، أو عن تختم بالذهب " ، وهذا الحديث المتفق عليه يدل على أن لبس الذهب لا يحل للرجال ; لأنه إذا منع الخاتم منه فغيره أولى ، وهو كالمعلوم من الدين بالضرورة ، والأحاديث فيه كثيرة .
وأما جواز لبس النساء للحرير : فله أدلة كثيرة ، منها : حديث علي - رضي الله عنه - : أهديت للنبي - صلى الله عليه وسلم - حلة سيراء ، فبعث بها إلي فلبستها فعرفت الغضب في وجهه ، فقال : " إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ، إنما بعثت بها إليك لتشقها خمرا بين نسائك " ، متفق عليه . وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أنه رأى على أم كلثوم بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برد حلة سيراء . أخرجه البخاري والنسائي وأبو داود ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة . وإباحة الحرير للنساء كالمعلوم بالضرورة . ومخالفة عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - في ذلك لا أثر لها ; لأنه محجوج بالنصوص الصحيحة ، واتفاق عامة علماء المسلمين .
وأما جواز لبس الذهب للنساء : فقد وردت فيه أحاديث كثيرة . منها : ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والحاكم وصححاه ، والطبراني من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي ، وحرم على ذكورها " ، وفي هذا الحديث كلام ; لأن راويه عن أبي موسى وهو سعيد بن أبي هند ، قال [ ص: 352 ] بعض العلماء : لم يسمع من أبي موسى .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ولو فرضنا أنه لم يسمع منه فالحديث حجة ; لأنه مرسل معتضد بأحاديث كثيرة ، منها ما هو حسن ، ومنها ما إسناده مقارب ، كما بينه الحافظ في التلخيص وبإجماع المسلمين ، وقد قال البيهقي - رحمه الله - في سننه الكبرى ، " باب سياق أخبار تدل على تحريم التحلي بالذهب " ، وساق أحاديث في ذلك ، ثم قال : " باب سياق أخبار تدل على إباحته للنساء " ، ثم ساق في ذلك أحاديث ، وذكر منها حديث سعيد بن أبي هند المذكور عن أبي موسى ، ثم قال : ورويناه من حديث علي بن أبي طالب ، وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر منها أيضا حديث عائشة قالت : قدمت على النبي - صلى الله عليه وسلم - حلية من عند النجاشي أهداها له ، فيها خاتم من ذهب ، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعود معرضا عنه أو ببعض أصابعه ، ثم دعا أمامة بنت أبي العاص بنت ابنته زينب ، فقال : " تحلي هذا يا بنية " ، وذكر منها أيضا حديث بنت أسعد بن زرارة - رضي الله عنه - : أنها كانت هي وأختاها في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن أباهن أوصى إليه بهن ، قالت : فكان - صلى الله عليه وسلم - يحلينا بالذهب واللؤلؤ . وفي رواية : " يحلينا رعاثا من ذهب ولؤلؤ " ، وفي رواية : " يحلينا التبر واللؤلؤ " ، ثم قال البيهقي : قال أبو عبيد : قال أبو عمرو : وواحد الرعاث رعثة ، ورعثة وهو القرط . ثم قال البيهقي : فهذه الأخبار وما ورد في معناها تدل على إباحة التحلي بالذهب للنساء ، واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة . وقد قال بعض أهل العلم : إن موافقة الإجماع لخبر الآحاد تصيره قطعيا لاعتضاده بالقطعي ، وهو الإجماع . وقد تقدم ذلك في " سورة التوبة " ، والله أعلم .
فتحصل أنه لا شك في تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال ، وإباحته للنساء .
المسألة السادسة : أما لبس الرجال خواتم الفضة فهو جائز بلا شك ، وأدلته معروفة في السنة ، ومن أوضحها خاتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الفضة المنقوش فيه : " محمد رسول الله " ، الذي كان يلبسه بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان . حتى سقط في بئر أريس كما هو ثابت في الصحيحين . أما لبس الرجال لغير الخاتم من الفضة ففيه خلاف بين العلماء ، وسنوضح هذه المسألة إن شاء الله .
اعلم أولا : أن الرجل إذا لبس من الفضة مثل ما يلبسه النساء من الحلي : كالخلخال ، والسوار ، والقرط ، والقلادة ، ونحو ذلك ، فهذا لا ينبغي أن يختلف في منعه ; لأنه تشبه [ ص: 353 ] بالنساء ، ومن تشبه بهن من الرجال فهو ملعون على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما مر آنفا . وكل من كان ملعونا على لسانه - صلى الله عليه وسلم - فهو ملعون في كتاب الله ، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وأما غير ذلك كجعل الرجل الفضة في الثوب ، واستعمال الرجل شيئا محلى بأحد النقدين ; فجماهير العلماء منهم الأئمة الأربعة على أن ذلك ممنوع ، مع الإجماع على جواز تختم الرجل بخاتم الفضة . والاختلاف في أشياء : كالمنطقة ، وآلة الحرب ونحوه ، والمصحف . والاتفاق على جعل الأنف من الذهب وربط الأسنان بالذهب والفضة . وسنذكر بعض النصوص من فروع المذاهب الأربعة في ذلك .
قال خليل بن إسحاق المالكي في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ما نصه : وحرم استعمال ذكر محلى ولو منطقة وآلة حرب ; إلا السيف والأنف ، وربط سن مطلقا ، وخاتم فضة ; لا ما بعضه ذهب ولو قل ، وإناء نقد واقتناؤه وإن لامرأة . وفي المغشى ، والمموه ، والمضبب ، وذي الحلقة ، وإناء الجوهر ، قولان . وجاز للمرأة الملبوس مطلقا ولو نعلا لا كسرير . انتهى الغرض من كلام خليل مع اختلاف في بعض المسائل التي ذكرها عند المالكية . وقال صاحب تبيين الحقائق في مذهب الإمام أبي حنيفة ما نصه : ولا يتحلى الرجل بالذهب والفضة ، إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة . اهـ .
وقال النووي في شرح المهذب في مذهب الشافعي : " فصل فيما يحل ويحرم من الحلي : " فالذهب أصله على التحريم في حق الرجال ، وعلى الإباحة للنساء - إلى أن قال : وأما الفضة فيجوز للرجل التختم بها ، وهل له ما سوى الخاتم من حلي الفضة : كالدملج ، والسوار ، والطوق ، والتاج ; فيه وجهان . قطع الجمهور بالتحريم . انتهى محل الغرض من كلام النووي . وقال ابن قدامة في المقنع في مذهب الإمام أحمد : ويباح للرجال من الفضة الخاتم ، وفي حلية المنطقة روايتان ، وعلى قياسها الجوشن والخوذة والخف والران والحمائل . ومن الذهب قبيعة السيف . ويباح للنساء من الذهب والفضة كل ما جرت عادتهن بلبسه قل أو كثر . انتهى محل الغرض من المقنع .
فقد ظهر من هذه النقول : أن الأئمة الأربعة في الجملة متفقون على منع استعمال المحلى بالذهب أو الفضة من ثوب أو آلة أو غير ذلك ، إلا في أشياء استثنوها على اختلاف بينهم في بعضها . وقال بعض العلماء : لا يمنع لبس شيء من الفضة . واستدل من قال بهذا بأمرين : أحدهما : أنها لم يثبت فيها تحريم . قال صاحب الإنصاف في شرح قول صاحب [ ص: 354 ] المقنع : وعلى قياسها الجوشن والخوذة إلخ ، ما نصه : وقال صاحب الفروع فيه : ولا أعرف على تحريم الفضة نصا عن أحمد . وكلام شيخنا يدل على إباحة لبسها للرجال ، إلا ما دل الشرع على تحريمه - انتهى . وقال الشيخ تقي الدين أيضا : لبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام لم يكن لأحد أن يحرم منه ، إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه ، فإذا أباحت السنة خاتم الفضة دل على إباحة ما في معناه ، وما هو أولى منه بالإباحة ، وما لم يكن كذلك فيحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه ، والتحريم يفتقر إلى دليل ، والأصل عدمه . ونصره صاحب الفروع ، ورد جميع ما استدل به الأصحاب . انتهى كلام صاحب الإنصاف .
الأمر الثاني : حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على ذلك . قال أبو داود في سننه : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - عن أسيد بن أبي أسيد البراد ، عن نافع بن عياش ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أحب أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ، ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب ، ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار فليسوره سوارا من ذهب ، ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها " هذا لفظ أبي داود .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لي - والله أعلم - أن هذا الحديث لا دليل فيه على إباحة لبس الفضة للرجال . ومن استدل بهذا الحديث على جواز لبس الرجال للفضة فقد غلط ; بل معنى الحديث : أن الذهب كان حراما على النساء ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجال عن تحلية نسائهم بالذهب ، وقال لهم : " العبوا بالفضة " ، أي : حلوا نساءكم منها بما شئتم . ثم بعد ذلك نسخ تحريم الذهب على النساء . والدليل على هذا الذي ذكرنا أمور :
الأول : أن الحديث ليس في خطاب الرجال بما يلبسونه بأنفسهم ; بل بما يحلون به أحبابهم ، والمراد نساؤهم ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه : " من أحب أن يحلق حبيبه " ، " أن يطوق حبيبه " ، " أن يسور حبيبه " ، ولم يقل : من أحب أن يحلق نفسه ، ولا أن يطوق نفسه ، ولا أن يسور نفسه ; فدل ذلك دلالة واضحة لا لبس فيها على أن المراد بقوله : " فالعبوا بها " ، أي : حلوا بها أحبابكم كيف شئتم ; لارتباط آخر الكلام بأوله .
الأمر الثاني : أنه ليس من عادة الرجال أن يلبسوا حلق الذهب ، ولا أن يطوقوا بالذهب ، ولا يتسوروا به في الغالب ; فدل ذلك على أن المراد بذلك من شأنه لبس الحلقة [ ص: 355 ] والطوق والسوار من الذهب ، وهن النساء بلا شك .
الأمر الثالث : أن أبا داود - رحمه الله - قال بعد الحديث المذكور متصلا به : حدثنا مسدد ، ثنا أبو عوانة ، عن منصور ، عن ربعي بن خراش ، عن امرأته ، عن أخت لحذيفة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يا معشر النساء ، أما لكن في الفضة ما تحلين به ، أما إنه ليس منكن امرأة تحلى ذهبا تظهره إلا عذبت به " .
حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا أبان بن يزيد العطار ، ثنا يحيى أن محمد بن عمرو الأنصاري ، حدثه أن أسماء بنت يزيد حدثته : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أيما امرأة تقلدت قلادة من ذهب قلدت في عنقها مثله من النار يوم القيامة ، وأيما امرأة جعلت في أذنها خرصا من ذهب جعل في أذنها مثله من النار يوم القيامة " .
فهذان الحديثان يدلان على أن المراد بالحديث الأول : منع الذهب للنساء ، وأن قوله : " فالعبوا بها " معناه : فحلوا نساءكم من الفضة بما شئتم كما هو صريح في الحديثين الأخيرين . وهذا واضح جدا كما ترى .
ويدل له أن الحافظ البيهقي - رحمه الله - ذكر الأحاديث الثلاثة المذكورة التي من جملتها : " وعليكم بالفضة فالعبوا بها " ، في سياق الأحاديث الدالة على تحريم الذهب على النساء أولا دون الفضة ، ثم بعد ذلك ذكر الأحاديث الدالة على النسخ ، ثم قال : واستدللنا بحصول الإجماع على إباحته لهن على نسخ الأخبار الدالة على تحريمه فيهن خاصة . والله أعلم انتهى .
ومن جملة تلك الأحاديث المذكورة ، حديث : " فالعبوا بها " ، وهو واضح جدا فيما ذكرنا . فإن قيل : قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور : " يحلق حبيبه " ، " أن يطوق حبيبه " ، " أن يسور حبيبه " ، يدل على أن المراد ذكر ; لأنه لو أراد الأنثى لقال : حبيبته بتاء الفرق بين الذكر والأنثى .
فالجواب : أن إطلاق الحبيب على الأنثى باعتبار إرادة الشخص الحبيب مستفيض في كلام العرب لا إشكال فيه ; ومنه قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - :
منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغار النجوم من حبيب أصاب قلبك منه سقم
فهو داخل مكتوم
ومراده بالحبيب أنثى ; بدليل قوله بعده : [ ص: 356 ]
لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم
وقول كثير عزة :
لئن كان برد الماء هيمان صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب
ومثل هذا كثير في كلام العرب ، فلا نطيل به الكلام .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-08-02, 01:56 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (161)
سُورَةُ النَّحْلِ(7)
صـ 356 إلى صـ 360
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي من كتاب الله - جل وعلا - وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - : أن لبس الفضة حرام على الرجال ، وأن من لبسها منهم في الدنيا لم يلبسها في الآخرة . وإيضاح ذلك أن البخاري قال في صحيحه في باب : " لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه " : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، قال : كان حذيفة بالمدائن فاستسقى فأتاه دهقان بماء في إناء من فضة ، فرماه به ، وقال : إني لم أرمه إلا أني نهيته فلم ينته ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الذهب والفضة والحرير والديباج هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة " ، فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح : " الذهب ، والفضة ، والحرير : والديباج ; هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ، يدخل في عمومه تحريم لبس الفضة ; لأن الثلاث المذكورات معها يحرم لبسها بلا خلاف . وما شمله عموم نص ظاهر من الكتاب والسنة لا يجوز تخصيصه إلا بنص صالح للتخصيص ; كما تقرر في علم الأصول .
فإن قيل : الحديث وارد في الشرب في إناء الفضة لا في لبس الفضة ؟ .
فالجواب : أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، لا سيما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر في الحديث ما لا يحتمل غير اللبس : كالحرير ، والديباج .
فإن قيل : جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يفسر هذا ، ويبين أن المراد بالفضة الشرب في آنيتها لا لبسها ; قال البخاري في صحيحه " باب الشرب في آنية الذهب " ، حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى قال : كان حذيفة بالمدائن فاستسقى ، فأتاه دهقان بقدح فضة ، فرماه به ، فقال : إني لم أرمه ، إلا أني نهيته فلم ينته ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهانا عن الحرير والديباج ، والشرب في آنية الذهب والفضة ، وقال : " هن لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " ، " باب آنية الفضة " ، حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن ابن عون ، عن مجاهد ، عن ابن أبي ليلى ، قال : خرجنا مع حذيفة وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تلبسوا الحرير والديباج ; فإنها لهم في الدنيا [ ص: 357 ] ولكم في الآخرة " ، انتهى .
فدل هذا التفصيل - الذي هو النهي عن الشرب في آنية الذهب والفضة ، والنهي عن لبس الحرير والديباج - : على أن ذلك هو المراد بما في الرواية الأولى ، وإذن فلا حجة في الحديث على منع لبس الفضة ; لأنه تعين بهاتين الروايتين أن المراد الشرب في آنيتها لا لبسها ; لأن الحديث حديث واحد .
فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الرواية المتقدمة عامة بظاهرها في الشرب واللبس معا ، والروايات المقتصرة على الشرب في آنيتها دون اللبس ذاكرة بعض أفراد العام ، ساكتة عن بعضها . وقد تقرر في الأصول : " أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه " ، وهو الحق كما بيناه في غير هذا الموضع . وإليه أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم على الصحيح :
وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد
الوجه الثاني : أن التفصيل المذكور لو كان هو مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان الذهب لا يحرم لبسه ، وإنما يحرم الشرب في آنيته فقط ، كما زعم مدعي ذلك التفصيل في الفضة ; لأن الروايات التي فيها التفصيل المذكور : " لا تشربوا في آنية الذهب والفضة " ، فظاهرها عدم الفرق بين الذهب والفضة . ولبس الذهب حرام إجماعا على الرجال .
الوجه الثالث : وهو أقواها ، ولا ينبغي لمن فهمه حق الفهم أن يعدل عنه ; لظهور وجهه ، هو : أن هذه الأربعة المذكورة في هذا الحديث ، التي هي : الذهب ، والفضة ، والحرير ، والديباج ، صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها للكفار في الدنيا ، وللمسلمين في الآخرة ، فدل ذلك على أن من استمتع بها من الدنيا لم يستمتع بها في الآخرة ، وقد صرح - جل وعلا - في كتابه العزيز بأن أهل الجنة يتمتعون بالذهب والفضة من جهتين :
إحداهما : الشراب في آنيتهما .
والثانية : التحلي بهما . وبين أن أهل الجنة يتنعمون بالحرير والديباج من جهة واحدة وهي لبسها ، وحكم الاتكاء عليهما داخل في حكم لبسهما . فتعين تحريم الذهب والفضة من الجهتين المذكورتين . وتحريم الحرير والديباج من الجهة الواحدة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الروايات الصحيحة في الأربعة المذكورة : " هي لهم في الدنيا ، ولكم في [ ص: 358 ] الآخرة " ; لأنه لو أبيح التمتع بالفضة في الدنيا والآخرة ; لكان ذلك معارضا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة " ، وسنوضح ذلك - إن شاء الله تعالى - من كتاب الله - جل وعلا - .
اعلم أولا : أن الديباج هو المعبر عنه في كتاب الله بالسندس والإستبرق . فالسندس : رقيق الديباج . والإستبرق : غليظه .
فإذا علمت ذلك ; فاعلم أن الله - جل وعلا - بين تنعم أهل الجنة بلبس الذهب والديباج الذي هو السندس والإستبرق في " سورة الكهف " ، في قوله : أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق الآية [ 18 \ 31 ] ، فمن لبس الذهب والديباج في الدنيا منع من هذا التنعم بهما المذكور في " الكهف " .
ذكر - جل وعلا - تنعم أهل الجنة بلبس الحرير والذهب في " سورة الحج " ، في قوله : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد . [ 22 \ 23 - 24 ] .
وبين أيضا تنعمهم بلبس الذهب والحرير في " سورة فاطر " ، في قوله : جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن . الآية [ 35 \ 33 ، 34 ] ، فمن لبس الذهب والحرير في الدنيا منع من هذا التنعم بهما المذكور في " سورة الحج وفاطر " .
وذكر - جل وعلا - تنعمهم بلبس الحرير في " سورة الإنسان " ، في قوله : وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا [ 76 \ 12 ] ، وفي " الدخان " بقوله إن المتقين في مقام أمين في جنات وعيون يلبسون من سندس وإستبرق الآية [ 44 \ 51 - 53 ] ، فمن لبس الحرير في الدنيا منع من هذا التنعم به المذكور في " سورة الإنسان والدخان " .
وذكر - جل وعلا - تنعمهم بالاتكاء على الفرش التي بطائنها " من إستبرق " في " سورة الرحمن " ، بقوله : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق . الآية [ 55 \ 54 ] . فمن اتكأ على الديباج في الدنيا منع هذا التنعم المذكور في " سورة الرحمن " .
وذكر - جل وعلا - تنعم أهل الجنة بلبس الديباج ، الذي هو السندس والإستبرق ولبس [ ص: 359 ] الفضة في " سورة الإنسان " أيضا ، في قوله : عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] .
فمن لبس الديباج أو الفضة في الدنيا منع من التنعم بلبسهما المذكور في " سورة الإنسان " ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة " ، فلو أبيح لبس الفضة في الدنيا مع قوله في نعيم أهل الجنة : وحلوا أساور من فضة [ 76 \ 21 ] ; لكان ذلك مناقضا لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " هي لهم في الدنيا ، ولكم في الآخرة " .
وذكر تنعم أهل الجنة بالشرب في آنية الذهب في " سورة الزخرف " ، في قوله تعالى : يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب الآية [ 43 \ 71 ] ، فمن شرب في الدنيا في أواني الذهب منع من هذا التنعم بها المذكور في " الزخرف " .
وذكر - جل وعلا - تنعم أهل الجنة بالشرب في آنية الفضة في " سورة الإنسان " ، في قوله : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا [ 76 \ 15 - 18 ] ، فمن شرب في آنية الفضة في الدنيا منع هذا التنعم بها المذكور في " سورة الإنسان " ، فقد ظهر بهذا المصنف دلالة القرآن والسنة الصحيحة على منع لبس الفضة . والعلم عند الله تعالى .
تببيه .
فإن قيل : عموم حديث حذيفة المذكور الذي استدللتم به ، وبيان القرآن أنه شامل للبس الفضة والشرب فيها ، وقلتم : إن كونه واردا في الشرب في آنية الفضة لا يجعله خاصا بذلك ; فما الدليل في ذلك على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؟
قال البخاري في صحيحه ، حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ; فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له ، فأنزلت عليه : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ) [ 11 \ 114 ] ، قال الرجل [ ص: 360 ] ألي هذه ؟ قال : " لمن عمل بها من أمتي " اهـ ، هذا لفظ البخاري في التفسير في " سورة هود " ، وفي رواية في الصحيح ، قال : " لجميع أمتي كلهم " اهـ . فهذا الذي أصاب القبلة من المرأة نزلت في خصوصه آية عامة اللفظ ، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ألي هذه ؟ ومعنى ذلك : هل النص خاص بي لأني سبب وروده ؟ أو هو على عموم لفظه ؟ وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لجميع أمتي " معناه أن العبرة بعموم لفظ : " إن الحسنات يذهبن السيئات " ، لا بخصوص السبب ، والعلم عند الله تعالى ؟
وقوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : " وترى الفلك " [ 16 \ 14 ] ، أي : السفن ، وقد دل القرآن على أن : " الفلك " يطلق على الواحد وعلى الجمع ، وأنه إن أطلق على الواحد ذكر ، وإن أطلق على الجمع أنث ، فأطلقه على المفرد مذكرا في قوله : " وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون " [ 36 \ 41 ، 42 ] ، وأطلقه على الجمع مؤنثا في قوله : والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس [ 2 \ 164 ] ، وقوله : مواخر [ 16 \ 14 ] ، جمع ماخرة ، وهو اسم فاعل ، مخرت السفينة تمخر - بالفتح - وتمخر - بالضم - مخرا ومخورا : جرت في البحر تشق الماء مع صوت . وقيل : استقبلت الريح في جريتها . والأظهر في قوله : ولتبتغوا من فضله [ 16 \ 14 ] ، أنه معطوف على قوله : لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ، ولعل هنا للتعليل كما تقدم .
والشكر في الشرع : يطلق من العبد لربه ; كقوله هنا ولعلكم تشكرون [ 16 \ 14 ] ، وشكر العبد لربه : هو استعماله نعمه التي أنعم عليه بها في طاعته . وأما من يستعين بنعم الله على معصيته فليس من الشاكرين ; وإنما هو كنود كفور .
وشكر الرب لعبده المذكور في القرآن كقوله : فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] ، وقوله إن ربنا لغفور شكور [ 35 \ 34 ] ، هو أن يثيب عبده الثواب الجزيل من العمل القليل . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-08-02, 02:04 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (162)
سُورَةُ النَّحْلِ(8)
صـ 361 إلى صـ 365
قوله تعالى : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون ، ذكر - جل وعلا - في هاتين الآيتين أربع نعم من نعمه على خلقه ، مبينا لهم عظيم منته عليهم بها :
الأولى : إلقاؤه الجبال في الأرض لتثبت ولا تتحرك ، وكرر الامتنان بهذه النعمة في [ ص: 361 ] القرآن كقوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 \ 6 - 7 ] ، وقوله : وجعلنا في الأرض رواسي الآية [ 21 \ 31 ] ، وقوله : وجعلنا فيها رواسي شامخات [ 77 \ 27 ] ، وقوله - جل وعلا - : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم الآية [ 31 \ 10 ] ، وقوله : والجبال أرساها [ 79 \ 32 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
ومعنى تميد : تميل وتضطرب .
وفي معنى قوله أن وجهان معروفان للعلماء : أحدهما : كراهة أن تميد بكم . والثاني : أن المعنى : لئلا تميد بكم ; وهما متقاربان .
الثانية : إجراؤه الأنهار في الأرض المذكور هنا في قوله : وأنهارا [ 16 \ 15 ] ، وكرر - تعالى - في القرآن الامتنان بتفجيره الماء في الأرض لخلقه : كقوله : وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر الآية [ 14 \ 32 - 33 ] ، وقوله : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون [ 56 \ 68 - 70 ] ، وقوله : وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره الآية [ 36 \ 34 - 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثالثة : جعله في الأرض سبلا يسلكها الناس ، ويسيرون فيها من قطر إلى قطر في طلب حاجاتهم المذكور هنا في قوله : وسبلا ، وهو جمع سبيل بمعنى الطريق . وكرر الامتنان بذلك في القرآن ; كقوله : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] ، وقوله : والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا [ 71 \ 19 ] ، وقوله : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا [ 20 \ 52 ، 53 ] .
وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها الآية [ 67 \ 15 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 43 \ 9 - 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الرابعة : جعله العلامات لبني آدم ; ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر المذكور هنا في قوله : وعلامات وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 16 ] ، وقد ذكر الامتنان بنحو ذلك في [ ص: 362 ] القرآن في قوله : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر الآية [ 6 \ 97 ] .
قوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية ، تقدم بيان مثل هذه الآية في موضعين .
قوله تعالى : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن بني آدم لا يقدرون على إحصاء نعم الله لكثرتها عليهم ، وأتبع ذلك بقوله : إن الله لغفور رحيم [ 16 \ 18 ] ، فدل ذلك على تقصير بني آدم في شكر تلك النعم ، وأن الله يغفر لمن تاب منهم ، ويغفر لمن شاء أن يغفر له ذلك التقصير في شكر النعم . وبين هذا المفهوم المشار إليه هنا بقوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ 14 \ 34 ] .
بين في موضع آخر : أن كل النعم على بني آدم منه - جل وعلا - ، وذلك في قوله : وما بكم من نعمة فمن الله الآية [ 16 \ 53 ] .
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن المفرد إذا كان اسم جنس وأضيف إلى معرفة ، أنه يعم كما تقرر في الأصول ; لأن : " نعمة الله " [ 16 \ 18 ] مفرد أضيف إلى معرفة فعم النعم . وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود عاطفا على صيغ العموم :
أو بإضافة إلى معرف إذا تحقق الخصوص قد نفي .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا سئلوا عما أنزل الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا : لم ينزل عليه شيء . وإنما هذا الذي يتكلم به من أساطير الأولين ، نقله من كتبهم . والأساطير : جمع أسطورة أو إسطارة ، وهي الشيء المسطور في كتب الأقدمين من الأكاذيب والأباطيل . أصلها من سطر : إذا كتب . ومنه قوله تعالى : وكتاب مسطور [ 52 \ 2 ] ، وقال بعض العلماء : الأساطير : الترهات والأباطيل . وأوضح هذا المعنى في آيات أخر ; كقوله : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 25 \ 5 ] ، وقوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين [ 8 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله : ماذا ، يحتمل أن تكون " ذا " موصولة و " ما " مبتدأ ، وجملة " أنزل " [ ص: 363 ] صلة الموصول ، والموصول وصلته خبر المبتدأ . ويحتمل أن يكون مجموعهما اسما واحدا في محل نصب ، على أنه مفعول " أنزل " ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومثل ماذا بعد ما استفهام أو من إذا لم تلغ في الكلام
وبين - جل وعلا - كذب الكفار في دعواهم : أن القرآن أساطير الأولين بقوله : قل أنزله الذي يعلم السر الآية [ 25 \ 6 ] ، وبقوله هنا : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة [ 16 \ 25 ] .
قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن أولئك الكفار الذين يصرفون الناس عن القرآن بدعواهم أنه أساطير الأولين ، تحملوا أوزارهم - أي : ذنوبهم - كاملة ، وبعض أوزار أتباعهم الذين اتبعوهم في الضلال ; كما يدل عليه حرف التبعيض الذي هو " ومن " ، في قوله : ومن أوزار الذين يضلونهم الآية [ 16 \ 25 ] .
وقال القرطبي : " من " لبيان الجنس ; فهم يحملون مثل أوزار من أضلوهم كاملة .
وأوضح تعالى هذا المعنى في قوله : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 39 \ 13 ] ، واللام في قوله " ليحملوا " تتعلق بمحذوف دل المقام عليه ، أي : قدرنا عليهم أن يقولوا في القرآن : أساطير الأولين ; ليحملوا أوزارهم .
تنبيه .
فإن قيل : ما وجه تحملهم بعض أوزار غيرهم المنصوص عليه بقوله : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] ، وقوله : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] ، مع أن الله يقول : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 35 \ 18 ] ، ويقول - جل وعلا - : ولا تكسب كل نفس إلا عليها [ 6 \ 164 ] ، ويقول تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [ 2 \ 134 ، 2 - 141 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 364 ] فالجواب - والله تعالى أعلم - أن رؤساء الضلال وقادته تحملوا وزرين : أحدهما : وزر ضلالهم في أنفسهم .
والثاني : وزر إضلالهم غيرهم ; لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا . وإنما أخذ بعمل غيره ; لأنه هو الذي سنه وتسبب فيه ، فعوقب عليه من هذه الجهة ; لأنه من فعله ، فصار غير مناف لقوله ولا تزر وازرة الآية [ 35 \ 18 ] .
وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن الأعمش ، عن موسى بن عبد الله بن يزيد ، وأبي الضحى ، عن عبد الرحمن بن هلال العبسي ، عن جرير بن عبد الله ، قال : جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم الصوف ، فرأى سوء حالهم ، قد أصابتهم حاجة فحث الناس على الصدقة ، فأبطؤوا عنه حتى رؤي ذلك في وجهه ، قال : ثم إن رجلا من الأنصار جاء بصرة من ورق ، ثم جاء آخر ، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده ، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء . ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده ، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء " اه .
أخرج مسلم في صحيحه هذا الحديث ، عن جرير بن عبد الله من طرق متعددة . وأخرجه نحوه أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا " . ومن دعا إلى ضلالة ، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " اه .
قال مقيده عفا الله عنه : هذه النصوص الصحيحة تدل على رفع الإشكال بين الآيات ، كما تدل على أن جميع حسنات هذه الأمة في صحيفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فله مثل أجور جميعهم ; لأنه - صلوات الله عليه وسلامه - هو الذي سن لهم السنن الحسنة جميعها في الإسلام ، نرجو الله له الوسيلة والدرجة الرفيعة ، وأن يصلي ويسلم عليه أتم صلاة وأزكى سلام .
وقوله في هذه الآية الكريمة : ( بغير علم ) [ 16 \ 25 ] ، يدل على أن الكافر غير معذور بعد إبلاغ الرسل المؤيد بالمعجزات ، الذي لا لبس معه في الحق ، ولو كان يظن أن [ ص: 365 ] كفره هدى ; لأنه ما منعه من معرفة الحق مع ظهوره إلا شدة التعصب للكفر ، كما قدمنا الآيات الدالة على ذلك في " الأعراف " ; كقوله : ( إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ) [ 7 \ 30 ] ، وقوله : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) [ 18 \ 103 - 104 ] ، وقوله : ( وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ) [ 39 \ 47 ] ، وحملهم أوزارهم هو اكتسابهم الإثم الذي هو سبب ترديهم في النار ، أعاذنا الله والمسلمين منها .
وقال بعض العلماء : معنى حملهم أوزارهم : أن الواحد منهم عند خروجه من قبره يوم القيامة يستقبله شيء كأقبح صورة ، وأنتنها ريحا ; فيقول : من أنت ؟ فيقول : أو ما تعرفني ! فيقول : لا ولله ، إلا أن الله قبح وجهك ! أنتن ريحك ! فيقول أنا عملك الخبيث ، كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه فطالما ركبتني في الدنيا ! هلم أركبك اليوم ; فيركب على ظهره اه .
وقوله ( ألا ساء ما يزرون ) [ 16 \ 25 ] ، ( ساء ) فعل جامد ; لإنشاء الذم بمعنى بئس ، و ( ما ) ، فيها الوجهان المشار إليهما بقوله في الخلاصة :
وما مميز وقيل فاعل في نحو نعم يقول الفاضل
وقوله ( يزرون ) ، أي : يحملون ، وقال قتادة : يعملون . اه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-08-02, 02:12 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (163)
سُورَةُ النَّحْلِ(9)
صـ 366 إلى صـ 370
قوله تعالى : قد مكر الذين من قبلهم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة قد مكروا . وبين ذلك في مواضع أخر ; كقوله : وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا [ 13 \ 42 ] ، وقوله : وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال [ 14 \ 46 ] .
وبين بعض مكر كفار مكة ، بقوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية [ 8 \ 30 ] .
وذكر بعض مكر اليهود بقوله : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [ 3 \ 54 ] .
وبين بعض مكر قوم صالح ، بقوله : ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين الآية [ 27 \ 50 ، 51 ] .
وذكر بعض مكر قوم نوح بقوله : ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن [ ص: 366 ] آلهتكم الآية [ 71 \ 22 - 23 ] .
وبين مكر رؤساء الكفار في قوله : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله الآية [ 34 \ 33 ] ، والمكر : إظهار الطيب وإبطان الخبيث ، وهو الخديعة . وقد بين - جل وعلا - أن المكر السيئ لا يرجع ضرره إلا على فاعله ; وذلك في قوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] .
قوله تعالى : فأتى الله بنيانهم من القواعد ، أي : اجتثه من أصله واقتلعه من أساسه ; فأبطل عملهم وأسقط بنيانهم . وهذا الذي فعل بهؤلاء الكفار الذين هم نمروذ وقومه - كما قدمنا في " سورة الحجر " - فعل مثله أيضا بغيرهم من الكفار . فأبطل ما كانوا يفعلون ويدبرون ; كقوله : ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون [ 7 \ 137 ] ، وقوله : كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله [ 5 \ 64 ] ، وقوله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ثم يوم القيامة يخزيهم ، أي : يفضحهم على رءوس الأشهاد ويهينهم بإظهار فضائحهم ، وما كانت تجنه ضمائرهم ، فيجعله علانية .
وبين هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 - 10 ] ، أي : أظهر علانية ما كانت تكنه الصدور ، وقوله : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] .
وقد بين - جل وعلا - في موضع آخر : أن من أدخل النار فقد ناله هذا الخزي المذكور ، وذلك في قوله : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته [ 3 \ 192 ] ، وقد قدمنا في سورة " هود " إيضاح معنى الخزي .
قوله تعالى : ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يسأل المشركين يوم القيامة سؤال توبيخ ، فيقول لهم : أين المعبودات التي كنتم تخاصمون رسلي وأتباعهم بسببها ، قائلين : إنكم لا بد لكم أن تشركوها معي في عبادتي ؟
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ 28 \ 62 ، 28 \ 74 ] ، وقوله : وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون [ ص: 367 ] من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون [ 26 \ 92 ، 93 ] ، وقوله : ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا الآية [ 40 \ 73 - 74 ] ، وقوله : حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا الآية [ 7 \ 37 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقرأ عامة القراء : شركائي [ 16 \ 27 ] ، بالهمزة وياء المتكلم ، ويروى عن ابن كثير من رواية البزي أنه قرأ " شركاي " ، بياء المتكلم دون همز ، ولم تثبت هذه القراءة .
وقرأ الجمهور : تشاقون [ 16 \ 27 ] ، بنون الرفع مفتوحة مع حذف المفعول .
وقرأ نافع : " تشاقون " بكسر النون الخفيفة التي هي نون الوقاية ، والمفعول به ياء المتكلم المدلول عليها بالكسرة مع حذف نون الرفع ; لجواز حذفها من غير ناصب ولا جازم إذا اجتمعت مع نون الوقاية ، كما تقدم تحريره في " سورة الحجر " ، في الكلام على قوله : فبم تبشروني [ 15 \ 54 ] .
قوله تعالى : فألقوا السلم ، أي : الاستسلام والخضوع . والمعنى : أظهروا كمال الطاعة والانقياد ، وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق . وذلك عندما يعاينون الموت ، أو يوم القيامة . يعني : أنهم في الدنيا يشاقون الرسل ، أي : يخالفونهم ويعادونهم ، فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم ، أي : خضعوا واستسلموا وانقادوا حيث لا ينفعهم ذلك .
ومما يدل من القرآن على أن المراد بإلقاء السلم : الخضوع والاستسلام ، قوله : ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا [ 4 \ 94 ] ، على قراءة نافع وابن عامر وحمزة بلا ألف بعد اللام . بمعنى الانقياد والإذعان . وقوله : فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم الآية [ 4 \ 91 ] .
والقول بأن السلم في الآيتين الأخيرتين : الصلح والمهادنة لا ينافي ما ذكرنا ; لأن المصالح منقاد مذعن لما وافق عليه من ترك السوء . وقوله : وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 16 \ 78 ] ، فكله بمعنى الاستسلام والخضوع والانقياد . والانقياد عند معاينة الموت لا ينفع ، كما قدمنا ، وكما دلت عليه آيات كثيرة ; كقوله : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآية [ 4 \ 18 ] ، وقوله : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 85 ] [ ص: 368 ] وقوله : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون ، يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم ، وقالوا : " ما كنا نعمل من سوء " [ 16 \ 28 ] ، فقوله ما كنا نعمل من سوء ، معمول قول محذوف بلا خلاف .
والمعنى : أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء ، وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي . وقد بين الله كذبهم بقوله : بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون [ 16 \ 28 ] .
وبين في مواضع أخر : أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا . وبين كذبهم في ذلك أيضا ; كقوله : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 6 \ 23 - 24 ] ، وقوله : قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعو من قبل شيئا كذلك يضل الله [ 40 \ 74 ] ، وقوله : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون [ 58 \ 18 ] ، وقوله : ويقولون حجرا محجورا [ 25 \ 22 ] ، أي : حراما محرما أن تمسونا بسوء ; لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله هنا : " بلى " [ 16 \ 28 ] ، تكذيب لهم في قولهم : ما كنا نعمل من سوء .
تنبيه .
لفظة : " بلى " لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين ، لا ثالث لهما :
الأول : أن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام ، فهي نقيضة " لا " ; لأن " لا " لنفي الإثبات ، و " بلى " ، لنفي النفي ; كقوله هنا : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، فهذا النفي نفته لفظة " بلى " ، أي : كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي ، وكقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] ، وكقوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ 34 \ 3 ] ، وقوله : وقالوا لن يدخل الجنة [ ص: 369 ] إلا من كان هودا أو نصارى [ 2 \ 111 ] ، فإنه نفى هذا النفي بقوله - جل وعلا - : بلى من أسلم وجهه لله الآية [ 2 \ 112 ] ، ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب .
الثاني : أن تكون جوابا لاستفهام مقترن بنفي خاصة ; كقوله : ألست بربكم قالوا بلى [ 7 \ 172 ] ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ 36 \ 81 ] ، وقوله : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى [ 40 \ 50 ] ، وهذا أيضا كثير في القرآن وفي كلام العرب . أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه ب " ، نعم " لا بـ " ، بلى " ، وجواب الاستفهام المقترن بنفي و " نعم " مسموع غير قياسي ; كقوله :
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك لنا تداني نعم وترى الهلال كما أراه
ويعلوها النهار كما علاني
فالمحل لـ " بلى " لا لـ " نعم " في هذا البيت .
فإن قيل : هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي ، كقوله عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، ونحو ذلك . مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثا في قوله : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .
فالجواب : هو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم : " والله ربنا ما كنا مشركين " ; فيختم الله على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون ، فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة ، وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فادخلوا أبواب جهنم الآية ، لم يبين هنا عدد أبوابها ، ولكنه بين ذلك في " سورة الحجر " في قوله - جل وعلا - : لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 44 ] ، أرجو الله أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها ومن جميع أبوابها ; إنه رحيم كريم .
قوله تعالى : وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المتقين إذا سئلوا عما أنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا : أنزل عليه خيرا ; أي : رحمة وهدى وبركة لمن اتبعه وآمن به . ويفهم من صفة أهل هذا الجواب [ ص: 370 ] بكونهم متقين - أن غير المتقين يجيبون جوابا غير هذا . وقد صرح تعالى بهذا المفهوم في قوله عن غير المتقين وهم الكفار : وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين [ 156 \ 24 ] ، كما تقدم .
قوله تعالى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من أحسن عمله في هذه الدار التي هي الدنيا كان له عند الله الجزاء الحسن في الآخرة . وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة الآية [ 10 \ 26 ] ، والحسنى : الجنة . والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم . وقوله : ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 563 \ 31 ] ، وقوله : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ 55 \ 60 ] ، وقوله : من جاء بالحسنة فله خير منها [ 28 \ 84 ] ، وقوله في هذه الآية : حسنة ، أي : مجازاة حسنة بالجنة ونعيمها . والآيات في مثل ذلك كثيرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-08-02, 02:18 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (164)
سُورَةُ النَّحْلِ(10)
صـ 371 إلى صـ 375
قوله تعالى : ولدار الآخرة خير ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن دار الآخرة خير من دار الدنيا . وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة ، كقوله : وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير الآية [ 28 \ 80 ] ، وقوله : وما عند الله خير للأبرار ، وقوله : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ، وقوله : وللآخرة خير لك من الأولى [ 932 \ 4 ] ، وقوله : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله الآية [ 3 \ 14 - 15 ] ، وقوله ، خير [ 16 \ 30 ] ، صيغة تفضيل ، حذفت همزتها ; لكثرة الاستعمال تخفيفا .
وإليه أشار ابن مالك في الكافية بقوله :
وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر
وإنما قيل لتلك الدار : الدار الآخرة ; لأنها هي آخر المنازل ، فلا انتقال عنها البتة إلى دار أخرى .
والإنسان قبل الوصول إليها ينتقل من محل إلى محل . فأول ابتدائه من التراب ، ثم انتقل من أصل التراب إلى أصل النطفة ، ثم إلى العلقة ، ثم إلى المضغة ، ثم إلى العظام ، ثم [ ص: 371 ] كسا الله العظام لحما ، وأنشأها خلقا آخر ، وأخرجه للعالم في هذه الدار ، ثم ينتقل إلى القبر ، ثم إلى المحشر ، ثم يتفرقون : يومئذ يصدر الناس أشتاتا [ 99 \ 6 ] ، فسالك ذات اليمين إلى الجنة ، وسالك ذات الشمال إلى النار : ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ 30 \ 14 - 16 ] .
فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار - فعند ذلك تلقى عصا التسيار ، ويذبح الموت ، ويقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ويبقى ذلك دائما لا انقطاع له ، ولا تحول عنه إلى محل آخر .
فهذا معنى وصفها بالآخرة ; كما أوضحه - جل وعلا - بقوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 23 \ 12 - 16 ] .
تنبيه .
أضاف - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة الدار إلى الآخرة ، مع أن الدار هي الآخرة بدليل قوله : ولدار الآخرة الآية [ 16 \ 30 ] ، بتعريف الدار ونعتها بالآخرة في غير هذا الموضع . وعلى مقتضى قول ابن مالك في الخلاصة :
ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى وأول موهما إذا ورد
فإن لفظ " الدار " يؤول بمسمى الآخرة . وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في " سورة فاطر " ، في الكلام على قوله : " ومكر السيئ " [ 35 \ 43 ] : أن الذي يظهر لنا أن إضافة الشيء إلى نفسه بلفظين مختلفين - أسلوب من أساليب اللغة العربية ; لتنزيل التغاير في اللفظ منزلة التغاير في المعنى . وبينا كثرته في القرآن ، وفي كلام العرب . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولنعم دار المتقين ، مدح الله - جل وعلا - دار المتقين التي هي الجنة في هذه الآية الكريمة ; لأن " نعم " ، فعل جامد لإنشاء المدح . وكرر الثناء عليها في آيات كثيرة ; لأن فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . كما [ ص: 372 ] قال تعالى : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 32 \ 17 ] ، وقال : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا [ 76 \ 20 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المتقين يدخلون يوم القيامة جنات عدن . والعدن في لغة العرب : الإقامة . فمعنى " جنات عدن " : جنات إقامة في النعيم ، لا يرحلون عنها ، ولا يتحولون .
وبين في آيات كثيرة : أنهم مقيمون في الجنة على الدوام ، كما أشار له هنا بلفظة " عدن " ، كقوله : لا يبغون عنها حولا [ 18 \ 108 ] ، وقوله : الذي أحلنا دار المقامة من فضله الآية [ 35 \ 35 ] ، والمقامة : الإقامة . وقد تقرر في التصريف : أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف فالمصدر الميمي منه ، واسم الزمان ، واسم المكان كلها بصيغة اسم المفعول . وقوله : إن المتقين في مقام أمين [ 44 \ 51 ] ، على قراءة نافع وابن عامر بضم الميم من الإقامة . وقوله : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة : تجري من تحتها الأنهار [ 16 \ 31 ] .
بين أنواع تلك الأنهار في قوله : فيها أنهار من ماء غير آسن ، إلى قوله من عسل مصفى [ 47 \ 15 ] ، وقوله هنا : لهم فيها ما يشاءون [ 16 \ 31 ] ، أوضحه في مواضع أخر ; كقوله : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ 50 \ 35 ] ، وقوله : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون [ 43 \ 71 ] ، وقوله : لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا ، وقوله : لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين [ 39 \ 34 ] ، وقوله : ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم [ 41 \ 31 - 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية : كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .
يدل على أن تقوى الله هو السبب الذي به تنال الجنة .
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] ، وقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [ 3 \ 133 ] ، وقوله : إن المتقين في جنات وعيون [ ص: 373 ] [ 15 \ 45 ] ، وقوله : إن المتقين في جنات ونعيم [ 52 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المتقين الذين كانوا يمتثلون أوامر ربهم ، ويجتنبون نواهيه تتوفاهم الملائكة ; أي : يقبضون أرواحهم في حال كونهم طيبين ، أي : طاهرين من الشرك والمعاصي - على أصح التفسيرات - ويبشرونهم بالجنة ، ويسلمون عليهم .
وبين هذا المعنى أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 \ 30 ] ، وقوله : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] ، وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار [ 13 \ 23 - 24 ] ، والبشارة عند الموت ، وعند دخول الجنة من باب واحد ; لأنها بشارة بالخير بعد الانتقال إلى الآخرة . ويفهم من صفات هؤلاء الذين تتوفاهم الملائكة طيبين ، ويقولون لهم : سلام عليكم ادخلوا الجنة - أن الذين لم يتصفوا بالتقوى لم تتوفهم الملائكة على تلك الحال الكريمة ، ولم تسلم عليهم ، ولم تبشرهم .
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر ; كقوله : الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم الآية [ 16 \ 28 ] ، وقوله : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم ، إلى قوله وساءت مصيرا [ 4 \ 97 ] ، وقوله : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم الآية [ 8 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله : تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم [ 16 \ 28 ] ، وقوله : تتوفاهم الملائكة طيبين [ 16 \ 32 ] ، قرأهما عامة القراء غير حمزة : " تتوفاهم " بتاءين فوقيتين . وقرأ حمزة " يتوفاهم " بالياء في الموضعين .
تنبيه .
أسند هنا - جل وعلا - التوفي للملائكة في قوله : تتوفاهم الملائكة [ 16 \ 32 ] [ ص: 374 ] وأسنده في " السجدة " ، لملك الموت في قوله : قل يتوفاكم ملك الموت [ 32 \ 11 ] ، وأسنده في " الزمر " إلى نفسه - جل وعلا - في قوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها الآية [ 39 \ 42 ] ، وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " السجدة " : أنه لا معارضة بين الآيات المذكورة ، فإسناده التوفي لنفسه ; لأنه لا يموت أحد إلا بمشيئته تعالى ، كما قال : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] ، وأسنده لملك الموت ; لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأسنده إلى الملائكة ; لأن لملك الموت أعوانا من الملائكة ينزعون الروح من الجسد إلى الحلقوم فيأخذها ملك الموت ، كما قاله بعض العلماء . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه بعث في كل أمة رسولا بعبادة الله وحده ، واجتناب عبادة ما سواه .
وهذا هو معنى " لا إله إلا الله " ; لأنها مركبة من نفي وإثبات ، فنفيها هو خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات ، وإثباتها هو إفراده - جل وعلا - بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله - عليهم صلوات الله وسلامه - .
وأوضح هذا المعنى كثيرا في القرآن عن طريق العموم والخصوص . فمن النصوص الدالة عليه مع عمومها قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
ومن النصوص الدالة عليه مع الخصوص في إفراد الأنبياء وأممهم قوله تعالى : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 7 \ 59 ] ، وقوله تعالى : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 7 \ 65 ] ، وقوله تعالى : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 7 \ 73 ] ، وقوله : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 7 \ 85 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم أن كل ما عبد من دون الله ، فهو طاغوت ، ولا تنفع عبادة الله إلا بشرط اجتناب عبادة ما سواه ; كما بينه تعالى بقوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد [ ص: 375 ] استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 265 ] ، وقوله : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الأمم التي بعث فيها الرسل بالتوحيد منهم سعيد ، ومنهم شقي . فالسعيد منهم : يهديه الله إلى اتباع ما جاءت به الرسل ، والشقي منهم : يسبق عليه الكتاب فيكذب الرسل ، ويكفر بما جاءوا به . فالدعوة إلى دين الحق عامة ، والتوفيق للهدى خاص ; كما قال تعالى : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، فقوله : فمنهم [ 16 \ 36 ] ، أي : من الأمم المذكورة في قوله : في كل أمة رسولا ، وقوله : من هدى الله ، أي : وفقه لاتباع ما جاءت به الرسل . والضمير المنصوب الذي هو رابط الصلة بالموصول محذوف ، أي : فمنهم من هداه الله . على حد قوله في الخلاصة :
والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب بفعل أو وصف كمن نرجو يهب .
وقوله : ومنهم من حقت عليه الضلالة [ 16 \ 36 ] ، أي : وجبت عليه ولزمته ; لما سبق في علم الله من أنه يصير إلى الشقاوة . والمراد بالضلالة : الذهاب عن طريق الإسلام إلى الكفر .
وقد بين تعالى هذا المعنى في آيات أخر ; كقوله : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، وقوله : فمنهم شقي وسعيد [ 11 \ 105 ] ، وقوله : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 78 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-07, 01:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (165)
سُورَةُ النَّحْلِ(11)
صـ 376 إلى صـ 380
قوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية : أن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إسلام قومه لا يهدي من سبق في علم الله أنه شقي .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] ، وقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] ، وقوله : من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون [ 7 \ 186 ] [ ص: 376 ] وقوله : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقرأ هذا الحرف نافع ، وابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمر : فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] ، بضم الياء وفتح الدال ; ومن " يهدي " مبنيا للمفعول . وقوله : من نائب الفاعل . والمعنى : أن من أضله الله لا يهدى ، أي : لا هادي له .
وقرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي بفتح الياء وكسر الدال ، من " يهدي " ، مبنيا للفاعل . وقوله : من ، مفعول به لـ يهدي ، والفاعل ضمير عائد إلى الله تعالى . والمعنى : أن من أضله الله لا يهديه الله . وهي على هذه القراءة فيمن سبقت لهم الشقاوة في علم الله ; لأن غيرهم قد يكون ضالا ثم يهديه الله كما هو معروف .
وقال بعض العلماء : لا يهدي من يضل ما دام في إضلاله له ; فإن رفع الله عنه الضلالة هذه فلا مانع من هداه . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار حلفوا جهد أيمانهم - أي : اجتهدوا في الحلف - وغلظوا الأيمان على أن الله لا يبعث من يموت . وكذبهم الله - جل وعلا - في ذلك بقوله : بلى وعدا عليه حقا [ 16 \ 38 ] ، وكرر في آيات كثيرة هذا المعنى المذكور هنا من إنكارهم للبعث وتكذيبه لهم في ذلك ، كقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن الآية [ 64 \ 7 ] ، وقوله : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، وقوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 ، 79 ] ، وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
وقوله : بلى [ 16 \ 38 ] ، نفي لنفيهم البعث كما قدمنا . وقوله : وعدا ، مصدر مؤكد لما دلت عليه " بلى " ; لأن " ، بلى " تدل على نفي قولهم : لا يبعث الله من يموت . ونفي هذا النفي إثبات ، معناه : لتبعثن . وهذا البعث المدلول على إثباته بلفظة : " بلى " فيه معنى وعد الله بأنه سيكون . فقوله : وعدا [ 16 \ 38 ] مؤكد له .
وقوله : حقا مصدر أيضا ، أي : وعد الله بذلك وعدا ، وحقه حقا ، وهو [ ص: 377 ] مؤكد أيضا لما دلت " بلى " ، واللام في قوله : ليبين لهم الذي يختلفون فيه [ 16 \ 39 ] ، وفي قوله : وليعلم الذين كفروا الآية [ 16 \ 39 ] ، تتعلق بقوله : " بلى " ، أي : يبعثهم ليبين لهم . . إلخ . والضمير في قوله : لهم عائد إلى من يموت ; لأنه شامل للمؤمنين والكافرين .
وقال بعض العلماء : اللام في الموضعين تتعلق بقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، أي : بعثناه ليبين لهم . . إلخ ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه لا يتعاصى على قدرته شيء ، وإذ يقول للشيء : " كن " ، فيكون بلا تأخير . وذلك أن الكفار لما : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] ، ورد الله عليهم كذبهم بقوله : بلى وعدا عليه حقا ، بين أنه قادر على كل شيء ، وأنه كلما قال لشيء " كن " كان .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في الرد على من قال : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] .
وبين أنه لا يحتاج أن يكرر قوله : " كن " ، بل إذا قال للشيء " كن " مرة واحدة ، كان في أسرع من لمح البصر ، في قوله : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [ 54 \ 50 ] ، ونظيره قوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير [ 16 \ 77 ] ، وقال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الآية [ 3 \ 59 ] ، وقال : خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [ 31 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعبر تعالى عن المراد قبل وقوعه باسم الشيء ; لأن تحقق وقوعه كالوقوع بالفعل ، فلا تنافي الآية إطلاق الشيء على خصوص الموجود دون المعدوم ; لأنه لما سبق في علم الله أنه يوجد ذلك الشيء ، وأنه يقول له كن فيكون كان تحقق وقوعه بمنزلة وقوعه ; أو لأنه أطلق عليه اسم الشيء باعتبار وجوده المتوقع ، كتسمية العصير خمرا في قوله : إني أراني أعصر خمرا [ 12 \ 36 ] ، نظرا إلى ما يؤول إليه في ثاني حال . وقرأ هذا الحرف ابن عامر والكسائي " فيكون " [ 16 \ 40 ] ، بفتح النون منصوبا بالعطف على قوله : أن نقول . وقيل : [ ص: 378 ] منصوب بأن المضمرة بعد الفاء في جواب الأمر . وقرأ الباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهو يكون . ولقد أجاد من قال :
إذا ما أراد الله أمرا فإنما يقول له كن قولة فيكون
واللام في قوله : " لشيء " ، وقوله : " له " للتبليغ . قاله أبو حيان .
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه لم يرسل قبله - صلى الله عليه وسلم - من الرسل إلا رجالا ، أي : لا ملائكة . وذلك أن الكفار استغربوا جدا بعث الله رسلا من البشر ، وقالوا : الله أعظم من أن يرسل بشرا يأكل الطعام ، ويمشي في الأسواق ; فلو كان مرسلا أحدا حقا لأرسل ملائكة كما بينه تعالى في آيات كثيرة ، كقوله : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 2 ] ، وقوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم الآية [ 50 \ 2 ] ، وقوله : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ 25 \ 7 ] ، وقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، وقوله : ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] ، وقوله ، أبشرا منا واحدا نتبعه . . . الآية [ 54 \ 24 ] ، وقوله : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين [ 23 \ 24 ] ، وقوله : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ - 34 ] ، وقوله : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد بين الله - جل وعلا - في آيات كثيرة : أن الله ما أرسل لبني آدم إلا رسلا من البشر ، وهم رجال يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، ويتزوجون ، ونحو ذلك من صفات البشر ; كقوله هنا : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون الآية [ 16 \ 43 ] ، وقوله : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ، وقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] ، [ ص: 379 ] وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 21 \ 7 ، 8 ] ، وقوله : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] ، وقوله : قل ما كنت بدعا من الرسل . . . الآية [ 46 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقرأ جمهور القراء هذا الحرف : " يوحى إليهم " بالياء المثناة التحتية ، وفتح الحاء مبنيا للمفعول . وقرأه حفص عن عاصم " نوحي إليهم " [ 16 \ 43 ] ، بالنون وكسر الحاء مبنيا للفاعل . وكذلك قوله في آخر سورة " يوسف " : " إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " [ 12 \ 109 ] ، وأول " الأنبياء : " إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر . . " الآية [ 21 \ 7 ] . كل هذه المواضع قرأ فيها حفص وحده بالنون وكسر الحاء . . . والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضا . وأما الثانية : في " سورة الأنبياء " وهي قوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون الآية [ 21 \ 25 ] .
فقد قرأه بالنون وكسر الحاء حمزة والكسائي وحفص . والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضا . وحصر الرسل في الرجال في الآيات المذكورة لا ينافي أن من الملائكة رسلا ; كما قال تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس [ 22 \ 75 ] ، وقال : الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا الآية [ 35 \ 1 ] ; لأن الملائكة يرسلون إلى الرسل ، والرسل ترسل إلى الناس . والذي أنكره الكفار هو إرسال الرسل إلى الناس ، وهو الذي حصر الله فيه الرسل في الرجال من الناس ، فلا ينافي إرسال الملائكة للرسل بالوحي ، ولقبض الأرواح ، وتسخير الرياح والسحاب ، وكتب أعمال بني آدم ، وغير ذلك ; كما قال تعالى : فالمدبرات أمرا [ 79 \ 5 ] .
تنبيه .
يفهم من هذه الآيات أن الله لم يرسل امرأة قط ; لقوله : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا [ 16 \ 43 ] ، ويفهم من قوله : فاسألوا أهل الذكر [ 16 \ 43 ] أن من جهل الحكم : يجب عليه سؤال العلماء والعمل بما أفتوه به . والمراد بأهل الذكر في الآية : أهل الكتاب ، وهذه الأمة أيضا يصدق عليها أنها أهل الذكر ; لقوله : إنا نحن نزلنا الذكر . . . الآية [ 15 \ 9 ] ، إلا أن المراد في الآية أهل الكتاب . والباء في قوله : [ ص: 380 ] بالبينات والزبر [ 16 \ 44 ] ، قيل : تتعلق بـ " ما أرسلنا " داخلا تحت حكم الاستثناء مع " رجالا " ، أي : وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات ، كقولك : ما ضربت إلا زيدا بالسوط ; لأن أصله ضربت زيدا بالسوط . وقيل : تتعلق بقوله : " رجالا " صفة له ، أي : رجالا متلبسين بالبينات . وقيل : تتعلق بـ " أرسلنا " مضمرا دل عليه ما قبله . كأنه قيل : بم أرسلوا ؟ قيل : بالبينات . وقيل : تتعلق ب " نوحي " ، أي : نوحي إليهم بالبينات ; قاله صاحب الكشاف . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ، المراد بالذكر في هذه الآية : القرآن ; كقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .
وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية حكمتين من حكم إنزال القرآن على النبي - صلى الله عليه وسلم - :
إحداهما : أن يبين للناس ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأوامر والنواهي ، والوعد والوعيد ، ونحو ذلك . وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضا ; كقوله : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه [ 16 \ 64 ] ، وقوله إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس الآية [ 4 \ 105 ] .
الحكمة الثانية : هي التفكر في آياته والاتعاظ بها ; كما قال هنا : ولعلهم يتفكرون [ 16 \ 44 ] ، وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضا ; كقوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] ، وقوله : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، وقوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-07, 01:37 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (166)
سُورَةُ النَّحْلِ(12)
صـ 381 إلى صـ 385
قوله تعالى : أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون .
أنكر الله - جل وعلا - على الذين يعملون السيئات من الكفر والمعاصي ، ومع ذلك يأمنون عذاب الله ولا يخافون أخذه الأليم ، وبطشه الشديد ، وهو قادر على أن يخسف بهم الأرض ، ويهلكهم بأنواع العذاب . والخسف : بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل ; كما فعل الله بقارون ، قال الله تعالى فيه : فخسفنا به وبداره الأرض الآية [ 28 \ 81 ] ، وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة ; كقوله : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في [ ص: 381 ] السماء الآية [ 67 \ 16 ، 17 ] ، وقوله : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا [ 17 \ 68 ] ، وقوله : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 \ 99 ] ، وقد قدمنا طرفا من هذه في أول " سورة الأعراف " .
واختلف العلماء في إعراب : " السيئات " [ 16 \ 45 ] ، في هذه الآية الكريمة ; فقال بعض العلماء : نعت لمصدر محذوف ، أي : مكروا المكرات السيئات ، أي : القبيحات قبحا شديدا ; كما ذكر الله عنهم في قوله : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية [ 8 \ 30 ] ، وقال بعض العلماء : مفعول به لـ " مكروا " على تضمين " مكروا " معنى فعلوا . وهذا أقرب أوجه الإعراب عندي . وقيل : مفعول به لـ " أمن " ، أي : أأمن الماكرون السيئات ، أي : العقوبات الشديدة التي تسوءهم عند نزولها بهم . ذكر الوجه الأول : الزمخشري ، والأخيرين ابن عطية . وذكر الجميع أبو حيان في " البحر المحيط " .
تنبيه .
كل ما جاء في القرآن من همزة استفهام بعدها واو العطف أو فاؤه ; كقوله : أفنضرب عنكم الذكر صفحا [ 43 \ 5 ] ، أفلم يروا إلى ما بين أيديهم [ 34 \ 9 ] ، أفلم تكن آياتي تتلى عليكم [ 45 \ 31 ] ، إلخ ، وفيه وجهان معروفان عند علماء العربية : أحدهما : أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة ما بعدها على محذوف دل المقام عليه ; كقولك مثلا : أنمهلكم فنضرب عنكم الذكر صفحا ؟ أعموا فلم يروا إلى ما بين أيديهم ؟ ألم تأتكم آياتي أفلم تكن تتلى عليكم ؟ وهكذا وإلى هذا الوجه أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح وعطفك الفعل على الفعل يصح
ومحل الشاهد في الشطر الأول دون الثاني .
الوجه الثاني : أن الفاء والواو كلتاهما عاطفة للجملة المصدرة بهمزة الاستفهام على ما قبلها ; إلا أن همزة الاستفهام تزحلقت عن محلها فتقدمت على الفاء والواو ; وهي متأخرة عنهما في المعنى ، وإنما تقدمت لفظا عن محلها معنى ; لأن الاستفهام له صدر الكلام .
[ ص: 382 ] فبهذا تعلم : أن في قوله تعالى في هذه الآية التي هي قوله : أفأمن الذين مكروا السيئات الآية [ 16 \ 45 ] ، الوجهين المذكورين ; فعلى الأول : فالمعنى أجهل الذين مكروا السيئات وعيد الله بالعقاب ؟ أفأمن الذين مكروا السيئات ، إلخ . وعلى الثاني فالمعنى فأأمن الذين مكروا السيئات ; فالفاء عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام ، والأول : هو الأظهر . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : رحيم أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء الآية ، تقدم بيان هذه الآية وأمثالها من الآيات في " سورة الرعد " .
قوله تعالى : وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون . نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة جميع البشر عن أن يعبدوا إلها آخر معه ، وأخبرهم أن المعبود المستحق لأن يعبد وحده واحد ، ثم أمرهم أن يرهبوه ، أي : يخافونه وحده ; لأنه هو الذي بيده الضر والنفع ، لا نافع ولا ضار سواه .
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين [ 51 \ 50 - 51 ] ، وقوله : الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد [ 50 \ 26 ] ، وقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] ، وقوله : ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] .
وبين - جل وعلا - في مواضع أخر : استحالة تعدد الألهة عقلا ; كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، وقوله : وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ 23 \ 91 - 92 ] ، وقوله : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 \ 42 ] ، والآيات بعبادته وحده كثيرة جدا ، فلا نطيل بها الكلام . وقدم المفعول في قوله : وإياي فارهبون ، للدلالة على الحصر . وقد تقرر في الأصول في مبحث " مفهوم المخالفة " ، وفي المعاني في مبحث القصر " : أن تقديم المعمول من صيغ الحصر . أي : خافون وحدي ولا تخافوا سواي . وهذا الحصر المشار إليه هنا بتقديم المعمول بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ; كقوله : فلا تخشوا الناس واخشون الآية [ 5 \ 44 ] ، وقوله : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله [ ص: 383 ] الآية [ 33 \ 39 ] ، وقوله : إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله الآية [ 9 \ 18 ] ، وقوله : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 175 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وله الدين واصبا ، الدين هنا : الطاعة . ومنه سميت أوامر الله ونواهيه دينا ; كقوله : إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، وقوله : ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وقوله : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ 3 \ 85 ] .
والمراد بالدين في الآيات : طاعة الله بامتثال جميع الأوامر ، واجتناب جميع النواهي . ومن الدين بمعنى الطاعة : قول عمرو بن كلثوم في معلقته :
وأيام لنا غر كرام عصينا الملك فيها أن ندينا
أي : عصيناه وامتنعنا أن ندين له ، أي : نطيعه . وقوله واصبا [ 16 \ 52 ] ، أي : دائما ، أي : له - جل وعلا - : الطاعة والذل والخضوع دائما ; لأنه لا يضعف سلطانه ، ولا يعزل عن سلطانه ، ولا يموت ولا يغلب ، ولا يتغير له حال بخلاف ملوك الدنيا ; فإن الواحد منهم يكون مطاعا له السلطنة والحكم ، والناس يخافونه ويطمعون فيما عنده برهة من الزمن ، ثم يعزل أو يموت ، أو يذل بعد عز ، ويتضع بعد رفعة ; فيبقى لا طاعة له ولا يعبأ به أحد ، فسبحان من لم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، ولم يكن له ولي من الذل ، وكبره تكبيرا .
وهذا المعنى الذي أشار إليه مفهوم الآية بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ; كقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء [ 3 \ 26 ] ، وقوله تعالى : خافضة رافعة [ 56 \ 3 ] ; لأنها ترفع أقواما كانت منزلتهم منخفضة في الدنيا ، وتخفض أقواما كانوا ملوكا في الدنيا ، لهم المكانة الرفيعة ، وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .
ونظير هذه الآية المذكورة قوله : ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب [ 37 \ 8 - 9 ] ، أي : دائم . وقيل : عذاب موجع مؤلم ، والعرب تطلق الوصب على المرض ، وتطلق الوصوب على الدوام . وروي عن ابن عباس : أنه لما سأله نافع بن الأزرق عن قوله تعالى : وله الدين واصبا [ 16 \ 52 ] ، قال له : الواصب : الدائم ، واستشهد له بقول أمية بن أبي الصلت الثقفي : [ ص: 384 ]
وله الدين واصبا وله الملك وحمد له على كل حال
ومنه قول الدؤلي :
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وممن قال : بأن معنى الواصب في هذه الآية الدائم : ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وميمون بن مهران ، والسدي ، وقتادة ، والحسن ، والضحاك ، وغيرهم . وروي عن ابن عباس أيضا " واصبا " : أي : واجبا . وعن مجاهد أيضا : " واصبا " : أي : خالصا . وعلى قول مجاهد هذا ، فالخبر بمعنى الإنشاء ; أي : ارهبوا أن تشركوا بي شيئا ، وأخلصوا لي الطاعة - وعليه فالآية كقوله : أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون [ 3 \ 83 ] ، وقوله : ألا لله الدين الخالص [ 39 \ 3 ] ، وقوله : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، وقوله : " واصبا " [ 16 \ 52 ] ، حال عمل فيه الظرف .
وقوله تعالى : أفغير الله تتقون ، أنكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة على من يتقي غيره ; لأنه لا ينبغي أن يتقى إلا من بيده النفع كله والضر كله ; لأن غيره لا يستطيع أن ينفعك بشيء لم يرده الله لك ، ولا يستطيع أن يضرك بشيء لم يكتبه الله عليك .
وقد أشار تعالى هنا إلى أن إنكار اتقاء غير الله ; لأجل أن الله هو الذي يرجى منه النفع ، ويخشى منه الضر ، ولذلك أتبع قوله : أفغير الله تتقون [ 16 \ 52 ] ، بقوله : وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ 16 \ 53 ] ، ومعنى " تجأرون " : ترفعون أصواتكم بالدعاء والاستغاثة عند نزول الشدائد ; ومنه قول الأعشى أو النابغة يصف بقرة :
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة وكان النكير أن تضيف وتجأرا
وقول الأعشى :
يراوح من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا
ومنه قوله تعالى : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون [ 23 \ 64 - 65 ] ، وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء [ ص: 385 ] قدير [ 6 \ 17 ] ، وقوله : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده الآية [ 10 \ 107 ] ، وقوله : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده الآية [ 35 \ 2 ] ، وقوله : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا الآية [ 9 \ 51 ] ، وقوله : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته الآية [ 39 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد " . وفي حديث ابن عباس المشهور : " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " .
قوله تعالى : ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن بني آدم إذا مسهم الضر دعوا الله وحده مخلصين له الدين ; فإذا كشف عنهم الضر ، وأزال عنهم الشدة : إذا فريق منهم وهم الكفار يرجعون في أسرع وقت إلى ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي . وقد كرر - جل وعلا - هذا المعنى في القرآن ; كقوله في " يونس " : حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين [ 10 \ 22 ] ، إلى قوله : إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق [ 10 \ 23 ] ، وقوله " في الإسراء " : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا [ 17 \ 67 ] ، وقوله في آخر " العنكبوت " : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، وقوله في " الأنعام " : قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [ 6 \ 64 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا هذا في " سورة الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله [ 6 \ 40 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-07, 01:41 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (167)
سُورَةُ النَّحْلِ(13)
صـ 386 إلى صـ 390
قوله تعالى : فتمتعوا فسوف تعلمون ، صيغة الأمر في قوله : فتمتعوا [ 16 \ 55 ] ، للتهديد . وقد تقرر في " فن المعاني ، في مبحث الإنشاء " وفي " فن الأصول ، في مبحث الأمر " : أن من المعاني التي تأتي لها صيغة إفعل التهديد ; كقوله هنا : فتمتعوا [ ص: 386 ] فسوف تعلمون ، وتشهد لهذا المعنى آيات أخر ; كقوله . قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] ، وقوله : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار [ 14 \ 30 ] ، وقوله : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [ 43 \ 83 ، 70 \ 42 ] ، وقوله : كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون [ 77 \ 46 ] ، وقوله : فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون [ 52 \ 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ، في ضمير الفاعل في قوله : لما لا يعلمون [ 16 \ 56 ] ، وجهان :
أحدهما : أنه عائد إلى الكفار ، أي : ويجعل الكفار للأصنام التي لا يعلمون أن الله أمر بعبادتها ، ولا يعلمون أنها تنفع عابدها أو تضر عاصيها - نصيبا إلخ ; كقوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير [ 22 \ 71 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وقال صاحب الكشاف : ومعنى كونهم لا يعلمونها :
أنهم يسمونها آلهة ، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع ، وتشفع عند الله ; وليس كذلك وحقيقتها أنها جماد ، لا يضر ولا ينفع ; فهم إذا جاهلون بها .
الوجه الثاني : أن واو " يعلمون " [ 16 \ 56 ] ، واقعة على الأصنام ; فهي جماد لا يعلم شيئا ، أي : ويجعلون للأصنام الذين لا يعلمون شيئا لكونهم جمادا - نصيبا إلخ . وهذا الوجه كقوله : أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [ 16 \ 21 ] ، وقوله : فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ 10 \ 29 ] ، وقوله : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها الآية [ 7 \ 195 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وعلى هذا القول فالواو راجعة إلى " ما " من قوله " لما لا يعلمون " ، وعبر عنهم بـ " ما " التي هي لغير العاقل ; لأن تلك المعبودات التي جعلوا لها من رزق الله نصيبا جماد لا تعقل شيئا . وعبر بالواو في " لا يعلمون " على هذا القول لتنزيل الكفار لها منزلة العقلاء في زعمهم أنها تشفع ، وتضر وتنفع .
وإذا عرفت ذلك : فاعلم أن هذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة بينه تعالى في [ ص: 387 ] غير هذا الموضع ; كقوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون [ 6 \ 136 ] ، وذلك أن الكفار كانوا إذا حرثوا حرثا ، أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منها جزءا ، وللوثن جزءا ; فما جعلوا من نصيب الأوثان حفظوه ، وإن اختلط به شيء مما جعلوه لله ردوه إلى نصيب الأصنام ، وإن وقع شيء مما جعلوه لله في نصيب الأصنام تركوه فيه ، وقالوا : الله غني والصنم فقير . وقد أقسم - جل وعلا - : على أنه يسألهم يوم القيامة عن هذا الافتراء والكذب ، وهو زعمهم أن نصيبا مما خلق الله للأوثان التي لا تنفع ولا تضر في قوله : تالله لتسألن عما كنتم تفترون [ 16 \ 56 ] ، وهو سؤال توبيخ وتقريع .
قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ، قوله : ويجعلون ، أي : يعتقدون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعتقدون أن لله بنات إناثا ، وذلك أن خزاعة وكنانة كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ; كما بينه تعالى بقوله : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا الآية [ 43 \ 19 ] ، فزعموا لله الأولاد ، ومع ذلك زعموا له أخس الولدين وهو الأنثى ، فالإناث التي جعلوها لله يكرهونها لأنفسهم ويأنفون منها ; كما قال تعالى عنهم : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا [ 16 \ 58 ] ، أي ; لأن شدة الحزن والكآبة تسود لون الوجه : وهو كظيم [ 16 \ 58 ] ، أي : ممتلئ حزنا وهو ساكت . وقيل : ممتلئ غيظا على امرأته التي ولدت له الأنثى : يتوارى من القوم من سوء ما بشر به [ 16 \ 59 ] ، أي : يختفي من أصحابه من أجل سوء ما بشر به لئلا يروا ما هو فيه من الحزن والكآبة ، أو لئلا يشمتوا به ويعيروه . ويحدث نفسه وينظر : أيمسكه ، أي : ما بشر به وهو الأنثى ، على هون [ 16 \ 59 ] ، أي : هوان وذل . أم يدسه [ 16 \ 59 ] ، في التراب : أي : يدفن المذكور الذي هو الأنثى حيا في التراب ، يعني : ما كانوا يفعلون بالبنات من الوأد وهو دفن البنت حية ، كما قال تعالى : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت [ 81 \ 8 - 9 ] .
وأوضح - جل وعلا - هذه المعاني المذكورة في هذه الآيات في مواضع أخر ، فبين أن [ ص: 388 ] جعلهم الإناث لله ، أو الذكور لأنفسهم قسمة غير عادلة ، وأنها من أعظم الباطل .
وبين أنه لو كان متخذا ولدا - سبحانه وتعالى - عن ذلك ! ; لاصطفى أحسن النصيبين ، ووبخهم على أن جعلوا له أخس الولدين ، وبين كذبهم في ذلك ، وشدة عظم ما نسبوه إليه . كل هذا ذكره في مواضع متعددة ; كقوله : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 ] ، وقوله : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف [ 37 \ 151 - 154 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين [ 43 \ 16 ] ، وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار [ 39 \ 4 ] ، وقوله : أم له البنات ولكم البنون [ 52 \ 39 ] ، وقال - جل وعلا - : ويجعلون لله ما يكرهون [ 16 \ 62 ] ، وقال : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ، وقال : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 43 \ 17 ] .
وبين شدة عظم هذا الافتراء ، بقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] ، وقوله : إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية : ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] ، مبتدأ وخبر . وذكر الزمخشري والفراء وغيرهما : أنه يجوز أن تكون " ما " [ 16 \ 59 ] في محل نصب عطفا على " البنات " [ 16 \ 57 ] ، أي : ويجعلون لله البنات ، ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون . أورد إعرابه بالنصب الزجاج ، وقال : العرب تستعمل في مثل هذا ويجعلون لأنفسهم ; قاله القرطبي . وقال أبو حيان " في البحر المحيط " : قال الزمخشري : ويجوز في " ما " في " ما يشتهون " الرفع على الابتداء ، والنصب على أن يكون معطوفا على " البنات " ، أي : وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور . انتهى . وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي وقال أبو البقاء وقد حكاه : وفيه نظر . وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو [ ص: 389 ] وهي : أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدى إلى ضميره المتصل المنصوب .
; فلا يجوز : زيد ضربه ، أي : زيدا . تريد ضرب نفسه ، إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية ، أو فقد وعدم ; فيجوز : زيد ظنه قائما ، وزيد فقده ، وزيد عدمه . والضمير المجرور بالحرف كالمنصوب المتصل ; فلا يجوز : زيد غضب عليه ، تريد غضب على نفسه . فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب ; إذ يكون التقدير : ويجعلون لهم ما يشتهون . فالواو ضمير مرفوع " ولهم " [ 16 \ 57 ] مجرور باللام . فهو نظير : زيد غضب عليه . اه . والبشارة تطلق في العربية على الخبر بما يسر ، وبما يسوء . ومن إطلاقها على الخبر بما يسوء قوله هنا : وإذا بشر أحدهم بالأنثى الآية [ 16 \ 58 ] ، ونظيره قوله تعالى : فبشرهم بعذاب أليم [ 53 \ 21 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : من بغضهم للبنات مشهور معروف في أشعارهم ; ولما خطبت إلى عقيل بن علفة المري ابنته الجرباء قال :
إني وإن سيق إلي المهر ألف وعبدان وذود عشر أحب أصهاري إلي القبر
ويروى لعبد الله بن طاهر قوله :
لكل أبي بنت يراعى شؤونها ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر
فبعل يراعيها وخدر يكنها وقبر يواريها وخيرهم القبر
وهم يزعمون أن موجب رغبتهم في موتهن ، وشدة كراهيتهم لولادتهن : الخوف من العار ، وتزوج غير الأكفاء ، وأن تهان بناتهم بعد موتهم ; كما قال الشاعر في ابنة له تسمى مودة :
مودة تهوى عمر شيخ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده ولا ختن يرجى أود من القبر
قوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه لو عاجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ; لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة ، ورب السماوات والأرض لا يفوته شيء أراده . وذكر هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله في آخر سورة " فاطر " : ولو يؤاخذ [ ص: 390 ] الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة الآية [ 35 \ 45 ] ، وقوله : وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب الآية [ 18 \ 58 ] ، وأشار بقوله : ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى [ 16 \ 61 ] ، إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل . وبين ذلك في غير هذا الموضع ; كقوله : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] ، وقوله : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب [ 29 \ 53 ] .
وبين هنا : أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه ، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله . وأوضح ذلك في مواضع أخر ; كقوله : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 71 \ 4 ] ، وقوله : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم : أن قوله تعالى : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 61 ] ، فيه وجهان من العلماء :
واعلم أنه خاص بالكفار ; لأن الذنب ذنبهم ، والله يقول : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] ، ومن قال هذا القول قال : " من دابة " [ 16 \ 61 ] ، أي : كافرة ، ويروى هذا عن ابن عباس . وقيل : المعنى أنه لو أهلك الأباء بكفرهم لم تكن الأبناء .
وجمهور العلماء ، منهم ابن مسعود ، وأبو الأحوص ، وأبو هريرة ، وقال الآخر :
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
وقد ولدت امرأة أعرابي أنثى ، فهجرها لشدة غيظه من ولادتها أنثى ، فقالت :
ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل بالبيت الذي يلينا
غضبان إلا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ما شينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-07, 01:45 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (168)
سُورَةُ النَّحْلِ(14)
صـ 391 إلى صـ 395
تنبيه .
لفظة " جعل " تأتي في اللغة العربية لأربعة معان :
الأول : بمعنى اعتقد ; كقوله - تعالى - هنا : ويجعلون لله البنات [ 16 \ 57 ] ، قال [ ص: 391 ] في الخلاصة :
وجعل اللذ كاعتقد
الثاني : بمعنى صير كما تقدم في الحجر ; كقوله : وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] ، قال في الخلاصة :
.... والتي كصيرا وأيضا بها انصب مبتدا وخبرا
الثالث : بمعنى خلق ; كقوله : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] ، أي : خلق الظلمات والنور .
الرابع : بمعنى شرع ; كقوله :
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر
قال في الخلاصة :
كأنشأ السائق يحدو وطفق كذا جعلت وأخذت وعلق
وقوله في هذه الآية الكريمة : سبحانه [ 16 \ 57 ] ، أي : تنزيها له - جل وعلا - عما لا يليق بكماله وجلاله ، وهو ما ادعوا له من البنات سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا !
وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره على أن الآية عامة ; حتى إن ذنوب بني آدم لتهلك الجعل في حجره ، والحبارى في وكرها ، ونحو ذلك ; لولا أن الله حليم لا يعجل بالعقوبة ، ولا يؤاخذهم بظلمهم .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذا القول هو الصحيح ; لما تقرر في الأصول من : أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها لفظة " من " تكون نصا صريحا في العموم . وعليه فقوله : " من دابة " يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة نصا .
وقال القرطبي في تفسيره : فإن قيل : فكيف يعم بالهلاك مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم ؟ قيل : يجعل هلاك الظالم انتقاما وجزاء ، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة .
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب العذاب من كان فيهم ، ثم بعثوا على أعمالهم " ، اه محل الغرض منه بلفظه . والأحاديث بمثله كثيرة معروفة .
وإذا ثبت في الأحاديث الصحيحة : أن العذاب إذا نزل بقوم عم الصالح والطالح ، [ ص: 392 ] فلا إشكال في شمول الهلاك للحيوانات التي لا تعقل . وإذا أراد الله إهلاك قوم أمر نبيهم ومن آمن منهم أن يخرجوا عنهم ; لأن الهلاك إذا نزل عم .
تنبيه .
قوله : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 61 ] ، الضمير في " عليها " ، راجع إلى غير مذكور وهو الأرض ; لأن قوله : من دابة يدل عليه ; لأن من المعلوم : أن الدواب إنما تدب على الأرض . ونظيره قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقوله : حتى توارت بالحجاب [ 38 \ 32 ] ، أي : الشمس ولم يجر لها ذكر ، ورجوع الضمير إلى غير مذكور يدل عليه المقام كثير في كلام العرب ; ومنه قول حميد بن ثور :
وصهباء منها كالسفينة نضجت به الحمل حتى زاد شهرا عديدها
فقوله : " صهباء منها " ، أي : من الإبل ، وتدل له قرينة " كالسفينة " مع أن الإبل لم يجر لها ذكر ، ومنه أيضا قول حاتم الطائي :
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فقوله : " حشرجت وضاق بها " يعني النفس ، ولم يجر لها ذكر ; كما تدل له قرينة " وضاق بها الصدر " ، ومنه أيضالبيد في معلقته :
حتى إذا ألقت يدا في كافر وأجن عورات الثغور ظلامها
فقوله : " ألقت " ، أي : الشمس ، ولم يجر لها ذكر ، ولكن يدل له قوله : وأجن عورات الثغور ظلامها .
لأن قوله : " ألقت يدا في كافر " ، أي : دخلت في الظلام . ومنه أيضا قول طرفة في معلقته :
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ألا ليتني أفديك منها وأفتدي
فقوله : " أفديك منها " ، أي : الفلاة ، ولم يجر لها ذكر ، ولكن قرينة سياق الكلام تدل عليها .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يؤاخذ الآية [ 16 \ 61 ] ، الظاهر أن المفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد ; فمعنى آخذ الناس يؤاخذهم : أخذهم بذنوبهم ; لأن المفاعلة [ ص: 393 ] تقتضي الطرفين . ومجيئها بمعنى المجرد مسموع نحو : سافر وعافى . وقوله : " يؤاخذ " [ 16 \ 61 ] ، إن قلنا : إن المضارع فيه بمعنى الماضي فلا إشكال . وإن قلنا : إنه بمعنى الاستقبال فهو على إيلاء لو المستقبل وهو قليل ; كقوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم [ 4 \ 9 ] ، وقول قيس بن الملوح :
ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ومن دون رمسينا من الأرض سبسب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
والجواب بحمله على المضي في الآية تكلف ظاهر ، ولا يمكن بتاتا في البيتين ، وأمثلته كثيرة في القرآن وفي كلام العرب . وقد أشار لذلك في الخلاصة بقوله :
لو حرف شرط في مضي ويقل إيلاؤها مستقبلا ، لكن قبل .
قوله تعالى : ويجعلون لله ما يكرهون ، أبهم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة هذا الذي يجعلونه لله ويكرهونه ; لأنه عبر عنه بـ " ما " الموصولة ، وهي اسم مبهم ، وصلة الموصول لن تبين من وصف هذا المبهم إلا أنهم يكرهونه . ولكنه بين في مواضع أخر : أنه البنات والشركاء وجعل المال الذي خلق لغيره ، قال في البنات : ويجعلون لله البنات [ 16 \ 57 ] ، ثم بين كراهيتها لها في آيات كثيرة ، كقوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى الآية [ 16 \ 61 ] .
وقال في الشركاء : وجعلوا لله شركاء الآية [ 6 \ 100 ] ، ونحوها من الآيات . وبين كراهيتهم للشركاء في رزقهم بقوله : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون [ 30 \ 28 ] ، أي : إذا كان الواحد منكم لا يرضى أن يكون عبده المملوك شريكا له مثل نفسه في جميع ما عنده ; فكيف تجعلون الأوثان شركاء لله في عبادته التي هي حقه على عباده ! وبين جعلهم بعض ما خلق الله من الرزق للأوثان في قوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ، إلى قوله : ساء ما يحكمون [ 16 \ 136 ] ، وقوله : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم [ 16 \ 56 ] ، كما تقدم .
قوله تعالى : وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يقولون بألسنتهم الكذب ; فيزعمون أن لهم الحسنى ، والحسنى تأنيث الأحسن ، قيل : المراد بها الذكور ; كما تقدم في قوله : ولهم ما يشتهون [ ص: 394 ] [ 16 \ 57 ] ، والحق الذي لا شك فيه : أن المراد بالحسنى : هو زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقا فسيكون لهم فيها أحسن نصيب كما كان لهم في الدنيا . ويدل على صحة هذا القول الأخير دليلان :
أحدهما : كثرة الآيات القرآنية المبينة لهذا المعنى ; كقوله تعالى عن الكافر : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] ، وقوله : وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقوله : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات الآية [ 23 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والدليل الثاني : أن الله أتبع قوله : أن لهم الحسنى [ 16 \ 62 ] ، بقوله : لا جرم أن لهم النار الآية [ 16 \ 62 ] ، فدل ذلك دلالة واضحة على ما ذكرنا ، والعلم عند الله . والمصدر المنسبك من " أن " ، وصلتها في قوله : أن لهم الحسنى [ 16 \ 62 ] في محل نصب ، بدل من قوله الكذب ، ومعنى وصف ألسنتهم الكذب قولها للكذب صريحا لا خفاء به .
وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب [ 16 \ 116 ] ، ما نصه : فإن قلت : ما معنى وصف ألسنتهم الكذب ؟ قلت : هو من فصيح الكلام وبليغه ، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه ; فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته ، وصورته بصورته . كقولهم : وجهها يصف الجمال ، وعينها تصف السحر . اه .
قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون ، في هذا الحرف قراءتان سبعيتان ، وقراءة ثالثة غير سبعية . قرأه عامة السبعة ما عدى نافعا : مفرطون ، بسكون الفاء وفتح الراء بصيغة اسم المفعول ; من أفرطه . وقرأ نافع بكسر الراء بصيغة اسم الفاعل ; من أفرط . والقراءة التي ليست بسبعية بفتح الفاء وكسر الراء المشددة بصيغة اسم الفاعل من فرط المضعف ، وتروى هذه القراءة عن أبي جعفر . وكل هذه القراءات لها مصداق في كتاب الله .
أما على قراءة الجمهور : مفرطون ، بصيغة المفعول فهو اسم مفعول أفرطه : إذا [ ص: 395 ] نسيه وتركه غير ملتفت إليه ; فقوله : مفرطون ، أي : متروكون منسيون في النار . ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا [ 7 \ 51 ] ، وقوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد الآية [ 32 \ 14 ] ، وقوله : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار الآية [ 45 \ 34 ] ، فالنسيان في هذه الآيات معناه : الترك في النار . أما النسيان بمعنى زوال العلم : فهو مستحيل على الله ; كما قال تعالى : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ، وقال : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] .
وممن قال بأن معنى : مفرطون ، منسيون متركون في النار : مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وابن الأعرابي ، وأبو عبيدة ، والفراء ، وغيرهم .
وقال بعض العلماء : معنى قوله : مفرطون ، على قراءة الجمهور : أي : مقدمون إلى النار معجلون ; من أفرطت فلانا وفرطته في طلب الماء ، إذا قدمته ، ومنه حديث : " أنا فرطكم على الحوض " ، أي : متقدمكم . ومنه قول القطامي : فاستعجلونا وكانوا من صحابتنا كما تقدم فراط لرواد .
وقول الشنفرى :
هممت وهمت فابتدرنا وأسبلت وشمر مني فارط متمهل
أي : متقدم إلى الماء . وعلى قراءة نافع فهو اسم فاعل أفرط في الأمر : إذا أسرف فيه وجاوز الحد . ويشهد لهذه القراءة قوله : وأن المسرفين هم أصحاب النار [ 40 \ 43 ] ، ونحوها من الآيات . وعلى قراءة أبي جعفر ، فهو اسم فاعل ، فرط في الأمر : إذا ضيعه وقصر فيه ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله الآية [ 39 \ 56 ] ، فقد عرفت أوجه القراءات في الآية ، وما يشهد له القرآن منها .
وقوله : لا جرم ، أي : حقا أن لهم النار . وقال القرطبي في تفسيره : لا رد لكلامهم وتم الكلام ، أي : ليس كما تزعمون وجرم أن لهم النار حقا أن لهم النار ! وقال بعض العلماء : " لا " صلة ، و " جرم " بمعنى كسب ; أي : كسب لهم عملهم أن لهم النار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-07, 01:49 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (169)
سُورَةُ النَّحْلِ(15)
صـ 396 إلى صـ 400
قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ، بين - جل وعلا - في هذه الآية [ ص: 396 ] الكريمة : أن في الأنعام عبرة دالة على تفرد من خلقها ، وأخلص لبنها من بين فرث ودم ; بأنه هو وحده المستحق لأن يعبد ، ويطاع ولا يعصى . وأوضح هذا المعنى أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون [ 23 \ 21 ] ، وقوله : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون [ 16 \ 5 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] ، وقوله : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت [ 88 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد دلت الآيات المذكورة على أن الأنعام يصح تذكيرها وتأنيثها ; لأنه ذكرها هنا في قوله : نسقيكم مما في بطونه [ 16 \ 66 ] ، وأنثها في " سورة : قد أفلح المؤمنون " في قوله : نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة [ 23 \ 21 ] ، ومعلوم في العربية : أن أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير نظرا إلى اللفظ ، والتأنيث نظرا إلى معنى الجماعة الداخلة تحت اسم الجنس . وقد جاء في القرآن تذكير الأنعام وتأنيثها كما ذكرناه آنفا . وجاء فيه تذكير النخل وتأنيثها ; فالتذكير في قوله : كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 20 ] ، والتأنيث في قوله : كأنهم أعجاز نخل خاوية [ 69 \ 7 ] ، ونحو ذلك . وجاء في القرآن تذكير السماء وتأنيثها ; فالتذكير في قوله : السماء منفطر به [ 73 \ 18 ] ، والتأنيث في قوله : والسماء بنيناها بأيد الآية [ 51 \ 47 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وهذا معروف في العربية ، ومن شواهده قول قيس بن الحصين الحارثي الأسدي وهو صغير في تذكير النعم :
في كل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وتنتجونه .
وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر وشعبة عن عاصم " نسقيكم " ، بفتح النون . والباقون بضمها ، كما تقدم بشواهده " في سورة الحجر " .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :
المسألة الأولى : استنبط القاضي إسماعيل من تذكير الضمير في قوله : مما في [ ص: 397 ] بطونه [ 16 \ 66 ] : أن لبن الفحل يفيد التحريم . وقال : إنما جيء به مذكرا ; لأنه راجع إلى ذكر النعم ; لأن اللبن للذكر محسوب ، ولذلك قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أن لبن الفحل يحرم " ، حيث أنكرته عائشة في حديث أفلح أخي أبي القعيس ، فللمرأة السقى ، وللرجل اللقاح ; فجرى الاشتراك فيه بينهما . اه . بواسطة نقل القرطبي .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أما اعتبار لبن الفحل في التحريم فلا شك فيه ، ويدل له الحديث المذكور في قصة عائشة مع أفلح أخي أبي القعيس ; فإنه متفق عليه مشهور . وأما استنباط ذلك من عود الضمير في الآية فلا يخلو عندي من بعد وتعسف . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية : استنبط النقاش وغيره من هذه الآية الكريمة : أن المني ليس بنجس ، قالوا : كما يخرج اللبن من بين الفرث والدم سائغا خالصا ، كذلك يجوز أن يخرج المني من مخرج البول طاهرا .
قال ابن العربي : إن هذا لجهل عظيم ، وأخذ شنيع ، اللبن جاء الخبر عنه مجيء النعمة والمنة الصادرة عن القدرة ، ليكون عبرة ; فاقتضى ذلك كله وصف الخلوص واللذة . وليس المني من هذه الحالة حتى يكون ملحقا به ، أو مقيسا عليه .
قال القرطبي بعد أن نقل الكلام المذكور : قلت : قد يعارض هذا بأن يقال : وأي منه أعظم وأرفع من خروج المني الذي يكون عنه الإنسان المكرم ؟ وقد قال تعالى : يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 7 ] ، وقال : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] ، وهذا غاية في الامتنان .
فإن قيل : إنه يتنجس بخروجه في مجرى البول .
قلنا : هو ما أردناه ; فالنجاسة عارضة وأصله طاهر . اه محل الغرض من كلام القرطبي .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وأخذ حكم طهارة المني من هذه الآية الكريمة لا يخلو عندي من بعد . وسنبين إن - شاء الله - حكم المني : هل هو نجس أو طاهر ، ؟ وأقوال العلماء في ذلك ، مع مناقشة الأدلة . اعلم : أن في مني الإنسان ثلاثة أقوال للعلماء : الأول : أنه طاهر ، وأن حكمه حكم النخامة والمخاط ; وهذا هو مذهب الشافعي ، وأصح الروايتين عن أحمد ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعطاء ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور ، وداود ، [ ص: 398 ] وابن المنذر ، وحكاه العبدري ، وغيره عن سعد بن أبي وقاص ، وابن عمر ، وعائشة - رضي الله عنهم - . كما نقله النووي في " شرح المهذب " وغيره .
القول الثاني : أنه نجس ، ولا بد في طهارته من الماء سواء كان يابسا أو رطبا ; وهذا هو مذهب مالك ، والثوري ، والأوزاعي .
القول الثالث : أنه نجس ، ورطبه لا بد له من الماء ، ويابسه لا يحتاج إلى الماء بل يطهر بفركه من الثوب حتى يزول منه ; وهذا هو مذهب أبي حنيفة . واختار الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : أنه نجس ، وأن إزالته لا تتوقف على الماء مطلقا .
أما حجة من قال إنه طاهر كالمخلط فهي بالنص والقياس معا ، ومعلوم في الأصول : أن القياس الموافق للنص لا مانع منه ; لأنه دليل آخر عاضد للنص ، ولا مانع من تعاضد الأدلة .
أما النص فهو ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يذهب فيصلي فيه " ، أخرجه مسلم في صحيحه ، وأصحاب السنن الأربعة والإمام أحمد . قالوا : فركها له يابسا ، وصلاته في الثوب من غير ذكر غسل دليل على الطهارة . وفي رواية عند أحمد : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر ، ثم يصلي فيه ، ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه . وفي رواية ، عن عائشة عند الدارقطني : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسا ، وأغسله إذا كان رطبا** " ، وعن إسحاق بن يوسف قال : حدثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب ; فقال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة " .
قال صاحب ( منتقى الأخبار ) بعد أن ساق هذا الحديث كما ذكرنا : رواه الدارقطني ، وقال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك . قلت : وهذا لا يضر ; لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين ، فيقبل رفعه وزيادته .
قال مقيده - عفا الله عنه - : ما قاله الإمام المجد - رحمه الله - ( في المنتقى ) من قبول رفع العدل وزيادته ، هو الصحيح عند أهل الأصول وأهل الحديث كما بيناه مرارا ، إلى غير ذلك من الأحاديث في فرك المني وعدم الأمر بغسله .
وأما القياس العاضد للنص فهو من وجهين : أحدهما : إلحاق المني بالبيض ; [ ص: 399 ] بجامع أن كلا منهما مائع يتخلق منه حيوان حي طاهر ، والبيض طاهر إجماعا ; فيلزم كون المني طاهرا أيضا .
قال مقيده - عفا الله عنه - : هذا النوع من القياس هو المعروف بالقياس الصوري ، وجمهور العلماء لا يقبلونه ، ولم يشتهر بالقول به إلا إسماعيل ابن علية ; كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
وابن علية يرى للصوري كالقيس للخيل على الحمير
وصور القياس الصوري المختلف فيها كثيرة ; كقياس الخيل على الحمير في سقوط الزكاة ، وحرمة الأكل للشبه الصوري . وكقياس المني على البيض لتولد الحيوان الطاهر من كل منهما في طهارته . وكقياس أحد التشهدين على الآخر في الوجوب أو الندب لتشابههما في الصورة . وكقياس الجلسة الأولى على الثانية في الوجوب لتشبهها بها في الصورة . وكإلحاق الهرة الوحشية بالإنسية في التحريم . وكإلحاق خنزير البحر وكلبه بخنزير البر وكلبه ، إلى غير ذلك من صوره الكثيرة المعروفة في الأصول . واستدل من قال بالقياس الصوري : بأن النصوص دلت على اعتبار المشابهة في الصورة في الأحكام ; كقوله : فجزاء مثل ما قتل من النعم [ 5 \ 95 ] ، والمراد المشابهة في الصورة على قول الجمهور . وكبدل القرض فإنه يرد مثله في الصورة . وقد استسلف - صلى الله عليه وسلم - بكرا ورد رباعيا كما هو ثابت في الصحيح . وكسروه - صلى الله عليه وسلم - بقول القائف المدلجي في زيد بن حارثة وابنه أسامة : " هذه الأقدام بعضها من بعض " ; لأن القيافة قياس صوري ; لأن اعتماد القائف على المشابهة في الصورة .
الوجه الثاني من وجهي القياس المذكور : إلحاق المني بالطين ، بجامع أن كلا منهما مبتدأ خلق بشر ; كما قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة الآية [ 23 \ 12 - 13 ] .
فإن قيل : هذا القياس يلزمه طهارة العلقة ، وهي الدم الجامد ; لأنها أيضا مبتدأ خلق بشر ، لقوله تعالى : ثم خلقنا النطفة علقة [ 23 \ 14 ] ، والدم نجس بلا خلاف .
فالجواب : أن قياس الدم على الطين في الطهارة فاسد الاعتبار ; لوجود النص بنجاسة الدم . أما قياس المني على الطين فليس بفاسد الاعتبار ; لعدم ورود النص بنجاسة المني .
[ ص: 400 ] وأما حجة من قال بأن المني نجس فهو بالنص والقياس أيضا . أما النص فهو ما ثبت عن عائشة - رضي الله عنه - قالت : " كنت أغسل المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يخرج إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه بقع الماء " ، متفق عليه . قالوا : غسلها له دليل على أنه نجس . وفي رواية عند مسلم عن عائشة بلفظ : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل المني ، ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب وأنا أنظر إلى أثر الغسل فيه " .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وهذه الرواية الثابتة في صحيح مسلم تقوي حجة من يقول بالنجاسة ; لأن المقرر في الأصول : أن الفعل المضارع بعد لفظة " كان " يدل على المداومة على ذلك الفعل ، فقول عائشة في رواية مسلم هذه : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغسل " ، تدل على كثرة وقوع ذلك منه ، ومداومته عليه ، وذلك يشعر بتحتم الغسل . وفي رواية عن عائشة في صحيح مسلم أيضا : أن رجلا نزل بها فأصبح يغسل ثوبه . فقالت عائشة : إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه . فإن لم تر نضحت حوله . ولقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركا فيصلي فيه . اه .
قالوا : هذه الرواية الثابتة في الصحيح عن عائشة ، صرحت فيها : بأنه إنما يجزئه غسل مكانه . وقد تقرر في الأصول ( في مبحث دليل الخطاب ) وفي المعاني ( في مبحث القصر ) : أن " إنما " من أدوات الحصر ; فعائشة صرحت بحصر الإجزاء في الغسل ; فدل ذلك على أن الفرك لا يجزئ دون الغسل ، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على غسله .
وأما القياس : فقياسهم المني على البول والحيض ، قالوا : ولأنه يخرج من مخرج البول ، ولأن المذي جزء من المني ; لأن الشهوة تحلل كل واحد منهما فاشتركا في النجاسة .
وأما حجة من قال : إنه نجس ، وإن يابسه يطهر بالفرك ولا يحتاج إلى الغسل فهي ظواهر نصوص تدل على ذلك ، ومن أوضحها في ذلك حديث عائشة عند الدارقطني الذي قدمناه آنفا : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسا ، وأغسله إذا كان رطبا " .
وقال المجد ( في منتقى الأخبار ) بعد أن ساق هذه الرواية ما نصه : قلت : فقد بان من مجموع النصوص جواز الأمرين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-07, 01:53 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (170)
سُورَةُ النَّحْلِ(16)
صـ 401 إلى صـ 405
قال مقيده - عفا الله عنه - : إيضاح الاستدلال بهذا الحديث لهذا القول : أن الحرص [ ص: 401 ] على إزالة المني بالكلية دليل على نجاسته ، والاكتفاء بالفرك في يابسه يدل على أنه لا يحتاج إلى الماء . ولا غرابة في طهارة متنجس بغير الماء ; فإن ما يصيب الخفاف والنعال من النجاسات المجمع على نجاستها يطهر بالدلك حتى تزول عينه . ومن هذا القبيل قول الشوكاني : إنه يطهر مطلقا بالإزالة دون الغسل ، لما جاء في بعض الروايات من سلت رطبه بإذخرة ونحوها . ورد من قال : إن المني طاهر احتجاج القائلين بنجاسته ، بأن الغسل لا يدل على نجاسة شيء ، فلا ملازمة بين الغسل والتنجيس ; لجواز غسل الطاهرات كالتراب والطين ونحوه يصيب البدن أو الثوب . قالوا : ولم يثبت نقل بالأمر بغسله ، ومطلق الفعل لا يدل على شيء زائد على الجواز .
قال ابن حجر ( في التلخيص ) : وقد ورد الأمر بفركه من طريق صحيحة ، رواه ابن الجارود ، ففي ( المنتقى ) ، عن محسن بن يحيى ، عن أبي حذيفة ، عن سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، قال : كان عند عائشة ضيف فأجنب ، فجعل يغسل ما أصابه ; فقالت عائشة : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بحته - إلى أن قال : وأما الأمر بغسله فلا أصل له .
وأجابوا عن قول عائشة : " إنما يجزئك أن تغسل مكانه " ، لحمله على الاستحباب ; لأنها احتجت بالفرك . قالوا : فلو وجب الغسل لكان كلامها حجة عليها لا لها ، وإنما أرادت الإنكار عليه في غسل كل الثوب ; فقالت : " غسل كل الثوب بدعة منكرة ، وإنما يجزئك في تحصيل الأفضل والأكمل أن تغسل مكانه . . . " إلخ .
وأجابوا عن قياس المني على البول والدم ; بأن المني أصل الأدمي المكرم فهو بالطين أشبه ، بخلاف البول والدم .
وأجابوا عن خروجه من مخرج البول بالمنع ، قالوا : بل مخرجهما مختلف ، وقد شق ذكر رجل بالروم ، فوجد كذلك ، فلا ننجسه بالشك . قالوا : ولو ثبت أنه يخرج من مخرج البول لم يلزم منه النجاسة ; لأن ملاقاة النجاسة في الباطن لا تؤثر ، وإنما تؤثر ملاقاتها في الظاهر .
وأجابوا عن دعوى أن المذي جزء من المني بالمنع أيضا ، قالوا : بل هو مخالف له في الاسم والخلقة وكيفية الخروج ; لأن النفس والذكر يفتران بخروج المني ، وأما المذي فعكسه ، ولهذا من به سلس المذي لا يخرج منه شيء من المذي . وهذه المسألة فيها للعلماء مناقشات كثيرة ، كثير منها لا طائل تحته . وهذا الذي ذكرنا فيها هو خلاصة أقوال [ ص: 402 ] العلماء وحججهم .
قال مقيده - عفا الله عنه ** - : أظهر الأقوال دليلا في هذه المسألة عندي - والله أعلم - : أن المني طاهر ; لما قدمنا من حديث إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق ، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة " ، وهذا نص في محل النزاع .
وقد قدمنا عن صاحب المنتقى أن الدارقطني قال : لم يرفعه غير إسحاق الأزرق عن شريك ، وأنه هو قال : قلت : وهذا لا يضر ; لأن إسحاق إمام مخرج عنه في الصحيحين ، فيقبل رفعه وزيادته . انتهى .
وقد قدمنا مرارا : أن هذا هو الحق ; فلو جاء الحديث موقوفا من طريق ، وجاء مرفوعا من طريق أخرى صحيحة حكم برفعه ; لأن الرفع زيادة ، وزيادات العدول مقبولة ، قال في مراقي السعود :
والرفع والوصل وزيد اللفظ مقبولة عند إمام الحفظ
- إلخ .
وبه تعلم صحة الاحتجاج برواية إسحاق المذكور المرفوعة ، ولا سيما أن لها شاهدا من طريق أخرى .
قال ابن حجر ( في التلخيص ) ما نصه : فائدة -
روى الدارقطني ، والبيهقي من طريق إسحاق الأزرق ، عن شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المني يصيب الثوب ؟ قال : " إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق " ، وقال : " إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة " ، ورواه الطحاوي من حديث حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مرفوعا ، ورواه هو والبيهقي من طريق عطاء عن ابن عباس موقوفا ، قال البيهقي : الموقوف هو الصحيح . انتهى .
فقد رأيت الطريق الأخرى المرفوعة من حديث حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، وهي مقوية لطريق إسحاق الأزرق المتقدمة .
واعلم أن قول البيهقي - رحمه الله - : والموقوف هو الصحيح ولا يسقط به الاحتجاج بالرواية المرفوعة ; لأنه يرى أن وقف الحديث من تلك الطريق علة في الطريق المرفوعة . وهذا قول معروف لبعض العلماء من أهل الحديث والأصول ، ولكن الحق : أن الرفع [ ص: 403 ] زيادة مقبولة من العدل ، وبه تعلم صحة الاحتجاج بالرواية المرفوعة عن ابن عباس في طهارة المني ، وهي نص صريح في محل النزاع ، ولم يثبت في نصوص الشرع شيء يصرح بنجاسة المني .
فإن قيل : أخرج البزار ، وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما ، وابن عدي في الكامل ، والدارقطني والبيهقي والعقيلي في الضعفاء ، وأبو نعيم في المعرفة من حديث عمار بن ياسر - رضي الله عنهما - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بعمار فذكر قصة ، وفيها : " إنما تغسل ثوبك من الغائط ، والبول ، والمني ، والدم ، والقيء ، يا عمار ، ما نخامتك ودموع عينيك والماء الذي في ركوتك إلا سواء " .
فالجواب : أن في إسناده ثابت بن حماد ، عن علي بن زيد بن جدعان ، وضعفه الجماعة المذكورون كلهم إلا أبا يعلى بثابت بن حماد ، واتهمه بعضهم بالوضع . وقال اللالكائي : أجمعوا على ترك حديثه . وقال البزار : لا نعلم لثابت إلا هذا الحديث . وقال الطبراني : تفرد به ثابت بن حماد ، ولا يروى عن عمار إلا بهذا الإسناد . وقال البيهقي : هذا حديث باطل ، إنما رواه ثابت بن حماد وهو متهم بالوضع ; قاله ابن حجر في ( التلخيص ) ، ثم قال : قلت ورواه البزار ، والطبراني من طريق إبراهيم بن زكريا العجلي ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، لكن إبراهيم ضعيف ، وقد غلط فيه ، إنما يرويه ثابت بن حماد . انتهى .
وبهذا تعلم أن هذا الحديث لا يصح الاحتجاج به على نجاسة المني . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : قال القرطبي : في هذه الآية دليل على جواز الانتفاع بالألبان من الشرب وغيره . فأما لبن الميتة فلا يجوز الانتفاع به ; لأنه مائع طاهر حصل في وعاء نجس . وذلك أن ضرع الميتة نجس ، واللبن طاهر ; فإذا حلب صار مأخوذا من وعاء نجس . فأما لبن المرأة الميتة فاختلف أصحابنا فيه . فمن قال : إن الإنسان طاهر حيا وميتا فهو طاهر . ومن قال : ينجس بالموت فهو نجس . وعلى القولين جميعا تثبت الحرمة ; لأن الصبي قد يتغذى به كما يتغذى من الحية . وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم " ، ولم يخص . انتهى كلام القرطبي .
قوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا الآية [ 16 \ 97 ] ، جمهور العلماء على أن المراد بالسكر في هذه الآية الكريمة : الخمر ; لأن [ ص: 404 ] العرب تطلق اسم السكر على ما يحصل به السكر ، من إطلاق المصدر وإرادة الاسم . والعرب تقول : سكر " - بالكسر - " سكرا [ 16 \ 67 ] ، " بفتحتين وسكرا " بضم فسكون " .
وقال الزمخشري في الكشاف : والسكر : الخمر ; سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا ، نحو رشد رشدا ورشدا . قال :
وجاءونا بهم سكر علينا فأجلى اليوم والسكران صاحي ا هـ .
ومن إطلاق السكر على الخمر قول الشاعر :
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى فيهم المزاء والسكر
وممن قال : بأن السكر في الآية الخمر : ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وأبو رزين ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، والنخعي ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، وابن جبير ، وأبو ثور ، وغيرهم . وقيل : السكر : الخل . وقيل : الطعم ، وقيل : العصير الحلو .
وإذا عرفت أن الصحيح هو مذهب الجمهور ، وأن الله امتن على هذه الأمة بالخمر قبل تحريمها فاعلم أن هذه الآية مكية ، نزلت بعدها آيات مدنية بينت تحريم الخمر ، وهي ثلاث آيات نزلت بعد هذه الآية الدالة على إباحة الخمر .
الأولى : آية البقرة التي ذكر فيها بعض معائبها ومفاسدها ، ولم يجزم فيها بالتحريم ، وهي قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، وبعد نزولها تركها قوم للإثم الذي فيها ، وشربها آخرون للمنافع التي فيها .
الثانية : آية النساء الدالة على تحريمها في أوقات الصلوات ، دون الأوقات التي يصحو فيها الشارب قبل وقت الصلاة ، كما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح ، وما بين صلاة الصبح وصلاة الظهر ، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 4 \ 43 ] .
الثالثة : آية المائدة الدالة على تحريمها تحريما باتا ، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ، إلى قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] .
[ ص: 405 ] وهذه الآية الكريمة تدل على تحريم الخمر أتم دلالة وأوضحها ; لأنه تعالى صرح بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان ، وأمر باجتنابها أمرا جازما في قوله : فاجتنبوه ، واجتناب الشيء : هو التباعد عنه ، بأن تكون في غير الجانب الذي هو فيه . وعلق رجاء الفلاح على اجتنابها في قوله : لعلكم تفلحون ، ويفهم منه أنه من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك .
ثم بين بعض مفاسدها بقوله : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة [ 15 \ 91 ] ، ثم أكد النهي عنها بأن أورده بصيغة الاستفهام في قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] ، فهو أبلغ في الزجز من صيغة الأمر التي هي " انتهوا " ، وقد تقرر في فن المعاني : أن من معاني صيغة الاستفهام ، التي ترد لها ، الأمر ; كقوله : فهل أنتم منتهون ، وقوله : وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم الآية [ 3 \ 20 ] ، أي : أسلموا . والجار والمجرور في قوله : ومن ثمرات النخيل الآية [ 16 \ 67 ] ، يتعلق بـ تتخذون ، وكرر لفظ " من " للتأكيد ، وأفرد الضمير في قوله " منه " مراعاة للمذكور ; أي : تتخذون منه ، أي : مما ذكر من ثمرات النخيل والأعناب . ونظيره قول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقوله : " كأنه " ، أي : ما ذكر من خطوط السواد والبلق . وقيل : الضمير راجع إلى محذوف دل المقام عليه ، أي : ومن عصير ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه ، أي : عصير الثمرات المذكورة ، وقيل : قوله : ومن ثمرات النخيل ، معطوف على قوله : مما في بطونه [ 16 \ 66 ] ، أي : نسقيكم مما في بطونه ومن ثمرات النخيل . وقيل : يتعلق بـ : نسقيكم ، [ 16 \ 66 ] محذوفة دلت عليها الأولى ; فيكون من عطف الجمل . وعلى الأول يكون من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل . وقيل : معطوف على " الأنعام " [ 16 \ 66 ] ، وهو أضعفها عندي .
وقال الطبري : التقدير : ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا ; فحذف " ما " .
قال أبو حيان البحر : وهو لا يجوز على مذهب البصريين . وقيل : يجوز أن يكون صفة موصوف محذوف ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه [ ص: 406 ] ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز :
ما لك عندي غير سوط وحجر وغير كبداء شديدة الوتر
جادت بكفي كان من أرمى البشر
أي : بكفي رجل كان " إلخ " ، ذكره الزمخشري وأبو حيان .
قال مقيده - عفا الله عنه - : أظهر هذه الأقوال عندي : أن قوله : ومن ثمرات ، يتعلق بـ : تتخذون ، أي : تتخذون من ثمرات النخيل ، وأن " من " ، الثانية : توكيد للأولى . والضمير في قوله : منه ، عائد إلى جنس الثمر المفهوم من ذكر الثمرات ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-07, 01:57 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (171)
سُورَةُ النَّحْلِ(17)
صـ 406 إلى صـ 410
تنبيه .
اعلم : أن التحقيق على مذهب الجمهور : أن هذه الآية الكريمة التي هي قوله - جل وعلا - : ومن ثمرات النخيل والأعناب [ 16 \ 67 ] منسوخة بآية " المائدة " المذكورة . فما جزم به صاحب مراقي السعود فيه وفي شرحه ( نشر البنود ) من أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى ; بناء على أن إباحتها الأولى إباحة عقلية ، والإباحة العقلية هي البراءة الأصلية ، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي ، وهي ليست من الأحكام الشرعية ; فرفعها ليس بنسخ . وقد بين في المراقي : أنها ليست من الأحكام الشرعية بقوله :
وما من البراءة الأصلية قد أخذت فليست الشرعية
وقال أيضا في إباحة الخمر قبل التحريم :
أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام
كل ذلك ليس بظاهر ، بل غير صحيح ; لأن إباحة الخمر قبل التحريم دلت عليها هذه الآية الكريمة ، التي هي قوله : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا الآية [ 16 \ 67 ] ، وما دلت على إباحته آية من كتاب الله لا يصح أن يقال : إن إباحته عقلية ، بل هي إباحة شرعية منصوصة في كتاب الله ، فرفعها نسخ . نعم ! على القول بأن معنى السكر في الآية : الخل أو الطعم أو العصير ; فتحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها ، وإباحتها الأولى : عقلية . وقد بينا هذا المبحث في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات [ ص: 407 ] الكتاب ) .
فإن قيل : الآية واردة بصيغة الخبر ، والأخبار لا يدخلها النسخ كما تقرر في الأصول :
فالجواب : أن النسخ وارد على ما يفهم من الآية من إباحة الخمر . الإباحة حكم شرعي كسائر الأحكام قابل للنسخ ; فليس النسخ واردا على نفس الخبر ، بل على الإباحة المفهومة من الخبر ; كما حققه ابن العربي المالكي وغيره .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ورزقا حسنا [ 16 \ 67 ] ، أي : التمر ، والرطب ، والعنب ، والزبيب ، والعصير ، ونحو ذلك .
تنبيه آخر .
اعلم : أن النبيذ الذي يسكر منه الكثير لا يجوز أن يشرب منه القليل الذي لا يسكر لقلته . وهذا مما لا شك فيه .
فمن زعم جواز شرب القليل الذي لا يسكر منه كالحنفية وغيرهم ، فقط غلط غلطا فاحشا ; لأن ما يسكر كثيره يصدق عليه بدلالة المطابقة أنه مسكر ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل مسكر حرام " ، وقد ثبت عنه في الصحيح - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام " ، ولو حاول الخصم أن ينازع في معنى هذه الأحاديث ، فزعم أن القليل الذي لا يسكر يرتفع عنه اسم الإسكار فلا يلزم تحريمه ، قلنا : صرح - صلى الله عليه وسلم - بأن " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وهذا نص صريح في محل النزاع لا يمكن معه كلام . وعن عائشة - رضي الله عنه - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كل مسكر حرام ، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام " ، رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وقال : حديث حسن . وعن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، رواه أحمد وابن ماجه ، والدارقطني وصححه . ولأبي داود وابن ماجه ، والترمذي مثله سواء من حديث جابر . وكذا لأحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . وكذلك الدارقطني من حديث الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - . وعن سعد بن أبي وقاص : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن قليل ما أسكر كثيره " ، رواه النسائي والدارقطني . وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتاه قوم فقالوا : يا رسول الله ، إنا ننبذ النبيذ فنشربه على غدائنا وعشائنا ؟ فقال : " اشربوا فكل مسكر حرام " . فقالوا : يا رسول الله ، إنا نكسره بالماء ؟ [ ص: 408 ] فقال : " حرام قليل ما أسكر كثيره " ، رواه الدارقطني . اه . بواسطة نقل المجد في ( منتقى الأخبار ) .
فهذه الأحاديث لا لبس معها في تحريم قليل ما أسكر كثيره . وقال ابن حجر ( في فتح الباري ) في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم - عند البخاري : " كل شراب أسكر فهو حرام " ، ما نصه : فعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان من حديث جابر ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، وللنسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مثله ، وسنده إلى عمرو صحيح . ولأبي داود من حديث عائشة مرفوعا : " كل مسكر حرام ، وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " ، ولابن حبان والطحاوي من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره " ، وقد اعترف الطحاوي بصحة هذه الأحاديث - إلى أن قال : وجاء أيضا عن علي عند الدارقطني ، وعن ابن عمر عند ابن إسحاق والطبراني ، وعن خوات بن جبير عند الدارقطني والحاكم والطبراني ، وعن زيد بن ثابت عند الدارقطني . وفي أسانيدها مقال ; لكنها تزيد الأحاديث التي قبلها قوة وشهرة .
قال أبو المظفر بن السمعاني ( وكان حنفيا فتحول شافعيا ) : ثبتت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحريم المسكر .
ثم ساق كثيرا منها ، ثم قال : والأخبار في ذلك كثيرة ، ولا مساغ لأحد في العدول عنها والقول بخلافه ; فإنها حجج قواطع . قال : وقد زل الكوفيون في هذا الباب ، ورووا فيه أخبارا معلولة ، لا تعارض هذه الأخبار بحال . ومن ظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرب مسكرا فقد دخل في أمر عظيم ، وباء بإثم كبير . وإنما الذي شربه كان حلوا ولم يكن مسكرا . وقد روى ثمامة بن حزن القشيري : أنه سأل عائشة عن النبيذ ؟ فدعت جارية حبشية فقالت : سل هذه ، فإنها كانت تنبذ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت الحبشية : كنت أنبذ له في سقاء من الليل ، وأوكثه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه . أخرجه مسلم .
وروى الحسن البصري عن أمه عن عائشة نحوه . ثم قال : فقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والاضطراب من أجل الأقيسة وأوضحها ، والمفاسد التي توجد في الخمر **توجد في النبيذ ، إلى أن قال : وعلى الجملة ، فالنصوص المصرحة بتحريم كل مسكر - قل أو كثر - مغنية عن القياس . والله أعلم .
وقد قال عبد الله بن المبارك : لا يصح في حل النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة [ ص: 409 ] شيء ولا عن التابعين ; إلا عن إبراهيم النخعي . انتهى محل الغرض من ( فتح الباري ) بحذف ما لا حاجة إليه .
قال مقيده - عفا الله عنه - : تحريم قليل النبيذ الذي يسكر كثيره لا شك فيه ; لما رأيت من تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " .
واعلم : أن قياس النبيذ المسكر كثيره على الخمر بجامع الإسكار لا يصح ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بأن " كل مسكر حرام " ، والقياس يشترط فيه ألا يكون حكم الفرع منصوصا عليه كحكم الأصل . كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
وحيثما يندرج الحكمان في النص فالأمران قل سيان
وقال ابن المنذر : وجاء أهل الكوفة بأخبار معلولة ، وإذا اختلف الناس في الشيء وجب رد ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . اه .
قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل الآية ، المراد بالإيحاء هنا : الإلهام . والعرب تطلق الإيحاء على الإعلام بالشيء في خفية ; ولذا تطلقه على الإشارة ، وعلى الكتابة ، وعلى الإلهام ; ولذلك قال تعالى : وأوحى ربك إلى النحل [ 16 \ 68 ] ، أي : ألهمها . وقال : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة الآية [ 19 \ 11 ] ، أي : أشار إليهم . وسمى أمره للأرض إيحاء في قوله : يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها [ 99 \ 4 ، 5 ] ، ومن إطلاق الوحي على الكتابة قول لبيد في معلقته :
فمدافع الريان عري رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها
ف " الوحي " في البيت ( بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء ) جمع وحي بمعنى الكتابة . وسيأتي لهذه المسألة - إن شاء الله - زيادة إيضاح .
قوله تعالى : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من الناس من يموت قبل بلوغ أرذل العمر ، ومنهم من يعمر حتى يرد إلى أرذل العمر . وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس ، ويختل فيه النطق والفكر ، وخص بالرذيلة ; لأنه حال لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد . بخلاف حال الطفولة ، فإنها حالة ينتقل منها إلى القوة وإدراك الأشياء . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في سورة الحج : ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا [ 22 \ 5 ] ، وقوله في الروم : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من [ ص: 410 ] بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة الآية [ 30 \ 54 ] ، وأشار إلى ذلك أيضا بقوله : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ، وقوله في سورة المؤمن : ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون [ 40 \ 67 ] .
وقال البخاري في صحيحه في الكلام على هذه الآية الكريمة : باب قوله تعالى : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ 16 \ 70 ] ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور ، عن شعيب ، عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو : " أعوذ بالله من البخل والكسل ، وأرذل العمر ، وعذاب القبر ، وفتنة الدجال ، وفتنة المحيا والممات " ، اه . وعن علي - رضي الله تعالى عنه - : أن أرذل العمر خمس وسبعون سنة . وعن قتادة : تسعون سنة . والظاهر أنه لا تحديد له بالسنين ، وإنما هو باعتبار تفاوت حال الأشخاص ; فقد يكون ابن خمس وسبعين أضعف بدنا وعقلا ، وأشد خرفا من آخر ابن تسعين سنة ، وظاهر قول زهير في معلقته :
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
أن ابن الثمانين بالغ أرذل العمر ، ويدل له قول الآخر :
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وقوله : " لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " [ 16 \ 70 ] ( أي يرد إلى أرذل العمر ، لأجل أن يزول ما كان يعلم من العلم أيام الشباب ، ويبقى لا يدري شيئا ; لذهاب إدراكه بسبب الخوف . ولله في ذلك حكمة .
وقال بعض العلماء : إن العلماء العاملين لا ينالهم هذا الخرف وضياع العلم والعقل من شدة الكبر ، ويستروح لهذا المعنى من بعض التفسيرات ) في قوله : ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية [ 95 \ 5 - 6 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-07, 02:00 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (172)
سُورَةُ النَّحْلِ(18)
صـ 411 إلى صـ 415
قوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون ، أظهر التفسيرات في هذه الآية الكريمة : أن الله ضرب فيها مثلا للكفار ، بأنه فضل بعض الناس على بعض في الرزق ، ومن ذلك تفضيله المالكين على المملوكين في الرزق ، وأن المالكين لا يرضون لأنفسهم أن يكون المملوكون شركاءهم فيما رزقهم الله من [ ص: 411 ] الأموال والنساء وجميع نعم الله . ومع هذا يجعلون الأصنام شركاء لله في حقه على خلقه ، الذي هو إخلاص العبادة له وحده ، أي : إذا كنتم لا ترضون بإشراك عبيدكم معكم في أموالكم ونسائكم : فكيف تشركون عبيدي معي في سلطانيا ؟ ! .
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم الآية [ 30 \ 28 ] ، ويؤيده أن " ما " في قوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، نافية ، أي : ليسوا برادي رزقهم عليهم حتى يسووهم مع أنفسهم . اه .
فإذا كانوا يكرهون هذا لأنفسهم : فكيف يشركون الأوثان مع الله في عبادتها مع اعترافهم بأنها ملكه ؟ ! ! كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك .
وهذه الآية الكريمة نص صريح في إبطال مذهب الاشتراكية القائل : بأنه لا يكون أحد أفضل من أحد في الرزق ، ولله في تفضيل بعضهم على بعض في الرزق حكمة ; قال تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا الآية [ 43 \ 32 ] ، وقال : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 13 \ 26 ] ، وقال : على الموسع قدره وعلى المقتر قدره [ 2 \ 236 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وفي معنى هذه الآية الكريمة قولان آخران :
أحدهما : أن معناها أنه جعلكم متفاوتين في الرزق ; فرزقكم أفضل مما رزق كلمة واحدة ، وهم بشر مثلكم وإخوانكم ; فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم ، حتى تساووا في الملبس والمطعم ; كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه أمر مالكي العبيد أن يطعموهم مما يطعمون ، ويكسوهم مما يلبسون " ، وعلى هذا القول فقوله تعالى : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، لوم لهم ، وتقريع على ذلك .
القول الثاني : أن معنى الآية أنه - جل وعلا - هو رازق المالكين والمملوكين جميعا ; فهم في رزقه سواء ، فلا يحسبن المالكون أنهم يردون على مماليكهم شيئا من الرزق ، فإنما ذلك رزق الله يجريه لهم على أيديهم . والقول الأول : هو الأظهر وعليه جمهور العلماء ، [ ص: 412 ] ويدل له القرآن كما بينا . والعلم عند الله تعالى .
وقوله أفبنعمة الله يجحدون [ 16 \ 71 ] ، إنكار من الله عليهم جحودهم بنعمته ; لأن الكافر يستعمل نعم الله في معصية الله ، فيستعين بكل ما أنعم به عليه على معصيته ، فإنه يرزقهم ويعافيهم ، وهم يعبدون غيره . وجحد : تتعدى بالباء في اللغة العربية ; كقوله : وجحدوا بها الآية [ 27 \ 14 ] ، وقوله : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، والجحود بالنعمة هو كفرانها .
قوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة الآية ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه امتن على بني آدم أعظم منة بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة .
ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا ، وجعل الإناث أزواجا للذكور ، وهذا من أعظم المنن ، كما أنه من أعظم الآيات الدالة على أنه - جل وعلا - هو المستحق أن يعبد وحده .
وأوضح في غير هذا الموضع : أن هذه نعمة عظيمة ، وأنها من آياته - جل وعلا - ; كقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون [ 30 \ 21 ] ، وقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 36 - 39 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] .
واختلف العلماء في المراد بالحفدة في هذه الآية الكريمة ; فقال جماعة من العلماء : الحفدة : أولاد الأولاد ، أي : وجعل لكم من أزواجكم بنين ، ومن البنين حفدة . وقال بعض العلماء : الحفدة الأعوان والخدم مطلقا ; ومنه قول جميل :
حفد الولائد حولهن وأسلمت بأكفهن أزمة الأجمال
أي : أسرعت الولائد الخدمة ، والولائد الخدم . الواحدة وليدة ، ومنه قول الأعشى :
كلفت مجهولها نوقا يمانية إذا الحداة على أكسائها حفدوا
أي : أسرعوا في الخدمة . [ ص: 413 ] ومنه قوله في سورة الحفد التي نسخت : وإليك نسعى ونحفد ، أي : نسرع في طاعتك . وسورة الخلع وسورة الحفد اللتان نسختا يسن عند المالكية القنوت بهما في صلاة الصبح ، كما هو معروف .
وقيل : الحفدة الأختان ، وهم أزواج البنات ، ومنه قول الشاعر :
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت لها حفد مما يعد كثير
.
ولكنها نفس علي أبية عيوف لأصهار اللئام قذور
والقذور : التي تتنزه عن الوقوع فيما لا ينبغي ، تباعدا عن التدنس بقذره .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الحفدة : جمع حافد ، اسم فاعل من الحفد وهو الإسراع في الخدمة والعمل . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة قول بعض العلماء في الآية . فنبين ذلك .
وفي هذه الآية الكريمة قرينة دالة على أن الحفدة أولاد الأولاد ; لأن قوله : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] ، دليل ظاهر على اشتراك البنين والحفدة في كونهم من أزواجهم ، وذلك دليل على أنهم كلهم من أولاد أزواجهم . ودعوى أن قوله : " وحفدة " معطوف على قوله : " أزواجا " [ 16 \ 72 ] ، غير ظاهرة . كما أن دعوى أنهم الأختان ، وأن الأختان أزواج بناتهم ، وبناتهم من أزواجهم ، وغير ذلك من الأقوال كله غير ظاهر . وظاهر القرآن هو ما ذكر ، وهو اختيار ابن العربي المالكي والقرطبي وغيرهما . ومعلوم : أن أولاد الرجل ، وأولاد أولاده : من خدمه المسرعين في خدمته عادة . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .
في قوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 16 \ 72 ] ، رد على العرب التي كانت تعتقد أنها كانت تزوج الجن وتباضعها .
حتى روي أن عمرو بن يربوع بن حنظلة بن مالك تزوج سعلاة منهم ، وكان يخبؤها عن سنا البرق لئلا تراه فتنفر . فلما كان في بعض الليالي لمع البرق وعاينته السعلاة ، فقالت : عمرو ! ونفرت . فلم يرها أبدا ; ولذا قال علباء بن أرقم يهجو أولاد عمرو المذكور :
ألا لحى الله بني السعلاة عمرو بن يربوع لئام النات .
[ ص: 414 ] ليسوا بأعفاف ولا أكيات
وقوله : " النات " ، أصله " الناس " أبدلت فيه السين تاء . وكذلك قوله " أكيات " أصله " أكياس " جمع كيس ، أبدلت فيه السين تاء أيضا . وقال المعري يصف مراكب إبل متغربة عن الأوطان : إذا رأت لمعان البرق تشتاق إلى أوطانها . فزعم أنه يستر عنها البرق لئلا يشوقها إلى أوطانها ، كما كان عمرو يستره عن سعلاته :
إذا لاح إيماض سترت وجوهها كأني عمرو والمطي سعالي
والسعلاة : عجوز الجن . وقد روي من حديث أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أحد أبوي بلقيس كان جنيا " .
قال صاحب الجامع الصغير : أخرجه أبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه في التفسير ، وابن عساكر : وقال شارحه المناوي : في إسناده سعيد بن بشر قال في الميزان عن ابن معين : ضعيف . وعن ابن مسهر : لم يكن ببلدنا أحفظ منه ، وهو ضعيف منكر الحديث ، ثم ساق من مناكيره هذا الخبر اه . وبشير بن نهيك أورده الذهبي في الضعفاء . وقال أبو حاتم : لا يحتج به . ووثقه النسائي . انتهى .
وقال المناوي في شرح حديث " أحد أبوي بلقيس كان جنيا " ، قال قتادة : ولهذا كان مؤخر قدميها كحافر الدابة . وجاء في آثار : أن الجني الأم ، وذلك أن أباها ملك اليمن خرج ليصيد فعطش ، فرفع له خباء فيه شيخ فاستسقاه ، فقال : يا حسنة ، اسقي عمك ; فخرجت كأنها شمس بيدها كأس من ياقوت . فخطبها من أبيها ، فذكر أنه جني ، وزوجها منه بشرط أنه إن سألها عن شيء عملته فهو طلاقها . فأتت منه بولد ذكر ، ولم يذكر قبل ذلك ، فذبحته فكرب لذلك ، وخاف أن يسألها فتبين منه . ثم أتت ببلقيس فأظهرت البشر ; فاغتم فلم يملك أن سألها ، فقالت : هذا جزائي منك ! باشرت قتل ولدي من أجلك ! وذلك أن أبي يسترق السمع فسمع الملائكة تقول : إن الولد إذا بلغ الحلم ذبحك ، ثم استرق السمع في هذه فسمعهم يعظمون شأنها ، ويصفون ملكها ، وهذا فراق بيني وبينك ; فلم يرها بعد . هذا محصول ما رواه ابن عساكر عن يحيى الغساني . اه من شرح المناوي للجامع الصغير .
وقال القرطبي في تفسير " سورة النحل " : كان أبو بلقيس وهو : السرح بن الهداهد بن شراحيل ، ملكا عظيم الشأن ، وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفأ لي . وأبى [ ص: 415 ] أن يتزوج منهم ; فزوجوه امرأة من الجن يقال لها ريحانة بنت السكن ; فولدت له بلقمة وهي بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها .
وقال أبو هريرة : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " كان أحد أبوي بلقيس جنيا " ** - إلى أن قال : ويقال : إن سبب تزوج أبيها من الجن أنه كان وزيرا لملك عات** ، يغتصب نساء الرعية ، وكان الوزير غيورا فلم يتزوج . فصحب مرة في الطريق رجلا لا يعرفه ، فقال : هل لك من زوجة ؟ فقال : لا أتزوج أبدا . فإن ملك بلدنا يغتصب النساء من أزواجهن . فقال : لئن تزوجت ابنتي لا يغتصبها أبدا . قال : بل يغتصبها ! قال : إنا قوم من الجن لا يقدر علينا . فتزوج ابنته فولدت له بلقيس ، إلى غير ذلك من الروايات .
وقال القرطبي أيضا : وروى وهيب بن جرير بن حازم ، عن الخليل بن أحمد ، عن عثمان بن حاضر ، قال : كانت أم بلقيس من الجن ، يقال لها : بلعمة بنت شيصان .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الظاهر أن الحديث الوارد في كون أحد أبوي بلقيس جنيا ضعيف .
وكذلك الآثار الواردة في ذلك ليس منها شيء يثبت .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:10 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (173)
سُورَةُ النَّحْلِ(19)
صـ 416 إلى صـ 420
مسألة .
اختلف العلماء في جواز المناكحة بين بني آدم والجن . فمنعها جماعة من أهل العلم ، وأباحها بعضهم .
قال المناوي ( في شرح الجامع الصغير ) : ففي الفتاوى السراجية للحنفية : لا تجوز المناكحة بين الإنس والجن وإنسان الماء ; لاختلاف الجنس . وفي فتاوى البارزي من الشافعية : لا يجوز التناكح بينهما . ورجح ابن العماد جوازه . اه .
وقال الماوردي : وهذا مستنكر للعقول ; لتباين الجنسين ، واختلاف الطبعين ; إذ الآدمي جسماني ، والجني روحاني . وهذا من صلصال كالفخار ، وذلك من مارج من نار ، والامتزاج مع هذا التباين مدفوع ، والتناسل مع هذا الاختلاف ممنوع . اه .
وقال ابن العربي المالكي : نكاحهم جائز عقلا ; فإن صح نقلا فبها ونعمت .
قال مقيده - عفا الله عنه - : لا أعلم في كتاب الله ولا في سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نصا يدل على جواز مناكحة الإنس الجن ، بل الذي يستروح من ظواهر الآيات عدم جوازه . فقوله في هذه الآية الكريمة : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 16 \ 72 ] ، ممتنا على [ ص: 416 ] بني آدم بأن أزواجهم من نوعهم وجنسهم ، يفهم منه أنه ما جعل لهم أزواجا تباينهم كمباينة الإنس للجن ، وهو ظاهر .
ويؤيده قوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [ 30 \ 21 ] ، فقوله : أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا ، في معرض الامتنان يدل على أنه ما خلق لهم أزواجا من غير أنفسهم ; ويؤيد ذلك ما تقرر في الأصول من أن : " النكرة في سياق الامتنان تعم " ، فقوله : جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ 16 \ 72 ] ، جمع منكر في سياق الامتنان فهو يعم ، وإذا عم دل ذلك على حصر الأزواج المخلوقة لنا فيما هو من أنفسنا ، أي : من نوعنا وشكلنا . مع أن قوما من أهل الأصول زعموا " أن الجموع المنكرة في سياق الإثبات من صيغ العموم " ، والتحقيق أنها في سياق الإثبات لا تعم ، وعليه درج في مراقي السعود ; حيث قال في تعداده للمسائل التي عدم العموم فيها أصح :
منه منكر الجموع عرفا وكان والذي عليه انعطفا
أما في سياق الامتنان فالنكرة تعم . وقد تقرر في الأصول " أن النكرة في سياق الامتنان تعم " ، كقوله : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ 25 \ 48 ] ، أي : فكل ماء نازل من السماء طهور . وكذلك النكرة في سياق النفي أو الشرط أو النهي ; كقوله : ما لكم من إله غيره [ 7 \ 59 ] ، وقوله : وإن أحد من المشركين الآية [ 9 \ 6 ] ، وقوله : ولا تطع منهم آثما الآية [ 76 \ 24 ] ، ويستأنس لهذا بقوله : وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 166 ] ، فإنه يدل في الجملة على أن تركهم ما خلق الله لهم من أزواجهم ، وتعديهم إلى غيره يستوجب الملام ، وإن كان أصل التوبيخ والتقريع على فاحشة اللواط ; لأن أول الكلام : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم [ 26 \ 165 - 166 ] ، فإنه وبخهم على أمرين ، أحدهما : إتيان الذكور . والثاني : ترك ما خلق لهم ربهم من أزواجهم .
وقد دلت الآيات المتقدمة على أن ما خلق لهم من أزواجهم ، هو الكائن من أنفسهم ، أي : من نوعهم وشكلهم ; كقوله : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا [ 16 \ 72 ] ، ، وقوله : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 30 \ 21 ] ، فيفيد أنه لم يجعل لهم أزواجا من غير أنفسهم . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 417 ] قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات بإنزال المطر ، ولا من الأرض بإنبات النبات . وأكد عجز معبوداتهم عن ذلك بأنهم لا يستطيعون ، أي : لا يملكون أن يرزقوا ، والاستطاعة منفية عنهم أصلا ; لأنهم جماد ليس فيه قابلية استطاعة شيء .
ويفهم من الآية الكريمة : أنه لا يصح أن يعبد إلا من يرزق الخلق ; لأن أكلهم رزقه ، وعبادتهم غيره كفر ظاهر لكل عاقل . وهذا المعنى المفهوم من هذه الآية الكريمة بينه - جل وعلا - في مواضع أخر ، كقوله : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] ، وقوله : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور [ 67 \ 21 ] ، وقوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 - 58 ] ، وقوله : قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم وقوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 20 \ 132 ] ، وقوله : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 35 \ 3 ] ، وقوله : قل من يرزقكم من السماء والأرض الآية [ 10 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه .
في قوله : شيئا [ 16 \ 73 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة أوجه من الإعراب :
الأول : أن قوله : رزقا ، مصدر ، وأن : ، شيئا ، مفعول به لهذا المصدر ; أي : ويعبدون من دون الله ما لا يملك أن يرزقهم شيئا من الرزق . ونظير هذا الإعراب قوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما الآية [ 90 \ 14 - 15 ] ، فقوله : يتيما مفعول به للمصدر الذي هو إطعام ، أي : أن يطعم يتيما ذا مقربة . ونظيره من كلام العرب قول المرار بن منقذ التميمي :
بضرب بالسيوف رءوس قوم أزلنا هامهن عن المقيل
فقوله : " رءوس قوم " مفعول به للمصدر المنكر الذي هو قوله " بضرب " ، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله : [ ص: 418 ]
بفعله المصدر الحق في العمل مضافا أو مجردا أو مع ال
الوجه الثاني : أن قوله : شيئا ، بدل من قوله رزقا ، بناء على أن المراد بالرزق هو ما يرزقه الله عباده ; لا المعنى المصدري .
الوجه الثالث : أن يكون قوله : شيئا ما ناب عن المطلق من قوله : يملك ، أي : لا يملك شيئا من الملك ، بمعنى لا يملك ملكا قليلا أن يرزقهم . قوله تعالى : فلا تضربوا لله الأمثال .
نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال ، أي : يجعلوا له أشباها ونظراء من خلقه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ! .
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : ليس كمثله شيء الآية [ 42 \ 11 ] ، وقوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر الآية ، أظهر الأقوال فيها : أن المعنى أن الله إذا أراد الإتيان بها فهو قادر على أن يأتي بها في أسرع من لمح البصر ; لأنه يقول للشيء كن فيكون . ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [ 54 \ 50 ] .
وقال بعض العلماء : المعنى هي قريب عنده تعالى كلمح البصر وإن كانت بعيدا عندكم ; كما قال تعالى : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا [ 70 \ 6 ، 7 ] ، وقال : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، واختار أبو حيان في ( البحر المحيط ) : أن " أو " في قوله " أو هو أقرب " للإبهام على المخاطب ، وتبع في ذلك الزجاج ، قال : ونظيره : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون [ 37 \ 114 ] ، وقوله : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] .
قوله تعالى : شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أخرج بني آدم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ، وجعل لهم الأسماع والأبصار والأفئدة ; لأجل أن يشكروا له نعمه . وقد قدمنا : أن " لعل " للتعليل . ولم يبين هنا هل شكروا أو لم يشكروا ; ولكنه بين في مواضع أخر : أن أكثرهم لم يشكروا ; كما قال تعالى : ولكن أكثر الناس لا يشكرون [ 2 \ 243 ] ، وقال : قل [ ص: 419 ] هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 67 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه .
لم يأت السمع في القرآن مجموعا ، وإنما يأتي فيه بصيغة الإفراد دائما ، مع أنه يجمع ما يذكر معه كالأفئدة والأبصار .
وأظهر الأقوال في نكتة إفراده دائما : أن أصله مصدر سمع سمعا ، والمصدر إذا جعل اسما ذكر وأفرد ; كما قال في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
قوله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن تسخيره الطير في جو السماء ما يمسكها إلا هو ، من آياته الدالة على قدرته ، واستحقاقه لأن يعبد وحده . وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير [ 67 \ 19 ] .
تنبيه .
لم يذكر علماء العربية الفعل ( بفتح فسكون ) من صيغ جموع التكسير . قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية : أن الفعل ( بفتح فسكون ) جمع تكسير لفاعل وصفا لكثرة وروده في اللغة جمعا له ; كقوله هنا : ألم يروا إلى الطير [ 16 \ 79 ] ، فالطير جمع طائر ، وكالصحب فإنه جمع صاحب . قال امرؤ القيس :
وقوفا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل
فقوله " صحبي " ، أي : أصحابي . وكالركب فإنه جمع راكب ; قال تعالى : والركب أسفل منكم [ 8 \ 42 ] ، وقال ذو الرمة :
أستحدث الركب عن أشياعهم خبرا أم راجع القلب من أطرابه طرب
فالركب جمع راكب . وقد رد عليه ضمير الجماعة في قوله : " عن أشياعهم " ، [ ص: 420 ] وكالشرب فإنه جمع شارب . ومنه قول نابغة ذبيان :
كأنه خارجا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد
فإنه رد على الشرب ضمير الجماعة في قوله : " نسوه . . " إلخ ، وكالسفر فإنه جمع سافر ; ومنه حديث : " أتموا فإنا قوم سفر " ، وقول الشنفرى :
كأن وغاها حجرتيه وجاله أضاميم من سفر القبائل نزل
وكالرجل جمع راجل ; ومنه قراءة الجمهور : وأجلب عليهم بخيلك ورجلك [ 17 \ 64 ] ، بسكون الجيم . وأما على قراءة حفص عن عاصم بكسر الجيم ، فالظاهر أن كسرة الجيم إتباع لكسرة اللام ، فمعناه معنى قراءة الجمهور . ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب ، فلا نطيل به الكلام . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم الآية ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة منته على خلقه ; بأنه جعل لهم سرابيل تقيهم الحر ، أي : والبرد ; لأن ما يقي الحر من اللباس يقي البرد . والمراد بهذه السرابيل : القمصان ونحوها من ثياب القطن والكتان والصوف . وقد بين هذه النعمة الكبرى في غير هذا الموضع ; كقوله : يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا الآية [ 7 \ 26 ] ، وقوله : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] ، أي : وتلك الزينة هي ما خلق الله لهم من اللباس الحسن . وقوله هنا : وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] ، المراد بها الدروع ونحوها ، مما يقي لابسه وقع السلاح ، ويسلمه من بأسه . .
وقد بين أيضا هذه النعمة الكبرى ، واستحقاق من أنعم بها لأن يشكر له في غير هذا الموضع ; كقوله : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون [ 21 \ 80 ] ، وإطلاق السرابيل على الدروع ونحوها معروف . ومنه قول كعب بن زهير :
شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:11 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (174)
سُورَةُ النَّحْلِ(20)
صـ 421 إلى صـ 425
قوله تعالى : يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها الآية ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار يعرفون نعمة الله ; لأنهم يعلمون أنه هو الذي يرزقهم ويعافيهم ، ويدبر شؤونهم ، ثم ينكرون هذه النعمة ; فيعبدون معه غيره ، ويسوونه بما لا ينفع ولا يضر ، ولا يغني شيئا .
وقد أوضح - جل وعلا - هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : قل من يرزقكم من [ ص: 421 ] السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .
فقوله : فسيقولون الله [ 10 \ 31 ] ، دليل على معرفتهم نعمته . وقوله : فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] ، دليل على إنكارهم لها . والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
وروي عن مجاهد : أن سبب نزول هذه الآية الكريمة : أن أعرابيا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله ، فقرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله جعل لكم من بيوتكم سكنا [ 16 \ 80 ] ، فقال الأعرابي : نعم ! قال : وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا الآية [ 16 \ 80 ] ، قال الأعرابي : نعم ! ثم قرأ عليه ، كل ذلك يقول الأعرابي : نعم ! حتى بلغ : كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون [ 16 \ 81 ] ، فولى الأعرابي ; فأنزل الله : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها [ 16 \ 83 ] ، وعن السدي - رحمه الله - : يعرفون نعمة الله ، أي : نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثم ينكرونها ، أي : يكذبونه وينكرون صدقه .
وقد بين - جل وعلا - : أن بعثة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيهم من منن الله عليهم . كما قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] ، وبين في موضع آخر : أنهم قابلوا هذه النعمة بالكفران ، وذلك في قوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] ، وقيل : يعرفون نعمة الله في الشدة ، ثم ينكرونها في الرخاء . وقد تقدمت الآيات الدالة على ذلك ، كقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، ونحوها من الآيات إلى غير ذلك من الأقوال في الآية .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأكثرهم الكافرون [ 16 \ 83 ] ، قال بعض العلماء : معناه أنهم كلهم كافرون . أطلق الأكثر وأراد الكل . قاله القرطبي والشوكاني . وقال الشوكاني : أو أراد بالأكثر العقلاء دون الأطفال ونحوهم . أو أراد كفر الجحود ، ولم يكن كفر كلهم كذلك ، بل كان كفر بعضهم كفر جهل .
قوله تعالى : ثم لا يؤذن للذين كفروا ; لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة متعلق الإذن في قوله : لا يؤذن [ 16 \ 84 ] ، ولكنه بين في ( المرسلات ) أن متعلق الإذن الاعتذار ، أي : لا يؤذن لهم في الاعتذار ، لأنهم ليس لهم عذر يصح قبوله ، وذلك في قوله : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون [ 77 \ 35 - 36 ] .
[ ص: 422 ] فإن قيل : ما وجه الجمع بين نفي اعتذارهم المذكور هنا ، وبين ما جاء في القرآن من اعتذارهم ؟ ; كقوله تعالى عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 \ 74 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
فالجواب من أوجه :
منها : أنهم يعتذرون حتى إذا قيل لهم : " اخسئوا فيها ولا تكلمون " [ 23 \ 108 ] ، انقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق ; كما قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] .
ومنها : أن نفي اعتذارهم يراد به اعتذار فيه فائدة . أما الاعتذار الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم ، يصدق عليه في لغة العرب : أنه ليس بشيء ، ولذا صرح تعالى بأن المنافقين بكم في قوله : صم بكم [ 2 \ 171 ] ، مع قوله عنهم :
وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] ، أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم . وقال عنهم أيضا : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، فهذا الذي ذكره - جل وعلا - من فصاحتهم وحدة ألسنتهم ، مع تصريحه بأنهم بكم يدل على أن الكلام الذي لا فائدة فيه كلا شيء ، كما هو واضح . وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي :
وإن كلام المرء في غير كنهه لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها .
وقد بينا هذا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في مواضع منه . والترتيب بـ " ثم " [ 16 \ 84 ] في قوله في هذه الآية الكريمة : ثم لا يؤذن للذين كفروا [ 16 \ 84 ] ، على قوله : ويوم نبعث من كل أمة شهيدا [ 16 \ 84 ] ، لأجل الدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع من الاعتذار المشعر بالإقناط الكلي أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم بكفرهم .
قوله تعالى : ولا هم يستعتبون ، اعلم أولا : أن استعتب تستعمل في اللغة بمعنى طلب العتبى ; أي : الرجوع إلى ما يرضي العاتب ويسره . وتستعمل أيضا في اللغة بمعنى أعتب : إذا أعطى العتبى ، أي : رجع إلى ما يحب العاتب ويرضى ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله : ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] ، وجهين من التفسير متقاربي المعنى .
[ ص: 423 ] قال بعض أهل العلم : ولا هم يستعتبون ، أي : لا تطلب منهم العتبى ، بمعنى لا يكلفون أن يرضوا ربهم ; لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، فلا يردون إلى الدنيا ليتوبوا .
وقال بعض العلماء : ولا هم يستعتبون ، أي : يعتبون ، بمعنى يزال عنهم العتب ، ويعطون العتبى وهي الرضا ; لأن الله لا يرضى عن القوم الكافرين . وهذا المعنى كقوله تعالى في قراءة الجمهور : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين [ 41 \ 24 ] ، أي : وإن يطلبوا العتبى - وهي الرضا عنهم لشدة جزعهم - فما هم من المعتبين ; بصيغة اسم المفعول ، أي : المعطين العتبى وهي الرضا عنهم ; لأن العرب تقول : أعتبه إذا رجع إلى ما يرضيه ويسره ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
أي : لا يرجع الدهر إلى مسرة من جزع ، ورضاه . وقول النابغة :
فإن كنت مظلوما فعبد ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب
وأما قول بشر بن أبي خازم :
غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
يعني : أعتبناهم بالسيف ، أي : أرضيناهم بالقتل ; فهو من قبيل التهكم ، كقول عمرو بن معدي كرب :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
لأن القتل ليس بإرضاء ، والضرب الوجيع ليس بتحية .
وأما على قراءة من قرأ : وإن يستعتبوا [ 41 \ 24 ] ، بالبناء للمفعول فما هم من المعتبين [ 41 \ 24 ] ، بصيغة اسم الفاعل ، فالمعنى : أنهم لو طلبت منهم العتبى وردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله وطاعة رسله ، " فما هم من المعتبين " أي : الراجعين إلى ما يرضي ربهم ، بل يرجعون إلى كفرهم الذي كانوا عليه أولا . وهذه القراءة كقوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 28 ] .
قوله تعالى : وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا رأوا العذاب لا يخفف عنهم ، ولا ينظرون أي لا يمهلون ، وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر . وبين أنهم يرون النار وأنها [ ص: 424 ] تراهم ، وأنها تكاد تتقطع من شدة الغيظ عليهم ; كقوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [ 21 \ 39 - 40 ] ، وقوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا [ 18 \ 53 ] ، وقوله : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 12 ] ، وقوله : إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ [ 67 \ 7 ، 8 ] ، وقوله : ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا [ 2 \ 165 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المشركين يوم القيامة إذا رأوا معبوداتهم التي كانوا يشركونها بالله في عبادته قالوا لربهم : " ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك " [ 16 \ 86 ] وأن معبوداتهم تكذبهم في ذلك ، فيقولون لهم : كذبتم ! ما " كنتم إيانا تعبدون " [ 10 \ 28 ] .
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] ، وقوله : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 - 82 ] ، وقوله : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] ، وقوله : وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم [ 28 \ 64 ] ، وقوله : فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [ 10 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فإن قيل : كيف كذبتهم آلهتهم ونفوا أنهم عبدوهم ، مع أن الواقع خلاف ما قالوا ، وأنهم كانوا يعبدونهم في دار الدنيا من دون الله ! فالجواب : أن تكذيبهم لهم منصب على زعمهم أنهم آلهة ، وأن عبادتهم حق ، وأنها تقربهم إلى الله زلفى . ولا شك أن كل ذلك من أعظم الكذب وأشنع الافتراء . ولذلك هم صادقون فيما ألقوا إليهم من القول ، ونطقوا فيه بأنهم كاذبون . ومراد الكفار بقولهم لربهم : " هؤلاء شركاؤنا " ، قيل ليحملوا شركاءهم تبعة ذنبهم .
وقيل : ليكونوا [ ص: 425 ] شركاءهم في العذاب ، كما قال تعالى : ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] ، وقد نص تعالى على أنهم وما يعبدونه من دون الله في النار جميعا في قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم . . . الآية [ 21 \ 98 ] ، وأخرج من ذلك الملائكة وعيسى وعزيرا بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون . . . الآية [ 21 \ 101 ] ; لأنهم ما عبدوهم برضاهم . بل لو أطاعوهم لأخلصوا العبادة لله وحده - جل وعلا - .
قوله تعالى : وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون ، إلقاؤهم إلى الله السلم : هو انقيادهم له ، وخضوعهم ; حيث لا ينفعهم ذلك كما تقدم في قوله : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله : بل هم اليوم مستسلمون [ 37 \ 26 ] ، وقوله : وعنت الوجوه للحي القيوم [ 20 \ 111 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقد قدمنا طرفا من ذلك في الكلام على قوله : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] .
وقوله : وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 16 \ 87 ] ، أي : غاب عنهم واضمحل ما كانوا يفترونه . من أن شركاءهم تشفع لهم وتقربهم إلى الله زلفى ; كما قال تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله . . . الآية [ 10 \ 18 ] ، وكقوله : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، وضلال ذلك عنهم مذكور في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 \ 30 ] ، وقوله : فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 28 \ 75 ] ، وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن وفي اللغة بشواهدها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:12 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (175)
سُورَةُ النَّحْلِ(21)
صـ 426 إلى صـ 430
قوله تعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ، اعلم أولا أن " صد " تستعمل في اللغة العربية استعمالين أحدهما : أن تستعمل متعدية إلى المفعول ، كقوله تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام . . . الآية [ 48 \ 25 ] ، ومضارع هذه المتعدية " يصد " بالضم على القياس ، ومصدرها " الصد " على القياس أيضا . والثاني : أن تستعمل " صد " لازمة غير متعدية إلى المفعول ، ومصدر هذه " الصدود " على القياس ، وفي مضارعها الكسر على القياس ، والضم على السماع ; وعليهما القراءتان السبعيتان في قوله : إذا قومك منه يصدون [ ص: 426 ] [ 43 \ 57 ] ، بالكسر والضم .
فإذا عرفت ذلك : فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وصدوا عن سبيل الله [ 16 \ 88 ] ، محتمل ; لأن تكون " صد " متعدية ، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه ; على حد قوله في الخلاصة :
وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر
ومحتمل لأن تكون " صد " لازمة غير متعدية إلى المفعول ، ولكن في الآية الكريمة ثلاث قرائن تدل على أن " صد " متعدية ، والمفعول محذوف ، أي : وصدوا الناس عن سبيل الله .
الأولى : أنا لو قدرنا " صد " لازمة ، وأن معناها : صدودهم في أنفسهم عن الإسلام ; لكان ذلك تكرارا من غير فائدة مع قوله : الذين كفروا [ 16 \ 88 ] ، بل معنى الآية : كفروا في أنفسهم ، وصدوا غيرهم عن الدين فحملوه على الكفار أيضا .
القرينة الثانية : قوله تعالى : زدناهم عذابا فوق العذاب [ 16 \ 88 ] ، فإن هذه الزيادة من العذاب لأجل إضلالهم غيرهم . والعذاب المزيد فوقه : هو عذابهم على كفرهم في أنفسهم ; بدليل قوله في المضلين الذين أضلوا غيرهم : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم . . . الآية [ 16 \ 25 ] ، وقوله : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم . . . الآية [ 29 \ 13 ] ، كما تقدم إيضاحه .
القرينة الثالثة ، قوله : بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] ، فإنه يدل على أنهم كانوا يفسدون على غيرهم مع ضلالهم في أنفسهم ، وقوله : فوق العذاب [ 16 \ 88 ] ، أي : الذي استحقوه بضلالهم وكفرهم . وعن ابن مسعود : أن هذا العذاب المزيد : عقارب أنيابها كالنخل الطوال ، وحيات مثل أعناق الإبل ، وأفاعي كأنها البخاتي تضربهم . أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم ، يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم ، وأنه يأتي بنبينا - صلى الله عليه وسلم - شاهدا علينا . وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم [ ص: 427 ] الأرض . . . الآية [ 4 \ 41 ، 42 ] ، وكقوله : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] ، وكقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ علي " ، قال : فقلت يا رسول الله ، أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ ! قال : " نعم ; إني أحب أن أسمعه من غيري " ، فقرأت " سورة النساء " ، حتى أتيت إلى هذه الآية : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] ، فقال : " حسبك الآن " ، فإذا عيناه تذرفان . اه .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويوم نبعث [ 16 \ 89 ] ، منصوب بـ " اذكر " مقدرا . والشهيد في هذه الآية فعيل بمعنى فاعل ، أي : شاهدا عليهم من أنفسهم .
قوله تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه نزل على رسوله هذا الكتاب العظيم تبيانا لكل شيء . وبين ذلك في غير هذا الموضع ، كقوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، على القول بأن المراد بالكتاب فيها القرآن . أما على القول بأنه اللوح المحفوظ . فلا بيان بالآية . وعلى كل حال فلا شك أن القرآن فيه بيان كل شيء . والسنة كلها تدخل في آية واحدة منه ; وهي قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
وقال السيوطي في " الإكليل " في استنباط التنزيل ، قال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ 16 \ 89 ] ، وقال : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " ستكون فتن " ، قيل : وما المخرج منها ؟ قال : " كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم " ، أخرجه الترمذي وغيره ، وقال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا خديج بن معاوية ، عن أبي إسحاق ، عن مرة ، عن ابن مسعود ، قال : من أراد العلم فعليه بالقرآن ; فإن فيه خبر الأولين والآخرين . قال البيهقي : أراد به أصول العلم . وقال الحسن البصري : أنزل الله مائة وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان . ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان ، ثم أودع علوم القرآن : المفصل ، ثم أودع علوم المفصل : فاتحة الكتاب ; فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير الكتب المنزلة . أخرجه البيهقي في الشعب .
[ ص: 428 ] وقال الإمام الشافعي - رضي الله عنه - : جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع شرح السنة شرح للقرآن .
وقال بعض السلف : ما سمعت حديثا إلا التمست له آية من كتاب الله .
وقال سعيد بن جبير : ما بلغني حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله . أخرجه ابن أبي حاتم .
وقال ابن مسعود : إذا حدثتكم بحديث أنبأتكم بتصديقه من كتاب الله . أخرجه ابن أبي حاتم .
وقال ابن مسعود أيضا : أنزل في القرآن كل علم ، وبين لنا فيه كل شيء ، ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن . أخرجه ابن جرير ، وابن أبي حاتم .
وأخرج أبو الشيخ في العظمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة " .
وقال الشافعي أيضا : جميع ما حكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مما فهمه من القرآن .
قلت : ويؤيد هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه " ، رواه بهذا اللفظ الطبراني في الأوسط من حديث عائشة .
وقال الشافعي أيضا : ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ، فإن قيل : من الأحكام ما ثبت ابتداء بالسنة ؟ قلنا : ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة ; لأن كتاب الله أوجب علينا اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وفرض علينا الأخذ بقوله .
وقال الشافعي مرة بمكة : سلوني عما شئتم ، أخبركم عنه من كتاب الله . فقيل له : ما تقول في المحرم يقتل الزنبور ؟ فقال : " بسم الله الرحمن الرحيم " [ 1 \ 1 ] ، قال الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وحدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن ربعي بن حراش ، عن حذيفة بن اليمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر ، وعمر " ، وحدثنا سفيان ، عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب : أنه أمر بقتل المحرم الزنبور .
[ ص: 429 ] وروى البخاري ، عن ابن مسعود ، قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات لخلق الله ، فقالت له امرأة في ذلك . فقال : وما لي لا ألعن من لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في كتاب الله . فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ؟ ! قال : لئن قرأتيه لقد وجدتيها ! أما قرأت وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، ؟ قالت : بلى . قال : فإنه قد نهى عنه .
وقال ابن برجان : ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء فهو في القرآن ، أو فيه أصله قرب أو بعد ، فهمه من فهم ، أو عمه عنه من عمه ، وكذا كل ما حكم أو قضى به .
وقال غيره : ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى ; حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا وستين من قوله " في سورة المنافقين " : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ; فإنها رأس ثلاث وستين سورة ، وعقبها " بالتغابن " ، ليظهر التغابن في فقده .
وقال المرسي : جمع القرآن علوم الأولين والآخرين ، بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ، ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خلا ما استأثر الله به سبحانه ، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم ; مثل الخلفاء الأربعة ، ومثل ابن مسعود ، وابن عباس حتى قال : لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله . ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ، ثم تقاصرت الهمم ، وفترت العزائم ، وتضاءل أهل العلم ، وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه ; فنوعوا علومه ، وقامت كل طائفة بفن من فنونه .
فاعتنى قوم بضبط لغاته ، وتحرير كلماته ، ومعرفة مخارج حروفه وعددها ، وعد كلماته وآياته ، وسوره وأجزائه ، وأنصافه وأرباعه ، وعدد سجداته ، إلى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة ، والآيات المتماثلة . من غير تعرض لمعانيه ، ولا تدبر لما أودع فيه . فسموا القراء .
واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال ، والحروف العاملة وغيرها . وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها ، وضروب الأفعال ، واللازم والمتعدي ، ورسوم خط الكلمات ، وجميع ما يتعلق به ; حتى إن بعضهم أعرب مشكله . وبعضهم أعربه كلمة كلمة .
[ ص: 430 ] واعتنى المفسرون بألفاظه ، فوجدوا منه لفظا يدل على معنى واحد ، ولفظا يدل على معنيين ، ولفظا يدل على أكثر ; فأجروا الأول : على حكمه ، وأوضحوا الخفي منه ، وخاضوا إلى ترجيح أحد محتمالات ذي المعنيين أو المعاني ، وأعمل كل منهم فكره ، وقال بما اقتضاه نظره .
واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية ، والشواهد الأصلية والنظرية ; مثل قوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ; فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده ، وبقائه وقدمه ، وقدرته وعلمه ، وتنزيهه عما لا يليق به ; وسموا هذا العلم بـ " ، أصول الدين " .
وتأملت طائفة معاني خطابه ; فرأت منها ما يقتضي العموم ، ومنها ما يقتضي الخصوص ، إلى غير ذلك ; فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز ، وتكلموا في التخصيص والإضمار ، والنص والظاهر ، والمجمل والمحكم والمتشابه ، والأمر والنهي والنسخ ، إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة ، واستصحاب الحال والاستقراء ; وسموا هذا الفن " أصول الفقه " .
وأحكمت طائفة صحيح النظر ، وصادق الفكر فيما فيه من الحلال والحرام ، وسائر الأحكام ، فأسسوا أصوله وفروعه ، وبسطوا القول في ذلك بسطا حسنا ; وسموه ب " علم الفروع " وب " ، الفقه أيضا ** " .
وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السابقة ، والأمم الخالية ، ونقلوا أخبارهم ، ودونوا آثارهم ووقائعهم . حتى ذكروا بدء الدنيا ، وأول الأشياء ; وسموا ذلك ب " التاريخ والقصص " .
وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال ، والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال ، وتكاد تدكدك الجبال ; فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد ، والتحذير والتبشير ، وذكر الموت والمعاد ، والنشر والحشر ، والحساب والعقاب ، والجنة والنار ، فصولا من المواعظ ، وأصولا من الزواجر . فسموا بذلك " الخطباء والوعاظ " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:12 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (176)
سُورَةُ النَّحْلِ(22)
صـ 431 إلى صـ 435
واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير ; مثل ما ورد في قصة يوسف : من البقرات السمان ، وفي منامي صاحبي السجن ، وفي رؤية الشمس والقمر والنجوم ساجدات ، وسموه " تعبير الرؤيا " ; واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب ، فإن عز عليهم إخراجها [ ص: 431 ] منه ، فمن السنة التي هي شارحة الكتاب ، فإن عسر فمن الحكم والأمثال . ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم ، وعرف عاداتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله : وأمر بالعرف [ 7 \ 199 ] .
وأخذ قوم مما في آيات المواريث من ذكر السهام وأربابها ، وغير ذلك " علم الفرائض " ، واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث ، والربع والسدس والثمن " حساب الفرائض " ، ومسائل العول ; واستخرجوا منه أحكام الوصايا .
ونظر قوم إلى ما فيه الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار ، والشمس والقمر ومنازله ، والنجوم والبروج ، وغير ذلك ; فاستخرجوا " علم المواقيت " .
ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم ، وحسن السياق والمبادئ ، والمقاطيع والمخالص والتلوين في الخطاب ، والإطناب والإيجاز ، وغير ذلك ; فاستنبطوا منه " علم المعاني والبيان والبديع " .
ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة ; فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق ، جعلوا لها أعلاما اصطلحوا عليها ، مثل الغناء والبقاء ، والحضور والخوف والهيبة ، والأنس والوحشة ، والقبض والبسط ، وما أشبه ذلك .
هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه .
وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل ، مثل : الطب ، والجدل ، والهيئة ، والهندسة والجبر ، والمقابلة والنجامة ، وغير ذلك .
أما الطب : فمداره على حفظ نظام الصحة ، واستحكام القوة ; وذلك إنما يكون باعتدال المزاج تبعا للكيفيات المتضادة ، وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله : وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .
وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله ، وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله : شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس [ 16 \ 69 ] .
ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب ، وشفاء الصدور .
وأما الهيئة : ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السماوات والأرض ، وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات منه .
[ ص: 432 ]
وأما الهندسة : ففي قوله : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 \ 30 ، 31 ] ، فإن فيه قاعدة هندسية ، وهو أن الشكل المثلث لا ظل له .
وأما الجدل : فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج ، والقول بالموجب ، والمعارضة ، وغير ذلك شيئا كثيرا ، ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم .
وأما الجبر والمقابلة : فقد قيل : إن أوائل السور ذكر عدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة ، وإن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة ، وتاريخ مدة الدنيا ، وما مضى وما بقي ، مضروبا بعضها في بعض .
وأما النجامة : ففي قوله : أو أثارة من علم [ 46 \ 4 ] ، فقد فسره ابن عباس بذلك .
وفيه من أصول الصنائع ، وأسماء الآلات التي تدعو الضرورة إليها ، فمن الصنائع الخياطة في قوله : وطفقا يخصفان . . . الآية [ 7 \ 22 ، 20 \ 121 ] ، والحدادة في قوله تعالى : آتوني زبر الحديد [ 18 \ 96 ] ، وقوله : وألنا له الحديد الآية [ 34 \ 10 ] ، والبناء في آيات ، والنجارة ، أن اصنع الفلك [ 23 \ 27 ] ، والغزل : نقضت غزلها [ 16 \ 92 ] ، والنسج : كمثل العنكبوت اتخذت بيتا [ 29 \ 41 ] ، والفلاحة : أفرأيتم ما تحرثون [ 56 \ 63 ] ، في آيات أخر ، والصيد في آيات ، والغوص : ، والشياطين كل بناء وغواص [ 38 \ 37 ] ، وتستخرجون حلية [ 16 \ 14 ] ، والصياغة واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا . . . الآية [ 7 \ 148 ] ، والزجاجة : صرح ممرد من قوارير [ 37 \ 44 ] ، المصباح في زجاجة [ 24 \ 35 ] ، والفخارة فأوقد لي ياهامان على الطين [ 28 \ 38 ] ، والملاحة أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر [ 18 \ 79 ] ، والكتابة علم بالقلم [ 96 \ 4 ] ، في آيات أخر ، والخبز والطحن : ، أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه [ 12 \ 36 ] ، والطبخ ، بعجل حنيذ [ 11 \ 69 ] ، والغسل والقصارة ، وثيابك فطهر [ 74 \ 4 ] ، قال الحواريون [ 3 \ 52 ] [ 5 \ 112 ] [ 61 \ 14 ] ، وهم القصارون ، والجزارة إلا ما ذكيتم [ 5 \ 3 ] ، والبيع والشراء في آيات كثيرة ، والصبغ ، صبغة الله . . . الآية [ 2 \ 138 ] ، جدد بيض وحمر . . . الآية [ 35 \ 27 ] ، والحجارة ، وتنحتون من الجبال بيوتا [ 26 \ 149 ] ، والكيالة [ ص: 433 ] والوزن في آيات كثيرة ، والرمي : وما رميت إذ رميت [ 8 \ 17 ] ، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] .
وفيه من أسماء الألات ، وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات ، وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، انتهى كلام المرسي ملخصا مع زيادات .
قلت : قد اشتمل كتاب الله على كل شيء . أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسألة هي أصل ، إلا وفي القرآن ما يدل عليها . وفيه علم عجائب المخلوقات ، وملكوت السماوات والأرض ، وما في الأفق الأعلى ، وما تحت الثرى ، وبدء الخلق ، وأسماء مشاهير الرسل والملائكة ، وعيون أخبار الأمم السالفة ; كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة ، وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ، ورفع إدريس وإغراق قوم نوح ، وقصة عاد الأولى والثانية ، وثمود ، والناقة ، وقوم لوط ، وقوم شعيب الأولين والآخرين فإنه أرسل مرتين ، وقوم تبع ، ويونس ، وإلياس ، وأصحاب الرس ، وقصة موسى في ولادته وفي إلقائه في اليم ، وقتله القبطي ، ومسيره إلى مدين وتزوجه ابنة شعيب ، وكلامه تعالى بجانب الطور ، وبعثه إلى فرعون ، وخروجه وإغراق عدوه ، وقصة العجل ، والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصعقة ، وقصة القتال وذبح البقرة ، وقصته في قتال الجبارين ، وقصته مع الخضر والقوم الذين ساروا في سرب من الأرض إلى الصين ، وقصة طالوت وداود مع جالوت وقتله ، وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبإ وفتنته ، وقصة القوم الذين خرجوا فرارا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم ، وقصة إبراهيم في مجادلته قومه ، ومناظرته النمروذ ، ووضعه إسماعيل مع أمه بمكة ، وبنائه البيت ، وقصة الذبيح ، وقصة يوسف وما أبسطها ، وقصة مريم وولادتها عيسى وإرساله ورفعه ، وقصة زكريا وابنه يحيى ، وأيوب وذي الكفل ، وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مطلع الشمس ومغربها وبنائه السد ، وقصة أصحاب الكهف والرقيم ، وقصة بختنصر ، وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة ، وقصة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنها مصبحين ، وقصة مؤمن آل فرعون ، وقصة أصحاب الفيل ، وقصة الجبار الذي أراد أن يصعد إلى السماء .
وفيه من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم به ، وبشارة عيسى وبعثه وهجرته . ومن غزواته : غزوة بدر في ( سورة الأنفال ) ، وأحد في ( آل عمران ) ، وبدر الصغرى فيها ، والخندق في ( الأحزاب ) ، والنضير في ( الحشر ) ، والحديبية في ( الفتح ) ، وتبوك في [ ص: 434 ] ( براءة ) ، وحجة الوداع في ( المائدة ) ، ونكاحه زينب بنت جحش ، وتحريم سريته ، وتظاهر أزواجه عليه ، وقصة الإفك ، وقصة الإسراء ، وانشقاق القمر ، وسحر اليهود إياه .
وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته ، وكيفية الموت ، وقبض الروح وما يفعل بها بعد صعودها إلى السماء ، وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة ، وعذاب القبر والسؤال فيه ، ومقر الأرواح ، وأشراط الساعة الكبرى العشرة ، وهي :
نزول عيسى ، وخروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، والدابة ، والدخان ، ورفع القرآن ، وطلوع الشمس من مغربها ، وإغلاق باب التوبة ، والخسف .
وأحوال البعث : من نفخة الصور ، والفزع ، والصعق ، والقيام ، والحشر والنشر ، وأهوال الموقف ، وشدة حر الشمس ، وظل العرش ، والصراط ، والميزان ، والحوض ، والحساب لقوم ، ونجاة آخرين منه ، وشهادة الأعضاء ، وإيتاء الكتب بالأيمان والشمائل وخلف الظهور ، والشفاعة ، والجنة وأبوابها ، وما فيها من الأشجار والثمار والأنهار ، والحلي والألوان ، والدرجات ، ورؤيته تعالى ، والنار وما فيها من الأودية ، وأنواع العقاب ، وألوان العذاب ، والزقوم والحميم ، إلى غير ذلك مما لو بسط جاء في مجلدات .
وفي القرآن جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث . وفيه من أسمائه مطلقا ألف اسم ، وفيه من أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - جملة .
وفيه شعب الإيمان البضع والسبعون .
وفيه شرائع الإسلام الثلاثمائة وخمس عشرة .
وفيه أنواع الكبائر وكثير من الصغائر .
وفيه تصديق كل حديث ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه جملة القول في ذلك . اه كلام السيوطي في ( الإكليل ) .
وإنما أوردناه برمته مع طوله ; لما فيه من إيضاح : أن القرآن فيه بيان كل شيء . وإن كانت في الكلام المذكور أشياء جديرة بالانتقاد تركنا مناقشتها خوف الإطالة المملة ، مع كثرة الفائدة في الكلام المذكور في الجملة .
وفي قوله تعالى : تبيانا لكل شيء [ 16 \ 89 ] ، وجهان من الإعراب :
أحدهما : أنه مفعول من أجله . والثاني : أنه مصدر منكر واقع حالا ; على حد قوله في الخلاصة [ ص: 435 ]
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
تنبيه .
أظهر القولين : أن التبيان مصدر ، ولم يسمع كسر تاء التفعال مصدرا إلا في التبيان والتلقاء . وقال بعض أهل العلم : التبيان اسم لا مصدر . قال أبو حيان في ( البحر ) : والظاهر أن " تبيانا " مصدر جاء على تفعال ، وإن كان باب المصادر يجيء على تفعال ( بالفتح ) كالترداد والتطواف . ونظير تبيان في كسر تائه : تلقاء ، وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن . وقال ابن عطية : " تبيانا " اسم وليس بمصدر ; وهو قول أكثر النحاة . وروى ثعلب عن الكوفيين ، والمبرد عن البصريين : أنه مصدر ، ولم يجئ على تفعال من المصادر إلا ضربان :
تبيان وتلقاء . اه والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن العظيم هدى ورحمة وبشرى للمسلمين ، ويفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة - أي : مفهوم مخالفتها - : أن غير المسلمين ليسوا كذلك . وهذا المفهوم من هذه الآية صرح به - جل وعلا - في مواضع أخر ; كقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى [ 41 \ 44 ] ، وقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ 17 \ 82 ] ، وقوله - جل وعلا - : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 124 - 125 ] ، وقوله : وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا [ 5 \ 64 ] ، في الموضعين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:13 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (177)
سُورَةُ النَّحْلِ(23)
صـ 436 إلى صـ 440
قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يأمر خلقه بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وأنه ينهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغي ; لأجل أن يتعظوا بأوامره ونواهيه ، فيمتثلوا أمره ، ويجتنبوا نهيه . وحذف مفعول " يأمر " ، " وينهى " ; لقصد التعميم .
ومن الآيات التي أمر فيها بالعدل قوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا [ ص: 436 ] تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] ، وقوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به [ 4 \ 58 ] .
ومن الآيات التي أمر فيها بالإحسان قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [ 2 \ 195 ] ، وقوله : وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] ، وقوله : وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض [ 28 \ 77 ] ، وقوله : وقولوا للناس حسنا [ 2 \ 83 ] ، وقوله : ما على المحسنين من سبيل [ 9 \ 91 ] .
ومن الآيات التي أمر فيها بإيتاء ذي القربى قوله تعالى : فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون [ 30 \ 38 ] ، وقوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ 17 \ 26 ] ، وقوله : وآتى المال على حبه ذوي القربى الآية [ 2 \ 177 ] ، وقوله : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة [ 90 \ 14 ، 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الآيات التي نهى فيها عن الفحشاء والمنكر والبغي قوله : ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن . . . الآية [ 6 \ 151 ] ، وقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق . . . الآية [ 7 \ 33 ] ، وقوله : وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون [ 6 \ 120 ] ، والمنكر وإن لم يصرح باسمه في هذه الآيات ، فهو داخل فيها .
ومن الآيات التي جمع فيها بين الأمر بالعدل والتفضل بالإحسان ، قوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ 16 \ 126 ] ، فهذا عدل ، ثم دعا إلى الإحسان بقوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] ، وقوله : ، وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ، فهذا عدل ** . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ 42 \ 40 ] .
وقوله : والجروح قصاص [ 5 \ 45 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله ، فمن تصدق به فهو كفارة له [ 5 \ 45 ] ، وقوله ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما [ ص: 437 ] عليهم من سبيل . . . الآية [ 42 \ 43 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] ، وقوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] ، فهذا عدل . ثم دعا إلى الإحسان بقوله : إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن العدل في اللغة : القسط والإنصاف ، وعدم الجور . وأصله التوسط بين المرتبتين ; أي : الإفراط والتفريط . فمن جانب الإفراط والتفريط فقد عدل . والإحسان مصدر أحسن ، وهي تستعمل متعدية بالحرف نحو : أحسن إلى والديك ; ومنه قوله تعالى عن يوسف : وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن الآية [ 12 \ 100 ] ، وتستعمل متعدية بنفسها . كقولك : أحسن العامل عمله ، أي : أجاده وجاء به حسنا . والله - جل وعلا - يأمر بالإحسان بمعنييه المذكورين ، فهما داخلان في الآية الكريمة ; لأن الإحسان إلى عباد الله لوجه الله عمل أحسن فيه صاحبه . وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإحسان في حديث جبريل بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه . فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، وقد قدمنا إيضاح ذلك في ( سورة هود ) .
فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن أقوال المفسرين في الآية الكريمة راجعة في الجملة إلى ما ذكرنا ; كقول ابن عباس : العدل : لا إله إلا الله ، والإحسان : أداء الفرائض ; لأن عبادة الخالق دون المخلوق هي عين الإنصاف والقسط ، وتجنب التفريط والإفراط . ومن أدى فرائض الله على الوجه الأكمل فقد أحسن ; ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرجل الذي حلف لا يزيد على الواجبات : " أفلح إن صدق " ، وكقول سفيان : العدل : استواء العلانية والسريرة . والإحسان : أن تكون السريرة أفضل من العلانية . وكقول علي - رضي الله عنه - : العدل : الإنصاف . والإحسان : التفضل . إلى غير ذلك من أقوال السلف . والعلم عند الله تعالى . وقوله ، يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] ، الوعظ : : الكلام الذي تلين له القلوب .
تنبيه .
فإن قيل : يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي ; كقوله هنا : يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] ، مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله : إن الله [ ص: 438 ] يأمر بالعدل ، إلى قوله : وينهى عن الفحشاء . . . الآية [ 16 \ 90 ] ، وكقوله في ( سورة البقرة ) بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة : ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر [ 2 \ 232 ] ، وقوله ( في الطلاق ) في نحو ذلك أيضا : ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا . . . الآية [ 24 \ 17 ] ، مع أن المعروف عند الناس : أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك ، لا بالأمر والنهي .
فالجواب : أن ضابط الوعظ : هو الكلام الذي تلين له القلوب ، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه ; فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله ، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله . وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه ، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه ; فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال ، فلانت قلوبهم للطاعة خوفا وطمعا . والفحشاء في لغة العرب : الخصلة المتناهية في القبح . ومنه قيل لشديد البخل : فاحش ; كما في قول طرفة في معلقته :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
والمنكر اسم مفعول أنكر ; وهو في الشرع : ما أنكره الشرع ونهى عنه ، وأوعد فاعله العقاب . والبغي : الظلم .
وقد بين تعالى : أن الباغي يرجع ضرر بغيه على نفسه في قوله : ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم [ 10 \ 23 ] ، وقوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] ، وقوله : ذي القربى [ 16 \ 90 ] ، أي : صاحب القرابة من جهة الأب أو الأم ، أو هما معا ; لأن إيتاء ذي القربى صدقة وصلة رحم . والإيتاء : الإعطاء . وأحد المفعولين محذوف ; لأن المصدر أضيف إلى المفعول الأول : وحذف الثاني . والأصل وإيتاء صاحب القرابة ; كقوله : وآتى المال على حبه ذوي القربى . . . الآية [ 2 \ 177 ] ، قوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم أمر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عباده أن يوفوا بعهد الله إذا عاهدوا . وظاهر الآية أنه شامل لجميع العهود فيما بين العبد وربه ، وفيما بينه وبين الناس . وكرر هذا في مواضع أخر ; كقوله ( في الأنعام ) : ، وبعهد [ ص: 439 ] الله أوفوا ذلكم وصاكم به . . . الآية [ 6 \ 152 ] ، وقوله في ( الإسراء ) : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] ، وقد قدمنا هذا ( في الأنعام ) .
وبين في مواضع أخر : أن من نقض العهد إنما يضر بذلك نفسه ، وأن من أوفى به يؤتيه الله الأجر العظيم على ذلك ; وذلك في قوله : فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما [ 48 \ 10 ] ، وبين في مواضع أخر : أن نقض الميثاق يستوجب اللعن ; وذلك في قوله : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم . . . الآية [ 5 \ 13 ] .
قوله تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق . بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن ما عنده من نعيم الجنة باق لا يفنى . وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، وقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقوله : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ، أقسم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه سيجزي الذين صبروا أجرهم - أي : جزاء عملهم - بأحسن ما كانوا يعملون .
وبين في مواضع أخر : أنه جزاء بلا حساب ; كما في قوله : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ 39 \ 10 ] .
تنبيه .
استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة : أن فعل المباح حسن ; لأن قوله في هذه الآية : بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 96 ] ، صيغة تفضيل تدل على المشاركة ، والواجب أحسن من المندوب ، والمندوب أحسن من المباح ; فيجازون بالأحسن الذي هو الواجب والمندوب ، دون مشاركتهما في الحسن وهو المباح ; وعليه درج في مراقي السعود في قوله :
ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن
إلا أن الحسن ينقسم إلى حسن وأحسن ; ومن ذلك قوله تعالى لموسى : فخذها [ ص: 440 ] بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها . . . الآية [ 7 \ 145 ] ، فالجزاء المنصوص عليه في قوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ 16 \ 126 ] ، حسن . والصبر المذكور في قوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] ، أحسن ; وهكذا وقرأ هذا الحرف ابن كثير وعاصم وابن ذكوان بخلف عنه : " ولنجزين " بنون العظمة . وقرأه الباقون بالياء ، وهو الطريق الثاني لابن ذكوان .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:14 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (178)
سُورَةُ النَّحْلِ(24)
صـ 441 إلى صـ 445
قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن كل عامل سواء كان ذكرا أو أنثى عمل عملا صالحا فإنه - جل وعلا - يقسم ليحيينه حياة طيبة ، وليجزينه أجره بأحسن ما كان يعمل .
اعلم أولا : أن القرآن العظيم دل على أن العمل الصالح هو ما استكمل ثلاثة أمور :
الأول : موافقته لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن الله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
الثاني : أن يكون خالصا لله تعالى ; لأن الله - جل وعلا - يقول : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 14 ، 15 ] .
الثالث** : أن يكون مبنيا على أساس العقيدة الصحيحة ; لأن الله يقول : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن [ 16 \ 97 ] ، فقيد ذلك بالإيمان ، ومفهوم مخالفته أنه لو كان غير مؤمن لما قبل منه ذلك العمل الصالح .
وقد أوضح - جل وعلا - هذا المفهوم في آيات كثيرة ، كقوله في عمل غير المؤمن : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 16 ] ، وقوله : أعمالهم كسراب بقيعة الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
واختلف العلماء في المراد بالحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة .
فقال قوم : لا تطيب الحياة إلا في الجنة ، فهذه الحياة الطيبة في الجنة ; لأن الحياة [ ص: 441 ] الدنيا لا تخلو من المصائب والأكدار ، والأمراض والألام والأحزان ، ونحو ذلك . وقد قال تعالى : وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] ، والمراد بالحيوان : الحياة .
وقال بعض العلماء : الحياة الطيبة في هذه الآية الكريمة في الدنيا ، وذلك بأن يوفق الله عبده إلى ما يرضيه ، ويرزقه العافية والرزق الحلال ; كما قال تعالى : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار [ 2 \ 201 ] .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وفي الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بالحياة الطيبة في الآية : حياته في الدنيا حياة طيبة ; وتلك القرينة هي أننا لو قدرنا أن المراد بالحياة الطيبة : حياته في الجنة في قوله : فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، صار قوله : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، تكرارا معه ; لأن تلك الحياة الطيبة هي أجر عملهم ، بخلاف ما لو قدرنا أنها في الحياة الدنيا ; فإنه يصير المعنى : فلنحيينه في الدنيا حياة طيبة ، ولنجزينه في الآخرة بأحسن ما كان يعمل ، وهو واضح .
وهذا المعنى الذي دل عليه القرآن تؤيده السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة : والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت . وقد روي عن ابن عباس وجماعة : أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب ، وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : أنه فسرها بالقناعة ، وكذا قال ابن عباس وعكرمة ، ووهب بن منبه - إلى أن قال - وقال الضحاك : هي الرزق الحلال ، والعبادة في الدنيا . وقال الضحاك : هي الرزق الحلال ، والعبادة في الدنيا . وقال الضحاك أيضا هي العمل بالطاعة والانشراح بها .
والصحيح : أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ; كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني شرحبيل بن شريك ، عن أبي عبد الرحمن الحبلي ، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما أتاه " ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به . وروى الترمذي والنسائي من حديث أبي هانئ . عن أبي علي الجنبي ، عن فضالة بن عبيد : أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " قد أفلح من هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافا وقنع به " ، وقال الترمذي : هذا حديث صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام ، عن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن [ ص: 442 ] مالك ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة . وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا " ، انفرد بإخراجه مسلم . اه من ابن كثير .
وهذه الأحاديث ظاهرة في ترجيح القول : بأن الحياة الطيبة في الدنيا ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلح " يدل على ذلك ; لأن من نال الفلاح نال حياة طيبة . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يعطى بها في الدنيا " ، يدل على ذلك أيضا . وابن كثير إنما ساق الأحاديث المذكورة لينبه على أنها ترجح القول المذكور . والعلم عند الله تعالى .
وقد تقرر في الأصول : أنه إذا دار الكلام بين التوكيد والتأسيس رجح حمله على التأسيس : وإليه أشار في مراقي السعود جامعا له مع نظائر يجب فيها تقديم الراجح من الاحتمالين بقوله :
كذاك ما قابل ذا اعتلال من التأصل والاستقلال ومن تأسس عموم وبقا
الإفراد والإطلاق مما ينتقى كذاك ترتيب لإيجاب العمل
بما له الرجحان مما يحتمل
ومعنى كلام صاحب المراقي : أنه يقدم محتمل اللفظ الراجح على المحتمل المرجوح ، كالتأصل ، فإنه يقدم على الزيادة : نحو : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، يحتمل كون الكاف زائدة .
ويحتمل أنها غير زائدة . والمراد بالمثل الذات ; كقول العرب : مثلك لا يفعل هذا ، يعنون أنت لا ينبغي لك أن تفعل هذا ، فالمعنى : ليس كالله شيء . ونظيره من إطلاق المثل وإرادة الذات : وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله [ 46 \ 10 ] ، أي : على نفس القرآن لا شيء آخر مماثل له ، وقوله : كمن مثله في الظلمات [ 6 \ 122 ] ، أي : كمن هو في الظلمات . وكالاستقلال ، فإنه يقدم على الإضمار ; كقوله تعالى : أن يقتلوا أو يصلبوا الآية [ 5 \ 33 ] ، فكثير من العلماء يضمرون قيودا غير مذكورة فيقولون : أن يقتلوا إذا قتلوا ، أو يصلبوا إذا قتلوا وأخذوا المال ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم إذا أخذوا المال ولم يقتلوا . . إلخ .
فالمالكية يرجحون أن الإمام مخير بين المذكورات مطلقا ; لأن استقلال اللفظ أرجح من إضمار قيود غير مذكورة ; لأن الأصل عدمها حتى تثبت بدليل ; كما أشرنا إليه سابقا في ( المائدة ) وكذلك التأسيس يقدم على التأكيد وهو محل الشاهد ; كقوله : فبأي [ ص: 443 ] آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 59 ، 61 ، 63 ، 65 ، 67 ، 69 ، 71 ، 73 ، 75 ] ، في ( سورة الرحمن ) ، وقوله : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 19 ، 24 ، 28 ، 34 ، 37 ، 40 ، 45 ، 47 ، 49 ] ، ( في المرسلات ) . قيل : تكرار اللفظ فيهما توكيد ، وكونه تأسيسا أرجح لما ذكرنا . فتحمل الآلاء في كل موضع على ما تقدم . قيل : لفظ ذلك التكذيب فلا يتكرر منها لفظ . وكذا يقال في ( سورة المرسلات ) فيحمل على المكذبين بما ذكر ، قيل كل لفظ إلخ . فإذا علمت ذلك فاعلم - أنا إن حملنا الحياة الطيبة في الآية على الحياة الدنيا كان ذلك تأسيسا . وإن حملناها على حياة الجنة تكرر ذلك مع قوله بعده : ولنجزينهم أجرهم الآية [ 16 \ 97 ] ; لأن حياة الجنة الطيبة هي أجرهم الذي يجزونه .
وقال أبو حيان في ( البحر ) : والظاهر من قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، أن ذلك في الدنيا ; وهو قول الجمهور . ويدل عليه قوله : ولنجزينهم أجرهم [ 16 \ 97 ] ، يعني في الآخرة .
قوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ، أظهر القولين في هذه الآية الكريمة : أن الكلام على حذف الإرادة ، أي : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله . . الآية . وليس المراد أنه إذا قرأ القرآن وفرغ من قراءته استعاذ بالله من الشيطان كما يفهم من ظاهر الآية ، وذهب إليه بعض أهل العلم . والدليل على ما ذكرنا تكرر حذف الإرادة في القرآن وفي كلام العرب لدلالة المقام عليها ; كقوله : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية [ 5 \ 6 ] ، أي : أردتم القيام إليها كما هو ظاهر . وقوله : إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم الآية [ 58 \ 9 ] ، أي : إذ أردتم أن تتناجوا فلا تتناجوا بالإثم ; لأن النهي إنما هو عن أمر مستقبل يراد فعله ، ولا يصح النهي عن فعل مضى وانقضى كما هو واضح .
وظاهر هذه الآية الكريمة : أن الاستعاذة من الشيطان الرجيم واجبة عند القراءة ; لأن صيغة افعل للوجوب كما تقرر في الأصول .
وقال كثير من أهل العلم : إن الأمر في الآية للندب والاستحباب ، وحكى عليه الإجماع أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة ، وظاهر الآية أيضا : الأمر بالاستعاذة عند القراءة في الصلاة لعموم الآية . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 444 ] قوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الشيطان ليس له سلطان على المؤمنين المتوكلين على الله ، وأن سلطانه إنما هو على أتباعه الذين يتولونه ، والذين هم به مشركون .
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 39 - 40 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا [ 17 \ 65 ] ، وقوله : وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك الآية [ 34 \ 21 ] ، وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] .
واختلف العلماء في معنى السلطان في هذه الآية .
فقال أكثر أهل العلم : هو الحجة ، أي : ليس للشيطان عليهم حجة فيما يدعوهم إليه من عبادة الأوثان .
وقال بعضهم : ليس له سلطان عليهم ، أي : تسلط وقدرة على أن يوقعهم في ذنب لا توبة منه . وقد قدمنا هذا ، والمراد : ب : الذين يتولونه [ 16 \ 100 ] ، الذين يطيعونه فيوالونه بالطاعة .
وأظهر الأقوال في قوله : هم به مشركون [ 16 \ 100 ] ، أن الضمير عائد إلى الشيطان لا إلى الله . ومعنى كونهم مشركين به هو طاعتهم له في الكفر والمعاصي ; كما يدل عليه قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين [ 36 \ 60 ] ، وقوله عن إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان [ 19 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وأما سلطانه على الذين يتولونه فهو ما جعلوه له على أنفسهم من الطاعة والاتباع والموالاة ، بغير موجب يستوجب ذلك .
تنبيه .
فإنه قيل : أثبت الله للشيطان سلطانا على أوليائه في آيات ; كقوله هنا : إنما سلطانه [ ص: 445 ] على الذين يتولونه . . . الآية [ 16 \ 100 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، فالاستثناء يدل على أن له سلطانا على من اتبعه من الغاوين ; مع أنه نفى عنه السلطان عليهم في آيات أخر ; كقوله : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] .
وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 114 \ 22 ] .
فالجواب هو : أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :
الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة ، فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها ، غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان . وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .
الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعاته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة ; لأن الله يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم .
ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم - رحمه الله - ، وقد بينا هذا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:15 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (179)
سُورَةُ النَّحْلِ(25)
صـ 446 إلى صـ 450
قوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه إذا بدل آية مكان آية ، بأن نسخ آية أو أنساها ، وأتى بخير منها أو مثلها أن الكفار يجعلون ذلك سببا للطعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ; بادعاء أنه كاذب على الله ، مفتر عليه . زعما منهم أن نسخ الآية بالآية يلزمه البداء ، وهو الرأي المجدد ، وأن ذلك مستحيل على الله . فيفهم عندهم من ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مفتر على الله ، زاعمين أنه لو كان من الله لأقره وأثبته ، ولم يطرأ له فيه رأي متجدد حتى ينسخه .
والدليل على أن قوله : بدلنا آية مكان آية [ 16 \ 101 ] ، معناه : نسخنا آية وأنسيناها قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها [ 2 \ 106 ] ، وقوله : سنقرئك فلا [ ص: 446 ] تنسى إلا ما شاء الله [ 87 \ 6 ، 7 ] ، أي : أن تنساه .
والدليل على أنه إن نسخ آية أو أنساها ، لا بد أن يأتي ببدل خير منها أو مثلها قوله تعالى : نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، وقوله هنا : بدلنا آية مكان آية [ 16 \ 101 ] .
وما زعمه المشركون واليهود : من أن النسخ مستحيل على الله ; لأنه يلزمه البداء ، وهو الرأي المتجدد ظاهر السقوط ، واضح البطلان لكل عاقل ; لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة ، بل الله - جل وعلا - يشرع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في الوقت المعين ، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة ; فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز - جل وعلا - ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم ، الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة . كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه ، وحدوث الغنى بعد الفقر وعكسه ، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء ; لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له ، على وفق ما سبق في العلم الأزلي كما هو واضح .
وقد أشار - جل وعلا - إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ ، وتمحضها في الناسخ بقوله هنا : والله أعلم بما ينزل [ 16 \ 101 ] ، وقوله : نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير [ 2 \ 106 ] ، وقوله : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 6 ، 7 ] ، فقوله : إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 7 ] ، بعد قوله : إلا ما شاء الله [ 87 \ 7 ] ، يدل على أنه أعلم بما ينزل . فهو عالم بمصلحة الإنسان ، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة :
المسألة الأولى : لا خلاف بين المسلمين في جواز النسخ عقلا وشرعا ، ولا في وقوعه فعلا ، ومن ذكر عنه خلاف في ذلك كأبي مسلم الأصفهاني - فإنه إنما يعني أن النسخ تخصيص لزمن الحكم بالخطاب الجديد ; لأن ظاهر الخطاب الأول : استمرار الحكم في جميع الزمن . والخطاب الثاني دل على تخصيص الحكم الأول بالزمن الذي قبل النسخ ; فليس النسخ عنده رفعا للحكم الأول ، وقد أشار إليه في مراقي السعود بقوله في تعريف النسخ : [ ص: 447 ]
رفع لحكم أو بيان الزمن بمحكم القرآن أو بالسنن
وإنما خالف فيه اليهود وبعض المشركين ، زاعمين أنه يلزمه البداء كما بينا . ومن هنا قالت اليهود : إن شريعة موسى يستحيل نسخها .
المسألة الثانية : لا يصح نسخ حكم شرعي إلا بوحي من كتاب أو سنة ; لأن الله - جل وعلا - يقول : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] ، وبه تعلم أن النسخ بمجرد العقل ممنوع ، وكذلك لا نسخ بالإجماع ; لأن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه ما دام حيا فالعبرة بقوله وفعله وتقريره - صلى الله عليه وسلم - ، ولا حجة معه في قول الأمة ; لأن اتباعه فرض على كل أحد ; ولذا لا بد في تعريف الإجماع من التقييد بكونه بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، كما قال صاحب المراقي في تعريف الإجماع :
وهو الاتفاق من مجتهدي الأمة من بعد وفاة أحمد .
وبعد وفاته ينقطع النسخ ; لأنه تشريع ، ولا تشريع البتة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى كون العقل والإجماع لا يصح النسخ بمجردهما - أشار في مراقي السعود أيضا بقوله في النسخ :
فلم يكن بالعقل أو مجرد الإجماع بل ينمى إلى المستند
وقوله : " بل ينمى إلى المستند " يعني أنه إذا وجد في كلام العلماء أن نصا منسوخ بالإجماع ، فإنهم إنما يعنون أنه منسوخ بالنص الذي هو مستند الإجماع ، لا بنفس الإجماع ; لما ذكرنا من منع النسخ به شرعا . وكذلك لا يجوز نسخ الوحي بالقياس على التحقيق ، وإليه أشار في المراقي بقوله :
ومنه نسخ النص بالقياس هو الذي ارتضاه جل الناس
أي : وهو الحق .
المسألة الثالثة : اعلم أن ما يقوله بعض أهل الأصول من المالكية والشافعية وغيرهم : من جواز النسخ بلا بدل ، وعزاه غير واحد للجمهور ، وعليه درج في المراقي بقوله : [ ص: 448 ] وينسخ الخف بما له ثقل وقد يجيء عاريا من البدل .
أنه باطل بلا شك . والعجب ممن قال به العلماء الأجلاء مع كثرتهم ، مع أنه مخالف مخالفة صريحة لقوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، فلا كلام البتة لأحد بعد كلام الله تعالى : ومن أصدق من الله قيلا [ 4 \ 122 ] ، ومن أصدق من الله حديثا [ 4 \ 87 ] ، أأنتم أعلم أم الله [ 2 \ 140 ] ، فقد ربط - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بين النسخ ، وبين الإتيان ببدل المنسوخ على سبيل الشرط والجزاء . ومعلوم أن الصدق والكذب في الشرطية يتواردان على الربط ; فيلزم أنه كلما وقع النسخ وقع الإتيان بخير من المنسوخ أو مثله كما هو ظاهر .
وما زعمه بعض أهل العلم من أن النسخ وقع في القرآن بلا بدل وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة [ 58 \ 12 ] ، فإنه نسخ بقوله : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات الآية [ 8 \ 13 ] ، ولا بدل لهذا المنسوخ .
فالجواب : أن له بدلا ، وهو أن وجوب تقديم الصدقة أمام المناجاة لما نسخ بقي استحباب الصدقة وندبها ، بدلا من الوجوب المنسوخ كما هو ظاهر .
المسألة الرابعة : اعلم أنه يجوز نسخ الأخف بالأثقل ، والأثقل بالأخف . فمثال نسخ الأخف بالأثقل : نسخ التخيير بين الصوم والإطعام المنصوص عليه في قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ 2 \ 184 ] ، بأثقل منه ، وهو تعيين إيجاب الصوم في قوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، ونسخ حبس الزواني في البيوت المنصوص عليه بقوله : فأمسكوهن في البيوت الآية [ 4 \ 15 ] ، بأثقل منه وهو الجلد والرجم المنصوص على الأول منهما في قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، وعلى الثاني منهما بآية الرجم التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ثابتا ، وهي قوله : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " ، ومثال نسخ الأثقل بالأخف : نسخ وجوب مصابرة المسلم عشرة من الكفار المنصوص عليه في قوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 65 ] ، بأخف منه وهو مصابرة المسلم اثنين منهم المنصوص عليه في قوله : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين [ ص: 449 ] الآية [ 8 \ 66 ] ، وكنسخ قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ 2 \ 284 ] ، بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، فإنه نسخ للأثقل بالأخف كما هو ظاهر . وكنسخ اعتداد المتوفى عنها بحول ، المنصوص عليه في قوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول الآية [ 2 \ 240 ] ، بأخف منه وهو الاعتداد بأربعة أشهر وعشر ، المنصوص عليه في قوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ 2 \ 234 ] .
تنبيه .
اعلم : أن في قوله - جل وعلا - : نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] إشكالا من جهتين :
الأولى : أن يقال : إما أن يكون الأثقل خيرا من الأخف ; لأنه أكثر أجرا ، أو الأخف خيرا من الأثقل ; لأنه أسهل منه ، وأقرب إلى القدرة على الامتثال . وكون الأثقل خيرا يقتضي منع نسخه بالأخف ، كما أن كون الأخف خيرا يقتضي منع نسخه بالأثقل ; لأن الله صرح بأنه يأتي بما هو خير من المنسوخ أو مماثل له ، لا ما هو دونه . وقد عرفت : أن الواقع جواز نسخ كل منهما بالآخر .
الجهة الثانية : من جهتي الإشكال في قوله أو مثلها [ 2 \ 106 ] ; لأنه يقال : ما الحكمة في نسخ المثل ليبدل منه مثله ؟ وأي مزية للمثل على المثل حتى ينسخ ويبدل منه ؟ .
والجواب عن الإشكال الأول : هو أن الخيرية تارة تكون في الأثقل لكثرة الأجر ، وذلك فيما إذا كان الأجر كثيرا جدا والامتثال غير شديد الصعوبة ، كنسخ التخيير بين الإطعام والصوم بإيجاب الصوم ; فإن في الصوم أجرا كثيرا كما في الحديث القدسي : " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " ، والصائمون من خيار الصابرين ; لأنهم صبروا لله عن شهوة بطونهم وفروجهم ; والله يقول : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ 39 \ 10 ] ، ومشقة الصوم عادية ليس فيها صعوبة شديدة تكون مظنة لعدم القدرة على الامتثال ، وإن عرض ما يقتضي ذلك كمرض أو سفر ; فالتسهيل برخصة الإفطار منصوص بقوله : " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر [ 2 \ 184 ] ، وتارة تكون الخيرية في الأخف ، وذلك فيما إذا كان الأثقل المنسوخ شديد الصعوبة بحيث يعسر فيه الامتثال ; فإن الأخف يكون خيرا منه ; لأن مظنة عدم الامتثال تعرض المكلف للوقوع فيما [ ص: 450 ] لا يرضي الله ، وذلك كقوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ 2 \ 284 ] ، فلو لم تنسخ المحاسبة بخطرات القلوب لكان الامتثال صعبا جدا ، شاقا على النفوس ، لا يكاد يسلم من الإخلال به ، إلا من سلمه الله تعالى - فشك أن نسخ ذلك بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، خير للمكلف من بقاء ذلك الحكم الشاق ، وهكذا .
والجواب عن الإشكال الثاني : هو أن قوله : أو مثلها ، يراد به مماثلة الناسخ والمنسوخ في حد ذاتهما ; فلا ينافي أن يكون الناسخ يستلزم فوائد خارجة عن ذاته يكون بها خيرا من المنسوخ ، فيكون باعتبار ذاته مماثلا للمنسوخ ، وباعتبار ما يستلزمه من الفوائد التي لا توجد في المنسوخ خيرا من المنسوخ .
وإيضاحه : أن عامة المفسرين يمثلون لقوله : أو مثلها ، بنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام ; فإن هذا الناسخ والمنسوخ بالنظر إلى ذاتهما متماثلان ; لأن كل واحد منهما جهة من الجهات ، وهي في حقيقة أنفسها متساوية ، فلا ينافي أن يكون الناسخ مشتملا على حكم خارجة عن ذاته تصيره خيرا من المنسوخ بذلك الاعتبار . فإن استقبال بيت الله الحرام تلزمه نتائج متعددة مشار لها في القرآن ليست موجودة في استقبال بيت المقدس ، منها : أنه يسقط به احتجاج كفار مكة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم : تزعم أنك على ملة إبراهيم ولا تستقبل قبلتها ! وتسقط به حجة اليهود بقولهم : تعيب ديننا وتستقبل قبلتنا ، وقبلتنا من ديننا ! وتسقط به أيضا حجة علماء اليهود فإنهم عندهم في التوراة : أنه - صلى الله عليه وسلم - سوف يؤمر باستقبال بيت المقدس ، ثم يؤمر بالتحول عنه إلى استقبال بيت الله الحرام . فلو لم يؤمر بذلك لاحتجوا عليه بما عندهم في التوراة من أنه سيحول إلى بيت الله الحرام ، والفرض أنه لم يحول .
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكم التي هي إدحاض هذه الحجج الباطلة بقوله : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا [ 2 \ 150 ] ، ثم بين الحكمة بقوله : لئلا يكون للناس عليكم حجة الآية [ 2 \ 150 ] ، وإسقاط هذه الحجج من الدواعي التي دعته - صلى الله عليه وسلم - إلى حب التحويل إلى بيت الله الحرام المشار إليه في قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام الآية [ 2 \ 144 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:15 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (180)
سُورَةُ النَّحْلِ(26)
صـ 451 إلى صـ 455
المسألة الخامسة : اعلم أن النسخ على ثلاثة أقسام :
[ ص: 451 ] الأول : نسخ التلاوة والحكم معا ، ومثاله ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت : " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن . . " ، الحديث . فآية عشر رضعات منسوخة التلاوة والحكم إجماعا .
الثاني : نسخ التلاوة وبقاء الحكم ، ومثاله آية الرجم المذكورة آنفا ، وآية خمس رضعات على قول الشافعي وعائشة ومن وافقهما .
الثالث : نسخ الحكم وبقاء التلاوة ، وهو غالب ما في القرآن من المنسوخ . كآية المصابرة ، والعدة ، والتخيير بين الصوم والإطعام ، وحبس الزواني . كما ذكرنا ذلك كله آنفا .
المسألة السادسة : اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في نسخ القرآن بالقرآن ، ونسخ السنة بمتواتر السنة . واختلفوا في نسخ القرآن بالسنة كعكسه ، وفي نسخ المتواتر بأخبار الآحاد ; وخلافهم في هذه المسائل معروف . وممن قال : بأن الكتاب لا ينسخ إلا بالكتاب ، وأن السنة لا تنسخ إلا بالسنة الشافعي - رحمه الله - .
قال مقيده - عفا الله عنه - : الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - هو أن الكتاب والسنة كلاهما ينسخ بالآخر ; لأن الجميع وحي من الله تعالى . فمثال نسخ السنة بالكتاب : نسخ استقبال بيت المقدس باستقبال بيت الله الحرام ; فإن استقبال بيت المقدس أولا إنما وقع بالسنة لا بالقرآن ، وقد نسخه الله بالقرآن في قوله : فلنولينك قبلة ترضاها الآية [ 2 \ 144 ] ، ومثال نسخ الكتاب بالسنة : نسخ آية عشر رضعات تلاوة وحكما بالسنة المتواترة . ونسخ سورة الخلع وسورة الحفد تلاوة وحكما بالسنة المتواترة . وسورة الخلع وسورة الحفد : هما القنوت في الصبح عند المالكية . وقد أوضح صاحب ( الدر المنثور ) وغيره تحقيق أنهما كانتا سورتين من كتاب الله ثم نسختا .
وقد قدمنا في ( سورة الأنعام ) أن الذي يظهر لنا أنه الصواب : هو أن أخبار الآحاد الصحيحة يجوز نسخ المتواتر بها إذا ثبت تأخرها عنه ، وأنه لا معارضة بينهما ; لأن المتواتر حق ، والسنة الواردة بعده إنما بينت شيئا جديدا لم يكن موجودا قبل ، فلا معارضة بينهما البتة لاختلاف زمنهما .
فقوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن [ ص: 452 ] اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم [ 6 \ 145 ] الآية .
يدل بدلالة المطابقة دلالة صريحة على إباحة لحوم الحمر الأهلية ; لصراحة الحصر بالنفي والإثبات في الآية في ذلك . فإذا صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يوم خيبر في حديث صحيح : " بأن لحوم الحمر الأهلية غير مباحة " ، فلا معارضة البتة بين ذلك الحديث الصحيح وبين تلك الآية النازلة قبله بسنين ; لأن الحديث دل على تحريم جديد ، والآية ما نفت تجدد شيء في المستقبل كما هو واضح .
فالتحقيق - إن شاء الله - هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عنه ، وإن خالف فيه جمهور الأصوليين ، ودرج على خلافه وفاقا للجمهور صاحب المراقي بقوله : والنسخ بالآحاد للكتاب ليس بواقع على الصواب .
ومن هنا تعلم : أنه لا دليل على بطلان قول من قال : إن الوصية للوالدين والأقربين منسوخة بحديث : " لا وصية لوارث " ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة : اعلم أن التحقيق هو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل ، فإن قيل : ما الفائدة في تشريع الحكم أولا إذا كان سينسخ قبل التمكن من فعله ؟ .
فالجواب : أن الحكمة ابتلاء المكلفين بالعزم على الامتثال . ويوضح هذا : أن الله أمر إبراهيم أن يذبح ولده ، وقد نسخ عنه هذا الحكم بفدائه بذبح عظيم قبل أن يتمكن من الفعل . وبين أن الحكمة في ذلك : الابتلاء بقوله : إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ 37 \ 106 ، 107 ] ، ومن أمثلة النسخ قبل التمكن من الفعل : نسخ خمس وأربعين صلاة ليلة الإسراء ، بعد أن فرضت الصلاة خمسين صلاة ، كما هو معروف . وقد أشار إلى هذه المسألة في مراقي السعود بقوله :
والنسخ من قبل وقوع الفعل جاء وقوعا في صحيح النقل
المسألة الثامنة : اعلم أن التحقيق : أنه ما كل زيادة على النص تكون نسخا ، وإن خالف في ذلك الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - ، بل الزيادة على النص قسمان : قسم مخالف النص المذكور قبله ، وهذه الزيادة تكون نسخا على التحقيق ; كزيادة تحريم الحمر الأهلية ، وكل ذي ناب من السباع مثلا ، على المحرمات الأربعة المذكورة في آية : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية [ 6 \ 145 ] ; لأن الحمر الأهلية ونحوها لم يسكت عن حكمه في الآية ، بل مقتضى الحصر بالنفي والإثبات [ ص: 453 ] في قوله : في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية ، صريح في إباحة الحمر الأهلية وما ذكر معها ; فكون زيادة تحريمها نسخا أمر ظاهر .
وقسم لا تكون الزيادة فيه مخالفة للنص ، بل تكون زيادة شيء سكت عنه النص الأول ، وهذا لا يكون نسخا ، بل بيان حكم شيء كان مسكوتا عنه ; كتغريب الزاني البكر ، وكالحكم بالشاهد ، واليمين في الأموال . فإن القرآن في الأول : أوجب الجلد وسكت عما سواه ، فزاد النبي حكما كان مسكوتا عنه ، وهو التغريب . كما أن القرآن في الثاني فيه : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ 2 \ 282 ] ، وسكت عن حكم الشاهد واليمين ، فزاد النبي - صلى الله عليه وسلم - حكما كان مسكوتا عنه ; وإلى هذا أشار في مراقي السعود بقوله :
وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص إلا ازديادا
وقد قدمنا في ( الأنعام ) في الكلام على قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [ 6 \ 145 ] .
قوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق الآية ، أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أن يقول إن هذا القرآن الذي زعموا أنه افتراء بسبب تبديل الله آية مكان آية ; أنه نزله عليه روح القدس من ربه - جل وعلا - ; فليس مفتريا له . وروح القدس : جبريل ، ومعناه الروح المقدس ، أي : الطاهر من كل ما لا يليق .
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] ، وقوله : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] ، وقوله : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] ، وقوله : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ 75 \ 16 - 18 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر ، أقسم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يعلم أن الكفار يقولون : إن هذا القرآن الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس وحيا من الله ، وإنما تعلمه من بشر من الناس .
وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 25 \ 5 ] ، وقوله : إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] ، [ ص: 454 ] أي : يرويه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن غيره ، وقوله : وليقولوا درست الآية [ 6 \ 105 ] ، كما تقدم في ( الأنعام ) .
وقد اختلف العلماء في تعيين هذا البشر الذي زعموا أنه يعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد صرح القرآن بأنه أعجمي اللسان ; فقيل : هو غلام الفاكه بن المغيرة ، واسمه جبر ، وكان نصرانيا فأسلم . وقيل : اسمه يعيش عبد لبني الحضرمي ، وكان يقرأ الكتب الأعجمية . وقيل : غلام لبني عامر بن لؤي . وقيل : هما غلامان : اسم أحدهما يسار ، واسم الآخر جبر ، وكانا صيقليين يعملان السيوف ، وكانا يقرآن كتابا لهم . وقيل : كانا يقرآن التوراة والإنجيل ، إلى غير ذلك من الأقوال .
وقد بين - جل وعلا - كذبهم وتعنتهم في قولهم : إنما يعلمه بشر [ 16 \ 103 ] ، بقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] ، أي : كيف يكون تعلمه من ذلك البشر ، مع أن ذلك البشر أعجمي اللسان . وهذا القرآن عربي مبين فصيح ، لا شائبة فيه من العجمة ; فهذا غير معقول .
وبين شدة تعنتهم أيضا بأنه لو جعل القرآن أعجميا لكذبوه أيضا وقالوا : كيف يكون هذا القرآن أعجميا مع أن الرسول الذي أنزل عليه عربي ; وذلك في قوله : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ 41 \ 44 ] ، أي : أقرآن أعجمي ، ورسول عربي . فكيف ينكرون أن القرآن أعجمي والرسول عربي ، ولا ينكرون أن المعلم المزعوم أعجمي ، مع أن القرآن المزعوم تعليمه له عربي .
كما بين تعنتهم أيضا ، بأنه لو نزل هذا القرآن العربي المبين ، على أعجمي فقرأه عليهم عربيا لكذبوه أيضا ، مع ذلك الخارق للعادة ; لشدة عنادهم وتعنتهم ، وذلك في قوله : ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين [ 26 \ 198 - 199 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة : يلحدون ، أي : يميلون عن الحق . والمعنى لسان البشر الذي يلحدون ، أي : يميلون قولهم عن الصدق والاستقامة إليه ; أعجمي غير بين ، وهذا القرآن لسان عربي مبين ، أي : ذو بيان وفصاحة . وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي : يلحدون ، بفتح الياء والحاء ، من لحد الثلاثي . وقرأه الباقون : يلحدون ، بضم الياء والحاء ، من لحد الثلاثي . وقرأه الباقون : يلحدون ، بضم الياء وكسر الحاء من ألحد الرباعي ، وهما لغتان ، والمعنى واحد ، أي : [ ص: 455 ] يميلون عن الحق إلى الباطل . وأما يلحدون ، التي في ( الأعراف ) ، والتي في ( فصلت ) فلم يقرأهما بفتح الياء والحاء إلا حمزة وحده دون الكسائي . وإنما وافقه الكسائي في هذه التي في ( النحل ) وأطلق اللسان على القرآن ; لأن العرب تطلق اللسان وتريد به الكلام ; فتؤنثها وتذكرها . ومنه قول أعشى باهلة :
إني أتتني لسان لا أسر بها من علو لا عجب فيها ولا سخر
وقول الآخر :
لسان الشر تهديها إلينا وخنت وما حسبتك أن تخونا
وقول الآخر :
أتتني لسان بني عامر أحاديثها بعد قول نكر
ومنه قوله تعالى : واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ 26 \ 84 ] ، أي : ثناء حسنا باقيا . ومن إطلاق اللسان بمعنى الكلام مذكرا قول الحطيئة :
ندمت على لسان فات مني فليت بأنه في جوف عكم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-09-26, 02:16 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (181)
سُورَةُ النَّحْلِ(27)
صـ 456 إلى صـ 460
قوله تعالى : وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، قال بعض أهل العلم : " إن هذا مثل ضربه الله لأهل مكة " ، وهو رواية العوفي عن ابن عباس ، وإليه ذهب مجاهد وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وحكاه مالك عن الزهري - رحمهم الله - ، نقله عنهم ابن كثير وغيره .
وهذه الصفات المذكورة التي اتصفت بها هذه القرية : تتفق مع صفات أهل مكة المذكورة في القرآن ; فقوله عن هذه القرية : كانت آمنة مطمئنة [ 16 \ 112 ] ، قال نظيره عن أهل مكة ; كقوله : أولم نمكن لهم حرما آمنا الآية [ 28 \ 57 ] ، وقوله : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم الآية [ 29 \ 67 ] ، وقوله : وآمنهم من خوف [ 106 \ 4 ] ، وقوله : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، وقوله : وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا الآية [ 2 \ 125 ] ، وقوله : يأتيها رزقها رغدا من كل مكان [ 16 \ 112 ] ، قال نظيره عن أهل مكة أيضا ; كقوله : يجبى إليه ثمرات كل شيء [ 28 \ 57 ] ، وقوله : لإيلاف قريش إيلافهم رحلة [ ص: 456 ] الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 1 - 4 ] ، فإن رحلة الشتاء كانت إلى اليمن ، ورحلة الصيف كانت إلى الشام ، وكانت تأتيهم من كلتا الرحلتين أموال وأرزاق ; ولذا أتبع الرحلتين بامتنانه عليهم : بأن أطعمهم من جوع . وقوله في دعوة إبراهيم : وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات الآية [ 2 \ 126 ] ، وقوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات الآية [ 14 \ 37 ] .
وقوله : فكفرت بأنعم الله [ 16 \ 112 ] ، ذكر نظيره عن أهل مكة في آيات كثيرة ; كقوله : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] .
وقد قدمنا طرفا من ذلك في الكلام على قوله تعالى : يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها الآية [ 16 \ 83 ] .
وقوله : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [ 16 \ 112 ] ، وقع نظيره قطعا لأهل مكة ; لما لجوا في الكفر والعناد ، ودعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال : " اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف " ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء ، حتى أكلوا الجيف والعلهز ( وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه ) ، وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن ; وذلك الخوف من جيوش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وغزواته وبعوثه وسراياه . وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات ; فقد فسر ابن مسعود آية ( الدخان ) بما يدل على ذلك .
قال البخاري في صحيحه : باب : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين [ 44 \ 10 ] ، " فارتقب " [ 44 \ 10 ] : فانتظر ، حدثنا عبدان ، عن أبي حمزة ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عبد الله قال : مضى خمس : الدخان ، والروم ، والقمر ، والبطشة ، واللزام . يغشى الناس هذا عذاب أليم [ 44 \ 11 ] ، حدثنا يحيى ، حدثنا أبو معاوية . عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق قال : قال عبد الله : " إنما كان هذا ; لأن قريشا لما استعصوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف ; فأصابهم قحط وجهد ، حتى أكلوا العظام . فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد . فأنزل الله تعالى : فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا [ ص: 457 ] عذاب أليم [ 44 \ 10 ، 11 ] ، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر ، فإنها قد هلكت ! قال : " لمضر ! إنك لجريء ! " ، فاستسقى فسقوا . فنزلت : إنكم عائدون [ 44 \ 15 ] ، فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية . فأنزل الله عز وجل : يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون [ 44 \ 16 ] ، يعني يوم بدر .
باب قوله تعالى : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون [ 44 \ 12 ] ، حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : دخلت على عبد الله فقال : " إن من العلم أن تقول لما لا تعلم : الله أعلم ، إن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] " ، إن قريشا لما غلبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعصوا عليه ، قال : " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " ، فأخذتهم سنة أكلوا فيها العظام والميتة من الجهد ، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع *** ، قالوا : ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون [ 44 \ 12 ] ، فقيل له : إن كشفنا عنهم عادوا ; فدعا ربه فكشف عنهم فعادوا ، فانتقم الله منهم يوم بدر ; فذلك قوله : يوم تأتي السماء بدخان مبين [ 44 \ 10 ] ، إلى قوله جل ذكره : إنا منتقمون [ 44 \ 16 ] ، انتهى بلفظه من صحيح البخاري .
وفي تفسير ابن مسعود - رضي الله عنه - لهذه الآية الكريمة : ما يدل دلالة واضحة أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في ( سورة النحل ) من لباس الجوع أذيقه أهل مكة ، حتى أكلوا العظام ، وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع . وهذا التفسير من ابن مسعود - رضي الله عنه - له حكم الرفع ; لما تقرر في علم الحديث : من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع ; كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله :
تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق .
وكما هو معروف عند أهل العلم .
وقد قدمنا ذلك في ( سورة البقرة ) في الكلام : على قوله تعالى : فأتوهن من حيث أمركم الله [ 2 \ 222 ] .
وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة . ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين : الدخان الذي مضى ، والدخان المستقبل جمعا بين الأدلة . وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى . وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس بن تيمية - رحمه الله - في رسالته في علوم القرآن ، بأدلته .
[ ص: 458 ] وأما الخوف المذكور في آية " النحل " فقد ذكر - جل وعلا - مثله عن أهل مكة أيضا على بعض تفسيرات الآية الكريمة التي هي : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم [ 13 \ 31 ] ، فقد جاء عن جماعة من السلف تفسير القارعة التي تصيبهم بسرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال صاحب الدر المنثور : أخرج الفريابي وابن جرير ، وابن مردويه من طريق عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : تصيبهم بما صنعوا قارعة [ 13 \ 31 ] ، قال : السرايا ، وأخرج الطيالسي وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، من طريق سعيد بن جبير - رضي الله عنه - ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة [ 13 \ 31 ] ، قال : سرية قارعة أو تحل قريبا من دارهم [ 13 \ 31 ] ، قال : أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح مكة " ، وأخرج ابن مردويه ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - في قوله : " تصيبهم بما صنعوا قارعة ، قال : سرية من سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تحل : يا محمد قريبا من دارهم " ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الدلائل ، عن مجاهد - رضي الله عنه - قال : " القارعة السرايا أو تحل قريبا من دارهم ، قال : الحديبية ، حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح مكة " ، وأخرج ابن جرير عن عكرمة - رضي الله عنه - في قوله : ولا يزال الذين كفروا الآية ، نزلت بالمدينة في سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تحل أنت يا محمد قريبا من دراهم . اه محل الغرض منه .
فهذا التفسير المذكور في آية ( الرعد ) هذه ، والتفسير المذكور قبله في آية ( الدخان ) يدل على أن أهل مكة أبدلوا بعد سعة الرزق بالجوع ، وبعد الأمن والطمأنينة بالخوف ; كما قال في القرية المذكورة : كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [ 16 \ 112 ] ، وقوله في القرية المذكورة : ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه . . . الآية [ 16 \ 113 ] ، لا يخفى أنه قال مثل ذلك عن قريش في آيات كثيرة ; كقوله : لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية [ 9 \ 128 ] ، وقوله : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] .
والآيات المصرحة بكفرهم وعنادهم كثيرة جدا ; كقوله : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم . . . الآية [ 38 \ 5 ] [ ص: 459 ] وقوله : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها الآية [ 25 \ 41 - 42 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
فمجموع ما ذكرنا يؤيد قول من قال : إن المراد بهذه القرية المضروبة مثلا في آية ( النحل ) هذه : هي مكة . وروي عن حفصة وغيرها : " أنها المدينة ، قالت ذلك لما بلغها قتل عثمان - رضي الله عنه - " ، وقال بعض العلماء : هي قرية غير معينة ، ضربها الله مثلا للتخويف من مقابلة نعمة الأمن والاطمئنان والرزق ، بالكفر والطغيان . وقال من قال بهذا القول : إنه يدل عليه تنكير القرية في الآية الكريمة في قوله : وضرب الله مثلا قرية الآية [ 16 \ 112 ] .
قال مقيده - عفا الله عنه - : وعلى كل حال ، فيجب على كل عاقل أن يعتبر بهذا المثل ، وألا يقابل نعم الله بالكفر والطغيان ; لئلا يحل به ما حل بهذه القرية المذكورة . ولكن الأمثال لا يعقلها عن الله إلا من أعطاه الله علما ; لقوله : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] .
وفي قوله في هذه الآية الكريمة : قرية ، وجهان من الإعراب .
أحدهما : أنه يدل من قوله : مثلا ، الثاني : أن ضرب مضمن معنى جعل ، وأن : قرية ، هي المفعول الأول ، و : مثلا المفعول الثاني . وإنما أخرت قرية لئلا يقع الفصل بينها وبين صفاتها المذكورة في قوله : كانت آمنة . . . ، إلخ .
وقوله في هذه الآية الكريمة : مطمئنة ، أي : لا يزعجها خوف ; لأن الطمأنينة مع الأمن ، والانزعاج والقلق مع الخوف .
وقوله : رغدا ، أي : واسعا لذيذا . والأنعم قيل : جمع نعمة كشدة وأشد . أو على ترك الاعتداد بالتاء . كدرع وأدرع . أو جمع نعم كبؤس وأبؤس . كما تقدم في ( سورة الأنعام ) في الكلام على قوله : حتى يبلغ أشده الآية [ الآية \ 152 ] .
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، هو أن يقال : كيف أوقع الإذاقة على اللباس في قوله : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف الآية [ 16 \ 112 ] ، وروي أن ابن الراوندي الزنديق قال لابن الأعرابي - إمام اللغة والأدب - : هل يذاق اللباس ؟ ! يريد الطعن [ ص: 460 ] في قوله تعالى : فأذاقها الله لباس الجوع الآية ، فقال له ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس ! هب أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ما كان نبيا ! أما كان عربيا ؟ .
قال مقيده - عفا الله عنه - : والجواب عن هذا السؤال ظاهر ، وهو أنه أطلق اسم اللباس على ما أصابهم من الجوع والخوف ; لأن آثار الجوع والخوف تظهر على أبدانهم ، وتحيط بها كاللباس . ومن حيث وجدانهم ذلك اللباس المعبر به عن آثار الجوع والخوف ، أوقع عليه الإذاقة ، فلا حاجة إلى ما يذكره البيانيون من الاستعارات في هذه الآية الكريمة . وقد أوضحنا في رسالتنا التي سميناها ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) : أنه لا يجوز لأحد أن يقول إن في القرآن مجازا ، وأوضحنا ذلك بأدلته ، وبينا أن ما يسميه البيانيون مجازا أنه أسلوب من أساليب اللغة العربية .
وقد اختلف أهل البيان في هذه الآية ، فبعضهم يقول : فيها استعارة مجردة ; يعنون أنها جيء فيها بما يلائم المستعار له . وذلك في زعمهم أنه استعار اللباس لما غشيهم من بعض الحوادث كالجوع والخوف ، بجامع اشتماله عليهم كاشتمال اللباس على اللابس على سبيل الاستعارة التصريحية الأصلية التحقيقية ، ثم ذكر الوصف الذي هو الإذاقة ملائما للمستعار له الذي هو الجوع والخوف ; لأن إطلاق الذوق على وجدان الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة لكثرة الاستعمال .
فيقولون : ذاق البؤس والضر ، وأذاقه غيره إياهما ; فكانت الاستعارة مجردة لذكر ما يلائم المستعار له ، الذي هو المشبه في الأصل في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة . ولو أريد ترشيح هذه الاستعارة في زعمهم لقيل : فكساها ; لأن الإتيان بما يلائم المستعار منه الذي هو المشبه به في التشبيه الذي هو أصل الاستعارة يسمى " ترشيحا " ، والكسوة تلائم اللباس ، فذكرها ترشيح للاستعارة . قالوا : وإن كانت الاستعارة المرشحة أبلغ من المجردة ، فتجريد الاستعارة في الآية أبلغ ; من حيث إنه روعي المستعار له الذي هو الخوف والجوع ، وبذكر الإذاقة المناسبة لذلك ليزداد الكلام وضوحا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:01 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (182)
سُورَةُ النَّحْلِ(28)
صـ 461 إلى صـ 465
وقال بعضهم : هي استعارة مبنية على استعارة ; فإنه أولا استعار لما يظهر على أبدانهم من الاصفرار والذبول والنحول اسم اللباس ، بجامع الإحاطة بالشيء والاشتمال عليه ، فصار اسم اللباس مستعارا لآثار الجوع والخوف على أبدانهم ، ثم استعار اسم الإذاقة لما يجدونه من ألم ذلك الجوع والخوف المعبر عنه باللباس ، بجامع التعرف والاختبار في كل من الذوق بالفم ، ووجود الألم من الجوع والخوف ; وعليه ففي اللباس [ ص: 461 ] استعارة أصلية كما ذكرنا . وفي الإذاقة المستعارة لمس ألم الجوع والخوف استعارة تبعية .
وقد ألممنا هنا بطرف قليل من كلام البيانيين هنا ليفهم الناظر مرادهم ، مع أن التحقيق الذي لا شك فيه : أن كل ذلك لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته ، وأن العرب تطلق الإذاقة على الذوق وعلى غيره من وجود الألم واللذة ، وأنها تطلق اللباس على المعروف ، وتطلقه على غيره مما فيه معنى اللباس من الاشتمال ; كقوله : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ 2 \ 187 ] ، وقول الأعشى :
إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت عليه فكانت لباسا
وكلها أساليب عربية . ولا إشكال في أنه إذا أطلق اللباس على مؤثر مؤلم يحيط بالشخص إحاطة اللباس ، فلا مانع من إيقاع الإذاقة على ذلك الألم المحيط المعبر باسم اللباس . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ، نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة الكفار عن تحريم ما أحل الله من رزقه ، مما شرع لهم عمرو بن لحي ( لعنه الله ) من تحريم ما أحل الله .
وقد أوضح - جل وعلا - هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] ، وقوله : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، وقوله : قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين [ 6 \ 140 ] ، وقوله : وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا الآية [ 6 \ 139 ] ، وقوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم الآية [ 6 \ 138 ] ، وقوله حجر ، أي : حرام ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم .
وفي قوله الكذب [ 16 \ 116 ] ، أوجه من الإعراب :
أحدهم : أنه منصوب بـ : تقولوا ، أي : لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم من رزق الله بالحل والحرمة ; كما ذكر في الآيات المذكورة آنفا من غير استناد ذلك الوصف إلى دليل ، واللام مثلها في قولك : لا تقولوا لما أحل الله : هو حرام ، وكقوله : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية [ 2 \ 154 ] ، وجملة هذا حلال وهذا [ ص: 462 ] حرام ، بدل من : الكذب ، وقيل : إن الجملة المذكورة في محل نصب : تصف ، بتضمينها معنى تقول ، أي : ولا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم ، فتقول هذا حلال وهذا حرام . وقيل : الكذب ، مفعول به ل تصف ، و ما مصدرية ، وجملة هذا حلال وهذا حرام متعلقة ب لا تقولوا ، أي : لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب ; أي : لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم ، ويجول في أفواهكم ; لا لأجل حجة وبينة ، قاله صاحب الكشاف . وقيل : الكذب بدل من هاء المفعول المحذوفة ; أي : لما تصفه ألسنتكم الكذب .
تنبيه .
كان السلف الصالح - رضي الله عنهم - يتورعون عن قولهم : هذا حلال وهذا حرام ; خوفا من هذه الآيات .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال الدارمي : أبو محمد في مسنده : أخبرنا هارون ، عن حفص ، عن الأعمش قال : " ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلال ولا حرام ، ولكن كان يقول : كانوا يكرهون ، وكانوا يستحبون " .
وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ، ولكن يقولوا إياكم كذا وكذا ، ولم أكن لأصنع هذا . انتهى .
وقال الزمخشري : واللام في قوله : لتفتروا على الله الكذب [ 16 \ 116 ] ، من التعليل الذي لا يتضمن معنى الفرض . اه . وكثير من العلماء يقولون : هي لام العاقبة . والبيانيون يزعمون أن حرف التعليل كاللام إذا لم تقصد به علة غائية ; كقوله : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا الآية [ 28 \ 8 ] ، وقوله هنا : لتفتروا على الله الكذب [ 16 \ 116 ] ، أن في ذلك استعارة تبعية في معنى الحرف .
قال مقيده - عفا الله عنه - : بل كل ذلك من أساليب اللغة العربية . فمن أساليبها : الإتيان بحرف التعليل للدلالة على العلة الغائية ; كقوله : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط الآية [ 57 \ 25 ] ، ومن أساليبها الإتيان باللام للدلالة على ترتب أمر على أمر ; كترتب المعلول على علته الغائية . وهذا الأخير كقوله : فالتقطه آل فرعون [ ص: 463 ] ليكون لهم عدوا وحزنا [ 28 \ 8 ] ; لأن العلة الغائية الباعثة لهم على التقاطه ليست هي أن يكون لهم عدوا ، بل ليكون لهم قرة عين ; كما قالت امرأة فرعون : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا [ 28 \ 9 ] ، ولكن لما كان كونه عدوا لهم وحزنا يترتب على التقاطهم له ; كترتب المعلول على علته الغائية ، عبر فيه باللام الدالة على ترتيب المعلول على العلة . وهذا أسلوب عربي ، فلا حاجة إلى ما يطيل به البيانيون في مثل هذا المبحث .
قوله تعالى : إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الذين يفترون عليه الكذب - أي يختلقونه عليه - كدعواهم أنه حرم هذا وهو لم يحرمه ، ودعواهم له الشركاء والأولاد - لا يفلحون ; لأنهم في الدنيا لا ينالون إلا متاعا قليلا لا أهمية له ، وفي الآخرة يعذبون العذاب العظيم ، الشديد المؤلم .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في يونس : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] ، وقوله : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] ، وقوله : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ 2 \ 126 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله متاع قليل ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : متاعهم في الدنيا متاع قليل . وقال الزمخشري : منفعتهم في الدنيا متاع قليل . وقوله لا يفلحون ، أي : لا ينالون الفلاح ، وهو يطلق على معنيين : أحدهما : الفوز بالمطلوب الأكبر ، والثاني : البقاء السرمدي ; كما تقدم بشواهده .
قوله تعالى : وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل الآية . هذا المحرم عليهم ، المقصوص عليه من قبل المحل عليه هنا هو المذكور في ( سورة الأنعام ) ، في قوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون [ 6 \ 164 ] .
وجملة المحرمات عليهم في هذه الآية الكريمة ظاهرة ، وهو كل ذي ظفر : كالنعامة [ ص: 464 ] والبعير ، والشحم الخالص من البقر والغنم - وهو الثروب - وشحم الكلى . أما الشحم الذي على الظهر ، والذي في الحوايا وهي الأمعاء ، والمختلط بعظم كلحم الذنب وغيره من الشحوم المختلطة بالعظام ; فهو حلال لهم ; كما هو واضح من الآية الكريمة .
قوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ، أثنى الله - جل وعلا - في هاتين الآيتين الكريمتين على نبيه إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : بأنه أمة ; أي : إمام مقتدى به ، يعلم الناس الخير ; كما قال تعالى : إني جاعلك للناس إماما [ 2 \ 124 ] ، وأنه قانت لله ، أي : مطيع له ، وأنه لم يكن من المشركين ، وأنه شاكر لأنعم الله ، وأن الله اجتباه ، أي : اختاره واصطفاه . وأنه هداه إلى صراط مستقيم .
وكرر هذا الثناء عليه في مواضع أخر ; كقوله : وإبراهيم الذي وفى [ 53 \ 37 ] ، وقوله : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما [ 2 \ 124 ] ، وقوله : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين [ 21 \ 51 ] ، وقوله : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين [ 6 \ 75 ] ، وقوله عنه : إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [ 6 \ 79 ] ، وقوله : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين [ 3 \ 67 ] ، وقوله : وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم [ 37 \ 83 - 84 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في الثناء عليه .
وقد قدمنا معاني " الأمة " ، في القرآن .
قوله تعالى : وآتيناه في الدنيا حسنة الآية [ 16 \ 221 ] ، قال بعض العلماء : الحسنة التي آتاه الله في الدنيا : الذرية الطيبة ، والثناء الحسن . ويستأنس لهذا بأن الله بين أنه أعطاه بسبب إخلاصه لله ، واعتزاله أهل الشرك : الذرية الطيبة . وأشار أيضا لأنه جعل له ثناء حسنا باقيا في الدنيا ; قال تعالى : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا [ 19 \ 49 - 50 ] ، وقال : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] ، وقال : واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ 26 \ 84 ] .
[ ص: 465 ] قوله تعالى : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أوحى إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - الأمر باتباع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .
وبين هذا أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ 6 \ 161 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون - إلى قوله - ملة أبيكم إبراهيم الآية [ 22 \ 77 - 78 ] وقوله : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم الآية [ 60 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . والملة : الشريعة . والحنيف : المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق . وأصله من الحنف : وهو اعوجاج الرجلين ; يقال : برجله حنف ، أي : اعوجاج . ومنه قول أم الأحنف بن قيس ترقصه وهو صبي : والله لولا حنف برجله ما كان في فتيانكم من مثله .
وقوله : حنيفا حال من المضاف إليه ; على حد قول ابن مالك في الخلاصة : ما كان جزء ما له أضيفا أو مثل جزئه فلا تحيفا .
لأن المضاف هنا وهو ملة ، كالجزء من المضاف إليه ، وهو : إبراهيم ; لأنه لو حذف لبقي المعنى تاما ; لأن قولنا : أن اتبع إبراهيم ، كلام تام المعنى كما هو ظاهر ، وهذا هو مراده بكونه مثل جزئه .
قوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن ، أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أن يجادل خصومه بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة : من إيضاح الحق بالرفق واللين . وعن مجاهد : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] ، قال : أعرض عن أذاهم . وقد أشار إلى هذا المعنى في قوله : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم [ 29 \ 46 ] أي : إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجادلهم بالسيف حتى يؤمنوا ، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
ونظير ما ذكر هنا من المجادلة بالتي هي أحسن قوله لموسى وهارون في شأن فرعون : " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " [ 20 \ 44 ] ، ومن ذلك القول اللين : قول موسى له : هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ 79 \ 18 - 19 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:12 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (183)
سُورَةُ النَّحْلِ(29)
صـ 466 إلى صـ 469
قوله تعالى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أعلم بمن ضل عن سبيله ، أي : زاغ عن طريق الصواب [ ص: 466 ] والحق ، إلى طريق الكفر والضلال .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله في أول ( القلم ) : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فلا تطع المكذبين [ 68 \ 7 - 8 ] ، وقوله في ( الأنعام ) : إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين [ 6 \ 117 ] ، وقوله في ( النجم ) : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى [ 53 \ 30 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
والظاهر أن صيغة التفضيل التي هي : أعلم ، في هذه الآيات يراد بها مطلق الوصف لا التفضيل ; لأن الله لا يشاركه أحد في علم ما يصير إليه خلقه من شقاوة وسعادة ; فهي كقول الشنفرى :
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل .
أي : لم أكن بعجلهم . وقول الفرزدق :
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول .
أي عزيزة طويلة .
قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، نزلت هذه الآية الكريمة من ( سورة النحل ) بالمدينة ، في تمثيل المشركين بحمزة ومن قتل معه يوم أحد . فقال المسلمون : لئن أظفرنا الله بهم لنمثلن بهم ; فنزلت الآية الكريمة ، فصبروا لقوله تعالى : لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] ، مع أن ( سورة النحل ) مكية ، إلا هذه الآيات الثلاث من آخرها . والآية فيها جواز الانتقام والإرشاد إلى أفضلية العفو . وقد ذكر تعالى هذا المعنى في القرآن ; كقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله الآية [ 42 \ 40 ] ، وقوله : والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له الآية [ 5 \ 45 ] ، وقوله : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - إلى قوله - ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 41 - 43 ] ، وقوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم - إلى قوله - : أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] ، كما قدمنا .
[ ص: 467 ] مسائل بهذه الآية الكريمة .
المسألة الأولى : يؤخذ من هذه الآية حكم مسألة الظفر ، وهي أنك إن ظلمك إنسان : بأن أخذ شيئا من مالك بغير الوجه الشرعي ولم يمكن لك إثباته ، وقدرت له على مثل ما ظلمك به على وجه تأمن معه الفضيحة والعقوبة ; فهل لك أن تأخذ قدر حقك أو لا ؟ .
أصح القولين ، وأجرأهما على ظواهر النصوص وعلى القياس : أن لك أن تأخذ قدر حقك من غير زيادة ; لقوله تعالى في هذه الآية : فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية [ 16 \ 126 ] ، وقوله : فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [ 2 \ 194 ] .
وممن قال بهذا القول : ابن سيرين ، وإبراهيم النخعي ، وسفيان ، ومجاهد ، وغيرهم .
وقالت طائفة من العلماء منهم مالك : لا يجوز ذلك ; وعليه درج خليل بن إسحاق المالكي في مختصره بقوله في الوديعة : وليس له الأخذ منها لمن ظلمه بمثلها .
واحتج من قال بهذا القول بحديث : " أد الأمانة إلى من ائتمنك . ولا تخن من خانك " ، اه . وهذا الحديث على فرض صحته لا ينهض الاستدلال به ; لأن من أخذ قدر حقه ولم يزد عليه لم يخن من خانه ، وإنما أنصف نفسه ممن ظلمه .
المسألة الثانية : أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة المماثلة في القصاص ، فمن قتل بحديدة قتل بها ، ومن قتل بحجر قتل به ، ويؤيده رضه - صلى الله عليه وسلم - رأس يهودي بين حجرين ; قصاصا لجارية فعل بها مثل ذلك " .
وهذا قول أكثر أهل العلم خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه ، زاعما أن القتل بغير المحدد شبه عمد ، لا عمد صريح حتى يجب فيه القصاص . وسيأتي لهذا - إن شاء الله تعالى - زيادة إيضاح في ( سورة الإسراء ) .
المسألة الثالثة : أطلق - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة اسم العقوبة على الجناية الأولى : في قوله : بمثل ما عوقبتم به [ 16 \ 126 ] ، والجناية الأولى ليست عقوبة ; لأن القرآن بلسان عربي مبين . ومن أساليب اللغة العربية المشاكلة بين الألفاظ ; فيؤدي لفظ بغير معناه الموضوع له مشاكلة للفظ آخر مقترن به في الكلام ; كقول الشاعر :
قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
[ ص: 468 ] أي : خيطوا لي . وقال بعض العلماء : ومنه قول جرير :
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
بناء على القول بأن الأرامل لا تطلق في اللغة إلا على الإناث .
ونظير الآية الكريمة في إطلاق إحدى العقوبتين على ابتداء الفعل مشاكلة للفظ الآخر قوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه الآية [ 22 \ 60 ] ، ونحوه أيضا .
قوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ، مع أن القصاص ليس بسيئة ، وقوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه الآية [ 2 \ 194 ] ; لأن القصاص من المعتدي أيضا ليس باعتداء كما هو ظاهر ، وإنما أدي بغير لفظه للمشاكلة بين اللفظين .
قوله تعالى : واصبر وما صبرك إلا بالله الآية [ 16 \ 127 ] . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالصبر ، وأنه لا يمتثل ذلك الأمر بالصبر إلا بإعانة الله وتوفيقه ; لقوله : وما صبرك إلا بالله الآية [ 16 \ 127 ] ، وأشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 \ 35 ] ; لأن قوله : وما يلقاها إلا ذو حظ الآية ، معناه أن خصلة الصبر لا يلقاها إلا من كان له عند الله الحظ الأكبر والنصيب الأوفر ، بفضل الله عليه ، وتيسير ذلك له .
قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه مع عباده المتقين المحسنين ، وقد تقدم إيضاح معنى التقوى و الإحسان .
وهذه المعية بعباده المؤمنين ، وهي بالإعانة والنصر والتوفيق . وكرر هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] ، وقوله : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم [ 8 \ 12 ] ، وقوله : لا تحزن إن الله معنا [ 9 \ 40 ] ، وقوله : قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 26 \ 62 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأما المعية العامة لجميع الخلق فهي بالإحاطة التامة والعلم ، ونفوذ القدرة ، وكون الجميع في قبضته - جل وعلا - : فالكائنات في يده - جل وعلا - أصغر من حبة خردل ، وهذه هي [ ص: 469 ] المذكورة أيضا في آيات كثيرة ; كقوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم الآية [ 58 \ 7 ] ، وقوله : وهو معكم أين ما الآية [ 57 \ 4 ] ، وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] ، وقوله : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه الآية [ 10 \ 61 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فهو - جل وعلا - مستو على عرشه كما قال ، على الكيفية اللائقة بكماله وجلاله ، وهو محيط بخلقه ، كلهم في قبضة يده ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:14 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (184)
سُورَةُ الإسراء(1)
صـ 3 إلى صـ 9
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ
قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى .
الآية ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، فإنا نبين ذلك .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن هذا الإسراء به صلى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية الكريمة ، زعم بعض أهل العلم أنه بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده ، زاعما أنه في المنام لا اليقظة ; لأن رؤيا الأنبياء وحي .
وزعم بعضهم : أن الإسراء بالجسد ، والمعراج بالروح دون الجسد ، ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما ، لأنه قال بعبده والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد ، ولأنه قال : سبحان والتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان مناما لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه . ويؤيده قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى [ 53 \ 17 ] لأن البصر من آلات الذات لا الروح ، وقوله هنا : لنريه من آياتنا .
[ 17 \ 1 ]
ومن أوضح الأدلة القرآنية على ذلك قوله جل وعلا : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ، [ 17 \ 60 ] فإنها رؤيا عين يقظة ، لا رؤيا منام ، كما صح عن ابن عباس وغيره .
ومن الأدلة الواضحة على ذلك : أنها لو كانت رؤيا منام لما كانت فتنة ، ولا سببا لتكذيب قريش ; لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار ; لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح . فالذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب .
فزعم المشركون أن من ادعى رؤية ذلك بعينه فهو كاذب لا محالة ، فصار فتنة لهم . وكون الشجرة المعلونة التي هي شجرة الزقوم على التحقيق فتنة لهم : " أن الله لما أنزل قوله : [ ص: 4 ] إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قالوا [ 37 \ 64 ] ، ظهر كذبه ; لأن الشجر لا ينبت بالأرض اليابسة ، فكيف ينبت في أصل النار ! " كما تقدم في " البقرة " .
ويؤيد ما ذكرنا من كونها رؤيا عين يقظة قوله تعالى هنا : لنريه من آياتنا الآية [ 17 \ 1 ] ، وقوله ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
[ 53 \ 17 - 18 ] وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ لغة إلا على رؤيا المنام مردود . بل التحقيق : أن لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضا . ومنه قول الراعي وهو عربي قح :
فكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشر نفسا كان قبل يلومها
فإنه يعني رؤية صائد بعينه . ومنه أيضا قول أبي الطيب :
ورؤياك أحلى في العيون من الغمض
قاله صاحب اللسان .
وزعم بعض أهل العلم : أن المراد بالرؤيا في قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك [ 17 \ 60 ] رؤيا منام ، وأنها هي المذكورة في قوله تعالى : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله الآية ، [ 48 \ 27 ] والحق الأول .
وركوبه صلى الله عليه وسلم على البراق يدل على أن الإسراء بجسمه ; لأن الروح ليس من شأنه الركوب على الدواب كما هو معروف ، وعلى كل حال فقد تواترت الأحاديث الصحيحة عنه : " أنه أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وأنه عرج به من المسجد الأقصى حتى جاوز السماوات السبع " .
وقد دلت الأحاديث المذكورة على أن الإسراء والمعراج كليهما بجسمه وروحه يقظة لا مناما ، كما دلت على ذلك أيضا الآيات التي ذكرنا .
وعلى ذلك من يعتد به من أهل السنة والجماعة ، فلا عبرة بمن أنكر ذلك من الملحدين . وما ثبت في الصحيحين من طريق شريك عن أنس رضي الله عنه : أن الإسراء [ ص: 5 ] المذكور وقع مناما لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة ، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة . لإمكان أن يكون رأى الإسراء المذكور نوما ، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح فأسري به يقظة تصديقا لتلك الرؤيا المنامية . كما رأى في النوم أنهم دخلوا المسجد الحرام ، فجاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح ، فدخلوا المسجد الحرام في عمرة القضاء عام سبع يقظة لا مناما ، تصديقا لتلك الرؤيا . كما قال تعالى : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين الآية [ 48 \ 27 ] ، ويؤيد ذلك حديث عائشة الصحيح : " فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح " مع أن جماعة من أهل العلم قالوا : إن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ساء حفظه في تلك الرواية المذكورة عن أنس ، وزاد فيها ونقص ، وقدم وأخر . ورواها عن أنس غيره من الحفاظ على الصواب ، فلم يذكروا المنام الذي ذكره شريك المذكور . وانظر رواياتهم بأسانيدها ومتونها في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى ، فقد جمع طرق حديث الإسراء جمعا حسنا بإتقان . ثم قال رحمه الله : " والحق أنه عليه الصلاة والسلام أسري به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا البراق ، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها ، فصعد فيه إلى السماء الدنيا ، ثم إلى بقية السماوات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى مر بموسى الكليم في السادسة ، وإبراهيم الخليل في السابعة ، ثم جاوز منزليهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء ، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام - أي : أقلام القدر - بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى ، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة ، وغشيتها الملائكة ، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ، ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق ، ورأى البيت المعمور ، وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندا ظهره إليه . لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة ، يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة ، ورأى الجنة والنار . وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ، ثم خففها إلى خمس ; رحمة منه ولطفا بعباده .
وفي هذا اعتناء بشرف الصلاة وعظمتها . ثم هبط إلى بيت المقدس ، وهبط معه الأنبياء . فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ . ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء ، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ، ولكن [ ص: 6 ] في بعضها أنه كان أول دخوله إليه ، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه ، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا وهو يخبره بهم ، وهذا هو اللائق . لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى .
ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة ، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك . ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس . والله سبحانه وتعالى أعلم . انتهى بلفظه من تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى .
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث ، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام ، فهو متواتر بهذا الوجه . وذكر النقاش ممن رواه عشرين صحابيا ، ثم شرع يذكر بعض طرقه في الصحيحين وغيرهما ، وبسط قصة الإسراء ، تركناه لشهرته عند العامة ، وتواتره في الأحاديث .
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في آخر كلامه على هذه الآية الكريمة فائدتين ، قال في أولاهما : " فائدة حسنة جليلة . وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب ( دلائل النبوة ) من طريق محمد بن عمر الواقدي : حدثني مالك بن أبي الرجال ، عن عمر بن عبد الله ، عن محمد بن كعب القرظي قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر . . . " . فذكر وروده عليه وقدومه إليه ، وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل ، ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه ، فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه .
وجعل أبو سفيان يجتهد أن يحقر أمره ويصغر عنده ، قال في هذا السياق عن أبي سفيان : " والله ما منعني من أن أقول عليه قولا أسقطه به من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء . قال : حتى ذكرت قوله ليلة أسري به ، قال : فقلت : أيها الملك ، ألا أخبرك خبرا تعرف به أنه قد كذب . قال : وما هو ؟ قال : قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة ، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح . قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ، فقال بطريق إيلياء : قد علمت تلك الليلة .
قال : فنظر إليه قيصر . وقال : وما علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد . فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد [ ص: 7 ] غلبني ، فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فغلبنا ، فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلا ، فدعوت إليه النجاجرة فنظروا إليه فقالوا : إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه ، حتى نصبح فننظر من أين أتى . قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين . فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا المجر الذي في زاوية المسجد مثقوب . وإذا فيه أثر مربط الدابة . قال : فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي وقد صلى الليلة في مسجدنا اهـ .
ثم قال في الأخرى : " فائدة : قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه ( التنوير في مولد السراج المنير ) وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس ، وتكلم عليه فأجاد وأفاد ، ثم قال : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، ومالك بن صعصعة ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عباس ، وشداد بن أوس ، وأبي بن كعب ، وعبد الرحمن بن قرط ، وأبي حبة ، وأبي ليلى الأنصاريين ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وحذيفة ، وبريدة ، وأبي أيوب ، وأبي أمامة ، وسمرة بن جندب ، وأبي الحمراء ، وصهيب الرومي ، وأم هانئ ، وعائشة ، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين . منهم من ساقه بطوله ، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد ، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة " فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون ، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون ; يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون اهـ من ابن كثير بلفظه .
وقد قدمنا أن أحسن أوجه الإعراب في سبحان [ 17 \ 1 ] أنه مفعول مطلق ، منصوب بفعل محذوف : أي أسبح الله سبحانا ; أي تسبيحا . والتسبيح : الإبعاد عن السوء . ومعناه في الشرع : التنزيه عن كل ما لا يليق بجلال الله وكماله ، كما قدمنا . وزعم بعض أهل العلم : أن لفظة سبحان علم للتنزيه . وعليه فهو علم جنس لمعنى التنزيه على حد قول ابن مالك في الخلاصة ، مشيرا إلى أن علم الجنس يكون للمعنى كما يكون للذات : ومثله برة للمبرة كذا فجار علم للفجرة
وعلى أنه علم : فهو ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون . والذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أنه غير علم ، وأن معنى سبحان تنزيها لله عن كل ما لا يليق به . ولفظة سبحان من الكلمات الملازمة للإضافة ، وورودها غير مضافة قليل . كقول [ ص: 8 ] الأعشى :
فقلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
ومن الأدلة على أنه غير علم ملازمته للإضافة والأعلام تقل إضافتها ، وقد سمعت لفظة سبحان غير مضافة مع التنوين والتعريف . فمثاله مع التنوين قوله : سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجودي والجمد
ومثاله معرفا قول الراجز :
سبحانك اللهم ذا السبحان
والتعبير بلفظ العبد في هذا المقام العظيم يدل دلالة واضحة على أن مقام العبودية هو أشرف صفات المخلوقين وأعظمها وأجلها . إذ لو كان هناك وصف أعظم منه لعبر به في هذا المقام العظيم ، الذي اخترق العبد فيه السبع الطباق ، ورأى من آيات ربه الكبرى . وقد قال الشاعر في محبوب مخلوق ، ولله المثل الأعلى :
يا قوم قلبي عند زهراء يعرفه السامع والرائي
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
واختلف العلماء في النكتة البلاغية التي نكر من أجلها ليلا في هذه الآية الكريمة .
قال الزمخشري في [ الكشاف ] : أراد بقوله : ليلا [ 17 \ 1 ] بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء ، وأنه أسري به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة . وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة : من الليل ; أي بعض الليل . كقوله : ومن الليل فتهجد به نافلة [ 17 \ 79 ] يعني بالقيام في بعض الليل اه . واعترض بعض أهل العلم هذا .
وذكر بعضهم : أن التنكير في قوله : ليلا للتعظيم ; أي : ليلا أي ليل ، دنا فيه المحب إلى المحبوب ، وقيل فيه غير ذلك . وقد قدمنا : أن أسرى وسرى لغتان . كسقى وأسقى ، وقد جمعهما قول حسان رضي الله عنه :
حي النضيرة ربة الخدر أسرت إليك ولم تكن تسري
بفتح التاء من " تسري " والباء في اللغتين للتعدية ، كالباء في ذهب الله بنورهم [ ص: 9 ] [ 2 \ 17 ] وقد تقدمت شواهد هذا في " سورة هود " ) .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:18 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (185)
سُورَةُ الإسراء(2)
صـ 10 إلى صـ 15
تنبيه
اختلف العلماء : هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء بعين رأسه أو لا ؟ فقال ابن عباس وغيره : " رآه بعين رأسه " وقالت عائشة وغيرها : " لم يره " . وهو خلاف مشهور بين أهل العلم معروف .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق الذي دلت عليه نصوص الشرع : أنه صلى الله عليه وسلم لم يره بعين رأسه . وما جاء عن بعض السلف من أنه رآه . فالمراد به الرؤية بالقلب . كما في صحيح مسلم : " أنه رآه بفؤاده مرتين " لا بعين الرأس .
ومن أوضح الأدلة على ذلك أن أبا ذر رضي الله عنه ( وهو هو في صدق اللهجة ) سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة بعينها . فأفتاه بما مقتضاه : أنه لم يره . قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن زيد بن إبراهيم ، عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي ذر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل رأيت ربك ؟ قال : " نور ، أنى أراه " ؟ .
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي . ( ح ) وحدثني حجاج بن الشاعر ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام ، كلاهما عن قتادة ، عن عبد الله بن شقيق قال : " قلت لأبي ذر : لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته . فقال : عن أي شيء كنت تسأله ؟ قال : كنت أسأله : هل رأيت ربك ؟ قال أبو ذر : قد سألت فقال : " رأيت نورا " هذا لفظ مسلم .
وقال النووي في شرحه لمسلم : أما قوله صلى الله عليه وسلم : " نورا أنى أراه " ا ! فهو بتنوين " نور " وفتح الهمزة في " أنى " وتشديد النون وفتحها . و " أراه " بفتح الهمزة ، هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول والروايات . ومعناه : حجابه نور ، فكيف أراه ! .
قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله : الضمير في " أراه " عائد إلى الله سبحانه وتعالى ، ومعناه : أن النور منعني من الرؤية . كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ، ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " رأيت نورا " معناه : رأيت النور فحسب ، ولم أر غيره . قال : وروي " نوراني " بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء . ويحتمل أن يكون معناه راجعا إلى ما قلناه . [ ص: 10 ] أي خالق النور المانع من رؤيته ، فيكون من صفات الأفعال .
قال القاضي عياض رحمه الله : هذه الرواية لم تقع إلينا ولا رأيناها في شيء من الأصول . اه محل الغرض من كلام النووي .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق الذي لا شك فيه هو : أن معنى الحديث هو ما ذكر ; من كونه لا يتمكن أحد من رؤيته لقوة النور الذي هو حجابه . ومن أصرح الأدلة على ذلك أيضا حديث أبي موسى المتفق عليه " حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " نور ، أنى أراه " ؟ . أي كيف أراه وحجابه نور ، من صفته أنه لو كشفه لأحرق ما انتهى إليه بصره من خلقه .
وقد قدمنا : أن تحقيق المقام في رؤية الله جل وعلا بالأبصار أنها جائزة عقلا في الدنيا والآخرة ، بدليل قول موسى : رب أرني أنظر إليك [ 7 \ 143 ] ; لأنه لا يجهل المستحيل في حقه جل وعلا . وأنها جائزة شرعا وواقعة يوم القيامة ، ممتنعة شرعا في الدنيا قال : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل [ 7 \ 143 ] إلى قوله : جعله دكا [ 7 \ 143 ] .
ومن أصرح الأدلة في ذلك حديث : " إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا " في صحيح مسلم وصحيح ابن خزيمة كما تقدم .
وأما قوله : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين [ 53 \ 8 - 9 ] فذلك جبريل على التحقيق ، لا الله جل وعلا . قوله تعالى : الذي باركنا حوله .
أظهر التفسيرات فيه : أن معنى باركنا حوله [ 17 \ 1 ] أكثرنا حوله الخير والبركة بالأشجار والثمار والأنهار . وقد وردت آيات تدل على هذا ; كقوله تعالى : ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين [ 21 \ 71 ] ، وقوله : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين [ 21 \ 81 ] ; فإن المراد بتلك الأرض : الشام . والمراد بأنه بارك فيها : أنه أكثر فيها البركة والخير بالخصب والأشجار والثمار والمياه . كما عليه جمهور العلماء .
وقال بعض العلماء : المراد بأنه بارك فيها أنه بعث الأنبياء منها . وقيل غير ذلك . والعلم عند الله تعالى . [ ص: 11 ] قوله تعالى : لنريه من آياتنا .
الظاهر إنما أراه الله من آياته في هذه الآية الكريمة : أنه أراه إياه رؤية عين . فهمزة التعدية داخلة على رأى البصرية ; كقولك : أرأيت زيدا دار عمرو . أي جعلته يراها بعينه . و من في الآية للتبعيض ، والمعنى : لنريه من آياتنا : أي بعض آياتنا فنجعله يراها بعينه . وذلك ما رآه صلى الله عليه وسلم بعينه ليلة الإسراء من الغرائب والعجائب . كما جاء مبينا في الأحاديث الكثيرة .
ويدل لما ذكرنا في الآية الكريمة قوله تعالى في سورة النجم : ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ 53 \ 17 - 18 ] .
قوله تعالى : وآتينا موسى الكتاب
; لما بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة عظم شأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ذكر عظم شأن موسى بالكتاب العظيم ، الذي أنزله إليه ، وهو التوراة . مبينا أنه جعله هدى لبني إسرائيل . وكرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن . كقوله : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ 32 \ 23 - 24 ] ، وقوله : ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس الآية [ 28 \ 43 ] ، وقوله : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء الآية [ 6 \ 54 ] ، وقوله : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء الآية [ 7 \ 145 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ألا تتخذوا من دوني وكيلا .
اعلم أن هذا الحرف قرأه جمهور القراء ألا تتخذون بالتاء على وجه الخطاب ، وعلى هذا ف " أن " هي المفسرة . فجعل التوراة هدى لبني إسرائيل مفسر بنهيهم عن اتخاذ وكيل من دون الله ; لأن الإخلاص كله في عبادته هو ثمرة الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه . وعلى هذه القراءة ف " لا " في قوله : ألا تتخذوا [ 17 \ 2 ] ناهية . وقرأه أبو عمرو من السبعة ألا تتخذوا من دوني وكيلا بالياء على الغيبة . وعلى هذه القراءة فالمصدر المنسبك من " أن " وصلتها مجرور بحرف التعليل المحذوف . أي وجعلناه هدى لبني إسرائيل لأجل ألا يتخذوا من دوني وكيلا . لأن اتخاذ الوكيل الذي تسند إليه الأمور ، وتفوض من دون الله ليس من الهدى . فمرجع القراءتين إلى شيء واحد ، وهو أن التوكل إنما يكون على الله وحده لا على غيره .
[ ص: 12 ] وكرر هذا المعنى في مواضع كثيرة . كقوله : رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه [ 73 \ 9 ] ، وقوله : قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا [ 67 \ 29 ] . وقوله : فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش [ 9 \ 129 ] ، وقوله : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ 65 \ 3 ] ، وقوله : لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون [ 14 \ 11 - 12 ] ، وقوله : إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ [ 11 \ 56 ] ، وقوله : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلتالآية [ 10 \ 71 ] ، وقوله : وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا [ 33 \ 3 ] ، وقوله : وتوكل على الحي الذي لا يموت الآية [ 25 \ 58 ] ، وقوله : فاعبده وتوكل عليه الآية ، وقوله : فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [ 3 \ 173 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
والوكيل : فعيل من التوكل ; أي متوكلا عليه ، تفوضون إليه أموركم . فيوصل إليكم النفع ، ويكف عنكم الضر .
وقال الزمخشري : وكيلا [ 17 \ 2 ] ; أي ربا تكلون إليه أموركم .
وقال ابن جرير : حفيظا لكم سواي .
وقال أبو الفرج بن الجوزي : قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشئون عباده ، لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل اه . قاله أبو حيان في البحر .
وقال القرطبي : وكيلا ; أي شريكا ، عن مجاهد . وقيل : كفيلا بأمورهم . حكاه الفراء . وقيل : ربا يتوكلون عليه في أمورهم . قاله الكلبي . وقال الفراء : كافيا اه والمعاني متقاربة ، ومرجعها إلى شيء واحد ، وهو أن الوكيل : من يتوكل عليه . فتفوض الأمور إليه ، ليأتي بالخير ، ويدفع الشر . وهذا لا يصح إلا لله وحده جل وعلا . ولهذا حذر من اتخاذ وكيل دونه . لأنه لا نافع ولا ضار ، ولا كافي إلا هو وحده جل وعلا . . عليه توكلنا ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .
[ ص: 13 ] قوله تعالى : ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من حملهم مع نوح ، تنبيها على النعمة التي نجاهم بها من الغرق ، ليكون في ذلك تهييج لذرياتهم على طاعة الله ; أي : يا ذرية من حملنا مع نوح ، فنجيناهم من الغرق ، تشبهوا بأبيكم ، فاشكروا نعمنا . وأشار إلى هذا المعنى في قوله : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح الآية [ 19 \ 58 ] .
وبين في مواضع أخر الذين حملهم مع نوح من هم ، وبين الشيء الذي حملهم فيه ، وبين من بقي له نسل ، وعقب منهم ، ومن انقطع ولم يبق له نسل ولا عقب .
فبين أن الذين حملهم مع نوح : هم أهله ومن آمن معه من قومه في قوله : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن .
[ 11 \ 40 ] وبين أن الذين آمنوا من قومه قليل بقوله : وما آمن معه إلا قليل [ 11 \ 40 ] .
وبين أن ممن سبق عليه القول من أهله بالشقاء امرأته وابنه . قال في امرأته : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح [ 66 \ 10 ] إلى قوله : وقيل ادخلا النار مع الداخلين [ 66 \ 10 ] . وقال في ابنه : وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ 11 \ 43 ] ، وقال فيه أيضا : إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح الآية . [ 11 \ 46 ] ، وقوله : ليس من أهلك [ 11 \ 46 ] أي : الموعود بنجاتهم في قوله : فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك الآية ، ونحوها من الآيات .
وبين أن الذي حملهم فيه هو السفينة في قوله : قلنا احمل فيها الآية [ 11 \ 40 ] ; أي السفينة . وقوله : فاسلك فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 23 \ 27 ] . أي أدخل فيها - أي السفينة : من كل زوجين اثنين وأهلك [ 23 \ 27 ] .
وبين أن ذرية من حمل مع نوح لم يبق منها إلا ذرية نوح في قوله : وجعلنا ذريته هم الباقين [ 37 \ 77 ] ، وكان نوح يحمد الله على طعامه وشرابه ، ولباسه وشأنه كله . فسماه الله عبدا شكورا .
[ ص: 14 ] وأظهر أوجه الإعراب في قوله : ذرية من حملنا الآية [ 17 \ 3 ] ، أنه منادى بحرف محذوف .
قوله تعالى : وقضينا إلى بني إسرائيل الآية ، أظهر الأقوال فيه : أنه بمعنى أخبرناهم وأعلمناهم .
ومن معاني القضاء : الإخبار والإعلام . ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين [ 15 \ 66 ] ، والظاهر أن تعديته بـ " إلى " لأنه مضمن معنى الإيحاء . وقيل : مضمن معنى : تقدمنا إليهم فأخبرناهم ، قال معناه ابن كثير . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها
.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أحسن - أي بالإيمان والطاعة - فإنه إنما يحسن إلى نفسه ; لأن نفع ذلك لنفسه خاصة . وأن من أساء - أي بالكفر والمعاصي - فإنه إنما يسيء على نفسه . لأن ضرر ذلك عائد إلى نفسه خاصة .
وبين هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها الآية [ 41 \ 46 و 45 \ 15 ] ، وقوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] ، وقوله : من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون [ 30 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . واللام في قوله : وإن أسأتم فلها [ 17 \ 7 ] بمعنى على ، أي فعليها ، بدليل قوله : ومن أساء فعليها [ 41 \ 46 ، 45 \ 15 ] . ومن إتيان اللام بمعنى على ، قوله تعالى : ويخرون للأذقان الآية [ 17 \ 109 ] ; أي عليها ، وقوله : فسلام لك الآية [ 56 \ 91 ] . أي سلام عليك على ما قاله بعض العلماء . ونظير ذلك من كلام العرب : قول جابر التغلبي ، أو شريح العبسي ، أو زهير المزني أو غيرهم :
تناوله بالرمح ثم انثنى له فخر صريعا لليدين وللفم
أي على اليدين وعلى الفم . والتعبير بهذه اللام في هذه الآية للمشاكلة . كما قدمنا في نحو : وجزاء سيئة سيئة الآية [ 42 \ 40 ] ، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا [ ص: 15 ] عليه الآية [ 2 \ 194 ] .
قوله تعالى : فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم
الآية . جواب إذا في هذه الآية الكريمة محذوف ، وهو الذي تتعلق به اللام في قوله : ليسوءوا [ 17 \ 7 ] وتقديره : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسؤوا وجوهكم . بدليل قوله في الأولى : فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا الآية [ 17 \ 5 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن . قال ابن قتيبة في مشكل القرآن : ونظيره في حذف العامل قول حميد بن ثور :
رأتني بحبليها فصدت مخافة وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
أي : رأتني أقبلت ، أو مقبلا . وفي هذا الحرف ثلاث قراءات سبعيات : قرأه على الكسائي " لنسوء وجوهكم " بنون العظمة وفتح الهمزة ; أي لنسوءها بتسليطنا إياهم عليكم يقتلونكم ويعذبونكم . وقرأه ابن عامر وحمزة وشعبة عن عاصم " ليسوء وجوهكم " بالياء وفتح الهمزة ، والفاعل ضمير عائد إلى الله . أي ليسوء هو - أي : الله - وجوهكم بتسليطه إياهم عليكم .
وقرأه الباقون : [ 17 \ 7 ] ليسوءوا وجوهكم بالياء وضم الهمزة بعدها واو الجمع التي هي فاعل الفعل ، ونصبه فحذف النون ، وضمير الفاعل الذي هو الواو عائد إلى الذين بعثهم الله عليهم ليسؤوا وجوههم بأنواع العذاب والقتل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:23 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (186)
سُورَةُ الإسراء(3)
صـ 16 إلى صـ 20
قوله تعالى : وإن عدتم عدنا .
لما بين جل وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين ، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما : بعث عليهم عبادا له أولي بأس شديد ، فاحتلوا بلادهم وعذبوهم . وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة : بعث عليهم قوما ليسوءوا وجوههم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيرا .
وبين أيضا : أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم ، وذلك في قوله : وإن عدتم عدنا [ 17 \ 8 ] ولم يبين هنا : هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا ؟
ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكتم صفاته ونقض عهوده ، ومظاهرة عدوه عليه ، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة . فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقا لقوله : وإن عدتم عدنا [ 17 \ 8 ] فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فجرى على بني قريظة ، والنضير ، وبني قينقاع [ ص: 16 ] وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة .
فمن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [ 2 \ 89 ، 90 ] ، وقوله : أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم الآية [ 2 \ 100 ] ، وقوله : ولا تزال تطلع على خائنة منهم الآية [ 5 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد للانتقام منهم ، قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ 59 \ 2 - 3 ، 46 ] ، وتعالى : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها الآية [ 33 \ 26 ، 27 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وتركنا بسط قصة الذين سلطوا عليهم في المرتين ، لأنها أخبار إسرائيلية ، وهي مشهورة في كتب التفسير والتاريخ . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا
. في قوله : حصيرا [ 17 \ 8 ] في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء ، كل منهما يشهد لمعناه قرآن . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية قد يكون فيها وجهان أو أوجه ، وكلها صحيح ويشهد له قرآن ; فنورد جميع ذلك لأنه كله حق :
الأول : أن الحصير : المحبس والسجن ; من الحصر وهو الحبس . قال الجوهري : يقال حصره يحصره حصرا : ضيق عليه ، وأحاط به . وهذا الوجه يدل له قوله [ ص: 17 ] تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا [ 25 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
الوجه الثاني : أن معنى حصيرا ; أي : فراشا ومهادا ، من الحصير الذي يفرش ; لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا . قال الثعلبي : وهو وجه حسن . ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش الآية [ 7 \ 41 ] ، ونحو ذلك من الآيات . والمهاد : الفراش .
قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
الآية ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية ، وأجمعها لجميع العلوم ، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا ، يهدي للتي هي أقوم ; أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب . ف التي نعت لموصوف محذوف . على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل
وقال الزجاج والكلبي والفراء : للحال التي هي أقوم الحالات ، وهي توحيد الله والإيمان برسله .
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها ، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة . ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملا وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة ، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام ، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار ، وطعنوا بسببها في دين الإسلام ، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة .
فمن ذلك توحيد الله جل وعلا ، فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها ، وهي توحيده جل وعلا في ربوبيته ، وفي عبادته ، وفي أسمائه وصفاته . وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توحيده في ربوبيته ، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء ، قال تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله الآية [ 43 \ 87 ] ، وقال : قل من [ ص: 18 ] يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] ، وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] تجاهل عن عارف أنه عبد مربوب ; بدليل قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 \ 102 ] ، وقوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 \ 14 ] ، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا .
الثاني : توحيده جل وعلا في عبادته ، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى " لا إله إلا الله " وهي متركبة من نفي وإثبات ، فمعنى النفي منها : خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت . ومعنى الإثبات منها : إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام . وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد ، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] .
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك الآية [ 47 \ 19 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] ، وقوله : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] ، فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول : إنما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد ، لشمول كلمة : " لا إله إلا الله " لجميع ما جاء في الكتب ; لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده . فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي ، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب ، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة .
النوع الثالث : توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته . وهذا النوع من التوحيد [ ص: 19 ] ينبني على أصلين :
الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم ، كما قال تعالى : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] .
والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، كما قال بعد قوله : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف ، قال تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] ، وقد قدمنا هذا المبحث مستوفى موضحا بالآيات القرآنية " في سورة الأعراف " .
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيد في عبادته ; ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير ، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ، ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره ، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده ; لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار [ 10 \ 31 ] إلى قوله : فسيقولون الله [ 10 \ 31 ] . فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره ، بقوله : فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .
ومنها قوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 84 ، 85 ] ، فلما اعترفوا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفلا تذكرون [ 23 \ 85 ] ، ثم قال : قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله [ 23 \ 86 - 87 ] ، فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفلا تتقون [ 23 \ 87 ] ، ثم قال : قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 88 ، 89 ] ، فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل فأنى تسحرون [ 23 \ 89 ] .
ومنها قوله تعالى : قل من رب السماوات والأرض قل الله [ 13 \ 16 ] ، فلما صح الاعتراف وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا [ 13 \ 16 ] .
[ ص: 20 ] ومنها قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : فأنى يؤفكون [ 43 \ 87 ] .
ومنها قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله [ 29 \ 61 ] ، فلما صح اعترافهم وبخهم منكرا شركهم بقوله : فأنى يؤفكون [ 29 \ 61 ] وقوله تعالى : ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله [ 29 \ 63 ] ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون [ 29 \ 63 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ 31 \ 25 ] ، فلما صح اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون [ 31 \ 25 ] ، وقوله تعالى : آلله خير أم ما أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها [ 27 \ 59 - 60 ] ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره : هو أن القادر على خلق السماوات والأرض وما ذكر معها ، خير من جماد لا يقدر على شيء . فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 27 \ 60 ] ، ثم قال تعالى : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا [ 27 \ 61 ] ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله ، فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 27 \ 61 ] ، ثم قال جل وعلا : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض [ 27 \ 62 ] ولا شك أن الجواب كما قبله . فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله قليلا ما تذكرون [ 27 \ 62 ] ، ثم قال تعالى : أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 27 \ 63 ] ، ولا شك أن الجواب كما قبله ، فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله تعالى الله عما يشركون [ 27 \ 63 ] ، ثم قال جل وعلا : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض [ 27 \ 64 ] ، ولا شك أن الجواب كما قبله ، فلما تعين الاعتراف وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] ، وقوله : الله [ ص: 21 ] الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ 30 \ 40 ] ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو : لا ، أي : ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل شيئا من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء ، فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] .
والآيات بنحو هذا كثيرة جدا ، ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير ، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار ; لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة ; نحو قوله تعالى : أفي الله شك [ 14 \ 10 ] ، وقوله : قل أغير الله أبغي ربا [ 6 \ 164 ] ، وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار ; لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار ، لأنهم لا ينكرون الربوبية ، كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه .
والكلام على أقسام التوحيد ستجده إن شاء الله في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك ، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلم على بيانها بآيات أخر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:30 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (187)
سُورَةُ الإسراء(4)
صـ 21 إلى صـ 25
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم جعله الطلاق بيد الرجل ، كما قال تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء الآية [ 65 \ 1 ] ، ونحوها من الآيات ; لأن النساء مزارع وحقول ، تبذر فيها النطف كما يبذر الحب في الأرض ، كما قال تعالى : نساؤكم حرث لكم [ 2 \ 223 ] .
ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق : أن الزارع لا يرغم على الازدراع في حقل لا يرغب الزراعة فيه لأنه يراه غير صالح له ، والدليل الحسي القاطع على ما جاء به القرآن من أن الرجل زارع ، والمرأة مزرعة ، أن آلة الازدراع مع الرجل ، فلو أرادت المرأة أن تجامع الرجل وهو كاره لها ، لا رغبة له فيها لم ينتشر ، ولم يقم ذكره إليها فلا تقدر منه على شيء ، بخلاف الرجل فإنه قد يرغمها وهي كارهة فتحمل وتلد ، كما قال أبو كبير الهذلي :
ممن حملن به وهن عواقد حبك النطاق فشب غير مهبل
فدلت الطبيعة والخلقة على أنه فاعل وأنها مفعول به ، ولذا أجمع العقلاء على نسبة [ ص: 22 ] الولد له لا لها .
وتسوية المرأة بالرجل في ذلك مكابرة في المحسوس ، كما لا يخفى .
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم إباحته تعدد الزوجات إلى أربع ، وأن الرجل إذا خاف عدم العدل بينهن ، لزمه الاقتصار على واحدة ، أو ملك يمينه ، كما قال تعالى : وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 3 ] ، ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها ، هي إباحة تعدد الزوجات لأمور محسوسة يعرفها كل العقلاء .
منها : أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض ، وتنفس إلى غير ذلك من العوائق المانعة من قيامها بأخص لوازم الزوجية ، والرجل مستعد للتسبب في زيادة الأمة ، فلو حبس عليها في أحوال أعذارها لعطلت منافعه باطلا في غير ذنب .
ومنها : أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددا من النساء في أقطار الدنيا ، وأكثر تعرضا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة ، فلو قصر الرجل على واحدة ، لبقي عدد ضخم من النساء محروما من الزواج ، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة فالعدول عن هدي القرآن في هذه المسألة من أعظم أسباب ضياع الأخلاق ، والانحطاط إلى درجة البهائم في عدم الصيانة ، والمحافظة على الشرف والمروءة والأخلاق ، فسبحان الحكيم الخبير ، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير .
ومنها : أن الإناث كلهن مستعدات للزواج ، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم ، فالمستعدون للزواج من الرجال أقل من المستعدات له من النساء ; لأن المرأة لا عائق لها ، والرجل يعوقه الفقر وعدم القدرة على لوازم النكاح ، فلو قصر الواحد على الواحدة ، لضاع كثير من المستعدات للزواج أيضا بعدم وجود أزواج ، فيكون ذلك سببا لضياع الفضيلة وتفشي الرذيلة ، والانحطاط الخلقي ، وضياع القيم الإنسانية ، كما هو واضح ، فإن خاف الرجل ألا يعدل بينهن وجب عليه الاقتصار على واحدة ، أو ملك يمينه ; لأن الله يقول : إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية [ 16 \ 90 ] ، والميل بالتفضيل في الحقوق الشرعية بينهن لا يجوز ، لقوله تعالى : فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة [ 4 \ 129 ] ، أما الميل الطبيعي بمحبة بعضهن أكثر من بعض ، فهو غير مستطاع دفعه للبشر ، لأنه انفعال وتأثر نفساني لا فعل ، وهو المراد بقوله : [ ص: 23 ] ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء الآية [ 4 \ 129 ] ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وما يزعمه بعض الملاحدة من أعداء دين الإسلام ، من أن تعدد الزوجات يلزمه الخصام والشغب الدائم المفضي إلى نكد الحياة ، لأنه كلما أرضى إحدى الضرتين سخطت الأخرى ، فهو بين سخطتين دائما ، وأن هذا ليس من الحكمة ، فهو كلام ساقط ، يظهر سقوطه لكل عاقل ; لأن الخصام والمشاغبة بين أفراد أهل البيت لا انفكاك عنه ألبتة ، فيقع بين الرجل وأمه ، وبينه وبين أبيه ، وبينه وبين أولاده ، وبينه وبين زوجته الواحدة . فهو أمر عادي ليس له كبير شأن ، وهو في جنب المصالح العظيمة التي ذكرنا في تعدد الزوجات من صيانة النساء وتيسير التزويج لجميعهن ، وكثرة عدد الأمة لتقوم بعددها الكثير في وجه أعداء الإسلام كلا شيء; لأن المصلحة العظمى يقدم جلبها على دفع المفسدة الصغرى .
فلو فرضنا أن المشاغبة المزعومة في تعدد الزوجات مفسدة ، أو أن إيلام قلب الزوجة الأولى بالضرة مفسدة ، لقدمت عليها تلك المصالح الراجحة التي ذكرنا ، كما هو معروف في الأصول ، قال في مراقي السعود عاطفا على ما تلفي فيه المفسدة المرجوحة في جنب المصلحة الراجحة :
أو رجح الإصلاح كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى وانظر تدلي دوالي العنب
في كل مشرق وكل مغرب
ففداء الأسارى مصلحة راجحة ، ودفع فدائهم النافع للعدو مفسدة مرجوحة ، فتقدم عليها المصلحة الراجحة ، أما إذا تساوت المصلحة والمفسدة ، أو كانت المفسدة أرجح كفداء الأسارى بسلاح يتمكن بسببه العدو من قتل قدر الأسارى أو أكثر من المسلمين ، فإن المصلحة تلغى لكونها غير راجحة ، كما قال في المراقي :
اخرم مناسبا بمفسد لزم للحكم وهو غير مرجوح علم
وكذلك العنب تعصر منه الخمر وهي أم الخبائث ، إلا أن مصلحة وجود العنب والزبيب والانتفاع بهما في أقطار الدنيا مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر منها ألغيت لها تلك المفسدة المرجوحة ، واجتماع الرجال والنساء في البلد الواحد قد يكون سببا لحصول الزنى إلا أن التعاون بين المجتمع من ذكور وإناث مصلحة أرجح من تلك المفسدة ، ولذا لم يقل أحد من العلماء إنه يجب عزل النساء في محل مستقل عن الرجال ، وأن يجعل عليهن حصن قوي لا يمكن الوصول إليهن معه ، وتجعل المفاتيح بيد أمين [ ص: 24 ] معروف بالتقى والديانة ، كما هو مقرر في الأصول .
فالقرآن أباح تعدد الزوجات لمصلحة المرأة في عدم حرمانها من الزواج ، ولمصلحة الرجل بعدم تعطل منافعه في حال قيام العذر بالمرأة الواحدة ، ولمصلحة الأمة ليكثر عددها فيمكنها مقاومة عدوها لتكون كلمة الله هي العليا ، فهو تشريع حكيم خبير لا يطعن فيه إلا من أعمى الله بصيرته بظلمات الكفر . وتحديد الزوجات بأربع ; تحديد من حكيم خبير ، وهو أمر وسط بين القلة المفضية إلى تعطل بعض منافع الرجل ، وبين الكثرة التي هي مظنة عدم القدرة على القيام بلوازم الزوجية للجميع ، والعلم عند الله تعالى .
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : تفضيله الذكر على الأنثى في الميراث ، كما قال تعالى : وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم [ 4 \ 176 ] .
وقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه يبين لخلقه هذا البيان الذي من جملته تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث لئلا يضلوا ، فمن سوى بينهما فيه فهو ضال قطعا .
ثم بين أنه أعلم بالحكم والمصالح وبكل شيء من خلقه بقوله : والله بكل شيء عليم [ 4 \ 176 ] ، وقال : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] .
ولا شك أن الطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها : تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث الذي ذكره الله تعالى . كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم ; أي وهو الرجال على بعض [ 4 \ 34 ] ، أي وهو النساء ، وقوله : وللرجال عليهن درجة [ 2 \ 228 ] ، وذلك لأن الذكورة في كمال خلقي ، وقوة طبيعية ، وشرف وجمال ، والأنوثة نقص خلقي ، وضعف طبيعي ، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء ، لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس .
وقد أشار جل وعلا إلى ذلك بقوله : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ; لأن الله أنكر عليهم في هذه الآية الكريمة أنهم نسبوا له ما لا يليق به من الولد ، ومع ذلك نسبوا له أخس الولدين وأنقصهما وأضعفهما ، ولذلك ينشأ في الحلية ; أي : الزينة من أنواع الحلي والحلل ليجبر نقصه الخلقي [ ص: 25 ] الطبيعي بالتجميل بالحلي والحلل وهو الأنثى . بخلاف الرجل ، فإن كمال ذكورته وقوتها وجمالها يكفيه على الحلي ، كما قال الشاعر :
وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وأما إذا كان الجمال موفرا
كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
وقال تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] ، وإنما كانت هذه القسمة ضيزى - أي غير عادلة - لأن الأنثى أنقص من الذكر خلقة وطبيعة ، فجعلوا هذا النصيب الناقص لله جل وعلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ! وجعلوا الكامل لأنفسهم كما قال : ويجعلون لله ما يكرهون [ 16 \ 62 ] ، أي وهو البنات . وقال : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم إلى قوله : ساء ما يحكمون [ 16 \ 58 ، 59 ] ، وقال : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا - أي وهو الأنثى - ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 43 \ 17 ] .
وكل هذه الآيات القرآنية تدل على أن الأنثى ناقصة بمقتضى الخلقة والطبيعة ، وأن الذكر أفضل وأكمل منها : أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون [ 37 \ 153 - 154 ] ، أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا الآية [ 17 \ 40 ] ، والآيات الدالة على تفضيله عليها كثيرة جدا .
ومعلوم عند عامة العقلاء : أن الأنثى متاع لا بد له ممن يقوم بشئونها ويحافظ عليه .
وقد اختلف العلماء في التمتع بالزوجة : هل هو قوت ؟ أو تفكه ؟ وأجرى علماء المالكية على هذا الخلاف حكم إلزام الابن بتزويج أبيه الفقير ، قالوا : فعلى أن النكاح قوت فعليه تزويجه ؟ لأنه من جملة القوت الواجب له عليه . وعلى أنه تفكه لا يجب عليه على قول بعضهم ، فانظر شبه النساء بالطعام والفاكهة عند العلماء ، وقد جاءت السنة الصحيحة بالنهي عن قتل النساء والصبيان في الجهاد ، لأنهما من جملة مال المسلمين الغانمين ، بخلاف الرجال فإنهم يقتلون .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:31 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (188)
سُورَةُ الإسراء(5)
صـ 26 إلى صـ 30
ومن الأدلة على أفضلية الذكر على الأنثى : أن المرأة الأولى خلقت من ضلع الرجل الأول . فأصلها جزء منه . فإذا عرفت من هذه الأدلة : أن الأنوثة نقص خلقي ، وضعف طبيعي ، فاعلم أن العقل الصحيح الذي يدرك الحكم والأسرار ، يقضي بأن الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته ، يلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خلقته ، القوي بطبيعته ; [ ص: 26 ] ليجلب له ما لا يقدر على جلبه من النفع ، ويدفع عنه ما لا يقدر على دفعه من الضر ، كما قال تعالى : الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض [ 4 \ 34 ] .
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه لما كانت الحكمة البالغة ، تقتضي أن يكون الضعيف الناقص مقوما عليه من قبل القوي الكامل ، اقتضى ذلك أن يكون الرجل ملزما بالإنفاق على نسائه ، والقيام بجميع لوازمهن في الحياة ، كما قال تعالى : وبما أنفقوا من أموالهم [ 4 \ 34 ] ، ومال الميراث ما مسحا في تحصيله عرقا ، ولا تسببا فيه البتة ، وإنما هو تمليك من الله ملكهما إياه تمليكا جبريا ، فاقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يؤثر الرجل على المرأة في الميراث وإن أدليا بسبب واحد ; لأن الرجل مترقب للنقص دائما بالإنفاق على نسائه ، وبذل المهور لهن ، والبذل في نوائب الدهر ، والمرأة مترقبة للزيادة بدفع الرجل لها المهر ، وإنفاقه عليها وقيامه بشئونها ، وإيثار مترقب النقص دائما على مترقب الزيادة دائما لجبر بعض نقصه المترقب ، حكمته ظاهرة واضحة ، لا ينكرها إلا من أعمى الله بصيرته بالكفر والمعاصي ، ولذا قال تعالى : للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] ، ولأجل هذه الحكم التي بينا بها فضل نوع الذكر على نوع الأنثى في أصل الخلقة والطبيعة ، جعل الحكيم الخبير الرجل هو المسئول عن المرأة في جميع أحوالها . وخصه بالرسالة والنبوة والخلافة دونها ، وملكه الطلاق دونها ، وجعله الولي في النكاح دونها ، وجعل انتساب الأولاد إليه لا إليها ، وجعل شهادته في الأموال بشهادة امرأتين في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] ، وجعل شهادته تقبل في الحدود والقصاص دونها ، إلى غير ذلك من الفوارق الحسية والمعنوية والشرعية بينهما .
ألا ترى أن الضعف الخلقي والعجز عن الإبانة في الخصام عيب ناقص في الرجال ، مع أنه يعد من جملة محاسن النساء التي تجذب إليها القلوب ، قال جرير :
إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركانا
وقال ابن الدمينة :
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
فلم يعتذر عذر البريء ولم تزل به سكتة حتى يقال مريب
[ ص: 27 ] فالأول : تشبب بهن بضعف أركانهن ، والثاني : بعجزهن عن الإبانة في الخصام ; كما قال تعالى : وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ، ولهذا التباين في الكمال والقوة بين النوعين ، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم اللعن على من تشبه منهما بالآخر . قال البخاري في صحيحه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ، والمتشبهات من النساء بالرجال " ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، ومعلوم أن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ملعون في كتاب الله ; لأن الله يقول :وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، كما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه كما تقدم .
فلتعلمن أيتها النساء اللاتي تحاولن أن تكن كالرجال في جميع الشئون أنكن مترجلات متشبهات بالرجال ، وأنكن ملعونات في كتاب الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك المخنثون المتشبهون بالنساء ، فهم أيضا ملعونون في كتاب الله على لسانه صلى الله عليه وسلم ، ولقد صدق من قال فيهم :
وما عجبي أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
واعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه : أن هذه الفكرة الكافرة ، الخاطئة الخاسئة ، المخالفة للحس والعقل ، وللوحي السماوي وتشريع الخالق البارئ من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين ، فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته . وذلك لأن الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني ، صلاحا لا يصلحه لها غيرها ، كالحمل والوضع ، والإرضاع وتربية الأولاد ، وخدمة البيت ، والقيام على شئونه . من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك . وهذه الخدمات التي تقوم بها للمجتمع الإنساني داخل بيتها في ستر وصيانة ، وعفاف ومحافظة على الشرف والفضيلة والقيم الإنسانية ، لا تقل عن خدمة الرجل بالاكتساب ، فزعم أولئك السفلة الجهلة من الكفار وأتباعهم : أن المرأة لها من الحقوق في الخدمة خارج بيتها مثل ما للرجل ، مع أنها في زمن حملها ورضاعها ونفاسها ، لا تقدر على مزاولة أي عمل فيه أي مشقة كما هو مشاهد ، فإذا خرجت هي وزوجها بقيت خدمات البيت كلها ضائعة : من حفظ الأولاد الصغار ، وإرضاع من هو في زمن الرضاع منهم ، وتهيئة الأكل والشرب للرجل إذا جاء من عمله ، فلو أجروا إنسانا يقوم مقامها ، لتعطل ذلك الإنسان في ذلك البيت التعطل الذي خرجت [ ص: 28 ] المرأة فرارا منه ; فعادت النتيجة في حافرتها على أن خروج المرأة وابتذالها فيه ضياع المروءة والدين ; لأن المرأة متاع ، هو خير متاع الدنيا ، وهو أشد أمتعة الدنيا تعرضا للخيانة .
لأن العين الخائنة إذا نظرت إلى شيء من محاسنها فقد استغلت بعض منافع ذلك الجمال خيانة ومكرا . فتعريضها لأن تكون مائدة للخونة فيه ما لا يخفى على أدنى عاقل ، وكذلك إذا لمس شيئا من بدنها بدن خائن سرت لذة ذلك اللمس في دمه ولحمه بطبيعة الغريزة الإنسانية ، ولا سيما إذا كان القلب فارغا من خشية الله تعالى ، فاستغل نعمة ذلك البدن خيانة وغدرا ، وتحريك الغرائز بمثل ذلك النظر واللمس يكون غالبا سببا لما هو شر منه . كما هو مشاهد بكثرة في البلاد التي تخلت عن تعاليم الإسلام ، وتركت الصيانة . فصارت نساؤها يخرجن متبرجات عاريات الأجسام إلا ما شاء الله . لأن الله نزع من رجالها صفة الرجولة والغيرة على حريمهم . ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم نعوذ بالله من مسخ الضمير والذوق ، ومن كل سوء ، ودعوى الجهلة السفلة : أن دوام خروج النساء بادية الرءوس والأعناق والمعاصم ، والأذرع والسوق ، ونحو ذلك يذهب إثارة غرائز الرجال ; لأن كثرة الإمساس تذهب الإحساس ; كلام في غاية السقوط والخسة ; لأن معناه : إشباع الرغبة مما لا يجوز ، حتى يزول الأرب منه بكثرة مزاولته ، وهذا كما ترى . ولأن الدوام لا يذهب إثارة الغريزة باتفاق العقلاء ; لأن الرجل يمكث مع امرأته سنين كثيرة حتى تلد أولادهما ، ولا تزال ملامسته لها ، ورؤيته لبعض جسمها تثير غريزته . كما هو مشاهد لا ينكره إلا مكابر :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
وقد أمر رب السموات والأرض ، خالق هذا الكون ومدبر شئونه ، العالم بخفايا أموره وبكل ما كان وما سيكون بغض البصر عما لا يحل ; قال تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن . . . الآية [ 24 \ 30 ، 31 ] .
ونهى المرأة أن تضرب برجلها لتسمع الرجال صوت خلخالها في قوله : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [ 24 \ 31 ] ، ونهاهن عن لين الكلام ، لئلا يطمع أهل الخنى فيهن ، قال تعالى : فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [ ص: 29 ] وقلن قولا معروفا [ 32 \ 33 ] ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق المقام في مسألة الحجاب في ( سورة الأحزاب ) ، كما قدمنا الوعد بذلك في ترجمة هذا الكتاب المبارك .
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : ملك الرقيق المعبر عنه في القرآن بملك اليمين في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 3 ] ، وقوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] في " سورة قد أفلح المؤمنون ، وسأل سائل " ، وقوله : والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] ، وقوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله الآية [ 4 \ 24 ] ، وقوله جل وعلا : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم الآية [ 24 \ 33 ] ، وقوله : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك الآية [ 33 \ 52 ] .
وقوله : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك الآية [ 33 \ 50 ] ، وقوله جل وعلا : ولا نسائهن ولا ما ملكت أيمانهن [ 33 \ 55 ] ، وقوله : أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن [ 24 \ 31 ] ، وقوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ 4 \ 25 ] ، وقوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] ، وقوله : هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ 30 \ 28 ] إلى غير ذلك من الآيات .
فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات ونحوها : ملك الرقيق بالرق ، ومن الآيات الدالة على ملك الرقيق قوله : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا الآية [ 16 \ 75 ] ، وقوله : ولعبد مؤمن خير من مشرك الآية [ 2 \ 221 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وسبب الملك بالرق : هو الكفر ، ومحاربة الله ورسوله ، فإذا أقدر الله المسلمين المجاهدين الباذلين مهجهم وأموالهم ، وجميع قواهم ، وما أعطاهم الله لتكون كلمة الله هي العليا على الكفار ، جعلهم ملكا لهم بالسبي ; إلا إذا اختار الإمام المن أو الفداء ، لما في ذلك من المصلحة على المسلمين .
[ ص: 30 ] وهذا الحكم من أعدل الأحكام وأوضحها وأظهرها حكمة ، وذلك أن الله جل وعلا خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ، ويمتثلوا أوامره ويجتنبوا نواهيه ، كما قال تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ 51 \ 56 ، 57 ] . وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة .
كما قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ 14 \ 34 ] ، وفي الآية الأخرى في " سورة النحل " : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم [ 16 \ 18 ] ، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ليشكروه ; كما قال تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ 16 \ 78 ] فتمرد الكفار على ربهم وطغوا وعتوا ، وأعلنوا الحرب على رسله لئلا تكون كلمته هي العليا ، واستعملوا جميع المواهب التي أنعم عليهم بها في محاربته ، وارتكاب ما يسخطه ، ومعاداته ومعاداة أوليائه القائمين بأمره ، وهذا أكبر جريمة يتصورها الإنسان .
فعاقبهم الحكم العدل اللطيف الخبير جل وعلا عقوبة شديدة تناسب جريمتهم . فسلبهم التصرف ، ووضعهم من مقام الإنسانية إلى مقام أسفل منه كمقام الحيوانات ، فأجاز بيعهم وشراءهم ، وغير ذلك من التصرفات المالية ، مع أنه لم يسلبهم حقوق الإنسانية سلبا كليا . فأوجب على مالكيهم الرفق والإحسان إليهم ، وأن يطعموهم مما يطعمون ، ويكسوهم مما يلبسون ، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون ، وإن كلفوهم أعانوهم ; كما هو معروف في السنة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم مع الإيصاء عليهم في القرآن ، كما في قوله تعالى : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى إلى قوله : وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] كما تقدم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:36 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (189)
سُورَةُ الإسراء(6)
صـ 31 إلى صـ 35
وتشوف الشارع تشوفا شديدا للحرية والإخراج من الرق ، فأكثر أسباب ذلك ، كما أوجبه في الكفارات من قتل خطأ وظهار ويمين وغير ذلك ، وأوجب سراية العتق ، وأمر بالكتابة في قوله : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ 24 \ 33 ] ، ورغب في الإعتاق ترغيبا شديدا ، ولو فرضنا - ولله المثل الأعلى - أن حكومة من هذه الحكومات التي تنكر الملك بالرق ، وتشنع في ذلك على دين الإسلام قام عليها رجل من رعاياها كانت تغدق عليه النعم ، وتسدي إليه جميع أنواع الإحسان ، ودبر عليها ثورة [ ص: 31 ] شديدة يريد بها إسقاط حكمها ، وعدم نفوذ كلمتها ، والحيلولة بينها وبين ما تريده من تنفيذ أنظمتها ، التي يظهر لها أن بهما صلاح المجتمع ، ثم قدرت عليه بعد مقاومة شديدة فإنها تقتله شر قتلة ، ولا شك أن ذلك القتل يسلبه جميع تصرفاته وجميع منافعه ، فهو أشد سلبا لتصرفات الإنسان ومنافعه من الرق بمراحل ، والكافر قام ببذل كل ما في وسعه ليحول دون إقامة نظام الله الذي شرعه ليسير عليه خلقه ، فينشر بسببه في الأرض الأمن والطمأنينة ، والرخاء والعدالة ، والمساواة في الحقوق الشرعية ، وتنتظم به الحياة على أكمل الوجوه وأعدلها وأسماها : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] فعاقبه الله هذه المعاقبة بمنعه التصرف ، ووضع درجته وجريمته تجعله يستحق العقوبة بذلك .
فإن قيل : إذا كان الرقيق مسلما فما وجه ملكه بالرق ؟ مع أن سبب الرق الذي هو الكفر ومحاربة الله ورسله قد زال ؟
فالجواب : أن القاعدة المعروفة عند العلماء وكافة العقلاء : أن الحق السابق لا يرفعه الحق اللاحق ، والأحقية بالأسبقية ظاهرة لا خفاء بها ، فالمسلمون عندما غنموا الكفار بالسبي ثبت لهم حق الملكية بتشريع خالق الجميع ، وهو الحكيم الخبير ، فإذا استقر هذا الحق وثبت ، ثم أسلم الرقيق بعد ذلك كان حقه في الخروج من الرق بالإسلام مسبوقا بحق المجاهد الذي سبقت له الملكية قبل الإسلام ، وليس من العدل والإنصاف رفع الحق السابق بالحق المتأخر عنه ، كما هو معلوم عند العقلاء ، نعم ، يحسن بالمالك ويجمل به أن يعتقه إذا أسلم ، وقد أمر الشارع بذلك ورغب فيه ، وفتح له الأبواب الكثيرة كما قدمنا ، فسبحان الحكيم الخبير : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] ، فقوله صدقا أي في الإخبار ، وقوله : وعدلا ; أي في الأحكام . ولا شك أن من ذلك العدل : الملك بالرق وغيره من أحكام القرآن :
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : القصاص ; فإن الإنسان إذا غضب وهم بأن يقتل إنسانا آخر فتذكر أنه إن قتله قتل به ، خاف العاقبة فترك القتل ، فحيي ذلك الذي كان يريد [ ص: 32 ] قتله ، وحيي هو ، لأنه لم يقتل فيقتل قصاصا ، فقتل القاتل يحيا به ما لا يعلمه إلا الله كثرة كما ذكرنا ، قال تعالى ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون [ 2 \ 179 ] ، ولا شك أن هذا من أعدل الطرق وأقومها ، ولذلك يشاهد في أقطار الدنيا قديما وحديثا قلة وقوع القتل في البلاد التي تحكم بكتاب الله ; لأن القصاص رادع عن جريمة القتل . كما ذكره الله في الآية المذكورة آنفا . وما يزعمه أعداء الإسلام من أن القصاص غير مطابق للحكمة ; لأن فيه إقلال عدد المجتمع بقتل إنسان ثان بعد أن مات الأول ، وأنه ينبغي أن يعاقب بغير القتل فيحبس ، وقد يولد له في الحبس فيزيد المجتمع . كله كلام ساقط ، عار من الحكمة ; لأن الحبس لا يردع الناس عن القتل ، فإذا لم تكن العقوبة رادعة فإن السفهاء يكثر منهم القتل ، فيتضاعف نقص المجتمع بكثرة القتل .
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : قطع يد السارق المنصوص عليه بقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو سرقت فاطمة لقطعت يدها " .
وجمهور العلماء على أن القطع من الكوع ، وأنها اليمنى . وكان ابن مسعود وأصحابه يقرءون " فاقطعوا أيمانهما " .
والجمهور أنه إن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى ، ثم إن سرق فيده اليسرى ، ثم إن سرق فرجله اليمنى ، ثم يعزر . وقيل : يقتل ، كما جاء في الحديث : " ولا قطع إلا في ربع دينار أو قيمته أو ثلاثة دراهم " كما هو معروف في الأحاديث .
وليس قصدنا هنا تفصيل أحكام السرقة وشروط القطع ، كالنصاب والإخراج من حرز ، ولكن مرادنا أن نبين أن قطع يد السارق من هدي القرآن للتي هي أقوم . وذلك أن هذه اليد الخبيثة الخائنة ، التي خلقها الله لتبطش وتكتسب في كل ما يرضيه من امتثال أوامره واجتناب نهيه ، والمشاركة في بناء المجتمع الإنساني ، فمدت أصابعها الخائنة إلى مال الغير لتأخذه بغير حق ، واستعملت قوة البطش المودعة فيها في الخيانة والغدر ، وأخذ أموال الناس على هذا الوجه القبيح ، يد نجسة قذرة ، ساعية في الإخلال بنظام المجتمع ، إذ لا نظام له بغير المال ، فعاقبها خالقها بالقطع والإزالة ; كالعضو الفاسد الذي يجر الداء لسائر البدن ، فإنه يزال بالكلية إبقاء على البدن وتطهيرا له من المرض ، ولذلك فإن قطع اليد يطهر السارق من دنس ذنب ارتكاب معصية السرقة ، مع الردع البالغ [ ص: 33 ] بالقطع عن السرقة ; قال البخاري في صحيحه : " باب الحدود كفارة " ، حدثنا محمد بن يوسف ، أخبرنا ابن عيينة عن الزهري ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس ، فقال : " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ، ولا تزنوا " وقرأ هذه الآية كلها " فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارته ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه ، إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه " . اه هذا لفظ البخاري في صحيحه ، وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح : " فهو كفارته " نص صريح في أن الحدود تطهر المرتكبين لها من الذنب .
والتحقيق في ذلك ما حققه بعض العلماء : من أن حقوق الله يطهر منها بإقامة الحد ، وحق المخلوق يبقى ، فارتكاب جريمة السرقة مثلا يطهر منه بالحد ، والمؤاخذة بالمال تبقى ; لأن السرقة علة موجبة حكمين : وهما القطع والغرم . قال في مراقي السعود :
وذاك في الحكم الكثير أطلقه كالقطع مع غرم نصاب السرقة
مع أن جماعة من أهل العلم قالوا : لا يلزمه الغرم مع القطع ; لظاهر الآية الكريمة : فإنها نصت على القطع ولم تذكر غرما .
وقال جماعة : يغرم المسروق مطلقا ، فات أو لم يفت ، معسرا كان أو موسرا ، ويتبع به دينا إن كان معسرا .
وقال جماعة : يرد المسروق إن كان قائما . وإن لم يكن قائما رد قيمته إن كان موسرا ، فإن كان معسرا فلا شيء عليه ، ولا يتبع به دينا .
والأول مذهب أبي حنيفة . والثاني مذهب الشافعي وأحمد . والثالث مذهب مالك . وقطع السارق كان معروفا في الجاهلية فأقره الإسلام .
وعقد ابن الكلبي بابا لمن قطع في الجاهلية بسبب السرقة ، فذكر قصة الذين سرقوا غزال الكعبة فقطعوا في عهد عبد المطلب ، وذكر ممن قطع في السرقة عوف بن عبد بن عمرو بن مخزوم ، ومقيس بن قيس بن عدي بن سهم وغيرهما ، وأن عوفا السابق لذلك ، انتهى .
وكان من هدايا الكعبة صورة غزالين من ذهب ، أهدتهما الفرس لبيت الله الحرام ، كما عقده البدوي الشنقيطي في نظم عمود النسب بقوله :
ومن خباياه غزالا ذهب أهدتهما الفرس لبيت العرب
[ ص: 34 ] وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : وقد قطع السارق في الجاهلية ، وأول من حكم بقطعه في الجاهلية الوليد بن المغيرة ، فأمر الله بقطعه في الإسلام ، فكان أول سارق قطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام من الرجال الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، ومن النساء مرة بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم ، وقطع أبو بكر يد اليمني الذي سرق العقد . وقطع عمر يد ابن سمرة أخي عبد الرحمن بن سمرة اه .
قال مقيده عفا الله عنه : ما ذكره القرطبي رحمه الله من أن المخزومية التي سرقت فقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها أولا هي مرة بنت سفيان خلاف التحقيق ، والتحقيق أنها فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، وهي بنت أخي أبي سلمة بن عبد الأسد الصحابي الجليل ، الذي كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم ، قتل أبوها كافرا يوم بدر ، قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها وقع في غزوة الفتح ، وأما سرقة أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد ابنة عم المذكورة ، وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يدها ففي حجة الوداع ، بعد قصة الأولى بأكثر من سنتين .
فإن قيل : أخرج الشيخان في صحيحيهما ، وأصحاب السنن وغيرهم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ، وفي لفظ بعضهم قيمته ثلاثة دراهم . وأخرج الشيخان في صحيحيهما ، وأصحاب السنن غير ابن ماجه وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا " والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ، مع أنه عرف من الشرع أن اليد فيها نصف الدية ، ودية الذهب ألف دينار . فتكون دية اليد خمسمائة دينار ، فكيف تؤخذ في مقابلة ربع دينار ؟ وما وجه العدالة والإنصاف في ذلك .
فالجواب : أن هذا النوع من اعتراضات الملحدين الذين يؤمنون بالله ورسوله ، هو الذي نظمه المعري بقوله :
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وللعلماء عنه أجوبة كثيرة نظما ونثرا ; منها قول القاضي عبد الوهاب مجيبا له في بحره ورويه :
عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وقال بعضهم : لما خانت هانت . ومن الواضح : أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما [ ص: 35 ] تحملت رذيلة السرقة وإطلاق اسم السرقة عليها في شيء حقير كثمن المجن والأترجة ، كان من المناسب المعقول أن تؤخذ في ذلك الشيء القليل ، الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى .
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : ثم إنا أجبنا عن هذا الطعن ، بأن الشرع إنما قطع يده بسبب أنه تحمل الدناءة والخساسة في سرقة ذلك القدر القليل . فلا يبعد أن يعاقبه الشرع بسبب تلك الدناءة هذه العقوبة العظيمة اه .
فانظر ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ، والتنزه عما لا يليق ، وقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة ، فانظر هذا الحط العظيم لدرجته بسبب ارتكاب الرذائل .
وقد استشكل بعض الناس قطع يد السارق في السرقة خاصة دون غيرها من الجنايات على الأموال ، كالغصب ، والانتهاب ، ونحو ذلك .
قال المازري ومن تبعه : صان الله الأموال بإيجاب قطع سارقها ، وخص السرقة لقلة ما عداها بالنسبة إليها ، من الانتهاب والغصب ، ولسهولة إقامة البينة على ما عدا السرقة بخلافها ، وشدد العقوبة فيها ليكون أبلغ في الزجر ، ولم يجعل دية الجناية على العضو المقطوع منها بقدر ما يقطع فيه حماية لليد ، ثم لما خانت هانت ، وفي ذلك إثارة إلى الشبهة التي نسبت إلى أبي العلاء المعري في قوله :
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
فأجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله :
صيانة العضو أغلاها وأرخصها حماية المال فافهم حكمة الباري
وشرح ذلك : أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنايات على الأيدي ، ولو كان نصاب القطع خمسمائة دينار لكثرت الجنايات على الأموال ، فظهرت الحكمة في الجانبين ، وكان في ذلك صيانة من الطرفين .
وقد عسر فهم المعنى المقدم ذكره في الفرق بين السرقة وبين النهب ونحوه على بعض منكري القياس ، فقال : القطع في السرقة دون الغصب وغيره غير معقول المعنى ; فإن الغصب أكثر هتكا للحرمة من السرقة ، فدل على عدم اعتبار القياس ، لأنه إذا لم يعمل به في الأعلى فلا يعمل به في المساوي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-10-14, 05:38 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (190)
سُورَةُ الإسراء(7)
صـ 36 إلى صـ 40
وجوابه : أن الأدلة على العمل بالقياس أشهر من أن يتكلف لإيرادها ، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك في كتاب الأحكام . اه بواسطة نقل ابن حجر في فتح الباري .
قال مقيده عفا الله عنه : الفرق بين السرقة وبين الغصب ونحوه الذي أشار إليه المازري ظاهر ، وهو أن النهب والغصب ونحوهما قليل بالنسبة إلى السرقة ، ولأن الأمر الظاهر غالبا توجد البينة عليه بخلاف السرقة ، فإن السارق إنما يسرق خفية بحيث لا يطلع عليه أحد ، فيعسر الإنصاف منه ، فغلظت عليه الجناية ليكون أبلغ في الزجر ، والعلم عند الله تعالى .
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : رجم الزاني المحصن ذكرا كان أو أنثى ، وجلد الزاني البكر مائة جلدة ذكرا كان أو أنثى .
أما الرجم : فهو منصوص بآية منسوخة التلاوة باقية الحكم ، وهي قوله تعالى : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " .
وقد قدمنا ذم القرآن للمعرض عما في التوراة من حكم الرجم ، فدل القرآن في آيات محكمة كقوله : يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه الآية [ 5 \ 41 ] ، وقوله : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم الآية [ 3 \ 23 ] على ثبوت حكم الرجم في شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم لذمه في كتابنا للمعرض عنه كما تقدم .
وما ذكرنا من أن حكم الرجم ثابت بالقرآن لا ينافي قول علي رضي الله عنه حين رجم امرأة يوم الجمعة : " رجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ; لأن السنة هي التي بينت أن حكم آية الرجم باق بعد نسخ تلاوتها .
ويدل لذلك قول عمر رضي الله عنه في حديثه الصحيح المشهور : " فكان مما أنزل إليه آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده . . . " الحديث .
والملحدون يقولون : إن الرجم قتل وحشي لا يناسب الحكمة التشريعية ، ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي يعامل بها الإنسان ، لقصور إدراكهم عن فهم حكم الله البالغة في تشريعه .
والحاصل : أن الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى ; لأن الزاني لما أدخل فرجه [ ص: 37 ] في فرج امرأة على وجه الخيانة والغدر ، فإنه ارتكب أخس جريمة عرفها الإنسان بهتك الأعراض ، وتقذير الحرمات ، والسعي في ضياع أنساب المجتمع الإنساني ، والمرأة التي تطاوعه في ذلك مثله ، ومن كان كذلك فهو نجس قذر لا يصلح للمصاحبة ، فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بالقتل ليدفع شره البالغ غاية الخبث والخسة ، وشر أمثاله عن المجتمع ، ويطهره هو من التنجيس بتلك القاذورة التي ارتكب ، وجعل قتلته أفظع قتلة ; لأن جريمته أفظع جريمة ، والجزاء من جنس العمل .
وقد دل الشرع المطهر على أن إدخال الفرج في الفرج المأذون فيه شرعا يوجب الغسل ، والمنع من دخول المسجد على كل واحد منهما حتى يغتسل بالماء ، فدل ذلك أن ذلك الفعل يتطلب طهارة في الأصل ، وطهارته المعنوية إن كان حراما قتل صاحبه المحصن ، لأنه إن رجم كفر ذلك عنه ذنب الزنى ، ويبقى عليه حق الآدمي ; كالزوج إن زنى بمتزوجة ، وحق الأولياء في إلحاق العار بهم كما أشرنا له سابقا .
وشدة قبح الزنى أمر مركوز في الطبائع ، وقد قالت هند بنت عتبة وهي كافرة : ما أقبح ذلك الفعل حلالا ! فكيف به وهو حرام . وغلظ جل وعلا عقوبة المحصن بالرجم تغليظا أشد من تغليظ عقوبة البكر بمائة جلدة ; لأن المحصن قد ذاق عسيلة النساء ، ومن كان كذلك يعسر عليه الصبر عنهن ، فلما كان الداعي إلى الزنى أعظم ، كان الرادع عنه أعظم وهو الرجم .
وأما جلد الزاني البكر ذكرا كان أو أنثى مائة جلدة فهذا منصوص بقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة الآية [ 24 \ 2 ] ; لأن هذه العقوبة تردعه وأمثاله عن الزنى ، وتطهره من ذنب الزنى كما تقدم . وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ما يلزم الزناة من ذكور وإناث ، وعبيد وأحرار " في سورة النور " .
وتشريع الحكيم الخبير جل وعلا مشتمل على جميع الحكم من درء المفاسد وجلب المصالح ، والجري على مكارم الأخلاق ، ومحاسن العادات ، ولا شك أن من أقوم الطرق معاقبة فظيع الجناية بعظيم العقاب جزاء وفاقا .
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : هديه إلى أن التقدم لا ينافي التمسك بالدين ، فما خيله أعداء الدين لضعاف العقول ممن ينتمي إلى الإسلام : من أن التقدم لا يمكن إلا بالانسلاخ من دين الإسلام ، باطل لا أساس له ، والقرآن الكريم يدعو إلى التقدم في جميع الميادين التي لها أهمية في دنيا أو دين ، ولكن ذلك التقدم في حدود الدين ، والتحلي بآدابه الكريمة ، وتعاليمه السماوية ; قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة الآية [ ص: 38 ] [ 8 \ 60 ] ، وقال : ولقد آتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا الآية [ 34 \ 10 ، 11 ] . فقوله : أن اعمل سابغات وقدر في السرد يدل على الاستعداد لمكافحة العدو ، وقوله : واعملوا صالحا يدل على أن ذلك الاستعداد لمكافحة العدو في حدود الدين الحنيف ، وداود من أنبياء " سورة الأنعام " المذكورين فيها في قوله تعالى : ومن ذريته داود الآية [ 6 \ 84 ] ، وقد قال تعالى مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم وعليهم بعد أن ذكرهم : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] .
وقد ثبت في صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس رضي الله عنهما من أين أخذت السجدة " في ص " فقال : أوما تقرأ : ومن ذريته داود - إلى قوله تعالى - أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 84 - 90 ] ، فسجدها داود ، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فدل ذلك على أنا مخاطبون بما تضمنته الآية مما أمر به داود ، فعلينا أن نستعد لكفاح العدو مع التمسك بديننا ، وانظر قوله تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، فهو أمر جازم بإعداد كل ما في الاستطاعة من قوة ولو بلغت القوة من التطور ما بلغت ، فهو أمر جازم بمسايرة التطور في الأمور الدنيوية ، وعدم الجمود على الحالات الأول إذا طرأ تطور جديد ، ولكن كل ذلك مع التمسك بالدين .
ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم الآية [ 4 \ 102 ] ; فصلاة الخوف المذكورة في هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الجمع بين مكافحة العدو ، وبين القيام بما شرعه الله جل وعلا من دينه ، فأمره تعالى في هذه الآية بإقامة الصلاة في وقت التحام الكفاح المسلح يدل على ذلك دلالة في غاية الوضوح ، وقد قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ 8 \ 45 ] ، فأمره في هذه الآية الكريمة بذكر الله كثيرا عند التحام القتال يدل على ذلك أيضا دلالة واضحة ، فالكفار خيلوا لضعاف العقول أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين ، والسمات الحسنة والأخلاق الكريمة ، تباين مقابلة كتباين النقيضين كالعدم والوجود ، والنفي والإثبات ، أو الضدين [ ص: 39 ] كالسواد والبياض ، والحركة والسكون ، أو المتضائفين كالأبوة والبنوة ، والفوق والتحت ، أو العدم والملكة كالبصر والعمى .
فإن الوجود والعدم لا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة ، وكذلك الحركة والسكون مثلا ، وكذلك الأبوة والبنوة ، فكل ذات ثبتت لها الأبوة لذات استحالت عليها النبوة لها ، بحيث يكون شخص أبا وابنا لشخص واحد ، كاستحالة اجتماع السواد والبياض في نقطة بسيطة ، أو الحركة والسكون في جرم ، وكذلك البصر والعمى لا يجتمعان .
فخيلوا لهم أن التقدم والتمسك بالدين متباينان تباين مقابلة ، بحيث يستحيل اجتماعهما ، فكان من نتائج ذلك انحلالهم من الدين رغبة في التقدم ، فخسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين .
والتحقيق أن النسبة بين التقدم والتمسك بالدين بالنظر إلى العقل وحده ، وقطع النظر عن نصوص الكتاب والسنة إنما هي تباين المخالفة ، وضابط المتباينين تباين المخالفة أن تكون حقيقة كل منهما في حد ذاتها تباين حقيقة الآخر ، ولكنهما يمكن اجتماعهما عقلا في ذات أخرى ; كالبياض والبرودة ، والكلام والقعود ، والسواد والحلاوة .
فحقيقة البياض في حد ذاتها تباين حقيقة البرودة ، ولكن البياض والبرودة يمكن اجتماعها في ذات واحدة كالثلج ، وكذلك الكلام والقعود فإن حقيقة الكلام تباين حقيقة القعود ، مع إمكان أن يكون الشخص الواحد قاعدا متكلما في وقت واحد . وهكذا فالنسبة بين التمسك بالدين والتقدم بالنظر إلى حكم العقل من هذا القبيل ، فكما أن الجرم الأبيض يجوز عقلا أن يكون باردا كالثلج ، والإنسان القاعد يجوز عقلا أن يكون متكلما ، فكذلك المتمسك بالدين يجوز عقلا أن يكون متقدما ، إذ لا مانع في حكم العقل من كون المحافظ على امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، مشتغلا في جميع الميادين التقدمية كما لا يخفى ، وكما عرفه التاريخ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان .
أما بالنظر إلى نصوص الكتاب والسنة كقوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره الآية [ 22 \ 40 ] وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ ص: 40 ] [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز [ 58 \ 21 ] وقوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [ 9 \ 14 ] ، ونحو ذلك من الآيات وما في معناها من الأحاديث .
فإن النسبة بين التمسك بالدين والتقدم ، كالنسبة بين الملزوم ولازمه ; لأن التمسك بالدين ملزوم للتقدم ، بمعنى أنه يلزم عليه التقدم ، كما صرحت به الآيات المذكورة ، ومعلوم أن النسبة بين الملزوم ولازمه لا تعدو أحد أمرين : إما أن تكون المساواة أو الخصوص المطلق ; لأن الملزوم لا يمكن أن يكون أعم من لازمه ، وقد يجوز أن يكون مساويا له أو أخص منه ، ولا يتعدى ذلك ، ومثال ذلك : الإنسان مثلا ، فإنه ملزوم للبشرية الحيوانية ، بمعنى أن الإنسان يلزم على كونه إنسانا أن يكون بشرا وأن يكون حيوانا ، وأحد هذين اللازمين مساو له في الماصدق وهو البشر . والثاني أعم منه ما صدقا وهو الحيوان ، فالإنسان أخص منه خصوصا مطلقا كما هو معروف .
فانظر كيف خيلوا لهم أن الربط بين الملزوم ولازمه كالتنافي الذي بين النقيضين والضدين ، وأطاعوهم في ذلك لسذاجتهم وجهلهم وعمى بصائرهم ، فهم ما تقولوا على الدين الإسلامي ورموه بما هو منه بريء إلا لينفروا منه ضعاف العقول ممن ينتمي للإسلام ليمكنهم الاستيلاء عليهم ، لأنهم لو عرفوا الدين حقا واتبعوه لفعلوا بهم ما فعل أسلافهم بأسلافهم ، فالدين هو هو ، وصلته بالله هي هي ، ولكن المنتسبين إليه في جل أقطار الدنيا تنكروا له ، ونظروا إليه بعين المقت والازدراء ، فجعلهم الله أرقاء للكفرة الفجرة ، ولو راجعوا دينهم لرجع لهم عزهم ومجدهم ، وقادوا جميع أهل الأرض ، وهذا مما لا شك فيه : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [ 47 \ 4 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (191)
سُورَةُ الإسراء(8)
صـ 41 إلى صـ 45
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم بيانه أنه كل من اتبع تشريعا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه ، فاتباعه لذلك التشريع المخالف كفر بواح ، مخرج عن الملة الإسلامية ، ولما قال الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم : الشاة تصبح ميتة من قتلها ؟ فقال لهم : " الله قتلها " فقالوا له : ما ذبحتم بأيديهم حلال ، وما ذبحه الله بيده الكريمة تقولون إنه حرام ! فأنتم إذن أحسن من [ ص: 41 ] الله ؟ أنزل الله فيهم قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] وحذف الفاء من قوله : إنكم لمشركون يدل على قسم محذوف على حد قوله في الخلاصة :
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم
إذ لو كانت الجملة جوابا للشرط لاقترنت بالفاء على حد قوله في الخلاصة أيضا :
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل
فهو قسم من الله جل وعلا أقسم به على أن من اتبع الشيطان في تحليل الميتة أنه مشرك ، وهذا الشرك مخرج عن الملة بإجماع المسلمين ، وسيوبخ الله مرتكبه يوم القيامة بقوله : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين [ 36 \ 60 ] لأن طاعته في تشريعه المخالف للوحي هي عبادته ، وقال تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي ما يعبدون إلا شيطانا ، وذلك باتباعهم تشريعه . وقال : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية [ 6 \ 137 ] ، فسماهم شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله تعالى ، وقال عن خليله : ياأبت لا تعبد الشيطان الآية [ 19 \ 44 ] ، أي بطاعته في الكفر والمعاصي ، ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا الآية [ 9 \ 31 ] ، بين له أن معنى ذلك أنهم أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم ، والآيات بمثل هذا كثيرة .
والعجب ممن يحكم غير تشريع الله ثم يدعي الإسلام ; كما قال تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] ، وقال : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] ، وقال : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين [ 6 \ 114 ] .
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع ، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام ، [ ص: 42 ] لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك ، ورجلك بساقك ، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم وتوادهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " . ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس وإرادة الأخ تنبيها على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه ، كقوله تعالى : ولا تخرجون أنفسكم من دياركم الآية [ 2 \ 84 ] ، أي لا تخرجون إخوانكم ، وقوله : لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا [ 24 \ 12 ] ، أي بإخوانهم على أصح التفسيرين ، وقوله : ولا تلمزوا أنفسكم الآية [ 49 \ 11 ] ، أي إخوانكم على أصح التفسيرين ، وقوله : ولا تأكلوا أموالكم بينكم الآية [ 2 \ 188 ] ، أي لا يأكل أحدكم مال أخيه ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين ، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية : قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم [ 58 \ 22 ] ، إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر ، وقوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض الآية [ 9 \ 71 ] ، وقوله : إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم [ 49 \ 10 ] ، وقوله : فأصبحتم بنعمته إخوانا الآية [ 3 \ 103 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية لا يجوز ، ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين .
ومن أصرح الأدلة في ذلك : ما رواه البخاري في صحيحه قال : باب قوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [ 63 \ 8 ] ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان قال : حفظناه من عمرو بن دينار ، قال : سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ! وقال [ ص: 43 ] المهاجري : يا للمهاجرين ! فسمعها الله رسوله قال : " ما هذا " ؟ فقالوا : كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري : يا للمهاجرين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة " الحديث . فقول هذا الأنصاري : يا للأنصار ، وهذا المهاجري : يا للمهاجرين هو النداء بالقومية العصبية بعينه ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " دعوها فإنها منتنة " يقتضي وجوب ترك النداء بها ; لأن قوله : " دعوها " أمر صريح بتركها ، والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول ; لأن الله يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] ، ويقول لإبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] فدل على أن مخالفة الأمر معصية . وقال تعالى عن نبيه موسى في خطابه لأخيه : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فأطلق اسم المعصية على مخالفة الأمر : وقال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار ، موجب للامتثال ، لا سيما وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بالترك بقوله : " فإنها منتنة " ، وحسبك بالنتن موجبا للتباعد لدلالته على الخبث البالغ .
فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن فاعله يتعاطى المنتن ، ولا شك أن المنتن خبيث ، والله تعالى يقول : الخبيثات للخبيثين الآية [ 24 \ 26 ] ، ويقول : ويحرم عليهم الخبائث [ 7 \ 157 ] وحديث جابر هذا الذي قدمناه عن البخاري أخرجه أيضا مسلم في صحيحه قال رحمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، وأحمد بن عبدة الضبي ، وابن أبي عمر ، واللفظ لابن أبي شيبة ، قال ابن عبدة : أخبرنا ، وقال الآخرون : حدثنا سفيان بن عيينة قال : سمع عمرو جابر بن عبد الله يقول : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة ، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ! وقال المهاجري : يا للمهاجرين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما بال دعوى الجاهلية ! " قالوا : يا رسول الله ، كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار . فقال : " دعوها فإنها منتنة . " الحديث .
وقد عرفت وجه دلالة هذا الحديث على التحريم ، مع أن في بعض رواياته الثابتة في الصحيح التصريح بأن دعوى الرجل : " يا لبني فلان " من دعوى الجاهلية . وإذا صح بذلك [ ص: 44 ] أنها من دعوى الجاهلية فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " . وفي رواية في الصحيح : " ليس منا من ضرب الخدود ، أو شق الجيوب ، أو دعا بدعوى الجاهلية " ، وذلك صريح في أن من دعا تلك الدعوى ليس منا ، وهو دليل واضح على التحريم الشديد ، ومما يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا " هذا حديث صحيح ، أخرجه الإمام أحمد من طرق متعددة عن عتي بن ضمرة السعدي ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، وذكره صاحب الجامع الصغير بلفظ " إذا سمعتم من يعتزى بعزاء الجاهلية فأعضوه ولا تكنوا " وأشار لأنه أخرجه أحمد في المسند ، والنسائي وابن حبان ، والطبراني في الكبير ، والضياء المقدسي عن أبي رضي الله عنه ، وجعل عليه علامة الصحة . وذكره أيضا صاحب الجامع الصغير بلفظ " إذا رأيتم الرجل يتعزى . . " إلخ ، وأشار إلى أنه أخرجه الإمام أحمد في المسند والترمذي ، وجعل عليه علامة الصحة . وقال شارحه المناوي : ورواه عنه أيضا الطبراني ، قال الهيثمي : ورجاله ثقات ، وقال شارحه العزيزي : هو حديث صحيح . وقال فيه الشيخ إسماعيل بن محمد العجلوني في كتابه ( كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ) قال النجم : رواه أحمد والنسائي وابن حبان عن أبي بن كعب رضي الله عنه . ومراده بالنجم : الشيخ محمد نجم الدين الغزي في كتابه المسمى ( إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن ) فانظر كيف سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء " عزاء الجاهلية " وأمر أن يقال للداعي به " اعضض على هن أبيك " أي فرجه ، وأن يصرح له بذلك ولا يعبر عنه بالكناية ، فهذا يدل على شدة قبح هذا النداء ، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له .
واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية : أبو جهل ، وأبو لهب ، والوليد بن المغيرة ، ونظراؤهم من رؤساء الكفرة .
وقد بين تعالى تعصبهم لقوميتهم في آيات كثيرة ; كقوله : قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا الآية [ 5 \ 104 ] وقوله : قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا الآية [ 2 \ 170 ] ، وأمثال ذلك من الآيات .
واعلم أنه لا خلاف بين العلماء - كما ذكرنا آنفا - في منع النداء برابطة غير الإسلام ، كالقوميات والعصبيات النسبية ، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية ، فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي : أنه نداء [ ص: 45 ] إلى التخلي عن دين الإسلام ، ورفض الرابطة السماوية رفضا باتا ، على الله أن يعتاص من ذلك روابط عصبية قومية ، مدارها على أن هذا من العرب ، وهذا منهم أيضا مثلا . فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفا من الإسلام ، واستبدالها به صفقة خاسرة ، فهي كما قال الراجز :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
كما اشترى المسلم إذ تنصرا
وقد علم في التاريخ حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده كما لا يخفى .
وقد بين الله جل وعلا في محكم كتابه : أن الحكمة في جعله بني آدم شعوبا وقبائل هي التعارف فيما بينهم ، وليست هي أن يتعصب كل شعب على غيره ، وكل قبيلة على غيرها ، قال جل وعلا : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ 49 \ 13 ] ، فاللام في قوله : لتعارفوا لام التعليل ، والأصل لتتعارفوا ، وقد حذفت إحدى التاءين ; فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة لقوله : وجعلناكم شعوبا وقبائل [ 49 \ 13 ] ، ونحن حين نصرح بمنع النداء بالروابط العصبية والأواصر النسبية ، ونقيم الأدلة على منع ذلك ، لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبية لا تمت إلى الإسلام بصلة ، كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب ، وقد بين الله جل وعلا أن عطف ذلك العم الكافر على نبيه صلى الله عليه وسلم من منن الله عليه ، قال تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب .
ومن آثار هذه العصبية النسبية قول أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
كما قدمنا في سورة هود .
وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيبا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، كما قال تعالى عن قومه : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك [ 11 \ 91 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (192)
سُورَةُ الإسراء(9)
صـ 46 إلى صـ 50
وقد نفع الله بها نبيه صالحا أيضا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ; كما أشار تعالى لذلك بقوله : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون [ 27 \ 49 ] ، فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح ، [ ص: 46 ] ولذلك لم يفكروا أن يفعلوا به سوءا إلا ليلا خفية . وقد عزموا أنهم إن فعلوا به ذلك أنكروا وحلفوا لأوليائه أنهم ما حضروا ما وقع بصالح خوفا منهم ، ولما كان لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا عصبة له في قومه ظهر فيه أثر ذلك حتى قال : لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد [ 11 \ 80 ] ، وقد قدمنا هذا مستوفى في " سورة هود " .
فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين ، ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال ، ولا سيما إذا كان القصد بذلك القضاء على رابطة الإسلام ، وإزالتها بالكلية بدعوى أنه لا يساير التطور الجديد ، أو أنه جمود وتأخر عن مسايرة ركب الحضارة - نعوذ بالله من طمس البصيرة - وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ، كما وقع من أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " ولكن تلك القرابات النسبية لا يجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع ، لأنها تشمل المسلم والكافر ، ومعلوم أن المسلم عدو الكافر ، كما قال تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله الآية [ 58 \ 22 ] ، كما تقدم .
والحاصل أن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة " لا إله إلا الله " ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد ، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضا ، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف ، قال تعالى : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم [ 40 \ 7 - 9 ] . فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله ، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم ، إنما هي الإيمان بالله جل وعلا ; لأنه قال عن الملائكة : ويؤمنون به [ ص: 47 ] [ 40 \ 7 ] فوصفهم بالإيمان . وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم : ويستغفرون للذين آمنوا [ 40 \ 7 ] ، فوصفهم أيضا بالإيمان ، فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان ، وهو أعظم رابطة .
ومما يوضح لك أن الرابطة الحقيقية هي دين الإسلام قوله تعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم : سيصلى نارا ذات لهب [ 111 \ 3 ] ويقابل ذلك بما لسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه : " سلمان منا أهل البيت " ، رواه الطبراني والحاكم في المستدرك ، وجعل عليه صاحب الجامع الصغير علامة الصحة ، وضعفه الحافظ الذهبي ، وقال الهيثمي فيه ، عند الطبراني كثير بن عبد الله المزني ضعفه الجمهور ، وبقية رجاله ثقات . وقد أجاد من قال :
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب
وقد أجمع العلماء : على أن الرجل إن مات وليس له من القرباء إلا ابن كافر ، أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام ، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر ، والميراث دليل القرابة ، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية .
وبالجملة ، فلا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض ، وتربط بين أهل الأرض والسماء ، هي رابطة " لا إله إلا الله " ، فلا يجوز البتة النداء برابطة غيرها . ومن والى الكفار بالروابط النسبية محبة لهم ، ورغبة فيهم يدخل في قوله تعالى : ومن يتولهم منكم فإنه منهم [ 5 \ 51 ] ، وقوله تعالى : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [ 8 \ 73 ] ، والعلم عند الله تعالى .
وبالجملة ، فالمصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة :
الأولى : درء المفاسد المعروف عند أهل الأصول بالضروريات .
والثانية : جلب المصالح ، المعروف عند أهل الأصول بالحاجيات .
والثالثة : الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات ، المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات . وكل هذه المصالح الثلاث هدى فيها القرآن العظيم للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها .
فالضروريات التي هي درء المفاسد إنما هي درؤها عن ستة أشياء :
[ ص: 48 ] الأول : الدين ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، كما قال تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] ، وفي سورة الأنفال : ويكون الدين كله لله [ الآية 39 ] ، وقال تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 \ 16 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " الحديث ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " إلى غير ذلك من الأدلة على المحافظة على الدين .
والثاني : النفس ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليها بأقوم الطرق وأعدلها ، ولذلك أوجب القصاص درءا للمفسدة عن الأنفس ، كما قال تعالى : ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب الآية [ 2 \ 179 ] ، وقال : كتب عليكم القصاص في القتلى الآية [ 2 \ 178 ] ، وقال : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا الآية [ 17 \ 33 ] .
الثالث : العقل ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه - إلى قوله - فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 ، 91 ] ، وقال صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام " وقال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " ، كما قدمنا ذلك مستوفى " في سورة النحل " ، وللمحافظة على العقل أوجب صلى الله عليه وسلم حد الشارب درءا للمفسدة عن العقل .
الرابع : النسب ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، ولذلك حرم الزنى وأوجب فيه الحد الرادع ، وأوجب العدة على النساء عند المفارقة بطلاق أو موت ، لئلا يختلط ماء رجل بماء آخر في رحم امرأة محافظة على الأنساب ; قال تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وقال تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة الآية [ 24 \ 2 ] ، وقد قدمنا آية الرجم والأدلة الدالة على أنها منسوخة التلاوة باقية الحكم ، وقال تعالى في إيجاب العدة حفظا للأنساب : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية [ 2 \ 228 ] ، وقال : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ 2 \ 234 ] وإن كانت عدة الوفاة فيها شبه تعبد لوجوبها مع عدم الخلوة بين الزوجين .
ولأجل المحافظة على النسب منع سقي زرع الرجل بماء غيره ; فمنع نكاح الحامل حتى تضع ، قال تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] .
الخامس : العرض ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، فنهى [ ص: 49 ] المسلم عن أن يتكلم في أخيه بما يؤذيه ، وأوجب عليه إن رماه بفرية حد القذف ثمانين جلدة ، قال تعالى : ولا يغتب بعضكم بعضا [ 49 \ 12 ] ، وقبح جل وعلا غيبة المسلم غاية التقبيح بقوله : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه [ 49 \ 12 ] ، وقال : ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون [ 49 \ 11 ] وقال في إيجاب حد القاذف : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 ، 5 ] .
السادس : المال ، وقد جاء القرآن بالمحافظة عليه بأقوم الطرق وأعدلها ، ولذلك منع أخذه بغير حق شرعي ، وأوجب على السارق حد السرقة وهو قطع اليد كما تقدم ، قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] ، وقال تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون [ 2 \ 188 ] ، وقال : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله الآية [ 5 \ 38 ] ، وكل ذلك محافظة على المال ودرءا للمفسدة عنه .
المصلحة الثانية : جلب المصالح ، وقد جاء القرآن بجلب المصالح بأقوم الطرق وأعدلها ، ففتح الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين ، قال تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ 62 \ 10 ] ، وقال : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ 2 \ 198 ] ، وقال : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] ، وقال : بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] .
ولأجل هذا جاء الشرع الكريم بإباحة المصالح المتبادلة بين أفراد المجتمع على الوجه المشروع ، ليستجلب كل مصلحته من الآخر ، كالبيوع والإجارات والأكرية والمساقاة والمضاربة ، وما جرى مجرى ذلك .
المصلحة الثالثة : الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات ، وقد جاء القرآن بذلك بأقوم الطرق وأعدلها ، والحض على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات كثير جدا في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ولذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت : " كان خلقه القرآن " لأن القرآن يشتمل على جميع مكارم الأخلاق ; لأن الله تعالى يقول [ ص: 50 ] في نبيه صلى الله عليه وسلم : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] .
فدل مجموع الآية وحديث عائشة على أن المتصف بما في القرآن من مكارم الأخلاق : أنه يكون على خلق عظيم ، وذلك لعظم ما في القرآن من مكارم الأخلاق ، وسنذكر لك بعضا من ذلك تنبيها به على غيره .
فمن ذلك قوله تعالى : وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم الآية [ 2 \ 237 ] .
فانظر ما في هذه الآية من الحض على مكارم الأخلاق من الأمر بالعفو والنهي عن نسيان الفضل ، وقال تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا الآية [ 5 \ 2 ] ، وقال تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] . فانظر ما في هذه الآيات من مكارم الأخلاق ، والأمر بأن تعامل من عصى الله فيك بأن تطيعه فيه . وقال تعالى :واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] فانظر إلى هذا من مكارم الأخلاق ، والأمر بالإحسان إلى المحتاجين والضعفاء ، وقال تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون [ 16 \ 90 ] ، وقال تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] ، وقال : ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن [ 6 \ 151 ] ، وقال تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما [ 25 \ 72 ] ، وقال تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق ، ومحاسن العادات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:47 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (193)
سُورَةُ الإسراء(10)
صـ 51 إلى صـ 55
ومن هدي القرآن للتي هي أقوم : هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها ، ونحن دائما في المناسبات نبين هدي القرآن العظيم إلى حل ثلاث مشكلات ، هي من أعظم ما يعانيه العالم في جميع المعمورة ممن ينتمي إلى الإسلام ، تنبيها بها على غيرها : المشكلة الأولى : هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العدد والعدد عن مقاومة الكفار ، وقد هدى القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها ، فبين أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار إنما هو بصدق التوجه إلى الله تعالى ، وقوة الإيمان به [ ص: 51 ] والتوكل عليه ; لأن الله قوي عزيز ، قاهر لكل شيء ، فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار ولو بلغوا من القوة ما بلغوا .
فمن الأدلة المبينة لذلك : أن الكفار لما ضربوا على المسلمين ذلك الحصار العسكري العظيم في غزوة الأحزاب ، المذكور في قوله تعالى : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ 33 \ 10 - 11 ] ، كان علاج ذلك هو ما ذكرنا ، فانظر شدة هذا الحصار العسكري وقوة أثره في المسلمين ، مع أن جميع أهل الأرض في ذلك الوقت مقاطعوهم سياسة واقتصادا ، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن العلاج الذي قابلوا به هذا الأمر العظيم ، وحلوا به هذه المشكلة العظمى ، هو ما بينه جل وعلا ( في سورة الأحزاب ) بقوله : ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما [ 33 \ 22 ] .
فهذا الإيمان الكامل ، وهذا التسليم العظيم لله جل وعلا ، ثقة به ، وتوكلا عليه ، هو سبب حل هذه المشكلة العظمى .
وقد صرح الله تعالى بنتيجة هذا العلاج بقوله تعالى : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 25 ، 26 ، 27 ] .
وهذا الذي نصرهم الله به على عدوهم ما كانوا يظنونه ، ولا يحسبون أنهم ينصرون به وهو الملائكة والريح ، قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها [ 33 \ 9 ] ، ولما علم جل وعلا من أهل بيعة الرضوان الإخلاص الكامل ، ونوه عن إخلاصهم بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم [ 48 \ 18 ] : أي من الإيمان والإخلاص ، كان من نتائج ذلك ما ذكره الله جل وعلا في قوله : وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا [ 48 \ 21 ] ، فصرح جل وعلا في هذه الآية بأنهم لم يقدروا [ ص: 52 ] عليها ، وأن الله جل وعلا أحاط بها فأقدرهم عليها ، وذلك من نتائج قوة إيمانهم وشدة إخلاصهم .
فدلت الآية على أن الإخلاص لله وقوة الإيمان به ، هو السبب لقدرة الضعيف على القوي وغلبته له : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [ 2 \ 249 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية : لم تقدروا عليها [ 48 \ 21 ] فعل في سياق النفي ، والفعل في سياق النفي من صيغ العموم على التحقيق ، كما تقرر في الأصول ، ووجهه ظاهر ; لأن الفعل الصناعي - " أعني الذي يسمى في الاصطلاح فعل الأمر أو الفعل الماضي أو الفعل المضارع " - ينحل عند النحويين وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن
وعند جماعة من البلاغيين ينحل عن مصدر وزمن ونسبة ، وهذا هو الظاهر كما حرره بعض البلاغيين ، في بحث الاستعارة التبعية .
فالمصدر إذن كامن في مفهوم الفعل إجماعا ، فيتسلط النفي الداخل على الفعل على المصدر الكامن في مفهومه ، وهو في المعنى نكرة ، إذ ليس له سبب يجعله معرفة ، فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم .
فقوله : لم تقدروا عليها [ 48 \ 21 ] في معنى : لا قدرة لكم عليها ، وهذا يعم سلب جميع أنواع القدرة ; لأن النكرة في سياق النفي تدل على عموم السلب وشموله لجميع الأفراد الداخلة تحت العنوان . كما هو معروف في محله .
وبهذا تعلم أن جميع أنواع القدرة عليها مسلوب عنهم ، ولكن الله جل وعلا أحاط بها فأقدرهم عليها ، لما علم من الإيمان والإخلاص في قلوبهم وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] .
المشكلة الثانية : هي تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح وأنواع الإيذاء ، مع أن المسلمين على الحق ، والكفار على الباطل .
وهذه المشكلة استشكلها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأفتى الله جل وعلا فيها ، وبين السبب في ذلك بفتوى سماوية تتلى في كتابه جل وعلا .
وذلك أنه لما وقع ما وقع بالمسلمين يوم أحد : فقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن [ ص: 53 ] عمته ، ومثل بهما ، وقتل غيرهما من المهاجرين ، وقتل سبعون رجلا من الأنصار ، وجرح صلى الله عليه وسلم ، وشقت شفته ، وكسرت رباعيته ، وشج صلى الله عليه وسلم .
استشكل المسلمون ذلك ، وقالوا : كيف يدال منا المشركون ونحن على الحق وهم على الباطل ؟ فأنزل الله قوله تعالى : مبين أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم [ 3 \ 165 ] .
وقوله تعالى : قل هو من عند أنفسكم ، فيه إجمال بينه تعالى بقوله : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا - إلى قوله - ليبتليكم [ 3 \ 152 ] .
ففي هذه الفتوى السماوية بيان واضح ; لأن سبب تسليط الكفار على المسلمين هو فشل المسلمين ، وتنازعهم في الأمر ، وعصيانهم أمره صلى الله عليه وسلم ، وإرادة بعضهم الدنيا مقدما لها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد أوضحنا هذا في سورة " آل عمران " ومن عرف أصل الداء عرف الدواء ، كما لا يخفى .
المشكلة الثالثة : هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية ، لاستلزامه الفشل ، وذهاب القوة والدولة ، كما قال تعالى : ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم [ الآية 8 \ 46 ] .
وقد أوضحنا معنى هذه الآية في سورة " الأنفال " .
فترى المجتمع الإسلامي اليوم في أقطار الدنيا يضمر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء ، وإن جامل بعضهم بعضا فإنه لا يخفى على أحد أنها مجاملة ، وأن ما تنطوي عليه الضمائر مخالف لذلك .
وقد بين تعالى في سورة " الحشر " أن سبب هذا الداء الذي عمت به البلوى إنما هو ضعف العقل ; قال تعالى : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى [ 59 \ 14 ] ، ثم ذكر العلة لكون قلوبهم شتى بقوله : ذلك بأنهم قوم لا يعقلون [ 59 \ 14 ] ، ولا شك أن داء ضعف العقل الذي يصيبه فيضعفه عن إدراك الحقائق ، وتمييز الحق من الباطل ، والنافع من الضار ، والحسن من القبيح ، لا دواء له إلا إنارته بنور الوحي ; لأن نور الوحي يحيا به من كان ميتا ويضيء الطريق للمتمسك به ، فيريه الحق حقا والباطل باطلا ، والنافع نافعا ، والضار ضارا ، قال تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك [ 6 \ 122 ] [ ص: 54 ] وقال تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور [ 2 \ 257 ] ومن أخرج من الظلمات إلى النور أبصر الحق ; لأن ذلك النور يكشف له عن الحقائق فيريه الحق حقا ، والباطل باطلا ، وقال تعالى : أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم [ 67 \ 22 ] ، وقال تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 19 - 22 ] ، وقال تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا الآية [ 11 \ 24 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإيمان يكسب الإنسان حياة بدلا من الموت الذي كان فيه ، ونورا بدلا من الظلمات التي كان فيها .
وهذا النور عظيم يكشف الحقائق كشفا عظيما ، كما قال تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح - إلى قوله ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم [ 24 \ 35 ] ، ولما كان تتبع جميع ما تدل عليه هذه الآية الكريمة من هدي القرآن للتي هي أقوم يقتضي تتبع جميع القرآن وجميع السنة ; لأن العمل بالسنة من هدي القرآن للتي هي أقوم ; لقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وكان تتبع جميع ذلك غير ممكن في هذا الكتاب المبارك ، اقتصرنا على هذه الجمل التي ذكرنا من هدي القرآن للتي هي أقوم تنبيها بها على غيرها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا .
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير للعلماء ، وأحدهما يشهد له قرآن .
وهو أن معنى الآية : ويدع الإنسان بالشر [ 17 \ 11 ] ، كأن يدعو على نفسه أو ولده بالهلاك عند الضجر من أمر ، فيقول اللهم أهلكني ، أو أهلك ولدي ، فيدعو بالشر دعاء لا يحب أن يستجاب له ، وقوله دعاءه بالخير أي يدعو بالشر كما يدعو بالخير فيقول عند الضجر : اللهم أهلك ولدي ، كما يقول في غير وقت الضجر : اللهم عافه ، ونحو ذلك من الدعاء .
ولو استجاب الله دعاءه بالشر لهلك ، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم [ 10 \ 11 ] أي : لو عجل لهم الإجابة بالشر كما يعجل لهم الإجابة بالخير لقضي إليهم أجلهم ; أي لهلكوا [ ص: 55 ] وماتوا ، فالاستعجال بمعنى التعجيل .
ويدخل في دعاء الإنسان بالشر قول النضر بن الحارث العبدري : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ 8 \ 32 ] .
وممن فسر الآية الكريمة بما ذكرنا : ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وهو أصح التفسيرين لدلالة آية يونس عليه .
الوجه الثاني في تفسير الآية : أن الإنسان كما يدعو بالخير فيسأل الله الجنة ، والسلامة من النار ، ومن عذاب القبر ، كذلك قد يدعو بالشر فيسأل الله أن ييسر له الزنى بمفسوقته ، أو قتل مسلم هو عدو له ونحو ذلك ، ومن هذا القبيل قول ابن جامع :
أطوف بالبيت فيمن يطوف وأرفع من مئزري المسبل وأسجد بالليل حتى الصباح
وأتلو من المحكم المنزل عسى فارج الهم عن يوسف
يسخر لي ربة المحمل
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (194)
سُورَةُ الإسراء(11)
صـ 56 إلى صـ 60
قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل الليل والنهار آيتين ، أي علامتين دالتين على أنه الرب المستحق أن يعبد وحده ، ولا يشرك معه غيره ، وكرر تعالى هذا المعنى في مواضع كثيرة ; كقوله تعالى : ومن آياته الليل والنهار [ 41 \ 37 ] ، وقوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون [ 36 \ 37 ] ، وقوله تعالى : إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون [ 10 \ 6 ] ، وقوله : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] ، وقوله : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس - إلى قوله - لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] ، وقوله : وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون [ 33 \ 80 ] ، وقوله : وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا [ 25 \ 62 ] ، وقوله : خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار [ 39 \ 5 ] ، وقوله : فالق الإصباح وجعل الليل سكنا [ ص: 56 ] والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم [ 6 \ 96 ] ، وقوله : والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها الآية [ 91 \ 1 - 4 ] ، وقوله والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى الآية [ 92 \ 1 ، 2 ] ، وقوله : والضحى والليل إذا سجى الآية [ 93 \ 1 - 2 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ 17 \ 12 ] يعني أنه جعل الليل مظلما مناسبا للهدوء والراحة ، والنهار مضيئا مناسبا للحركة والاشتغال بالمعاش في الدنيا ، فيسعون في معاشهم في النهار ، ويستريحون من تعب العمل بالليل ، ولو كان الزمن كله ليلا لصعب عليهم العمل في معاشهم ، ولو كان كله نهارا لأهلكهم التعب من دوام العمل .
فكما أن الليل والنهار آيتان من آياته جل وعلا ، فهما أيضا نعمتان من نعمه جل وعلا .
وبين هذا المعنى المشار إليه هنا في مواضع أخر ، كقوله : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 28 \ 71 - 73 ] .
فقوله : لتسكنوا فيه ، أي في الليل ، وقوله : ولتبتغوا من فضله [ 28 \ 73 ] ، أي في النهار ، وقوله : وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا الآية [ 78 \ 9 - 11 ] ، وقوله : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] ، وقوله : ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله الآية [ 30 \ 23 ] ، وقوله : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة : ولتعلموا عدد السنين والحساب [ 17 \ 12 ] ، بين فيه نعمة أخرى على خلقه ، وهي معرفتهم عدد السنين والحساب ، لأنهم باختلاف [ ص: 57 ] الليل والنهار يعلمون عدد الأيام والشهور والأعوام ، ويعرفون بذلك يوم الجمعة ليصلوا فيه صلاة الجمعة ، ويعرفون شهر الصوم ، وأشهر الحج ، ويعلمون مضي أشهر العدة لمن تعتد بالأشهر المشار إليها في قوله : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن [ 65 \ 4 ] ، وقوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ 2 \ 234 ] . ويعرفون مضي الآجال المضروبة للديون والإجارات ونحو ذلك .
وبين جل وعلا هذه الحكمة في مواضع أخر ، كقوله : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [ 10 \ 5 ] . وقوله جل وعلا : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ 2 \ 189 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة [ 17 \ 12 ] فيه وجهان من التفسير للعلماء :
أحدهما : أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وجعلنا نيري الليل والنهار ، أي الشمس والقمر آيتين .
وعلى هذا القول ، فآية الليل هي القمر ، وآية النهار هي الشمس ، والمحو : الطمس . وعلى هذا القول : فمحو آية الليل قيل معناه السواد الذي في القمر ، وبهذا قال علي رضي الله عنه ، ومجاهد ، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وقيل : معنى فمحونا آية الليل [ 17 \ 12 ] ، أي لم نجعل في القمر شعاعا كشعاع الشمس ترى به الأشياء رؤية بينة ، فنقص نور القمر عن نور الشمس هو معنى الطمس على هذا القول .
وهذا أظهر عندي لمقابلته تعالى له بقوله : وجعلنا آية النهار مبصرة [ 17 \ 12 ] ، والقول بأن معنى محو آية الليل : السواد الذي في القمر ليس بظاهر عندي وإن قال به بعض الصحابة الكرام ، وبعض أجلاء أهل العلم .
وقوله : وجعلنا آية النهار على التفسير المذكور ; أي الشمس مبصرة ، أي : ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء على حقيقته .
قال الكسائي : هو من قول العرب : أبصر النهار : إذا أضاء وصار بحالة يبصر [ ص: 58 ] بها ، نقله عنه القرطبي .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا التفسير من قبيل قولهم : نهاره صائم ، وليله قائم . ومنه قوله :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ونمت وما ليل المحب بنائم
وغاية ما في الوجه المذكور من التفسير : حذف مضاف ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب إن دلت عليه قرينة ، قال في الخلاصة : وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا
والقرينة في الآية الكريمة الدالة على المضاف المحذوف قوله : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة [ 17 \ 12 ] ، فإضافة الآية إلى الليل والنهار دليل على أن الآيتين المذكورتين لهما لا هما أنفسهما ، وحذف المضاف كثير في القرآن كقوله : واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها [ 12 \ 82 ] ، وقوله : حرمت عليكم أمهاتكم [ 4 \ 23 ] ; أي نكاحها ، وقوله : حرمت عليكم الميتة [ 5 \ 3 ] ، أي أكلها ، ونحو ذلك .
وعلى القول بتقدير المضاف ، وأن المراد بالآيتين الشمس والقمر ، فالآيات الموضحة لكون الشمس والقمر آيتين تقدمت موضحة في سورة النحل .
الوجه الثاني من التفسير : أن الآية الكريمة ليس فيها مضاف محذوف ، وأن المراد بالآيتين نفس الليل والنهار ، لا الشمس والقمر .
وعلى هذا القول فإضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ ، تنزيلا لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى ، وإضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ كثيرة في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله تعالى : شهر رمضان الآية [ 2 \ 185 ] ، ورمضان هو نفس الشهر بعينه على التحقيق ، وقوله : ولدار الآخرة الآية [ 12 \ 109 ] ، والدار هي الآخرة بعينها ، بدليل قوله في موضع آخر : وللدار الآخرة [ 6 \ 32 ] بالتعريف ، والآخرة نعت للدار ، وقوله : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] ، والحبل هو الوريد ، وقوله : ومكر السيئ الآية [ 35 \ 43 ] ، والمكر هو السيء بدليل قوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] [ ص: 59 ]
ومن أمثلته في كلام العرب قول امرئ القيس :
كبكر المقاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
لأن المقاناة هي البكر بعينها ، وقول عنترة في معلقته :
ومشك سابغة هتكت فروجها بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
لأن مراده بالمشك : السابغة بعينها ، بدليل قوله : هتكت فروجها ; لأن الضمير عائد إلى السابغة التي عبر عنها بالمشك .
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة فاطر ، وبينا أن الذي يظهر لنا : أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف لفظ المضاف والمضاف إليه أسلوب من أساليب اللغة العربية ; لأن تغاير اللفظين ربما نزل منزلة التغاير المعنوي لكثرة الإضافة المذكورة في القرآن وفي كلام العرب ، وجزم بذلك ابن جرير في بعض مواضعه في القرآن ، وعليه فلا حاجة إلى التأويل المشار إليه بقوله في الخلاصة :
ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى وأول موهما إذا ورد
ومما يدل على ضعف التأويل المذكور قوله :
وإن يكونا مفردين فأضف حتما وإلا أتبع الذي ردف
لأن إيجاب إضافة العلم إلى اللقب مع اتحادهما في المعنى إن كانا مفردين المستلزم للتأويل ، ومنع الإتباع الذي لا يحتاج إلى تأويل دليل على أن ذلك من أساليب اللغة العربية ، ولو لم يكن من أساليبها لوجب تقديم ما لا يحتاج إلى تأويل على المحتاج إلى تأويل كما ترى . وعلى هذا الوجه من التفسير فالمعنى : فمحونا الآية التي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة ، أي : جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه ، مظلما لا تستبان فيه الأشياء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو ، وجعلنا النهار مبصرا ، أي تبصر فيه الأشياء وتستبان .
وقوله في هذه الآية الكريمة : وكل شيء فصلناه تفصيلا [ 17 \ 12 ] تقدم إيضاحه ، والآيات الدالة عليه في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : ونزلنا [ ص: 60 ] عليك الكتاب تبيانا لكل شيء الآية [ 16 \ 89 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (195)
سُورَةُ الإسراء(12)
صـ 61 إلى صـ 65
قوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .
في قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : وكل إنسان ألزمناه طائره [ 17 \ 13 ] ، وجهان معروفان من التفسير :
الأول : أن المراد بالطائر : العمل ، من قولهم : طار له سهم إذا خرج له ، أي : ألزمناه ما طار له من عمله .
الثاني : أن المراد بالطائر ما سبق له في علم الله من شقاوة أو سعادة ، والقولان متلازمان ; لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يئول إليه من الشقاوة أو السعادة .
فإذا عرفت الوجهين المذكورين فاعلم : أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها للعلماء قولان أو أقوال ، وكلها حق ، ويشهد له قرآن ، فنذكر جميع الأقوال وأدلتها من القرآن ، لأنها كلها حق ، والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما يشهد له قرآن .
أما على القول الأول بأن المراد بطائره عمله ، فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جدا ; كقوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به الآية [ 4 \ 123 ] ، وقوله : إنما تجزون ما كنتم تعملون [ 66 \ 7 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه [ 84 \ 6 ] ، وقوله : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ 41 \ 46 ] ، وقوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 ، 8 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
وأما على القول بأن المراد بطائره نصيبه الذي طار له في الأزل من الشقاوة أو السعادة ، فالآيات الدالة على ذلك أيضا كثيرة ; كقوله : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، وقوله : فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة [ 7 \ 30 ] ، وقوله : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : في عنقه [ 17 \ 13 ] ; أي : جعلنا عمله ، أو ما سبق له من شقاوة في عنقه ، أي : لازما له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه ، ومنه قول العرب : تقلدها طوق الحمامة ، وقولهم : الموت في الرقاب ، وهذا الأمر ربقة في رقبته ، [ ص: 61 ] ومنه قول الشاعر :
اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمامة
فالمعنى في ذلك كله : اللزوم وعدم الانفكاك .
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرجه له يوم القيامة في كتاب يلقاه منشورا ، أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره .
وبين أشياء من صفات هذا الكتاب الذي يلقاه منشورا في آيات أخر ، فبين أن من صفاته : أن المجرمين مشفقون ; أي خائفون مما فيه ، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضرا ليس منه شيء غائبا ، وأن الله جل وعلا لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئا ، وذلك في قوله جل وعلا : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] .
وبين في موضع آخر : أن بعض الناس يؤتى هذا الكتاب بيمينه - جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم - وأن من أوتيه بيمينه يحاسب حسابا يسيرا ، ويرجع إلى أهله مسرورا ، وأنه في عيشة راضية ، في جنة عالية ، قطوفها دانية ، قال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 7 - 9 ] ، وقال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية [ 69 \ 19 - 23 ] .
وبين في موضع آخر : أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤته ، وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم ، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعا ، وذلك في قوله : وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه ولم أدر ما حسابيه ياليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه [ 69 \ 25 - 32 ] [ ص: 62 ] أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من النار ، ومما قرب إليها من قول وعمل .
وبين في موضع آخر : أن من أوتي كتابه وراء ظهره يصلى السعير ، ويدعو الثبور . وذلك في قوله : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا [ 84 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 14 ] ، يعني أن نفسه تعلم أنه لم يظلم ، ولم يكتب عليه إلا ما عمل ; لأنه في ذلك الوقت يتذكر كل ما عمل في الدنيا من أول عمره إلى آخره ، كما قال تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] .
وقد بين تعالى في مواضع أخر : أنه إن أنكر شيئا من عمله شهدت عليه جوارحه ; كقوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] ، وقوله : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 41 \ 23 ] ، وقوله جل وعلا : بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره [ 75 \ 14 - 15 ] ، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة القيامة .
تنبيه
لفظة " كفى " تستعمل في القرآن واللغة العربية استعمالين :
تستعمل متعدية ، وهي تتعدى غالبا إلى مفعولين ، وفاعل هذه المتعدية لا يجر بالباء ، كقوله : وكفى الله المؤمنين القتال [ 33 \ 25 ] ، وكقوله : أليس الله بكاف عبده الآية [ 39 \ 36 ] ، وقوله : فسيكفيكهم الله الآية [ 2 \ 137 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وتستعمل لازمة ، ويطرد جر فاعلها بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية كقوله في هذه الآية الكريمة كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 14 ] ، وقوله تعالى : وكفى بالله وكيلا ، وقوله : وكفى بالله حسيبا ونحو ذلك .
ويكثر إتيان التمييز بعد فاعلها المجرور بالباء ، وزعم بعض علماء العربية : أن [ ص: 63 ] جر فاعلها بالباء لازم ، والحق أنه يجوز عدم جره بها ، ومنه قول الشاعر :
عميرة ودع إن تجهزت غاديا كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وقول الآخر :
ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
وعلى قراءة من قرأ : يلقاه ; بضم الياء وتشديد القاف مبنيا للمفعول ، فالمعنى : أن الله يلقيه ذلك الكتاب يوم القيامة ، فحذف الفاعل فبني الفعل للمفعول .
وقراءة من قرأ : يخرج - بفتح الياء وضم الراء مضارع خرج مبنيا للفاعل ، فالفاعل ضمير يعود إلى الطائر بمعنى العمل ، وقوله كتابا حال من ضمير الفاعل ، أي ويوم القيامة يخرج هو ، أي العمل المعبر عنه بالطائر في حال كونه كتابا يلقاه منشورا . وكذلك على قراءة يخرج - بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول - فالضمير النائب عن الفاعل راجع أيضا إلى الطائر الذي هو العمل ، أي يخرج له هو ، أي طائره بمعنى عمله ، في حال كونه كتابا .
وعلى قراءة " يخرج " بضم الياء وكسر الراء مبنيا للفاعل ، فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى ، وقوله كتابا مفعول به ، أي : ويوم القيامة يخرج هو ، أي الله له كتابا يلقاه منشورا .
وعلى قراءة الجمهور منهم السبعة : فالنون في نخرج نون العظمة لمطابقة قوله : ألزمناه و كتابا مفعول به لنخرج كما هو واضح ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من اهتدى فعمل بما يرضي الله جل وعلا ، أن اهتداءه ذلك إنما هو لنفسه ، لأنه هو الذي ترجع إليه فائدة ذلك الاهتداء ، وثمرته في الدنيا والآخرة ، وأن من ضل عن طريق الصواب فعمل بما يسخط ربه جل وعلا ، أن ضلاله ذلك إنما هو على نفسه ، لأنه هو الذي يجني ثمرة عواقبه السيئة الوخيمة ، فيخلد به في النار .
وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة ، كقوله : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها الآية [ 41 \ 46 ] ، وقوله : من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون [ 30 \ 44 ] ، وقوله : قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ [ 6 \ 104 ] ، وقوله : فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل [ 10 \ 108 ] ، [ ص: 64 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد قدمنا طرفا منها في سورة " النحل " .
قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لا تحمل نفس ذنب أخرى ، بل لا تحمل نفس إلا ذنبها .
فقوله : ولا تزر [ 17 \ 15 ] ، أي لا تحمل ، من وزر يزر إذا حمل ، ومنه سمي وزير السلطان ، لأنه يحمل أعباء تدبير شئون الدولة ، والوزر : الإثم ، يقال : وزر يزر وزرا ، إذا أثم . والوزر أيضا : الثقل المثقل ، أي : لا تحمل نفس وازرة ، أي : آثمة وزر نفس أخرى . أي إثمها ، أو حملها الثقيل ، بل لا تحمل إلا وزر نفسها .
وهذا المعنى جاء في آيات أخر ; كقوله : ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، وقوله : ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم الآية [ 6 \ 164 ] ، وقوله : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا في سورة " النحل " بإيضاح : أن هذه الآيات لا يعارضها قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] ، ولا قوله : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] ; لأن المراد بذلك أنهم حملوا أوزار ضلالهم في أنفسهم ، وأوزار إضلالهم غيرهم ; لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، كما تقدم مستوفى .
تنبيه
يرد على هذه الآية الكريمة سؤالان :
الأول : ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما من " أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه " فيقال : ما وجه تعذيبه ببكاء غيره ، إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لا يعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره ؟
السؤال الثاني : إيجاب دي الخطأ على العاقلة ، فيقال : ما وجه إلزام العاقلة الدية [ ص: 65 ] بجناية إنسان آخر ؟
والجواب عن الأول : هو أن العلماء حملوه على أحد أمرين :
الأول : أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه ، كما قال طرفة بن العبد في معلقته :
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد
لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه : فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر ، وذلك من فعله لا فعل غيره .
الثاني : أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه ; لأن إهماله نهيهم تفريط منه ، ومخالفة لقوله تعالى : قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ 66 \ 6 ] فتعذيبه إذا بسبب تفريطه ، وتركه ما أمر الله به من قوله : قوا أنفسكم الآية ، وهذا ظاهر كما ترى .
وعن الثاني : بأن إيجاب الدية على العاقلة ليس من تحميلهم وزر القاتل ، ولكنها مواساة محضة أوجبها الله على عاقلة الجاني ; لأن الجاني لم يقصد سوءا ، ولا إثم عليه البتة فأوجب الله في جنايته خطأ الدية بخطاب الوضع ، وأوجب المواساة فيها على العاقلة ، ولا إشكال في إيجاب الله على بعض خلقه مواساة بعض خلقه ، كما أوجب أخذ الزكاة من مال الأغنياء وردها إلى الفقراء ، واعتقد من أوجب الدية على أهل ديوان القاتل خطأ كأبي حنيفة وغيره أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل الديوان ، ويؤيد هذا القول ما ذكره القرطبي في تفسيره ، قال : " وأجمع أهل السير والعلم : أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة ، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، وكانوا يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك . حتى جعل عمر الديوان .
واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به ، وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا زمن أبي بكر ديوان ، وأن عمر جعل الديوان ، وجمع بين الناس ، وجعل أهل كل ناحية يدا ، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو . انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (196)
سُورَةُ الإسراء(13)
صـ 66 إلى صـ 70
قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
ظاهر هذه الآية الكريمة : أن الله جل وعلا لا يعذب أحدا من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة . حتى يبعث إليه رسولا ينذره ويحذره ، فيعصى ذلك الرسول ، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار .
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : رسلا مبشرين [ ص: 66 ] ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، فصرح في هذه الآية الكريمة بأن لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل ، مبشرين من أطاعهم بالجنة ، ومنذرين من عصاهم النار .
وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين ، بينها في آخر سورة طه بقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ 20 \ 134 ] .
وأشار لها في سورة القصص بقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] ، وقوله جل وعلا : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ 6 \ 131 ] ، وقوله : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير الآية [ 5 \ 19 ] ، وكقوله : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة الآية [ 6 \ 155 - 157 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم من أن الله جل وعلا لا يعذب أحدا إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، تصريحه جل وعلا في آيات كثيرة : " بأن لم يدخل أحدا النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل ، فمن ذلك قوله جل وعلا : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء الآية [ 67 \ 8 ، 9 ] .
ومعلوم أن قوله جل وعلا : كلما ألقي فيها فوج يعم جميع الأفواج الملقين في النار .
قال أبو حيان في " البحر المحيط " في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه : " وكلما " تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين ، ومن ذلك قوله جل وعلا : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا [ ص: 67 ] بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] ، وقوله في هذه الآية : وسيق الذين كفروا عام لجميع الكفار .
وقد تقرر في الأصول : أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم ، لعمومها في كل ما تشمله صلاتها ، وعقده في مراقي السعود بقوله في صيغ العموم :
صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع
ومراده بالبيت : أن لفظة " كل ، وجميع ، والذي ، والتي " وفروعهما كل ذلك من الصيغ العموم ، فقوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا - إلى قوله - قالوا بلى [ 39 \ 71 ] عام في جميع الكفار ، وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا ، فعصوا أمر ربهم كما هو واضح .
ونظيره أيضا قوله تعالى : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [ 35 \ 36 ] ، فقوله : والذين كفروا لهم نار جهنم - إلى قوله - وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] ، عام أيضا في جميع أهل النار ، كما تقدم إيضاحه قريبا .
ونظير ذلك قوله تعالى : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال [ 40 \ 49 ، 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا .
وهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير ولو ماتوا على الكفر ، وبهذا قالت جماعة من أهل العلم .
وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير ، واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله ، وبأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] ، وقوله : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [ 2 \ 161 ] ، وقوله : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من [ ص: 68 ] أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [ 3 \ 91 ] ، وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] ، وقوله : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ 22 \ 31 ] ، وقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ، وقوله : قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [ 7 \ 50 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وظاهر جميع هذه الآيات العموم ، لأنها لم تخصص كافرا دون كافر ، بل ظاهرها شمول جميع الكفار .
ومن الأحاديث الدالة على أن الكفار لا يعذرون في كفرهم بالفترة ما أخرجه مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس : أن رجلا قال : يا رسول الله ، أين أبي ؟ قال : " في النار " فلما قفى دعاه فقال : " إن أبي وأباك في النار " اه . وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضا : حدثنا يحيى بن أيوب ، ومحمد بن عباد - واللفظ ليحيى - قالا : حدثنا مروان بن معاوية ، عن يزيد - يعني ابن كيسان - عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي ، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي " ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، قالا : حدثنا محمد بن عبيد ، عن يزيد بن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله . فقال : " استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت " اه ، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على عدم عذر المشركين بالفترة .
وهذا الخلاف مشهور بين أهل الأصول : هل المشركون الذين ماتوا في الفترة وهم يعبدون الأوثان في النار لكفرهم ، أو معذورون بالفترة ؟ وعقده في " مراقي السعود " بقوله :
ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع
وممن ذهب إلى أن أهل الفترة الذين ماتوا على الكفر في النار : النووي في شرح مسلم ، وحكى عليه القرافي في شرح التنقيح الإجماع ، كما نقله عنه صاحب " نشر البنود " .
وأجاب أهل هذا القول عن قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] من أربعة أوجه :
الأول : أن التعذيب المنفي في قوله : وما كنا معذبين الآية ، وأمثالها من [ ص: 69 ] الآيات ، إنما هو التعذيب الدنيوي ، كما وقع في الدنيا من العذاب بقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وقوم موسى وأمثالهم ، وإذا فلا ينافي ذلك التعذيب في الآخرة .
ونسب هذا القول القرطبي ، وأبو حيان ، والشوكاني وغيرهم في تفاسيرهم إلى الجمهور .
والوجه الثاني : أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله : وما كنا معذبين الآية ، وأمثالها في غير الواضح الذي لا يخفى على أدنى عاقل ، أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد ; لأن الكفار يقرون بأن الله هو ربهم ، الخالق الرازق ، النافع ، الضار ، ويتحققون كل التحقق أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر ، كما قال عن قوم إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [ 21 \ 65 ] ، وكما جاءت الآيات القرآنية بكثرة بأنهم وقت الشدائد يخلصون الدعاء لله وحده ، لعلمهم أن غيره لا ينفع ولا يضر ، كقوله : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين الآية [ 29 \ 65 ] ، وقوله : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين الآية [ 31 \ 32 ] ، وقوله : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه الآية [ 17 \ 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولكن الكفار غالطوا أنفسهم لشدة تعصبهم لأوثانهم ، فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وأنها شفعاؤهم عند الله ; مع أن العقل يقطع بنفي ذلك .
الوجه الثالث : أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم ; كإبراهيم وغيره ، وأن الحجة قائمة عليهم بذلك ، وجزم بهذا النووي في شرح مسلم ، ومال إليه العبادي في ( الآيات البينات ) .
الوجه الرابع : ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، الدالة على أن بعض أهل الفترة في النار ، كما قدمنا بعض الأحاديث الواردة بذلك في صحيح مسلم وغيره .
وأجاب القائلون بعذرهم بالفترة عن هذه الأوجه الأربعة ، فأجابوا عن الوجه الأول ، وهو كون التعذيب في قوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، إنما هو التعذيب الدنيوي دون الأخروي من وجهين :
الأول : أنه خلاف ظاهر القرآن ; لأن ظاهر القرآن انتفاء التعذيب مطلقا ، فهو أعم [ ص: 70 ] من كونه في الدنيا ، وصرف القرآن عن ظاهره ممنوع إلا بدليل يجب الرجوع إليه .
الوجه الثاني : أن القرآن دل في آيات كثيرة عن شمول التعذيب المنفي في الآية للتعذيب في الآخرة ; كقوله : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى [ 67 \ 8 ، 9 ] ، وهو دليل على أن جميع أفواج أهل النار ما عذبوا في الآخرة إلا بعد إنذار الرسل ، كما تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية .
وأجابوا عن الوجه الثاني : وهو أن محل العذر بالفترة في غير الواضح الذي لا يخفى على أحد بنفس الجوابين المذكورين آنفا ; لأن الفرق بين الواضح وغيره مخالف لظاهر القرآن ، فلا بد له من دليل يجب الرجوع إليه ، ولأن الله نص على أن أهل النار ما عذبوا بها حتى كذبوا الرسل في دار الدنيا ، بعد إنذارهم من ذلك الكفر الواضح ، كما تقدم إيضاحه .
وأجابوا عن الوجه الثالث الذي جزم به النووي ، ومال إليه العبادي وهو قيام الحجة عليهم بإنذار الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم بأنه قول باطل بلا شك ، لكثرة الآيات القرآنية المصرحة ببطلانه ; لأن مقتضاه أنهم أنذروا على ألسنة بعض الرسل والقرآن ينفي هذا نفيا باتا في آيات كثيرة ، كقوله في " يس " : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون [ 36 \ 6 ] و " ما " في قوله : ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] نافية على التحقيق ، لا موصولة ، وتدل لذلك الفاء في قوله : فهم غافلون ، وكقوله في " القصص " : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك الآية [ 28 \ 46 ] ، وكقوله في " سبأ " وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 34 \ 44 ] ، وكقوله في " الم السجدة " : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك الآية [ 32 \ 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأجابوا عن الوجه الرابع : بأن تلك الأحاديث الواردة في صحيح مسلم وغيره أخبار آحاد يقدم عليها القاطع ، وهو قوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وقوله : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى [ 67 \ 8 - 9 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:50 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (197)
سُورَةُ الإسراء(14)
صـ 71 إلى صـ 75
وأجاب القائلون بالعذر بالفترة أيضا عن الآيات التي استدل بها مخالفوهم كقوله : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] ، إلى آخر ما تقدم [ ص: 71 ] من الآيات ، بأن محل ذلك فيما إذا أرسلت إليهم الرسل فكذبوهم ، بدليل قوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] . وأجاب القائلون بتعذيب عبدة الأوثان من أهل الفترة عن قول مخالفيهم : إن القاطع الذي هو قوله تعالى :وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا يجب تقديمه على أخبار الآحاد الدالة على تعذيب بعض أهل الفترة ، كحديثي مسلم في صحيحه المتقدمين بأن الآية عامة ، والحديثين كلاهما خاص في شخص معين ، والمعروف في الأصول أنه لا يتعارض عام وخاص ; لأن الخاص يقضي على العام كما هو مذهب الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله ، كما بيناه في غير هذا الموضع .
فما أخرجه دليل خاص خرج من العموم ، وما لم يخرجه دليل خاص بقي داخلا في العموم ، كما تقرر في الأصول .
وأجاب المانعون بأن هذا التخصيص يبطل حكمة العام ; لأن الله جل وعلا تمدح بكمال الإنصاف ، وأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا ، وأشار لأن ذلك الإنصاف الكامل ، والإعذار الذي هو قطع العذر علة لعدم التعذيب ، فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة التي تمدح الله بها ، ولثبتت لذلك الإنسان الحجة التي أرسل الله الرسل لقطعها ، كما بينه بقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية [ 4 \ 165 ] ، وقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ 20 \ 134 ] ، كما تقدم إيضاحه .
وأجاب المخالفون عن هذا : بأنه لو سلم أن عدم الإنذار في دار الدنيا علة لعدم التعذيب في الآخرة ، وحصلت علة الحكم التي هي عدم الإنذار في الدنيا ، مع فقد الحكم الذي هو عدم التعذيب في الآخرة للنص في الأحاديث على التعذيب فيها ، فإن وجود علة الحكم مع فقد الحكم المسمى في اصطلاح أهل الأصول . بـ " النقض " تخصيص للعلة ، بمعنى أنه قصر لها على بعض أفراد معلولها بدليل خارج كتخصيص العام ; أي قصره على بعض أفراده بدليل ، والخلاف في النقض هل هو إبطال للعلة ، أو تخصيص لها معروف في الأصول ، وعقد الأقوال في ذلك صاحب " مراقي السعود " بقوله في مبحث القوادح :
منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم
[ ص: 72 ] والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روي عن مالك تخصيص إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض ومنتقى ذي الاختصار النقض
إن لم تكن منصوصة بظاهر وليس فيما استنبطت بضائر
إن جا لفقد الشرط أو لما منع والوفق في مثل العرايا قد وقع
فقد أشار في الأبيات إلى خمسة أقوال في النقض : هل هو تخصيص ، أو إبطال للعلة ، مع التفاصيل التي ذكرها في الأقوال المذكورة .
واختار بعض المحققين من أهل الأصول : أن تخلف الحكم عن الوصف إن كان لأجل مانع منع من تأثير العلة ، أو لفقد شرط تأثيرها فهو تخصيص للعلة ، وإلا فهو نقض وإبطال لها ، فالقتل العمد العدوان علة لوجوب القصاص إجماعا .
فإذا وجد هذا الوصف المركب الذي هو القتل العمد العدوان ، ولم يوجد الحكم الذي هو القصاص في قتل الوالد ولده لكون الأبوة مانعا من تأثير العلة في الحكم ، فلا يقال هذه العلة منقوضة ، لتخلف الحكم عنها في هذه الصورة ، بل هي علة منع من تأثيرها مانع ، فيخصص تأثيرها بما لم يمنع منه مانع .
وكذلك من زوج أمته من رجل ، وغره فزعم له أنها حرة فولد منها ، فإن الولد يكون حرا ، مع أن رق الأم علة لرق الولد إجماعا ; لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها ; لأن الغرور مانع منع من تأثير العلة التي هي رق الأم في الحكم الذي هو رق الولد .
وكذلك الزنى ; فإنه علم للرجم إجماعا .
فإذا تخلف شرط تأثير هذه العلة التي هي الزنى في هذا الحكم الذي هي الرجم ، ونعني بذلك الشرط الإحصان ، فلا يقال إنها علة منقوضة ، بل هي علة تخلف شرط تأثيرها ، وأمثال هذا كثيرة جدا ، هكذا قاله بعض المحققين .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر : أن آية " الحشر " دليل على أن النقض تخصيص للعلة مطلقا ، والله تعالى أعلم ، ونعني بآية " الحشر " قوله تعالى في بني النضير : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار [ 59 \ 3 ] .
[ ص: 73 ] ثم بين جل وعلا علة هذا العقاب بقوله : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله الآية [ 59 \ 4 ] ، وقد يوجد بعض من شاق الله ورسوله ، ولم يعذب بمثل العذاب الذي عذب به بنو النضير ، مع الاشتراك في العلة التي هي مشاقة الله ورسوله .
فدل ذلك على أن تخلف الحكم عن العلة في بعض الصور تخصيص للعلة لا نقض لها ، والعلم عند الله تعالى .
أما مثل بيع التمر اليابس بالرطب في مسألة بيع العرايا ، فهو تخصيص للعلة إجماعا لا نقض لها ، كما أشار له في الأبيات بقوله :
والوفق في مثل العرايا قد وقع
قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر أن التحقيق في هذه المسألة التي هي : هل يعذر المشركون بالفترة أو لا ؟ هو أنهم معذورون بالفترة في الدنيا ، وأن الله يوم القيامة يمتحنهم بنار يأمرهم باقتحامها ، فمن اقتحمها دخل الجنة وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ، ومن امتنع دخل النار وعذب فيها ، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا ; لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل .
وإنما قلنا : إن هذا هو التحقيق في هذه المسألة لأمرين :
الأول : أن هذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبوته عنه نص في محل النزاع ; فلا وجه للنزاع ألبتة مع ذلك .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ، بعد أن ساق الأحاديث الكثيرة الدالة على عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة ، رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم ، بأن الآخرة دار جزاء لا عمل ، وأن التكليف بدخول النار تكليف بما لا يطاق وهو لا يمكن ما نصه :
والجواب عما قال : أن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثير من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضيف يتقوى بالصحيح والحسن ، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها ، وأما قوله : إن الدار الآخرة دار جزاء ، فلا شك أنها دار جزاء ، ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار ، كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال ، وقد قال تعالى : يوم يكشف عن ساق [ ص: 74 ] ويدعون إلى السجود [ 68 \ 42 ] .
وقد ثبت في الصحاح وغيرها : " أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة ، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقا واحدا ، كلما أراد السجود خر لقفاه " ، وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها : " أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه ألا يسأل غير ما هو فيه ، ويتكرر ذلك منه ، ويقول الله تعالى : يابن آدم ، ما أعذرك ! ثم يأذن له في دخول الجنة " وأما قوله : فكيف يكلفهم الله دخول النار ، وليس ذلك في وسعهم ؟ فليس هذا بمانع من صحة الحديث . " فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط ، وهو جسر على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعر ، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم ، كالبرق ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل والركاب . ومنهم الساعي ، ومنهم الماشي ، ومنهم من يحبو حبوا ، ومنهم المكدوس على وجهه في النار " وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا ، بل هذا أطم وأعظما
وأيضا : فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه جنة ونار ، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار ، فإنه يكون عليه بردا وسلاما ، فهذا نظير ذلك .
وأيضا : فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفا ، يقتل الرجل أباه وأخاه ، وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم ; وذلك عقوبة لهم على عبادة العجل ، وهذا أيضا شاق على النفوس جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور . والله أعلم . انتهى كلام ابن كثير بلفظه .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى أيضا قبل هذا الكلام بقليل ما نصه :
ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في عرصات المحشر ، فمن أطاع دخل الجنة ، وانكشف علم الله فيه بسابق السعادة ، ومن عصى دخل النار داخرا ، وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة .
وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها ، وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة ، الشاهد بعضها لبعض .
وهذا القول هو الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة ، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب ( الاعتقاد ) وكذلك غيره [ ص: 75 ] من محققي العلماء والحفاظ والنقاد . انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى ، وهو واضح جدا فيما ذكرنا .
الأمر الثاني : أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن بلا خلاف ; لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ولا وجه للجمع بين الأدلة إلا هذا القول بالعذر والامتحان ، فمن دخل النار فهو الذي لم يمتثل ما أمر به عند ذلك الامتحان ، ويتفق بذلك جميع الأدلة ، والعلم عند الله تعالى .
ولا يخفى أن مثل قول ابن عبد البر رحمه الله تعالى : إن الآخرة دار جزاء لا دار عمل لا يصح أن ترد به النصوص الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما أوضحناه في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:51 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (198)
سُورَةُ الإسراء(15)
صـ 76 إلى صـ 80
قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ، في معنى قوله : أمرنا مترفيها [ 17 \ 16 ] ، في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير :
الأول : وهو الصواب الذي يشهد له القرآن ، وعليه جمهور العلماء أن الأمر في قوله : أمرنا هو الأمر الذي هو ضد النهي ، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره ، والمعنى : أمرنا مترفيها بطاعة الله وتوحيده ، وتصديق رسله واتباعهم فيما جاءوا به : ففسقوا ، أي : خرجوا عن طاعة أمر ربهم ، وعصوه وكذبوا رسله فحق عليها القول ، أي وجب عليها الوعيد فدمرناها تدميرا ، أي أهلكناها إهلاكا مستأصلا ، وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم .
وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة ; كقوله : وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء الآية [ 7 \ 28 ] . فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله : أمرنا مترفيها ففسقوا [ 17 \ 16 ] ، أي : أمرناهم بالطاعة فعصوا ، وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا ; لأن الله لا يأمر بالفحشاء .
ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 34 ، 35 ] .
فقوله في هذه الآية : وما أرسلنا في قرية من نذير الآية [ ص: 76 ] [ 43 \ 23 ] ، لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم : إنا بما أرسلتم به كافرون ، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وبهذا التحقيق تعلم : أن ما زعمه الزمخشري في كشافه من أن معنى أمرنا مترفيها ; أي أمرناهم بالفسق ففسقوا ، وأن هذا مجاز تنزيلا لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك ، كلام كله ظاهر السقوط والبطلان ، وقد أوضح إبطاله أبو حيان في " البحر " ، والرازي في تفسيره ، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه .
وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف ، من قولهم : أمرته فعصاني ، أي أمرته بالطاعة فعصى . وليس المعنى : أمرته بالعصيان كما لا يخفى .
القول الثاني في الآية : هو أن الأمر في قوله : أمرنا مترفيها أمرا كونيا قدريا ، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له ; لأن كلا ميسر لما خلق له . والأمر الكوني القدري كقوله : وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [ 54 \ 50 ] ، وقوله : فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 2 \ 65 ] ، وقوله : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] ، وقوله : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] .
القول الثالث في الآية : أن " أمرنا " بمعنى أكثرنا ، أي أكثرنا مترفيها ففسقوا .
وقال أبو عبيدة : أمرنا بمعنى أكثرنا ، لغة فصيحة كآمرنا بالمد ، ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خير مال امرئ مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة " .
قال ابن كثير : قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه ( الغريب ) : المأمورة : كثيرة النسل . والسكة : الطريقة المصطفة من النخل . والمأبورة : من التأبير ، وهو تعليق الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها . ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجردا عن الزوائد ، متعد بنفسه إلى المفعول ، فيتضح كون أمره بمعنى أكثر ، وأنكر غير واحد تعدي أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول ، وقالوا : حديث سويد بن هبيرة المذكور من قبيل الازدواج ، كقولهم : الغدايا والعشايا ، وكحديث " ارجعن مأزورات غير مأجورات " ; لأن الغدايا لا يجوز ، وإنما ساغ [ ص: 77 ] للازدواج مع العشايا ، وكذلك مأزورات بالهمز فهو على غير الأصل ; لأن المادة من الوزر بالواو ، إلا أن الهمز في قوله : " مأزورات " للازدواج مع " مأجورات " ، والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم . وعليه فقوله : " مأمورة " إتباع لقوله : " مأبورة " وإن كان مذكورا قبله للمناسبة بين اللفظين .
وقال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قوله تعالى : أمرنا [ 17 \ 16 ] ، قرأ أبو عثمان النهدي ، وأبو رجاء ، وأبو العالية ، والربيع ، ومجاهد ، والحسن : " أمرنا " بالتشديد ، وهي قراءة علي رضي الله عنه ، أي سلطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم .
وقال أبو عثمان النهدي " أمرنا " بتشديد الميم : جعلناهم أمراء مسلطين .
وقاله ابن عزيز : وتأمر عليهم تسلط عليهم . وقرأ الحسن أيضا ، وقتادة ، وأبو حيوة الشامي ، ويعقوب ، وخارجة عن نافع ، وحماد بن سلمة ، عن ابن كثير وعلي وابن عباس باختلاف عنهما : " آمرنا " بالمد والتخفيف ; أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها ، قاله الكسائي .
وقال أبو عبيدة : " آمرته - بالمد - وأمرته لغتان بمعنى أكثرته .
ومنه الحديث " خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " ; أي كثيرة النتاج والنسل ، وكذلك قال ابن عزيز : آمرنا وأمرنا بمعنى واحد ، أي أكثرنا . وعن الحسن أيضا ، ويحيى بن يعمر : أمرنا - بالقصر وكسر الميم - على فعلنا ، ورويت عن ابن عباس . قال قتادة والحسن : المعنى أكثرنا ، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد ، وأنكره الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد ، وأصلها أأمرنا فخفف ; حكاه المهدوي .
وفي الصحاح : قال أبو الحسن : أمر ماله - بالكسر - أي كثر . وأمر القوم : أي كثروا ، قال الشاعر وهو الأعشى :
طرفون ولادون كل مبارك أمرون لا يرثون سهم القعدد
وآمر الله ماله ; بالمد . الثعلبي : ويقال للشيء الكثير أمر ، والفعل منه أمر القوم يأمرون أمرا : إذا كثروا .
قال ابن مسعود : كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا : أمر أمر بني فلان ; قال [ ص: 78 ] لبيد :
كل بني حرة مصيرهم قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا يوما يصيروا للهلك والنكد
قلت : وفي حديث هرقل الحديث الصحيح : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، إنه ليخافه ملك بني الأصفر ; أي كثر ، وكلها غير متعد ، ولذلك أنكره الكسائي ، والله أعلم .
قال المهدوي : ومن قرأ أمر فهي لغة ، ووجه تعدية أمر أنه شبهه بـ ( عمر ) من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة ، فعدى كما عدى عمر ، إلى أن قال : وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء ; لأن العرب تقول : أمير غير مأمور ، أي غير مؤمر ، وقيل معناه : بعثنا مستكبريها . قال هارون : وهي قراءة أبي : بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها ، ذكره الماوردي .
وحكى النحاس : وقال هارون في قراءة أبي : وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول . اه محل الغرض من كلام القرطبي .
وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية : أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا ، فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه .
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم فيقوله : أمرنا مترفيها ففسقوا فيها [ 17 \ 16 ] مع أنه ذكر عموم الهلاك لجميع المترفين وغيرهم ، في قوله : فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [ 17 \ 16 ] يعني القرية ، ولم يستثن منها غير المترفين ؟
والجواب من وجهين :
الأول : أن غير المترفين تبع لهم ، وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم ; لأن غيرهم تبع لهم ، كما قال تعالى : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل [ 33 \ 67 ] ، وكقوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب الآية [ 2 \ 166 ] ، وقوله : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا الآية [ 7 \ 38 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 79 ] وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء الآية [ 14 \ 21 ] ، وقوله : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار [ 40 \ 47 ] إلى غير ذلك من الآيات .
الوجه الثاني : أن بعضهم إن عصى الله وبغى وطغى ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع ، كما قال تعالى : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة [ 8 \ 25 ] ، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها : أنها لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لا إله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه " - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها - قالت له : يا رسول الله ، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم ، إذا كثر الخبث " وقد قدمنا هذا المبحث موضحا في سورة المائدة .
قوله تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أهلك كثيرا من القرون من بعد نوح ; لأن لفظة كم في قوله : وكم أهلكنا [ 17 \ 17 ] خبرية ، معناها الإخبار بعدد كثير ، وأنه جل وعلا خبير بصير بذنوب عباده ، وأكد ذلك بقوله : وكفى بربك الآية [ 17 \ 17 ] .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات أخر من أربع جهات :
الأولى : أن في الآية تهديدا لكفار مكة ، وتخويفا لهم من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها ; أي أهلكنا قرونا كثيرة من بعد نوح بسبب تكذيبهم الرسل ، فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم .
والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة ; كقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] ، وكقوله فيهم أيضا : إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 75 ، 76 ] ، وقوله فيهم أيضا : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] ، وقوله : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] ، وقوله بعد ذكره جل وعلا إهلاكه لقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم [ ص: 80 ] صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب في سورة الشعراء : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ] ، وقوله في قوم موسى : إن في ذلك لعبرة لمن يخشى [ 79 \ 26 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ، وقوله : أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم الآية [ 44 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة عل تخويفهم بما وقع لمن قبلهم .
الجهة الثانية : أن هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر ; فبينت كيفية إهلاك قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، وفرعون وقومه من قوم موسى ، وذلك مذكور في مواضع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى ، وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله : وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا [ 25 \ 38 ] وبين في موضع آخر : أن منها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا ، وذلك في قوله في سورة إبراهيم : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله الآية [ 14 \ 9 ] . وبين في موضعين آخرين أن رسلهم منهم من قص خبره على نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من لم يقصصه عليه ، وهما قوله في سورة النساء : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [ 4 \ 164 ] ، وقوله في سورة المؤمن : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله الآية [ 40 \ 78 ] .
الجهة الثالثة : أن قوله : من بعد نوح [ 17 \ 17 ] يدل على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح أنها على الإسلام ، كما قال ابن عباس : كانت بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام . نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية .
وهذا المعنى تدل عليه آيات أخر ، كقوله : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين الآية [ 2 \ 213 ] ، وقوله : وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا الآية [ 10 \ 19 ] ; لأن معنى ذلك على أصح الأقوال أنهم كانوا على طريق الإسلام ، حتى وقع ما وقع من قوم نوح من الكفر ، فبعث الله النبيين ينهون عن ذلك الكفر ، مبشرين من أطاعهم بالجنة ، ومنذرين من عصاهم بالنار ، وأولهم في ذلك نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:51 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (199)
سُورَةُ الإسراء(16)
صـ 81 إلى صـ 85
[ ص: 81 ] ويدل على هذا قوله : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الآية [ 4 \ 163 ] . وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح : إنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض كما قدمنا ذلك في سورة البقرة .
الجهة الرابعة أن قوله : وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا [ 17 \ 17 ] فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى .
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدا ; كقوله : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] وقوله : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] ، وقوله : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه [ 2 \ 235 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا هذا المبحث موضحا في أول سورة هود . ولفظة " كم " في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به لـ " أهلكنا " و من في قوله : من القرون بيان لقوله : كم وتمييز له كما يميز العدد بالجنس . وأما لفظه " من " في قوله : من بعد نوح ، فالظاهر أنها لابتداء الغاية ، وهو الذي اختاره أبو حيان في " البحر " ، وزعم الحوفي أن " من " الثانية بدل من الأولى ، ورده عليه أبو حيان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها [ 17 \ 19 ] أي عمل لها عملها الذي تنال به ، وهو امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه بإخلاص على الوجه المشروع : وهو مؤمن [ 17 \ 19 ] أي موحد لله جل وعلا ، غير مشرك به ولا كافر به ، فإن الله يشكر سعيه ، بأن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل .
وفي الآية الدليل على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان بالله .
لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ، لأنه شرط في ذلك قوله : وهو مؤمن [ 17 \ 19 ] .
وقد أوضح تعالى هذا في آيات كثيرة ; كقوله : ومن يعمل من الصالحات من [ ص: 82 ] ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [ 4 \ 124 ] ، وقوله : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] وقوله : من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ 40 \ 40 ] إلى غير ذلك من الآيات .
ومفهوم هذه الآيات أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك ; لفقد شرط القبول الذي هو الإيمان بالله جل وعلا .
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات أخر ; كقوله في أعمال غير المؤمنين : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وقوله : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف الآية [ 14 \ 18 ] ، وقوله : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا الآية [ 24 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد بين جل وعلا في مواضع أخر : أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا ، ولا حظ له منه في الآخرة . كقوله : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 ، 16 ] ، وقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] .
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات : من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا من حديث أنس ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب - واللفظ لزهير - قالا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها " .
حدثنا عاصم بن النضر التيمي ، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي ، حدثنا قتادة [ ص: 83 ] عن أنس بن مالك : أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته " .
حدثنا محمد بن عبد الله الرازي ، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديثهما .
واعلم أن هذا الذي ذكرنا أدلته من الكتاب والسنة من أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا :
كبر الوالدين ، وصلة الرحم ، وإكرام الضيف والجار ، والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك ، كله مقيد بمشيئة الله تعالى ، كما نص على ذلك بقوله : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية [ 17 \ 18 ] .
فهذه الآية الكريمة مقيدة لما ورد من الآيات والأحاديث ، وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق ، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا ، وأشار له في " مراقي السعود " بقوله :
وحمل مطلق على ذاك وجب إن فيهما اتحد حكم والسبب
قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا
الظاهر أن الخطاب في هذه الآية الكريمة متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ليشرع لأمته على لسانه إخلاص التوحيد في العبادة له جل وعلا ، لأنه صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لا يجعل مع الله إلها آخر ، وأنه لا يقعد مذموما مخذولا .
ومن الآيات الدالة دلالة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم يوجه إليه الخطاب ، والمراد بذلك التشريع لأمته لا نفس خطابه هو صلى الله عليه وسلم ، قوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما [ 17 \ 23 ] ; لأن معنى قوله : إما يبلغن الآية [ 17 \ 23 ] ، أي إن يبلغ عندك والداك أو أحدهما الكبر فلا تقل لهما أف ، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل ، فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل ، إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم ، ومن أساليب اللغة العربية خطابهم إنسانا والمراد بالخطاب غيره ، ومن الأمثلة السائرة في ذلك قول الراجز ، وهو سهل بن مالك الفزاري :
إياك أعني واسمعي يا جاره
[ ص: 84 ] وسبب هذا المثل : أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائبا ، فأنزلته أخته وأكرمته ، وكانت جميلة ، فأعجبه جمالها ، فقال مخاطبا لأخرى غيرها ليسمعها هي :
يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره إياك أعني واسمعي يا جاره
ففهمت المرأة مراده ، وأجابته بقولها :
إني أقول يا فتى فزاره لا أبتغي الزوج ولا الدعاره
ولا فراق أهل هذي الحاره فارحل إلى أهلك باستحاره
والظاهر أن قولها " باستحاره " أن أصله استفعال من المحاورة بمعنى رجع الكلام بينهما ، أي ارحل إلى أهلك بالمحاورة التي وقعت بيني وبينك ، وهي كلامك وجوابي له ، ولا تحصل مني على غير ذلك ! والهاء في " الاستحارة " عوض من العين الساقطة بالإعلال ، كما هو معروف في فن الصرف .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخطاب في قوله : لا تجعل مع الله إلها آخر ، ونحو ذلك من الآيات متوجه إلى المكلف ، ومن أساليب اللغة العربية : إفراد الخطاب مع قصد التعميم ; كقول طرفة بن العبد في معلقته :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقال الفراء ، والكسائي ، والزمخشري : ومعنى قوله : فتقعد [ 17 \ 22 ] أي : تصير . وجعل الفراء منه قول الراجز :
لا يقنع الجارية الخضاب ولا الوشاحان ولا الجلباب
من دون أن تلتقي الأركاب ويقعد الأير له لعاب
أي يصير له لعاب .
وحكى الكسائي : قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها . بمعنى صار . قاله أبو حيان في البحر .
ثم قال أيضا : والقعود هنا عبارة عن المكث ، أي فتمكث في الناس مذموما مخذولا ، كما تقول لمن سأل عن حال شخص : هو قاعد في أسوأ حال ; ومعناه ماكث ومقيم . سواء كان قائما أم جالسا . وقد يراد القعود حقيقة ; لأن من شأن المذموم [ ص: 85 ] المخذول أن يقعد حائرا متفكرا ، وعبر بغالب حاله وهو القعود ، وقيل : معنى فتقعد [ 17 \ 22 ] فتعجز . والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم . اه محل الغرض من كلام أبي حيان .
والمذموم هنا : هو من يلحقه الذم من الله ومن العقلاء من الناس ; حيث أشرك بالله ما لا ينفع ولا يضر ، ولا يقدر على شيء .
والمخذول : هو الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر . ومنه قوله :
إن المرء ميتا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-04, 10:52 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (200)
سُورَةُ الإسراء(17)
صـ 86 إلى صـ 90
قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا
، أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده ، وقرن بذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين .
وجعله بر الوالدين مقرونا بعبادته وحده جل وعلا المذكور هنا ذكره في آيات أخر ; كقوله في سورة " النساء " : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الآية [ 4 \ 36 ] ، وقوله في البقرة : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا الآية [ 2 \ 83 ] ، وقوله في سورة لقمان : أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير [ 31 \ 14 ] ، وبين في موضع آخر أن برهما لازم ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما ; كقوله في " لقمان " : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [ 31 \ 15 ] ، وقوله في " العنكبوت " : ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم الآية [ 29 \ 8 ] .
وذكره جل وعلا في هذه الآيات بر الوالدين مقرونا بتوحيده جل وعلا في عبادته ، يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين . وجاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة .
وقوله جل وعلا في الآيات المذكورة : وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] بينه بقوله تعالى : إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا [ 17 \ 23 - 24 ] ; لأن هذا من الإحسان إليهما المذكور في الآيات ، وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح معنى خفض الجناح ، وإضافته إلى الذل في سورة " الشعراء " ، وقد أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " .
[ ص: 86 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وقضى ربك [ 17 \ 23 ] معناه : أمر وألزم ، وأوجب ووصى ألا تعبدوا إلا إياه .
وقال الزمخشري : وقضى ربك [ 17 \ 23 ] ، أي أمر أمرا مقطوعا به ، واختار أبو حيان في " البحر المحيط " أن إعراب قوله : إحسانا أنه مصدر نائب عن فعله ، فهو بمعنى الأمر ، وعطف الأمر المعنوي أو الصريح على النهي معروف ; كقوله :
وقوفا بها صحبي على مطيهم يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقال الزمخشري في الكشاف : وبالوالدين إحسانا أي : وأحسنوا بالوالدين إحسانا ، أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا .
قوله تعالى : وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا
، الضمير في قوله : عنهم [ 17 \ 28 ] ، راجع إلى المذكورين قبله في قوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل الآية [ 17 \ 26 ] . ومعنى الآية : إن تعرض عن هؤلاء المذكورين فلم تعطهم شيئا لأنه ليس عندك ، وإعراضك المذكور عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها [ 17 \ 28 ] ، أي رزق حلال ; كالفيء يرزقكه الله فتعطيهم منه فقل لهم قولا ميسورا ، أي لينا لطيفا طيبا ، كالدعاء لهم بالغنى وسعة الرزق ، ووعدهم بأن الله إذا يسر من فضله رزقا أنك تعطيهم منه .
وهذا تعليم عظيم من الله لنبيه لمكارم الأخلاق ، وأنه إن لم يقدر على الإعطاء الجميل فليتجمل في عدم الإعطاء ; لأن الرد الجميل خير من الإعطاء القبيح .
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، صرح به الله جل وعلا في سورة " البقرة " في قوله : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى الآية [ 2 \ 263 ] ، ولقد أجاد من قال :
إلا تكن ورق يوما أجود بها للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي
إما نوالي وإما حسن مردودي
والآية الكريمة تشير إلى أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرض عن الإعطاء إلا عند عدم ما يعطى منه ، وأن الرزق المنتظر إذا يسره الله فإنه يعطيهم منه ، ولا يعرض عنهم . وهذا هو غاية الجود وكرم الأخلاق . وقال القرطبي : قولا ميسورا مفعول بمعنى الفاعل من لفظ اليسر [ ص: 87 ] كالميمون .
وقد علمت مما قررنا أن قوله : ابتغاء رحمة من ربك [ 17 \ 28 ] متعلق بفعل الشرط الذي هو تعرضن لا بجزاء الشرط .
وأجاز الزمخشري في الكشاف تعلقه بالجزاء وتقديمه عليه . ومعنى ذلك : فقل لهم قولا ميسورا ابتغاء رحمة من ربك ، أي يسر عليهم والطف بهم ، لابتغائك بذلك رحمة الله ، ورد ذلك عليه أبو حيان في " البحر المحيط " بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله . قال : لا يجوز في قولك إن يقم فاضرب خالدا أن تقول : إن يقم خالدا فاضرب ، وهذا منصوص عليه ، انتهى .
وعن سعيد بن جبير رحمه الله : أن الضمير في قوله : وإما تعرضن عنهم [ 17 \ 28 ] راجع للكفار ; أي إن تعرض عن الكفار ابتغاء رحمة من ربك ، أي نصر لك عليهم ، أو هداية من الله لهم ، وعلى هذا فالقول الميسور : المداراة باللسان ، قاله أبو سليمان الدمشقي ، انتهى من البحر . ويسر بالتخفيف يكون لازما ومتعديا ، وميسور من المتعدي ، تقول : يسرت لك كذا إذا أعددته ; قاله أبو حيان أيضا .
قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من قتل مظلوما فقد جعل الله لوليه سلطانا ، ونهاه عن الإسراف في القتل ، ووعده بأنه منصور .
والنهي عن الإسراف في القتل هنا شامل ثلاث صور :
الأولى : أن يقتل اثنين أو أكثر بواحد ، كما كانت العرب تفعله في الجاهلية ، كقول مهلهل بن ربيعة لما قتل بجير بن الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة : بؤ بشسع نعل كليب ; فغضب الحارث بن عباد ، وقال قصيدته المشهورة :
قربا مربط النعامة مني لقحت حرب وائل عن حيال قربا مربط النعامة مني
إن بيع الكرام بالشسع غالي
، إلخ
وقال مهلهل أيضا :
كل قتيل في كليب غره حتى ينال القتل آل مره
ومعلوم أن قتل جماعة بواحد لم يشتركوا في قتله : إسراف في القتل داخل في النهي المذكور في الآية الكريمة .
[ ص: 88 ] الثانية أن يقتل بالقتيل واحدا فقط ولكنه غير القاتل ; لأن قتل البريء بذنب غيره إسراف في القتل ، منهي عنه في الآية أيضا .
الثالثة : أن يقتل نفس القاتل ويمثل به ، فإن زيادة المثلة إسراف في القتل أيضا .
وهذا هو التحقيق في معنى الآية الكريمة ، فما ذكره بعض أهل العلم ، ومال إليه الرازي في تفسيره بعض الميل ، من أن معنى الآية : فلا يسرف الظالم الجاني في القتل ; تخويفا له من السلطان ، والنصر الذي جعله الله لولي المقتول ، لا يخفى ضعفه ، وأنه لا يلتئم مع قوله بعده : إنه كان منصورا [ 17 \ 33 ] .
وهذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول لم يبينه هنا بيانا مفصلا ، ولكنه أشار في موضعين إلى أن هذا السلطان هو ما جعله الله من السلطة لولي المقتول على القاتل ، من تمكينه من قتله إن أحب ، ولا ينافي ذلك أنه إن شاء عفا على الدية أو مجانا .
الأول : قوله هنا : فلا يسرف في القتل [ 17 \ 33 بعد ذكر السلطان المذكور ; لأن النهي عن الإسراف في القتل مقترنا بذكر السلطان المذكور يدل على أن السلطان المذكور هو ذلك القتل المنهي عن الإسراف فيه .
الموضع الثاني : قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى - إلى قوله - ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب الآية [ 2 \ 178 - 179 ] ، فهو يدل على أن السلطان المذكور هو ما تضمنته آية القصاص هذه ، وخير ما يبين به القرآن القرآن .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : يفهم من قوله : مظلوما أن من قتل غير مظلوم ليس لوليه سلطان على قاتله ، وهو كذلك ; لأن من قتل بحق فدمه حلال ، ولا سلطان لوليه في قتله ، كما قدمنا بذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " كما تقدم إيضاحه في سورة " المائدة " .
وبينا هذا المفهوم في قوله : مظلوما يظهر به بيان المفهوم في قوله أيضا [ ص: 89 ] ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [ 17 \ 33 ] .
واعلم أنه قد ورد في بعض الأدلة أسباب أخر لإباحة قتل المسلم غير الثلاث المذكورة ، على اختلاف في ذلك بين العلماء . من ذلك : المحاربون إذا لم يقتلوا أحدا . عند من يقول بأن الإمام مخير بين الأمور الأربعة المذكورة في قوله : أن يقتلوا أو يصلبوا الآية [ 5 \ 33 ] ، كما تقدم إيضاحه مستوفى في سورة " المائدة " .
ومن ذلك : قتل الفاعل والمفعول به في فاحشة اللواط ، وقد قدمنا الأقوال في ذلك وأدلتها بإيضاح في سورة " هود " .
وأما قتل الساحر فلا يبعد دخوله في قتل الكافر المذكور في قوله : " التارك لدينه المفارق للجماعة " لدلالة القرآن على كفر الساحر في قوله تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الآية [ 2 \ 102 ] ، وقوله : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر الآية [ 2 \ 102 ] ، وقوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 \ 102 ] .
وأما قتل مانع الزكاة فإنه إن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد داخل في " التارك لدينه المفارق للجماعة " ، وأما إن منعها وهو مقر بوجوبها فالذي يجوز فيه : القتال لا القتل ، وبين القتال والقتل فرق واضح معروف .
وأما ما ذكره بعض أهل العلم من أن من أتى بهيمة يقتل هو وتقتل البهيمة معه لحديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه " . قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " : رواه أبو يعلى ، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة ، وحديثه حسن ، وبقية رجاله ثقات ، ورواه ابن ماجه من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا .
وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل ; لأن حصر ما يباح به دم المسلم في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود المتفق عليه أولى بالتقديم من هذا الحديث ، مع التشديد العظيم في الكتاب والسنة في قتل المسلم بغير حق ، إلى غير ذلك من المسائل المذكورة في الفروع .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحصر في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود [ ص: 90 ] الثابت في الصحيح لا ينبغي أن يزاد عليه ، إلا ما ثبت بوحي ثبوتا لا مطعن فيه ، لقوته ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:52 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (201)
سُورَةُ الإسراء(18)
صـ 91 إلى صـ 95
المسألة الثانية : قد جاءت آيات أخر تدل على أن المقتول خطأ لا يدخل في هذا الحكم ; كقوله : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [ 33 \ 5 ] ، وقوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] ، لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأها ، قال الله نعم قد فعلت . وقوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ [ 4 \ 92 ] ثم بين ما يلزم القاتل خطأ بقوله : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا الآية [ 4 \ 92 ] ، وقد بين صلى الله عليه وسلم الدية قدرا وجنسا كما هو معلوم في كتب الحديث والفقه كما سيأتي إيضاحه .
المسألة الثالثة : يفهم من إطلاق قوله تعالى : ومن قتل مظلوما [ 17 \ 33 ] أن حكم الآية يستوي فيه القتل بمحدد كالسلاح ، وبغير محدد كرضخ الرأس بحجر ونحو ذلك ; لأن الجميع يصدق عليه اسم القتل ظلما فيجب القصاص .
وهذا قول جمهور العلماء ، منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد في أصح الروايتين .
وقال النووي في " شرح مسلم " : هو مذهب جماهير العلماء .
وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال : لا يجب القصاص إلا في القتل بالمحدد خاصة ، سواء كان من حديد ، أو حجر ، أو خشب ، أو فيما كان معروفا بقتل الناس كالمنجنيق ، والإلقاء في النار .
واحتج الجمهور على أن القاتل عمدا بغير المحدد يقتص منه بأدلة :
الأول ما ذكرنا من إطلاق النصوص في ذلك . الثاني : حديث أنس بن مالك المشهور الذي أخرجه الشيخان ، وباقي الجماعة : أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها ، فرضخ رأسها بالحجارة ، فاعترف بذلك فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين ، رض رأسه بهما .
وهذا الحديث المتفق عليه نص صريح صحيح في محل النزاع ، تقوم به الحجة على الإمام أبي حنيفة رحمه الله ، ولا سيما على قوله : باستواء دم المسلم والكافر المعصوم الدم كالذمي .
[ ص: 91 ] **********************الثا لث : ما أخرجه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهما ، عن حمل بن مالك من القصاص في القتل بالمسطح . قال النسائي : أخبرنا يوسف بن سعيد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال أخبرني عمرو بن دينار : أنه سمع طاوسا يحدث عن ابن عباس ، عن عمر رضي الله عنه : أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فقام حمل بن مالك فقال : كنت بين حجرتي امرأتين ، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة ، وأن تقتل بها . وقال أبو داود : حدثنا محمد بن مسعود المصيصي ، حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار : أنه سمع طاوسا عن ابن عباس ، عن عمر : أنه سأل في قضية النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال : كنت بين امرأتين ، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة ، وأن تقتل . قال أبو داود : قال النضر بن شميل : المسطح هو الصولج . قال أبو داود : وقال أبو عبيد : المسطح عود من أعواد الخباء . وقال ابن ماجه : حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي ، ثنا أبو عاصم ، أخبرني ابن جريج ، حدثني عمرو بن دينار : أنه سمع طاوسا ، عن ابن عباس ، عن عمر بن الخطاب أنه نشد الناس قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ( يعني في الجنين ) فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال : كنت بين امرأتين لي ، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وقتلت جنينها ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد ، وأن تقتل بها . انتهى من السنن الثلاث بألفاظها .
ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح ، فرواية أبي داود ، عن محمد بن مسعود المصيصي وهو ابن مسعود بن يوسف النيسابوري ، ويقال له : المصيصي أبو جعفر العجمي نزيل طرسوس والمصيصة ، وهو ثقة عارف . ورواية ابن ماجه عن أحمد بن سعيد الدارمي ، وهو ابن سعيد بن صخر الدارمي أبو جعفر ، وهو ثقة حافظ ، وكلاهما ( أعني محمد بن مسعود المذكور عند أبي داود ، وأحمد بن سعيد المذكور عند ابن ماجه ) روى هذا الحديث عن أبي عاصم وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني ، وهو أبو عاصم النبيل ، وهو ثقة ثبت . والضحاك رواه عن ابن جريج ، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، وهو ثقة فقيه فاضل ، وكان يدلس ويرسل ، إلا أن هذا الحديث صرح فيه بالتحديث والإخبار عن عمرو بن دينار وهو ثقة ثبت ، عن طاوس وهو ثقة فقيه فاضل ، عن ابن عباس ، عن حمل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 92 ] وأما رواية النسائي فهي عن يوسف بن سعيد ، وهو ابن سعيد بن مسلم المصيصي ثقة حافظ ، عن حجاج بن محمد ، وهو ابن محمد المصيصي الأعور أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغداد ثم المصيصة ثقة ثبت ، لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته ، عن ابن جريج ، إلى آخر السند المذكور عند أبي داود وابن ماجه . وهذا الحديث لم يخلط فيه حجاج المذكور في روايته له عن ابن جريج ; بدليل رواية أبي عاصم له عند أبي داود وابن ماجه ، عن ابن جريج كرواية حجاج المذكور عند النسائي ، وأبو عاصم ثق ثبت .
رواه البيهقي عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، وجزم بصحة هذا الإسناد ابن حجر في الإصابة في ترجمة حمل المذكور . وقال البيهقي في " السنن الكبرى " في هذا الحديث : وهذا إسناد صحيح ، وفيما ذكر أبو عيسى الترمذي في كتاب " العلل " قال : سألت محمدا ( يعني البخاري ) عن هذا الحديث فقال : هذا حديث صحيح ، رواه ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس ، وابن جريج حافظ اه .
فهذا الحديث نص قوي في القصاص في القتل بغير المحدد ; لأن المسطح عمود . قال الجوهري في صحاحه : والمسطح أيضا عمود الخباء . قال الشاعر وهو مالك بن عوف النصري :
تعرض ضيطارو خزاعة دوننا وما خير ضيطار يقلب مسطحا
يقول : تعرض لنا هؤلاء القوم ليقاتلونا وليسوا بشيء ; لأنهم لا سلاح معهم سوى المسطح والضيطار ، هو الرجل الضخم الذي لا غناء عنده .
الرابع : ظواهر آيات من كتاب الله تدل على القصاص في القتل بغير المحدد ; كقوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم الآية [ 2 \ 194 ] ، وقوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به [ 16 \ 126 ] ، وقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ، وقوله : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه الآية [ 22 \ 60 ] ، وقوله : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس الآية [ 42 \ 41 - 42 ] .
وفي الموطأ ما نصه : وحدثني يحيى عن مالك ، عن عمر بن حسين مولى عائشة بنت قدامة : أن عبد الملك بن مروان أقاد ولي رجل من رجل قتله بعصا . فقتله وليه [ ص: 93 ] بعصا .
قال مالك : والأمر المجتمع عليه الذي لا اختلاف فيه عندنا : أن الرجل إذا ضرب الرجل بعصا أو رماه بحجر ، أو ضربه عمدا فمات من ذلك ; فإن هذا هو العمد وفيه القصاص .
قال مالك : فقتل العمد عندنا أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتى تفيض نفسه اه محل الغرض منه .
وقد قدمنا أن هذا القول بالقصاص في القتل بالمثقل هو الذي عليه جمهور العلماء ، منهم الأئمة الثلاثة ، والنخعي ، والزهري ، وابن سيرين ، وحماد ، وعمرو بن دينار ، وابن أبي ليلى ، وإسحاق ، وأبو يوسف ، ومحمد ، نقله عنهم ابن قدامة في المغني .
وخالف في ذلك أبو حنيفة ، والحسن ، والشعبي ، وابن المسيب ، وعطاء ، وطاوس رحمهم الله ، فقالوا : لا قصاص في القتل بالمثقل ، واحتج لهم بأدلة :
منها أن القصاص يشترط له العمد ، والعمد من أفعال القلوب ، ولا يعلم إلا بالقرائن الجازمة الدالة عليه ، فإن كان القتل بآلة القتل كالمحدد ، علم أنه عامد قتله ، وإن كان بغير ذلك لم يعلم عمده للقتل ; لاحتمال قصده أن يشجه أو يؤلمه من غير قصد قتله فيئول إلى شبه العمد .
ومنها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتا بغرة عبد أو أمة . ثم إن المرأة التي قضي عليها بالغرة توفيت ، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها ، وأن العقل على عصبتها " .
وفي رواية : " اقتتلت امرأتان من هذيل ; فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ; فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها " .
قالوا : فهذا حديث متفق عليه ، يدل على عدم القصاص في القتل بغير المحدد ; لأن روايات هذا الحديث تدل على القتل بغير محدد ; لأن في بعضها أنها قتلتها بعمود ، وفي بعضها أنها قتلتها بحجر .
ومنها ما روي عن النعمان بن بشير ، وأبي هريرة ، وعلي ، وأبي بكرة رضي الله عنهم مرفوعا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا قود إلا بحديدة " . وفي بعض رواياته : " كل شيء [ ص: 94 ] خطأ إلا السيف ، ولكل خطأ أرش " .
وقد حاول بعض من نصر هذا القول من الحنفية رد حجج مخالفيهم ، فزعم أن رض النبي صلى الله عليه وسلم رأس اليهودي بين حجرين إنما وقع بمجرد دعوى الجارية التي قتلها . وأن ذلك دليل على أنه كان معروفا بالإفساد في الأرض ; ولذلك فعل به صلى الله عليه وسلم ما فعل .
ورد رواية ابن جريج عن طاوس عن ابن عباس المتقدمة بأنها مخالفة للروايات الثابتة في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على عاقلة المرأة لا بالقصاص .
قال البيهقي في ( السنن الكبرى ) بعد أن ذكر صحة إسناد الحديث عن ابن عباس بالقصاص من المرأة التي قتلت الأخرى بمسطح كما تقدم ما نصه : إلا أن في لفظ الحديث زيادة لم أرها في شيء من طرق هذا الحديث ، وهي قتل المرأة بالمرأة ، وفي حديث عكرمة عن ابن عباس موصولا ، وحديث ابن طاوس عن أبيه مرسلا ، وحديث جابر وأبي هريرة موصولا ثابتا أنه قضى بديتها على العاقلة ، انتهى محل الغرض من كلام البيهقي بلفظه .
وذكر البيهقي أيضا : أن عمرو بن دينار روجع في هذا الحديث بأن ابن طاوس رواه عن أبيه على خلاف رواية عمرو ، فقال للذي راجعه : شككتني .
وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الاحتجاجات : بأن رضه رأس اليهودي قصاص ; ففي رواية ثابتة في الصحيحين وغيرهما أن النبي لم يقتله حتى اعترف بأنه قتل الجارية ; فهو قتل قصاص باعتراف القاتل ، وهو نص متفق عليه ، صريح في محل النزاع ، ولا سيما عند من يقول باستواء دم المسلم والكافر كالذمي ; كأبي حنيفة رحمه الله .
وأجابوا عن كون العمد من أفعال القلوب ، وأنه لا يعلم كونه عامدا إلا إذا ضرب بالآلة المعهودة للقتل بأن المثقل كالعمود والصخرة الكبيرة من آلات القتل كالسيف ; لأن المشدوخ رأسه بعمود أو صخرة كبيرة يموت من ذلك حالا عادة كما يموت المضروب بالسيف ، وذلك يكفي من القرينة على قصد القتل .
وأجابوا عما ثبت من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على عاقلة المرأة القاتلة بعمود أو حجر بالدية من ثلاثة أوجه :
الأول : أنه معارض بالرواية الصحيحة التي قدمناها عند أبي داود ، والنسائي ، وابن [ ص: 95 ] ماجه من حديث حمل بن مالك وهو كصاحب القصة . لأن القاتلة والمقتولة زوجتاه من كونه صلى الله عليه وسلم قضى فيها بالقصاص لا بالدية .
الثاني : ما ذكره النووي في شرح مسلم وغيره ، قال : وهذا محمول على حجر صغير وعمود صغير لا يقصد به القتل غالبا ، فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة ، ولا يجب فيه قصاص ولا دية على الجاني ، وهذا مذهب الشافعي والجماهير اه كلام النووي رحمه الله .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا الجواب غير وجيه عندي ; لأن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح : أنها قتلت بعمود فسطاط ، وحمله على الصغير الذي لا يقتل غالبا بعيد .
الثالث : هو ما ذكره ابن حجر في " فتح الباري " من أن مثل هذه المرأة لا تقصد غالبا قتل الأخرى ، قال ما نصه :
وأجاب من قال به - يعني القصاص في القتل بالمثقل - بأن عمود الفسطاط يختلف بالكبر والصغر ، بحيث يقتل بعضه غالبا ولا يقتل بعضه غالبا ، وطرد المماثلة في القصاص إنما يشرع فيما إذا وقعت الجناية بما يقتل غالبا .
وفي هذا الجواب نظر ، فإن الذي يظهر أنه إنما لم يجب فيه القود لأنها لم يقصد مثلها وشرط القود العمد ، وهذا إنما هو شبه العمد ، فلا حجة فيه للقتل بالمثقل ولا عكسه . انتهى كلام ابن حجر بلفظه .
قال مقيده عفا الله عنه : والدليل القاطع على أن قتل هذه المرأة لضرتها خطأ في القتل شبه عمد ; لقصد الضرب دون القتل بما لا يقتل غالبا ، تصريح الروايات المتفق عليها بأنه صلى الله عليه وسلم جعل الدية على العاقلة ، والعاقلة لا تحمل العمد بإجماع المسلمين .
وأجابوا عن حديث : " لا قود إلا بحديدة " بأنه لم يثبت .
قال البيهقي في " السنن الكبرى " بعد أن ساق طرقه عن النعمان بن بشير ، وأبي بكرة ، وأبي هريرة ، وعلي رضي الله عنهم ما نصه :
وهذا الحديث لم يثبت له إسناد فعلي بن هلال الطحان متروك ، وسليمان بن أرقم ضعيف ، ومبارك بن فضالة لا يحتج به ، وجابر بن يزيد الجعفي مطعون فيه اه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:53 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (202)
سُورَةُ الإسراء(19)
صـ 96 إلى صـ 100
وقال ابن حجر " في فتح الباري في باب إذا قتل بحجر أو عصا " ما نصه :
[ ص: 96 ] وخالف الكوفيون فاحتجوا بحديث " لا قود إلا بالسيف " وهو حديث ضعيف أخرجه البزار ، وابن عدي من حديث أبي بكرة ، وذكر البزار الاختلاف فيه مع ضعف إسناده : وقال ابن عدي : طرقه كلها ضعيفة ، وعلى تقدير ثبوته فإنه على خلاف قاعدتهم في : أن السنة لا تنسخ الكتاب ولا تخصصه .
واحتجوا أيضا بالنهي عن المثلة ، وهو صحيح ولكنه محمول عند الجمهور على غير المثلة في القصاص بين الدليلين . انتهى الغرض من كلام ابن حجر بلفظه .
وقال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في " نيل الأوطار " ما نصه :
وذهبت العترة والكوفيون ، ومنهم أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الاقتصاص لا يكون إلا بالسيف ، واستدلوا بحديث النعمان بن بشير عند ابن ماجه ، والبزار ، والطحاوي ، والطبراني ، والبيهقي ، بألفاظ مختلفة منها " لا قود إلا بالسيف " . وأخرجه ابن ماجه أيضا ، والبزار ، والبيهقي من حديث أبي بكرة ، وأخرجه الدارقطني ، والبيهقي ، من حديث أبي هريرة . وأخرجه الدارقطني من حديث علي ، وأخرجه البيهقي ، والطبراني من حديث ابن مسعود . وأخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا .
وهذه الطرق كلها لا تخلو واحدة منها من ضعيف أو متروك ، حتى قال أبو حاتم : حديث منكر . وقال عبد الحق وابن الجوزي : طرقه كلها ضعيفة . وقال البيهقي : لم يثبت له إسناد . انتهى محل الغرض من كلام الشوكاني رحمه الله تعالى .
ولا شك في ضعف هذا الحديث عند أهل العلم بالحديث . وقد حاول الشيخ ابن التركماني تقويته في " حاشيته على سنن البيهقي " بدعوى تقوية جابر بن يزيد الجعفي ، ومبارك بن فضالة ، مع أن جابرا ضعيف رافضي ، ومبارك يدلس تدليس التسوية .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي : هو القصاص مطلقا في القتل عمدا بمثقل كان أو بمحدد ، لما ذكرنا من الأدلة ، ولقوله جل وعلا : ولكم في القصاص حياة الآية [ 2 \ 179 ] ; لأن القاتل بعمود أو صخرة كبيرة إذا علم أنه لا يقتص منه جرأه ذلك على القتل ، فتنتفي بذلك الحكمة المذكورة في قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة الآية ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة : جمهور العلماء على أن السلطان الذي جعله الله في هذه الآية لولي المقتول ظلما يستلزم الخيار بين ثلاثة أشياء : وهي القصاص ، والعفو على الدية جبرا على [ ص: 97 ] الجاني ، والعفو مجانا في غير مقابل ، وهو أحد قولي الشافعي .
قال النووي في شرح مسلم : وبه قال سعيد بن المسيب ، وابن سيرين وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وعزاه ابن حجر في الفتح إلى الجمهور .
وخالف في ذلك مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري رحمهم الله ، فقالوا : ليس للولي إلا القصاص ، أو العفو مجانا ، فلو عفا على الدية ، وقال الجاني : لا أرضى إلا القتل ، أو العفو مجانا ، ولا أرضى الدية ، فليس لولي المقتول إلزامه الدية جبرا .
واعلم أن الذين قالوا : إن الخيار للولي بين القصاص والدية اختلفوا في عين ما يوجبه القتل عمدا إلى قولين : أحدهما : أنه القود فقط ; وعليه فالدية بدل منه . والثاني : أنه أحد شيئين : هما القصاص والدية .
وتظهر ثمرة هذا الخلاف فيما لو عفا عن الجاني عفوا مطلقا ، لم يصرح فيه بإرادة الدية ولا العفو عنها . فعلى أن الواجب عينا القصاص فإن الدية تسقط بالعفو المطلق ، وعلى أن الواجب أحد الأمرين فإن الدية تلزم مع العفو المطلق . أما لو عفا على الدية فهي لازمة ، ولو لم يرض الجاني عند أهل هذا القول ، والخلاف المذكور روايتان عن الشافعي وأحمد رحمهما الله .
واحتج من قال : بأن الخيار بين القصاص والدية لولي المقتول بقوله صلى الله عليه وسلم : " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يفدى ، وإما أن يقتل " أخرجه الشيخان ، والإمام أحمد ، وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ; لكن لفظ الترمذي : " إما أن يقتل وإما أن يعفو " . ومعنى " يفدى " في بعض الروايات ، " ويودى " في بعضها : يأخذ الفداء بمعنى الدية . وقوله " يقتل " بالبناء للفاعل : أي يقتل قاتل وليه .
قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه نص في محل النزاع ، مصرح بأن ولي المقتول مخير بين القصاص وأخذ الدية ، وأن له إجبار الجاني على أي الأمرين شاء ، وهذا الدليل قوي دلالة ومتنا كما ترى .
واحتجوا أيضا بقوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان [ 2 \ 178 ] ، قالوا : إن الله جل وعلا رتب الاتباع بالدية بالفاء على العفو في قوله : فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف الآية ، وذلك دليل واضح على أنه بمجرد العفو تلزم الدية ، وهو دليل قرآني قوي أيضا .
[ ص: 98 ] واحتج بعض العلماء للمخالفين في هذا ; كمالك وأبي حنيفة رحمهما الله بأدلة ، منها ما قاله الطحاوي : وهو أن الحجة لهم حديث أنس في قصة الربيع عمته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " كتاب الله القصاص " ، فإنه حكم بالقصاص ولم يخير ، ولو كان الخيار للولي لأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم ; إذ لا يجوز للحاكم أن يتحكم لمن ثبت له أحد شيئين بأحدهما من قبل أن يعلمه بأن الحق له في أحدهما ، فلما حكم بالقصاص وجب أن يحمل عليه قوله : " فهو بخير النظرين " ، أي ولي المقتول مخير بشرط أن يرضى الجاني أن يغرم الدية اه .
وتعقب ابن حجر في " فتح الباري " احتجاج الطحاوي هذا بما نصه : وتعقب بأن قوله صلى الله عليه وسلم : " كتاب الله القصاص " إنما وقع عند طلب أولياء المجني عليه في العمد القود ، فاعلم أن الكتاب الله نزل على أن المجني إذا طلب القود أجيب إليه ; وليس فيما ادعاه من تأخير البيان .
الثاني : ما ذكره الطحاوي أيضا : من أنهم أجمعوا على أن الولي لو قال للقاتل : رضيت أن تعطيني كذا على ألا أقتلك . أن القاتل لا يجبر على ذلك ، ولا يؤخذ منه كرها ، وإن كان يجب عليه أن يحقن دم نفسه .
الثالث : أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور " فهو بخير النظرين . . " الحديث جار مجرى الغالب فلا مفهوم مخالفة له ، وقد تقرر في الأصول : أن النص إذا جرى على الغالب لا يكون له مفهوم مخالفة له ، لاحتمال قصد نفس الأغلبية دون قصد إخراج المفهوم عن حكم المنطوق . ولذا لم يعتبر جمهور العلماء مفهوم المخالفة في قوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم الآية [ 4 \ 23 ] ; لجريه على الغالب ، وقد ذكرنا هذه المسألة في هذا الكتاب المبارك مرارا .
وإيضاح ذلك في الحديث أن مفهوم قوله : " فهو بخير النظرين " أن الجاني لو امتنع من قبول الدية وقدم نفسه للقتل ممتنعا من إعطاء الدية ، أنه يجبر على إعطائها ; لأن هذا أحد النظرين اللذين خير الشارع ولي المقتول بينهما ، والغالب أن الإنسان يقدم نفسه على ماله فيفتدي بماله من القتل . وجريان الحديث على هذا الأمر الغالب يمنع من اعتبار مفهوم مخالفته كما ذكره أهل الأصول ، وعقده في " مراقي السعود " بقوله في موانع اعتبار دليل الخطاب ، أعني مفهوم المخالفة :
[ ص: 99 ]
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
ومحل الشاهد قوله : " أو جرى على الذي غلب " إلى غير ذلك من الأدلة التي احتجوا بها .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة : أن ولي المقتول هو المخير بين الأمرين ، فلو أراد الدية وامتنع الجاني فله إجباره على دفعها ; لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك ، ودلالة الآية المتقدمة عليه ، ولأن الله يقول : ولا تقتلوا أنفسكم الآية [ 4 \ 29 ] ، ويقول : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] .
ومن الأمر الواضح أنه إذا أراد إهلاك نفسه صونا لماله للوارث : أن الشارع يمنعه من هذا التصرف الزائغ عن طريق الصواب ، ويجبره على صون دمه بماله .
وما احتج به الطحاوي من الإجماع على أنه لو قال له : أعطني كذا على ألا أقتلك لا يجبر على ذلك ، يجاب عنه بأنه لو قال : أعطني الدية المقررة في قتل العمد فإنه يجبر على ذلك ; لنص الحديث والآية المذكورين .
ولو قال له : أعطني كذا غير الدية لم يجبر ، لأنه طلب غير الشيء الذي أوجبه الشارع ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة : جمهور العلماء على أن القتل له ثلاث حالات :
الأولى : العمد ، وهو الذي فيه السلطان المذكور في الآية كما قدمنا .
والثانية : شبه العمد . والثالثة : الخطأ .
وممن قال بهذا الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ، وأحمد ، والشافعي . ونقله في المغني عن عمر وعلي رضي الله عنهما ، والشعبي والنخعي ، وقتادة وحماد ، وأهل العراق والثوري ، وغيرهم .
وخالف الجمهور مالك رحمه الله فقال : القتل له حالتان فقط . الأولى : العمد ، والثانية الخطأ . وما يسميه غيره شبه العمد جعله من العمد . واستدل رحمه الله بأن الله لم يجعل في كتابه العزيز واسطة بين العمد والخطأ ، بل [ ص: 100 ] ظاهر القرآن أنه لا واسطة بينهما ، كقوله : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهلهالآية [ 4 \ 92 ] ، ثم قال في العمد : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه الآية [ 4 \ 93 ] ، فلم يجعل بين الخطأ والعمد واسطة ، وكقوله تعالى : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم الآية [ 33 \ 5 ] ، فلم يجعل فيها بين الخطأ والعمد واسطة وإن كانت في غير القتل .
واحتج الجمهور على أن هناك واسطة بين الخطأ المحض ، والعمد المحض ، تسمى خطأ شبه عمد بأمرين :
الأول أن هذا هو عين الواقع في نفس الأمر ; لأن من ضرب بعصا صغيرة أو حجر صغير لا يحصل به القتل غالبا ، وهو قاصد للضرب معتقدا أن المضروب لا يقتله ذلك الضرب ، ففعله هذا شبه العمد من جهة قصده أصل الضرب وهو خطأ في القتل ، لأنه ما كان يقصد القتل ، بل وقع القتل من غير قصده إياه .
والثاني : حديث دل على ذلك ، وهو ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا سليمان بن حرب ومسدد - المعنى - قالا : حدثنا حماد ، عن خالد ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عقبة بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مسدد : خطب يوم الفتح بمكة ، فكبر ثلاثا ثم قال : " لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ( إلى ها هنا حفظته عن مسدد ، ثم اتفقا ) : ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى من دم أو مال تحت قدمي ، إلا ما كان من سقاية الحاج أو سدانة البيت - ثم قال - ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل ، منها أربعون في بطونها أولادها ، وحديث مسدد أتم .
حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا وهيب ، عن خالد بهذا الإسناد نحو معناه .
حدثنا مسدد ، ثنا عبد الوارث ، عن علي بن زيد ، عن القاسم بن ربيعة ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح - أو فتح مكة - على درجة البيت أو الكعبة .
قال أبو داود : كذا رواه ابن عيينة أيضا عن علي بن زيد ، عن القاسم بن ربيعة ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:54 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (203)
سُورَةُ الإسراء(20)
صـ 101 إلى صـ 105
[ ص: 101 ] ورواه أيوب السختياني ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عبد الله بن عمرو ، ومثل حديث خالد رواه حماد بن سلمة ، عن علي بن يزيد ، عن يعقوب السدوسي ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم اه محل الغرض من سنن أبي داود .
وأخرج النسائي نحوه ، وذكر الاختلاف على أيوب في حديث القاسم بن ربيعة فيه ، وذكر الاختلاف على خالد الحذاء فيه وأطال الكلام في ذلك ، وقد تركنا لفظ كلامه لطوله .
وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن جعفر ، قالا : حدثنا شعبة ، عن أيوب : سمعت القاسم بن ربيعة ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قتيل الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا مائة من الإبل : أربعون منها خلفة في بطونها أولادها " .
حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا سليمان بن حرب ، ثنا حماد بن زيد ، عن خالد الحذاء ، عن القاسم بن ربيعة ، عن عقبة بن أوس ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .
حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، ثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن جدعان ، سمعه من القاسم بن ربيعة عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم فتح مكة وهو على درج الكعبة ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال : " الحمد لله الذي صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا إن قتيل الخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل : منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " . اه .
وساق البيهقي رحمه الله طرق هذا الحديث ، وقال بعد أن ذكر الرواية عن ابن عمر التي في إسنادها علي بن زيد بن جدعان : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال : سمعت محمد بن إسماعيل السكري يقول : سمعت محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول : حضرت مجلس المزني يوما ، وسأله سائل من العراقيين عن شبه العمد ، فقال السائل : إن الله تبارك وتعالى وصف القتل في كتابه صفتين : عمدا وخطأ ، فلم قلتم إنه على ثلاثة أصناف ؟ ولم قلتم شبه العمد ؟
فاحتج المزني بهذا الحديث فقال له مناظره : أتحتج بعلي بن زيد بن جدعان ؟ فسكت المزني فقلت لمناظره : قد روى هذا الخبر غير علي بن زيد . فقال : ومن رواه غير علي ؟ قلت : رواه أيوب السختياني وخالد الحذاء . قال لي : فمن عقبة بن أوس ؟ فقلت : عقبة بن أوس رجل من أهل البصرة ، وقد رواه عنه محمد بن سيرين مع جلالته . فقال [ ص: 102 ] للمزني : أنت تناظر أو هذا ؟ فقال : إذا جاء الحديث فهو يناظر . لأنه أعلم بالحديث مني ، ثم أتكلم أنا ، اه . ثم شرع البيهقي يسوق طرق الحديث المذكور .
قال مقيده عفا الله عنه : لا يخفى على من له أدنى معرفة بالأسانيد أن الحديث ثابت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأن الرواية عن ابن عمر وهم ، وآفتها من علي بن زيد بن جدعان ، لأنه ضعيف .
والمعروف في علوم الحديث : أن الحديث إذا جاء صحيحا من وجه لا يعل بإتيانه من وجه آخر غير صحيح ، والقصة التي ذكرها البيهقي في مناظرة محمد بن إسحاق بن خزيمة للعراقي الذي ناظر المزني تدل على صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند ابن خزيمة .
قال مقيده عفا الله عنه : إذا عرفت الاختلاف بين العلماء في حالات القتل : هل هي ثلاث ، أو اثنتان ؟ وعرفت حجج الفريقين فاعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه ما ذهب إليه الجمهور من أنها ثلاث حالات : عمد محض ، وخطأ محض ، وشبه عمد ، لدلالة الحديث الذي ذكرنا على ذلك ، ولأنه ذهب إليه الجمهور من علماء المسلمين . والحديث إنما أثبت شيئا سكت عنه القرآن ، فغاية ما في الباب زيادة أمر سكت عنه القرآن بالسنة ، وذلك لا إشكال فيه على الجاري على أصول الأئمة إلا أبا حنيفة رحمه الله ; لأن المقرر في أصوله أن الزيادة على النص نسخ ، وأن المتواتر لا ينسخ بالآحاد ، كما تقدم إيضاحه في سورة " الأنعام " . ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله وافق الجمهور في هذه المسألة ، خلافا لمالك كما تقدم .
فإذا تقرر ما ذكرنا من أن حالات القتل ثلاث ، فاعلم أن العمد المحض فيه القصاص . وقد قدمنا حكم العفو فيه . والخطأ شبه العمد . والخطأ المحض فيهما الدية على العاقلة .
واختلف العلماء في أسنان الدية فيهما ، وسنبين إن شاء الله تعالى مقادير الدية في العمد المحض إذا وقع العفو على الدية ، وفي شبه العمد ، وفي الخطأ المحض .
اعلم أن الجمهور على أن الدية في العمد المحض وشبه العمد سواء ، واختلفوا في أسنانها فيهما ، فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تكون أرباعا : خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة .
[ ص: 103 ] وهذا هو مذهب مالك وأبي حنيفة ، والرواية المشهورة عن أحمد ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، وسليمان بن يسار ، ويروى عن ابن مسعود ، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني .
وذهبت جماعة أخرى إلى أنها ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون في بطونها أولادها .
وهذا مذهب الشافعي ، وبه قال عطاء ، ومحمد بن الحسن ، وروي عن عمر ، وزيد ، وأبي موسى ، والمغيرة . ورواه جماعة عن الإمام أحمد .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول هو الذي يقتضي الدليل رجحانه . لما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود ، والنسائي ، وابن ماجه : من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " منها أربعون خلفة في بطونها أولادها " ، وبعض طرقه صحيح كما تقدم .
وقال البيهقي في بيان الستين التي لم يتعرض لها هذا الحديث : ( باب صفة الستين التي مع الأربعين ) ثم ساق أسانيده عن عمر ، وزيد بن ثابت ، والمغيرة بن شعبة ، وأبي موسى الأشعري ، وعثمان بن عفان ، وعلي في إحدى روايتيه عنه أنها ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة .
وقال ابن قدامة في المغني مستدلا لهذا القول : ودليله هو ما رواه عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءوا قتلوه ، وإن شاءوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة ، وثلاثون جذعة ، وأربعون خلفة ، وما صولحوا فهو لهم " ، وذلك لتشديد القتل . رواه الترمذي وقال : هو حديث حسن غريب . اه محل الغرض منه بلفظه ، ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي قدمنا .
ثم قال مستدلا للقول الأول : ووجه الأول ما روى الزهري عن السائب بن يزيد قال : " كانت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرباعا : خمسا وعشرين جذعة ، وخمسا وعشرين حقة ، وخمسا وعشرين بنت لبون ، وخمسا وعشرين بنت مخاض " وهو قول ابن مسعود اه منه .
وفي الموطأ عن مالك : أن ابن شهاب كان يقول في دية العمد إذا قبلت : خمس وعشرون بنت مخاض ، وخمس وعشرون بنت لبون ، وخمس وعشرون حقة ، وخمس [ ص: 104 ] وعشرون جذعة . وقد قدمنا : أن دية العمد ، ودية شبه العمد سواء عند الجمهور .
وفي دية شبه العمد للعلماء أقوال غير ما ذكرنا ، منها ما رواه البيهقي ، وأبو داود عن علي رضي الله عنه أنه قال : في شبه العمد أثلاث : ثلاث وثلاثون حقة ، وثلاث وثلاثون جذعة ، وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها ، وكلها خلفة .
ومنها ما رواه البيهقي وغيره عن ابن مسعود أيضا : أنها أرباع : ربع بنات لبون ، وربع حقاق وربع جذاع " وربع ثنية إلى بازل عامها ، هذا حاصل أقوال أهل العلم في دية العمد وشبه العمد .
وأولى الأقوال وأرجحها : ما دلت عليه السنة ، وهو ما قدمنا من كونها ثلاثة حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة في بطونها أولادها .
وقد قال البيهقي رحمه الله في السنن الكبرى بعد أن ساق الأقوال المذكورة ما نصه : قد اختلفوا هذا الاختلاف ، وقول من يوافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في الباب قبله أولى بالاتباع ، وبالله التوفيق .
تنبيه
اعلم أن الدية في العمد المحض إذا عفا أولياء المقتول : إنما هي في مال الجاني ، ولا تحملها العاقلة إجماعا ، وأظهر القولين : أنها حالة غير منجمة في سنين ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وقيل : بتنجيمها .
وعند أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية مقررة أصلا ، بل الواجب فيه ما اتفق عليه الجاني وأولياء المقتول ، قليلا كان أو كثيرا ، وهو حال عنده .
أما الدية في شبه العمد فهي منجمة في ثلاث سنين ، يدفع ثلثها في آخر كل سنة من السنين الثلاث ، ويعتبر ابتداء السنة من حين وجوب الدية .
وقال بعض أهل العلم : ابتداؤها من حين حكم الحاكم بالدية ، وهي على العاقلة لما قدمناه في حديث أبي هريرة المتفق عليه من كونها على العاقلة ، وهو مذهب الأئمة الثلاثة : أبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - وبه قال الشعبي ، والنخعي ، والحكم ، والثوري ، وابن المنذر وغيرهم ، كما نقله عنهم صاحب المغني وهذا القول هو الحق .
[ ص: 105 ] وذهب بعض أهل العلم إلى أن الدية في شبه العمد في مال الجاني لا على العاقلة ; لقصده الضرب وإن لم يقصد القتل . وبهذا قال ابن سيرين ، والزهري ، والحارث العكلي ، وابن شبرمة ، وقتادة ، وأبو ثور ، واختاره أبو بكر عبد العزيز ، اه من " المغني " لابن قدامة . وقد علمت أن الصواب خلافه ، لدلالة الحديث المتفق عليه على ذلك .
أما مالك رحمه الله فلا يقول بشبه العمد أصلا ، فهو عنده عمد محض كما تقدم .
وأما الدية في الخطأ المحض فهو أخماس في قول أكثر أهل العلم .
واتفق أكثرهم على السن والصنف في أربع منها ، واختلفوا في الخامس ، أما الأربع التي هي محل اتفاق الأكثر فهي عشرون جذعة ، وعشرون حقة ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون بنت مخاض . وأما الخامس الذي هو محل الخلاف فبعض أهل العلم يقول : هو عشرون ابن مخاض ذكرا ، وهو مذهب أحمد ، وأبي حنيفة ، وبه قال ابن مسعود ، والنخعي ، وابن المنذر ، واستدل أهل هذا القول بحديث ابن مسعود الوارد بذلك .
قال أبو داود في سننه : حدثنا مسدد ، حدثنا عبد الواحد ، ثنا الحجاج ، عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك الطائي ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في دية الخطأ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون ابن مخاض ذكرا " ، وهو قول عبد الله . انتهى منه بلفظه .
وقال النسائي في سننه : أخبرنا علي بن سعيد بن مسروق ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن حجاج ، عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك الطائي قال : سمعت ابن مسعود يقول : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين ابن مخاض ذكورا ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جذعة ، وعشرين حقة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:55 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (204)
سُورَةُ الإسراء(21)
صـ 106 إلى صـ 110
وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا عبد السلام بن عاصم ، ثنا الصباح بن محارب ، ثنا حجاج بن أرطاة ، ثنا زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك الطائي ، عن عبد الله بن [ ص: 106 ] مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " في دية الخطأ عشرون حقة ، وعشرون جذعة ، وعشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون بني مخاض ذكورا " ونحو هذا أخرجه الترمذي أيضا عن ابن مسعود .
وأخرج الدارقطني عنه نحوه ، إلا أن فيه : وعشرون بني لبون بدل بني مخاض .
وقال الحافظ في " بلوغ المرام " : إن إسناده أقوى من إسناد الأربعة . قال : وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر موقوفا ، وهو أصح من المرفوع .
وأما القول الثاني في هذا الخامس المختلف فيه ، فهو أنه عشرون ابن لبون ذكرا ، مع عشرين جذعة ، وعشرين حقة ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين بنت مخاض . وهذا هو مذهب مالك والشافعي ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، والليث ، وربيعة . كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " ، وقال : هكذا رواه سعيد في سننه عن النخعي ، عن ابن مسعود .
وقال الخطابي : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم " ودى الذي قتل بخيبر بمائة من إبل الصدقة " وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض .
وقال البيهقي في السنن الكبرى : وأخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الرفاء البغدادي ، أنبأ أبو عمرو عثمان بن محمد بن بشر ، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، ثنا إسماعيل بن أبي أويس وعيسى بن مينا ، قالا : حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، أن أباه قال : كان من أدركت من فقهائنا الذي ينتهى إلى قولهم ; ومنهم سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وخارجة بن زيد بن ثابت ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسليمان بن يسار ، في مشيخة جلة سواهم من نظرائهم ، وربما اختلفوا في الشيء فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا ، وكانوا يقولون : العقل في الخطأ خمسة أخماس : فخمس جذاع ، وخمس حقاق ، وخمس بنات لبون ، وخمس بنات مخاض ، وخمس بنو لبون ذكور ، والسن في كل جرح قل أو كثر خمسة أخماس على هذه الصفة . انتهى كلام البيهقي رحمه الله .
قال مقيده عفا الله عنه : جعل بعضهم أقرب القولين دليلا قول من قال : إن الصنف الخامس من أبناء المخاض الذكور لا من أبناء اللبون ، لحديث عبد الله بن [ ص: 107 ] مسعود المرفوع المصرح بقضاء النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . قال : والحديث المذكور وإن كان فيه ما فيه أولى من الأخذ بغيره من الرأي .
وسند أبي داود والنسائي رجاله كلهم صالحون للاحتجاج ، إلا الحجاج بن أرطاة فإن فيه كلاما كثيرا واختلافا بين العلماء ; فمنهم من يوثقه ، ومنهم من يضعفه ، وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك تضعيف بعض أهل العلم له .
وقال فيه ابن حجر في التقريب : صدوق كثير الخطأ والتدليس .
قال مقيده عفا الله عنه : حجاج المذكور من رجال مسلم ، وأعل أبو داود والبيهقي وغيرهما الحديث بالوقف على ابن مسعود ، قالوا : رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خطأ ، وقد أشرنا إلى ذلك قريبا .
أما وجه صلاحية بقية رجال السنن ، فالطبقة الأولى من سنده عند أبي داود مسدد وهو ثقة حافظ ، وعند النسائي سعيد بن علي بن سعيد بن مسروق الكندي الكوفي وهو صدوق .
والطبقة الثانية عند أبي داود عبد الواحد وهو ابن زياد العبدي مولاهم البصري ثقة ، في حديثه عن الأعمش وحده مقال . وعند النسائي يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، وهو ثقة متقن .
والطبقة الثالثة عندهما حجاج بن أرطاة المذكور .
والطبقة الرابعة عندهما زيد بن جبير وهو ثقة .
والطبقة الخامسة عندهما خشف بن مالك الطائي ، وثقه النسائي .
والطبقة السادسة عندهما عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والطبقة الأولى عند ابن ماجه عبد السلام بن عاصم الجعفي الهسنجاني الرازي ، وهو مقبول .
والطبقة الثانية عنده الصباح بن محارب التيمي الكوفي نزيل الري وهو صدوق ، ربما خالف .
والطبقة الثالثة عنده حجاج بن أرطاة إلى آخر السند المذكور .
والحاصل : أن الحديث متكلم فيه من جهتين : الأولى من قبل حجاج بن [ ص: 108 ] أرطاة ، وقد ضعفه الأكثر ، ووثقه بعضهم ، وهو من رجال مسلم ، والثانية إعلاله بالوقف ، وما احتج به الخطابي من أن النبي صلى الله عليه وسلم " ودى الذي قتل بخيبر من إبل الصدقة " وليس في أسنان الصدقة ابن مخاض يقال فيه : إن الذي قتل في خيبر قتل عمدا ، وكلامنا في الخطأ . وحجة من قال يجعل أبناء اللبون بدل أبناء المخاض رواية الدارقطني المرفوعة التي قال ابن حجر : إن سندها أصح من رواية أبناء المخاض ، وكثرة من قال بذلك من العلماء .
وفي دية الخطأ للعلماء أقوال أخر غير ما ذكرنا ، واستدلوا لها بأحاديث أخرى انظرها في " سنن النسائي ، وأبي داود ، والبيهقي " وغيرهم .
واعلم أن الدية على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم عند الجمهور .
وقال أبو حنيفة : عشرة آلاف درهم ، وعلى أهل البقر مائتا بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفا شاة ، وعلى أهل الحلل مائتا حلة .
قال أبو داود في سننه : حدثنا يحيى بن حكيم ، حدثنا عبد الرحمن بن عثمان ، ثنا حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار ، أو ثمانية آلاف درهم ، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلمين .
قال : فكان ذلك كذلك ، حتى استخلف عمر رحمه الله تعالى فقام خطيبا فقال : ألا إن الإبل قد غلت ، قال : ففرضها على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفا ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ، وترك دية أهل الكتاب لم يرفعها فيما رفع من الدية .
حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عطاء بن أبي رباح ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل ، وعلى أهل البقر مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ، وعلى أهل القمح شيئا لم يحفظه محمد " .
قال أبو داود : قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قال : ثنا أبو تميلة ، ثنا محمد بن إسحاق قال : ذكر عطاء عن جابر بن عبد الله قال : فرض [ ص: 109 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم . . فذكر مثل حديث موسى ، وقال : وعلى أهل الطعام شيئا لم أحفظه . وقال النسائي في سننه : أخبرنا أحمد بن سليمان قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أنبأنا محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قتل خطأ فديته مائة من الإبل : ثلاثون بنت مخاض ، وثلاثون بنت لبون ، وثلاثون حقة ، وعشرة بني لبون ذكور " .
قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل القرى أربعمائة دينار ، أو عدلها من الورق ، ويقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها ، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان . فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار ، إلى ثمانمائة دينار أو عدلها من الورق .
قال : وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن من كان عقله في البقر : على أهل البقر مائتي بقرة ، ومن كان عقله في الشاء : ألفي شاة ، وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم ، فما فضل فللعصبة " وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن يعقل على المرأة عصبتها من كانوا ، ولا يرثون منه إلا ما فضل عن ورثتها ، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها وهم يقتلون قاتلها " . وقال النسائي في سننه : أخبرنا محمد بن المثنى ، عن معاذ بن هانئ قال : حدثني محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ( ح ) ، وأخبرنا أبو داود قال : حدثنا معاذ بن هانئ قال : حدثنا محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قتل رجل رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا وذكر قوله : إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] في أخذهم الدية واللفظ لأبي داود : أخبرنا محمد بن ميمون قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن ابن عباس :
أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى باثني عشر ألفا " - يعني في الدية - انتهى كلام النسائي رحمه الله .
وقال أبو داود في سننه أيضا : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري ، ثنا زيد بن الحباب ، عن محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن رجلا من بني عدي قتل . فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفا ، قال أبو داود : رواه ابن عيينة ، عن عمرو ، عن عكرمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر ابن عباس .
وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا العباس بن جعفر ، ثنا محمد بن سنان ، ثنا [ ص: 110 ] محمد بن مسلم ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " جعل الدية اثني عشر ألفا " قال : وذلك قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] قال : بأخذهم الدية .
وفي الموطأ عن مالك : أنه بلغه أن عمر بن الخطاب قوم الدية على أهل القرى فجعلها على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم ، قال مالك : فأهل الذهب أهل الشام وأهل مصر ، وأهل الورق أهل العراق .
وعن مالك في الموطأ أيضا : أنه سمع أن الدية تقطع في ثلاث سنين أو أربع سنين ، قال مالك : والثلاث أحب ما سمعت إلى في ذلك .
قال مالك : الأمر المجتمع عليه عندنا أنه لا يقبل من أهل القرى في الدية الإبل ، ولا من أهل العمود الذهب ولا الورق ، ولا من أهل الذهب الورق ، ولا من أهل الورق الذهب .
فروع تتعلق بهذه المسألة .
الأول : جمهور أهل العلم على أن الدية في الخطأ وشبه العمد مؤجلة في ثلاث سنين ، يدفع ثلثها في كل واحد من السنين الثلاث .
قال ابن قدامة في " المغني " : ولا خلاف بينهم في أنها مؤجلة في ثلاث سنين ; فإن عمر وعليا رضي الله عنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين ، ولا نعرف لهما في الصحابة مخالفا ، فاتبعهم على ذلك أهل العلم اه .
قال مقيده عفا الله عنه : ومثل هذا يسمى إجماعا سكوتيا ، وهو حجة ظنية عند جماعة من أهل الأصول ، وأشار إلى ذلك صاحب " مراقي السعود " مع بيان شرط الاحتجاج به عند من يقول بذلك بقوله :
وجعل من سكت مثل من أقر فيه خلاف بينهم قد اشتهر فالاحتجاج بالسكوتي نما
تفريعه عليه من تقدما وهو بفقد السخط والضد حري
مع مضي مهلة للنظر
وتأجيلها في ثلاث سنين هو قول أكثر أهل العلم .
الفرع الثاني : اختلف العلماء في نفس الجاني ; هل يلزمه قسط من دية الخطأ كواحد من العاقلة ، أو لا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:56 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (205)
سُورَةُ الإسراء(22)
صـ 111 إلى صـ 115
فمذهب أبي حنيفة ، ومشهور مذهب مالك : أن الجاني يلزمه قسط من الدية كواحد من العاقلة .
وذهب الإمام أحمد ، والشافعي : إلى أنه لا يلزمه من الدية شيء ، لظاهر حديث أبي هريرة المتفق عليه المتقدم : أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى بالدية على عاقلة المرأة " وظاهره قضاؤه بجميع الدية على العاقلة ، وحجة القول الآخر : أن أصل الجناية عليه وهم معينون له ، فيتحمل عن نفسه مثل ما يتحمل رجل من عاقلته .
الفرع الثالث : اختلف العلماء في تعيين العاقلة التي تحمل عن الجاني دية الخطأ .
فمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله : أن العاقلة هم أهل ديوان القاتل إن كان القاتل من أهل ديوان ، وأهل الديوان أهل الرايات ، وهم الجيش الذين كتبت أسماؤهم في الديوان لمناصرة بعضهم بعضا ، تؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين ، وإن لم يكن من أهل ديوان فعاقلته قبيلته ، وتقسم عليهم في ثلاث سنين ، فإن لم تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل نسبا على ترتيب العصبات .
ومذهب مالك رحمه الله : البداءة بأهل الديوان أيضا ، فتؤخذ الدية من عطاياهم في ثلاث سنين ، فإن لم يكن عطاؤهم قائما فعاقلته عصبته الأقرب فالأقرب ، ولا يحمل النساء ولا الصبيان شيئا من العقل .
وليس لأموال العاقلة حد إذا بلغته عقلوا ، ولا لما يؤخذ منهم حد ، ولا يكلف أغنياؤهم الأداء عن فقرائهم .
ومن لم تكن له عصبة فعقله في بيت مال المسلمين .
والموالي بمنزلة العصبة من القرابة ، ويدخل في القرابة الابن والأب .
قال سحنون : إن كانت العاقلة ألفا فهم قليل ، يضم إليهم أقرب القبائل إليهم .
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله : أنه لا يؤخذ من واحد من أفراد العصبة من الدية أكثر من درهم وثلث في كل سنة من السنين الثلاث ، فالمجموع أربعة دراهم .
ومذهب أحمد والشافعي : أن أهل الديوان لا مدخل لهم في العقل إلا إذا كانوا عصبة ، ومذهبهما رحمهما الله : أن العاقلة هي العصبة ، إلا أنهم اختلفوا : هل يدخل في ذلك الأبناء والآباء ؟ فعن أحمد في إحدى الروايتين : أنهم داخلون في العصبة ; لأنهم أقرب العصبة ، وعن أحمد رواية أخرى والشافعي : أنهم لا يدخلون في العاقلة ; لظاهر حديث [ ص: 112 ] أبي هريرة المتفق عليه المتقدم : " أن ميراث المرأة لولدها ، والدية على عاقلتها " ، وظاهره عدم دخول أولادها ، فقيس الآباء على الأولاد .
وقال ابن قدامة في " المغني " : واختلف أهل العلم فيما يحمله كل واحد منهم .
فقال أحمد : يحملون على قدر ما يطيقون . هذا لا يتقدر شرعا ، وإنما يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم ، فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذي ، وهذا مذهب مالك ; لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف ، ولا يثبت بالرأي والتحكم ، ولا نص في هذه المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات .
وعن أحمد رواية أخرى : أنه يفرض على الموسر نصف مثقال ; لأنه أقل مال يتقدر في الزكاة فكان معبرا بها ، ويجب على المتوسط ربع مثقال ; لأن ما دون ذلك تافه لكون اليد لا تقطع فيه ، وقد قالت عائشة رضي الله عنها : لا تقطع اليد في الشيء التافه ، وما دون ربع دينار لا تقطع فيه . وهذا اختيار أبي بكر ، ومذهب الشافعي .
وقال أبو حنيفة : أكثر ما يحمل على الواحد أربعة دراهم ، وليس لأقله حد . اه كلام صاحب " المغني " .
الفرع الرابع : لا تحمل العاقلة شيئا من الكفارة المنصوص عليها في قوله : وتحرير رقبة مؤمنة [ 4 \ 92 ] ، بل هي في مال الجاني إجماعا ، وشذ من قال : هي في بيت المال .
والكفارة في قتل الخطأ واجبة إجماعا بنص الآية الكريمة الصريحة في ذلك .
واختلفوا في العمد ، واختلافهم فيه مشهور ، وأجرى القولين على القياس عندي قول من قال : لا كفارة في العمد ; لأن العمد في القتل أعظم من أن يكفره العتق ، لقوله تعالى في القاتل عمدا : فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما [ 4 \ 93 ] ، فهذا الأمر أعلى وأفخم من أن يكفر بعتق رقبة ، والعلم عند الله تعالى .
والدية لا تحملها العاقلة إن كان القتل خطأ ثابتا بإقرار الجاني ولم يصدقوه ، بل إنما تحملها إن ثبت القتل ببينة ، كما ذهب إلى هذا عامة أهل العلم ، منهم ابن عباس ، والشعبي ، وعمر بن عبد العزيز ، والحسن ، والزهري ، وسليمان بن موسى ، والثوري ، [ ص: 113 ] والأوزاعي ، وإسحاق . وبه قال الشافعي ، وأحمد ، ومالك ، وأبو حنيفة وغيرهم . والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : جمهور العلماء على أن دية المرأة الحرة المسلمة نصف دية الرجل الحر المسلم على ما بينا .
قال ابن المنذر ، وابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل ، وحكى غيرهما عن ابن علية والأصم ، أنهما قالا : ديتها كدية الرجل . وهذا قول شاذ ، مخالف لإجماع الصحابة ، كما قاله صاحب المغني .
وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية ، فإن بلغت الثلث فعلى النصف . قال ابن قدامة في " المغني " : وروي هذا عن عمر ، وابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وبه قال سعيد بن المسيب ، وعمر بن عبد العزيز ، وعروة بن الزبير ، والزهري ، وقتادة ، والأعرج ، وربيعة ، ومالك .
قال ابن عبد البر : وهو قول فقهاء المدينة السبعة ، وجمهور أهل المدينة ، وحكي عن الشافعي في القديم .
وقال الحسن : يستويان إلى النصف ، وروي عن علي رضي الله عنه : أنها على النصف فيما قل أو كثر ، وروي ذلك عن ابن سيرين ، وبه قال الثوري ، والليث ، وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وأبو حنيفة وأصحابه . وأبو ثور ، والشافعي في ظاهر مذهبه ، واختاره ابن المنذر ; لأنهما شخصان تختلف دية نفسهما فاختلف أرش جراحهما . اه وهذا القول أقيس .
قال مقيده عفا الله عنه : كلام ابن قدامة والخرقي صريح في أن ما بلغ ثلث الدية يستويان فيه ، وأن تفضيله عليها بنصف الدية إنما هو فيما زاد على الثلث ، فمقتضى كلامهما أن دية جائفة المرأة ومأمومتها كدية جائفة الرجل ومأمومته ; لأن في كل من الجائفة والمأمومة ثلث الدية ، وأن عقلها لا يكون على النصف من عقله إلا فيما زاد على الثلث ، كدية أربعة أصابع من اليد ، فإن فيها أربعين من الإبل ، إذ في كل إصبع عشر ، والأربعون أكثر من ثلث المائة . وكلام مالك في الموطأ وغيره صريح في أن ما بلغ الثلث كالجائفة والمأمومة تكون دية المرأة فيه على النصف من دية الرجل ، وأن محل استوائها [ ص: 114 ] إنما هو فيما دون الثلث خاصة كالموضحة والمنقلة ، والإصبع والإصبعين والثلاثة ، وهما قولان معروفان لأهل العلم ، وأصحهما هو ما ذكرناه عن مالك ، ورجحه ابن قدامة في آخر كلامه بالحديث الآتي إن شاء الله تعالى .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول مشكل جدا لأنه يقتضي أن المرأة إن قطعت من يدها ثلاثة أصابع كانت ديتها ثلاثين من الإبل كأصابع الرجل ، لأنها دون الثلث ، وإن قطعت من يدها أربعة أصابع كانت ديتها عشرين من الإبل ، لأنها زادت على الثلث فصارت على النصف من دية الرجل ، وكون دية الأصابع الثلاثة ثلاثين من الإبل ، ودية الأصابع الأربعة عشرين في غاية الإشكال كما ترى .
وقد استشكل هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن على سعيد بن المسيب ، فأجابه بأن هذا هو السنة ، ففي موطأ مالك رحمه الله عن مالك ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال : سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة ؟ قال : عشر من الإبل . فقلت : كم في إصبعين ؟ قال : عشرون من الإبل . فقلت : كم في ثلاث ؟ فقال : ثلاثون من الإبل . فقلت : كم في أربع ؟ قال : عشرون من الإبل . فقلت : حين عظم جرحها ، واشتدت مصيبتها نقص عقلها ؟ فقال سعيد : أعراقي أنت ؟ فقلت . بل عالم متثبت ، أو جاهل متعلم . فقال سعيد : هي السنة يابن أخي .
وظاهر كلام سعيد هذا : أن هذا من سنة النبي صلى الله عليه وسلم . ولو قلنا : إن هذا له حكم الرفع فإنه مرسل ; لأن سعيدا لم يدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومراسيل سعيد بن المسيب قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " الأنعام " مع أن بعض أهل العلم قال : إن مراده بالسنة هنا سنة أهل المدينة .
وقال النسائي رحمه الله في سننه : أخبرنا عيسى بن يونس قال : حدثنا حمزة ، عن إسماعيل بن عياش ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها " اه وهذا يعضد قول سعيد : إن هذا هو السنة .
قال مقيده عفا الله عنه : إسناد النسائي هذا ضعيف فيما يظهر من جهتين .
إحداهما : أن إسماعيل بن عياش رواه عن ابن جريج ، ورواية إسماعيل المذكور عن غير الشاميين ضعيفة كما قدمنا إيضاحه ، وابن جريج ليس بشامي ، بل هو حجازي مكي .
[ ص: 115 ] الثانية : أن ابن جريج عنعنه عن عمرو بن شعيب ، وابن جريج رحمه الله مدلس ، وعنعنة المدلس لا يحتج بها ما لم يثبت السماع من طريق أخرى كما تقرر في علوم الحديث ، ويؤيد هذا الإعلال ما قاله الترمذي رحمه الله : من أن محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - قال : إن ابن جريج لم يسمع من عمرو بن شعيب ، كما نقله عنه ابن حجر في " تهذيب التهذيب " في ترجمة ابن جريج المذكور .
وبما ذكرنا تعلم أن تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث غير صحيح ، وإن نقله عنه ابن حجر في " بلوغ المرام " وسكت عليه ، والله أعلم . وهذا مع ما تقدم من كون ما تضمنه هذا الحديث يلزمه أن يكون في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثون ، وفي أربعة أصابع عشرون ، وهذا مخالف لما عهد من حكمة هذا الشرع الكريم كما ترى ، اللهم إلا أن يقال : إن جعل المرأة على النصف من الرجل فيما بلغ الثالث فصاعدا أنه في الزائد فقط ، فيكون في أربعة أصابع من أصابعها خمس وثلاثون ، فيكون النقص في العشرة الرابعة فقط ، وهذا معقول وظاهر ، والحديث محتمل له ، والله أعلم .
ومن الأدلة على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل : ما رواه البيهقي في السنن الكبرى من وجهين عن عبادة بن نسي ، عن ابن غنم ، عن معاذ بن جبل قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دية المرأة على النصف من دية الرجل " ، ثم قال البيهقي رحمه الله : وروي من وجه آخر عن عبادة بن نسي وفيه ضعف ، ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل ، فالضعف الذي يعنيه البيهقي من غيره ، وأخرج البيهقي أيضا عن علي مرفوعا : " دية المرأة على النصف من دية الرجل في الكل " . وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه وفيه انقطاع ، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه ، وأخرجه أيضا من وجه آخر عنه وعن عمر ، قاله الشوكاني رحمه الله .
الفرع السادس : اعلم أن أصح الأقوال وأظهرها دليلا : أن دية الكافر الذمي على النصف من دية المسلم ، كما قدمنا عن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن دية أهل الكتاب كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف من دية المسلمين ، وأن عمر لم يرفعها فيما رفع عند تقويمه الدية لما غلت الإبل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:56 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (206)
سُورَةُ الإسراء(23)
صـ 116 إلى صـ 120
وقال أبو داود أيضا في سننه : حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي ، ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دية المعاهد نصف دية الحر " . قال أبو داود : ورواه أسامة بن زيد الليثي ، [ ص: 116 ] وعبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب مثله اه .
وقال النسائي في سننه : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى . . - وذكر كلمة معناها - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى " أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عقل الكافر نصف عقل المؤمن " .
وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه : حدثنا هشام بن عمار ، ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن عياش ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين ، وهم اليهود والنصارى " . وأخرج نحوه الإمام أحمد ، والترمذي ، عن عمرو ، عن أبيه ، عن جده .
قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحديث عمرو بن شعيب هذا حسنه الترمذي ، وصححه ابن الجارود . وبهذا تعلم أن هذا القول أولى من قول من قال : دية أهل الذمة كدية المسلمين ; كأبي حنيفة ومن وافقه . ومن قال : إنها قدر ثلث دية المسلم . كالشافعي ومن وافقه . والعلم عند الله تعالى .
واعلم أن الروايات التي جاءت بأن دية الذمي والمعاهد كدية المسلم ضعيفة لا يحتج بها ، وقد بين البيهقي رحمه الله تعالى ضعفها في " السنن الكبرى " ، وقد حاول ابن التركماني رحمه الله في حاشيته على سنن البيهقي أن يجعل تلك الروايات صالحة للاحتجاج ، وهي ليس فيها شيء صحيح .
أما الاستدلال بظاهر قوله تعالى : ودية مسلمة إلى أهله [ 4 \ 92 ] ، فيقال فيه : هذه دلالة اقتران ، وهي غير معتبرة عند الجمهور ، وغاية ما في الباب : أن الآية لم تبين قدر دية المسلم ولا الكافر ، والسنة بينت أن دية الكافر على النصف من دية المسلم ، وهذا لا إشكال فيه .
أما استواؤهما في قدر الكفارة فلا دليل فيه على الدية ، لأنها مسألة أخرى .
والأدلة التي ذكرنا دلالتها أنها على النصف من دية المسلم أقوى ، ويؤيدها : أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : " وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل " فمفهوم [ ص: 117 ] قوله " المؤمنة " أن النفس الكافرة ليست كذلك ، على أن المخالف في هذه الإمام أبو حنيفة رحمه الله ، والمقرر في أصوله : أنه لا يعتبر دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كما هو معلوم عنه . ولا يقول بحمل المطلق على المقيد ، فيستدل بإطلاق النفس عن قيد الإيمان في الأدلة الأخرى على شمولها للكافر ، والقول بالفرق بين الكافر المقتول عمدا فتكون ديته كدية المسلم ، وبين المقتول خطأ فتكون على النصف من دية المسلم ، لا نعلم له مستندا من كتاب ولا سنة ، والعلم عند الله تعالى .
وأما دية المجوسي : فأكثر أهل العلم على أنها ثلث خمس دية المسلم ; فهي ثمانمائة درهم ، ونساؤهم على النصف من ذلك .
وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأكثر أهل العلم ; منهم عمر وعثمان ، وابن مسعود رضي الله عنهم ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وإسحاق .
وروي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه قال : ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي .
وقال النخعي ، والشعبي : ديته كدية المسلم ، وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .
والاستدلال على أن دية المجوسي كدية الكتابي بحديث : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " لا يتجه ، لأنا لو فرضنا صلاحية الحديث للاحتجاج ، فالمراد به أخذ الجزية منهم فقط ، بدليل أن نساءهم لا تحل ، وذبائحهم لا تؤكل اه .
وقال ابن قدامة في " المغني " : إن قول من ذكرنا من الصحابة : إن دية المجوسي ثلث خمس دية المسلم ، لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة فصار إجماعا سكوتيا . وقد قدمنا قول من قال : إنه حجة .
وقال بعض أهل العلم : دية المرتد إن قتل قبل الاستتابة كدية المجوسي ، وهو مذهب مالك . وأما الحربيون فلا دية لهم مطلقا . والعلم عند الله تعالى .
الفرع السابع : اعلم أن العلماء اختلفوا في موجب التغليظ في الدية ، وبم تغلظ ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تغلظ بثلاثة أشياء : وهي القتل في الحرم ، وكون المقتول محرما بحج أو عمرة ، أو في الأشهر الحرم ; فتغلظ الدية في كل واحد منها بزيادة ثلثها .
[ ص: 118 ] فمن قتل محرما فعليه دية وثلث ، ومن قتل محرما في الحرم فدية وثلثان ، ومن قتل محرما في الحرم في الشهر الحرام فديتان .
وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، وروي نحوه عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس رضي الله عنهم ; نقله عنهم البيهقي وغيره .
وممن روى عنه هذا القول : سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، والشعبي ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وغيرهم ; كما نقله عنهم صاحب المغني .
وقال أصحاب الشافعي رحمه الله : تغلظ الدية بالحرم ، والأشهر الحرم ، وذي الرحم المحرم ، وفي تغليظها بالإحرام عنهم وجهان .
وصفة التغليظ عند الشافعي : هي أن تجعل دية العمد في الخطأ ، ولا تغلظ الدية عند مالك رحمه الله في قتل الوالد ولده قتلا شبه عمد ; كما فعل المدلجي بأبيه ، والجد والأم عنده كالأب .
وتغليظها عنده : هو تثليثها بكونها ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة في بطونها أولادها ، لا يبالي من أي الأسنان كانت ، ولا يرث الأب عنده في هذه الصورة من دية الولد ولا من ماله شيئا .
وظاهر الأدلة أن القاتل لا يرث مطلقا من دية ولا غيرها ، سواء كان القتل عمدا أو خطأ .
وفرق المالكية في الخطأ بين الدية وغيرها ، فمنعوا ميراثه من الدية دون غيرها من مال التركة . والإطلاق أظهر من هذا التفصيل ، والله أعلم .
وقصة المدلجي : هي ما رواه مالك في الموطأ ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب : أن رجلا من بني مدلج يقال له " قتادة " حذف ابنه بالسيف ; فأصاب ساقه فنزى في جرحه فمات ، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب ، فذكر ذلك له ، فقال له عمر : أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك ، فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة ، وقال : أين أخو المقتول ؟ قال : هاأنذا . قال : خذها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس لقاتل شيء " .
الفرع الثامن : اعلم أن دية المقتول ميراث بين ورثته ; كسائر ما خلفه من تركته .
[ ص: 119 ] ومن الأدلة الدالة على ذلك ، ما روي عن سعيد بن المسيب : أن عمر رضي الله عنه قال : الدية للعاقلة ، لا ترث المرأة من دية زوجها ، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه . ورواه مالك في الموطأ من رواية ابن شهاب عن عمر ، وزاد : قال ابن شهاب : وكان قتلهم أشيم خطأ . وما روي عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه . روي نحوه عن المغيرة بن شعبة وزرارة بن جري . كما ذكره الزرقاني في شرح الموطأ .
ومنها ما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم " رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وقد قدمنا نص هذا الحديث عند النسائي في حديث طويل .
وهذا الحديث قواه ابن عبد البر ، وأعله النسائي ; قاله الشوكاني . وهو معتضد بما تقدم وبما يأتي ، وبإجماع الحجة من أهل العلم على مقتضاه .
ومنها ما رواه البخاري في تاريخه عن قرة بن دعموص النميري قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي ، فقلت : يا رسول الله ، عند هذا دية أبي فمره يعطنيها . وكان قتل في الجاهلية ، فقال : " أعطه دية أبيه " فقلت : هل لأمي فيها حق ؟ قال : " نعم " ، وكانت ديته مائة من الإبل .
وقد ساقه البخاري في التاريخ هكذا : قال قيس بن حفص : أنا الفضيل بن سليمان النميري قال : أنا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري قال : حدثني قرة بن دعموص ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي - إلى آخر الحديث باللفظ الذي ذكرنا - وسكت عليه البخاري رحمه الله ، ورجال إسناده صالحون للاحتجاج ، إلا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري فلم نر من جرحه ولا من عدله .
وذكر له البخاري في تاريخه ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ترجمة ، وذكرا أنه سمع قرة بن دعموص ، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا .
وظاهر هذه الأدلة يقتضي أن دية المقتول تقسم كسائر تركته على فرائض الله ، وهو الظاهر ; سواء كان القتل عمدا أو خطأ ، ولا يخلو ذلك من خلاف .
وروي عن علي رضي الله عنه أنها ميراث كقول الجمهور ، وعنه رواية أخرى : أن [ ص: 120 ] الدية لا يرثها إلا العصبة الذين يعقلون عنه ، وكان هذا هو رأي عمر ، وقد رجع عنه لما أخبره الضحاك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه : أن يورث زوجة أشيم المذكور من دية زوجها .
وقال أبو ثور : هي ميراث ، ولكنها لا تقضي منها ديونه ، ولا تنفذ منها وصاياه . وعن أحمد رواية بذلك .
قال ابن قدامة في " المغني " : وقد ذكر الخرقي فيمن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل وأخذت ديته ; فللموصى له بالثلث ثلث الدية ، في إحدى الروايتين .
والأخرى : ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء .
ومبنى هذا : على أن الدية ملك للميت ، أو على ملك الورثة ابتداء ، وفيه روايتان : إحداهما أنها تحدث على ملك الميت ، لأنها بدل نفسه ، فيكون بدلها له كدية أطرافه المقطوعة منه في الحياة ، ولأنه لو أسقطها عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحا وليس له إسقاط حق الورثة ، ولأنها مال موروث فأشبهت سائر أمواله . والأخرى أنها تحدث على ملك الورثة ابتداء ; لأنها إنما تستحق بعد الموت وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له ، ويخرج عن أن يكون أهلا لذلك ، وإنما يثبت الملك لورثته ابتداء ، ولا أعلم خلافا في أن الميت يجهز منها . اه محل الغرض من كلام ابن قدامة رحمه الله .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر القولين عندي : أنه يقرر ملك الميت لديته عند موته فتورث كسائر أملاكه ; لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم للضحاك في الحديث المذكور بتوريث امرأة أشيم الضبابي من ديته ، والميراث لا يطلق شرعا إلا على ما كان مملوكا للميت ، والله تعالى أعلم .
المسألة السادسة : اختلف العلماء في تعيين ولي المقتول الذي جعل الله له هذا السلطان المذكور في هذه الآية الكريمة في قوله : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا الآية [ 17 \ 33 ] .
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن المراد بالولي في الآية : الورثة من ذوي الأنساب والأسباب ، والرجال والنساء ، والصغار والكبار ; فإن عفا من له ذلك منهم صح عفوه وسقط به القصاص ، وتعينت الدية لمن لم يعف .
وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، والإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي رحمهم الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:57 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (207)
سُورَةُ الإسراء(24)
صـ 121 إلى صـ 125
وقال ابن قدامة في " المغني " : هذا قول أكثر أهل العلم ; منهم عطاء ، والنخعي ، والحكم ، وحماد ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وروي معنى ذلك عن عمر ، وطاوس ، والشعبي ، وقال الحسن ، وقتادة ، والزهري ، وابن شبرمة ، والليث ، والأوزاعي : ليس للنساء عفو ; أي : فهن لا يدخلن عندهم في اسم الولي الذي له السلطان في الآية .
ثم قال ابن قدامة : والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة ، وهو وجه لأصحاب الشافعي .
قال مقيده عفا الله عنه : مذهب مالك في هذه المسألة فيه تفصيل : فالولي الذي له السلطان المذكور في الآية الذي هو استيفاء القصاص أو العفو عنده هو أقرب الورثة العصبة الذكور ، والجد والإخوة في ذلك سواء . وهذا هو معنى قول خليل في مختصره :
والاستيفاء للعاصب كالولاء ، إلا الجد والأخوة فسيان
اه .
وليس للزوجين عنده حق في القصاص ولا العفو ، وكذلك النساء غير الوارثات : كالعمات ، وبنات الإخوة ، وبنات العم .
أما النساء الوارثات : كالبنات ، والأخوات ، والأمهات فلهن القصاص ، وهذا فيما إذا لم يوجد عاصب مساو لهن في الدرجة ، وهذا هو معنى قول خليل في مختصره :
وللنساء إن ورثن ولم يساوهن عاصب
فمفهوم قوله : " إن ورثن " أن غير الوارثات لا حق لهن ، وهو كذلك .
ومفهوم قوله : " ولم يساوهن عاصب " أنهن إن ساواهن عاصب : كبنين ، وبنات ، وإخوة وأخوات ، فلا كلام للإناث مع الذكور . وأما إن كان معهن عاصب غير مساو لهن : كبنات ، وإخوة ; فثالث الأقوال هو مذهب المدونة : أن لكل منهما القصاص ولا يصح العفو عنه إلا باجتماع الجميع ; أعني ولو عفا بعض هؤلاء ، وبعض هؤلاء . وهذا هو معنى قول خليل في مختصره :
ولكل القتل ولا عفو إلا باجتماعهم
; يعني : ولو بعض هؤلاء وبعض هؤلاء .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يقتضي الدليل رجحانه عندي في هذه المسألة : أن الولي في هذه الآية هم الورثة ذكورا كانوا أو إناثا ، ولا مانع من إطلاق الولي على الأنثى ; لأن المراد جنس الولي الشامل لكل من انعقد بينه وبين غيره سبب يجعل كلا منهما يوالي [ ص: 122 ] الآخر ; كقوله تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] ، وقوله : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية [ 8 \ 75 ] .
والدليل على شمول الولي في الآية للوارثات من النساء ولو بالزوجية الحديث الوارد بذلك ، قال أبو داود في سننه : ( باب عفو النساء عن الدم ) : حدثنا داود بن رشيد ، ثنا الوليد عن الأزواعي : أنه سمع حصنا ، أنه سمع أبا سلمة يخبر عن عائشة رضي الله عنها ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول ، وإن كانت امرأة " .
قال أبو داود : بلغني أن عفو النساء في القتل جائز إذا كانت إحدى الأولياء ، وبلغني عن أبي عبيدة في قوله : " ينحجزوا " يكفوا عن القود .
وقال النسائي رحمه الله في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : حدثنا الوليد بن الأوزاعي ، قال : حدثني حصن ، قال : حدثني أبو سلمة ( ح ) . وأنبأنا الحسين بن حريث ، قال : حدثنا الوليد ، قال : حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني حصين : أنه سمع أبا سلمة يحدث عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول ، وإن كانت امرأة " اه .
وهذا الإسناد مقارب ; لأن رجاله صالحون للاحتجاج ، إلا حصنا المذكور فيه ففيه كلام .
فطبقته الأولى عند أبي داود : هي داود بن رشيد الهاشمي مولاهم الخوارزمي نزيل بغداد ، وهو ثقة . وعند النسائي حسين بن حريث ، وإسحاق بن إبراهيم ، وحسين بن حريث الخزاعي مولاهم أبو عمار المروزي ثقة .
والطبقة الثانية عندهما : هي الوليد بن مسلم القرشي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة ، لكنه كثير التدليس والتسوية ، وهو من رجال البخاري ومسلم وباقي الجماعة .
والطبقة الثالثة عندهما : هي الإمام الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن عمرو بن أبي عمرو أبو [ عمرو ] الأوزاعي ، وهو الإمام الفقيه المشهور ، ثقة جليل .
والطبقة الرابعة عندهما : هي حصن المذكور وهو ابن عبد الرحمن ، أو ابن محصن التراغمي أبو حذيفة الدمشقي ، قال فيه ابن حجر في " التقريب " : مقبول . وقال فيه في " تهذيب التهذيب " : قال الدارقطني شيخ يعتبر به ، له عند أبي داود والنسائي حديث [ ص: 123 ] واحد " على المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كانت امرأة " ، قلت : وذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن القطان : لا يعرف حاله ( ا ه ) وتوثيق ابن حبان له لم يعارضه شيء مانع من قبوله ; لأن من اطلع على أنه ثقة حفظ ما لم يحفظه مدع أنه مجهول لا يعرف حاله . وذكر ابن حجر في " تهذيب التهذيب " عن أبي حاتم ويعقوب بن سفيان أنهما قالا : لا نعلم أحدا روى عنه غير الأوزاعي .
والطبقة الخامسة عندهما : أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، وهو ثقة مشهور .
والطبقة السادسة عندهما : عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد رأيت أن ابن حبان رحمه الله ذكر حصنا المذكور في الثقات ، وأن بقية طبقات السند كلها صالح للاحتجاج ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
إذا كان بعض أولياء الدم صغيرا ، أو مجنونا ، أو غائبا ; فهل للبالغ الحاضر العاقل : القصاص قبل قدوم الغائب ، وبلوغ الصغير ، وإفاقة المجنون ؟ أو يجب انتظار قدوم الغائب ، وبلوغ الصغير . . ! إلخ .
فإن عفا الغائب بعد قدومه ، أو الصغير بعد بلوغه مثلا سقط القصاص ووجبت الدية ; في ذلك خلاف مشهور بين أهل العلم .
فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا بد من انتظار بلوغ الصغير ، وقدوم الغائب ، وإفاقة المجنون .
وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد ، قال ابن قدامة : وبهذا قال ابن شبرمة ، والشافعي ، وأبو يوسف ، وإسحاق ، ويروى عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، وعن أحمد رواية أخرى للكبار العقلاء استيفاؤه ; وبه قال حماد ، ومالك ، والأوزاعي ، والليث ، وأبو حنيفة اه محل الغرض من كلام صاحب المغني .
وذكر صاحب المغني أيضا : أنه لا يعلم خلافا في وجوب انتظار قدوم الغائب ، ومنه استبداد الحاضر دونه .
قال مقيده عفا الله عنه : إن كانت الغيبة قريبة فهو كما قال ، وإن كانت بعيدة ففيه [ ص: 124 ] خلاف معروف عند المالكية ، وظاهر المدونة الانتظار ولو بعدت غيبته .
وقال بعض علماء المالكية ، منهم سحنون : لا ينتظر بعيد الغيبة ، وعليه درج خليل بن إسحاق في مختصره في مذهب مالك ، الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى بقوله : وانتظر غائبا لم تبعد غيبته ، لا مطبقا وصغيرا لم يتوقف الثبوت عليه .
وقال ابن قدامة في " المغني " ما نصه : والدليل على أن للصغير والمجنون فيه حقا أربعة أمور : أحدها أنه لو كان منفردا لاستحقه ; ولو نافاه الصغر مع غيره لنافاه منفردا كولاية النكاح . والثاني : أنه لو بلغ لاستحق ، ولو لم يكن مستحقا عند الموت لم يكن مستحقا بعده ; كالرقيق إذا عتق بعد موت أبيه . والثالث : أنه لو صار الأمر إلى المال لاستحق ، ولو لم يكن مستحقا للقصاص لما استحق بدله كالأجنبي . والرابع : أنه لو مات الصغير لاستحقه ورثته ، ولو لم يكن حقا لم يرثه كسائر ما لم يستحقه .
واحتج من قال : إنه لا يلزم انتظار بلوغ الصبي ، ولا إفاقة المجنون المطبق بأمرين :
أحدهما : أن القصاص حق من حقوق القاصر ، إلا أنه لما كان عاجزا عن النظر لنفسه كان غيره يتولى النظر في ذلك كسائر حقوقه ، فإن النظر فيها لغيره ، ولا ينتظر بلوغه في جميع التصرف بالمصلحة في جميع حقوقه ، وأولى من ينوب عنه في القصاص الورثة المشاركون له فيه . وهذا لا يرد عليه شيء من الأمور الأربعة التي ذكرها صاحب المغني ; لأنه يقال فيه بموجبها فيقال فيه : هو مستحق لكنه قاصر في الحال ، فيعمل غيره بالمصلحة في حقه في القصاص كسائر حقوقه ; ولا سيما شريكه الذي يتضرر بتعطيل حقه في القصاص إلى زمن بعيد .
الأمر الثاني : أن الحسن بن علي رضي الله عنه قتل عبد الرحمن بن ملجم المرادي قصاصا بقتله عليا رضي الله عنه ، وبعض أولاد علي إذ ذاك صغار ، ولم ينتظر بقتله بلوغهم ، ولم ينكر عليه ذلك أحد من الصحابة ولا غيرهم ، وقد فعل ذلك بأمر علي رضي الله عنه كما هو مشهور في كتب التاريخ ، ولو كان انتظار بلوغ الصغير واجبا لانتظره .
وأجيب عن هذا من قبل المخالفين بجوابين : أحدهما أن ابن ملجم كافر ; لأنه مستحل دم علي ، ومن استحل دم مثل علي رضي الله عنه فهو كافر ، وإذا كان كافرا فلا حجة في قتله . الثاني : أنه ساع في الأرض بالفساد ، فهو محارب ، والمحارب إذا قتل وجب قتله على كل حال ولو عفا أولياء الدم ; كما قدمناه في سورة " المائدة " وإذن فلا [ ص: 125 ] داعي للانتظار .
قال : البيهقي في السنن الكبرى ما نصه : قال بعض أصحابنا : إنما استبد الحسن بن علي رضي الله عنهما بقتله قبل بلوغ الصغار من ولد علي رضي الله عنه ; لأنه قتله حدا لكفره لا قصاصا .
وقال ابن قدامة في " المغني " : فأما ابن ملجم فقد قيل إنه قتله بكفره ; لأنه قتل عليا مستحلا لدمه ، معتقدا كفره ، متقربا بذلك إلى الله تعالى ، وقيل : قتله لسعيه في الأرض بالفساد وإظهار السلاح ، فيكون كقاطع الطريق إذا قتل ، وقتله متحتم ، وهو إلى الإمام ، والحسن هو الإمام ، ولذلك لم ينتظر الغائبين من الورثة ، ولا خلاف بيننا في وجوب انتظارهم ، وإن قدر أنه قتله قصاصا فقد اتفقنا على خلافه ، فكيف يحتج به بعضنا على بعض . انتهى كلام صاحب المغني .
وقال ابن كثير في تاريخه ما نصه : قال العلماء : ولم ينتظر بقتله بلوغ العباس بن علي ; فإنه كان صغيرا يوم قتل أبوه . قالوا : لأنه كان قتل محاربة لا قصاصا ، والله أعلم اه .
واستدل القائلون بأن ابن ملجم كافر بالحديث الذي رواه علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أشقى الأولين " ؟ قلت : عاقر الناقة . قال : " صدقت . فمن أشقى الآخرين " ؟ قلت : لا علم لي يا رسول الله . قال : " الذي يضربك على هذا - وأشار بيده على يافوخه - فيخضب هذه من هذه - يعني لحيته - من دم رأسه " قال : فكان يقول : وددت أنه قد انبعث أشقاكم " وقد ساق طرق هذا الحديث ابن كثير رحمه الله في تاريخه ، وابن عبد البر في " الاستيعاب " وغيرهما .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي عليه أهل التاريخ والأخبار - والله تعالى أعلم - أن قتل ابن ملجم كان قصاصا لقتله عليا رضي الله عنه ، لا لكفر ولا حرابة ، وعلي رضي الله عنه لم يحكم بكفر الخوارج ، ولما سئل عنهم قال : من الكفر فروا ، فقد ذكر المؤرخون أن عليا رضي الله عنه أمرهم أن يحبسوا ابن ملجم ويحسنوا إساره ، وأنه إن مات قتلوه به قصاصا ، وإن حيي فهو ولي دمه ; كما ذكره ابن جرير ، وابن الأثير ، وابن كثير وغيرهم في تواريخهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:58 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (208)
سُورَةُ الإسراء(25)
صـ 126 إلى صـ 130
وذكره البيهقي في سننه ، وهو المعروف عند الإخباريين ، ولا شك أن ابن ملجم [ ص: 126 ] متأول - قبحه الله - ولكنه تأويل بعيد فاسد ، مورد صاحبه النار ، ولما ضرب عليا رضي الله عنه قال : الحكم لله يا علي ، لا لك ولا لأصحابك ، ومراده أن رضاه بتحكيم الحكمين : أبي موسى ، وعمرو بن العاص ، كفر بالله ; لأن الحكم لله وحده ; لقوله : إن الحكم إلا لله [ 6 \ 57 - 12 \ 40 ] .
ولما أراد أولاد علي رضي الله عنه أن يتشفوا منه فقطعت يداه ورجلاه لم يجزع ، ولا فتر عن الذكر ، ثم كحلت عيناه وهو في ذلك يذكر الله ، وقرأ سورة : اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] إلى آخرها ، وإن عينيه لتسيلان على خديه ، ثم حاولوا لسانه ليقطعوه فجزع من ذلك جزعا شديدا ، فقيل له في ذلك ؟ فقال : إني أخاف أن أمكث فواقا لا أذكر الله ( ا ه ) ذكره ابن كثير وغيره .
ولأجل هذا قال عمران بن حطان السدوسي يمدح ابن ملجم - قبحه الله - في قتله أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه :
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
وجزى الله خيرا الشاعر الذي يقول في الرد عليه :
قل لابن ملجم والأقدار غالبة هدمت ويلك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم وأول الناس إسلاما وإيمانا
وأعلم الناس بالقرآن ثم بما سن الرسول لنا شرعا وتبيانا
صهر النبي ومولاه وناصره أضحت مناقبه نورا وبرهانا
وكان منه على رغم الحسود له مكان هارون من موسى بن عمرانا
ذكرت قاتله والدمع منحدر فقلت سبحان رب العرش سبحانا
إني لأحسبه ما كان من بشر يخشى المعاد ولكن كان شيطانا
أشقى مراد إذا عدت قبائلها وأخسر الناس عند الله ميزانا
كعاقر الناقة الأولى التي جلبت على ثمود بأرض الحجر خسرانا
قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها قبل المنية أزمانا فأزمانا
فلا عفا الله عنه ما تحمله ولا سقى قبر عمران بن حطانا
لقوله في شقي ظل مجترما ونال ما ناله ظلما وعدوانا
[ ص: 127 ] " يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
"
بل ضربة من غوي أوردته لظى فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا
كأنه لم يرد قصدا بضربته إلا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
وبما ذكرنا تعلم أن قتل الحسن بن علي رضوان الله عنه لابن ملجم قبل بلوغ الصغار من أولاد علي يقوي حجة من قال بعدم انتظار بلوغ الصغير .
وحجة من قال أيضا بكفره قوية ; للحديث الدال على أنه أشقى الآخرين ، مقرونا بقاتل ناقة صالح المذكور في قوله : إذ انبعث أشقاها ، وذلك يدل على كفره ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة : اعلم أن هذا القتل ظلما ، الذي جعل الله بسببه هذا السلطان والنصر المذكورين في هذه الآية الكريمة ، التي هي قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا الآية [ 17 \ 33 ] ، يثبت بواحد من ثلاثة أشياء : اثنان منها متفق عليهما ، وواحد مختلف فيه .
أما الاثنان المتفق على ثبوته بهما : فهما الإقرار بالقتل ، والبينة الشاهدة عليه .
وأما الثالث المختلف فيه : فهو أيمان القسامة مع وجود اللوث ، وهذه أدلة ذلك كله .
أما الإقرار بالقتل : فقد دلت أدلة على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة به . قال البخاري في صحيحه : " باب إذا أقر بالقتل مرة قتل به " حدثني إسحاق ، أخبرنا حبان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، حدثنا أنس بن مالك : أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين ، فقيل لها : من فعل بك هذا ؟ أفلان ؟ أفلان ؟ حتى سمي اليهودي . فأومأت برأسها ، فجيء باليهودي فاعترف ، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة ، وقد قال همام : بحجرين .
وقد قال البخاري أيضا : ( باب سؤال القاتل حتى يقر ) ، ثم ساق حديث أنس هذا ، وقال فيه : فلم يزل به حتى أقر فرض رأسه بالحجارة ، وهو دليل صحيح واضح على لزوم السلطان المذكور في الآية الكريمة بإقرار القاتل ، وحديث أنس هذا أخرجه أيضا مسلم ، وأصحاب السنن ، والإمام أحمد .
ومن الأدلة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا عبيد الله بن معاذ [ ص: 128 ] العنبري ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب : أن علقمة بن وائل حدثه أن أباه حدثه ، قال : إني لقاعد مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة ، فقال : يا رسول الله ، هذا قتل أخي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقتلته " ؟ فقال : إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة . قال : نعم قتلته . قال : " كيف قتلته ؟ " قال : كنت أنا وهو نختبط من شجرة ، فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هل لك من شيء تؤديه عن نفسك " ؟ قال : ما لي مال إلا كسائي وفأسي . قال : " فترى قومك يشترونك " قال : أنا أهون على قومي من ذاك . فرمى إليه بنسعته ، وقال : " دونك صاحبك . . " الحديث . وفيه الدلالة الواضحة على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بالإقرار .
ومن الأدلة على ذلك إجماع المسلمين عليه ، وسيأتي إن شاء الله إيضاح إلزام الإنسان ما أقر به على نفسه في سورة " القيامة " .
وأما البينة الشاهدة بالقتل عمدا عدوانا : فقد دل الدليل أيضا على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بها ، قال أبو داود في سننه : حدثنا الحسن بن علي بن راشد ، أخبرنا هشيم ، عن أبي حيان التيمي ، ثنا عباية بن رفاعة ، عن رافع بن خديج ، قال : أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر ; فانطلق أولياؤه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له ، فقال : " لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم " ؟ قالوا : يا رسول الله ، لم يكن ثم أحد من المسلمين ، وإنما هم يهود ، وقد يجترئون على أعظم من هذا ، قال : " فاختاروا منهم خمسين ، فاستحلفوهم فأبوا . فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده اه " .
فقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " لكم شاهدان على قتل صاحبكم " ، فيه دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية بشهادة شاهدين على القتل .
وهذا الحديث سكت عليه أبو داود ، والمنذري ، ومعلوم أن رجال هذا الإسناد كلهم رجال الصحيح ، إلا الحسن بن علي بن راشد وقد وثق . وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق رمي بشيء من التدليس .
وقال النسائي في سننه : أخبرنا محمد بن معمر ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا عبيد الله بن الأخنس ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته " ، قال : يا رسول الله ، ومن أين أصيب شاهدين ، وإنما أصبح قتيلا [ ص: 129 ] على أبوابهم ، قال : " فتحلف خمسين قسامة " ، قال : يا رسول الله ، وكيف أحلف على ما لا أعلم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فتستحلف منهم خمسين قسامة " ، فقال : يا رسول الله ، كيف نستحلفهم وهم اليهود ، فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته عليهم وأعانهم بنصفها . اهـ .
فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته " دليل واضح على ثبوت السلطان المذكور في الآية الكريمة بشهادة شاهدين ، وأقل درجات هذا الحديث الحسن ، وقال فيه ابن حجر في " الفتح " : هذا السند صحيح حسن .
ومن الأدلة الدالة على ذلك إجماع المسلمين على ثبوت القصاص بشهادة عدلين على القتل عمدا عدوانا .
وقد قدمنا قول من قال من العلماء : إن أخبار الآحاد تعتضد بموافقة الإجماع لها حتى تصير قطعية كالمتواتر ، لاعتضادها بالمعصوم وهو إجماع المسلمين .
وأكثر أهل الأصول يقولون : إن اعتضاد خبر الآحاد بالإجماع لا يصيره قطعيا ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في مبحث أخبار الآحاد :
ولا يفيد القطع ما يوافق ال إجماع والبعض بقطع ينطق وبعضهم يفيد حيث عولا
عليه وأنفه إذا ما قد خلا مع دواعي رده من مبطل
كما يدل لخلافة علي
وقوله : وأنفه إذا ما قد خلا . . إلخ ; مسألة أخرى غير التي نحن بصددها ، وإنما ذكرناها لارتباط بعض الأبيات ببعض .
وأما أيمان القسامة مع وجود اللوث ، فقد قال بعض أهل العلم بوجوب القصاص بها ، وخالف في ذلك بعضهم .
فممن قال بوجوب القود بالقسامة : مالك وأصحابه ، وأحمد ، وهو أحد قولي الشافعي ، وروي عن ابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، والظاهر أن عمر بن عبد العزيز رجع عنه .
وبه قال أبو ثور ، وابن المنذر ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، وأبي الزناد ، والليث ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وداود .
وقضى بالقتل بالقسامة عبد الملك بن مروان ، وأبوه مروان ; وقال أبو الزناد : قلنا [ ص: 130 ] بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون ، إني لأرى أنهم ألف رجل ، فما اختلف منهم اثنان .
وقال ابن حجر ( في فتح الباري ) : إنما نقل ذلك أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت ; كما أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من رواية عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه ، وإلا فأبو الزناد لا يثبت أنه رأى عشرين من الصحابة فضلا عن ألف .
وممن قال بأن القسامة تجب بها الدية ولا يجب بها القود : الشافعي في أصح قوليه ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم . وهو مروي عن الحسن البصري ، والشعبي ، والنخعي ، وعثمان البتي ، والحسن بن صالح ، وغيرهم . وعن معاوية : القتل بها أيضا .
وذهبت جماعة أخرى إلى أن القسامة لا يثبت بها حكم من قصاص ولا دية ، وهذا مذهب الحكم بن عتيبة ، وأبي قلابة ، وسالم بن عبد الله ، وسليمان بن يسار ، وقتادة ، ومسلم بن خالد ، وإبراهيم بن علية ، وإليه ينحو البخاري ، وروي عن عمر بن عبد العزيز باختلاف عنه .
وروي عن عبد الملك بن مروان أنه ندم على قتله رجلا بالقسامة ، ومحا أسماء الذين حلفوا أيمانهم من الديوان ، وسيرهم إلى الشام ، قاله البخاري في صحيحه .
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في القسامة فدونك أدلتهم على أقوالهم في هذه المسألة :
أما الذين قالوا بالقصاص بالقسامة فاستدلوا على ذلك بما ثبت في بعض روايات حديث سهل بن أبي حثمة في صحيح مسلم وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قتل عبد الله بن سهل الأنصاري بخيبر ، مخاطبا لأولياء المقتول : " يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته . . " الحديث . فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت في صحيح مسلم وغيره " فيدفع برمته " معناه : أنه يسلم لهم ليقتلوه بصاحبهم . وهو نص صحيح صريح في القود بالقسامة .
ومن أدلتهم على ذلك حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عند النسائي الذي قدمناه قريبا ، وقد قدمنا عن ابن حجر أنه قال فيه : صحيح حسن . فقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه : " أقم شاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته " صريح أيضا في القود بالقسامة . وادعاء أن معنى دفعه إليهم برمته : أي ليأخذوا منه الدية ، بعيد جدا كما ترى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 02:59 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (209)
سُورَةُ الإسراء(26)
صـ 131 إلى صـ 135
ومن أدلتهم ما ثبت في رواية متفق عليها في حديث سهل المذكور : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأولياء المقتول : " تحلفون خمسين يمينا وتستحقون قاتلكم . أو : صاحبكم . . " الحديث ، قالوا : فعلى أن الرواية " قاتلكم " فهي صريح في القود بالقسامة . وعلى أنها " صاحبكم " فهي محتملة لذلك احتمالا قويا . وأجيب من جهة المخالف بأن هذه الرواية لا يصح الاحتجاج بها للشك في اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولو فرضنا أن لفظ الحديث في نفس الأمر " صاحبكم " لاحتمل أن يكون المراد به المقتول ، وأن المعنى : تستحقون ديته . والاحتمال المساوي يبطل الاستدلال كما هو معروف في الأصول ; لأن مساواة الاحتمالين يصير بها اللفظ مجملا ، والمجمل يجب التوقف عنه حتى يرد دليل مبين للمراد منه .
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند الإمام أحمد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم نسلمه " .
ومن أدلتهم ما جاء في رواية عند مسلم وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم " قالوا : معنى " دم صاحبكم " قتل القاتل .
وأجيب من جهة المخالف باحتمال أن المراد " بدم صاحبكم " الدية ، وهو احتمال قوي أيضا ; لأن العرب تطلق الدم على الدية ، ومنه قوله :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
ومن أدلتهم ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد ، قالا : حدثنا الوليد ( ح ) ، وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان ، أخبرنا الوليد ، عن أبي عمرو ، عن عمرو بن شعيب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاة على شط لية البحرة ، قال : القاتل والمقتول منهم ، وهذا لفظ محمود : ببحرة ، أقامه محمود وحده على شط لية اهـ . وانقطاع سند هذا الحديث واضح في قوله : " عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كما ترى . وقد ساق البيهقي في السنن الكبرى حديث أبي داود هذا ، وقال : هذا منقطع ، ثم قال : وروى أبو داود أيضا في المراسيل عن موسى بن إسماعيل ، عن حماد ، عن قتادة ، وعامر الأحول عن أبي المغيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقاد بالقسامة الطائف " ، وهو أيضا منقطع . وروى البيهقي في سننه عن أبي الزناد قال : أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت ، أن رجلا من الأنصار قتل وهو سكران [ ص: 132 ] رجلا ضربه بشويق ، ولم يكن على ذلك بينة قاطعة إلا لطخ أو شبيه ذلك ، وفي الناس يومئذ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن فقهاء الناس ما لا يحصى ، وما اختلف اثنان منهم أن يحلف ولاة المقتول ويقتلوا أو يستحيوا ، فحلفوا خمسين يمينا وقتلوا ، وكانوا يخبرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالقسامة ، ويرونها للذي يأتي به من اللطخ أو الشبهة أقوى مما يأتي به خصمه ، ورأوا ذلك في الصهيبي حين قتله الحاطبيون وفي غيره . ورواه ابن وهب عن أبي الزناد وزاد فيه : أن معاوية كتب إلى سعيد بن العاص : إن كان ما ذكرنا له حقا أن يحلفنا على القاتل ثم يسلمه إلينا .
وقال البيهقي في سننه أيضا : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا بحر بن نصر ، ثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد : أن هشام بن عروة أخبره : أن رجلا من آل حاطب بن أبي بلتعة كانت بينه وبين رجل من آل صهيب منازعة . . . فذكر الحديث في قتله ، قال : فركب يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب إلى عبد الملك بن مروان في ذلك ، فقضى بالقسامة على ستة نفر من آل حاطب ، فثنى عليهم الأيمان ، فطلب آل حاطب أن يحلفوا على اثنين ويقتلوهما ، فأبى عبد الملك إلا أن يحلفوا على واحد فيقتلوه ، فحلفوا على الصهيبي فقتلوه . قال هشام : فلم ينكر ذلك عروة ، ورأى أن قد أصيب فيه الحق ، وروينا فيه عن الزهري وربيعة .
ويذكر عن ابن أبي مليكة عن عمر بن عبد العزيز وابن الزبير : أنهما أقادا بالقسامة .
ويذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه رجع عن ذلك ، وقال : إن وجد أصحابه بينة ، وإلا فلا تظلم الناس ، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة . انتهى كلام البيهقي رحمه الله .
هذه هي أدلة من أوجب القود بالقسامة .
وأما حجج من قال : لا يجب بها إلا الدية فمنها ما ثبت في بعض روايات حديث سهل المذكور عند مسلم وغيره :
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إما أن يدوا صاحبكم ، وإما أن يؤذنوا بحرب " .
قال النووي في شرح مسلم : معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم ، فإما أن يدوا صاحبكم - أي : يدفعوا إليكم ديته - وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا ، فينتقض عهدهم ، ويصيرون حربا لنا .
وفيه دليل لمن يقول : الواجب بالقسامة الدية دون القصاص . اهـ كلام النووي ، [ ص: 133 ] رحمه الله .
ومنها ما ثبت في بعض روايات الحديث المذكور في صحيح البخاري وغيره : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم " ، قالوا : هذه الرواية الثابتة في صحيح البخاري صريحة في أن المستحق بأيمان القسامة إنما هو الدية لا القصاص .
ومن أدلتهم أيضا ما ذكره الحافظ ( في فتح الباري ) ، قال : وتمسك من قال : لا يجب فيها إلا الدية بما أخرجه الثوري في جامعه ، وابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور بسند صحيح إلى الشعبي ، قال : وجد قتيل بين حيين من العرب ، فقال عمر : قيسوا ما بينهما فأيهما وجدتموه إليه أقرب فأحلفوهم خمسين يمينا ، وأغرموهم الدية . وأخرجه الشافعي عن سفيان بن عيينة ، عن منصور ، عن الشعبي : أن عمر كتب في قتيل وجد بين خيران ووداعة أن يقاس ما بين القريتين ; فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منها خمسون رجلا حتى يوافوه في مكة ، فأدخلهم الحجر فأحلفهم ، ثم قضى عليهم الدية ، فقال : " حقنت بأيمانكم دماءكم ، ولا يطل دم رجل مسلم " .
قال الشافعي : إنما أخذه الشعبي عن الحارث الأعور ، والحارث غير مقبول . انتهى . وله شاهد مرفوع من حديث أبي سعيد عند أحمد : أن قتيلا وجد بين حيين فأمر النبي صلى الله عليه وسلم " أن يقاس إلى أيهما أقرب فألقى ديته على الأقرب " ، ولكن سنده ضعيف .
وقال عبد الرزاق في مصنفه : قلت لعبد الله بن عمر العمري : أعلمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد بالقسامة ؟ قال : لا . قلت : فأبو بكر ؟ قال : لا . قلت : فعمر ؟ قال : لا . قلت : فلم تجترئون عليها ؟ فسكت .
وأخرج البيهقي من طريق القاسم بن عبد الرحمن : أن عمر قال في القسامة : توجب العقل ولا تسقط الدم . انتهى كلام ابن حجر رحمه الله .
فهذه هي أدلة من قال : إن القسامة توجب الدية ولا توجب القصاص .
وأما حجة من قال : إن القسامة لا يلزم بها حكم ، فهي أن الذين يحلفون أيمان القسامة إنما يحلفون على شيء لم يحضروه ، ولم يعلموا أحق هو أم باطل ، وحلف الإنسان على شيء لم يره دليل على أنه كاذب .
قال البخاري في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم الأسدي ، حدثنا الحجاج بن أبي عثمان ، حدثنا أبو رجاء من آل أبي قلابة ، حدثني أبو [ ص: 134 ] قلابة : أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ، ثم أذن لهم فدخلوا ، فقال : ما تقولون في القسامة ؟ قالوا : نقول القسامة القود بها حق ، وقد أقادت بها الخلفاء . قال لي : ما تقول يا أبا قلابة ؟ ونصبني للناس . فقلت : يا أمير المؤمنين ، عندك رءوس الأجناد وأشراف العرب ، أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى لم يروه ، أكنت ترجمه ؟ قال : لا . قلت : أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل بحمص أنه سرق ، أكنت تقطعه ولم يروه ؟ قال : لا . قلت : فوالله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا قط إلا في إحدى ثلاث خصال : رجل قتل بجريرة نفسه فقتل ، أو رجل زنى بعد إحصان ، أو رجل حارب الله ورسوله وارتد عن الإسلام . . . إلى آخر حديثه .
ومراد أبي قلابة واضح ، وهو أنه كيف يقتل بأيمان قوم يحلفون على شيء لم يروه ولم يحضروه .
هذا هو حاصل كلام أهل العلم في القود بالقسامة ، وهذه حججهم .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال عندي دليلا - القود بالقسامة ; لأن الرواية الصحيحة التي قدمنا فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنهم إن حلفوا أيمان القسامة دفع القاتل برمته إليهم " ، وهذا معناه القتل بالقسامة كما لا يخفى . ولم يثبت ما يعارض هذا . والقسامة أصل وردت به السنة ، فلا يصح قياسه على غيره من رجم أو قطع ، كما ذهب إليه أبو قلابة في كلامه المار آنفا ; لأن القسامة أصل من أصول الشرع مستقل بنفسه ، شرع لحياة الناس وردع المعتدين ، ولم تمكن فيه أولياء المقتول من أيمان القسامة إلا مع حصول لوث يغلب على الظن به صدقهم في ذلك .
تنبيه
اعلم أن رواية سعيد بن عبيد ، عن بشير بن يسار ، عن سهل بن أبي حثمة التي فيها : أن النبي صلى الله عليه وسلم " لما سأل أولياء المقتول هل لهم بينة " وأخبروه بأنهم ليس لهم بينة ، قال : " يحلفون " يعني اليهود المدعى عليهم ، وليس فيها ذكر حلف أولياء المقتول أصلا - لا دليل فيها لمن نفى القود بالقسامة ; لأن سعيد بن عبيد وهم فيها ، فأسقط من السياق تبرئة المدعين باليمين ، لكونه لم يذكر في روايته رد اليمين . ورواه يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار ، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض الأيمان أولا على أولياء المقتول ، فلما أبوا عرض عليهم رد الأيمان على المدعى عليهم . فاشتملت رواية يحيى بن سعيد على زيادة [ ص: 135 ] من ثقة حافظ فوجب قبولها . وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية سعيد بن عبيد ( في باب القسامة ) وذكر رواية يحيى بن سعيد ( في باب الموادعة والمصالحة مع المشركين ) وفيها : " تحلفون وتستحقون قاتلكم " أو صاحبكم . . . الحديث . والخطاب في قوله " تحلفون وتستحقون " لأولياء المقتول .
وجزم بما ذكرنا من تقديم رواية يحيى بن سعيد المذكورة على رواية سعيد بن عبيد - ابن حجر في الفتح وغير واحد ، لأنها زيادة من ثقة حافظ لم يعارضها غيرها فيجب قبولها ; كما هو مقرر في علم الحديث وعلم الأصول .
وقال القرطبي في تفسيره في الكلام على قوله تعالى : فقلنا اضربوه ببعضها الآية [ 2 \ 73 ] ، وقد أسند حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالمدعين - يحيى بن سعيد ، وابن عيينة ، وحماد بن زيد ، وعبد الوهاب الثقفي ، وعيسى بن حماد ، وبشر بن المفضل ، فهؤلاء سبعة . وإن كان أرسله مالك ، فقد وصله جماعة الحفاظ ، وهو أصح من حديث سعيد بن عبيد .
وقال مالك رحمه الله ( في الموطأ ) بعد أن ساق رواية يحيى بن سعيد المذكورة : الأمر المجتمع عليه عندنا ، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة ، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث : أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون . اهـ محل الغرض منه .
واعلم أن العلماء أجمعوا على أن القسامة يشترط لها لوث ، ولكنهم اختلفوا في تعيين اللوث الذي تحلف معه أيمان القسامة ، فذهب مالك رحمه الله إلى أنه أحد أمرين :
الأول : أن يقول المقتول : دمي عند فلان . وهل يكفي شاهد واحد على قوله ذلك ، أو لا بد من اثنين ؟ خلاف عندهم .
والثاني : أن تشهد بذلك بينة لا يثبت بها القتل كاثنين غير عدلين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2021-12-26, 03:00 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (210)
سُورَةُ الإسراء(27)
صـ 136 إلى صـ 140
قال مالك في الموطأ : الأمر المجتمع عليه عندنا ، والذي سمعته ممن أرضى في القسامة ، والذي اجتمعت عليه الأئمة في القديم والحديث أن يبدأ بالأيمان المدعون في القسامة فيحلفون ، وأن القسامة لا تجب إلا بأحد أمرين : إما أن يقول المقتول دمي عند فلان ، أو يأتي ولاة الدم بلوث من بينة وإن لم تكن قاطعة على الذي يدعى عليه الدم ، فهذا يوجب القسامة لمدعي الدم على من ادعوه عليه ، ولا تجب القسامة عندنا إلا بأحد هذين [ ص: 136 ] الوجهين . اهـ محل الغرض منه ، هكذا قال في الموطأ ، وستأتي زيادة عليه إن شاء الله .
واعلم أن كثيرا من أهل العلم أنكروا على مالك رحمه الله إيجابه القسامة بقول المقتول : قتلني فلان .
قالوا : هذا قتل مؤمن بالأيمان على دعوى مجردة .
واحتج مالك رحمه الله بأمرين :
الأول : أن المعروف من طبع الناس عند حضور الموت : الإنابة والتوبة والندم على ما سلف من العمل السيئ ، وقد دلت على ذلك آيات قرآنية ; كقوله : وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين [ 63 \ 10 ] ، وقوله : حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن [ 4 \ 18 ] ، وقوله : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين [ 40 \ 84 ] إلى غير ذلك من الآيات .
فهذا معهود من طبع الإنسان ، ولا يعلم من عادته أن يدع قاتله ويعدل إلى غيره ، وما خرج عن هذا نادر في الناس لا حكم له .
الأمر الثاني : أن قصة قتيل بني إسرائيل تدل على اعتبار قول المقتول : دمي عند فلان .
فقد استدل مالك بقصة القتيل المذكور على صحة القول بالقسامة بقوله : قتلني فلان ، أو : دمي عند فلان ، في رواية ابن وهب وابن القاسم .
ورد المخالفون هذا الاستدلال بأن إحياء القتيل معجزة لنبي الله موسى ، وقد أخبر الله تعالى أنه يحييه ، وذلك يتضمن الإخبار بقاتله خبرا جازما لا يدخله احتمال ، فافترقا .
ورد ابن العربي المالكي هذا الاعتراض بأن المعجزة إنما كانت في إحياء المقتول ، فلما صار حيا كان كلامه كسائر كلام الناس كلهم في القبول والرد .
قال : وهذا فن دقيق من العلم لم يتفطن له إلا مالك ، وليس في القرآن أنه إذا أخبر وجب صدقه ، فلعله أمرهم بالقسامة معه . اهـ كلام ابن العربي . وهو غير ظاهر عندي ; لأن سياق القرآن يقتضي أن القتيل إذا ضرب ببعض البقرة وحيي أخبرهم بقاتله ، فانقطع بذلك النزاع المذكور في قوله تعالى : وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها [ 2 \ 72 ] . فالغرض الأساسي من ذبح البقرة قطع النزاع بمعرفة القاتل بإخبار المقتول إذا ضرب ببعضها فحيي ، والله تعالى أعلم . والشاهد العدل لوث عند مالك في رواية ابن القاسم ، وروى أشهب عن مالك : أنه [ ص: 137 ] يقسم مع الشاهد غير العدل ومع المرأة ، وروى ابن وهب : أن شهادة النساء لوث . وذكر محمد عن ابن القاسم : أن شهادة المرأتين لوث ، دون شهادة المرأة الواحدة .
وقال القاضي أبو بكر بن العربي : اختلف في اللوث اختلافا كثيرا . ومشهور مذهب مالك : أنه الشاهد العدل . وقال محمد : هو أحب إلي ، قال : وأخذ به ابن القاسم وابن عبد الحكم .
وممن أوجب القسامة بقوله : دمي عند فلان : الليث بن سعد ، وروي عن عبد الملك بن مروان .
والذين قالوا بالقسامة بقول المقتول : دمي عند فلان ، منهم من يقول : يشترط في ذلك أن يكون به جراح ، ومنهم من أطلق .
والذي به الحكم وعليه العمل عند المالكية : أنه لا بد في ذلك من أثر جرح أو ضرب بالمقتول ، ولا يقبل قوله بدون وجود أثر الضرب .
واعلم أنه بقيت صورتان من صور القسامة عند مالك .
الأولى : أن يشهد عدلان بالضرب ، ثم يعيش المضروب بعده أياما ، ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة . وبه قال الليث أيضا .
وقال الشافعي : يجب في هذه الصورة القصاص بتلك الشهادة على الضرب ، وهو مروي أيضا عن أبي حنيفة .
الثانية : أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل ، وعليه أثر الدم مثلا ، ولا يوجد غيره فتشرع القسامة عند مالك . وبه قال الشافعي . ويلحق بهذا أن تفترق جماعة عن قتيل ، وفي رواية عن مالك في القتيل يوجد بين طائفتين مقتتلتين : أن القسامة على الطائفة التي ليس منها القتيل إن كان من إحدى الطائفتين .
أما إن كان من غيرهما فالقسامة عليهما ، والجمهور على أن القسامة عليهما معا مطلقا . قاله ابن حجر في الفتح .
وأما اللوث الذي تجب به القسامة عند الإمام أبي حنيفة ، فهو أن يوجد قتيل في محلة أو قبيلة لم يدر قاتله ، فيحلف خمسون رجلا من أهل تلك المحلة التي وجد بها القتيل يتخيرهم الولي : ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا ، ثم إذا حلفوا غرم أهل المحلة الدية ، ولا يحلف الولي ، وليس في مذهب أبي حنيفة رحمه الله قسامة إلا بهذه الصورة .
وممن قال بأن وجود القتيل بمحلة لوث يوجب القسامة : الثوري والأوزاعي . [ ص: 138 ] وشرط هذا عند القائلين به إلا الحنفية : أن يوجد بالقتيل أثر . وجمهور أهل العلم على أن وجود القتيل بمحلة لا يوجب القسامة ، بل يكون هدرا ; لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة لتلصق بهم التهمة ، وهذا ما لم يكونوا أعداء للمقتول ولم يخالطهم غيرهم وإلا وجبت القسامة ; كقصة اليهود مع الأنصاري .
وأما الشافعي رحمه الله ، فإن القسامة تجب عنده بشهادة من لا يثبت القتل بشهادته ; كالواحد أو جماعة غير عدول . وكذلك تجب عنده بوجود المقتول يتشحط في دمه ، وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل وعليه أثر الدم مثلا ، ولا يوجد غيره ، ويلحق به افتراق الجماعة عن قتيل .
وقد قدمنا قول الجمهور في القتيل يوجد بين الطائفتين المقتتلتين ، والذي يظهر لي أنه إن كان من إحدى الطائفتين المقتتلتين : أن القسامة فيه تكون على الطائفة الأخرى دون طائفته التي هو منها ، وكذلك تجب عنده فيما كان كقصة اليهودي مع الأنصاري .
وأما الإمام أحمد ، فاللوث الذي تجب به القسامة عنده ، فيه روايتان .
الأولى : أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه ، كنحو ما كان بين الأنصار واليهود ، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب ، وما جرى مجرى ذلك . ولا يشترط عنده على الصحيح ألا يخالطهم غيرهم ، نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنأ . واشترط القاضي ألا يخالطهم غيرهم كمذهب الشافعي ; قاله في المغني .
والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله أن اللوث هو ما يغلب به على الظن صدق المدعي ، وذلك من وجوه :
أحدها : العداوة المذكورة .
والثاني : أن يتفرق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثا في حق كل واحد منهم ، فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه ، ذكره القاضي ، وهو مذهب الشافعي .
والثالث : أن يوجد المقتول ويوجد بقربه رجل معه سكين أو سيف ملطخ بالدم ، ولا يوجد غيره .
الرابع : أن تقتتل فئتان فيفترقوا عن قتيل من إحداهما ، فاللوث على الأخرى . [ ص: 139 ] ذكره القاضي ، فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضا ، فاللوث على طائفة القتيل ، وهذا قول الشافعي . وروي عن أحمد : أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه ، وهذا قول مالك . وقال ابن أبي ليلى : على الفريقين جميعا ، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه ، وقد قدمنا عن ابن حجر أن هذا قول الجمهور .
الخامس : أن يشهد بالقتل عبيد ونساء ; فعن أحمد هو لوث ، لأنه يغلب على الظن صدق المدعي ، وعنه : ليس بلوث ، لأنها شهادة مردودة فلم يكن لها أثر .
فأما القتيل الذي يوجد في الزحام كالذي يموت من الزحام يوم الجمعة أو عند الجمرة ، فظاهر كلام أحمد أن ذلك ليس بلوث ، فإنه قال في من مات بالزحام يوم الجمعة : ديته في بيت المال . وهذا قول إسحاق ، وروي عن عمر وعلي ، فإن سعيدا روى في سننه عن إبراهيم قال : قتل رجل في زحام الناس بعرفة . فجاء أهله إلى عمر ، فقال : بينتكم على من قتله . فقال علي : يا أمير المؤمنين ، لا يطل دم امرئ مسلم ، إن علمت قاتله وإلا فأعطهم ديته من بيت المال . انتهى من المغني .
وقد قال ابن حجر في الفتح ( في باب إذا مات في الزحام أو قتل به ) في الكلام على قتل المسلمين يوم أحد اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما ما نصه : وحجته ( يعني إعطاء ديته من بيت المال ) ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة ، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة : أن والد حذيفة قتل يوم أحد ، قتله بعض المسلمين يظن أنه من المشركين ، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد تقدم له شاهد مرسل أيضا ( في باب العفو عن الخطأ ) وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور : أن رجلا زحم يوم الجمعة فمات ، فوداه علي من بيت المال .
وفي المسألة مذاهب أخرى ( منها ) قول الحسن البصري : أن ديته تجب على جميع من حضر ، وهو أخص من الذي قبله . وتوجيهه : أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم . ( ومنها ) قول الشافعي ومن تبعه : أنه يقال لوليه ادع على من شئت واحلف ، فإن حلفت استحققت الدية ، وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة . وتوجيهه : أن الدم لا يجب إلا بالطلب .
( ومنها ) قول مالك : دمه هدر . وتوجيهه : أنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد . وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب ( في باب العفو عن الخطأ ) انتهى [ ص: 140 ] كلام ابن حجر رحمه الله .
والترجيح السابق الذي أشار له هو قوله في قول حذيفة رضي الله عنه مخاطبا للمسلمين الذين قتلوا أباه خطأ : " غفر الله لكم " استدل به من قال : إن ديته وجبت على من حضر ; لأن معنى قوله : " غفر الله لكم " ، عفوت عنكم ، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق أن يطالب به . انتهى محل الغرض منه . فكأن ابن حجر يميل إلى ترجيح قول الحسن البصري رحمه الله .
قال مقيده عفا الله عنه : أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به : أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم ; لأن جانبهم يترجح بذلك فيحلفون معه ، وقد تقرر في الأصول " أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن " وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شروط الراوي :
بغالب الظن يدور المعتبر فاعتبر الإسلام كل من غبر
، إلخ
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:40 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (211)
سُورَةُ الإسراء(28)
صـ 141 إلى صـ 145
فروع تتعلق بهذه المسألة
الفرع الأول : لا يحلف النساء ولا الصبيان في القسامة ، وإنما يحلف فيها الرجال . وبهذا قال أبو حنيفة ، وأحمد ، والثوري ، والأوزاعي ، وربيعة ، والليث ، ووافقهم مالك في قسامة العمد ، وأجاز حلف النساء الوارثات في قسامة الخطإ خاصة . وأما الصبي فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يحلف أيمان القسامة . وقال الشافعي : يحلف في القسامة كل وارث بالغ ذكرا كان أو أنثى ، عمدا كان أو خطأ .
واحتج القائلون بأنه لا يحلف إلا الرجال بأن في بعض روايات الحديث في القسامة يقسم خمسون رجلا منكم . قالوا : ويفهم منه أن غير الرجال لا يقسم .
واحتج الشافعي ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم : " تحلفون خمسين يمينا فتستحقون دم صاحبكم " ، فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص ، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئا ، فدل على أن المراد حلف من يستحق الدية .
وأجاب الشافعية عن حجة الأولين بما قاله النووي في شرح مسلم ، فإنه قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم : " يقسم خمسون منكم على رجل منهم " ما نصه : هذا مما يجب تأويله ; لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة . وتأويله عند أصحابنا : أن معناه يؤخذ منكم خمسون يمينا ، والحالف هم الورثة ، فلا يحلف أحد من [ ص: 141 ] الأقارب غير الورثة ، يحلف كل الورثة ذكورا كانوا أو إناثا ، سواء كان القتل عمدا أو خطأ ، هذا مذهب الشافعي ، وبه قال أبو ثور وابن المنذر . ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ ، وأما في العمد فقال : يحلف الأقارب خمسين يمينا ، ولا تحلف النساء ولا الصبيان . ووافقه ربيعة والليث ، والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر . انتهى الغرض من كلام النووي رحمه الله .
ومعلوم أن هذا التأويل الذي أولوا به الحديث بعيد من ظاهر اللفظ ، ولا سيما على الرواية التي تصرح بتمييز الخمسين بالرجل عند أبي داود وغيره .
الفرع الثاني : قد علمت أن المبدأ بأيمان القسامة أولياء الدم على التحقيق كما تقدم إيضاحه ; فإن حلفوا استحقوا القود أو الدية على الخلاف المتقدم ، وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى عليهم ; فإن حلفوها برئوا عند الجمهور ، وهو الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم : " فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم " أي يبرءون منكم بذلك . وهذا قول مالك والشافعي ، والرواية المشهورة عن أحمد ، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد والليث وأبو ثور ، كما نقله عنهم صاحب المغني .
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنهم إن حلفوا لزم أهل المحلة التي وجد بها القتيل أن يغرموا الدية ، وذكر نحوه أبو الخطاب رواية عن أحمد . وقد قدمنا أن عمر ألزمهم الدية بعد أن حلفوا ، ومعلوم أن المبدأ بالأيمان عند أبي حنيفة المدعى عليهم ، ولا حلف على الأولياء عنده كما تقدم .
الفرع الثالث : إن امتنع المدعون من الحلف ولم يرضوا بأيمان المدعى عليهم ، فالظاهر أن الإمام يعطي ديته من بيت المال ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، والله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .
الفرع الرابع : إن ردت الأيمان على المدعى عليهم فقد قال بعض أهل العلم : لا يبرأ أحد منهم حتى يحلف بانفراده خمسين يمينا ، ولا توزع الأيمان عليهم بقدر عددهم .
قال مالك في الموطأ : وهذا أحسن ما سمعت في ذلك ، وهو مذهب الإمام أحمد .
وقال بعض علماء الحنابلة : تقسم الأيمان بينهم على عددهم بالسوية ; لأن المدعى عليهم متساوون . وللشافعي قولان كالمذهبين اللذين ذكرنا ، فإن امتنع المدعى عليهم من اليمين فقيل يحبسون حتى يحلفوا ، وهو قول أبي حنيفة ، ورواية عن أحمد ، وهو مذهب [ ص: 142 ] مالك أيضا ، إلا أن المالكية يقولون : إن طال حبسهم ولم يحلفوا تركوا ، وعلى كل واحد منهم جلد مائة وحبس سنة ، ولا أعلم لهذا دليلا ، وأظهر الأقوال عندي : أنهم تلزمهم الدية بنكولهم عن الأيمان ، ورواه حرب بن إسماعيل عن أحمد ، وهو اختيار أبي بكر ; لأنه حكم ثبت بالنكول فثبت في حقهم هاهنا كسائر الدعاوى ; قال في المغني : وهذا القول هو الصحيح ، والله تعالى أعلم .
الفرع الخامس : اختلف العلماء في أقل العدد الذي يصح أن يحلف أيمان القسامة ; فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يصح أن يحلف أيمان القسامة في العمد أقل من رجلين من العصبة ، فلو كان للمقتول ابن واحد مثلا استعان برجل آخر من عصبة المقتول ولو غير وارث يحلف معه أيمانها ، وأظهر الأقوال دليلا هو صحة استعانة الوارث بالعصبة غير الوارثين في أيمان القسامة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة ومحيصة : " يحلف خمسون منكم . " الحديث . وهما ابنا عم المقتول ، ولا يرثان فيه لوجود أخيه ، وقد قال لهم " يحلف خمسون منكم " ، وهو يعلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل المقتول عشرون رجلا وارثون ، لأنه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسبا .
وأجاب المخالفون بأن الخطاب للمجموع مرادا به بعضهم ، وهو الوارثون منهم دون غيرهم ولا يخفى بعده ; فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يمينا ، وإن كانوا أقل من ذلك وزعت عليهم بحسب استحقاقهم في الميراث ، فإن نكل بعضهم رد نصيبه على الباقين إن كان الناكل معينا لا وارثا ، فإن كان وارثا يصح عفوه عن الدم ، سقط القود بنكوله ، وردت الأيمان على المدعى عليهم على نحو ما قدمنا . هذا مذهب مالك رحمه الله .
وأما القسامة في الخطأ عند مالك رحمه الله فيحلف أيمانها الوارثون على قدر أنصبائهم ، فإن لم يوجد إلا واحد ولو امرأة حلف الخمسين يمينا كلها واستحق نصيبه من الدية .
وأما الشافعي رحمه الله فقال : لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خاصة خمسين يمينا سواء قلوا أم كثروا ، فإن كان الورثة خمسين حلف كل واحد منهم يمينا ، وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين ، فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينا واستحق حتى لو كان من يرث بالفرض والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق .
وقد قدمنا أن الصحيح في مذهب الشافعي رحمه الله : أن القسامة إنما تستحق بها [ ص: 143 ] الدية لا القصاص .
وأما الإمام أحمد فعنه في هذه المسألة روايتان :
الأولى : أنه يحلف خمسون رجلا من العصبة خمسين يمينا ، كل رجل يحلف يمينا واحدة ، فإن وجدت الخمسون من ورثة المقتول فذلك ، وإلا كملت الخمسون من العصبة الذين لا يرثون ، الأقرب منهم فالأقرب حتى تتم الخمسون ، وهذا قول لمالك أيضا ، وهذا هو ظاهر بعض روايات حديث سهل الثابتة في الصحيح .
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أنه لا يحلف أيمان القسامة إلا الورثة خاصة ، وتوزع عليهم على قدر ميراث كل واحد منهم ، فإن لم يكن إلا واحد حلف الخمسين واستحق ، إلا أن النساء لا يحلفن أيمان القسامة عند أحمد ، فالمراد بالورثة عنده الذكور خاصة . وهذه الرواية هي ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي حامد .
وأما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فقد قدمنا أن أيمان القسامة عنده لا يحلفها إلا خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد بها القتيل ، فيقسمون أنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلا .
تنبيه
قد علمت كلام العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة ، فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين ووقع فيها انكسار ، فإن تساووا جبر الكسر عليهم ، كما لو خلف المقتول ثلاثة بنين ; فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يمينا ، وهو ست عشرة وثلثان ، فيتمم الكسر على كل واحد منهم ، فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا .
فإن قيل : يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يمينا ; لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يمينا .
فالجواب : أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز ، وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز ، فعلم استواؤهم في جبر الكسر ، فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستو في قدر كسرها الحالفون ، كأن كان على أحدهم نصفها ، وعلى آخر ثلثها ، وعلى آخر سدسها ، حلفها من عليه نصفها تغليبا للأكثر ، ولا تجبر على صاحب الثلث والسدس . وهذا هو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم ، وقال غيرهم : تجبر على الجميع . والله تعالى أعلم .
[ ص: 144 ] وقال بعض أهل العلم : يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا ، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه . واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يمينا كلها . قال : وما يحلفه منفردا يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى .
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول بعيد فيما يظهر ; لأن الأحاديث الواردة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط ، وهذا القول قد تصير به مئات كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السادس : لا يقتل بالقسامة عند من يوجب القود بها إلا واحد ، وهذا قول أكثر القائلين بالقود بها ، منهم مالك وأحمد والزهري ، وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم .
وهذا القول هو الصواب ، وتدل عليه الرواية الصحيحة التي قدمناها عند مسلم وغيره :
" يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته . " الحديث . فقوله صلى الله عليه وسلم في معرض بيان حكم الواقعة : " يقسم خمسون منكم على رجل منهم " يدل على أنهم ليس لهم أن يقسموا على غير واحد . وقيل : يستحق بالقسامة قتل الجماعة ; لأنها بينة موجبة للقود ، فاستوى فيها الواحد والجماعة كالبينة ، وممن قال بهذا أبو ثور ، قاله ابن قدامة في المغني .
وهل تسمع الدعوى في القسامة على غير معين أو لا ؟ وهل تسمع على أكثر من واحد أو لا ؟ فقال بعض أهل العلم : تسمع على غير معين ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله مستدلا بقصة الأنصاري المقتول بخيبر ; لأن أولياءه ادعوا على يهود خيبر . وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن الدعوى فيها لا تسمع إلا على معين ، قالوا : ولا دليل في قصة اليهود والأنصاري ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها : " يقسم خمسون منكم على رجل منهم " فبين أن المدعى عليه لا بد أن يعين .
وقال بعض من اشترط كونها على معين : لا بد أن تكون على واحد ، وهو قول أحمد ومالك .
وقال بعض من يشترط كونها على معين : يجوز الحلف على جماعة معينين ، وقد قدمنا اختلافهم : هل يجوز قتل الجماعة أو لا يقتل إلا واحد ، وهو ظاهر الحديث ، وهو الحق إن شاء الله .
وقال أشهب صاحب مالك : لهم أن يحلفوا على جماعة ويختاروا واحدا للقتل ، [ ص: 145 ] ويسجن الباقون عاما ، ويضربون مائة .
قال ابن حجر في الفتح : وهو قول لم يسبق إليه ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السابع : اعلم أن أيمان القسامة تحلف على البت ، ودعوى القتل أيضا على البت ، فإن قيل : كيف يحلف الغائب على أمر لم يحضره ، وكيف يأذن الشارع في هذه اليمين التي هي من الأيمان على غير معلوم ؟
فالجواب : أن غلبة الظن تكفي في مثل هذا ، فإن غلب على ظنه غلبة قوية أنه قتله حلف على ذلك ، وإن لم يغلب على ظنه غلبة قوية فلا يجوز له الإقدام على الحلف .
الفرع الثامن : إن مات مستحق الأيمان قبل أن يحلفها انتقل إلى وارثه ما كان عليه من الأيمان ، وكانت بينهم على حسب مواريثهم ، ويجبر الكسر فيها عليهم كما يجبر في حق ورثة القتيل على نحو ما تقدم ; لأن من مات عن حق انتقل إلى وارثه .
ولنكتف بما ذكرنا من أحكام القسامة خوف الإطالة المملة ، ولأن أحكامها كثيرة متشعبة جدا ، وقد بسط العلماء عليها الكلام في كتب الفروع .
غريبة تتعلق بهذه الآية الكريمة
وهي أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما استنبط من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها أيام النزاع بين علي رضي الله عنه وبين معاوية رضي الله عنه - أن السلطنة والملك سيكونان لمعاوية ، لأنه من أولياء عثمان رضي الله عنه وهو مقتول ظلما ، والله تعالى يقول : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا الآية [ 17 \ 33 ] ، وكان الأمر كما قال ابن عباس .
وهذا الاستنباط عنه ذكره ابن كثير في تفسيره هذه الآية الكريمة ، وساق الحديث في ذلك بسنده عند الطبراني في معجمه ، وهو استنباط غريب عجيب ، ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة خوف الإطالة المملة ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:41 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (212)
سُورَةُ الإسراء(29)
صـ 146 إلى صـ 150
قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا
نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم ، ويشمل ذلك قوله : رأيت ، ولم ير . وسمعت ، ولم يسمع ، وعلمت ، ولم يعلم . ويدخل فيه كل قول بلا علم ، وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم ، وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر ; كقوله : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ ص: 146 ] [ 2 \ 169 ] ، وقوله :
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 33 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم الآية [ 49 \ 12 ] ، وقوله : قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، وقوله : وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 53 \ 28 ] ، وقوله : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن [ 4 \ 157 ] ، والآيات بمثل هذا في ذم اتباع غير العلم المنهي عنه في هذه الآية الكريمة - كثيرة جدا ، وفي الحديث : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث " .
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة منع التقليد ، قالوا : لأنه اتباع غير العلم .
قال مقيده عفا الله عنه : لا شك أن التقليد الأعمى الذي ذم الله به الكفار في آيات من كتابه تدل هذه الآية وغيرها من الآيات على منعه ، وكفر متبعه ; كقوله : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] وقوله : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] ، وقوله : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 21 ] ، وقوله : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 21 \ 24 ] ، وقوله : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] إلى غير ذلك من الآيات .
أما استدلال بعض الظاهرية كابن حزم ومن تبعه بهذه الآية التي نحن بصددها وأمثالها من الآيات على منع الاجتهاد في الشرع مطلقا ، وتضليل القائل به ، ومنع التقليد من أصله - فهو من وضع القرآن في غير موضعه ، وتفسيره بغير معناه ، كما هو كثير في [ ص: 147 ] الظاهرية ; لأن مشروعية سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة ، ومعلوم أنه كان العامي يسأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيفتيه فيعمل بفتياه ، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين ; كما أنه من المعلوم أن المسألة إن لم يوجد فيها نص من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فاجتهاد العالم حينئذ بقدر طاقته في تفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف حكم المسكوت عنه من المنطوق به - لا وجه لمنعه ، وكان جاريا بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينكره أحد من المسلمين . وسنوضح غاية الإيضاح إن شاء الله تعالى " في سورة الأنبياء والحشر " مسألة الاجتهاد في الشرع ، واستنباط حكم المسكوت عنه من المنطوق به بإلحاقه به ، قياسا كان الإلحاق أو غيره ، ونبين أدلة ذلك ، ونوضح رد شبه المخالفين كالظاهرية والنظام ، ومن قال بقولهم في احتجاجهم بأحاديث وآيات من كتاب الله على دعواهم ، وبشبه عقلية حتى يتضح بطلان جميع ذلك .
وسنذكر هنا طرفا قليلا من ذلك يعرف به صحة القول بالاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه ، وأن إلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه غير مخالف للشرع الكريم .
اعلم أولا أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بنفي الفارق بينهما لا يكاد ينكره إلا مكابر ، وهو نوع من القياس الجلي ، ويسميه الشافعي رحمه الله " القياس في معنى الأصل " وأكثر أهل الأصول لا يطلقون عليه اسم القياس ، مع أنه إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعدم الفرق بينهما ; أعني الفرق المؤثر في الحكم .
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ، فإنه لا يشك عاقل في أن النهي عن التأفف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه .
وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 ، 8 ] فإنه لا شك أيضا في أن التصريح بالمؤاخذة بمثال الذرة والإثابة عليه المنطوق به يدل على المؤاخذة ، والإثابة بمثقال الجبل المسكوت عنه .
وقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل الآية [ 65 \ 2 ] ، لا شك في أنه يدل على أن شهادة أربعة عدول مقبولة ، وإن كانت شهادة الأربعة مسكوتا عنها .
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن التضحية بالعمياء ، مع أن ذلك مسكوت عنه .
وقوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية [ 4 \ 10 ] ، لا شك في أنه [ ص: 148 ] يدل على منع إحراق مال اليتيم وإغراقه ; لأن الجميع إتلاف له بغير حق .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " من أعتق شركا له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ، فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق منه ما عتق " يدل على أن من أعتق شركا له في أمة فحكمه كذلك ، لما عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تأثير لهما في أحكام العتق وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالشهادة والميراث وغيرهما .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " ، لا شك في أنه يدل على منع قضاء الحكم في كل حال يحصل بها التشويش المانع من استيفاء النظر ; كالجوع والعطش المفرطين ، والسرور والحزن المفرطين ، والحقن والحقب المفرطين .
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد ، لا شك في أنه يدل على النهي عن البول في قارورة مثلا ، وصب البول من القارورة في الماء الراكد ; إذ لا فرق يؤثر في الحكم بين البول فيه مباشرة وصبه فيه من قارورة ونحوها ، وأمثال هذا كثيرة جدا ، ولا يمكن أن يخالف فيها إلا مكابر . ولا شك أن في ذلك كله استدلالا بمنطوق به على مسكوت عنه . وكذلك نوع الاجتهاد المعروف في اصطلاح أهل الأصول " بتحقيق المناط " لا يمكن أن ينكره إلا مكابر ، ومسائله التي لا يمكن الخلاف فيها من غير مكابر لا يحيط بها الحصر ، وسنذكر أمثلة منها ; فمن ذلك قوله تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] فكون الصيد المقتول يماثله النوع المعين من النعم اجتهاد في تحقيق مناط هذا الحكم ، نص عليه جل وعلا في محكم كتابه ، وهو دليل قاطع على بطلان قول من يجعل الاجتهاد في الشرع مستحيلا من أصله ، والإنفاق على الزوجات واجب ، وتحديد القدر اللازم لا بد فيه من نوع من الاجتهاد في تحقيق مناط ذلك الحكم ، وقيم المتلفات واجبة على من أتلف ، وتحديد القدر الواجب لا بد فيه من اجتهاد ، والزكاة لا تصرف إلا في مصرفها ، كالفقير ولا يعلم فقره إلا بأمارات ظنية يجتهد في الدلالة عليها بالقرائن ; لأن حقيقة الباطن لا يعلمها إلا الله ، ولا يحكم إلا بقول العدل ، وعدالته إنما تعلم بأمارات ظنية يجتهد في معرفتها بقرائن الأخذ والإعطاء وطول المعاشرة . وكذلك الاجتهاد من المسافرين في جهة القبلة بالأمارات ، إلى غير ذلك مما لا يحصى .
ومن النصوص الدالة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الشرع ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن [ ص: 149 ] يحيى التميمي ، أخبرنا عبد العزيز بن محمد ، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " .
وحدثني إسحاق بن إبراهيم ، ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد مثله ، وزاد في عقب الحديث : قال يزيد : فحدثت هذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، فقال : هكذا حدثني أبو سلمة ، عن أبي هريرة ، وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي : أخبرنا مروان - يعني ابن محمد الدمشقي - حدثنا الليث بن سعد ، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي بهذا الحديث ، مثل رواية عبد العزيز بن محمد بالإسنادين جميعا . انتهى .
فهذا نص صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم ، صريح في جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية ، وحصول الأجر على ذلك وإن كان المجتهد مخطئا في اجتهاده ، وهذا يقطع دعوى الظاهرية منع الاجتهاد من أصله ، وتضليل فاعله والقائل به قطعا باتا كما ترى .
وقال النووي في شرح هذا الحديث : قال العلماء : أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم ; فإن أصاب فله أجران : أجر باجتهاده ، وأجر بإصابته ، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده . وفي الحديث محذوف تقديره : إذا أراد الحاكم أن يحكم فاجتهد . قالوا : فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم ، فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ، ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا ; لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي ، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا ، وهي مردودة كلها ، ولا يعذر في شيء من ذلك . وقد جاء في الحديث في السنن : " القضاة ثلاثة : قاض في الجنة ، واثنان في النار . قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة ، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار ، وقاض قضى على جهل فهو في النار " انتهى الغرض من كلام النووي .
فإن قيل : الاجتهاد المذكور في الحديث هو الاجتهاد في تحقيق المناط دون غيره من أنواع الاجتهاد .
فالجواب أن هذا صرف لكلامه صلى الله عليه وسلم عن ظاهره من غير دليل يجب الرجوع إليه ، وذلك ممنوع .
[ ص: 150 ] وقال البخاري في صحيحه : باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ . حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا حيوة ، حدثني يزيد بن عبد الله بن الهاد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي قيس - مولى عمرو بن العاص - عن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر " ، قال : فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عمرو بن حزم ، فقال : هكذا حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة . وقال عبد العزيز بن المطلب ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبي سلمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . اهـ . فهذا الحديث المتفق عليه يدل على بطلان قول من منع الاجتهاد من أصله في الأحكام الشرعية . ومحاولة ابن حزم تضعيف هذا الحديث المتفق عليه ، الذي رأيت أنه في أعلى درجات الصحيح لاتفاق الشيخين عليه - لا تحتاج إلى إبطالها لظهور سقوطها كما ترى ; لأنه حديث متفق عليه مروي بأسانيد صحيحة عن صحابيين جليلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ومن الأدلة الدالة على ذلك ما روي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى اليمن قال له : " فبم تحكم " ؟ قال : بكتاب الله . قال : " فإن لم تجد " ؟ قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " فإن لم تجد " ؟ قال : أجتهد رأيي . قال : فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
قال ابن كثير رحمه الله في مقدمة تفسيره بعد أن ذكر هذا الحديث ما نصه : وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه .
وقال ابن قدامة ( في روضة الناظر ) بعد أن ساق هذا الحديث : قالوا هذا الحديث يرويه الحارث بن عمرو عن رجال من أهل حمص ، والحارث والرجال مجهولون ; قاله الترمذي . قلنا : قد رواه عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ رضي الله عنه . انتهى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (213)
سُورَةُ الإسراء(30)
صـ 151 إلى صـ 155
ومراد ابن قدامة ظاهر ; لأن رد الظاهرية لهذا الحديث بجهالة من رواه عن معاذ مردود بأنه رواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عنه ، وهذه الرواية ليست هي مراد ابن كثير بقوله : هذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد ; لأنها ليست في المسند ولا في [ ص: 151 ] السنن ، ولعل مراده بجودة هذا الإسناد أن الحارث ابن أخي المغيرة بن شعبة وثقه ابن حبان ، وأن أصحاب معاذ يراهم عدولا ليس فيهم مجروح ولا متهم ، وسيأتي استقصاء البحث في طرق هذا الحديث في سورة الأنبياء . ومعلوم أن عبادة بن نسي ثقة فاضل كما قدمنا . وعبد الرحمن بن غنم قيل صحابي ، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين ، قاله في التقريب ، وحديث معاذ هذا تلقته الأمة قديما وحديثا بالقبول ، وسيأتي إن شاء الله " في سورة الأنبياء " ، و " سورة الحشر " ما استدل به أهل العلم على هذا من آيات القرآن العظيم .
ومن الأدلة الدالة على أن إلحاق النظير بنظيره في الشرع جائز : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر ، أفأصوم عنها ؟ قال : " أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيته ، أكان يؤدي ذلك عنها " ؟ قالت : نعم . قال : " فصومي عن أمك " وفي رواية لهما عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أمي ماتت وعليها صوم شهر ، أفأقضيه عنها ؟ قال : " لو كان على أمك دين ، أكنت قاضيه عنها " ؟ قال : نعم . قال : " فدين الله أحق أن يقضى " . انتهى .
واختلاف الرواية في هذا الحديث لا يعد اضطرابا ، لأنها وقائع متعددة : سألته امرأة فأفتاها ، وسأله رجل فأفتاه بمثل ما أفتى به المرأة ، كما نبه عليه غير واحد .
وهذا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، صريح في مشروعية إلحاق النظير بنظيره المشارك له في علة الحكم ; لأنه صلى الله عليه وسلم بين إلحاق دين الله تعالى بدين الآدمي ، بجامع أن الكل حق مطالب به تسقط المطالبة به بأدائه إلى مستحقه ، وهو واضح في الدلالة على القياس كما ترى .
ومن الأدلة الدالة على ذلك أيضا : ما رواه الشيخان في صحيحيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هل لك إبل " ؟ قال : نعم . قال : " فما ألوانها " ؟ قال : حمر . قال : " فهل يكون فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا . قال : " فأنى أتاها ذلك " ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق . قال : " وهذا عسى أن يكون نزعه عرق " . اهـ .
فهذا نص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم صريح في قياس النظير على نظيره ، وقد ترتب على هذا القياس حكم شرعي ، وهو كون سواد الولد مع بياض أبيه وأمه ، ليس موجبا للعان ; [ ص: 152 ] فلم يجعل سواده قرينة على أنها زنت بإنسان أسود ، لإمكان أن يكون في أجداده من هو أسود فنزعه إلى السواد سواد ذلك الجد ; كما أن تلك الإبل الحمر فيها جمال ورق يمكن أن لها أجدادا ورقا نزعت ألوانها إلى الورقة ، وبهذا اقتنع السائل .
ومن الأدلة الدالة على إلحاق النظير بنظيره : ما رواه أبو داود ، والإمام أحمد ، والنسائي ، عن عمر رضي الله عنه قال : هششت يوما فقبلت وأنا صائم . فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : صنعت اليوم أمرا عظيما ! قبلت وأنا صائم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرأيت لو تمضمضت بماء وأنت صائم " ؟ فقلت : لا بأس بذلك . فقال صلى الله عليه وسلم " فمه " . اهـ .
فإن قيل : هذا الحديث قال فيه النسائي : منكر .
قلنا : صححه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم . قاله الشوكاني في نيل الأوطار .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحديث ثابت وإسناده صحيح . قال : أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن يونس ثنا الليث ( ح ) وثنا عيسى بن حماد ، أخبرنا الليث بن سعد ، عن بكير بن عبد الله ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن جابر بن عبد الله ، قال : قال عمر بن الخطاب : هششت فقبلت . . إلى آخر الحديث بلفظه المذكور آنفا . ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح ، فإن طبقته الأولى أحمد بن يونس وعيسى بن حماد ، أما أحمد فهو ابن عبد الله بن يونس الكوفي التميمي اليربوعي ثقة حافظ ، وعيسى بن حماد التجيبي أبو موسى الأنصاري الملقب زغبة ، ثقة . وطبقته الثانية الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري ثقة ثبت ، فقيه إمام مشهور . وطبقته الثالثة بكير بن عبد الله بن الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله ، أو أبو يوسف المدني ، نزيل مصر ; ثقة . وطبقته الرابعة عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري المدني ثقة . وطبقته الخامسة جابر بن عبد الله ، عن عمر بن الخطاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ; فهذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما ترى . فهو نص صحيح صريح في أنه صلى الله عليه وسلم قاس القبلة على المضمضة ; لأن المضمضة مقدمة الشرب ، والقبلة مقدمة الجماع ، فالجامع بينهما أن كلا منهما مقدمة الفطر ، وهي لا تفطر بالنظر لذاتها .
فهذه الأدلة التي ذكرنا - فيها الدليل الواضح على أن إلحاق النظير بنظيره من الشرع لا مخالف له ; لأنه صلى الله عليه وسلم فعله ، والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يفعله إلا لينبه الناس له .
[ ص: 153 ] فإن قيل : إنما فعله صلى الله عليه وسلم لأن الله أوحى إليه ذلك .
قلنا : فعله حجة في فعل مثل ذلك الذي فعل ، ولو كان فعله بوحي كسائر أقواله وأفعاله وتقريراته ، فكلها تثبت بها الحجة ، وإن كان هو صلى الله عليه وسلم فعل ما فعل من ذلك بوحي من الله تعالى .
مسألة
قال ابن خويز منداد من علماء المالكية : تضمنت هذه الآية الحكم بالقافة ; لأنه لما قال : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] دل على جواز ما لنا به علم ، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه جاز أن يحكم به . وبهذا احتججنا على إثبات القرعة والخرص ; لأنه ضرب من غلبة الظن ، وقد يسمى علما اتساعا ، فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما ، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل عن طريق الشبه . وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه ، فقال : " ألم تري أن مجززا المدلجي نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد عليهما قطيفة ، قد غطيا رءوسهما وبدت أقدامهما فقال : إن بعض هذه الأقدام لمن بعض " وفي حديث يونس بن يزيد : وكان مجزز قائفا . اهـ بواسطة نقل القرطبي في تفسيره .
قال مقيده عفا الله عنه : من المعلوم أن العلماء اختلفوا في اعتبار أقوال القافة ، فذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها ، واحتج من قال بعدم اعتبارها بقصة الأنصارية التي لاعنت زوجها وجاءت بولد شبيه جدا بمن رميت به ولم يعتبر هذا الشبه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يحكم بأن الولد من زنى ولم يجلد المرأة .
قالوا : فلو كان الشبه تثبت به الأنساب لأثبت النبي صلى الله عليه وسلم به أن ذلك الولد من ذلك الرجل الذي رميت به ، فيلزم على ذلك إقامة الحد عليها ، والحكم بأن الولد ابن زنى ، ولم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من ذلك كما يأتي إيضاحه ( في سورة النور ) إن شاء الله تعالى .
وهذا القول بعدم اعتبار أقوال القافة مروي عن أبي حنيفة وإسحاق والثوري وأصحابهم .
وذهب جمهور أهل العلم إلى اعتبار أقوال القافة عند التنازع في الولد ، محتجين بما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز بن الأعور المدلجي : إن بعض هذه الأقدام من بعض ، حتى برقت أسارير وجهه من السرور .
[ ص: 154 ] قالوا : وما كان صلى الله عليه وسلم ليسر بالباطل ولا يعجبه ، بل سروره بقول القائف دليل على أنه من الحق لا من الباطل ; لأن تقريره وحده كاف في مشروعية ما قرر عليه ، وأحرى من ذلك ما لو زاد السرور بالأمر على التقرير عليه ، وهو واضح كما ترى .
واعلم أن الذين قالوا باعتبار أقوال القافة اختلفوا ، فمنهم من قال : لا يقبل ذلك إلا في أولاد الإماء دون أولاد الحرائر . ومنهم من قال : يقبل ذلك في الجميع .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق باعتبار ذلك في أولاد الحرائر والإماء ; لأن سرور النبي صلى الله عليه وسلم وقع في ولد حرة ، وصورة سبب النزول قطعية الدخول كما تقرر في الأصول ، وهو قول الجمهور وهو الحق ، خلافا للإمام مالك رحمه الله قائلا : إن صورة السبب ظنية الدخول ، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله :
واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب
تنبيهان
الأول : لا تعتبر أقوال القافة في شبه مولود برجل إن كانت أمه فراشا لرجل آخر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شدة شبه الولد الذي اختصم فيه سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة بعتبة بن أبي وقاص ، ولم يؤثر عنده هذا الشبه في النسب لكون أم الولد فراشا لزمعة ; فقال صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " ولكنه صلى الله عليه وسلم اعتبر هذا الشبه من جهة أخرى غير النسب ، فقال لسودة بنت زمعة رضي الله عنها : " احتجبي عنه " مع أنه ألحقه بأبيها ، فلم ير سودة قط ، وهذه المسألة أصل عند المالكية في مراعاة الخلاف كما هو معلوم عندهم .
التنبيه الثاني
قال بعض علماء العربية : أصل القفو البهت والقذف بالباطل ، ومنه الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا " أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما من حديث الأشعث بن قيس ، وساق طرق هذا الحديث ابن كثير في تاريخه ، وقوله " لا نقفو أمنا " أي لا نقذف أمنا ونسبها ، ومنه قول الكميت :
فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن قفينا
وقول النابغة الجعدي :
[ ص: 155 ]
ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء لا يشعن التقافيا
والذي يظهر لنا أن أصل القفو في لغة العرب : الاتباع كما هو معلوم من اللغة ، ويدخل فيه اتباع المساوي كما ذكره من قال : إن أصله القذف والبهت .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ 17 \ 36 ] فيه وجهان من التفسير :
الأول : أن معنى الآية أن الإنسان يسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه ، فيقال له : لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه ؟ ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه ؟
ويدل لهذا المعنى آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله : ولتسألن عما كنتم تعملون [ 16 \ 93 ] ، وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
والوجه الثاني : أن الجوارح هي التي تسأل عن أفعال صاحبها ، فتشهد عليه جوارحه بما فعل .
قال القرطبي في تفسيره : وهذا المعنى أبلغ في الحجة ; فإنه يقع تكذيبه من جوارحه ، وتلك غاية الخزي ، كما قال : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] ، وقوله : شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون [ 41 \ 20 ] .
قال مقيده عفا الله عنه : والقول الأول أظهر عندي ، وهو قول الجمهور .
وفي الآية الكريمة نكتة نبه عليها في مواضع أخر ; لأن قوله تعالى : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ 17 \ 36 ] ، يفيد تعليل النهي في قوله : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] بالسؤال عن الجوارح المذكورة ، لما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه : أن " إن " المكسورة من حروف التعليل . وإيضاحه : أن المعنى : انته عما لا يحل لك ; لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشكره ، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه ، فلا تستعمل نعمه في معصية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (214)
سُورَةُ الإسراء(31)
صـ 156 إلى صـ 160
ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ ص: 156 ] [ 16 \ 78 ] ، ونحوها من الآيات . والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة بقوله : أولئك راجعة إلى السمع والبصر والفؤاد ، وهو دليل على الإشارة " أولئك " لغير العقلاء وهو الصحيح ، ومن شواهده في العربية قول الشاعر وهو العرجي :
يا ما أميلح غزلانا شدن لنا من هاؤليائكن الضال والسمر
وقول جرير :
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
خلافا لمن زعم أن بيت جرير لا شاهد فيه ، وأن الرواية فيه " بعد أولئك الأقوام " والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا
نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية . وقوله : مرحا [ 17 \ 37 ] مصدر منكر ، وهو حال على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
وقرئ : " مرحا " بكسر الراء على أنه الوصف من مرح ( بالكسر ) يمرح ( بالفتح ) أي : لا تمش في الأرض في حال كونك متبخترا متمايلا مشي الجبارين .
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله عن لقمان مقررا له : ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك الآية [ 31 \ 18 ، 19 ] ، وقوله : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الآية [ 25 \ 63 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأصل المرح في اللغة : شدة الفرح والنشاط ، وإطلاقه على مشي الإنسان متبخترا مشي المتكبرين ; لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة .
وأظهر القولين عندي في قوله تعالى : إنك لن تخرق الأرض [ 17 \ 37 ] أن معناه لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها وشدة وطئك عليها ، ويدل لهذا المعنى قوله بعده : ولن تبلغ الجبال طولا [ 17 \ 37 ] أي : أنت أيها المتكبر المختال ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادين ، أنت عاجز عن التأثير فيهما ، فالأرض التي تحتك لا تقدر أن [ ص: 157 ] تؤثر فيها فتخرقها بشدة وطئك عليها ، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها ; فاعرف قدرك ، ولا تتكبر ، ولا تمش في الأرض مرحا .
القول الثاني أن معنى لن تخرق الأرض [ 17 \ 37 ] لن تقطعها بمشيك . قاله ابن جرير ، واستشهد له بقول رؤبة بن العجاج :
وقاتم الأعماق خاوي المخترق مشتبه الأعلام لماع الخفق
لأن مراده بالمخترق : مكان الاختراق . أي المشي والمرور فيه . وأجود الأعاريب في قوله : طولا أنه تمييز محول عن الفاعل ، أي لن يبلغ طولك الجبال ، خلافا لمن أعربه حالا ومن أعربه مفعولا من أجله ، وقد أجاد من قال :
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قوم هم منك أرفع
وإن كنت في عز وحرز ومنعة فكم مات من قوم هم منك أمنع
واستدل بعض أهل العلم بقوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا [ 17 \ 37 ] على منع الرقص وتعاطيه ; لأن فاعله ممن يمشي مرحا .
قوله تعالى : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما
الهمزة في قوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين [ 17 \ 40 ] للإنكار ، ومعنى الآية : أفخصكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون ، لم يجعل فيهم نصيبا لنفسه ، واتخذ لنفسه أدونهم وهي البنات ! وهذا خلاف المعقول والعادة ، فإن السادة لا يؤثرون عبيدهم بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب ، ويتخذون لأنفسهم أردأها وأدونها ، فلو كان جل وعلا متخذا ولدا - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - لاتخذ أجود النصيبين ولم يتخذ أردأهما ، ولم يصطفكم دون نفسه بأفضلهما .
وهذا الإنكار متوجه على الكفار في قولهم : الملائكة بنات الله ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، فقد جعلوا له الأولاد ! ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها وهو الإناث ، وهم لا يرضونها لأنفسهم .
وقد بين الله تعالى هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] ، وقوله : أم له البنات ولكم البنون ، وقوله : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد بينا ذلك بإيضاح في " سورة النحل " ، وقوله في هذه الآية الكريمة : [ ص: 158 ] إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] بين فيه أن ادعاء الأولاد لله - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - أمر عظيم جدا ، وقد بين شدة عظمه بقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 88 - 95 ] ، فالمشركون - قبحهم الله - جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، ثم ادعوا أنهم بنات الله ، ثم عبدوهم ; فاقترفوا الجريمة العظمى في المقامات الثلاث ، والهمزة والفاء في نحو قوله : أفأصفاكم [ 17 \ 40 ] قد بينا حكمها بإيضاح في " سورة النحل " أيضا .
قوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا .
قرأ جمهور القراء " كما تقولون " بتاء الخطاب . وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم كما يقولون [ 17 \ 42 ] بياء الغيبة . وفي معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير ، كلاهما حق ويشهد له قرآن . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية قد يكون فيها وجهان كلاهما حق ، وكلاهما يشهد له قرآن ، فنذكر الجميع لأنه كله حق .
الأول من الوجهين المذكورين : أن معنى الآية الكريمة : لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا ( أي الآلهة المزعومة ) أي لطلبوا إلى ذي العرش ( أي إلى الله ) سبيلا ; أي إلى مغالبته وإزالة ملكه ، لأنهم إذا يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض . سبحان الله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا !
وهذا القول في معنى الآية هو الظاهر عندي ، وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة ، ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ 23 \ 91 ، 92 ] ، وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ 21 \ 22 ] وهذا المعنى في الآية مروي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبي علي الفارسي ، والنقاش ، وأبي منصور ، وغيره من المتكلمين .
الوجه الثاني في معنى الآية الكريمة : أن المعنى لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ ص: 159 ] أي : طريقا ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله ، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية [ 17 \ 57 ] ، ويروى هذا القول عن قتادة ، واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره .
ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول ; لأن في الآية فرض المحال ، والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له ، لا يظهر معه أنها تتقرب إليه ، بل تنازعه لو كانت موجودة ، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير :
الأول : أن المعنى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا ; أي حائلا وساترا يمنعهم من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به ، وعلى هذا القول فالحجاب المستور هو ما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه ، والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة ; كقوله : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون [ 41 \ 5 ] ، وقوله : ختم الله على قلوبهم الآية [ 2 \ 7 ] ، وقوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه الآية [ 18 \ 57 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وممن قال بهذا القول في معنى الآية : قتادة والزجاج وغيرهما .
الوجه الثاني في الآية : أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلا يرونه ، قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية : أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه ، وابن مردويه ، وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، قالت : لما نزلت : تبت يدا أبي لهب [ 111 \ 1 ] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول :
مذمما أبينا . . ودينه قلينا . . وأمره عصينا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، وأبو بكر رضي الله عنه إلى جنبه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ؟ فقال : " إنها لن تراني " وقرأ قرآنا اعتصم به ، كما قال تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ ص: 160 ] [ 17 \ 45 ] ، فجاءت حتى قامت على أبي بكر رضي الله عنه فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر ، بلغني أن صاحبك هجاني . فقال أبو بكر رضي الله عنه : لا ورب هذا البيت ما هجاك ، فانصرفت وهي تقول : قد علمت قريش أني بنت سيدها ، إلى غير ذلك من الروايات بهذا المعنى .
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ، بعد أن ساق بعض الروايات نحو ما ذكرنا في هذا الوجه الأخير ما نصه : ولقد اتفق لي ببلادنا - الأندلس - بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا ، وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه ، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء ، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن ، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا ، وأحدهما يقول للآخر : هذا ديبلة ( يعنون شيطانا ) وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني . اهـ ، وقال القرطبي : إن هذا الوجه في معنى الآية هو الأظهر .
والعلم عند الله تعالى .
وقوله في هذه الآية الكريمة : حجابا مستورا قال بعض العلماء : هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل ; أي حجابا ساترا ، وقد يقع عكسه كقوله تعالى : من ماء دافق [ 86 \ 6 ] أي مدفوق عيشة راضية [ 69 \ 21 ] أي مرضية . فإطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول وإرادة الآخر أسلوب من أساليب اللغة العربية ، والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق " مجازا عقليا " ومن أمثلة إطلاق المفعول وإرادة الفاعل كالقول في الآية ; قولهم : ميمون ومشئوم ، بمعنى يامن وشائم . وقال بعض أهل العلم : قوله : مستورا على معناه الظاهر من كونه اسم مفعول ; لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه ، أو مستورا به القارئ فلا يراه غيره ، واختار هذا أبو حيان في البحر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل على قلوب الكفار أكنة ( جمع كنان ) وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه ، لئلا يفقهوا القرآن ، أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن ; أي فهم معانيه فهما ينتفع به صاحبه ، وأنه جعل في آذانهم وقرا ; أي صمما وثقلا لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (215)
سُورَةُ الإسراء(32)
صـ 161 إلى صـ 165
وبين في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به ، وأنه هو كفرهم ، [ ص: 161 ] فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها ، كقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم الآية [ 61 \ 5 ] ، وقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، وقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [ 6 \ 110 ] ، وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 102 ] ، وقوله : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 125 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
في هذه الآية الكريمة الرد الواضح على القدرية في قولهم : إن الشر لا يقع بمشيئة الله ، بل بمشيئة العبد ; سبحان الله وتعالى علوا كبيرا عن أن يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته ؟ ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] ، ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها الآية [ 32 \ 13 ] ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ربه وحده في القرآن بأن قال : " لا إله إلا الله " ولى الكافرون على أدبارهم نفورا ، بغضا منهم لكلمة التوحيد ، ومحبة للإشراك به جل وعلا .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، مبينا أن نفورهم من ذكره وحده جل وعلا سبب خلودهم في النار ، كقوله : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [ 39 \ 45 ] ، وقوله : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] ، وقوله : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون [ 37 \ 35 ، 36 ] ، وقوله : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الآية [ 42 \ 13 ] ، وقوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] ، وقوله : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون [ 41 \ 72 ] .
[ ص: 162 ] وقوله في هذه الآية : نفورا [ 17 \ 46 ] جمع نافر ; فهو حال . أي ولوا على أدبارهم في حال كونهم نافرين من ذكر الله وحده من دون إشراك ، والفاعل يجمع على فعول كساجد وسجود ، وراكع وركوع .
وقال بعض العلماء : " نفورا " مصدر ، وعليه فهو ما ناب عن المطلق من قوله : ولوا ; لأن التولية عن ذكره وحده بمعنى النفور منه .
قوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا
; بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المعبودين من دون الله الذين زعم الكفار أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، ويشفعون لهم عنده لا يملكون كشف الضر عن عابديهم ; أي إزالة المكروه عنهم ، ولا تحويلا ، أي تحويله من إنسان إلى آخر ، أو تحويل المرض إلى الصحة ، والفقر إلى الغنى ، والقحط إلى الجدب ، ونحو ذلك . ثم بين فيها أيضا أن المعبودين الذين عبدهم الكفار من دون الله يتقربون إلى الله بطاعته ، ويبتغون الوسيلة إليه ، أي الطريق إلى رضاه ونيل ما عنده من الثواب بطاعته فكان الواجب عليكم أن تكونوا مثلهم .
قال ابن مسعود : نزلت هذه الآية في قوم من العرب من خزاعة - أو غيرهم - كانوا يعبدون رجالا من الجن ، فأسلم الجنيون وبقي الكفار يعبدونهم فأنزل الله : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة الآية [ 17 \ 57 ] ، وعن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في الذين كانوا يعبدون عزيرا والمسيح وأمه ، وعنه أيضا ، وعن ابن مسعود ، وابن زيد ، والحسن : أنها نزلت في عبدة الملائكة . وعن ابن عباس : أنها نزلت في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه .
وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن كل معبود من دون الله لا ينفع عابده ، وأن كل معبود من دونه مفتقر إليه ومحتاج له جل وعلا ، بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله " في سبأ " : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [ 34 \ 22 - 23 ] ، وقوله " في الزمر " : أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [ ص: 163 ] [ 39 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قدمنا " في سورة المائدة " أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة " وفي آية المائدة " : هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح ; ومنه قول لبيد :
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم بلى كل ذي لب إلى الله واسل
وقد قدمنا " في المائدة " أن التحقيق أن قول عنترة :
إن الرجال لهم إليك وسيلة إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
من هذا المعنى ، كما قدمنا أنها تجمع على وسائل ، كقوله :
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا وعاد التصافي بيننا والوسائل
وأصح الأعاريب في قوله : أيهم أقرب [ 17 \ 57 ] ، أنه بدل من واو الفاعل في قوله : يبتغون ، وقد أوضحنا هذا " في سورة المائدة " بما أغنى عن إعادته هنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا .
قال بعض أهل العلم : في هذه الآية الكريمة حذف الصفة ، أي : وإن من قرية ظالمة إلا نحن مهلكوها . وهذا النعت المحذوف دلت عليه آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] ، وقوله : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ 6 \ 131 ] ، أي بل لا بد أن تنذرهم الرسل فيكفروا بهم وبربهم ، وقوله : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون [ 11 \ 117 ] ، وقوله : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا [ 65 \ 8 ، 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وغاية ما في هذا القول حذف النعت مع وجود أدلة تدل عليه ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أي كل سفينة صالحة ; بدليل أن خرق الخضر للسفينة التي ركب فيها هو وموسى يريد به سلامتها من أخذ الملك لها ; لأنه لا يأخذ المعيبة التي فيها الخرق وإنما يأخذ الصحيحة ، ومن حذف النعت قوله تعالى : قالوا الآن جئت بالحق [ 2 \ 71 ] ; أي بالحق الواضح الذي لا لبس معه في صفات البقرة المطلوبة ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر ، وهو المرقش الأكبر :
[ ص: 164 ] ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد
أي فرع فاحم وجيد طويل .
وقول عبيد بن الأبرص :
من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل
أي قوله قول فصل ، وفعله فعل جميل ، ونائله نائل جزيل ، وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل
وقال بعض أهل العلم : الآية عامة ، فالقرية الصالحة إهلاكها بالموت ، والقرية الطالحة إهلاكها بالعذاب ، ولا شك أن كل نفس ذائقة الموت ، والمراد بالكتاب : اللوح المحفوظ ، والمسطور : المكتوب . ومنه قول جرير :
من شاء بايعته مالي وخلعته ما تكمل التيم في ديوانها سطرا
وما يرويه مقاتل عن كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسير هذه الآية : من أن مكة تخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق والرواجف ، وأما خراسان فهلاكها ضروب ، ثم ذكر بلدا بلدا - لا يكاد يعول عليه ; لأنه لا أساس له من الصحة ، وكذلك ما يروى عن وهب بن منبه : أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية ، وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ، ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ، ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة ، فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينة على يد رجل من بني هاشم ، وخراب الأندلس من قبل الزنج ، وخراب إفريقية من قبل الأندلس ، وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها ، وخراب العراق من الجوع ، وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشراب من الفرات ، وخراب البصرة من قبيل الغرق ، وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برا وبحرا ، وخراب الري من الديلم ، وخراب خراسان من قبل التبت ، وخراب التبت من قبل الصين ، وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان ، وخراب مكة من الحبشة ، وخراب المدينة من الجوع . اهـ .
كل ذلك لا يعول عليه ; لأنه من قبيل الإسرائيليات .
قوله تعالى : وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها
الآية ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه آتى ثمود الناقة في حال كونها آية مبصرة ، أي بينة تجعلهم يبصرون الحق واضحا لا لبس فيه فظلموا بها ، ولم يبين ظلمهم بها هاهنا ، ولكنه أوضحه في مواضع أخر ، [ ص: 165 ] كقوله : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم الآية [ 7 \ 77 ] ، وقوله : فكذبوه فعقروها الآية [ 91 \ 14 ] ، وقوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس
الآية [ 17 \ 60 ] ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أحاط بالناس ; أي فهم في قبضته يفعل فيهم كيف يشاء فيسلط نبيه عليهم ويحفظه منهم .
قال بعض أهل العلم : ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة ، قوله تعالى : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ 54 \ 45 ] ، وقوله : قل للذين كفروا ستغلبون الآية [ 3 \ 12 ] ، وقوله : والله يعصمك من الناس [ 5 \ 67 ] ، وفي هذا أن هذه الآية مكية ، وبعض الآيات المذكورة مدني . أما آية القمر وهي قوله : سيهزم الجمع [ 54 \ 45 ] ، الآتية فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:47 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (216)
سُورَةُ الإسراء(33)
صـ 166 إلى صـ 170
قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن .
التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة : أن الله جل وعلا جعل ما أراه نبيه صلى الله عليه وسلم من الغرائب والعجائب ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس ; لأن عقول بعضهم ضاقت عن قبول ذلك ، معتقدة أنه لا يمكن أن يكون حقا ، قالوا : كيف يصلي ببيت المقدس ، ويخترق السبع الطباق ، ويرى ما رأى في ليلة واحدة ، ويصبح في محله بمكة ؟ هذا محال ، فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم به ، واعتقادهم أنه لا يمكن ، وأنه جل وعلا جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم فتنة للناس ، لأنهم لما سمعوه صلى الله عليه وسلم يقرأ : إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية [ 37 \ 64 ] ، قالوا : ظهر كذبه ; لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة ، فكيف ينبت في أصل النار ؟ فصار ذلك فتنة . وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة فتنة لهم بقوله : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية [ 37 \ 62 - 64 ] وهو واضح كما ترى . وأشار في موضع آخر إلى الرؤيا التي جعلها فتنة لهم ، وهو قوله : أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى [ 53 \ 12 - 18 ] ، وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة . وبهذا التحقيق الذي ذكرنا تعلم [ ص: 166 ] أن قول من قال : إن الرؤيا التي أراه الله إياها هي رؤياه في المنام بني أمية على منبره ، وإن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية - لا يعول عليه ; إذ لا أساس له من الصحة ، والحديث الوارد بذلك ضعيف لا تقوم به حجة ، وإنما وصف الشجرة باللعن لأنها في أصل النار ، وأصل النار بعيد من رحمة الله ، واللعن : الإبعاد عن رحمة الله ، أو لخبث صفاتها التي وصفت بها في القرآن ، أو للعن الذين يطعمونها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا .
قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس : أأسجد لمن خلقت طينا [ 17 \ 61 ] ، يدل فيه إنكار إبليس للسجود بهمزة الإنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين ، وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر ، فصرح بهما معا " في البقرة " في قوله : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] ، وصرح بإبائه " في الحجر " بقوله : إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين [ 115 \ 31 ] ، وباستكباره في " ص " بقوله : إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين [ 38 \ 74 ] ، وبين سبب استكباره بقوله : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 12 ، 18 \ 76 ] ، كما تقدم إيضاحه " في البقرة " ، وقوله : طينا حال ; أي لمن خلقته في حال كونه طينا . وتجويز الزمخشري كونه حالا من نفس الموصول ، غير ظاهر عندي . وقيل : منصوب بنزع الخافض ; أي من طين . وقيل : تمييز ، وهو أضعفها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن إبليس اللعين قال له : أرأيتك [ 17 \ 62 ] ، أي أخبرني : هذا الذي كرمته علي فأمرتني بالسجود له وهو آدم ; أي لم كرمته علي وأنا خير منه . والكاف في أرأيتك حرف خطاب ، و " هذا " مفعول به لـ " أرأيت " .
والمعنى : أخبرني . وقيل : إن الكاف مفعول به ، و " هذا " مبتدأ ، وهو قول ضعيف . وقوله : لأحتنكن ذريته [ 17 \ 62 ] ، قال ابن عباس : لأستولين عليهم ، وقاله الفراء . وقال مجاهد : لأحتوينهم . وقال ابن زيد : لأضلنهم . قال القرطبي : والمعنى متقارب . أي لأستأصلنهم بالإغواء والإضلال ، ولأجتاحنهم .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد بقوله : لأحتنكن ذريته ، أي لأقودنهم إلى ما أشاء ; من قول العرب : احتنكت الفرس : إذا جعلت الرسن [ ص: 167 ] في حنكه لتقوده حيث شئت . تقول العرب : حنكت الفرس أحنكه ( من باب ضرب ونصر ) واحتنكته : إذا جعلت فيه الرسن ; لأن الرسن يكون على حنكه . وقول العرب : احتنك الجراد الأرض : أي أكل ما عليها . من هذا القبيل ; لأنه يأكل بأفواهه ، والحنك حول الفم . هذا هو أصل الاستعمال في الظاهر ، فالاشتقاق في المادة من الحنك ، وإن كان يستعمل في الإهلاك مطلقا والاستئصال ; كقول الراجز :
أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأضعفت
واحتنكت أموالنا واجتلفت
وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله : لأحتنكن ذريته الآية [ 17 \ 62 ] ، بينه أيضا في مواضع أخر من كتابه ; كقوله لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 16 ، 17 ] ، وقوله : فبعزتك لأغوينهم أجمعين [ 38 \ 82 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه " في سورة النساء " وغيرها .
وقوله في هذه الآية : إلا قليلا [ 17 \ 62 ] بين المراد بهذا القليل في مواضع أخر ; كقوله : ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 ، 83 ] ، وقوله : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 39 - 40 ] كما تقدم إيضاحه .
وقول إبليس في هذه الآية : لأحتنكن ذريته الآية [ 17 \ 62 ] ، قاله ظنا منه أنه سيقع وقد تحقق له هذا الظن ، كما قال تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [ 34 \ 20 ] .
قوله تعالى : قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال اذهب [ 17 \ 63 ] ، هذا أمر إهانة ; أي اجهد جهدك ، فقد أنظرناك فمن تبعك ، أي : أطاعك من ذرية آدم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا [ 17 \ 63 ] أي وافرا . عن مجاهد وغيره . وقال الزمخشري وأبو حيان : اذهب ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء ، وإنما معناه : امض لشأنك الذي اخترته . وعقبه بذكر ما جره سوء اختياره في قوله : فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا [ 17 \ 63 ] .
[ ص: 168 ] وهذا الوعيد الذي أوعد به إبليس ومن تبعه في هذه الآية الكريمة ، بينه أيضا في مواضع أخر ; كقوله : قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] ، وقوله : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : جزاء مفعول مطلق منصوب بالمصدر قبله ، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
بمثله أو فعل او وصف نصب وكونه أصلا لهذين انتخب
والذي يظهر لي : أن قول من قال : إن " موفورا " بمعنى " وافر " لا داعي له . بل " موفورا " اسم مفعول على بابه ، من قولهم : وفر الشيء يفره ، فالفاعل وافر ، والمفعول موفور ، ومنه قول زهير :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وعليه : فالمعنى : جزاء مكملا متمما . وتستعمل هذه المادة لازمة أيضا تقول : وفر ماله فهو وافر ; أي كثير . وقوله : " موفورا " نعت للمصدر قبله كما هو واضح ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : هذا أمر قدري ; كقوله تعالى : ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] ; أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا ، وتسوقهم إليها سوقا . انتهى .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي أن صيغ الأمر في قوله : واستفزز [ 17 \ 64 ] ، وقوله : وأجلب ، وقوله : وشاركهم ، إنما هي للتهديد ، أي افعل ذلك فسترى عاقبته الوخيمة ; كقوله : اعملوا ما شئتم [ 41 \ 40 ] ، وبهذا جزم أبو حيان " في البحر " ، وهو واضح كما ترى . وقوله : واستفزز ، أي استخف من استطعت أن تستفزه منهم ، فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه ، والاستفزاز : الاستخفاف . ورجل فز : أي خفيف ، ومنه قيل لولد البقرة : فز . لخفة حركته . ومنه قول زهير :
[ ص: 169 ]
كما استغاث بسيء فز غيطلة خاف العيون ولم ينظر به الحشك
" والسيء " في بيت زهير بالسين المهملة مفتوحة بعدها ياء ساكنة وآخره همز : اللبن الذي يكون في أطراف الأخلاف قبل نزول الدرة ، والحشك أصله السكون ; لأنه مصدر حشكت الدرة : إذا امتلأت ، وإنما حركه زهير للوزن . والغيطلة هنا : بقرة الوحش ذات اللبن . وقوله ; بصوتك [ 17 \ 64 ] ، قال مجاهد : هو اللهو والغناء والمزامير ; أي استخف من استطعت أن تستخفه منهم باللهو والغناء والمزامير . وقال ابن عباس : صوته يشمل كل داع دعا إلى معصية ; لأن ذلك إنما وقع طاعة له . وقيل : بصوتك : أي وسوستك . وقوله : وأجلب أصل الإجلاب : السوق بجلبة من السائق . والجلبة : الأصوات . تقول العرب : أجلب على فرسه ، وجلب عليه : إذا صاح به من خلف واستحثه للسبق . والخيل تطلق على نفس الأفراس ، وعلى الفوارس الراكبين عليها ، وهو المراد في الآية . والرجل : جمع راجل ، كما قدمنا أن التحقيق : جمع " الفاعل " وصفا على " فعل " بفتح فسكون ، وأوضحنا أمثلته بكثرة ، واخترنا أنه جمع موجود أغفله الصرفيون ; إذ ليست فعل - بفتح فسكون - عندهم من صيغ الجموع ، فيقولون فيما ورد من ذلك كراجل ورجل ، وصاحب وصحب ، وراكب وركب ، وشارب وشرب : إنه اسم جمع لا جمع ، وهو خلاف التحقيق .
وقرأ حفص عن عاصم ورجلك [ 17 \ 64 ] بكسر الجيم - لغة في الرجل جمع راجل .
وقال الزمخشري : هذه القراءة على أن " فعلا " بمعنى " فاعل " نحو تعب وتاعب ومعناه : " وجمعك الرجل " . اهـ ; أي : الماشين على أرجلهم .
وشاركهم في الأموال والأولاد [ 17 \ 64 ] ، أما مشاركته لهم في الأموال فعلى أصناف : ( منها ) ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له ; كالبحائر والسوائب ونحو ذلك ، وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى ، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعا كالربا والغصب وأنواع الخيانات ; لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له .
وأما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضا :
منها قتلهم بعض أولادهم طاعة له .
[ ص: 170 ] ومنها أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة .
ومنها تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك ، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيدا لغير الله ؛ طاعة له ، ومن ذلك أولاد الزنى ; لأنهم إنما تسببوا في وجودهم بارتكاب الفاحشة ؛ طاعة له ، إلى غير ذلك .
فإذا عرفت هذا فاعلم أن الله قد بين في آيات من كتابه بعض ما تضمنته هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد ، كقوله : قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين [ 6 \ 140 ] فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته . وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكور في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضا ; وكقوله : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية [ 6 \ 136 ] ، وكقوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون [ 6 \ 138 ] ، وقوله : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الأحاديث المبينة بعض مشاركته لهم فيما ذكر ، ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " ، وما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان " انتهى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (217)
سُورَةُ الإسراء(34)
صـ 171 إلى صـ 175
فاجتيال الشياطين لهم عن دينهم ، وتحريمها عليهم ما أحل الله لهم ( في الحديث الأول ) وضرها لهم لو تركوا التسمية ( في الحديث الثاني ) كل ذلك من أنواع مشاركتهم فيهم . وقوله : " فاجتالتهم " أصله افتعل من الجولان ; أي استخفتهم الشياطين فجالوا معهم في الضلال . يقال : جال واجتال : إذا ذهب وجاء ، ومنه الجولان في الحرب ، واجتال الشيء : إذا ذهب به وساقه . والعلم عند الله تعالى . والأمر في قوله : وعدهم ; [ ص: 171 ] كالأمر في قوله : واستفزز ، وقوله : وأجلب ، وقد قدمنا أنه للتهديد .
وقوله : وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل ; كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى ، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة ، إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة .
وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقوله : ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور [ 57 \ 14 ] ، وقوله : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
الآية [ 17 \ 65 ] ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن عباده الصالحين لا سلطان للشيطان عليهم ، فالظاهر أن في الآية الكريمة حذف الصفة كما قدرنا ، ويدل على الصفة المحذوفة إضافته العباد إليه إضافة تشريف ، وتدل لهذه الصفة المقدرة أيضا آيات أخر ; كقوله : إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 40 ] ، وقوله : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] ، وقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ; كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا .
بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة : أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر ; أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال ، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك - ضل عنهم ; أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا ، فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده ، لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا ، [ ص: 172 ] فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر ، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم ، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ، كما قال تعالى : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا [ 17 \ 67 ] .
وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة ; كقوله : هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق [ 10 \ 22 - 23 ] ، وقوله : قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون [ 6 \ 63 - 64 ] ، وقوله : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، وقوله : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور [ 31 \ 32 ] ، وقوله : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله [ 39 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه " في سورة الأنعام " وغيرها .
ثم إن الله جل وعلا بين في هذا الموضع الذي نحن بصدده سخافة عقول الكفار ، وأنهم إذا وصلوا إلى البر ونجوا من هول البحر رجعوا إلى كفرهم آمنين عذاب الله ، مع أنه قادر على إهلاكهم بعد وصولهم إلى البر ، بأن يخسف بهم جانب البر الذي يلي البحر فتبتلعهم الأرض ، أو يرسل عليهم حجارة من السماء فتهلكهم ، أو يعيدهم مرة أخرى في البحر فتغرقهم أمواجه المتلاطمة ، كما قال هنا منكرا عليهم أمنهم وكفرهم بعد وصول البر : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا [ 17 \ 68 ] وهو المطر أو الريح اللذين فيهما الحجارة أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم [ 17 \ 69 ] ; أي بسبب كفركم ، فالباء سببية ، و " ما " مصدرية . والقاصف : ريح البحار الشديدة التي تكسر المراكب وغيرها . ومنه قول أبي تمام :
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
يعني : إذا ما هبت بشدة كسرت عيدان شجر نجد ؛ رتما كان أو غيره .
[ ص: 173 ] وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا هنا من قدرته على إهلاكهم في غير البحر بخسف أو عذاب من السماء - أوضحه في مواضع أخر ; كقوله : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء الآية [ 34 \ 9 ] ، وقوله : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم الآية [ 6 \ 65 ] ، وقوله : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير [ 67 \ 16 - 17 ] ، وقوله " في قوم لوط " : إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر [ 54 \ 34 ] ، وقوله : لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 33 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والحاصب في هذه الآية قد قدمنا أنه قيل : إنها السحابة أو الريح ، وكلا القولين صحيح ; لأن كل ريح شديدة ترمي بالحصباء تسمى حاصبا وحصبة ، وكل سحابة ترمي بالبرد تسمى حاصبا أيضا ; ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
وقول لبيد :
جرت عليها أن خوت من أهلها أذيالها كل عصوف حصبه
وقوله في هذه الآية : ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 96 ] ، " فعيل " بمعنى " فاعل " . أي تابعا يتبعنا بالمطالبة بثأركم ; كقوله فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها [ 91 \ 14 ، 15 ] ، أي لا يخاف عاقبة تبعة تلحقه بذلك . وكل مطالب بدين أو ثأر أو غير ذلك تسميه العرب تبيعا ، ومنه قول الشماخ يصف عقابا :
تلوذ ثعالب الشرفين منها كما لاذ الغريم من التبيع
أي : كعياذ المدين من صاحب الدين الذي يطالبه بغرمه منه .
ومنه قول الآخر :
غدوا وغدت غزلانهم وكأنها ضوامن غرم لهن تبيع
أي خصمهن مطالب بدين .
ومن هذا القبيل قوله تعالى : فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان الآية [ 2 \ 178 ] ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع " وهذا هو معنى قول ابن عباس وغيره : " تبيعا " أي نصيرا ، وقول مجاهد : نصيرا ثائرا .
[ ص: 174 ] تنبيه
لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة : أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده ، ولا يصرفون شيئا من حقه لمخلوق ، وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده ، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة ، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من عبدة الأوثان ، فإنهم إذا دهمتهم الشدائد ، وغشيتهم الأهوال والكروب التجئوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح ، في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله ، مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع أن إجابة المضطر وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره .
ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى " في سورة النمل " : آلله خير أم ما أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء الآيات [ 37 \ 27 ] 59 - 62 ، فتراه جل وعلا في هذه الآيات الكريمات جعل إجابة المضطر إذا دعا وكشف السوء عنه من حقه الخالص الذي لا يشاركه فيه أحد ; كخلقه السموات والأرض ، وإنزاله الماء من السماء ، وإنباته به الشجر ، وجعله الأرض قرارا ، وجعله خلالها أنهارا ، وجعله لها رواسي ، وجعله بين البحرين حاجزا ، إلى آخر ما ذكر في هذه الآيات من غرائب صنعه وعجائبه التي لا يشاركه فيها أحد ; سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وهذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات : كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ; فإنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارا منه إلى بلاد الحبشة ، فركب في البحر متوجها إلى الحبشة ، فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده ، فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك علي عهد ، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رءوفا رحيما . فخرجوا من البحر ، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه . اهـ .
[ ص: 175 ] والظاهر أن الضمير في قوله : به تبيعا [ 17 \ 69 ] راجع إلى الإهلاك بالإغراق المفهوم من قوله : فيغرقكم بما كفرتم [ 17 \ 69 ] ، أي لا تجدون تبيعا يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإغراق .
وقال صاحب روح المعاني : وضمير " به " قيل للإرسال ، وقيل للإغراق ، وقيل لهما باعتبار ما وقع ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد كرمنا بني آدم .
قال بعض أهل العلم : من تكريمه لبني آدم خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها ، فإن الإنسان يمشي قائما منتصبا على رجليه ، ويأكل بيديه ، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ، ويأكل بفمه .
ومما يدل لهذا من القرآن قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقوله : وصوركم فأحسن صوركم [ 40 \ 64 ] وفي الآية كلام غير هذا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وحملناهم في البر والبحر
الآية ، أي في البر على الأنعام ، وفي البحر على السفن .
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جدا ; كقوله : وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 22 ] ، وقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون [ 43 \ 12 ] ، وقد قدمنا هذا مستوفى بإيضاح " في سورة النحل " .
قوله تعالى : يوم ندعو كل أناس بإمامهم .
قال بعض العلماء : المراد " بإمامهم " هنا كتاب أعمالهم .
ويدل لهذا قوله تعالى : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [ 36 \ 12 ] ، وقوله : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون [ 45 \ 28 ] ، وقوله : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه الآية [ 18 \ 49 ] ، وقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] ، واختار هذا القول ابن كثير ; لدلالة آية " يس " المذكورة عليه . وهذا القول رواية عن ابن عباس ذكرها ابن جرير وغيره ، وعزاه ابن كثير لابن عباس وأبي العالية والضحاك والحسن ، وعن قتادة ومجاهد : أن المراد بـ بإمامهم نبيهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (218)
سُورَةُ الإسراء(35)
صـ 176 إلى صـ 180
[ ص: 176 ] ويدل لهذا القول قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون [ 10 \ 47 ] ، وقوله : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا الآية [ 4 \ 41 ] ، وقوله : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء الآية [ 16 \ 89 ] ، وقوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء الآية [ 39 \ 69 ] .
قال بعض السلف : وفي هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث ; لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال بعض أهل العلم : بإمامهم ; أي بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع ; وممن قال به : ابن زيد ، واختاره ابن جرير .
وقال بعض أهل العلم : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم [ 17 \ 71 ] ، أي ندعو كل قوم بمن يأتمون به ، فأهل الإيمان أئمتهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وأهل الكفر أئمتهم سادتهم وكبراؤهم من رؤساء الكفرة ; كما قال تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] ، وهذا الأخير أظهر الأقوال عندي ، والعلم عند الله تعالى .
فقد رأيت أقوال العلماء في هذه الآية وما يشهد لها من قرآن ، وقوله بعد هذا : فمن أوتي كتابه بيمينه [ 17 \ 71 ] ، من القرائن الدالة على ترجيح ما اختاره ابن كثير من أن الإمام في هذه الآية كتاب الأعمال .
وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرءونه ولا يظلمون فتيلا .
وقد أوضح هذا في مواضع أخر ; كقوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه [ 69 \ 19 ] - إلى قوله - وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه [ 69 \ 25 ] ، وقد قدمنا هذا مستوفى في أول هذه السورة الكريمة .
وقول من قال : إن المراد بـ بإمامهم كمحمد بن كعب " أمهاتهم " أي يقال : يا فلان ابن فلانة - قول باطل بلا شك . وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعا : " يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان ابن فلان " .
قوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا .
المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة : عمى القلب لا عمى العين ، ويدل لهذا قوله تعالى : [ ص: 177 ] فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 46 ] ; لأن عمى العين مع إبصار القلب لا يضر ، بخلاف العكس ; فإن أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه ، قال تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى [ 80 \ 1 - 4 ] .
إذا بصر القلب المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لما عمي في آخر عمره كما روي عنه من وجوه ، كما ذكره ابن عبد البر وغيره :
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وقوله في هذه الآية الكريمة : فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا [ 17 \ 72 ] ، قال بعض أهل العلم : ليست الصيغة صيغة تفضيل ، بل المعنى فهو في الآخرة أعمى كذلك لا يهتدي إلى نفع ، وبهذا جزم الزمخشري .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يتبادر إلى الذهن أن لفظة " أعمى " الثانية صيغة تفضيل ; أي هو أشد عمى في الآخرة .
ويدل عليه قوله بعده : وأضل سبيلا ; فإنها صيغة تفضيل بلا نزاع . والمقرر في علم العربية : أن صيغتي التعجب وصيغة التفضيل لا يأتيان من فعل ، الوصف منه على " أفعل " الذي أنثاه فعلاء ; كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وغير ذي وصف يضاهي أشهلا
والظاهر أن ما وجد في كلام العرب مصوغا من صيغة تفضيل أو تعجب غير مستوف للشروط ، أنه يحفظ ولا يقاس عليه ; كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وبالندور احكم لغير ما ذكر ولا تقس على الذي منه أثر
ومن أمثلة ذلك قوله :
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر وفي المخازي لكم أشباح أشياخ
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم لؤما وأبيضهم سربال طباخ
وقال بعض العلماء : إن قوله في هذا البيت " وأبيضهم سربال طباخ " ليس صيغة [ ص: 178 ] تفضيل ، بل المعنى أنت وحدك الأبيض سربال طباخ من بينهم .
قوله تعالى : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا .
روي عن سعيد بن جبير أنها نزلت في المشركين من قريش ، قالوا له صلى الله عليه وسلم : لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تلم بآلهتنا ، وعن ابن عباس في رواية عطاء : أنها نزلت في وفد ثقيف ، أتوا النبي فسألوه شططا ، قالوا : متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها ، وحرم وادينا كما حرمت مكة . إلى غير ذلك من الأقوال في سبب نزولها ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .
ومعنى الآية الكريمة : أن الكفار كادوا يفتنونه ، أي قاربوا ذلك . ومعنى يفتنونك : يزلونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره مما لم نوحه إليك .
قال بعض أهل العلم : قاربوا ذلك في ظنهم لا فيما في نفس الأمر ، وقيل : معنى ذلك أنه خطر في قلبه صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم في بعض ما أحبوا ليجرهم إلى الإسلام لشدة حرصه على إسلامهم .
وبين في موضع آخر : أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحي إليه ، وأنه امتنع أشد الامتناع ، وقال لهم : إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه ; بل يتبع ما أوحى إليه ربه ، وذلك في قوله : قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] ، وقوله في هذه الآية : وإن كادوا [ 17 \ 73 ] ، هي المخففة من الثقيلة ، وهي هنا مهملة ، واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية ، كما قال في الخلاصة :
وخففت إن فقل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل
والغالب أنها لا تكون كذلك مع فعل إلا إن كان ناسخا كما في هذه الآية ، قال في الخلاصة :
والفعل إن لم يك ناسخا فلا تلفيه غالبا بإن ذي موصلا
كما هو معروف في النحو .
قوله تعالى : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة تثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وعصمته له من الركون إلى الكفار ، وأنه لو ركن إليهم لأذاقه ضعف الحياة [ ص: 179 ] وضعف الممات ; أي : مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة ، وبهذا جزم القرطبي في تفسيره . وقال بعضهم : المراد بضعف عذاب الممات : العذاب المضاعف في القبر . والمراد بضعف الحياة : العذاب المضاعف في الآخرة بعد حياة البعث ، وبهذا جزم الزمخشري وغيره . والآية تشمل الجميع .
وهذا الذي ذكره هنا من شدة الجزاء لنبيه - لو خالف - بينه في غير هذا الموضع ; كقوله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين الآية [ 69 \ 44 - 46 ] .
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنه إذا كانت الدرجة أعلى كان الجزاء عند المخالفة أعظم - بينه في موضع آخر ; كقوله : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين الآية [ 33 \ 30 ] . ، ولقد أجاد من قال :
وكبائر الرجل الصغير صغائر وصغائر الرجل الكبير كبائر
تنبيه
هذه الآية الكريمة أوضحت غاية الإيضاح براءة نبينا صلى الله عليه وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار ، فضلا عن نفس الركون ; لأن لولا [ 17 \ 74 ] حرف امتناع لوجود ; فمقاربة الركون منعتها لولا الامتناعية لوجود التثبيت من الله جل وعلا لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم ، فصح يقينا انتفاء مقاربة الركون فضلا عن الركون نفسه . وهذه الآية تبين ما قبلها ، وأنه لم يقارب الركون إليهم البتة ; لأن قوله : لقد كدت تركن إليهم شيئا [ 17 \ 74 ] ، أي قاربت تركن إليهم - هو عين الممنوع بـ لولا الامتناعية كما ترى ، ومعنى تركن إليهم : تميل إليهم .
قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس
الآية ، قد بينا " في سورة النساء " : أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي أشارت لأوقات الصلاة ; لأن قوله : لدلوك الشمس [ 17 \ 78 ] أي لزوالها على التحقيق ، فيتناول وقت الظهر والعصر ; بدليل الغاية في قوله : إلى غسق الليل ; أي ظلامه ، وذلك يشمل وقت المغرب والعشاء . وقوله : وقرآن الفجر ، أي صلاة الصبح ، كما تقدم إيضاحه وأشرنا للآيات المشيرة لأوقات الصلوات ; كقوله : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل الآية [ 11 \ 114 ] ، وقوله : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية [ 30 \ 17 ] . وأقمنا بيان ذلك [ ص: 180 ] من السنة في الكلام على قوله : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا [ 4 \ 103 ] ، فراجعه هناك إن شئت ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ، الحق في لغة العرب : الثابت الذي ليس بزائل ولا مضمحل ، والباطل : هو الذاهب المضمحل . والمراد بالحق في هذه الآية : هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من دين الإسلام ، والمراد بالباطل فيها : الشرك بالله ، والمعاصي المخالفة لدين الإسلام .
وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الإسلام جاء ثابتا راسخا ، وأن الشرك بالله زهق ; أي ذهب واضمحل وزال . تقول العرب : زهقت نفسه : إذا خرجت وزالت من جسده .
ثم بين جل وعلا أن الباطل كان زهوقا ، أي مضمحلا غير ثابت في كل وقت ، وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع ، وذكر أن الحق يزيل الباطل ويذهبه ; كقوله : قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [ 34 \ 48 ، 49 ] ، وقوله : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .
وقال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة : أخرج ابن أبي شيبة ، والبخاري ومسلم ، والترمذي والنسائي ، وابن جرير وابن المنذر ، وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد [ 34 \ 49 ] .
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن المنذر عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها ، وقال : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:50 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (219)
سُورَةُ الإسراء(36)
صـ 181 إلى صـ 185
وأخرج الطبراني في الصغير ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح ، وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما ، فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ; فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] ، [ ص: 181 ] حتى مر عليها كلها .
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : وفي هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم ، ويدخل بالمعنى كسر آلة الباطل كله وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله .
قال ابن المنذر : وفي معنى الأصنام : الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها ، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه ، ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقرا أو قطعا فيجوز بيعها والشراء بها . قال المهلب : وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة ، إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال ، وقد تقدم حرق ابن عمر رضي الله عنه . وقد هم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة ، وهذا أصل في العقوبة في المال ، مع قوله صلى الله عليه وسلم في الناقة التي لعنتها صاحبتها " دعوها فإنها ملعونة " ، فأزال ملكها عنها تأديبا لصاحبتها ، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به ، وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبنا شيب بماء على صاحبه . اهـ الغرض من كلام القرطبي رحمه الله تعالى . .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " والله لينزلن عيسى بن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب ، وليقتلن الخنزير " الحديث ، من قبيل ما ذكرنا دلالة الآية عليه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا .
قد قدمنا في أول " سورة البقرة " الآيات المبينة لهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ; كقوله : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 124 ، 125 ] ، وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى [ 41 \ 44 ] كما تقدم إيضاحه . وقوله في هذه الآية : ما هو شفاء [ 17 \ 82 ] يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه ; كالشك والنفاق وغير ذلك ، وكونه شفاء للأجسام إذا رقي عليها به ، كما تدل له قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفاتحة ، وهي صحيحة مشهورة ، وقرأ أبو عمرو وننزل بإسكان النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 182 ] قوله تعالى : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوسا
; بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه إذا أنعم على الإنسان بالصحة والعافية والرزق أعرض عن ذكر الله وطاعته ، ونأى بجانبه ، أي تباعد عن طاعة ربه ، فلم يمتثل أمره ، ولم يجتنب نهيه .
وقال الزمخشري : أعرض عن ذكر الله كأنه مستغن عنه ، مستبد بنفسه ونأى بجانبه [ 17 \ 83 ] تأكيد للإعراض ; لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه . والنأي بالجانب : أن يلوي عنه عطفه ، ويوليه ظهره ، وأراد الاستكبار ; لأن ذلك من عادة المستكبرين . واليئوس : شديد اليأس ، أي القنوط من رحمة الله .
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه ، كقوله " في سورة هود " ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور [ 11 \ 9 - 10 ] وقوله في " آخر فصلت " : لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض [ 41 \ 49 - 51 ] ، وقوله : " في سورة الروم " : وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون [ 30 \ 33 ] ، وقوله فيها أيضا : وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون [ 30 \ 36 ] ، وقوله " في سورة يونس " : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه الآية [ 10 \ 12 ] ، وقوله " في سورة الزمر " : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله الآية [ 10 \ 12 ] ، وقوله فيها أيضا : فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 39 \ 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد استثنى الله من هذه الصفات عباده المؤمنين في قوله " في سورة هود " : إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير [ 11 \ 11 ] كما تقدم [ ص: 183 ] إيضاحه . وقرأ ابن ذكوان " وناء " كجاء ، وهو بمعنى نأى ; كقولهم : راء ، في : رأى .
قوله تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه ما أعطى خلقه من العلم إلا قليلا بالنسبة إلى علمه جل وعلا ; لأن ما أعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى علم الخالق قليل جدا .
ومن الآيات التي فيها الإشارة إلى ذلك قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا [ 18 \ 109 ] ، وقوله : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم [ 31 \ 27 ] .
قوله تعالى : إن فضله كان عليك كبيرا
، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم كبير .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ 4 \ 113 ] ، وقوله : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا [ 48 \ 1 - 3 ] ، وقوله : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 1 - 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبين تعالى في موضع آخر أن فضله كبير على جميع المؤمنين ، وهو قوله : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] ، وبين المراد بالفضل الكبير في قوله : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ 42 \ 22 ] .
قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ، بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة شدة عناد الكفار وتعنتهم ، وكثرة اقتراحاتهم لأجل التعنت لا لطلب الحق ; فذكر أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم : إنهم لن يؤمنوا له - أي : لن يصدقوه - حتى يفجر لهم من الأرض ينبوعا ، وهو يفعول من : نبع ، أي : ماء غزير ، ومنه قوله تعالى : فسلكه ينابيع في الأرض [ ص: 184 ] [ 39 \ 21 ] ، أو تكون لك جنة [ 17 \ 91 ] أي بستان من نخيل وعنب ، فيفجر خلالها - أي وسطها - أنهارا من الماء ، أو يسقط السماء عليهم كسفا : أي قطعا كما زعم ، أي في قوله تعالى : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء الآية [ 34 \ 9 ] ، أو يأتيهم بالله والملائكة قبيلا : أي معاينة . قاله قتادة وابن جريج " كقوله : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا [ 25 \ 21 ] .
وقال بعض العلماء : قبيلا : أي كفيلا ; من تقبله بكذا : إذا كفله به . والقبيل والكفيل والزعيم بمعنى واحد . وقال الزمخشري : قبيلا بما تقول : شاهدا بصحته ، وكون القبيل في هذه الآية بمعنى الكفيل مروي عن ابن عباس والضحاك . وقال مقاتل : قبيلا شهيدا . وقال مجاهد : هو جمع قبيلة ; أي تأتي بأصناف الملائكة ، وعلى هذا القول فهو حال من الملائكة . أو يكون له بيت من زخرف : أي من ذهب . ومنه قوله " في الزخرف " : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة - إلى قوله - وزخرفا [ 43 \ 33 - 35 ] ، أي ذهبا . أو يرقى في السماء : أي يصعد فيه ، وإنهم لن يؤمنوا لرقيه ، أي من أجل صعوده ، حتى ينزل عليهم كتابا يقرءونه . وهذا التعنت والعناد العظيم الذي ذكره جل وعلا عن الكفار هنا بينه في مواضع أخر ، وبين أنهم لو فعل الله ما اقترحوا ما آمنوا . لأن من سبق عليه الشقاء لا يؤمن ; كقوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 6 \ 7 ] ، وقوله : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [ 6 \ 111 ] ، وقوله : ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 - 15 ] ، وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة .
وقوله في هذه الآية : كتابا نقرؤه ، أي كتابا من الله إلى كل رجل منا .
ويوضح هذا قوله تعالى " في المدثر " : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة [ ص: 185 ] [ الآية 52 ] كما يشير إليه قوله تعالى : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الآية [ 6 \ 124 ] . وقوله في هذه الآية الكريمة : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ 17 \ 93 ] ، أي تنزيها لربي جل وعلا عن كل ما لا يليق به ، ويدخل فيه تنزيهه عن العجز عن فعل ما اقترحتم ، فهو قادر على كل شيء ، لا يعجزه شيء ، وأنا بشر أتبع ما يوحيه إلي ربي .
وبين هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، وقوله : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه الآية [ 41 \ 6 ] ; وكقوله تعالى عن جميع الرسل : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقرأ تفجر ، الأولى عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وإسكان الفاء وضم الجيم ، والباقون بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مكسورة ، واتفق الجميع على هذا في الثانية . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم كسفا بفتح السين والباقون بإسكانها ، وقرأ أبو عمرو : تنزل بإسكان النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وشد الزاي .
قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .
هذا المانع المذكور هنا عادي ; لأنه جرت عادة جميع الأمم باستغرابهم بعث الله رسلا من البشر ; كقوله : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا الآية [ 14 \ 10 ] ، وقوله : أنؤمن لبشرين مثلنا الآية [ 23 \ 47 ] ، وقوله : أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 24 ] ، وقوله : ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا الآية [ 64 \ 6 ] ، وقوله : ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 34 ] إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-01-22, 09:50 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (220)
سُورَةُ الإسراء(37)
صـ 186 إلى صـ 190
والدليل على أن المانع في هذه الآية عادي : أنه تعالى صرح بمانع آخر غير هذا " في سورة الكهف " وهو قوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا [ 18 \ 55 ] ، فهذا المانع المذكور " في الكهف " مانع حقيقي ; لأن من أراد الله به سنة الأولين من الإهلاك ، أو أن يأتيه [ ص: 186 ] العذاب قبلا فإرادته به ذلك مانعة من خلاف المراد ; لاستحالة أن يقع خلاف مراده جل وعلا ، بخلاف المانع " في آية بني إسرائيل " هذه ، فهو مانع عادي يصح تخلفه ، وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
قوله تعالى : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا .
بين جل وعلا في هذه الآية : أن الرسول يلزم أن يكون من جنس المرسل إليهم ، فلو كان مرسلا رسولا إلى الملائكة لنزل عليهم ملكا مثلهم ، أي وإذا أرسل إلى البشر أرسل لهم بشرا مثلهم .
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 8 - 9 ] ، وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم [ 21 \ 7 ] ، وقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من خلق السموات والأرض مع عظمهما قادر على بعث الإنسان بلا شك ; لأن من خلق الأعظم الأكبر فهو على خلق الأصغر قادر بلا شك .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس الآية [ 40 \ 57 ] ، أي ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر ، وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى [ 36 \ 81 ] ، وقوله : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى [ 46 \ 33 ] ، وقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .
قوله تعالى : قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا .
بين تعالى في هذه الآية : أن بني آدم لو كانوا يملكون خزائن رحمته - أي خزائن الأرزاق والنعم - لبخلوا بالرزق على غيرهم ، ولأمسكوا عن الإعطاء ، خوفا من الإنفاق لشدة بخلهم .
[ ص: 187 ] وبين أن الإنسان قتور ، أي بخيل مضيق ; من قولهم : قتر على عياله ، أي ضيق عليهم .
وبين هذا المعنى في مواضع أخر ; كقوله تعالى : أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [ 4 \ 53 ] ، وقوله : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الآية [ 70 \ 19 - 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والمقرر في علم العربية أن " لو " لا تدخل إلا على الأفعال ، فيقدر لها في الآية فعل محذوف ، والضمير المرفوع بعد " لو " أصله فاعل الفعل المحذوف ، فلما حذف الفعل فصل الضمير . والأصل قل لو تملكون ، فحذف الفعل فبقيت الواو فجعلت ضميرا منفصلا ، هو : أنتم . هكذا قاله غير واحد ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات
الآية . قال بعض أهل العلم : هذه الآيات التسع ، هي : العصا ، واليد ، والسنون ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات .
وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر ; كقوله : فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 7 \ 107 - 108 ] ، وقوله : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات الآية [ 7 \ 130 ] ، وقوله : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 \ 63 ] وقوله : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات [ 7 \ 133 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا ، وجعل بعضهم الجبل بدل " السنين " وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى : وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة [ 7 \ 117 ] ، ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر
الآية ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر ، أي حججا واضحة ، وذلك يدل على أن قول فرعون فمن ربكما ياموسى [ 20 \ 49 ] ، وقوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] كل ذلك منه تجاهل عارف .
[ ص: 188 ] وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى مبينا سبب جحوده لما علمه " في سورة النمل " بقوله : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا الآية [ 27 \ 12 - 14 ] .
قوله تعالى : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل هذا القرآن بالحق : أي متلبسا به متضمنا له ; فكل ما فيه حق فأخباره صدق ، وأحكامه عدل ; كما قال تعالى : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ 6 \ 115 ] وكيف لا وقد أنزله جل وعلا بعلمه ، كما قال تعالى : لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه الآية [ 4 \ 166 ] . وقوله : وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله .
لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه ، أمين لا يغير ولا يبدل ، كما أشار إلى هذا بقوله : نزل به الروح الأمين على قلبك الآية [ 26 \ 193 ، 194 ] ، وقوله : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين الآية [ 81 \ 19 - 21 ] ، وقوله في هذه الآية : لقول رسول ، أي لتبليغه عن ربه ، بدلالة لفظ الرسول ؛ لأنه يدل على أنه مرسل به .
قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث .
قرأ هذا الحرف عامة القراء " فرقناه " بالتخفيف ، أي بيناه وأوضحناه ، وفصلناه وفرقنا به بين الحق والباطل ، وقرأ بعض الصحابة فرقناه بالتشديد ، أي أنزلناه مفرقا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة . ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل قوله تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم . الآية [ 44 \ 4 ]
وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأه على الناس على مكث ، أي مهل وتؤدة وتثبت ، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك ، وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله : ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، ويدل لذلك أيضا قوله : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] ، وقوله تعالى : وقرآنا [ 17 \ 106 ] منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده ، على حد قوله في الخلاصة :
[ ص: 189 ] فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا
قوله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى .
أمر الله جل وعلا عباده في هذه الآية الكريمة : أن يدعوه بما شاءوا من أسمائه ، إن شاءوا قالوا : يا ألله ، وإن شاءوا قالوا : يا رحمن ، إلى غير ذلك من أسمائه جل وعلا .
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [ 7 \ 180 ] ، وقوله : هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ 59 \ 22 ، 23 ] .
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع : أنهم تجاهلوا اسم الرحمن في قوله : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن الآية [ 25 \ 60 ] ، وبين لهم بعض أفعال الرحمن جل وعلا في قوله : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [ 55 \ 1 - 4 ] ، ولذا قال بعض العلماء : إن قوله : الرحمن علم القرآن جواب لقولهم : قالوا وما الرحمن الآية [ 25 \ 60 ] ، وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح " في سورة الفرقان " .
قوله تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا .
أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الناس على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ( لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما قدمنا ) أن يقولوا : " الحمد لله " أي : كل ثناء جميل لائق بكماله وجلاله ، ثابت له ، مبينا أنه منزه عن الأولاد والشركاء والعزة بالأولياء ، سبحانه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا .
فبين تنزهه عن الولد والصاحبة في مواضع كثيرة ; كقوله : قل هو الله أحد [ 112 \ 1 ] إلى آخر السورة ، وقوله : وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا [ 72 \ 3 ] ، وقوله : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم [ 6 \ 101 ] ، وقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ ص: 190 ] الآية [ 19 \ 88 - 92 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وبين في مواضع أخر : أنه لا شريك له في ملكه ، أي ولا في عبادته ; كقوله : وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] ، وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ، وقوله : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] ، وقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء الآية [ 3 \ 26 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
ومعنى قوله في هذه الآية : ولم يكن له ولي من الذل [ 17 \ 111 ] ، يعني أنه لا يذل فيحتاج إلى ولي يعز به ; لأنه هو العزيز القهار ، الذي كل شيء تحت قهره وقدرته ، كما بينه في مواضع كثيرة كقوله : والله غالب على أمره الآية [ 12 \ 21 ] ، وقوله : أن الله عزيز حكيم [ 2 \ 209 ] والعزيز : الغالب ، وقوله : وهو القاهر فوق عباده [ 6 \ 18 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقوله وكبره تكبيرا [ 17 \ 111 ] أي عظمه تعظيما شديدا ، ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه ، والمسارعة إلى كل ما يرضيه ، كقوله تعالى : ولتكبروا الله على ما هداكم [ 2 \ 185 ] ونحوها من الآيات ، والعلم عند الله تعالى .
وروى ابن جرير في تفسيره هذه الآية الكريمة عن قتادة ، أنه قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصغير والكبير من أهله هذه الآية : الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية [ 17 \ 111 ] ، وقال ابن كثير : قلت : وقد جاء في حديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز ، وفي بعض الآثار : إنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة . والله أعلم . ثم ذكر حديثا عن أبي يعلى من حديث أبي هريرة مقتضاه : أن قراءة هذه الآية تذهب السقم والضر ، ثم قال : إسناده ضعيف ، وفي متنه نكارة . والله تعالى أعلم .
وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذا آخر الجزء الثالث من هذا الكتاب المبارك ، ويليه الجزء الرابع إن شاء الله تعالى ، وأوله سورة الكهف ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 10:55 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (221)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 191 إلى صـ 196
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْكَهْفِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا .
علم الله جل وعلا عباده في أول هذه السورة الكريمة أن يحمدوه على أعظم نعمة أنعمها عليهم ; وهي إنزاله على نبينا صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم ، الذي لا اعوجاج فيه ، بل هو في كمال الاستقامة ، أخرجهم به من الظلمات إلى النور . وبين لهم فيه العقائد ، والحلال والحرام ، وأسباب دخول الجنة والنار ، وحذرهم فيه من كل ما يضرهم ، وحضهم فيه على كل ما ينفعهم ، فهو النعمة العظمى على الخلق ، ولذا علمهم ربهم كيف يحمدونه على هذه النعمة الكبرى بقوله : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] .
وما أشار له هنا من عظيم الإنعام والامتنان على خلقه بإنزال هذا القرآن العظيم ، منذرا من لم يعمل به ، ومبشرا من عمل به ، ذكره جل وعلا في مواضع كثيرة ; كقوله : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما [ 4 \ 174 ] ، وقوله : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29 \ 51 ] ، وقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين [ 27 \ 76 - 77 ] ، وقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [ 17 \ 82 ] ، وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء الآية [ 41 \ 44 ] ، وقوله تعالى : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 106 - 107 ] ، وقوله : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] ، [ ص: 192 ] وقوله : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير [ 35 \ 32 ] .
وهو تصريح منه جل وعلا بأن إيراث هذا الكتاب فضل كبير ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ، أي لم يجعل في القرآن عوجا ; أي لا اعوجاج فيه ألبتة ، لا من جهة الألفاظ ، ولا من جهة المعاني ، أخباره كلها صدق ، وأحكامه عدل ، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه ، وأخباره وأحكامه ; لأن قوله : " عوجا " نكرة في سياق النفي ، فهي تعم نفي جميع أنواع العوج .
وما ذكره جل وعلا هنا من أنه لا اعوجاج فيه ، بينه في مواضع أخر كثيرة كقوله : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون [ 39 \ 27 - 28 ] ، وقوله : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] . فقوله " صدقا " أي في الأخبار ، وقوله : " عدلا " أي في الأحكام ، وكقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
وقوله في هذه الآية الكريمة : قيما أي مستقيما لا ميل فيه ولا زيغ ، وما ذكره هنا من كونه قيما لا ميل فيه ولا زيغ ، بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة [ 98 \ 1 ] ، وقوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الآية [ 17 \ 9 ] ، وقوله : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 10 \ 37 ] ، وقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] ، وقوله الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وقوله : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 193 ] وهذا الذي فسرنا به قوله تعالى : قيما هو قول الجمهور وهو الظاهر . وعليه فهو تأكيد في المعنى لقوله : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ; لأنه قد يكون الشيء مستقيما في الظاهر وهو لا يخلو من اعوجاج في حقيقة الأمر ، ولذا جمع تعالى بين نفي العوج وإثبات الاستقامة . وفي قوله : " قيما " وجهان آخران من التفسير :
الأول : أن معنى كونه " قيما " أنه قيم على ما قبله من الكتب السماوية ، أي مهيمن عليها ، وعلى هذا التفسير فالآية كقوله تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه الآية [ 5 \ 15 ] .
ولأجل هيمنته على ما قبله من الكتب ، قال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون الآية [ 27 \ 76 ] ، وقال : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ 3 \ 93 ] ، وقال : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب الآية [ 5 \ 15 ] .
الوجه الثاني : أن معنى كونه " قيما " : أنه قيم بمصالح الخلق الدينية والدنيوية . وهذا الوجه في الحقيقة يستلزمه الوجه الأول .
واعلم أن علماء العربية اختلفوا في إعراب قوله : " قيما " فذهب جماعة إلى أنه حال من الكتاب ، وأن في الآية تقديما وتأخيرا ، وتقريره على هذا : أنزل على عبده الكتاب في حال كونه قيما ولم يجعل له عوجا ، ومنع هذا الوجه من الإعراب الزمخشري في الكشاف قائلا : إن قوله : ولم يجعل له عوجا [ 18 \ 1 ] ، معطوف على صلة الموصول التي هي جملة : أنزل على عبده الكتاب ، والمعطوف على الصلة داخل في حيز الصلة ، فجعل " قيما " حالا من " الكتاب " يؤدي إلى الفصل بين الحال وصاحبها ببعض الصلة ، وذلك لا يجوز ، وذهب جماعة آخرون إلى أن " قيما " حال من " الكتاب " ، وأن المحذور الذي ذكره الزمخشري منتف ، وذلك أنهم قالوا : إن جملة ولم يجعل له عوجا ليست معطوفة على الصلة ، وإنما هي جملة حالية . وقوله " قيما " حال بعد حال ، وتقريره أن المعنى : أنزل على عبده الكتاب في حال كونه غير جاعل فيه عوجا ، وفي حال كونه قيما . وتعدد الحال لا إشكال فيه ، والجمهور على جواز تعدد الحال مع اتحاد عامل الحال وصاحبها ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد
[ ص: 194 ] وسواء كان ذلك بعطف أو بدون عطف ، فمثاله مع العطف قوله تعالى : أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين [ 3 \ 39 ] ، ومثاله بدون عطف قوله تعالى : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا الآية [ 7 \ 150 ] . وقول الشاعر :
علي إذا ما جئت ليلى بخفية زيارة بيت الله رجلان حافيا
ونقل عن أبي الحسن بن عصفور منع تعدد الحال ما لم يكن العامل فيه صيغة التفضيل في نحو قوله : هذا بسرا أطيب منه رطبا . ونقل منع ذلك أيضا عن الفارسي وجماعة ، وهؤلاء الذين يمنعون تعدد الحال يقولون : إن الحال الثانية إنما هي حال من الضمير المستكن في الحال الأولى ، والأولى عندهم هي العامل في الثانية ، فهي عندهم أحوال متداخلة ، أو يجعلون الثانية نعتا للأولى ، وممن اختار أن جملة ولم يجعل حالية ، وأن قيما حال بعد حال - الأصفهاني .
وذهب بعضهم إلى أن قوله : قيما بدل من قوله : ولم يجعل له عوجا ; لأن انتفاء العوج عنه هو معنى كونه قيما .
وعزا هذا القول الرازي وأبو حيان لصاحب حل العقد ، وعليه فهو بدل مفرد من جملة .
كما قالوا في : عرفت زيدا أبو من ، أنه بدل جملة من مفرد ، وفي جواز ذلك خلاف عند علماء العربية .
وزعم قوم أن قيما حال من الضمير المجرور في قوله : ولم يجعل له عوجا ، واختار الزمخشري وغيره أن قيما منصوب بفعل محذوف ، وتقديره : ولم يجعل له عوجا وجعله قيما ، وحذف ناصب الفضلة إذا دل عليه المقام جائز ، كما قال في الخلاصة :
ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما
وأقرب أوجه الإعراب في قوله : " قيما " أنه منصوب بمحذوف ، أو حال ثانية من " الكتاب " والله تعالى أعلم .
وقوله في هذه الآية الكريمة : لينذر بأسا شديدا [ 18 \ 2 ] اللام فيه متعلقة [ ص: 195 ] بـ أنزل ، وقال الحوفي : هي متعلقة بقوله : قيما ، والأول هو الظاهر .
والإنذار : الإعلام المقترن بتخويف وتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا ، والإنذار يتعدى إلى مفعولين ، كما في قوله : فأنذرتكم نارا تلظى [ 92 \ 14 ] ، وقوله : إنا أنذرناكم عذابا قريبا الآية [ 38 \ 40 ] .
وفي أول هذه السورة الكريمة كرر تعالى الإنذار ، فحذف في الموضع الأول مفعول الإنذار الأول ، وحذف في الثاني المفعول الثاني ، فصار المذكور دليلا على المحذوف في الموضعين . وتقدير المفعول الأول المحذوف في الموضع الأول : لينذر الذين كفروا بأسا شديدا من لدنه ، وتقدير المفعول الثاني المحذوف في الموضع الثاني : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا بأسا شديدا من لدنه .
وقد أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى أن هذا القرآن العظيم تخويف وتهديد للكافرين ، وبشارة للمؤمنين المتقين ; إذ قال في تخويف الكفرة به : لينذر بأسا شديدا من لدنه [ 18 \ 2 ] ، وقال : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا الآية [ 18 \ 4 ] ، وقال في بشارته للمؤمنين : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا الآية [ 18 \ 2 ] .
وهذا الذي ذكره هنا من كونه إنذارا لهؤلاء وبشارة لهؤلاء بينه في مواضع أخر ; كقوله : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ، وقوله : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] .
وقد أوضحنا هذا المبحث في أول سورة " الأعراف " ، وأوضحنا هنالك المعاني التي ورد بها الإنذار في القرآن . والبأس الشديد الذي أنذرهم إياه : هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة . والبشارة : الخير بما يسر .
وقد تطلق العرب البشارة على الإخبار بما يسوء ، ومنه قوله تعالى : فبشره بعذاب أليم [ 45 \ 8 ] ومنه قول الشاعر :
وبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقالوا الود موعده الحشر
وقول الآخر :
[ ص: 196 ] يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشير
والتحقيق : أن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء ، أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ومعلوم أن علماء البلاغة يجعلون مثل ذلك مجازا ، ويسمونه استعارة عنادية ، ويقسمونها إلى تهكمية وتلميحية كما هو معروف في محله .
وقوله في هذه الآية الكريمة : الذين يعملون الصالحات [ 18 \ 2 ] بينت المراد به آيات أخر ، فدلت على أن العمل لا يكون صالحا إلا بثلاثة أمور :
الأول : أن يكون مطابقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فكل عمل مخالف لما جاء به صلوات الله وسلامه عليه فليس بصالح ، بل هو باطل ، قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، وقال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 10 ] ، وقال : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، وقال : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله الآية [ 42 \ 21 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثاني : أن يكون العامل مخلصا في عمله لله فيما بينه وبين الله ، قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين الآية [ 98 \ 5 ] ، وقال : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 11 - 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
الثالث : أن يكون العمل مبنيا على أساس الإيمان والعقيدة الصحيحة ; لأن العمل كالسقف ، والعقيدة كالأساس ، قال تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] ، فجعل الإيمان قيدا في ذلك .
وبين مفهوم هذا القيد في آيات كثيرة ، كقوله في أعمال غير المؤمنين : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وقوله : أعمالهم كسراب الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح الآية [ 14 \ 18 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 10:56 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (222)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 197 إلى صـ 202
والتحقيق : أن مفرد الصالحات في قوله : يعملون الصالحات ، وقوله : [ ص: 197 ] وعملوا الصالحات [ 2 \ 25 ] ، ونحو ذلك - أنه : صالحة ، وأن العرب تطلق لفظة الصالحة على الفعلة الطيبة ; كإطلاق اسم الجنس لتناسي الوصفية ، كما شاع ذلك الإطلاق في الحسنة مرادا بها الفعلة الطيبة .
ومن إطلاق العرب لفظ الصالحة على ذلك ، قول أبي العاص بن الربيع في زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بنت الأمين جزاك الله صالحة وكل بعل سيثني بالذي علما
وقول الحطيئة :
كيف الهجاء ولا تنفك صالحة من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
وسئل أعرابي عن الحب فقال :
الحب مشغلة عن كل صالحة وسكرة الحب تنفي سكرة الوسن
وقوله في هذه الآية الكريمة : أن لهم أجرا حسنا ، أي وليبشرهم بأن لهم أجرا حسنا . الأجر : جزاء العمل ، وجزاء عملهم المعبر عنه هنا بالأجر : هو الجنة . ولذا قال : ماكثين فيه [ 18 \ 3 ] ، وذكر الضمير في قوله : فيه ; لأنه راجع إلى الأجر وهو مذكر ، وإن كان المراد بالأجر الجنة . ووصف أجرهم هنا بأنه حسن ، وبين أوجه حسنه في آيات كثيرة ، كقوله : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين - إلى قوله - ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ 56 \ 13 - 16 ] ، وكقوله : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 56 \ 39 - 40 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا معلومة .
وقوله في هذه الآية الكريمة : ماكثين فيه أبدا ، أي خالدين فيه بلا انقطاع .
وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كثيرة ، كقوله : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] أي غير مقطوع ، وقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، أي ما له من انقطاع وانتهاء ، وقوله : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] ، وقوله : والآخرة خير وأبقى [ 87 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا [ 18 \ 4 ] ، [ ص: 198 ] أي ينذرهم بأسا شديدا ، من لدنه أي من عنده كما تقدم . وهذا من عطف الخاص على العام ; لأن قوله : لينذر بأسا شديدا من لدنه شامل للذين قالوا اتخذ الله ولدا ، ولغيرهم من سائر الكفار .
وقد تقرر في فن المعاني : أن عطف الخاص على العام إذا كان الخاص يمتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة أو قبيحة من الإطناب المقبول ، تنزيلا للتغاير في الصفات منزلة التغاير في الذوات .
ومثاله في الممتاز عن سائر أفراد العام بصفات حسنة قوله تعالى : وملائكته ورسله وجبريل الآية [ 2 \ 98 ] ، وقوله : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح [ 33 \ 7 ] .
ومثاله في الممتاز بصفات قبيحة الآية التي نحن بصددها ، فإن الذين قالوا اتخذ الله ولدا امتازوا عن غيرهم بفرية شنعاء ، ولذا ساغ عطفهم على اللفظ الشامل لهم ولغيرهم .
والآيات الدالة على شدة عظم فريتهم كثيرة جدا . كقوله هنا : كبرت كلمة تخرج من أفواههم [ 18 \ 5 ] الآية ، وكقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 88 - 92 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقد قدمنا أن القرآن بين أن الذين نسبوا الولد لله - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - ثلاثة أصناف من الناس : اليهود ، والنصارى ، قال تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم الآية [ 9 \ 30 ] ، والصنف الثالث مشركو العرب ; كما قال تعالى عنهم : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] ، والآيات بنحوها كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما لهم به من علم ولا لآبائهم [ 18 \ 5 ] ، يعني أن ما نسبوه له جل وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به ; لأنه مستحيل .
والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه ; ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 2 \ 57 ] ; لأن ظلمهم [ ص: 199 ] لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولد كل ذلك مستحيل عقلا .
فنفيه لا يدل على إمكانه ، ومن هذا القبيل قول المنطقيين : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ، كما بيناه في غير هذا الموضع .
وما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بينه في مواضع أخر ، كقوله : وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون [ 6 \ 100 ] ، وقوله في آبائهم : أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة : كبرت كلمة تخرج من أفواههم [ 18 \ 5 ] يعني أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولدا أمر كبير عظيم ; كما بينا الآيات الدالة على عظمه آنفا ، كقوله : إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله : تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا الآية [ 19 \ 90 ] ، وكفى بهذا كبرا وعظما .
وقال بعض علماء العربية : إن قوله : كبرت كلمة معناه التعجب ، فهو بمعنى ما أكبرها كلمة ، أو أكبر بها كلمة .
والمقرر في علم النحو : أن " فعل " بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح ، فتكون من باب نعم وبئس ، ومنه قوله تعالى : كبرت كلمة الآية . وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله :
واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
وقوله " كنعم " أي اجعله من باب " نعم " فيشمل بئس ، وإذا تقرر ذلك ففاعل " كبر " ضمير محذوف و كلمة نكرة مميزة للضمير المحذوف ، على حد قوله في الخلاصة . ويرفعان مضمرا يفسره مميز كنعم قوما معشره
والمخصوص بالذم محذوف ، والتقدير : كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها ، وهي قولهم : اتخذ الله ولدا ، وأعرب بعضهم كلمة بأنها حال ، أي كبرت فريتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم . وليس بشيء .
[ ص: 200 ] وقال ابن كثير في تفسيره تخرج من أفواههم ، أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ، ولذا قال : إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 5 ] .
وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير له شواهد في القرآن ; كقوله : يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم [ 3 \ 167 ] ونحو ذلك من الآيات .
والكذب : مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال .
لفظة " كبر " إذا أريد بها غير الكبر في السن فهي مضمومة الباء في الماضي والمضارع ، كقوله هنا : كبرت كلمة الآية ، وقوله : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] ، وقوله : أو خلقا مما يكبر في صدوركم [ 17 \ 51 ] ونحو ذلك .
وإن كان المراد بها الكبر في السن فهي مكسورة الباء في الماضي ، مفتوحتها في المضارع على القياس ، ومن ذلك قوله تعالى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ 4 \ 6 ] .
وقول المجنون :
تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب ولم يبد للعينين من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وقوله في هذا البيت : " صغيرين " شاهد عند أهل العربية في إتيان الحال من الفاعل والمفعول معا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة كبرت كلمة يعني بالكلمة : الكلام الذي هو قولهم : اتخذ الله ولدا [ 18 \ 4 ] .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله يطلق اسم الكلمة على الكلام ، أوضحته آيات أخر ; كقوله : كلا إنها كلمة هو قائلها الآية [ 23 \ 100 ] ، والمراد بها قوله : قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت [ 23 \ 99 - 100 ] ، وقوله : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] ، وما جاء لفظ الكلمة في القرآن إلا مرادا به الكلام المفيد .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عوجا هو بكسر العين في المعاني كما في هذه الآية الكريمة ، وبفتحها فيما كان منتصبا كالحائط .
[ ص: 201 ] قال الجوهري في صحاحه : قال ابن السكيت : وكل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه " عوج " بالفتح ، والعوج - بالكسر - ما كان في أرض أو دين أو معاش ، يقال : في دينه عوج . اهـ .
وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل عوجا بالسكت على الألف المبدلة من التنوين سكتة يسيرة من غير تنفس ، إشعارا بأن قيما ليس متصلا بـ عوجا في المعنى ، بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر ، أي جعله قيما كما قدمنا .
وقرأ أبو بكر عن عاصم من لدنه بإسكان الدال مع إشمامها الضم ، وكسر النون والهاء ووصلها بياء في اللفظ ، وقوله : ويبشر المؤمنين الذين [ 18 \ 2 ] ، قرأه الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة ، وقرأه حمزة والكسائي " يبشر " بفتح الياء وإسكان الباء الموحدة وضم الشين .
قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا .
اعلم أولا أن لفظة " لعل " تكون للترجي في المحبوب ، وللإشفاق في المحذور ، واستظهر أبو حيان في البحر المحيط أن " لعل " في قوله هنا : فلعلك باخع نفسك للإشفاق عليه صلى الله عليه وسلم أن يبخع نفسه لعدم إيمانهم به .
وقال بعضهم : إن " لعل " في الآية للنهي . وممن قال به العسكري ، وهو معنى كلام ابن عطية كما نقله عنهما صاحب البحر المحيط .
وعلى هذا القول فالمعنى : لا تبخع نفسك لعدم إيمانهم . وقيل : هي في الآية للاستفهام المضمن معنى الإنكار . وإتيان " لعل " للاستفهام مذهب كوفي معروف .
وأظهر هذه الأقوال عندي في معنى " لعل " أن المراد بها في الآية النهي عن الحزن عليهم .
وإطلاق " لعل " مضمنة معنى النهي في مثل هذه الآية أسلوب عربي يدل عليه سياق الكلام .
ومن الأدلة على أن المراد بها النهي عن ذلك كثرة ورود النهي صريحا عن ذلك ; كقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وقوله : ولا تحزن عليهم [ ص: 202 ] [ 16 \ 127 ] ، وقوله : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
والباخع : المهلك ; أي مهلك نفسك من شدة الأسف على عدم إيمانهم ، ومنه قول ذي الرمة :
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه لشيء نحته عن يديه المقادر
كما تقدم .
وقوله : على آثارهم ، قال القرطبي : " آثارهم " جمع أثر ، ويقال إثر . والمعنى : على أثر توليهم وإعراضهم عنك .
وقال أبو حيان في البحر : ومعنى " على آثارهم " : من بعدهم ، أي بعد يأسك من إيمانهم ، أو بعد موتهم على الكفر ، يقال : مات فلان على أثر فلان ; أي بعده .
وقال الزمخشري : شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به ، وما داخله من الوجد والأسف على توليهم - برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم ، وتلهفا على فراقهم . والأسف هنا : شدة الحزن . وقد يطلق الأسف على الغضب ; كقوله : فلما آسفونا انتقمنا منهم [ 43 \ 55 ] .
فإذا حققت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن ما ذكره فيها جل وعلا من شدة حزن نبيه صلى الله عليه وسلم عليهم ، ومن نهيه له عن ذلك مبين في آيات أخر كثيرة ، كقوله : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات [ 35 \ 8 ] ، وكقوله : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] ، وكقوله : ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] ، وكقوله : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] ، وكقوله : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] ، وكقوله : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون [ 15 \ 97 ] كما قدمناه موضحا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 10:57 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (223)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 203 إلى صـ 208
وقوله في هذه الآية الكريمة : أسفا مفعول من أجله ، أي مهلك نفسك من أجل الأسف . ويجوز إعرابه حالا ; أي في حال كونك آسفا عليهم . على حد قوله في الخلاصة :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
[ ص: 203 ] قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .
قال الزمخشري في معنى هذه الآية الكريمة : " ما عليها " يعني ما على الأرض مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من زخارف الدنيا وما يستحسن منها .
وقال بعض العلماء : كل ما على الأرض زينة لها من غير تخصيص ، وعلى هذا القول فوجه كل الحيات وغيرها مما يؤذي زينة للأرض ; لأنه يدل على وجود خالقه ، واتصافه بصفات الكمال والجلال ، ووجود ما يحصل به هذا العلم في شيء زينة له .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان المذكورة فيه أن يذكر لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، كقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] الآية ، مع تصريحه بأن البدن داخلة في هذا العموم بقوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 18 \ 36 ] .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [ 18 \ 7 ] قد صرح في مواضع أخر ببعض الأفراد الداخلة فيه ، كقوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا الآية [ 18 \ 46 ] ، وقوله : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة : صعيدا جرزا [ 18 \ 8 ] ، أي أرضا بيضاء لا نبات بها ، وقد قدمنا معنى " الصعيد " بشواهده العربية في سورة " المائدة " .
والجرز : الأرض التي لا نبات بها كما قال تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ومنه قول ذي الرمة :
طوى النحز والأجراز ما في غروضها وما بقيت إلا الضلوع الجراشع
لأن مراده " بالأجراز " الفيافي التي لا نبات فيها ، والأجراز : جمع جرزة ، والجرزة : جمع جرز ، فهو جمع الجمع للجرز ، كما قاله الجوهري في صحاحه .
قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : وإنا لجاعلون ما عليها [ 18 \ 8 ] من هذه الزينة صعيدا جرزا ، أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة ، في إزالة بهجته وإماطة حسنه ، وإبطال ما به كان زينة من إماتة الحيوان ، وتجفيف [ ص: 204 ] النبات والأشجار . اهـ .
وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون [ 10 \ 24 ] ، وكقوله تعالى : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا [ 18 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة : لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 45 ] أي لنختبرهم على ألسنة رسلنا .
وهذه الحكمة التي ذكرها هنا لجعل ما على الأرض زينة لها ( وهي الابتلاء في إحسان العمل ) بين في مواضع أخر أنها هي الحكمة في خلق الموت والحياة والسموات والأرض ، قال تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [ 67 \ 1 - 2 ] ، وقال تعالى : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .
وقد بين صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " كما تقدم .
وهذا الذي أوضحنا من أنه جل وعلا جعل ما على الأرض زينة لها ليبتلي خلقه ، ثم يهلك ما عليها ويجعله صعيدا جرزا - فيه أكبر واعظ للناس ، وأعظم زاجر عن اتباع الهوى ، وإيثار الفاني على الباقي ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " .
قوله تعالى : أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا .
أم [ 18 \ 9 ] ، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة عن التحقيق ، ومعناها عند الجمهور " بل والهمزة " وعند بعض العلماء بمعنى " بل " فقط ، فعلى القول الأول فالمعنى : بل [ ص: 205 ] أحسبت ، وعلى الثاني فالمعنى : بل حسبت ، فهي على القول الأول جامعة بين الإضراب والإنكار ، وعلى الثاني فهي للإضراب الانتقالي فقط .
وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة : أن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : إن قصة أصحاب الكهف وإن استعظمها الناس وعجبوا منها ، فليست شيئا عجبا بالنسبة إلى قدرتنا وعظيم صنعنا ، فإن خلقنا للسموات والأرض ، وجعلنا ما على الأرض زينة لها ، وجعلنا إياها بعد ذلك صعيدا جرزا ، أعظم وأعجب مما فعلنا بأصحاب الكهف ، ومن كوننا أنمناهم هذا الزمن الطويل ، ثم بعثناهم ، ويدل لهذا الذي ذكرنا آيات كثيرة :
منها أنه قال : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا [ 18 \ 7 - 8 ] ، ثم أتبع ذلك بقوله : أم حسبت أن أصحاب الكهف الآية [ 18 \ 9 ] ، فدل ذلك على أن المراد أن قصتهم لا عجب فيها بالنسبة إلى ما خلقنا مما هو أعظم منها .
ومنها أنه يكثر في القرآن العظيم تنبيه الناس على أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الناس ، ومن خلق الأعظم فهو قادر على الأصغر بلا شك ، كقوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس الآية [ 40 \ 57 ] ، وكقوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها - إلى قوله - متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] كما قدمناه مستوفى في سورة " البقرة والنحل " .
ومن خلق هذه المخلوقات العظام : كالسماء والأرض وما فيهما فلا عجب في إقامته أهل الكهف هذه المدة الطويلة ، ثم بعثه إياهم ، كما هو واضح .
والكهف : النقب المتسع في الجبل ، فإن لم يك واسعا فهو غار . وقيل : كل غار في جبل : كهف . وما يروى عن أنس من أن الكهف نفس الجبل ، غريب غير معروف في اللغة .
واختلف العلماء في المراد بـ الرقيم في هذه الآية على أقوال كثيرة ، قيل : الرقيم اسم كلبهم ، وهو اعتقاد أمية بن أبي الصلت حيث يقول :
وليس بها إلا الرقيم مجاورا وصيدهم والقوم في الكهف همد
وعن الضحاك أن الرقيم : بلدة بالروم ، وقيل : اسم الجبل الذي فيه الكهف ، وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف ، والأقوال فيه كثيرة . وعن ابن عباس أنه قال : لا [ ص: 206 ] أدري ما الرقيم أكتاب أم بنيان ؟ .
وأظهر الأقوال عندي بحسب اللغة العربية وبعض آيات القرآن ، أن الرقيم معناه : المرقوم ، فهو " فعيل " بمعنى " مفعول " من : رقمت الكتاب : إذا كتبته ، ومنه قوله تعالى : كتاب مرقوم الآية [ 83 \ 9 ، و 83 \ 20 ] . سواء قلنا : إن الرقيم كتاب كان عندهم فيه شرعهم الذي تمسكوا به ، أو لوح من ذهب كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم وقصتهم وسبب خروجهم ، أو صخرة نقشت فيها أسماؤهم ، والعلم عند الله تعالى .
والظاهر أن أصحاب الكهف والرقيم : طائفة واحدة أضيفت إلى شيئين أحدهما معطوف على الآخر ، خلافا لمن قال : إن أصحاب الكهف طائفة ، وأصحاب الرقيم طائفة أخرى ، وأن الله قص على نبيه في هذه السورة الكريمة قصة أصحاب الكهف ولم يذكر له شيئا عن أصحاب الرقيم ، وخلافا لمن زعم أن أصحاب الكهف هم الثلاثة الذين سقطت عليهم صخرة فسدت عليهم باب الكهف الذي هم فيه ، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ، وهم البار بوالديه ، والعفيف ، والمستأجر ، وقصتهم مشهورة ثابتة في الصحيح ، إلا أن تفسير الآية بأنهم هم المراد ، بعيد كما ترى .
واعلم أن قصة أصحاب الكهف وأسماءهم ، وفي أي محل من الأرض كانوا ، كل ذلك لم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء زائد على ما في القرآن ، وللمفسرين في ذلك أخبار كثيرة إسرائيلية أعرضنا عن ذكرها لعدم الثقة بها .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عجبا صفة لمحذوف ، أي شيئا عجبا . أو آية عجبا .
وقوله : من آياتنا في موضع الحال ، وقد تقرر في فن النحو أن نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا ، وأصل المعنى : كانوا عجبا كائنا من آياتنا ، فلما قدم النعت صار حالا .
قوله تعالى : إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفة أصحاب الكهف أنهم فتية ، وأنهم أووا إلى الكهف ، وأنهم دعوا ربهم هذا الدعاء العظيم الشامل لكل خير ، وهو قوله عنهم : ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا [ 18 \ 10 ] .
وبين في غير هذا الموضع أشياء أخرى من صفاتهم وأقوالهم ; كقوله : [ ص: 207 ] إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى - إلى قوله - ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا [ 18 \ 13 - 16 ] و إذ في قوله هنا : إذ أوى الفتية [ 18 \ 10 ] منصوبة بـ اذكر مقدرا ، وقيل : بقوله : عجبا ، ومعنى قوله : إذ أوى الفتية إلى الكهف [ 18 \ 10 ] ، أي جعلوا الكهف مأوى لهم ومكان اعتصام .
ومعنى قوله : آتنا من لدنك رحمة ، أي أعطنا رحمة من عندك ، والرحمة هنا تشمل الرزق والهدى والحفظ مما هربوا خائفين منه من أذى قومهم ، والمغفرة .
والفتية : جمع فتى جمع تكسير ، وهو من جموع القلة ، ويدل لفظ الفتية على قلتهم ، وأنهم شباب لا شيب ، خلافا لما زعمه ابن السراج من : أن الفتية اسم جمع لا جمع تكسير ، وإلى كون مثل الفتية جمع تكسير من جموع القلة ، أشار ابن مالك في الخلاصة بقوله :
أفعلة أفعل ثم فعله كذاك أفعال جموع قلة
والتهيئة : التقريب والتيسير ، أي يسر لنا وقرب لنا من أمرنا رشدا ، والرشد : الاهتداء والديمومة عليه . و من في قوله : من أمرنا فيها وجهان : أحدهما أنها هنا للتجريد ، وعليه فالمعنى : اجعل لنا أمرنا رشدا كله ، كما تقول : لقيت من زيد أسدا . ومن عمرو بحرا .
والثاني أنها للتبعيض ، وعليه فالمعنى : واجعل لنا بعض أمرنا ; أي وهو البعض الذي نحن فيه من مفارقة الكفار ، رشدا ، حتى نكون بسببه راشدين مهتدين .
قوله تعالى : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ضرب على آذان أصحاب الكهف سنين عددا ، ولم يبين قدر هذا العدد هنا ، ولكنه بينه في موضع آخر وهو قوله : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] .
وضربه جل وعلا على آذانهم في هذه الآية كناية عن كونه أنامهم ، ومفعول " ضربنا " محذوف ، أي ضربنا على آذانهم حجابا مانعا من السماع فلا يسمعون شيئا يوقظهم ، والمعنى : أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات .
وقوله : سنين عددا على حذف مضاف ; أي ذات عدد ، أو مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي سنين معدودة ، وقد ذكرنا الآية المبينة لقدر عددها بالسنة القمرية [ ص: 208 ] والشمسية ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] .
وقال أبو حيان في البحر في قوله : فضربنا على آذانهم [ 18 \ 11 ] عبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ، ومنه : وضربت عليهم الذلة [ 2 \ 61 ] ، وضرب الجزية وضرب البعث ، وقال الفرزدق :
ضرب عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
وقال الأسود بن يعفر :
ومن الحوادث لا أبا لك أنني
ضربت علي الأرض بالأسداد
وقال آخر :
إن المروءة والسماحة والندى
في قبة ضربت على ابن الحشرج
وذكر الجارحة التي هي الآذان ( إذ هي يكون منها السمع ) لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع ، وفي الحديث : " ذلك رجل بال الشيطان في أذنه " ; أي استثقل نومه جدا حتى لا يقوم بالليل . اهـ كلام أبي حيان .
قوله تعالى : ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم بعثه لأصحاب الكهف بعد هذه النومة الطويلة أن يبين للناس أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم أحصى لذلك وأضبط له ، ولم يبين هنا شيئا عن الحزبين المذكورين .
وأكثر المفسرين على أن أحد الحزبين هم أصحاب الكهف ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وقيل : هما حزبان من أهل المدينة المذكورة ، كان منهم مؤمنون وكافرون ، وقيل : هما حزبان من المؤمنين في زمن أصحاب الكهف . اختلفوا في مدة لبثهم ، قاله الفراء : وعن ابن عباس : الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب ، وأصحاب الكهف حزب ، إلى غير ذلك من الأقوال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 10:58 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (224)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 209 إلى صـ 214
والذي يدل عليه القرآن : أن الحزبين كليهما من أصحاب الكهف ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وذلك في قوله تعالى : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم [ 18 \ 19 ] ، وكأن الذين [ ص: 209 ] قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم هم الذين علموا أن لبثهم قد تطاول ، ولقائل أن يقول : قوله عنهم : ربكم أعلم بما لبثتم يدل على أنهم لم يحصوا مدة لبثهم ، والله تعالى أعلم .
وقد يجاب عن ذلك بأن رد العلم إلى الله لا ينافي العلم ، بدليل أن الله أعلم نبيه بمدة لبثهم في قوله : ولبثوا في كهفهم الآية [ 8 \ 25 ] ، ثم أمره برد العلم إليه في قوله : قل الله أعلم بما لبثوا الآية [ 18 \ 26 ] .
وقوله : بعثناهم أي من نومتهم الطويلة ، والبعث : التحريك من سكون ، فيشمل بعث النائم والميت ، وغير ذلك .
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر الله جل وعلا حكمة لشيء في موضع ، ويكون لذلك الشيء حكم أخر مذكورة في مواضع أخرى ، فإنا نبينها ، ومثلنا لذلك ، وذكرنا منه أشياء متعددة في هذا الكتاب المبارك .
وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى هنا في هذه الآية الكريمة بين من حكم بعثهم إظهاره للناس : أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ، وقد بين لذلك حكما أخر في غير هذا الموضع .
منها أن يتساءلوا عن مدة لبثهم ; كقوله : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم الآية [ 18 \ 19 ] .
ومنها إعلام الناس أن البعث حق ، وأن الساعة حق لدلالة قصة أصحاب الكهف على ذلك ، وذلك في قوله : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها الآية [ 18 \ 21 ] .
واعلم أن قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثم بعثناهم لنعلم الآية ، لا يدل على أنه لم يكن عالما بذلك قبل بعثهم ، وإنما علم بعد بعثهم ، كما زعمه بعض الكفرة الملاحدة ، بل هو جل وعلا عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، والآيات الدالة على ذلك لا تحصى كثرة .
وقد قدمنا أن من أصرح الأدلة على أنه جل وعلا لا يستفيد بالاختبار والابتلاء علما جديدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، قوله تعالى في آل عمران : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] ، فقوله : [ ص: 210 ] والله عليم بذات الصدور بعد قوله : وليبتلي دليل واضح في ذلك .
وإذا حققت ذلك فمعنى لنعلم أي الحزبين أي نعلم ذلك علما يظهر الحقيقة للناس ، فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك دون خلقه .
واختلف العلماء في قوله : أحصى فذهب بعضهم إلى أنه فعل ماض و " أمدا " مفعوله ، و " ما " في قوله : " لما لبثوا " مصدرية ، وتقرير المعنى على هذا : لنعلم أي الحزبين ضبط أمدا للبثهم في الكهف .
وممن اختار أن أحصى فعل ماض : الفارسي والزمخشري وابن عطية ، وغيرهم .
وذهب بعضهم إلى أن أحصى صيغة تفضيل ، و " أمدا " تمييز ، وممن اختاره الزجاج والتبريزي ، وغيرهما . وجوز الحوفي وأبو البقاء الوجهين .
والذين قالوا : إن أحصى فعل ماض ، قالوا : لا يصح فيه أن يكون صيغة تفضيل ، لأنها لا يصح بناؤها هي ولا صيغة فعل التعجب قياسا إلا من الثلاثي ، و " أحصى " رباعي فلا تصاغ منه صيغة التفضيل ولا التعجب قياسا ، قالوا : وقولهم : ما أعطاه وما أولاه للمعروف ، وأعدى من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق - شاذ لا يقاس عليه ، فلا يجوز حمل القرآن عليه .
واحتج الزمخشري في الكشاف أيضا لأن أحصى ليست صيغة تفضيل بأن أمدا لا يخلو : إما أن ينتصب بـ " أفعل " فـ " أفعل " لا يعمل ، وإما أن ينتصب بـ لبثوا فلا يسد عليه المعنى أن لا يكون سديدا على ذلك القول ، وقال : فإن زعمت نصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى كما أضمر في قوله :
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
أي نضرب القوانس - فقد أبعدت المتناول وهو قريب ؛ حيث أبيت أن يكون أحصى فعلا ، ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره . انتهى كلام الزمخشري .
وأجيب من جهة المخالفين عن هذا كله ، قالوا : لا نسلم أن صيغة التفضيل لا تصاغ من غير الثلاثي ، ولا نسلم أيضا لأنها لا تعمل .
وحاصل تحرير المقام في ذلك أن في كون صيغة التفضيل تصاغ من " أفعل " كما [ ص: 211 ] هنا ، أو لا تصاغ منه - ثلاثة مذاهب لعلماء النحو :
الأول : جواز بنائها من " أفعل " مطلقا ، وهو ظاهر كلام سيبويه ، وهو مذهب أبي إسحاق كما نقله عنه أبو حيان في البحر .
والثاني : لا يبنى منه مطلقا ، وما سمع منه فهو شاذ يحفظ ولا يقاس عليه ، وهو الذي درج عليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وبالندور احكم لغير ما ذكر ولا تقس على الذي منه أثر
كما قدمناه في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله : فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا [ 17 \ 72 ] .
الثالث : تصاغ من " أفعل " إذا كانت همزتها لغير النقل خاصة ; كـ " أظلم الليل " و : " أشكل الأمر " لا إن كانت الهمزة للنقل فلا تصاغ منها ، وهذا هو اختيار أبي الحسن بن عصفور ، وهذه المذاهب مذكورة بأدلتها في كتب النحو ، وأما قول الزمخشري : فأفعل لا يعمل ، فليس بصحيح ; لأن صيغة التفضيل تعمل في التمييز بلا خلاف ، وعليه درج في الخلاصة بقوله :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا
و أمدا تمييز كما تقدم ; فنصبه بصيغة التفضيل لا إشكال فيه .
وذهب الطبري إلى أن : أمدا منصوب بـ لبثوا ، وقال ابن عطية : إن ذلك غير متجه .
وقال أبو حيان : قد يتجه ذلك ; لأن الأمد هو الغاية ، ويكون عبارة عن المدة من حيث إن المدة غاية . و ما بمعنى الذي ، و أمدا منتصب على إسقاط الحرف ; أي لما لبثوا من أمد ، أي مدة ، ويصير " من أمد " تفسيرا لما انبهم في لفظ ما لبثوا كقوله : ما ننسخ من آية [ 2 \ 106 ] ، ما يفتح الله للناس من رحمة [ 35 \ 2 ] ، ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل .
قال مقيده عفا الله عنه : إطلاق الأمد على الغاية معروف في كلام العرب ، ومنه قول نابغة ذبيان :
إلا لمثلك أو من أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد
[ ص: 212 ] وقد قدمنا في سورة " النساء " أن علي بن سليمان الأخفش الصغير أجاز النصب بنزع الخافض عند أمن اللبس مطلقا ، ولكن نصب قوله : أمدا بقوله : لبثوا غير سديد كما ذكره الزمخشري وابن عطية ، وكما لا يخفى . اهـ .
وأجاز الكوفيون نصب المفعول بصيغة التفضيل ، وأعربوا قول العباس بن مرداس السلمي :
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمى للحقيقة منهم وأضرب منا بالسيوف القوانسا
بأن " القوانس " مفعول به لصيغة التفضيل التي هي " أضرب " قالوا : ولا حاجة لتقدير فعل محذوف ، ومن هنا قال بعض النحويين : إن من في قوله تعالى : إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله [ 6 \ 117 ] ، منصوب بصيغة التفضيل قبله نصب المفعول به .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ومذهب الكوفيين هذا أجرى عندي على المعنى المعقول ; لأن صيغة التفضيل فيها معنى المصدر الكامن فيها ، فلا مانع من عملها عمله ; ألا ترى أن قوله : وأضرب منا بالسيوف القوانسا ، معناه : يزيد ضربنا بالسيوف القوانس على ضرب غيرنا ، كما هو واضح . وعلى هذا الذي قررنا فلا مانع من كون أمدا منصوب بـ أحصى نصب المفعول به على أنه صيغة تفضيل ، وإن كان القائلون بأن أحصى صيغة تفضيل أعربوا أمدا بأنه تمييز .
تنبيه
فإن قيل : ما وجه رفع أي من قوله : لنعلم أي الحزبين أحصى الآية ، مع أنه في محل نصب لأنه مفعول به ؟ فالجواب أن للعلماء في ذلك أجوبة ، منها ، أن أي فيها معنى الاستفهام ، والاستفهام يعلق الفعل عن مفعوليه كما قال ابن مالك في الخلاصة عاطفا على ما يعلق الفعل القلبي عن مفعوليه :
وإن ولا لام ابتداء أو قسم كذا والاستفهام ذا له انحتم
ومنها ما ذكره الفخر الرازي وغيره : من أن الجملة بمجموعها متعلق العلم ، ولذلك السبب لم يظهر عمل قوله : لنعلم في لفظة أي بل بقيت على ارتفاعها ، ولا يخفى عدم اتجاه هذا القول كما ترى .
[ ص: 213 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أوجه الأعاريب عندي في الآية : أن لفظة أي موصولة استفهامية . و أي مبنية لأنها مضافة ، وصدر صلتها محذوف على حد قوله في الخلاصة :
أي كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف
ولبنائها لم يظهر نصبها ، وتقدير المعنى على هذا : لنعلم الحزب الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا ونميزه عن غيره ، و أحصى صيغة تفضيل كما قدمنا توجيهه ; نعم ، للمخالف أن يقول : إن صيغة التفضيل تقتضي بدلالة مطابقتها الاشتراك بين المفضل والمفضل عليه في أصل الفعل ، وأحد الحزبين لم يشارك الآخر في أصل الإحصاء لجهله بالمدة من أصلها ، وهذا مما يقوي قول من قال : إن أحصى فعل ، والعلم عند الله تعالى .
فإن قيل : أي فائدة مهمة في معرفة الناس للحزب المحصي أمد اللبث من غيره ، حتى يكون علة غائية لقوله : ثم بعثناهم لنعلم الآية ، وأي فائدة مهمة في مساءلة بعضهم بعضا ، حتى يكون علة غائية لقوله : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم ؟ .
فالجواب أنا لم نر من تعرض لهذا ، والذي يظهر لنا والله تعالى أعلم أن ما ذكر من إعلام الناس بالحزب الذي هو أحصى أمدا لما لبثوا ، ومساءلة بعضهم بعضا عن ذلك ، يلزمه أن يظهر للناس حقيقة أمر هؤلاء الفتية ، وأن الله ضرب على آذانهم في الكهف ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ، ثم بعثهم أحياء طرية أبدانهم ، لم يتغير لهم حال ، وهذا من غريب صنعه جل وعلا الدال على كمال قدرته ، وعلى البعث بعد الموت ، ولاعتبار هذا اللازم جعل ما ذكرنا علة غائية ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى
[ 18 \ 13 ] . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه يقص عليه نبأ أصحاب الكهف بالحق ، ثم أخبره مؤكدا له أنهم فتية آمنوا بربهم ، وأن الله جل وعلا زادهم هدى .
ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من آمن بربه وأطاعه زاده ربه هدى ; لأن الطاعة سبب للمزيد من الهدى والإيمان .
وهذا المفهوم من هذه الآية الكريمة جاء مبينا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقوله : والذين جاهدوا فينا [ ص: 214 ] لنهدينهم سبلنا الآية [ 29 \ 69 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا الآية [ 8 \ 29 ] ، وقوله : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [ 9 \ 124 ] ، وقوله تعالى : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم الآية [ 48 \ 4 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به الآية [ 57 \ 28 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وهذه الآيات المذكورة نصوص صريحة في أن الإيمان يزيد ، مفهوم منها أنه ينقص أيضا ، كما استدل بها البخاري رحمه الله على ذلك ، وهي تدل عليه دلالة صريحة لا شك فيها ، فلا وجه معها للاختلاف في زيادة الإيمان ونقصه كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وربطنا على قلوبهم إذ قاموا .
أي ثبتنا قلوبهم وقويناها على الصبر ، حتى لا يجزعوا ولا يخافوا من أن يصدعوا بالحق ، ويصبروا على فراق الأهل والنعيم ، والفرار بالدين في غار في جبل لا أنيس به ، ولا ماء ولا طعام .
ويفهم من هذه الآية الكريمة : أن من كان في طاعة ربه جل وعلا أنه تعالى يقوي قلبه ، ويثبته على تحمل الشدائد ، والصبر الجميل .
وقد أشار تعالى إلى وقائع من هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله في أهل بدر مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه : إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا الآية [ 8 \ 11 - 12 ] ، وكقوله في أم موسى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ 28 \ 10 ] .
وأكثر المفسرين على أن قوله : إذ قاموا أي بين يدي ملك بلادهم ، وهو ملك جبار يدعو إلى عبادة الأوثان ، يزعمون أن اسمه : دقيانوس .
وقصتهم مذكورة في جميع كتب التفسير ، أعرضنا عنها لأنها إسرائيليات . وفي قيامهم المذكور هنا أقوال أخر كثيرة ، والعامل في قوله : " إذ " هو " ربطنا " على قلوبهم حين قاموا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 10:58 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (225)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 215 إلى صـ 220
قوله تعالى : فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا
[ ص: 215 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن هؤلاء الفتية الذين آمنوا بربهم فزادهم ربهم هدى ، قالوا : إن ربهم هو رب السموات والأرض ، وأنهم لن يدعوا من دونه إلها ، وأنهم لو فعلوا ذلك قالوا شططا ، أي قولا ذا شطط ، أو هو من النعت بالمصدر للمبالغة ; كأن قولهم هو نفس الشطط ، والشطط : البعد عن الحق والصواب . وإليه ترجع أقوال المفسرين ; كقول بعضهم " شططا " : جورا ، تعديا ، كذبا ، خطأ ، إلى غير ذلك من الأقوال .
وأصل مادة الشطط : مجاوزة الحد ، ومنه أشط في السوم : إذا جاوز الحد ، ومنه قوله تعالى : ولا تشطط الآية [ 38 \ 22 ] ، أو البعد ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
تشط غدا دار جيراننا وللدار بعد غد أبعد
ويكثر استعمال الشطط في الجور والتعدي ، ومنه قول الأعشى :
أتنتهون وإن ينهى ذوي الشطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن من أشرك مع خالق السموات والأرض معبودا آخر ، فقد جاء بأمر شطط بعيد عن الحق والصواب في غاية الجور والتعدي ; لأن الذي يستحق العبادة هو الذي يبرز الخلائق من العدم إلى الوجود ; لأن الذي لا يقدر على خلق غيره مخلوق يحتاج إلى خالق يخلقه ويرزقه ويدبر شئونه .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر كثيرة ، كقوله : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] ، وقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، أي الواحد القهار الذي هو خالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده جل وعلا ، وقوله جل وعلا : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] ، وقوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : لقد قلنا إذا شططا ، أي إذا دعونا من [ ص: 216 ] دونه إلها ، فقد قلنا شططا .
قوله تعالى : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين .
" لولا " في هذه الآية الكريمة للتحضيض ، وهو الطلب بحث وشدة ، والمراد بهذا الطلب التعجيز ; لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسلطان بين على جواز عبادة غير الله ، والمراد بالسلطان البين : الحجة الواضحة .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من تعجيزهم عن الإتيان بحجة على شركهم وكفرهم ، وإبطال حجة المشركين على شركهم ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] ، وقوله تعالى : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] ، وقوله تعالى منكرا عليهم : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] ، وقوله جل وعلا : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [ 30 \ 35 ] ، وقوله تعالى : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا [ 35 \ 40 ] ، وقوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون [ 23 \ 117 ] ، والآيات الدالة على أن المشركين لا مستند لهم في شركهم إلا تقليد آبائهم الضالين ، كثيرة جدا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : " هؤلاء " مبتدأ ، و " قوما " قيل عطف بيان ، والخبر جملة " اتخذوا " ، وقيل " قومنا " خبر المبتدأ ، وجملة " اتخذوا في محل حال ، والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا .
أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب بادعاء أن له شريكا ، كما افتراه عليه قوم أصحاب الكهف ، كما قال عنهم أصحاب الكهف : هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة الآية [ 18 \ 15 ] .
وهذا المعنى الذي ذكره هنا من أن افتراء الكذب على الله بجعل الشركاء له هو أعظم الظلم - جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله : فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه الآية [ 39 \ 32 ] ، وقوله : [ ص: 217 ] ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين [ 11 \ 18 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا .
" إذ " في قوله : وإذ اعتزلتموهم للتعليل ، على التحقيق ، كما قاله ابن هشام ، وعليه فالمعنى : ولأجل اعتزالكم قومكم الكفار وما يعبدونه من دون الله ، فاتخذوا الكهف مأوى ومكان اعتصام ، ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ، وهذا يدل على أن اعتزال المؤمن قومه الكفار ومعبوديهم من أسباب لطف الله به ورحمته .
وهذا المعنى يدل عليه أيضا قوله تعالى في نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا [ 19 \ 48 - 50 ] واعتزالهم إياهم هو مجانبتهم لهم ، وفرارهم منهم بدينهم .
وقوله : وما يعبدون إلا الله ، اسم موصول في محل نصب ، معطوف على الضمير المنصوب في قوله : اعتزلتموهم ، أي واعتزلتم معبوديهم من دون الله ، وقيل : " ما " مصدرية ، أي اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم غير الله تعالى ، والأول أظهر .
وقوله : إلا الله ، قيل : هو استثناء متصل ، بناء على أنهم كانوا يعبدون الله والأصنام ، وقيل : هو استثناء منقطع ; بناء على القول بأنهم كانوا لا يعبدون إلا الأصنام ، ولا يعرفون الله ولا يعبدونه .
وقوله : مرفقا أي ما ترتفقون به ، أي تنتفعون به ، وقرأه نافع وابن عامر بفتح الميم وكسر الفاء مع تفخيم الراء ، وقرأه باقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء وترقيق الراء ، وهما قراءتان ولغتان في ما يرتفق به ، وفي عضو الإنسان المعروف ، وأنكر الكسائي في " المرفق " بمعنى عضو الإنسان فتح الميم وكسر الفاء ، وقال : هو بكسر الميم وفتح الفاء ، ولا يجوز غير ذلك .
وزعم ابن الأنباري أن " من " في قوله : ويهيئ لكم من أمركم بمعنى البدلية ، أي يهيئ لكم بدلا من " أمركم " الصعب مرفقا : وعلى هذا الذي زعم غاية ; كقوله [ ص: 218 ] تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة [ 9 \ 38 ] أي بدلا منها وعوضا عنها ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
أي بدلا من ماء زمزم ، والله تعالى أعلم .
ومعنى : ينشر لكم : يبسط لكم : كقوله : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته الآية [ 42 \ 28 ] .
وقوله : ويهيئ ; أي ييسر ويقرب ويسهل .
قوله تعالى : وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله .
اعلم أولا أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول ، وذكرنا من ذلك أمثلة متعددة .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية على قولين وفي نفس الآية قرينة تدل على صحة أحدهما وعدم صحة الآخر .
أما القول الذي تدل القرينة في الآية على خلافه ، فهو أن أصحاب الكهف كانوا في زاوية من الكهف ، وبينهم وبين الشمس حواجز طبيعية من نفس الكهف ، تقيهم حر الشمس عند طلوعها وغروبها ، على ما سنذكر تفصيله إن شاء الله تعالى .
وأما القول الذي تدل القرينة في هذه الآية على صحته ، فهو أن أصحاب الكهف كانوا في فجوة من الكهف على سمت تصيبه الشمس وتقابله ، إلا أن الله منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم على وجه خرق العادة ، كرامة لهؤلاء القوم الصالحين ، الذين فروا بدينهم طاعة لربهم جل وعلا .
والقرينة الدالة على ذلك هي قوله تعالى : ذلك من آيات الله [ 18 \ 17 ] ، إذ لو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول لكان ذلك أمرا معتادا مألوفا ، وليس فيه غرابة حتى يقال فيه : ذلك من آيات الله . وعلى هذا الوجه الذي ذكرناه أنه تشهد له القرينة المذكورة ; فمعنى تزاور الشمس عن كهفهم ذات اليمين عند طلوعها ، وقرضها إياهم ذات الشمال عند غروبها هو أن الله يقلص ضوءها عنهم ، ويبعده إلى جهة اليمين عند الطلوع ، وإلى جهة الشمال عند الغروب ، والله جل وعلا قادر على كل شيء ، يفعل ما يشاء ، فإذا علمت هذا فاعلم أن أصحاب القول الأول اختلفوا في كيفية وضع الكهف ، وجزم [ ص: 219 ] ابن كثير في تفسيره بأن الآية تدل على أن باب الكهف كان من نحو الشمال ، قال : لأنه تعالى أخبر بأن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه ذات اليمين ، أي يتقلص الفيء يمنة . كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة : تزاور ، أي تميل ، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في ذلك المكان ، ولهذا قال تعالى : وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال [ 18 \ 17 ] ، أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية الشرق ، فدل على صحة ما قلناه ، وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب .
وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل إليه منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ، ولا تزاور الفيء يمينا وشمالا ، ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعين ما ذكرناه ، ولله الحمد . انتهى كلام ابن كثير .
وقال الفخر الرازي في تفسيره : أصحاب هذا القول قالوا إن باب الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال ، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف ، وإذا غربت كانت على شماله ، فضوء الشمس ما كان يصل إلى داخل الكهف ، وكان الهواء الطيب والنسيم الموافق يصل إليه ، انتهى كلام الرازي . وقال أبو حيان في تفسير هذه الآية : وهذه الصفة مع الشمس تقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب ، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية ، وقال عبد الله بن مسلم : كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش ، وعلى هذا كان أعلى الكهف مستورا من المطر .
قال ابن عطية : كان كهفهم مستقبل بنات نعش لا تدخله الشمس عند الطلوع ولا عند الغروب ، اختار الله لهم مضجعا متسعا في مقنأة لا تدخل عليهم الشمس فتؤذيهم ، انتهى الغرض من كلام أبي حيان . والمقنأة : المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ، إلى غير ذلك من أقوال العلماء .
والقول الأول أنسب للقرينة القرآنية التي ذكرنا .
وممن اعتمد القول الأول لأجل القرينة المذكورة الزجاج ، ومال إليه بعض الميل الفخر الرازي والشوكاني في تفسيريهما ، لتوجيههما قول الزجاج المذكور بقرينة الآية المذكورة .
[ ص: 220 ] وقال الشوكاني رحمه الله في تفسيره : ويؤيد القول الأول قوله تعالى : ذلك من آيات الله ، فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة ، أنسب بمعنى كونها آية ، ويؤيده أيضا إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا ، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر :
ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار
انتهى كلام الشوكاني .
ومعلوم أن الفجوة : هي المتسع . وهو معروف في كلام العرب ومنه البيت المذكور ، وقول الآخر :
ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل
ومنه الحديث : " فإذا وجد فجوة نص " .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وترى الشمس إذا طلعت ، أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل على كهفهم ، والمعنى : أنك لو رأيتهم لرأيتهم كذلك ، لا أن المخاطب رآهم بالفعل ، كما يدل لهذا المعنى قوله تعالى : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية [ 18 \ 18 ] ، والخطاب بمثل هذا مشهور في لغة العرب التي نزل بها هذا القرآن العظيم ، وأصل مادة التزاور : الميل ، فمعنى " تزاور " : تميل . والزور : الميل ، ومنه شهادة الزور ، لأنها ميل عن الحق . ومنه الزيارة ; لأن الزائر يميل إلى المزور ، ومن هذا المعنى قول عنترة في معلقته :
فازور من وقع القنا بلبانه وشكا إلي بعبرة وتحمحم
وقول عمر بن أبي ربيعة :
وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال حباب وشخصي خشية الحي أزور
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ذات اليمين أي جهة اليمين ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين . وقال أبو حيان في البحر : وذات اليمين : جهة يمين الكهف ، وحقيقتها الجهة المسماة باليمين ، يعني يمين الداخل إلى الكهف ، أو يمين الفتية . اهـ ، وهو منصوب على الظرف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 10:59 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (226)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 221 إلى صـ 226
وقوله تعالى : وإذا غربت تقرضهم ، من القرض بمعنى القطيعة والصرم ; أي [ ص: 221 ] تقطعهم وتتجافى عنهم ولا تقربهم ، وهذا المعنى معروف من كلام العرب ، ومنه قول غيلان ذي الرمة :
نظرت بجرعاء السبية نظرة ضحى وسواد العين في الماء شامس
إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس
فقوله : " يقرضن أقواز مشرف " ، أي يقطعنها ويبعدنها ناحية الشمال ، وعن أيمانهن الفوارس ، وهو موضع أو رمال الدهناء ، والأقواز : جمع قوز - بالفتح - وهو العالي من الرمل كأنه جبل ، ويروى " أجواز مشرف " جمع جوز ، من المجاز بمعنى الطريق . وهذا الذي ذكرنا هو الصواب في معنى قوله تعالى : تقرضهم خلافا لمن زعم أن معنى تقرضهم : تقطعهم من ضوئها شيئا ثم يزول سريعا كالقرض يسترد ، ومراد قائل هذا القول أن الشمس تميل عنهم بالغداة ، وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة ، بقدر ما يطيب لهم هواء المكان ولا يتعفن .
قال أبو حيان في البحر : ولو كان من القرض الذي يعطى ثم يسترد لكان الفعل رباعيا ، فتكون التاء في قوله : " تقرضهم " مضمومة ، لكن دل فتح التاء من قوله " تقرضهم " على أنه من القرض بمعنى القطع ، أي تقطع لهم من ضوئها شيئا ، وقد علمت أن الصواب القول الأول ، وقد قدمنا أن الفجوة : المتسع .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : تزاور عن كهفهم ، فيه ثلاث قراءات سبعيات :
قرأه ابن عامر الشامي " تزور " بإسكان الزاي وإسقاط الألف وتشديد الراء ، على وزن تحمر ، وهو على هذه القراءة من الازورار بمعنى الميل ; كقول عنترة المتقدم :
فازور من وقع القنا . . . . . . . . . . .
البيت
وقرأه الكوفيون وهم عاصم وحمزة والكسائي بالزاي المخففة بعدها ألف ، وعلى هذه القراءة فأصله " تتزاور " فحذفت منه إحدى التاءين ، على حد قوله في الخلاصة :
وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر
وقرأه نافع المدني وابن كثير المكي وأبو عمرو البصري : " تزاور " بتشديد الزاي بعدها ألف ، وأصله " تتزاور " أدغمت فيه التاء في الزاي ، وعلى هاتين القراءتين ( أعني قراءة حذف إحدى التاءين ، وقراءة إدغامها في الزاي ) فهو من التزاور بمعنى الميل أيضا [ ص: 222 ] وقد يأتي التفاعل بمعنى مجرد الفعل كما هنا ، وكقولهم : سافر وعاقب وعافى .
وعلى قول من قال : إن في الكهف حواجز طبيعية تمنع من دخول الشمس بحسب وضع الكهف ، فالإشارة في قوله : ذلك من آيات الله ، راجعة إلى ما ذكر من حديثهم ، أي ذلك المذكور من هدايتهم إلى التوحيد وإخراجهم من بين عبدة الأوثان ، وإيوائهم إلى ذلك الكهف ، وحمايتهم من عدوهم إلى آخر حديثهم - من آيات الله . وأصل الآية عند المحققين " أيية " بثلاث فتحات ، أبدلت فيه الياء الأولى ألفا ، والغالب في مثل ذلك أنه إذا اجتمع موجبا إعلال كان الإعلال في الأخير ; لأن التغير عادة أكثر في الأواخر ، كما في طوى ونوى ، ونحو ذلك . وهنا أعل الأول على خلاف الأغلب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وإن لحرفين ذا الاعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق
والآية تطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وتطلق في القرآن العظيم إطلاقين أيضا ، أما إطلاقاها في اللغة فالأول منهما : أنها تطلق بمعنى العلامة ، وهو الإطلاق المشهور ، ومنه قوله تعالى : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الآية [ 2 \ 248 ] ، وقول عمر بن أبي ربيعة :
بآية ما قالت غداة لقيتها بمدفع أكنان أهذا المشهر
يعني أن قولها ذلك هو العلامة بينها وبين رسوله إليها المذكور في قوله قبله :
ألكني إليها بالسلام فإنه يشهر إلمامي بها وينكر
وقد جاء في شعر نابغة ذبيان وهو جاهلي تفسير الآية بالعلامة في قوله :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار بقوله بعده :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم ، ومنه قول برج بن مسهر أو غيره :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
فقوله : " بآياتنا " أي بجماعتنا .
[ ص: 223 ] وأما إطلاقها في القرآن فالأول منهما إطلاقها على الآية الكونية القدرية ، كقوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] ، أي علامات كونية قدرية ، يعرف بها أصحاب العقول السليمة أن خالقها هو الرب المعبود وحده جل وعلا ، والآية الكونية القدرية في القرآن من الآية بمعنى العلامة لغة .
وأما إطلاقها الثاني في القرآن فهو إطلاقها على الآية الشرعية الدينية ، كقوله : رسولا يتلو عليكم آيات الله الآية [ 65 \ 11 ] ونحوها من الآيات .
والآية الشرعية الدينية قيل : هي من الآية بمعنى العلامة لغة ، لأنها علامات على صدق من جاء بها ، أو أن فيها علامات على ابتدائها وانتهائها .
وقيل : من الآية ، بمعنى الجماعة ، لاشتمال الآية الشرعية الدينية على طائفة وجماعة من كلمات القرآن .
قوله تعالى : من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الهدى والإضلال بيده وحده جل وعلا ، فمن هداه فلا مضل له ، ومن أضله فلا هادي له .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ; كقوله تعالى : ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما الآية [ 17 \ 97 ] ، وقوله : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 7 \ 178 ] ، وقوله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] ، وقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا الآية [ 5 \ 41 ] ، وقوله : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] ، وقوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
ويؤخذ من هذه الآيات وأمثالها في القرآن : بطلان مذهب القدرية ، أن العبد مستقل بعمله من خير أو شر ، وأن ذلك ليس بمشيئة الله بل بمشيئة العبد ، سبحانه جل وعلا عن أن يقع في ملكه شيء بدون مشيئته ! وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ! وسيأتي بسط [ ص: 224 ] هذا المبحث إن شاء الله تعالى .
وقد أوضحنا أيضا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " الشمس " في الكلام على قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] ، وقوله : فلن تجد له وليا مرشدا [ 18 \ 17 ] ، أي لن يكون بينه وبينه سبب للموالاة يرشده إلى الصواب والهدى ، أي لن يكون ذلك ; لأن من أضله الله فلا هادي له ، وقوله : فهو المهتد قرأه بإثبات الياء في الوصل دون الوقف نافع وأبو عمرو ، وبقية السبعة قرءوه بحذف الياء في الحالين .
قوله تعالى : وتحسبهم أيقاظا وهم رقود .
الحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ : جمع يقظ - بكسر القاف وضمها - ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
فلما رأت من قد تنبه منهم وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر
والرقود : جمع راقد وهو النائم ، أي تظنهم أيها المخاطب لو رأيتهم أيقاظا والحال أنهم رقود ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في نظيره : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا الآية [ 18 \ 18 ] ، وقال بعض العلماء : سبب ظن الرائي أنهم أيقاظ هو أنهم نيام وعيونهم مفتحة ، وقيل : لكثرة تقلبهم ، وهذا القول يشير له قوله تعالى بعده : ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال [ 18 \ 18 ] ، وكلام المفسرين هنا في عدد تقلبهم من كثرة وقلة لا دليل عليه ، ولذا أعرضنا عن ذكر الأقوال فيه .
وقوله في هذه الآية : وتحسبهم ، قرأه بفتح السين على القياس ابن عامر وعاصم وحمزة ، وقرأه بكسر السين نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ، وهما قراءتان سبعيتان ، ولغتان مشهورتان ، والفتح أقيس والكسر أفصح .
قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد
، اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ " الوصيد " ، فقيل : هو فناء للبيت ، ويروى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ، وقيل الوصيد : الباب ، وهو مروي عن ابن عباس أيضا . وقيل : الوصيد العتبة ، وقيل الصعيد ، والذي يشهد له القرآن أن الوصيد هو الباب ، ويقال له " أصيد " أيضا ; لأن الله يقول : إنها عليهم مؤصدة [ 104 \ 8 ] ، أي مغلقة مطبقة ، وذلك بإغلاق كل وصيد أو أصيد ، وهو الباب من أبوابها ، ونظير الآية من كلام العرب قول الشاعر :
تحن إلى أجبال مكة ناقتي ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
[ ص: 225 ] وقول ابن قيس الرقيات :
إن في القصر لو دخلنا غزالا مصفقا مؤصدا عليه الحجاب
فالمراد بالإيصاد في جميع ذلك : الإطباق والإغلاق ; لأن العادة فيه أن يكون بالوصيد وهو الباب ، ويقال فيه أصيد ، وعلى اللغتين القراءتان في قوله : " مؤصدة " مهموزا من الأصيد . وغير مهموز من الوصيد .
ومن إطلاق العرب الوصيد على الباب قول عبيد بن وهب العبسي ، وقيل زهير :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر
أي لا يسد بابها علي ، يعني ليست فيها أبواب حتى تسد علي ; كقول الآخر :
ولا ترى الضب بها ينجحر
فإن قيل : كيف يكون الوصيد هو الباب في الآية ، والكهف غار في جبل لا باب له ؟
فالجواب : أن الباب يطلق على المدخل الذي يدخل للشيء منه ; فلا مانع من تسمية المدخل إلى الكهف بابا ، ومن قال : الوصيد : الفناء ، لا يخالف ما ذكرنا ; لأن فناء الكهف هو بابه ، وقد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك : أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على خلافه .
وقد قال بعض أهل العلم في هذه الآية الكريمة : إن المراد بالكلب في هذه الآية رجل منهم لا كلب حقيقي ، واستدلوا لذلك ببعض القراءات الشاذة ، كقراءة " وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد " ، وقراءة " وكالئهم باسط ذراعيه " .
وقوله جل وعلا : باسط ذراعيه قرينة على بطلان ذلك القول ; لأن بسط الذراعين معروف من صفات الكلب الحقيقي ، ومنه حديث أنس المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب " ، وهذا المعنى مشهور في كلام العرب ، فهو قرينة على أنه كلب حقيقي ، وقراءة " وكالئهم " بالهمزة لا تنافي كونه كلبا ; لأن الكلب يحفظ أهله ويحرسهم ، والكلاءة : الحفظ .
فإن قيل : ما وجه عمل اسم الفاعل الذي هو " باسط " في مفعوله الذي هو " ذراعيه " والمقرر في النحو أن اسم الفاعل إذا لم يكن صلة " ال " لا يعمل إلا إذا كان واقعا في الحال أو المستقبل ؟
[ ص: 226 ] فالجواب أن الآية هنا حكاية حال ماضية ، ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله تعالى : والله مخرج ما كنتم تكتمون [ 2 \ 72 ] .
واعلم أن ذكره جل وعلا في كتابه هذا الكلب ، وكونه باسطا ذراعيه بوصيد كهفهم في معرض التنويه بشأنهم ، يدل على أن صحبة الأخيار عظيمة الفائدة . قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن . اهـ .
ويدل لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال : إني أحب الله ورسوله : " أنت مع من أحببت " متفق عليه من حديث أنس .
ويفهم من ذلك أن صحبة الأشرار فيها ضرر عظيم ، كما بينه الله تعالى في سورة " الصافات " في قوله : قال قائل منهم إني كان لي قرين [ 37 \ 51 ] - إلى قوله - قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين الآية [ 37 \ 56 \ 57 ] .
وما يذكره المفسرون من الأقوال في اسم كلبهم ، فيقول بعضهم : اسمه قطمير ، ويقول بعضهم : اسمه حمران ، إلى غير ذلك لم نطل به الكلام لعدم فائدته .
ففي القرآن العظيم أشياء كثيرة لم يبينها الله لنا ولا رسوله ، ولم يثبت في بيانها شيء ، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه .
وكثير من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى ، ونحن نعرض عن مثل ذلك دائما ، كلون كلب أصحاب الكهف ، واسمه ، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل ، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر ، وأنكر عليه موسى قتله ، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو ، وكم طول السفينة وعرضها ، وكم فيها من الطبقات ، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه ، ولا دليل على التحقيق فيه .
وقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية [ 6 \ 145 ] حكم أكل لحم الكلب وبيعه ، وأخذ قيمته إن قتل ، وما يجوز اقتناؤه منها وما لا يجوز ، وأوضحنا الأدلة في ذلك وأقوال العلماء فيه .
قوله تعالى : وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 11:00 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (227)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 227 إلى صـ 232
، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه بعث [ ص: 227 ] أصحاب الكهف من نومتهم الطويلة ليتساءلوا بينهم ، أي ليسأل بعضهم بعضا عن مدة لبثهم في الكهف في تلك النومة ، وأن بعضهم قال إنهم لبثوا يوما أو بعض يوم ، وبعضهم رد علم ذلك إلى الله جل وعلا .
ولم يبين هنا قدر المدة التي تساءلوا عنها في نفس الأمر ، ولكنه بين في موضع آخر أنها ثلاثمائة سنة بحساب السنة الشمسية ، وثلاثمائة سنة وتسع سنين بحساب السنة القمرية ، وذلك في قوله تعالى : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] كما تقدم .
قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه .
في قوله في هذه الآية " أزكى " قولان للعلماء .
أحدهما أن المراد بكونه " أزكى " أطيب لكونه حلالا ليس مما فيه حرام ولا شبهة .
والثاني أن المراد بكونه أزكى أنه أكثر ، كقولهم : زكا الزرع : إذا كثر ، وكقول الشاعر :
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
أي أكثر من ثلاثة .
والقول الأول هو الذي يدل له القرآن ; لأن أكل الحلال والعمل الصالح أمر الله به المؤمنين كما أمر المرسلين ، قال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا الآية [ 23 \ 51 ] ، وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 2 \ 172 ] ، ويكثر في القرآن إطلاق مادة الزكاة على الطهارة ; كقوله : قد أفلح من تزكى الآية [ 17 \ 14 ] ، وقوله : قد أفلح من زكاها الآية [ 91 \ 9 ] ، وقوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] ، وقوله : فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما [ 18 \ 81 ] ، وقوله : أقتلت نفسا زكية بغير نفس الآية [ 18 \ 74 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
فالزكاة في هذه الآيات ونحوها : يراد بها الطهارة من أدناس الذنوب والمعاصي ، فاللائق بحال هؤلاء الفتية الأخيار المتقين أن يكون مطلبهم في مأكلهم الحلبة والطهارة ، لا الكثرة . وقد قال بعض العلماء : إن عهدهم بالمدينة فيها مؤمنون يخفون إيمانهم ، [ ص: 228 ] وكافرون ، وأنهم يريدون الشراء من طعام المؤمنين دون الكافرين ، وأن ذلك هو مرادهم بالزكاة في قوله : أزكى طعاما ، وقيل : كان فيها أهل كتاب ومجوس ، والعلم عند الله تعالى .
والورق في قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم [ 18 \ 19 ] الفضة ، وأخذ علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة مسائل من مسائل الفقه :
المسألة الأولى : جواز الوكالة وصحتها ; لأن قولهم : فابعثوا أحدكم بورقكم الآية ، يدل على توكيلهم لهذا المبعوث لشراء الطعام . وقال بعض العلماء : لا تدل الآية على جواز التوكيل مطلقا بل مع التقية والخوف ، لأنهم لو خرجوا كلهم لشراء حاجتهم لعلم بهم أعداؤهم في ظنهم فهم معذورون ، فالآية تدل على توكيل المعذور دون غيره ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ، وهو قول سحنون من أصحاب مالك في التوكيل على الخصام .
قال ابن العربي : وكأن سحنونا تلقاه من أسد بن الفرات ، فحكم به أيام قضائه ، ولعله كان يفعل ذلك لأهل الظلم والجبروت إنصافا منهم وإذلالا لهم ، وهو الحق ، فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل . اهـ .
وقال القرطبي : كلام ابن العربي هذا حسن ، فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء ، والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ، ما أخرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال : كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل ، فجاء يتقاضاه ، فقال : " أعطوه " فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سنا فوقها ، فقال " أعطوه " فقال : أوفيتني أوفى الله لك ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن خيركم أحسنكم قضاء " لفظ البخاري .
فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم : أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي عليه وذلك توكيل منه لهم على ذلك ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا ، وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما : إنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح إلا برضا خصمه " ، وهذا الحديث خلاف قولهما . اهـ كلام القرطبي .
ولا يخفى ما فيه ; لأن أبا حنيفة وسحنونا إنما خالفا في الوكالة على المخاصمة بغير إذن الخصم فقط ، ولم يخالفا في الوكالة في دفع الحق .
[ ص: 229 ] وبهذه المناسبة سنذكر إن شاء الله الأدلة من الكتاب والسنة على صحة الوكالة وجوازها ، وبعض المسائل المحتاج إليها من ذلك ، تنبيها بها على غيرها .
اعلم أولا أن الكتاب والسنة والإجماع كلها دل على جواز الوكالة وصحتها في الجملة ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى هنا : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه الآية ، وقوله تعالى : والعاملين عليها الآية [ 9 \ 60 ] ، فإن عملهم عليها توكيل لهم على أخذها .
واستدل لذلك بعض العلماء أيضا بقوله : اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي الآية [ 12 \ 93 ] ، فإنه توكيل لهم من يوسف على إلقائهم قميصه على وجه أبيه ليرتد بصيرا .
واستدل بعضهم لذلك أيضا بقوله تعالى عن يوسف : قال اجعلني على خزائن الأرض الآية [ 12 \ 55 ] ، فإنه توكيل على ما في خزائن الأرض .
وأما السنة فقد دلت أحاديث كثيرة على جواز الوكالة وصحتها ، من ذلك حديث أبي هريرة المتقدم في كلام القرطبي ، الدال على التوكيل في قضاء الدين ، وهو حديث متفق عليه ، وأخرج الجماعة إلا البخاري من حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه .
ومنها حديث عروة بن أبي الجعد البارقي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا ليشتري به له شاة ، فاشترى له به شاتين : فباع إحداهما بدينار وجاءه بدينار وشاة ، فدعا له بالبركة في بيعه ، فكان لو اشترى التراب لربح فيه ، رواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارقطني ، وفيه التوكيل على الشراء .
ومنها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : أردت الخروج إلى خيبر ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إني أردت الخروج إلى خيبر . فقال : " إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا ، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته " أخرجه أبو داود والدارقطني ، وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن له وكيلا .
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :
" واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " ، وهو صريح في التوكيل في إقامة الحدود .
ومنها حديث علي رضي الله عنه قال : " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ، وألا أعطي الجازر منها شيئا ، وقال : نحن نعطيه من [ ص: 230 ] عندنا " متفق عليه . وفيه التوكيل على القيام على البدن والتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها ، وعدم إعطاء الجازر شيئا منها .
ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه غنما يقسمها على أصحابه فبقي عتود ، فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال " ضح أنت به " متفق عليه أيضا . وفيه الوكالة في تقسيم الضحايا ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما طرفا كافيا منها ، ذكرنا بعضه هنا .
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الوكالة ما نصه : اشتمل كتاب الوكالة - يعني من صحيح البخاري - على ستة وعشرين حديثا ، المعلق منها ستة ، والبقية موصولة ، المكرر منها فيه وفيما مضى اثنا عشر حديثا ، والبقية خالصة ، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث عبد الرحمن بن عوف في قتل أمية بن خلف ، وحديث كعب بن مالك في الشاة المذبوحة ، وحديث وفد هوازن من طريقيه ، وحديث أبي هريرة في حفظ زكاة رمضان ، وحديث عقبة بن الحارث في قصة النعيمان ، وفيه من الآثار عن الصحابة وغيرهم ستة آثار ، والله أعلم . انتهى من فتح الباري . وكل تلك الأحاديث دالة على جواز الوكالة وصحتها .
وأما الإجماع فقد أجمع المسلمون على جواز الوكالة وصحتها في الجملة ، وقال ابن قدامة في المغني : وأجمعت الأمة على جواز الوكالة في الجملة ، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك ، فإنه لا يمكن كل أحد فعل ما يحتاج إليه ، فدعت الحاجة إليها ، انتهى منه . وهذا مما لا نزاع فيه .
فروع تتعلق بمسألة الوكالة
الفرع الأول : لا يجوز التوكيل إلا في شيء تصح النيابة فيه ، فلا تصح في فعل محرم ; لأن التوكيل من التعاون ، والله يقول : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان الآية [ 5 \ 2 ] .
ولا تصح في عبادة محضة كالصلاة والصوم ونحوهما ; لأن ذلك مطلوب من كل أحد بعينه ، فلا ينوب فيه أحد من أحد ; لأن الله يقول : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون الآية [ 51 \ 56 ] .
أما الحج عن الميت والمعضوب ، والصوم عن الميت فقد دلت أدلة أخر على [ ص: 231 ] النيابة في ذلك ، وإن خالف كثير من العلماء في الصوم عن الميت ; لأن العبرة بالدليل الصحيح من الوحي لا بآراء العلماء ، إلا عند عدم النص من الوحي .
الفرع الثاني : ويجوز التوكيل في المطالبة بالحقوق وإثباتها والمحاكمة فيها ، سواء كان الموكل حاضرا أو غائبا ، صحيحا أو مريضا . وهذا قول جمهور العلماء ، منهم مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وابن أبي ليلى ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وغيرهم . وقال أبو حنيفة : للخصم أن يمتنع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا غير معذور ; لأن حضوره مجلس الحكم ومخاصمته حق لخصمه عليه فلم يكن له نقله إلى غيره بغير رضا خصمه ، وقد قدمنا في كلام القرطبي أن هذا قول سحنون أيضا من أصحاب مالك ، واحتج الجمهور بظواهر النصوص ; لأن الخصومة أمر لا مانع من الاستنابة فيه .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم في مسألة التوكيل على الخصام والمحاكمة : أن الصواب فيها التفصيل .
فإن كان الموكل ممن عرف بالظلم والجبروت والادعاء بالباطل فلا يقبل منه التوكيل لظاهر قوله تعالى : ولا تكن للخائنين خصيما [ 4 \ 105 ] . وإن كان معروفا بغير ذلك فلا مانع من توكيله على الخصومة ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : ويجوز التوكيل بجعل وبدون جعل ، والدليل على التوكيل بغير جعل أنه صلى الله عليه وسلم وكل أنيسا في إقامة الحد على المرأة ، وعروة البارقي في شراء الشاة من غير جعل . ومثال ذلك كثير في الأحاديث التي ذكرنا وغيرها .
والدليل على التوكيل بجعل قوله تعالى : والعاملين عليها [ 9 \ 60 ] فإنه توكيل على جباية الزكاة وتفريقها بجعل منها كما ترى .
الفرع الرابع : إذا عزل الموكل وكيله في غيبته وتصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم به ، أو مات موكله وتصرف بعد موته وقبل العلم به ، فهل يمضي تصرفه نظرا لاعتقاده ، أو لا يمضي نظرا للواقع في نفس الأمر ، في ذلك خلاف معروف بين أهل العلم مبني على قاعدة أصولية ، وهي :
هل يستقل الحكم بمطلق وروده وإن لم يبلغ المكلف ، أو لا يكون ذلك إلا بعد بلوغه للمكلف . ويبنى على الخلاف في هذه القاعدة الاختلاف في خمس وأربعين صلاة التي نسخت من الخمسين بعد فرضها ليلة الإسراء ، هل يسمى ذلك نسخا في حق الأمة [ ص: 232 ] لوروده ، أو لا يسمى نسخا في حقهم ; لأنه وقع قبل بلوغ التكليف بالمنسوخ لهم ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :
هل يستقل الحكم بالورود أو ببلوغه إلى الموجود
فالعزل بالموت أو العزل عرض كذا قضاء جاهل للمفترض
ومسائل الوكالة معروفة مفصلة في كتب فروع المذاهب الأربعة ، ومقصودنا ذكر أدلة ثبوتها بالكتاب والسنة والإجماع ، وذكر أمثلة من فروعها تنبيها بها على غيرها ; لأنها باب كبير من أبواب الفقه .
المسألة الثانية : أخذ بعض علماء المالكية من هذه الآية الكريمة جواز الشركة ; لأنهم كانوا مشتركين في الورق التي أرسلوها ليشتري لهم طعاما بها .
وقال ابن العربي المالكي : لا دليل في هذه الآية على الشركة ، لاحتمال أن يكون كل واحد منهم أرسل معه نصيبه منفردا ليشتري له به طعامه منفردا ، وهذا الذي ذكره ابن العربي متجه كما ترى ، وقد دلت أدلة أخرى على جواز الشركة ، وسنذكر إن شاء الله بهذه المناسبة أدلة ذلك ، وبعض مسائله المحتاج إليها ، وأقوال العلماء في ذلك .
اعلم أولا : أن الشركة جائزة في الجملة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين .
أما الكتاب فقد دلت على ذلك منه آيات في الجملة ، كقوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث [ 4 \ 12 ] ، وقوله تعالى : وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض [ 38 \ 24 ] ، عند من يقول : إن الخلطاء : الشركاء ، وقوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه الآية [ 8 \ 41 ] ، وهي تدل على الاشتراك من جهتين .
وأما السنة فقد دلت على جواز الشركة أحاديث كثيرة سنذكر هنا إن شاء الله طرفا منها ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " من أعتق شركا له في عبد ، وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم ، وإلا فقد عتق عليه ما عتق " . وقد ثبت نحوه في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في الرقيق ، وقد ترجم البخاري رحمه الله في صحيحه لحديث ابن عمر وأبي هريرة المذكورين بقوله : ( باب الشركة في الرقيق ) ، ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله عن أبي المنهال ، قال :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 11:01 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (228)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 233 إلى صـ 238
اشتريت أنا [ ص: 233 ] وشريك لي شيئا يدا بيد ونسيئة ، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال : فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم وسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " ما كان يدا بيد فخذوه ، وما كان نسيئة فذروه " . وفيه إقراره صلى الله عليه وسلم البراء وزيدا المذكورين على ذلك الاشتراك ، وترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله : ( باب الاشتراك في الذهب والفضة وما يكون فيه الصرف ) ، ومن ذلك إعطاؤه صلى الله عليه وسلم أرض خيبر لليهود ليعملوا فيها ويزرعوها ، على أن لهم شطر ما يخرج من ذلك ، وهو اشتراك في الغلة الخارجة منها ، وقد ترجم البخاري رحمه الله لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله ( باب مشاركة الذميين والمشركين في المزارعة ) ومن ذلك ما أخرجه أحمد ، والبخاري عن جابر رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة . وترجم البخاري لهذا الحديث في كتاب الشركة بقوله : ( باب الشركة في الأرضين وغيرها ) ثم ساق الحديث بسند آخر ، وترجم له أيضا بقوله ( باب إذا قسم الشركاء الدور وغيرها ، فليس لهم رجوع ولا شفعة ) ومن ذلك ما رواه أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا قال : إن الله يقول : " أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه ، فإذا خانه خرجت من بينهما " قال العلامة الشوكاني رحمه الله تعالى في نيل الأوطار في هذا الحديث : صححه الحاكم وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان . وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وأعله أيضا ابن القطان بالإرسال ، فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال إنه الصواب . ولم يسنده غير أبي همام محمد بن الزبرقان وسكت أبو داود والترمذي على هذا الحديث ، وأخرج نحوه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب عن حكيم بن حزام . انتهى منه . ومن المعروف عن أبي داود رحمه الله أنه لا يسكت عن الكلام في حديث إلا وهو يعتقد صلاحيته للاحتجاج . والسند الذي أخرجه به أبو داود الظاهر منه أنه صالح للاحتجاج ، فإنه قال : حدثنا محمد بن سليمان المصيصي ، ثنا محمد بن الزبرقان عن أبي حيان التيمي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رحمه الله - رفعه ، قال : إن الله يقول : " أنا ثالث الشريكين " . إلى آخر الحديث .
فالطبقة الأولى من هذا الإسناد هي محمد بن سليمان ، وهو أبو جعفر العلاف الكوفي ، ثم المصيصي لقبه " لوين " بالتصغير ، وهو ثقة .
والطبقة الثانية منه : محمد بن الزبرقان أبو همام الأهوازي ، وهو من رجال [ ص: 234 ] الصحيحين ، وقال في التقريب : صدوق ، ربما وهم .
والطبقة الثالثة منه هي أبو حيان التيمي ، وهو يحيى بن سعيد بن حيان الكوفي ، وهو ثقة .
والطبقة الرابعة منه هي أبوه سعيد بن حيان المذكور الذي قدمنا في كلام الشوكاني : أن ابن القطان أعل هذا الحديث بأنه مجهول ، ورد ذلك بأن ابن حبان قد ذكره في الثقات ، وقال ابن حجر ( في التقريب ) : إنه وثقه العجلي أيضا .
والطبقة الخامسة منه أبو هريرة ، رفعه .
فهذا إسناد صالح كما ترى ، وإعلال الحديث بأنه روي موقوفا من جهة أخرى ، يقال فيه : إن الرفع زيادة ، وزيادة العدول مقبولة كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث ، ويؤيده كونه جاء من طريق أخرى عن حكيم بن حزام كما ذكرناه في كلام الشوكاني آنفا .
ومن ذلك حديث السائب بن أبي السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك ، لا تداريني ولا تماريني ، أخرجه أبو داود وابن ماجه ، ولفظه : كنت شريكي ونعم الشريك ، كنت لا تداري ولا تماري ، وأخرجه أيضا النسائي والحاكم وصححه ، وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له على كونه كان شريكا له ، والأحاديث الدالة على الشركة كثيرة جدا .
وقد قال ابن حجر في فتح الباري في آخر كتاب الشركة ما نصه : اشتمل كتاب الشركة ( يعني من صحيح البخاري ) من الأحاديث المرفوعة على سبعة وعشرين حديثا ، المعلق منها واحد ، والبقية موصولة ، المكرر منها فيه وفيما مضى ثلاثة عشر حديثا ، والخالص أربعة عشر ، وافقه مسلم على تخريجها سوى حديث النعمان : " مثل القائم على حدود الله " ، وحديثي عبد الله بن هشام ، وحديثي عبد الله بن عمر ، وحديث عبد الله بن الزبير في قصته ، وحديث ابن عباس الأخير ، وفيه من الآثار أثر واحد ، والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر ، وبهذا تعلم كثرة الأحاديث الدالة على الشركة في الجملة .
وأما الإجماع فقد أجمع جميع علماء المسلمين على جواز أنواع من أنواع الشركات ، وإنما الخلاف بينهم في بعض أنواعها .
اعلم أولا أن الشركة قسمان : شركة أملاك ، وشركة عقود .
فشركة الأملاك أن يملك عينا اثنان أو أكثر بإرث أو شراء أو هبة ونحو ذلك ، وهي المعروفة عند المالكية بالشركة الأعمية .
[ ص: 235 ] وشركة العقود تنقسم إلى شركة مفاوضة ، وشركة عنان ، وشركة وجوه ، وشركة أبدان ، وشركة مضاربة ، وقد تتداخل هذه الأنواع فيجتمع بعضها مع بعض .
أما شركة الأملاك فقد جاء القرآن الكريم بها في قوله تعالى : فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث [ 4 \ 12 ] ، ولا خلاف فيها بين العلماء .
وأما أنواع شركة العقود فسنذكر إن شاء الله هنا معانيها وكلام العلماء فيها ، وأمثلة للجائز منها تنبيها بها على غيرها ، وما ورد من الأدلة في ذلك .
اعلم أن شركة المفاوضة مشتقة من التفويض ; لأن كل واحد منهما يفوض أمر التصرف في مال الشركة إلى الآخر ، ومن هذا قوله تعالى عن مؤمن آل فرعون : وأفوض أمري إلى الله الآية [ 40 \ 44 ] .
وقيل : أصلها من المساواة ، لاستواء الشريكين فيها في التصرف والضمان ، وعلى هذا فهي من الفوضى بمعنى التساوي ، ومنه قول الأفوه الأودي :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
إذا تولى سراة الناس أمرهم نما على ذاك أمر القوم وازدادوا
فقوله : " لا يصلح الناس فوضى " أي لا تصلح أمورهم في حال كونهم فوضى ، أي متساوين لا أشراف لهم يأمرونهم وينهونهم ، والقول الأول هو الصواب ، هذا هو أصلها في اللغة .
وأما شركة العنان فقد اختلف في أصل اشتقاقها اللغوي ، فقيل : أصلها من عن الأمر يعن - بالكسر والضم - عنا وعنونا : إذا عرض ، ومنه قول امرئ القيس :
فعن لنا سرب كأن نعاجه عذارى دوار في ملاء مذيل
قال ابن منظور في اللسان : وشرك العنان وشركة العنان : شركة في شيء خاص دون سائر أموالهما ، كأنه عن لهما شيء فاشترياه واشتركا فيه ، واستشهد لذلك بقول النابغة الجعدي :
فشاركنا قريشا في تقاها وفي أحسابها شرك العنان
بما ولدت نساء بني هلال وما ولدت نساء بني أبان
وبهذا تعلم أن شركة العنان معروفة في كلام العرب ، وأن قول ابن القاسم من [ ص: 436 ] أصحاب مالك : إنه لا يعرف شركة العنان عن مالك ، وأنه لم ير أحدا من أهل الحجاز يعرفها ، وإنما يروى عن مالك والشافعي من أنهما لم يطلقا هذا الاسم على هذه الشركة ، وأنهما قالا :
هي كلمة تطرق بها أهل الكوفة ليمكنهم التمييز بين الشركة العامة والخاصة من غير أن يكون مستعملا في كلام العرب - كل ذلك فيه نظر لما عرفت أن كان ثابتا عنهم .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له :
اعلم أن مراد النابغة في بيتيه المذكورين : بما ولدت نساء بني هلال ابن عامر بن صعصعة ، وأن منهم لبابة الكبرى ، ولبابة الصغرى ، وهما أختان ، ابنتا الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال ، وهما أختا ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم .
أما لبابة الكبرى فهي زوج العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وهي أم أبنائه : عبد الله ، وعبيد الله ، والفضل وبه كانت تكنى ، وفيها يقول الراجز :
ما ولدت نجيبة من فحل كستة من بطن أم الفضل
وأما لبابة الصغرى فهي أم خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وعمتهما صفية بنت حزن هي أم أبي سفيان بن حرب ، وهذا مراده :
بما ولدت نساء بني هلال
وأما نساء بني أبان فإنه يعني أن أبا العاص ، والعاص ، وأبا العيص ، والعيص أبناء أمية بن عبد شمس ، أمهم آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، فهذه الأرحام المختلطة بين العامريين وبين قريش هي مراد النابغة بمشاركتهم لهم في الحسب والتقى شرك العنان .
وقيل : إن شركة العنان أصلها من عنان الفرس ، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله ، وهو المشهور عند العلماء .
وقيل هي من المعاناة بمعنى المعارضة ، يقال : عاننته : إذا عارضته بمثل ماله أو فعاله ، فكل واحد من الشريكين يعارض الآخر بماله وفعاله .
وهي بكسر العين على الصحيح خلافا لمن زعم فتحها ، ويروى عن عياض وغيره ، وادعاء أن أصلها من عنان السماء بعيد جدا كما ترى .
[ ص: 337 ] وأما شركة الوجوه فأصلها من الوجاهة ، لأن الوجيه تتبع ذمته بالدين ، وإذا باع شيئا باعه بأكثر مما يبيع به الخامل .
وأما شركة الأبدان فأصلها اللغوي واضح ; لأنهما يشتركان بعمل أبدانهما ، ولذا تسمى شركة العمل ، إذ ليس الاشتراك فيها بالمال ، وإنما هو بعمل البدن .
وأما شركة المضاربة وهي القراض فأصلها من الضرب في الأرض ; لأن التاجر يسافر في طلب الربح ، والسفر يكنى عنه بالضرب في الأرض ، كما في قوله تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله الآية [ 73 \ 20 ] ، وقوله : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة الآية [ 4 \ 101 ] .
فإذا عرفت معاني أنواع الشركة في اللغة ، فسنذكر لك إن شاء الله تعالى هنا معانيها المرادة بها في الاصطلاح عند الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وأحكامها ; لأنهم مختلفون في المراد بها اصطلاحا ، وفي بعض أحكامها .
أما مذهب مالك في أنواع الشركة وأحكامها فهذا تفصيله :
اعلم أن شركة المفاوضة جائزة عند مالك وأصحابه ، والمراد بشركة المفاوضة عندهم هو أن يطلق كل واحد منهما التصرف لصاحبه في المال الذي اشتركا فيه غيبة وحضورا ، وبيعا وشراء ، وضمانا وتوكيلا ، وكفالة وقراضا ، فما فعل أحدهما من ذلك لزم صاحبه إذا كان عائدا على شركتهما .
ولا يكونان شريكين إلا فيما يعقدان عليه الشركة من أموالهما ، دون ما ينفرد به كل واحد منهما من ماله ، وسواء اشتركا في كل ما يملكانه أو في بعض أموالهما ، وتكون يد كل منهما كيد صاحبه ، وتصرفه كتصرفه ما لم يتبرع بشيء ليس في مصلحة الشركة .
وسواء كانت المفاوضة بينهما في جميع أنواع المتاجر أو في نوع واحد منها ، كرقيق يتفاوضان في التجارة فيه فقط ، ولكل واحد منهما أن يبيع بالدين ويشتري فيه ويلزم ذلك صاحبه وهذا هو الصواب ، خلافا لخليل في مختصره في الشراء بالدين .
وقد أشار خليل في مختصره إلى جواز شركة المفاوضة في مذهب مالك مع تعريفها ، وما يستلزمه عقدها من الأحكام بالنسبة إلى الشريكين بقوله : ثم إن أطلقا التصرف وإن بنوع فمفاوضة ، ولا يفسدها انفراد أحدهما بشيء وله أن يتبرع إن استألف به أوخف كإعارة آلة ودفع كسرة ويبضع ويقارد ويودع لعذر وإلا ضمن ، ويشارك في معين ويقبل ويولي ويقبل [ ص: 338 ] المعيب وإن أبى الآخر ، ويقر بدين لمن لا يتهم عليه ، ويبيع بالدين لا الشراء به ، ككتابة وعتق على مال ، وإذن لعبد في تجارة ومفاوضة . وقد قدمنا أن الشراء بالدين كالبيع به ، فللشريك فعله بغير إذن شريكه على الصحيح من مذهب مالك خلافا لخليل . وأما الكتابة والعتق على المال وما عطف عليه فلا يجوز شيء منه إلا بإذن الشريك .
واعلم أن شركة المفاوضة هذه في مذهب مالك لا تتضمن شيئا من أنواع الغرر التي حرمت من أجلها شركة المفاوضة عند الشافعية ومن وافقهم ; لأن ما استفاده أحد الشريكين المتفاوضين من طريق أخرى كالهبة والإرث ، واكتساب مباح كاصطياد واحتطاب ونحو ذلك لا يكون شيء منه لشريكه ، كما أن ما لزمه غرمه خارجا عن الشركة كأرش جناية ، وثمن مغصوب ونحو ذلك ، لا شيء منه على شريكه ، بل يقتصر كل ما بينهما على ما كان متعلقا بمال الشركة ، فكل منهما وكيل عن صاحبه ، وكفيل عليه في جميع ما يتعلق بمال الشركة ، وهكذا اقتضاه العقد الذي تعاقدا عليه ، فلا موجب للمنع ولا غرر في هذه الشركة عند المالكية ; لأنهم لا يجعلون المتفاوضين شريكين في كل ما اكتسبا جميعا حتى يحصل الغرر بذلك ، ولا متضامنين في كل ما جنيا حتى يحصل الغرر بذلك ، بل هو عقد على أن كل واحد منهما نائب عن الآخر في كل التصرفات في مال الشركة ، وضامن عليه في كل ما يتعلق بالشركة ، وهذا لا مانع منه كما ترى ، وبه تعلم أن اختلاف المالكية والشافعية في شركة المفاوضة خلاف في حال ، لا في حقيقة .
وأما شركة العنان فهي جائزة عند الأئمة الأربعة ، مع اختلافهم في تفسيرها ، وفي معناها في مذهب مالك قولان ، وهي جائزة على كلا القولين : الأول وهو المشهور أنها هي الشركة التي يشترط كل واحد من الشريكين فيها على صاحبه ألا يتصرف في مال الشركة إلا بحضرته وموافقته ، وعلى هذا درج خليل في مختصره بقوله : وإن اشترطا نفي الاستبداد فعنان ، وهي على هذا القول من عنان الفرس ; لأن عنان كل واحد من الشريكين بيد الآخر فلا يستطيع الاستقلال دونه بعمل ، كالفرس التي يأخذ راكبها بعنانها فإنها لا تستطيع الذهاب إلى جهة بغير رضاه .
والقول الثاني عند المالكية : أن شركة العنان هي الاشتراك في شيء خاص ، وبهذا جزم ابن رشد ونقله عند المواق في شرح قول خليل : وإن اشترطا نفي الاستبداد إلخ ، وهذا المعنى الأخير أقرب للمعروف في اللغة كما قدمنا عن ابن منظور في اللسان .
وأما شركة الوجوه فلها عند العلماء معان :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 11:02 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (229)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 239 إلى صـ 244
[ ص: 239 ] الأول منها هو أن يشترك الوجيهان عند الناس بلا مال ولا صنعة ، بل ليشتري كل واحد منهما بمؤجل في ذمته لهما معا ، فإذا باعا كان الربح الفاضل عن الأثمان بينهما .
وهذا النوع من شركة الوجوه هو المعروف عند المالكية بشركة الذمم ، وهو فاسد عند المالكية والشافعية ، خلافا للحنفية والحنابلة ، ووجه فساده ظاهر ، لما فيه من الغرر ، لاحتمال أن يخسر هذا ويربح هذا كالعكس ، وإلى فساد هذا النوع من الشركة أشار ابن عاصم المالكي في تحفته بقوله :
وفسخها إن وقعت على الذمم ويقسمان الربح حكم ملتزم
المعنى الثاني من معانيها أن يبيع وجيه مال خامل بزيادة ربح ، على أن يكون له بعض الربح الذي حصل في المبيع بسبب وجاهته ; لأن الخامل لو كان هو البائع لما حصل ذلك الربح ، وهذا النوع أيضا فاسد ; لأنه عوض جاه ، كما قاله غير واحد من أهل العلم .
والمعنى الثالث أن يتفق وجيه وخامل على أن يشتري الوجيه في الذمة ويبيع الخامل ويكون الربح بينهما ، وهذا النوع أيضا فاسد عند المالكية والشافعية ، لما ذكرنا من الغرر سابقا .
وأما شركة الأبدان عند المالكية فهي جائزة بشروط ، وهي أن يكون عمل الشريكين متحدا كخياطين ، أو متلازما كأن يغزل أحدهما وينسج الآخر ; لأن النسج لا بد له من الغزل ، وأن يتساويا في العمل جودة ورداءة وبطأ وسرعة ، أو يتقاربا في ذلك ، وأن يحصل التعاون بينهما ، وإلى جواز هذا النوع من الشركة بشروطه أشار خليل في مختصره بقوله :
وجازت بالعمل إن اتحد أو تلازم وتساويا فيه ، أو تقاربا وحصل التعاون ، وإن بمكانين ، وفي جواز إخراج كل آلة واستئجاره من الآخر ، أو لا بد من ملك أو كراء - تأويلان ، كطبيبين اشتركا في الدواء ، وصائدين في البازين ، [ وهل وإن افترقا رويت عليهما وحافرين بكركاز ومعدن ، ولم يستحق وارثه بقيته وأقطعه الإمام ، وقيد بما لم يبد ، ولزمه ما يقبله صاحبه وإن تفاصلا وألغي مرض كيومين إلخ ] وبهذا تعلم أن شركة الأبدان جائزة عند المالكية في جميع أنواع العمل : من صناعات بأنواعها ، وطب واكتساب مباح ، كالاصطياد والاحتشاش والاحتطاب ، وغير ذلك بالشروط المذكورة ، وقال ابن عاصم في تحفته :
شركة بمال أو بعمل أو بهما تجوز لا لأجل
[ ص: 240 ] وبقي نوع معروف عند المالكية من أنواع الشركة يسمى في الاصطلاح بـ " شركة الجبر " وكثير من العلماء يخالفهم في هذا النوع الذي هو " شركة الجبر " .
وشركة الجبر : هي أن يشتري شخص سلعة بسوقها المعهود لها ، ليتجر بها بحضرة بعض تجار جنس تلك السلعة الذين يتجرون فيها ، ولم يتكلم أولئك التجار الحاضرون ، فإن لهم إن أرادوا الاشتراك في تلك السلعة مع ذلك المشتري أن يجبروه على ذلك ، ويكونون شركاءه في تلك السلعة شاء أو أبى .
وشركتهم هذه معه جبرا عليه هي " شركة الجبر " المذكورة ، فإن كان اشتراها ليقتنيها لا ليتجر بها ، أو اشتراها ليسافر بها إلى محل آخر ولو للتجارة بها فيه - فلا جبر لهم عليه ، وأشار خليل في مختصره إلى " شركة الجبر " بقوله : وأجبر عليها إن اشترى شيئا بسوقه لا لكفر أو قنية ، وغيره حاضر لم يتكلم من تجاره ، وهل في الزقاق لا كبيته قولان ، وأما شركة المضاربة فهي القراض ، وهو أن يدفع شخص إلى آخر مالا ليتجر به على جزء من ربحه يتفقان عليه ، وهذا النوع جائز بالإجماع إذا استوفى الشروط كما سيأتي إن شاء الله دليله .
وأما أنواع الشركة في مذهب الشافعي رحمه الله فهي أربعة : ثلاثة منها باطلة في مذهبه ، والرابع صحيح .
وأما الثلاثة الباطلة فالأول منها " شركة الأبدان " كشركة الحمالين ، وسائر المحترفين : كالخياطين ، والنجارين ، والدلالين ، ونحو ذلك ، ليكون بينهما كسبهما متساويا أو متفاوتا مع اتفاق الصنعة أو اختلافها .
فاتفاق الصنعة كشركة خياطين ، واختلافها كشركة خياط ونجار ونحو ذلك ، كل ذلك باطل في مذهب الشافعي ، ولا تصح عنده الشركة إلا بالمال فقط لا بالعمل .
ووجه بطلان شركة الأبدان عند الشافعية هو أنها شركة لا مال فيها ، وأن فيها غررا ; لأن كل واحد منهما لا يدري أيكتسب صاحبه شيئا أم لا ، ولأن كل واحد منهما متميز ببدنه ومنافعه فيختص بفوائده ، كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميزة على أن يكون النسل والدر بينهما ، وقياما على الاحتطاب والاصطياد ، هكذا توجيه الشافعية للمنع في هذا النوع من الشركة .
وقد علمت فيما مر شروط جواز هذا النوع عند المالكية ، إذ بتوفر الشروط المذكورة [ ص: 241 ] ينتفي الغرر .
والثاني من الأنواع الباطلة عند الشافعية هو شركة المفاوضة ، وهي عندهم أن يشتركا على أن يكون بينهما جميع كسبهما بأموالهما وأبدانهما ، وعليهما جميع ما يعرض لكل واحد منهما من غرم ، سواء كان بغصب أو إتلاف أو بيع فاسد أو غير ذلك ، ولا شك أن هذا النوع مشتمل على أنواع من الغرر فبطلانه واضح ، وهو ممنوع عند المالكية ، ولا يجيزون هذا ولا يعنونه بـ " شركة المفاوضة " كما قدمنا .
وقد قال الشافعي رحمه الله في هذا النوع : إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة ، فلا باطل أعرفه في الدنيا . يشير إلى كثرة الغرر والجهالات فيها ، لاحتمال أن يكسب كل واحد منهما كسبا دون الآخر ، وأن تلزم كل واحد منهما غرامات دون الآخر ، فالغرر ظاهر في هذا النوع جدا .
والثالث من الأنواع الباطلة عند الشافعية : هو " شركة الوجوه " وهي عندهم أن يشتري الوجيهان ليبتاع كل واحد منهما بمؤجل في ذمته لهما معا ، فإذا باعا كان الفاضل من الأثمان بينهما ، وهذا النوع هو المعروف عند المالكية بـ " شركة الذمم " ، ووجه فساده ظاهر ، لما فيه من الغرر ; لأن كلا منهما يشتري في ذمته ويجعل كل منهما للآخر نصيبا من ربح ما اشترى في ذمته ، مقابل نصيب من ربح ما اشترى الآخر في ذمته ، والغرر في مثل هذا ظاهر جدا ، وبقية أنواع " شركة الوجوه " ذكرناه في الكلام عليها في مذهب مالك ، وكلها ممنوعة في مذهب مالك ومذهب الشافعي ، ولذا اكتفينا بما قدمنا عن الكلام على بقية أنواعها في مذهب الشافعي .
أما النوع الرابع من أنواع الشركة الذي هو صحيح عند الشافعية فهو " شركة العنان " وهي : أن يشتركا في مال لهما ليتجرا فيه ، ويشترط فيها عندهم صيغة تدل على الإذن في التصرف في مال الشركة ، فلو اقتصرا على لفظ " اشتركنا " لم يكف على الأصح عندهم .
ويشترط في الشريكين أهلية التوكيل والتوكل ، وهذا الشرط مجمع عليه ، وتصح " شركة العنان " عند الشافعية في المثليات مطلقا دون المقومات وقيل : تختص بالنقد المضروب .
ويشترط عندهم فيها خلط المالين ، بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر ، والحيلة عندهم في الشركة في العروض هي أن يبيع كل واحد بعض عرضه ببعض عرض الآخر [ ص: 241 ] ويأذن له في التصرف ، ولا يشترط عندهم تساوي المالين ، والربح والخسران على قدر المالين ، سواء تساويا في العمل أو تفاوتا ، وإن شرطا خلاف ذلك فسد العقد ، ويرجع كل واحد منهما على الآخر بأجرة عمله في ماله .
عقد الشركة المذكورة يسلط كل واحد منهما على التصرف في مال الشركة بلا ضرر ، فلا يبيع بنسيئة ، ولا بغبن فاحش ، ولا يبضعه بغير إذن شريكه ، ولكل منهما فسخها متى شاء .
وأما تفصيل أنواع الشركة في مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله فهو أن الشركة تنقسم إلى ضربين :
شركة ملك ، وشركة عقد .
فشركة الملك واضحة ، كأن يملكا شيئا بإرث أو هبة ونحو ذلك كما تقدم ، وشركة العقد عندهم تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
شركة بالمال ، وشركة بالأعمال ، وشركة بالوجوه ، وكل قسم من هذه الأقسام الثلاثة عندهم ينقسم قسمين : مفاوضة ، وعنان ، فالمجموع ستة أقسام .
أما شركة المفاوضة عندهم فهي جائزة إن توفرت شروطها ، وهي عندهم الشركة التي تتضمن وكالة كل من الشريكين للآخر ، وكفالة كل منهما الآخر ، ولابد فيها من مساواة الشريكين في المال والدين والتصرف .
فبتضمنها الوكالة يصح تصرف كل منهما في نصيب الآخر .
وبتضمنها الكفالة يطلب كل منهما بما لزم الآخر .
وبمساواتهما في المال يمتنع أن يستبد أحدهما بشيء تصح الشركة فيه دون الآخر ، ولذا لو ورث بعد العقد شيئا تصح الشركة فيه كالنقد بطلت المفاوضة ، ورجعت الشركة شركة عنان .
وبتضمنها المساواة في الدين تمتنع بين مسلم وكافر .
وبتضمنها المساواة في التصرف تمتنع بين بالغ وصبي ، وبين حر وعبد ، وكل ما اشتراه واحد من شريكي المفاوضة فهو بينهما ، إلا طعام أهله وكسوتهم ، وكل دين لزم أحدهما بتجارة وغصب وكفالة لزم الآخر .
[ ص: 243 ] ولا تصح عندهم شركة مفاوضة أو عنان بغير النقدين والتبر والفلوس النافقة ، والحيلة في الشركة في العروض عندهم هي ما قدمناه عن الشافعية ، فهم متفقون في ذلك .
وأما شركة العنان فهي جائزة عند الحنفية ، وقد قدمنا الإجماع على جوازها على كل المعاني التي تراد بها عند العلماء .
وشركة العنان عند الحنفية هي الشركة التي تتضمن الوكالة وحدها ، ولم تتضمن الكفالة ، وهي : أن يشتركا في نوع بز أو طعام أو في عموم التجارة . ولم يذكر الكفالة .
ويعلم من هذا أن كل ما اشتراه أحدهما كان بينهما ، ولا يلزم أحدهما ما لزم الآخر من الغرامات ، وتصح عندهم شركة العنان المذكورة مع التساوي في المال دون الربح وعكسه ، إذا كانت زيادة الربح لأكثرهما عملا ; لأن زيادة الربح في مقابلة زيادة العمل وفاقا للحنابلة ، وعند غيرهم لا بد أن يكون الربح بحسب المال ، ولو اشترى أحد الشريكين " شركة العنان " بثمن فليس لمن باعه مطالبة شريكه الآخر ; لأنها لا تتضمن الكفالة بل يطالب الشريك الذي اشترى منه فقط ، ولكن الشريك يرجع على شريكه بحصته ، ولا يشترط في هذه الشركة عندهم خلط المالين ، فلو اشترى أحدهما بماله وهلك مال الآخر كان المشترى بينهما ، ويرجع على شريكه بحصته منه .
وتبطل هذه الشركة عندهم بهلاك المالين أو أحدهما قبل الشراء ، وتفسد عندهم باشتراط دراهم مسماة من الربح لأحدهما ، ويجوز عندهم لكل من شريكي المفاوضة والعنان أن يبضع ويستأجر ، ويودع ويضارب ويوكل ، ويد كل منهما في مال الشركة يد أمانة ، كالوديعة والعارية .
وأما شركة الأعمال ففيها تفصيل عند الحنفية ، فإن كان العمل من الصناعات ونحوها جازت عندهم شركة الأعمال ، ولا يشترطون اتحاد العمل أو تلازمه خلافا للمالكية كما تقدم فيجوز عند الحنفية : أن يشترك خياطان مثلا ، أو خياط وصباغ على أن يتقبلا الأعمال ، ويكون الكسب بينهما ، وكل عمل يتقبله أحدهما يلزمهما . وإذا عمل أحدهما دون الآخر فما حصل من عمله فهو بينهما ، وإنما استحق فيه الذي لم يعمل لأنه ضمنه بتقبل صاحبه له ، فاستحق نصيبه منه بالضمان .
وهذا النوع الذي أجازه الحنفية لا يخفى أنه لا يخلو من غرر في الجملة عند اختلاف صنعة الشريكين ، لاحتمال أن يحصل أحدهما أكثر مما حصله الآخر ، فالشروط التي أجاز بها المالكية " شركة الأعمال " أحوط وأبعد من الغرر كما ترى .
[ ص: 244 ] وأما إن كانت الأعمال من جنس اكتساب المباحات فلا تصح فيها الشركة عند الحنفية ، كالاحتطاب والاحتشاش ، والاصطياد واجتناء الثمار من الجبال والبراري ، خلافا للمالكية والحنابلة .
ووجه منعه عند الحنفية أن من اكتسب مباحا كحطب أو حشيش أو صيد ملكه ملكا مستقلا ، فلا وجه لكون جزء منه لشريك آخر ; لأنه لا يصح التوكيل فيه ، ومن أجازه قال : إن كل واحد منهما جعل للآخر نصيبا من ذلك المباح الذي يكتسبه في مقابل النصيب الذي يكتسبه الآخر ، والمالكية القائلون بجواز هذا يشترطون اتحاد العمل أو تقاربه ، فلا غرر في ذلك ، ولا موجب للمنع ، وفي اشتراط ذلك عند الحنابلة خلاف كما سيأتي إن شاء الله .
وأما " شركة الوجوه " التي قدمنا أنها هي المعروفة عند المالكية " بشركة الذمم " وقدمنا منعها عند المالكية والشافعية فهي جائزة عند الحنفية ، سواء كانت مفاوضة أو عنانا ، وقد علمت مما تقدم أن المفاوضة عندهم تتضمن الوكالة والكفالة .
وأن العنان تتضمن الوكالة فقط ، وإن اشترط الشريكان في " شركة الوجوه " مناصفة المشتري أو مثالثته فالربح كذلك عندهم وبطل عندهم شرط الفضل ; لأن الربح عندهم لا يستحق إلا بالعمل ، كالمضارب ، أو بالمال كرب المال ، أو بالضمان كالأستاذ الذي يتقبل العمل من الناس ويلقيه على التلميذ بأقل مما أخذ ، فيطيب له الفضل بالضمان ، هكذا يقولونه ، ولا يخفى ما في " شركة الوجوه " من الغرر .
واعلم أن الربح في الشركة الفاسدة على حسب المال إن كانت شركة مال ، وعلى حسب العمل إن كانت شركة عمل ، وهذا واضح ، وتبطل الشركة بموت أحدهما .
وأما تفصيل أنواع الشركة في مذهب الإمام أحمد رحمه الله فهي أيضا قسمان : شركة أملاك ، وشركة عقود .
وشركة العقود عند الحنابلة خمسة أنواع : شركة العنان ، والأبدان ، والوجوه ، والمضاربة ، والمفاوضة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-07, 11:03 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (230)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 245 إلى صـ 250
أما شركة الأبدان فهي جائزة عندهم ، سواء كان العمل من الصناعات أو اكتساب المباحات ، أما مع اتحاد العمل فهي جائزة عندهم بلا خلاف ، وأما مع اختلاف العمل فقال أبو الخطاب : لا تجوز وفاقا للمالكية ، وقال القاضي : تجوز وفاقا للحنفية [ ص: 245 ] في الصناعات دون اكتساب المباحات .
وإن اشتركا على أن يتقبل أحدهما للعمل ويعمله الثاني والأجرة بينهما صحت الشركة عند الحنابلة والحنفية خلافا لزفر ، والربح في شركة الأبدان على ما اتفقوا عليه عند الحنابلة .
وأما شركة الوجوه التي قدمنا أنها هي المعروفة بشركة الذمم عند المالكية فهي جائزة أيضا في مذهب الإمام أحمد وفاقا لأبي حنيفة ، وخلافا لمالك والشافعي ، وأما شركة العنان فهي جائزة أيضا عند الإمام أحمد ، وقد قدمنا الإجماع على جوازها ، وهي عندهم : أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيهما بأبدانهما والربح بينهما ، وهذه الشركة إنما تجوز عندهم بالدنانير والدراهم ، ولا تجوز بالعروض .
وأما شركة المفاوضة فهي عند الحنابلة قسمان : أحدهما جائز ، والآخر ممنوع .
وأما الجائز منهما فهو أن يشتركا في جميع أنواع الشركة ، كأن يجمعا بين شركة العنان والوجوه والأبدان فيصح ذلك ; لأن كل نوع منها يصح على انفراده فصح مع غيره .
وأما النوع الممنوع عندهم منها فهو أن يدخلا بينهما في الشركة الاشتراك فيما يحصل لكل واحد منهما من ميراث أو يجده من ركاز أو لقطة ، ويلزم كل واحد منهما ما لزم الآخر من أرش جناية وضمان غصب ، وقيمة متلف ، وغرامة ضمان ، وكفالة ، وفساد هذا النوع ظاهر لما فيه من الغرر كما ترى .
وأما شركة المضاربة وهي القراض فهي جائزة عند الجميع وقد قدمنا أنها هي : أن يدفع شخص لآخر مالا يتجر فيه على أن يكون الربح بينهما بنسبة يتفقان عليها ، وكون الربح في المضاربة بحسب ما اتفقا عليه لا خلاف فيه بين العلماء ، سواء كان النصف أو أقل أو أكثر لرب المال أو للعامل .
وأما شركة العنان عند الشافعية والحنابلة والحنفية والمالكية ، وشركة المفاوضة عند المالكية فاختلف في نسبة الربح ، فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا بد من كون الربح والخسران بحسب المالين ، وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى أن الربح بينهما على ما اتفقا عليه ، فلهما أن يتساويا في الربح مع تفاضل المالين .
وحجة القول الأول أن الربح تبع للمال ، فيلزم أن يكون بحسبه ، وحجة القول الأخير أن العمل مما يستحق به الربح ، وقد يكون أحدهما أبصر بالتجارة وأقوى على [ ص: 346 ] العمل من الآخر ، فتزاد حصته لزيادة عمله .
هذا خلاصة مذاهب الأئمة الأربعة في أنواع الشركة ، وقد علمت أنهم أجمعوا على جواز شركة العنان ، وشركة المضاربة ، وشركة الأملاك ، واختلفوا فيما سوى ذلك ، فأجاز الحنفية والحنابلة شركة الوجوه ، ومنعها المالكية والشافعية .
وأجاز المالكية والحنفية والحنابلة شركة الأبدان إلا في اكتساب المباحات فقط فلم يجزه الحنفية ، ومنع الشافعية شركة الأبدان مطلقا .
وأجاز المالكية شركة المفاوضة ، وصوروها بغير ما صورها به المالكية ، وأجاز الحنابلة نوعا من أنواع المفاوضة وصوروه بصورة مخالفة لتصوير غيرهم لها ، ومنع الشافعية المفاوضة كما منعوا شركة الأبدان والوجوه ، وصوروا المفاوضة بصورة أخرى كما تقدم .
والشافعية إنما يجيزون الشركة بالمثلي مطلقا نقدا أو غيره ، لا بالمقومات .
والحنفية لا يجيزونها إلا بالنقدين والتبر والفلوس النافقة ، والحنابلة لا يجيزونها إلا بالدنانير والدراهم كما تقدم جميع ذلك .
وقد بينا كيفية الحيلة في الاشتراك بالعروض عند الشافعية والحنفية ، وعند المالكية تجوز بدنانير من كل واحد منهما ، وبدراهم من كل واحد منهما ، وبدنانير ودراهم من كل واحد منهما ، وبنقد من أحدهما وعرض من الآخر ، وبعرض من كل واحد منهما سواء اتفقا أو اختلفا ، وقيل : إن اتفقا ، لا إن اختلفا ، إلا أن العروض تقوم ، وأما خلط المالين فلا بد منه عند الشافعي رحمه الله حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر كما تقدم ، ويكفي في مذهب مالك أن يكون المالان في حوز واحد ، ولو كان كل واحد من المالين في صرته لم يختلط بالآخر ، ولا يشترط خلط المالين عند الحنفية كما تقدم ، وكذلك لا يشترط خلط المالين عند الحنابلة .
فتحصل أنه لم يشترط خلط المالين إلا الشافعية ، وأن المالكية إنما يشترطون كون المالين في محل واحد ، كحانوت أو صندوق ، وإن كان كل واحد منهما متميزا عن الآخر .
فإذا عرفت ملخص كلام العلماء في أنواع الشركة ، فسنذكر ما تيسر من أدلتها ، أما النوع الذي تسميه المالكية " مفاوضة " ويعبر عنه الشافعية والحنابلة بشركة العنان ، فقد [ ص: 247 ] يستدل له بحديث البراء بن عازب الذي قدمناه عن البخاري والإمام أحمد ، فإنه يدل على الاشتراك في التجارة والبيع والشراء لأن المقصود بالاشتراك التعاون على العمل المذكور فينوب كل واحد من الشريكين عن الآخر ، ويدل لذلك أيضا حديث أبي هريرة يرفعه ، قال : إن الله يقول " أنا ثالث الشريكين . . . " الحديث المتقدم ، وقد بينا كلام العلماء فيه ، وبينا أنه صالح للاحتجاج ، وهو ظاهر في أنهما يعملان معا في مال الشركة بدليل قوله : " ما لم يخن أحدهما صاحبه . . . " الحديث .
ويدل لذلك أيضا حديث السائب بن أبي السائب المتقدم في أنه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وهو اشتراك في التجارة والبيع والشراء .
وأما شركة الأبدان فيحتج لها بما رواه أبو عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال : اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نصيب يوم بدر . قال : فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء . رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، وقال المجد في " منتقى الأخبار " بعد أن ساقه : وهو حجة في شركة الأبدان وتملك المباحات ، وأعل هذا الحديث بأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله المذكور فالحديث مرسل ، وقد قدمنا مرارا أن الأئمة الثلاثة يحتجون بالمرسل خلافا للمحدثين .
وأما المضاربة فلم يثبت فيها حديث صحيح مرفوع ، ولكن الصحابة أجمعوا عليها لشيوعها وانتشارها فيهم من غير نكير ، وقد مضى على ذلك عمل المسلمين من لدن الصحابة إلى الآن من غير نكير ، قال ابن حزم في مراتب الإجماع : كل أبواب الفقه لها أصل من الكتاب والسنة ، حاشا القراض فما وجدنا له أصلا فيهما البتة ، ولكنه إجماع صحيح مجرد ، والذي يقطع به أنه كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فعلم به وأقره ، ولولا ذلك لما جاز . اهـ منه بواسطة نقل الشوكاني في نيل الأوطار .
واعلم أن اختلاف الأئمة الذي قدمنا في أنواع الشركة المذكورة راجع إلى الاختلاف في تحقيق المناط ، فبعضهم يقول : هذه الصورة يوجد فيها الغرر وهو مناط المنع فهي ممنوعة ، فيقول الآخر : لا غرر في هذه الصورة يوجب المنع فمناط المنع ليس موجودا فيها ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : أخذ بعض علماء المالكية وغيرهم من هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها أيضا : جواز خلط الرفقاء طعامهم وأكل بعضهم مع بعض وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر ; لأن أصحاب الكهف بعثوا ورقهم ليشترى لهم بها طعام يأكلونه جميعا ، [ ص: 248 ] وقد قدمنا في كلام ابن العربي أنه تحتمل انفراد ورق كل واحد منهم وطعامه ; فلا تدل الآية على خلطهم طعامهم ، كما قدمنا عنه أنها لا تدل على الاشتراك للاحتمال المذكور ، وله وجه كما ترى .
وقال ابن العربي : ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين ، أحدهما : أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه ، والثاني : حديث أبي عبيدة في جيش الخبط ، وهذا دون الأول في الظهور ; لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم . اهـ كلام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا النوع من الاشتراك وهو خلط الرفقة طعامهم واشتراكهم في الأكل فيه هو المعروف بـ " النهد " بكسر النون وفتحها ، ولجوازه أدلة من الكتاب والسنة ، أما دليل ذلك من الكتاب فقوله تعالى : وإن تخالطوهم فإخوانكم [ 2 \ 220 ] ، فإنها تدل على خلط طعام اليتيم مع طعام وصيه وأكلهما جميعا ، وقوله تعالى ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا [ 24 \ 61 ] ، ومن صور أكلهم جميعا أن يكون الطعام بينهم فيأكلون جميعا ، وأما السنة فقد دلت على ذلك أحاديث صحيحة ، منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا إلى الساحل ، فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة نفر ، وأنا فيهم ، فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كله ، فكان مزودي تمر فكان يقوتنا كل يوم قليلا حتى فني ، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت ، ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت . . " الحديث ، وهذا الحديث ثابت في الصحيح ، واللفظ الذي سقناه به لفظ البخاري في كتاب " الشركة " وفيه جمع أبي عبيدة بقية أزواد القوم وخلطها في مزودي تمر ، ولم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم بعد قدومهم إليه .
ومنها حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : خفت أزواد القوم وأملقوا ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر إبلهم ، فأذن لهم فلقيهم عمر فأخبروه ، فقال : ما بقاؤكم بعد إبلكم ، فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما بقاؤهم بعد إبلهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ناد في الناس فيأتون بفضل أزوادهم " فبسط لذلك نطع وجعلوه على النطع ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا وبرك عليه ، ثم دعاهم بأوعيتهم فاحتثى الناس حتى فرغوا ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 249 ] " أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله " هذا الحديث ثابت في الصحيح ، واللفظ الذي سقناه به للبخاري أيضا في كتاب " الشركة " وفيه : خلط طعامهم بعضه مع بعض .
ومنها حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين التمرتين جميعا حتى يستأذن أصحابه ، في رواية في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الإقران إلا أن يستأذن الرجل منكم أخاه .
كل هذا ثابت في الصحيح واللفظ للبخاري رحمه الله في كتاب " الشركة " ، وإذن صاحبه له يدل على اشتراكهما في التمر كما ترى ، وهذا الذي ذكرنا جوازه من خلط الرفقاء طعامهم وأكلهم منه جميعا هو مراد البخاري رحمه الله بلفظ النهد في قوله في كتاب الشركة : الشركة في الطعام والنهد . إلى قوله : لم ير المسلمون في النهد بأسا أن يأكل هذا بعضا وهذا بعضا وهذا بعضا إلخ .
فروع تتعلق بمسألة الشركة
الأول : إن دفع شخص دابته لآخر ليعمل عليها وما يرزق الله بينهما نصفين أو أثلاثا أو كيفما شرطا - ففي صحة ذلك خلاف بين العلماء ، فقال بعضهم : يصح ذلك ، وهو مذهب الإمام أحمد ، ونقل نحوه عن الأوزاعي ، وقال بعضهم : لا يصح ذلك ، وما حصل فهو للعامل وعليه أجرة مثل الدابة ، وهذا هو مذهب مالك : قال ابن قدامة في " المغني " وكره ذلك الحسن والنخعي ، وقال الشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وأصحاب الرأي : لا يصح ، والربح كله لرب الدابة ، وللعامل أجرة مثله ، هذا حاصل كلام أهل العلم في هذه المسألة .
وأقوى الأقوال دليلا عندي فيها مذهب من أجاز ذلك ، كالإمام أحمد ، بدليل حديث رويفع بن ثابت ، قال : إن كان أحدنا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأخذ نضو أخيه على أن له النصف مما يغنم ولنا النصف ، وإن كان أحدنا ليطير له النصل والريش وللآخر القدح ، هذا الحديث أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي ، قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : إسناد أبي داود فيه شيبان بن أمية القتباني وهو مجهول ، وبقية رجاله ثقات ، وقد أخرجه النسائي من غير طريق هذا المجهول بإسناد رجاله كلهم ثقات ، والحديث دليل صريح على جواز دفع الرجل إلى الآخر راحلته في الجهاد على أن تكون الغنيمة بينهما ، وهو عمل على الدابة على أن ما يرزقه الله بينهما كما ترى ، والتفريق بين العمل في الجهاد وبين غيره لا يظهر ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 250 ] الفرع الثاني أن يشترك ثلاثة : من أحدهم دابة ، ومن آخر رواية ، ومن الثالث العمل ، على أن ما رزقه الله تعالى فهو بينهم ، فهل يجوز هذا ؟ اختلف في ذلك ، فمن العلماء من قال لا يجوز هذا ، وهو مذهب مالك ، وهو ظاهر قول الشافعي . وممن قال بذلك : القاضي من الحنابلة ، وأجازه بعض الحنابلة ، وقال ابن قدامة في " المغني " : إنه صحيح في قياس قول أحمد رحمه الله .
الفرع الثالث أن يشترك أربعة : من أحدهم دكان ، ومن آخر رحى ، ومن آخر بغل ، ومن الرابع العمل ، على أن يطحنوا بذلك ، فما رزقه الله تعالى فهو بينهم ، فهل يصح ذلك أو لا ؟ اختلف فيه ، فقيل : يصح ذلك وهو مذهب الإمام أحمد ، وخالف فيه القاضي من الحنابلة وفاقا للقائلين بمنع ذلك كالمالكية ، قال ابن قدامة : ومنعه هو ظاهر قول الشافعي ; لأن هذا لا يجوز أن يكون مشاركة ولا مضاربة ، فلو كان صاحب الرحى وصاحب الدابة وصاحب الحانوت اتفقوا على أن يعملوا جميعا وكان كراء الحانوت والرحى والدابة متساويا ، وعمل أربابها متساويا - فهو جائز عند المالكية ، وهذه المسألة هي التي أشار إليها خليل في مختصره بقوله عاطفا على ما لا يجوز : وذي رحا ، وذي بيت ، وذي دابة ليعلموا إن لم يتساو الكراء وتساووا في الغلة وترادوا الأكرية ، وإن اشترط عمل رب الدابة فالغلة له وعليه كراؤهما .
ولا يخفى أن " الشركة " باب كبير من أبواب الفقه ، وأن مسائلها مبينة باستقصاء في كتب فروع الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، وقصدنا هنا أن نبين جوازها بالكتاب والسنة والإجماع ، ونذكر أقسامها ومعانيها اللغوية والاصطلاحية ، واختلاف العلماء فيها ، وبيان أقوالهم ، وذكر بعض فروعها تنبيها بها على غيرها ، وقد أتينا على جميع ذلك ، والحمد لله رب العالمين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:22 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (231)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 251 إلى صـ 256
قوله تعالى : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن أصحاب الكهف أنهم قالوا إن قومهم الكفار الذين فروا منهم بدينهم إن يظهروا عليهم ، أي يطلعوا عليهم ويعرفوا مكانهم ، يرجموهم بالحجارة ، وذلك من أشنع أنواع القتل ، وقيل : يرجموهم بالشتم والقذف ، أو يعيدوهم في ملتهم ، أي : يردوهم إلى ملة الكفر .
وهذا الذي ذكره هنا من فعل الكفار مع المسلمين من الأذى أو الرد إلى الكفر ذكره [ ص: 251 ] في مواضع أخر أنه هو فعل الكفار مع الرسل وأتباعهم ; كقوله جل وعلا : وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا [ 14 \ 13 ] ، وقوله تعالى : قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك ياشعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله الآية [ 7 \ 88 - 89 ] ، وقوله تعالى : ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [ 2 \ 217 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
مسألة
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة ; لأن قوله عن أصحاب الكهف : إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم [ 18 \ 20 ] ، ظاهر في إكراههم على ذلك وعدم طواعيتهم ، ومع هذا قال عنهم : ولن تفلحوا إذا أبدا ، فدل ذلك على أن ذلك الإكراه ليس بعذر . ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل ; لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذبابا قتلوه .
ويشهد له أيضا دليل الخطاب ، أي : مفهوم المخالفة في قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ; فإنه يفهم من قوله : " تجاوز لي عن أمتي " أن غير أمته من الأمم لم يتجاوز لهم عن ذلك ، وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديما وحديثا بالقبول ، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة ، وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم الآية [ 18 \ 20 ] ; ولذلك اختصرناها هنا ، أما هذه الأمة فقد صرح الله تعالى بعذرهم بالإكراه في قوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ 16 \ 106 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا .
لم يبين الله هنا من هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم ، هل هم من المسلمين أو من الكفار ؟ وذكر ابن جرير وغيره فيهم قولين : أحدهما أنهم كفار ، والثاني أنهم مسلمون ; [ ص: 252 ] وهي قولهم : لنتخذن عليهم مسجدا [ 18 \ 21 ] ; لأن اتخاذ المساجد من صفات المؤمنين لا من صفات الكفار ، هكذا قال بعض أهل العلم . ولقائل أن يقول : اتخاذ المساجد على القبور من فعل الملعونين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا من فعل المسلمين ، وقد قدمنا ذلك مستوفى بأدلته في سورة " الحجر " في الكلام على قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين الآية [ 15 \ 80 ] .
قوله تعالى : سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل .
أخبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف ، فذكر ثلاثة أقوال على أنه لا قائل برابع ، وجاء في الآية الكريمة بقرينة تدل على أن القول الثالث هو الصحيح والأولان باطلان ; لأنه لما ذكر القولين الأولين بقوله : سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم الآية [ 18 \ 22 ] ، أتبع ذلك بقوله : رجما بالغيب ، أي : قولا بلا علم ، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب ، وإن أصاب بلا قصد ; كقوله : ويقذفون بالغيب من مكان بعيد [ 34 \ 53 ] .
وقال القرطبي : الرجم القول بالظن ، يقال لكل ما يخرص رجم فيه ومرجوم ومرجم كما قال زهير :
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
ثم حكى القول الثالث بقوله : ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم فأقره ، ولم يذكر بعده أن ذلك رجم بالغيب ، فدل على أنه الصحيح ، وقولـه : ما يعلمهم إلا قليل ، قال ابن عباس : أنا من ذلك القليل الذي يعلمهم ، كانوا سبعة . وقوله : قل ربي أعلم بعدتهم فيه تعليم للناس أن يردوا علم الأشياء إلى خالقها جل وعلا وإن علموا بها ، كما أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمدة لبثهم في قوله : ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا [ 18 \ 25 ] ، ثم أمره مع ذلك برد العلم إليه جل وعلا في قوله جل وعلا : قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض الآية [ 18 \ 26 ] ، وما قدمنا من أنه لا قائل برابع قاله ابن كثير أخذا من ظاهر الآية الكريمة . مع أن ابن إسحاق وابن جريج قالا : كانوا ثمانية ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله .
نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول : إنه سيفعل شيئا في المستقبل إلا معلقا ذلك على مشيئة [ ص: 253 ] الله الذي لا يقع شيء في العالم كائنا ما كان إلا بمشيئته جل وعلا ، فقوله : ولا تقولن لشيء [ 18 \ 23 ] ، أي : لا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله في المستقبل إني فاعل ذلك الشيء غدا .
والمراد بالغد : ما يستقبل من الزمان لا خصوص الغد . ومن أساليب العربية إطلاق الغد على المستقبل من الزمان ; ومنه قول زهير :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
يعني أنه لا يعلم ما يكون في المستقبل ، إذ لا وجه لتخصيص الغد المعين بذلك ، وقوله : إلا أن يشاء الله [ 18 \ 24 ] ، إلا قائلا في ذلك إلا أن يشاء الله ، أي : معلقا بمشيئة الله ، أو لا تقولنه إلا بإن شاء الله ، أي : إلا بمشيئة الله ، وهو في موضع الحال ، يعني إلا متلبسا بمشيئة الله قائلا إن شاء الله ، قاله الزمخشري وغيره .
وسبب نزول هذه الآية الكريمة : أن اليهود قالوا لقريش : سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم عن الروح ، وعن رجل طواف في الأرض ، ) يعنون ذا القرنين ( ، وعن فتية لهم قصة عجيبة في الزمان الماضي ، يعنون أصحاب الكهف ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سأخبركم غدا عما سألتم عنه " ، ولم يقل إن شاء الله ، فلبث عنه الوحي مدة ، قيل خمس عشرة ليلة ، وقيل غير ذلك . فأحزنه تأخر الوحي عنه ، ثم أنزل عليه الجواب عن الأسئلة الثلاثة ، قال في الروح : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي الآية [ 17 \ 85 ] ، وقال في الفتية نحن نقص عليك نبأهم بالحق الآيات [ 18 \ 13 ] إلى آخر قصتهم ، وقال في الرجل الطواف : ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا [ 18 \ 83 ] الآيات إلى آخر قصته .
فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة وسبب نزولها ، وأن الله عاتب نبيه فيها على عدم قوله إن شاء الله ، لما قال لهم " سأخبركم غدا " ، فاعلم أنه دلت آية أخرى بضميمة بيان السنة لها على أن الله عاتب نبيه سليمان على عدم قوله إن شاء الله ، كما عاتب نبيه في هذه الآية على ذلك ، بل فتنة سليمان بذلك كانت أشد ; فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قال سليمان بن داود عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية تسعين امرأة ، وفي رواية مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله " ، فقيل له - وفي رواية قال له الملك : " قل إن شاء الله " فلم يقل ، فطاف بهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف [ ص: 254 ] إنسان ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته " ، وفي رواية : " ولقاتلوا في سبيل الله فرسانا أجمعون " ا هـ .
فإذا علمت هذا فاعلم أن هذا الحديث الصحيح بين معنى قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا الآية [ 38 \ 34 ] ، وأن فتنة سليمان كانت بسبب تركه قوله " إن شاء الله " ، وأنه لم يلد من تلك النساء إلا واحدة نصف إنسان ، وأن ذلك الجسد الذي هو نصف إنسان هو الذي ألقي على كرسيه بعد موته في قوله تعالى : وألقينا على كرسيه جسدا الآية ، فما يذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان الآية ، من قصة الشيطان الذي أخذ الخاتم وجلس على كرسي سليمان ، وطرد سليمان عن ملكه ; حتى وجد الخاتم في بطن السمكة التي أعطاها له من كان يعمل عنده بأجر مطرودا عن ملكه ، إلى آخر القصة ، لا يخفى أنه باطل لا أصل له ، وأنه لا يليق بمقام النبوة . فهي من الإسرائيليات التي لا يخفى أنها باطلة .
والظاهر في معنى الآية هو ما ذكرنا ، وقد دلت السنة الصحيحة عليه في الجلة ، واختاره بعض المحققين ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واذكر ربك إذا نسيت .
في هذه الآية الكريمة قولان معروفان لعلماء التفسير :
الأول : أن هذه الآية الكريمة متعلقة بما قبلها ، والمعنى : أنك إن قلت سأفعل غدا كذا ونسيت أن تقول إن شاء الله ، ثم تذكرت بعد ذلك فقل إن شاء الله ; أي : اذكر ربك معلقا على مشيئته ما تقول أنك ستفعله غدا إذا تذكرت بعد النسيان ، وهذا القول هو الظاهر ; لأنه يدل عليه قوله تعالى قبله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 ، 24 ] ، وهو قول الجمهور . وممن قال به ابن عباس والحسن البصري وأبو العالية وغيرهم .
القول الثاني : أن الآية لا تعلق لها بما قبلها ، أن المعنى : إذا وقع منك النسيان لشيء فاذكر الله ; لأن النسيان من الشيطان ، كما قال تعالى عن فتى موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ 18 \ 63 ] ، وكقوله : استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله [ 58 \ 19 ] ، وقال تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، وذكر الله تعالى يطرد الشيطان ، كما يدل لذلك قوله تعالى : [ ص: 255 ] ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، وقولـه تعالى : قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس من شر الوسواس الخناس الآية [ 114 \ 1 - 4 ] ; أي : الوسواس عند الغفلة عن ذكر الله ، الخناس : الذي يخنس ويتأخر صاغرا عند ذكر الله ، فإذا ذهب الشيطان النسيان . وقال بعضهم : واذكر ربك إذا نسيت [ 18 \ 24 ] ، أي : صل الصلاة التي كنت ناسيا لها عند ذكرك لها ، كما قال تعالى : وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] ، وقول من قال إذا نسيت ، أي : إذا غضبت - ظاهر السقوط .
مسألة
اشتهر على ألسنة العلماء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه استنبط من هذه الآية الكريمة : أن الاستثناء يصح تأخيره عن المستثنى منه زمنا طويلا ، قال بعضهم : إلى شهر ، وقال بعضهم : إلى سنة ، وقال بعضهم عنه : له الاستثناء أبدا . ووجه أخذه ذلك من الآية : أن الله تعالى نهى نبيه أن يقول : إنه سيفعل شيئا في المستقبل إلا من الاستثناء بإن شاء الله ، ثم قال : واذكر ربك إذا نسيت ; أي : إن نسيت تستثني بإن شاء الله فاستثن إذا تذكرت من غير تقييد باتصال ولا قرب .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن الاستثناء لا يصح إلا مقترنا بالمستثنى منه ، وأن الاستثناء المتأخر لا أثر له ولا تحل به اليمين ، ولو كان الاستثناء المتأخر يصح لما علم في الدنيا أنه تقرر عقد ولا يمين ولا غير ذلك ، لاحتمال طرو الاستثناء بعد ذلك ، وهذا في غاية البطلان كما ترى . ويحكى عن المنصور أنه بلغه أن أبا حنيفة رحمه الله يخالف مذهب ابن عباس المذكور ; فاستحضره لينكر عليه ذلك ، فقال الإمام أبو حنيفة للمنصور : هذا يرجع عليك ! إنك تأخذ البيعة بالأيمان ، أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك ! ؟ فاستحسن كلامه ورضي عنه .
فائدة
قال ابن العربي المالكي : سمعت فتاة ببغداد تقول لجارتها : لو كان مذهب ابن عباس صحيحا في الاستثناء ما قال الله تعالى لأيوب : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث [ 38 \ 44 ] ، بل يقول استثن بإن شاء الله انتهى منه بواسطة نقل صاحب نشر البنود في شرح ، وقوله في مراقي السعود :
[ ص: 256 ]
بشركة وبالتوطي قالا بعض وأوجب فيه الاتصالا وفي البواقي دون ما اضطرار
وأبطلن بالصمت للتذكار
فإن قيل : فما الجواب الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما نسب إليه من القول بصحة الاستثناء المتأخر .
فالجواب أن مراد ابن عباس رضي الله عنهما أن الله عاتب نبيه على قوله إنه سيفعل كذا غدا ، ولم يقل إن شاء الله ، وبين له أن التعليق بمشيئة الله هو الذي ينبغي أن يفعل ; لأنه تعالى لا يقع شيء إلا بمشيئته ، فإذا نسي التعليق بالمشيئة ثم تذكر ولو بعد طول فإنه يقول إن شاء الله ، ليخرج بذلك من عهدة عدم التعليق بالمشيئة ، ويكون قد فوض الأمر إلى من لا يقع إلا بمشيئته ، فنتيجة هذا الاستثناء : هي الخروج من عهدة تركة الموجب للعتاب السابق ، لا أنه يحل اليمين لأن تداركها قد فات بالانفصال ، هذا هو مراد ابن عباس كما جزم به الطبري وغيره ، وهذا لا محذور فيه ولا إشكال .
وأجاب بعض أهل العلم بجواب آخر وهو : أنه نوى الاستثناء بقلبه ونسي النطق به بلسانه ، فأظهر بعد ذلك الاستثناء الذي نواه وقت اليمين ، هكذا قاله بعضهم ، والأول هو الظاهر ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:22 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (232)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 257 إلى صـ 262
قوله تعالى : له غيب السماوات والأرض .
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو المختص بعلم الغيب في السماوات والأرض ، وذكر هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [ 27 \ 65 ] ، وقوله تعالى : عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال [ 13 \ 9 ] ، وقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ 3 \ 179 ] ، وقوله تعالى : ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله الآية [ 11 \ 123 ] ، وقولـه تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، وقولـه تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقولـه تعالى : عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 34 \ 3 ] ، وقولـه [ ص: 257 ] تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وبين في مواضع أخر : أنه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء من وحيه ، كقوله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 - 27 ] ، وقد أشار إلى ذلك بقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء [ 3 \ 179 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أبصر به وأسمع .
أي : ما أبصره وما أسمعه جل وعلا ، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من اتصافه جل وعلا بالسمع والبصر ذكره أيضا في مواضع أخر ، كقوله : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 \ 11 ] ، وقولـه : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير [ 58 \ 1 ] ، وقولـه تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير [ 22 \ 75 ] ، والآيات بذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : ما لهم من دونه من ولي .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أصحاب الكهف ليس لهم ولي من دونه جل وعلا ، بل هو وليهم جل وعلا ، وهذا المعنى مذكور في آيات أخر ، كقوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور [ 2 \ 257 ] ، وقولـه تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 10 \ 62 ] ، فبين أنه ولي المؤمنين ، وأن المؤمنين أولياؤه ، والولي : هو من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به ، فالإيمان سبب يوالي به المؤمنين ربهم بالطاعة ، ويواليهم به الثواب والنصر والإعانة .
وبين في مواضع أخر : أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، كقوله : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا [ 5 \ 55 ] ، وقولـه : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض الآية [ 9 \ 671 ] ، وبين في مواضع أخر : أن نبينا صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وهو قوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم [ 23 \ 6 ] .
وبين في موضع آخر أنه تعالى مولى المؤمنين دون الكافرين ، وهو قوله تعالى : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] ، وهذه الولاية المختصة بالمؤمنين هي ولاية الثواب والنصر والتوفيق والإعانة ، فلا تنافي أنه مولى [ ص: 258 ] الكافرين ولاية ملك وقهر ونفوذ ومشيئة ، كقوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 \ 30 ] ، وقال بعض العلماء : الضمير في قوله : ما لهم من دونه من ولي راجع لأهل السماوات والأرض المفهومين من قوله تعالى : له غيب السماوات والأرض ، وقيل : الضمير في قوله : " ما لهم " راجع لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم من الكفار ، ذكره القرطبي ، وعلى كل حال فقد دلت الآيات المتقدمة أن ولاية الجميع لخالقهم جل وعلا ، وأن منها ولاية ثواب وتوفيق وإعانة ، وولاية ملك وقهر ونفوذ ومشيئة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا .
قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن عامر " ولا يشرك " بالياء المثناة التحتية ، وضم الكاف على الخبر ، ولا نافية والمعنى : ولا يشرك الله جل وعلا أحدا في حكمه ، بل الحكم له وحده جل وعلا لا حكم لغيره ألبتة ، فالحلال ما أحله تعالى ، والحرام ما حرمه ، والدين ما شرعه ، والقضاء ما قضاه ، وقرأه ابن عامر من السبعة ; " ولا تشرك " بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الكاف بصيغة النهي ، أي : لا تشرك يا نبي الله ، أو لا تشرك أيها المخاطب أحدا في حكم الله جل وعلا ، بل أخلص الحكم لله من شوائب شرك غيره في الحكم ، وحكمه جل وعلا المذكور في قوله : ولا يشرك في حكمه أحدا شامل لكل ما يقضيه جل وعلا ، ويدخل في ذلك التشريع دخولا أوليا .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الحكم لله وحده لا شريك له فيه على كلتا القراءتين جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [ 12 \ 40 ] ، وقولـه تعالى : إن الحكم إلا لله عليه توكلت الآية [ 12 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، وقولـه تعالى : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] ، وقولـه تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] ، وقولـه تعالى : له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 70 ] ، وقولـه : أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ 5 \ 50 ] ، وقولـه تعالى : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا [ 6 \ 114 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 259 ] ويفهم من هذه الآيات ، كقوله : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] ، أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله ، وهذا المفهوم جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنها ذبيحة الله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] ، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم ، وهذا الإشراك في الطاعة ، واتباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [ 36 \ 60 ، 61 ] ، وقولـه تعالى عن نبيه إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ 19 \ 44 ] ، وقولـه تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي : ما يعبدون إلا شيطانا ، أي : وذلك باتباع تشريعه ، ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء ، في قوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية [ 6 \ 137 ] ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عن قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] ، فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك ، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أربابا .
ومن أصرح الأدلة في هذا : أن الله جل وعلا في " سورة النساء " بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون ، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب ; وذلك في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] .
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور : أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم ، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته ، وأعماه عن نور الوحي مثلهم .
[ ص: 260 ] تنبيه
اعلم ، أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السماوات والأرض ، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك .
وإيضاح ذلك أن النظام قسمان : إداري ، وشرعي ، أما الإداري : الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه غير مخالف للشرع ، فهذا لا مانع منه ، ولا مخالف فيه من الصحابة ، فمن بعدهم ، وقد عمل عمر رضي الله عنه من ذلك أشياء كثيرة ما كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ككتبه أسماء الجند في ديوان لأجل الضبط ، ومعرفة من غاب ومن حضر كما قدمنا إيضاح المقصود منه في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على العاقلة التي تحمل دية الخطأ ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ، ولم يعلم بتخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك إلا بعد أن وصل تبوك صلى الله عليه وسلم ، وكاشترائه - أعني عمر رضي الله عنه - دار صفوان بن أمية وجعله إياها سجنا في مكة المكرمة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يتخذ سجنا هو ولا أبو بكر ، فمثل هذا من الأمور الإدارية التي تفعل لإتقان الأمور مما لا يخالف الشرع لا بأس به ، كتنظيم شئون الموظفين ، وتنظيم إدارة الأعمال على وجه لا يخالف الشرع ، فهذا النوع من الأنظمة الوضعية لا بأس به ، ولا يخرج عن قواعد الشرع من مراعاة المصالح العامة .
وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض ، كدعوى أن تفضيل الذكر على الأنثى في الميراث ليس بإنصاف ، وأنهما يلزم استواؤهما في الميراث . وكدعوى أن تعدد الزوجات ظلم ، وأن الطلاق ظلم للمرأة ، وأن الرجم والقطع ونحوهما أعمال وحشية لا يسوغ فعلها بالإنسان ، ونحو ذلك .
فتحكيم هذا النوع من النظام في أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السماوات والأرض ، وتمرد على نظام السماء الذي وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علوا كبيرا أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] ، قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقد قدمنا جملة وافية من هذا النوع في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم الآية [ 17 \ 9 ] .
[ ص: 261 ] قوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك .
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يتلو هذا القرآن الذي أوحاه إليه ربه . والأمر في قوله " واتل " [ 18 \ 27 ] ، شامل للتلاوة بمعنى القراءة ، والتلو : بمعنى الاتباع ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن العظيم واتباعه جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى في سورة " العنكبوت " : اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة الآية [ 29 \ 45 ] ، وكقوله تعالى في آخر سورة " النمل " : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن الآية [ 27 \ 91 ، 92 ] ، ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر بتلاوته ، وكقوله تعالى على الأمر باتباعه : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] ، وقولـه تعالى : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم [ 43 \ 43 ] ، وقولـه تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] ، وقولـه تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم .
وقد بين في مواضع أخر بعض النتائج التي تحصل بسبب تلاوة القرآن واتباعه ، كقوله تعالى : إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور [ 35 \ 29 ] ، وقوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون [ 2 \ 121 ] ، والعبرة في هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قوله تعالى : لا مبدل لكلماته .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته ; أي : لأن أخبارها صدق وأحكامها عدل ، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذبا ، ولا أن يبدل عدلها جورا ، وهذا الذي ذكره هنا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله تعالى : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] ، فقوله : " صدقا " يعني في الإخبار ، وقوله " عدلا " أي : في الأحكام . وكقوله : [ ص: 262 ] ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ 6 \ 34 ] .
وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أنه هو يبدل ما شاء من الآيات مكان ما شاء منها ، كقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] ، وقولـه : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، وقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي [ 18 \ 27 ] .
قوله تعالى : ولن تجد من دونه ملتحدا .
أصل الملتحد : مكان الالتحاد وهو الافتعال : من اللحد بمعنى الميل ، ومنه اللحد في القبر ; لأنه ميل في الحفر ، ومنه قوله تعالى : إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا [ 41 \ 40 ] ، وقولـه : وذروا الذين يلحدون في أسمائه الآية [ 7 \ 180 ] ، فمعنى اللحد والإلحاد في ذلك : الميل عن الحق ، والملحد المائل عن دين الحق ، وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إن زاد ماضيه على ثلاثة أحرف فمصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه كلها بصيغة اسم المفعول كما هنا ، فالملتحد بصيغة اسم المفعول ، والمراد به مكان الالتحاد ، أي : المكان الذي يميل فيه إلى ملجأ أو منجى ينجيه مما يريد الله أن يفعله به .
وهذا الذي ذكره هنا من أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يجد من دونه ملتحدا ; أي : مكانا يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه ، جاء مبينا في مواضع أخر ; كقوله : قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته [ 72 \ 21 - 22 ] ، وقولـه : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين الآية [ 69 \ 44 - 47 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:23 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (233)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 263 إلى صـ 268
وكونه ليس له ملتحد ، أي : مكان يلجأ إليه تكرر نظيره في القرآن بعبارات مختلفة ، كالمناص ، والمحيص ، والملجأ ، والموئل ، والمفر ، والوزر ، كقوله : فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] ، وقولـه : ولا يجدون عنها محيصا [ 4 \ 121 ] ، وقولـه : فنقبوا في البلاد هل من محيص [ 50 \ 36 ] ، وقولـه : ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير [ 42 \ 47 ] ، وقولـه : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 58 ] ، [ ص: 263 ] وقولـه : يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر [ 75 \ 10 - 11 ] ، فكل ذلك راجع في المعنى إلى شيء واحد ، وهو انتفاء مكان يلجئون إليه ويعتصمون به .
قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يصبر نفسه ، أي : يحبسها مع المؤمنين الذي يدعون ربهم أول النهار وآخره مخلصين له ، لا يريدون بدعائهم إلا رضاه جل وعلا .
وقد نزلت هذه الآية الكريمة في فقراء المهاجرين كعمار ، وصهيب ، وبلال ، وابن مسعود ونحوهم ، لما أراد صناديد الكفار من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطردهم عنه ، ويجالسهم بدون حضور أولئك الفقراء المؤمنين ، وقد قدمنا في سورة " الأنعام " أن الله كما أمره هنا بأن يصبر نفسه معهم أمره بألا يطردهم ، وأنه إذا رآهم يسلم عليهم ، وذلك في قوله : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين - إلى قوله - وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم [ 6 \ 52 - 54 ] ، وقد أشار إلى ذلك المعنى في قوله : عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا [ 80 \ 1 - 11 ] ، وقد قدمنا أن ما طلبه الكفار من نبينا صلى الله عليه وسلم من طرده فقراء المؤمنين وضعفاءهم تكبرا عليهم وازدراء بهم ، طلبه أيضا قوم نوح من نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأنه امتنع من طردهم أيضا ، كقوله تعالى عنهم : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون [ 26 \ 111 ] ، وقولـه عنهم أيضا : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي [ 11 \ 27 ] ، وقال عن نوح في امتناعه من طردهم : وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين [ 26 \ 114 ] ، وكقوله تعالى عنه : وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون [ 11 \ 29 - 30 ] .
وقولـه : واصبر نفسك [ 18 \ 28 ] ، فيه الدليل على أن مادة الصبر تتعدى بنفسها للمفعول ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي ذؤيب أو عنترة :
فصبرت عارفة بذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
والغداة : أول النهار ، والعشي : آخره . وقال بعض العلماء :
[ ص: 264 ] يدعون ربهم بالغداة والعشي ، أي : يصلون صلاة الصبح والعصر ، والتحقيق أن الآية تشمل أعم من مطلق الصلاة ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا .
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن تعدو عيناه عن ضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، طموحا إلى الأغنياء وما لديهم من زينة الحياة الدنيا ، ومعنى ولا تعد عيناك [ 18 \ 28 ] ، أي : لا تتجاوزهم عيناك وتنبو عن رثاثة زيهم ، محتقرا لهم طامحا إلى أهل الغنى والجاه والشرف بدلا منهم ، وعدا يعدو : تتعدى بنفسها إلى المفعول وتلزم ، والجملة في قوله : تريد زينة الحياة الدنيا في محل حال والرابط الضمير ، على حد قوله في الخلاصة :
وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميرا ومن الواو خلت
وصاحب الحال المذكورة هو الضمير المضاف إليه في قوله : " عيناك " ، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه ، على حد قوله في الخلاصة :
ولا تجز حالا من المضاف له إلا إذا اقتضى المضاف عمله أو كان جزء ما له أضيفا أو مثل جزئه فلا تحيفا وما نهى الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة من طموح العين إلى زينة الحياة الدنيا ، مع الاتصاف بما يرضيه جل وعلا من الثبات على الحق ، كمجالسة فقراء المؤمنين ، أشار له أيضا في مواضع أخر ، كقوله : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا [ 20 \ 130 - 131 ] ، وقولـه تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم الآية [ 15 \ 87 ] .
قوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا .
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة عن طاعة من أغفل الله قلبه عن ذكره واتبع هواه ، وكان أمره فرطا ، وقد كرر في القرآن نهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن اتباع مثل هذا الغافل عن ذكر الله المتبع هواه ، كقوله تعالى : فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، وقولـه : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم الآية [ 33 \ 48 ] ، [ ص: 265 ] وقولـه تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم [ 68 \ 8 - 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقد أمره في موضع آخر بالإعراض عن المتولين عن ذكر الله ، والذين لا يريدون غير الحياة الدنيا ، وبين له أن ذلك هو مبلغهم من العلم ; وذلك في قوله تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : من أغفلنا قلبه [ 18 \ 28 ] ، يدل على أن ما يعرض للعبد من غفلة ومعصية ، إنما هو بمشيئة الله تعالى ، إذ لا يقع شيء البتة كائنا ما كان إلا بمشيئته الكونية القدرية ، جل وعلا ، وما تشاءون إلا أن يشاء الله الآية [ 76 \ 30 ] ، ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] ، ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 35 ] ، ختم الله على قلوبهم الآية [ 2 \ 7 ] ، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 46 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل شيء من خير وشر ، لا يقع إلا بمشيئة خالق السماوات والأرض . فما يزعمه المعتزلة ، ويحاول الزمخشري في تفسيره دائما تأويل آيات القرآن على نحو ما يطابقه من استقلال قدرة العبد وإرادته فأفعاله دون مشيئة الله ، لا يخفى بطلانه كما تدل عليه الآيات المذكورة آنفا ، وأمثالها في القرآن كثيرة .
ومعنى اتباعه هواه : أنه يتبع ما تميل إليه نفسه الأمارة بالسوء وتهواه من الشر ، كالكفر والمعاصي .
وقولـه : وكان أمره فرطا ، قيل : هو من التفريط الذي هو التقصير ، وتقديم العجز بترك الإيمان ، وعلى هذا فمعنى وكان أمره فرطا ، أي : كانت أعماله سفها وضياعا وتفريطا ، وقيل : من الإفراط الذي هو مجاوزة الحد ، كقول الكفار المحتقرين لفقراء المؤمنين : نحن أشراف مضر وساداتها ! إن اتبعناك اتبعك جميع الناس ، وهذا من التكبر والإفراط في القول ، وقيل " فرطا " أي : قدما في الشر . من قولهم : فرط منه أمر ، أي : سبق . وأظهر الأقوال في معنى الآية الكريمة عندي بحسب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن معنى قوله " فرطا " : أي : متقدما للحق والصواب ، نابذا له وراء [ ص: 266 ] ظهره . من قولهم : فرس فرط ، أي : متقدم للخيل ، ومنه قول لبيد في معلقته :
ولقد حميت الخيل تحمل شكتي فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
وإلى ما ذكرنا في معنى الآية ترجع أقوال المفسرين كلها ، كقول قتادة ومجاهد " فرطا " أي : ضياعا . وكقول مقاتل بن حيان " فرطا " أي : سرفا ، كقول الفراء " فرطا " أي : متروكا . وكقول الأخفش " فرطا " أي : مجاوزا للحد ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قوله تعالى : وقل الحق من ربكم .
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس : الحق من ربكم ، وفي إعرابه وجهان ، أحدهما : أن " الحق " مبتدأ ، والجار والمجرور خبره ، أي : الحق الذي جئتكم به في هذا القرآن العظيم ، المتضمن لدين الإسلام كائن مبدؤه من ربكم جل وعلا ، فليس من وحي الشيطان ، ولا من افتراء الكهنة ، ولا من أساطير الأولين ، ولا غير ذلك . بل هو من خالقكم جل وعلا ، الذي تلزمكم طاعته وتوحيده ، ولا يأتي من لدنه إلا الحق الشامل للصدق في الأخبار ، والعدل في الأحكام ، فلا حق إلا منه جل وعلا .
الوجه الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذا الذي جئتكم به الحق .
وهذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في مواضع أخر ، كقوله في سورة " البقرة " : الحق من ربك فلا تكونن من الممترين [ 2 \ 147 ] ، وقولـه في " آل عمران " : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . قوله تعالى : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، ظاهر هذه الآية الكريمة بحسب الوضع اللغوي التخيير بين الكفر والإيمان ولكن المراد من الآية الكريمة ليس هو التخيير ، وإنما المراد بها التهديد والتخويف . والتهديد بمثل هذه الصيغة التي ظاهرها التخيير أسلوب من أساليب اللغة العربية ، والدليل من القرآن العظيم على أن المراد في الآية التهديد والتخويف أنه أتبع ذلك بقوله : إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا ، وهذا أصرح دليل على أن المراد التهديد والتخويف ، إذ لو كان التخيير على بابه لما توعد فاعل أحد الطرفين المخير بينهما بهذا العذاب الأليم ، وهذا واضح كما ترى .
وقولـه في هذه الآية الكريمة أعتدنا [ 18 \ 29 ] ، أصله من الاعتاد ، والتاء فيه [ ص: 267 ] أصلية وليست مبدلة من دال على الأصح ; ومنه العتاد بمعنى العدة للشيء ، ومعنى " أعتدنا " : أرصدنا وأعددنا ، والمراد بالظالمين هنا : الكفار ; بدليل قوله قبله ومن شاء فليكفر ، وقد قدمنا كثرة إطلاق الظلم على الكفر في القرآن . كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقولـه تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقولـه تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وقد قدمنا أن الظلم في لغة العرب : وضع الشيء في غير محله ، ومن أعظم ذلك وضع العبادة في مخلوق ، وقد جاء في القرآن إطلاق الظلم على النقص في قوله : ولم تظلم منه شيئا [ 18 \ 33 ] ، وأصل معنى مادة الظلم هو ما ذكرنا من وضع الشيء في غير موضعه ، ولأجل ذلك قيل الذي يضرب اللبن قبل أن يروب : ظالم لوضعه ضرب لبنه في غير موضعه ; لأن ضربه قبل أن يروب يضيع زبده ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم
فقوله " ظلمت لكم سقائي " ، أي : ضربته لكم قبل أن يروب ، ومنه قول الآخر في سقاء له ظلمه بنحو ذلك :
وصاحب صدق لم تربني شكاته ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر
وفي لغز الحريري في مقاماته في الذي يضرب لبنه قبل أن يروب ، قال : أيجوز أن يكون الحاكم ظالما ؟ قال : نعم ، إذا كان عالما . ومن ذلك أيضا قولهم للأرض التي حفر فيها وليست محل حفر في السابق : أرض مظلومة ، ومنه قول نابغة ذبيان :
إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
وما زعمه بعضهم من أن " المظلومة " في البيت هي التي ظلمها المطر بتخلفه عنها وقت إبانه المعتاد غير صواب . والصواب : هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى ، ولأجل ما ذكرنا قالوا للتراب المخرج من القبر عند حفره ظليم بمعنى مظلوم ; لأنه حفر في غير محل الحفر المعتاد ، ومنه قول الشاعر يصف رجلا مات ودفن :
فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مرود عليها ظليمها
وقولـه : أحاط بهم أي : أحدق بهم من كل جانب ، وقولـه : سرادقها [ 18 \ 29 ] ، أصل السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار ، وكل بيت من [ ص: 268 ] كرسف فهو سرادق . والكرسف : القطن ، ومنه قول رؤبة أو الكذاب الحرمازي :
يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود
وبيت مسردق : أي مجعول له سرادق ، ومنه قول سلامة بن جندل يذكر أبريويز وقتله للنعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة :
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق
هذا هو أصل معنى السرادق في اللغة . ويطلق أيضا في اللغة على الحجرة التي حول الفسطاط .
وأما المراد بالسرادق في الآية الكريمة ففيه للعلماء أقوال مرجعها إلى شيء واحد ، وهو إحداق النار بهم من كل جانب ، فمن العلماء من يقول " سرادقها " : أي : سورها ، قاله ابن الأعرابي وغيره . ومنهم من يقول " سرادقها " : سور من نار ، وهو مروي عن ابن عباس . ومنهم من يقول " سرادقها " : عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة ، قاله الكلبي : ومنهم من يقول : هو دخان يحيط بهم . وهو المذكور في " المرسلات " في قوله تعالى : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 \ 30 - 31 ] ، و " الواقعة " في قوله : وظل من يحموم لا بارد ولا كريم [ 56 \ 43 - 44 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:29 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (234)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 269 إلى صـ 274
ومنهم من يقول : هو البحر المحيط بالدنيا . وروى يعلى بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " البحر هو جهنم ثم تلا " نارا أحاط بهم سرادقها " ثم قال والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا تصيبني منها قطرة " ذكره الماوردي . وروى ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لسرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة " وأخرجه أبو عيسى الترمذي وقال فيه : حديث حسن صحيح غريب . انتهى من القرطبي . وهذا الحديث رواه أيضا الإمام أحمد وابن جرير وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن حبان ، وأبو الشيخ ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه وابن أبي الدنيا . قاله صاحب الدر المنثور وتبعه الشوكاني . وحديث يعلى بن أمية رواه أيضا ابن جرير في تفسيره . قال الشوكاني : ورواه أحمد والبخاري وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، ورواه صاحب الدر المنثور عن البخاري في تاريخه ، وأحمد وابن أبي الدنيا وابن جرير والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي . وعلى كل حال ، فمعنى الآية الكريمة : أن النار محيطة بهم من كل [ ص: 269 ] جانب ، كما قال تعالى : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ 7 \ 41 ] ، وقال : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل [ 39 \ 16 ] ، وقال : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون [ 21 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : وإن يستغيثوا ، يعني إن يطلبوا الغوث مما هم فيه من الكرب يغاثوا ، يؤتوا بغوث هو ماء كالمهل . والمهل في اللغة : يطلق على ما أذيب من جواهر الأرض ، كذائب الحديد والنحاس ، والرصاص ونحو ذلك .
ويطلق أيضا على دردي الزيت وهو عكره . والمراد بالمهل في الآية : ما أذيب من جواهر الأرض . وقيل : دردي الزيت . وقيل : هو نوع من القطران . وقيل السم .
فإن قيل : أي إغاثة في ماء كالمهل مع أنه من أشد العذاب ، وكيف قال الله تعالى : يغاثوا بماء كالمهل [ 18 \ 29 ] .
فالجواب أن هذا من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن . ونظيره من كلام العرب قول بشر بن أبي حازم :
غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصيلم
فمعنى قوله " أعتبوا بالصيلم " : أي : أرضوا بالسيف . يعني ليس لهم منا إرضاء إلا بالسيف . وقول عمرو بن معدي كرب :
وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع
يعني لا تحية لهم إلا الضرب الوجيع . وإذا كانوا لا يغاثون إلا بماء كالمهل علم من ذلك أنهم لا إغاثة لهم البتة . والياء في قوله " يستغيثوا " والألف في قوله " يغاثوا " كلتاهما مبدلة من واو ; لأن مادة الاستغاثة من الأجوف الواوي العين ، ولكن العين أعلت للساكن الصحيح قبلها ، على حد قوله في الخلاصة :
لساكن صح انقل التحريك من ذي لين آت عين فعل كأبن وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يشوي الوجوه ، أي : يحرقها حتى تسقط فروة الوجه ، أعاذنا الله والمسلمين منها وعن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة أنه قال : " كالمهل يشوي الوجوه " ، هو كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه ، قال [ ص: 270 ] ابن حجر رحمه الله في ) الكافي الشاف ، في تخريج أحاديث الكشاف ( : أخرجه الترمذي من طريق رشدين بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، واستغربه وقال : لا يعرف إلا من حديث رشدين بن سعد ، وتعقب قوله بأن أحمد وأبا يعلى أخرجاه من طريق ابن لهيعة عن دراج ، وبأن ابن حبان والحاكم أخرجاه من طريق وهب عن عمرو بن الحارث .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : بئس الشراب المخصوص بالذم فيه محذوف ، تقديره : بئس الشراب ذلك الماء الذي يغاثون به . والضمير الفاعل في قوله " ساءت " عائد إلى النار .
والمرتفق : مكان الارتفاق . وأصله أن يتكئ الإنسان معتمدا على مرفقه ، وللعلماء في المراد بالمرتفق في الآية أقوال متقاربة في المعنى . قيل مرتفقا . أي : منزلا ، وهو مروي عن ابن عباس . وقيل مقرا ، وهو مروي عن عطاء . وقيل مجلسا وهو مروي عن العتبي . وقال مجاهد : مرتفقا أي : مجتمعا . فهو عنده مكان الارتفاق بمعنى مرافقة بعضهم لبعض في النار .
وحاصل معنى الأقوال أن النار بئس المستقر هي ، وبئس المقام هي . ويدل لهذا قوله تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما [ 25 \ 66 ] ، وكون أصل الارتفاق هو الاتكاء على المرفق ، معروف في كلام العرب ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مذبوح
ويروى " وبت الليل مشتجرا " وعليه فلا شاهد في البيت ، ومنه قول أعشى باهلة :
قد بت مرتفقا للنجم أرقبه حيران ذا حذر لو ينفع الحذر
وقول الراجز :
قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحا
وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من صفات هذا الشراب ، الذي يسقى به أهل النار ، جاء نحوه في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 6 \ 70 ] ، وقولـه تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] ، وقولـه تعالى : تسقى من عين آنية [ 88 \ 5 ] ، وقولـه تعالى : يطوفون بينها وبين حميم آن [ 55 \ 44 ] ، والحميم الآني : من الماء المتناهي في الحرارة .
[ ص: 271 ] وقولـه تعالى : ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه الآية [ 14 \ 16 - 17 ] ، وقولـه تعالى : ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم [ 37 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 ، 55 ] .
وقولـه تعالى : لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا الآية [ 78 \ 24 - 25 ] ، وقولـه تعالى : هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 57 - 58 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قدمنا طرقا من هذا في سورة " يونس " .
قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من عمل صالحا وأحسن في عمله أنه جل وعلا لا يضيع أجره ، أي : جزاء عمله : بل يجازى بعمله الحسن الجزاء الأوفى .
وبين هذا المعنى في آيات كثيرة جدا ، كقوله تعالى : فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى [ 3 \ 195 ] ، وقولـه تعالى : يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين [ 3 \ 171 ] ، وقولـه : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ 55 \ 60 ] ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا . وفي هذا المعنى سؤالان معروفان عند العلماء :
الأول : أن يقال أين خبر " إن " في قوله تعالى إن الذين آمنوا [ 8 \ 30 ] ؟ فإذا قيل : خبرها جملة إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا [ 18 \ 30 ] توجه السؤال .
الثاني : وهو أن يقال : أين رابط الجملة الخبرية بالمبتدأ الذي هو اسم " إن " ؟ .
اعلم أن خبر " إن " في قوله : إن الذين آمنوا ، قيل : هو جملة أولئك لهم جنات عدن ، وعليه فقوله : إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا جملة اعتراضية . وعلى هذا فالرابط موجود ولا إشكال فيه . وقيل : " إن " الثانية واسمها وخبرها ، كل ذلك خبر " إن " الأولى . ونظير الآية من القرآن في الإخبار عن " إن " بـ " إن " وخبرها واسمها قوله تعالى في سورة " الحج " : إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة الآية [ 22 \ 17 ] ، وقول الشاعر :
إن الخليفة إن الله ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم
على أظهر الوجهين في خبر " إن " الأولى في البيت ، وعلى هذا فالجواب عن السؤال [ ص: 272 ] الثاني من وجهين :
الأول : أن الضمير الرابط محذوف ، تقديره : لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا ; كقولهم : السمن منوان بدرهم ، أي : منوان منه بدرهم ، كما تقدم في قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن الآية [ 2 \ 234 ] ، أي : يتربصن بعدهم .
الوجه الثاني : أن من أحسن عملا ، هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وإذا كان الذين آمنوا ، ومن أحسن عملا ينظمها معنى واحد قام ذلك مقام الربط بالضمير ، وهذا هو مذهب الأخفش ، وهو الصواب ; لأن الربط حاصل بالاتحاد في المعنى .
قوله تعالى : أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار
إلى قوله : وحسنت مرتفقا ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أجر من أحسن عملا ، فذكر أنه جنات عدن تجري من تحتهم فيها الأنهار ، ويحلون فيها أساور الذهب ، ويلبسون فيها الثياب الخضر من السندس والإستبرق ، في حال كونهم متكئين فيها على الأرائك وهي السرر في الحجال ، والحجال : جمع حجلة وهو بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة ، ثم أثنى على ثوابهم بقوله : نعم الثواب وحسنت مرتفقا [ 18 \ 31 ] ، وهذا الذي بينه هنا من صفات جزاء المحسنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات جاء مبينا في مواضع كثيرة جدا من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى في سورة " الإنسان " : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا إلى قوله : وكان سعيكم مشكورا [ 76 \ 5 - 22 ] ، وكقوله في سورة " الواقعة " ، والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] إلى قوله : لأصحاب اليمين [ الآية 38 ] ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن :
وقد بين في سورة " السجدة " أن ما أخفاه الله لهم من قرة أعين لا يعلمه إلا هو جل وعلا ، وذلك في قوله : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين الآية [ 32 \ 17 ] .
وقولـه في هذه الآية الكريمة . جنات عدن أي : إقامة لا رحيل بعدها ولا تحول . كما قال تعالى : لا يبغون عنها حولا [ 18 \ 108 ] أصله من عدن بالمكان : إذا أقام به ، وقد تقدم في سورة " النحل " معنى السندس والإستبرق بما أغنى عن إعادته هنا ، والأساور : جمع سوار ، وقال بعضهم : جمع أسورة ، والثواب : الجزاء مطلقا على [ ص: 273 ] التحقيق . ومنه قول الشاعر :
لكل أخي مدح ثواب علمته وليس لمدح الباهلي ثواب
وقول من قال : إن الثواب في اللغة يختص بجزاء الخير بالخير غير صواب ، بل يطلق الثواب أيضا على جزاء الشر بالشر ، ومنه قوله تعالى : هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 36 ] ، وقولـه تعالى : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه الآية [ 5 \ 60 ] .
وقولـه : وحسنت مرتفقا ، الضمير في قوله " حسنت " راجع إلى " جنات عدن " . والمرتفق قد قدمنا أقوال العلماء فيه . وقوله هنا في الجنة " وحسنت مرتفقا " يبين معناه قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما [ 25 \ 75 - 76 ] .
قوله تعالى : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن هذا الرجل الكافر الظالم لنفسه ، الذي ضربه مثلا مع الرجل المؤمن في هذه الآيات لرؤساء الكفار ، الذين افتخروا بالمال والجاه على ضعفاء المسلمين الفقراء كما تقدم أنه دخل جنته في حال كونه ظالما لنفسه ، وقال : إنه ما يظن أن تهلك جنته ولا تفنى : لما رأى من حسنها ونضارتها ؟ وقال : إنه لا يظن الساعة قائمة ، وإنه إن قدر أنه يبعث ويرد إلى ربه ليجدن عنده خيرا من الجنة التي أعطاه في الدنيا .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة : من جهل الكفار واغترارهم بمتاع الحياة الدنيا ، وظنهم أن الآخرة كالدنيا ينعم عليهم فيها أيضا بالمال والولد ، كما أنعم عليهم في الدنيا جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله في " فصلت " : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقولـه في " مريم " : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقولـه في " سبأ " : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقولـه في هذه السورة الكريمة : فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا [ 18 \ 34 ] .
وبين جل وعلا كذبهم واغترارهم فيما ادعوه : من أنهم يجدون نعمة الله في الآخرة [ ص: 274 ] كما أنعم عليهم بها في الدنيا في مواضع كثيرة ، كقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، وقولـه : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 - 45 ] ، وقولـه : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقولـه : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] ، وقولـه تعالى : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وقولـه : منقلبا ، أي : مرجعا وعاقبة ، وانتصابه على التمييز ، وقولـه : لأجدن خيرا منها ، قرأه ابن عامر ونافع وابن كثير " منهما " بصيغة تثنية الضمير ، وقرأه الباقون " منها " بصيغة إفراد هاء الغائبة ، فالضمير على قراءة تثنيته راجع إلى الجنتين في قوله : جعلنا لأحدهما جنتين [ 18 \ 32 ] ، وقولـه : كلتا الجنتين ، وعلى قراءة الإفراد راجع إلى الجنة في قوله : ودخل جنته . . الآية [ 18 \ 35 ] .
فإن قيل : ما وجه إفراد الجنة مع أنهما جنتان ؟ فالجواب : أنه قال ما ذكره الله عنه حين دخل إحداهما ، إذ لا يمكن دخوله فيهما معا في وقت واحد ، وما أجاب به الزمخشري عن هذا السؤال ظاهر السقوط ، كما نبه عليه أبو حيان في البحر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:30 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (235)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 275 إلى صـ 280
قوله تعالى : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك الرجل المؤمن المضروب مثلا للمؤمنين ، الذين تكبر عليهم أولو المال والجاه من الكفار ، قال لصاحبه الآخر الكافر المضروب مثلا لذوي المال والجاه من الكفار ، منكرا عليه كفره : أكفرت بالذي خلقك من تراب ، ثم من نطفة ، ثم سواك رجلا ؟ لأن خلقه إياه من تراب ثم من نطفة ، ثم تسويته إياه رجلا ، كل ذلك يقتضي إيمانه بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، وجعله بشرا سويا ، ويجعله يستبعد منه كل البعد الكفر بخالقه الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، وهذا المعنى المبين هنا بينه في مواضع أخر ، كقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] ، وقولـه تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون [ 36 \ 22 ] ، وقولـه تعالى : [ ص: 275 ] قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين . . الآية [ 26 \ 76 - 79 ] ، وقولـه تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 43 \ 26 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على أن ضابط من يستحق العبادة وحده دون غيره أن يكون هو الذي يخلق المخلوقات ، ويظهرها من العدم إلى الوجود بما أغنى عن إعادته هنا .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : بالذي خلقك من تراب [ 18 \ 38 ] ، معنى خلقه إياه من تراب : أي : خلق آدم الذي هو أصله من التراب ، كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية [ 3 \ 59 ] ، ونظير الآية التي نحن بصددها قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] .
وقولـه : ثم من نطفة ، أي : بعد أن خلق آدم من التراب ، وخلق حواء من ضلعه ، وجعلها زوجا له كانت طريق إيجاد الإنسان بالتناسل ، فبعد طور التراب طور النطفة ، ثم طور العلقة إلى آخر أطواره المذكورة في قوله : وقد خلقكم أطوارا ، وقولـه تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث [ 39 \ 6 ] ، وقد أوضحها تعالى إيضاحا تاما في قوله : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 12 - 13 ] .
ومما يبين خلق الإنسان من تراب ، ثم من نطفة ، قوله تعالى في " السجدة " : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 32 \ 6 - 9 ] ، وقولـه في هذه الآية : ثم سواك رجلا [ 18 \ 38 ] ، كقوله : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وقولـه : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] ، أي : بعد أن كان نطفة سار إنسانا خصيما شديد الخصومة في توحيد ربه ، [ ص: 276 ] وقولـه : سواك ، أي : خلقك مستوي الأجزاء ، معتدل القامة والخلق ، صحيح الأعضاء في أكمل صورة ، وأحسن تقويم ، كقوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقولـه : وصوركم فأحسن صوركم [ 40 \ 64 ] ، وقولـه : ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك [ 82 \ 6 ] ، وقولـه " رجلا " أي : ذكرا بالغا مبلغ الرجال ، وربما قالت العرب للمرأة : رجلة ، ومنه قول الشاعر :
كل جار ظل مغتبطـا غير جيران بني جبله مزقوا ثوب فتاتــهم
لم يراعوا حرمة الرجله
وانتصاب " رجلا " على الحال ، وقيل مفعول ثان لسوى على تضمينه معنى جعلك أو صيرك رجلا . وقيل : هو تمييز ، وليس بظاهر عندي ، والظاهر أن الإنكار المدلول عليه بهمزة الإنكار في قوله : أكفرت بالذي خلقك من تراب [ 18 \ 37 ] ، مضمن معنى الاستبعاد ; لأنه يستبعد جدا كفر المخلوق بخالقه ، الذي أبرزه من العدم إلى الوجود ، ويستبعد إنكار البعث ممن علم أن الله خلقه من تراب ، ثم من نطفة ، ثم سواه رجلا ; كقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب . . الآية [ 22 \ 5 ] ، ونظير الآية في الدلالة على الاستبعاد لوجود موجبه قول الشاعر :
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها
لأن من عاين غمرات الموت يستبعد منه اقتحامها .
وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا [ 18 \ 38 ] ، بين فيه أن هذا الرجل المؤمن قال لصاحبه الكافر : أنت كافر ؟ ! لكن أنا لست بكافر ! بل مخلص عبادتي لربي الذي خلقني ; أي : لأنه هو الذي يستحق مني أن أعبده ; لأن المخلوق محتاج مثلي إلى خالق يخلقه ، تلزمه عبادة خالقه كما تلزمني .
ونظير قول هذا المؤمن ما قدمنا عن الرجل المؤمن المذكور في " يس " في قوله تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني [ 36 \ 22 ] ، أي : أبدعني وخلقني وإليه ترجعون ، وما قدمنا عن إبراهيم في قوله : فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين . . الآية [ 26 \ 77 - 78 ] ، وقولـه : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الآية [ 43 \ 26 - 27 ] .
[ ص: 277 ] وقولـه في هذه الآية الكريمة : أكفرت بالذي خلقك من تراب ، بعد قوله : وما أظن الساعة قائمة ، يدل على أن الشك في البعث كفر بالله تعالى ، وقد صرح بذلك في أول سورة " الرعد " في قوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 5 ] .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : لكنا أصله " لكن أنا " فحذفت همزة " أنا " وأدغمت نون " لكن " في نون " أنا " بعد حذف الهمزة ، وقال بعضهم : نقلت حركة الهمزة إلى نون " لكن " فسقطت الهمزة بنقل حركتها ، ثم أدغمت النون في النون ! ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنا إياك لم أقل
أي لكن أنا إياك لم أقل ، وقال بعضهم : لا يتعين في البيت ما ذكر ; لجواز أن يكون المقصود لكنني فحذف اسم " لكن " كقول الآخر :
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ولكن زنجي عظيم المشافر
أي : لكنك زنجي في رواية من روى زنجي بالرفع ، وأنشد الكسائي لنحو هذا الحذف من " لكن أنا " قول الآخر :
لهنك من عبسية لوسيمة على هنوات كاذب من يقولها
قال : أراد بقوله " لهنك " لله إنك ، فحذف إحدى اللامين من " لله " ، وحذف الهمزة من " إنك " نقله القرطبي عن أبي عبيد .
وقولـه تعالى : لكنا هو الله ربي ، قرأه جماهير القراء في الوصل " لكن " ، بغير ألف بعد النون المشددة ، وقرأه ابن عامر من السبعة " لكنا " بالألف في الوصل ، ويروى ذلك عن عاصم ، ورواه المسيبي عن نافع ، ورويس عن يعقوب ، واتفق الجميع على إثبات الألف في الوقف . ومد نون " أنا " لغة تميم إن كان بعدها همزة . وقال أبو حيان في البحر : إن إثبات ألف " أنا " مطلقا في الوصل لغة بني تميم ، وغيرها يثبتونها على الاضطرار ، قال : فجاءت قراءة " لكنا " بإثبات الألف في الوصل على لغة تميم ، ومن شواهد مد " أنا " قبل غير الهمزة قول الشاعر :
[ ص: 278 ]
أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما
وقول الأعشى :
فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا
وقوله في هذه الآية الكريمة : وهو يحاوره جملة حالية ، والمحاورة : المراجعة في الكلام : ومنه قوله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما [ 58 \ 1 ] ، وقول عنترة في معلقته :
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الجواب مكلمي
وكلام المفسرين في الرجلين المذكورين هنا في قصتهما كبيان أسمائهما ، ومن أي الناس هما أعرضنا عنه لما ذكرنا سابقا من عدم الفائدة فيه ، وعدم الدليل المقنع عليه . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا .
معنى قوله : " غورا " أي : غائرا ; فهو من الوصف بالمصدر ; كما قال في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا والغائر : ضد النابع ، وقولـه : فلن تستطيع له طلبا [ 18 \ 41 ] ; لأن الله إذا أعدم ماءها بعد وجوده ، لا تجد من يقدر على أن يأتيك به غيره جل وعلا . وأشار إلى نحو هذا المعنى في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 \ 30 ] ، ولا شك أن الجواب الصحيح : لا يقدر على أن يأتينا به إلا الله وحده ; كما قال هنا : فلن تستطيع له طلبا [ 18 \ 41 ] .
قوله تعالى : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا .
اعلم أن في هذه الآية الكريمة : قراءات سبعية ، وأقوالا لعلماء التفسير ، بعضها يشهد له قرآن ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد تكون فيها مذاهب العلماء ، يشهد لكل واحد منها قرآن ، فنذكر الجميع وأدلته في القرآن . فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله في هذه الآية : ولم تكن له فئة [ 18 \ 43 ] ، قرأه السبعة ما عدا حمزة والكسائي بالتاء المثناة الفوقية ، وقرأه حمزة والكسائي : " ولم يكن له فئة " بالياء المثناة التحتية ، وقولـه : الولاية لله الحق [ 18 \ 44 ] ، قرأه السبعة [ ص: 279 ] ما عدا حمزة والكسائي أيضا " الولاية " بفتح الواو ، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الواو ، وقوله " الحق " قرأه السبعة ما عدا أبا عمرو والكسائي بالخفض نعتا " لله " ، وقرأه أبو عمرو والكسائي بالرفع نعتا للولاية ، فعلى قراءة من قرأ " الولاية لله " بفتح الواو فإن معناها : الموالاة والصلة ، وعلى هذه القراءة ففي معنى الآية وجهان :
الأول : أن معنى هنالك الولاية لله ، أي : في ذلك المقام ، وتلك الحال تكون الولاية من كل أحد لله ; لأن الكافر إذا رأى العذاب رجع إلى الله ، وعلى هذا المعنى فالآية كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين [ 40 \ 84 ] ، وقولـه في فرعون : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 - 91 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
الوجه الثاني : أن الولاية في مثل ذلك المقام وتلك الحال لله وحده ، فيوالي فيه المسلمين ولاية رحمة ، كما في قوله تعالى : الله ولي الذين آمنوا الآية [ 2 \ 257 ] ، وقولـه : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] ، وله على الكافرين ولاية الملك والقهر ، كما في قوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 \ 30 ] ، وعلى قراءة حمزة والكسائي فالولاية بالكسر بمعنى الملك والسلطان ، والآية على هذه القراءة ; كقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ، وقولـه : الملك يومئذ الحق للرحمن [ 25 \ 26 ] ، وقولـه : الملك يومئذ لله يحكم بينهم [ 22 \ 56 ] ، وعلى قراءة " الحق " بالجر نعتا لله ، فالآية كقوله : وردوا إلى الله مولاهم الحق الآية [ 18 \ 44 ] ، وقولـه : فذلكم الله ربكم الحق الآية [ 10 \ 32 ] ، وقولـه : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 25 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وعلى قراءة " الحق " بالرفع نعتا للولاية ، على أن الولاية بمعنى الملك ، فهو كقوله : الملك يومئذ الحق للرحمن .
وما ذكره جل وعلا عن هذا الكافر : من أنه لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ذكر نحوه عن غيره من الكفار ، كقوله في قارون : فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين [ 28 \ 81 ] ، [ ص: 280 ] وقولـه : فما له من قوة ولا ناصر [ 86 \ 10 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا . وقوله : هنالك ، قال بعض العلماء : هو متعلق بما بعده ، والوقف تام على قوله : وما كان منتصرا ، وقال بعضهم : هو متعلق بما قبله ، فعلى القول الأول فالظرف الذي هو " هنالك " عامله ما بعده ، أي : الولاية كائنة لله هنالك . وعلى الثاني فالعامل في الظرف اسم الفاعل الذي هو " منتصرا " أي : لم يكن انتصاره واقعا هنالك . وقوله : هو خير ثوابا ، أي : جزاء كما تقدم ، وقوله " عقبا " أي : عاقبة ومآلا ، وقرأه السبعة ما عدا عاصما وحمزة " عقبا " بضمتين . وقراءة عاصم وحمزة " عقبا " بضم العين وسكون القاف والمعنى واحد . وقوله " ثوابا " وقوله " عقبا " كلاهما منصوب على التمييز بعد صيغة التفضيل التي هي " خير " كما قال في الخلاصة :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا
ولفظة خير وشر كلتاهما تأتي صيغة تفضيل حذفت منها الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال ، قال ابن مالك في الكافية :
وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخر منه وأشر
تنبيه
قوله في هذه الآية الكريمة : فئة محذوف منه حرف بلا خلاف ، إلا أن العلماء اختلفوا في الحرف المحذوف . هل هو ياء أو واو ، وهل هو العين أو اللام ؟ قال بعضهم : المحذوف العين ، وأصله ياء . وأصل المادة ف ي أ ، من فاء يفيء : إذا رجع ; لأن فئة الرجل طائفته التي يرجع إليها في أموره ، وعلى هذا فالتاء عوض عن العين المحذوفة ، ووزنه بالميزان الصرفي " فلة " وقال بعضهم : المحذوف اللام ، وأصله واو ، من فأوت رأسه : إذا شققته نصفين ، وعليه فالفئة الفرقة من الناس . وعلى هذا فوزنه بالميزان الصرفي " فعة " والتاء عوض عن اللام ، وكلا القولين نصره بعض أهل العلم ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:31 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (236)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 281 إلى صـ 286
قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا ، وأن الباقيات الصالحات خير عند الله ثوابا وخير أملا .
والمراد من الآية الكريمة تنبيه الناس للعمل الصالح ; لئلا يشتغلوا بزينة الحياة الدنيا [ ص: 281 ] من المال والبنين عما ينفعهم في الآخرة عند الله من الأعمال الباقيات الصالحات ، وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة الآية [ 3 \ 14 - 15 ] ، وقولـه : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 63 \ 9 ] ، وقولـه : إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [ 64 \ 15 ] ، وقولـه : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا الآية [ 34 \ 37 ] ، وقولـه : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ 26 \ 88 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإنسان لا ينبغي له الاشتغال بزينة الحياة الدنيا عما ينفعه في آخرته ، وأقوال العلماء في الباقيات الصالحات كلها راجعة إلى شيء واحد ، وهو الأعمال التي ترضي الله ، سواء قلنا : إنها الصلوات الخمس ، كما هو مروي عن جماعة من السلف : منهم ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبو ميسرة ، وعمرو بن شرحبيل ، أو أنها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وعلى هذا القول جمهور العلماء ، وجاءت دالة عليه أحاديث مرفوعة عن أبي سعيد الخدري ، وأبي الدرداء ، وأبي هريرة ، والنعمان بن بشير ، وعائشة رضي الله عنهم .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق أن " الباقيات الصالحات " لفظ عام ، يشمل الصلوات الخمس ، والكلمات الخمس المذكورة ، وغير ذلك من الأعمال التي ترضي الله تعالى : لأنها باقية لصاحبها غير زائلة . ولا فانية كزينة الحياة الدنيا ، ولأنها أيضا صالحة لوقوعها على الوجه الذي يرضي الله تعالى . وقوله : خير ثوابا تقدم معناه . وقوله : وخير أملا أي : الذي يؤمل من عواقب الباقيات الصالحات ، خير مما يؤمله أهل الدنيا من زينة حياتهم الدنيا وأصل الأمل : طمع الإنسان بحصول ما يرجوه في المستقبل . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى في " مريم " : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا [ 19 \ 76 ] ، والمرد : المرجع إلى الله يوم القيامة ، وقال بعض العلماء : " مردا " مصدر ميمي ، أي : [ ص: 282 ] وخير ردا للثواب على فاعلها ، فليست كأعمال الكفار التي لا ترد ثوابا على صاحبها .
قوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا .
قوله : ويوم [ 18 \ 47 ] ، منصوب باذكر مقدرا . أو بفعل القول المحذوف قبل قوله : ولقد جئتمونا فرادى [ 6 \ 94 ] ، أي : قلنا لهم يوم نسير الجبال : لقد جئتمونا فرادى ، وقول من زعم أن العامل فيه " خير " يعني والباقيات الصالحات خير يوم نسير الجبال بعيد جدا كما ترى .
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن يوم القيامة يختل فيه نظام هذا العام الدنيوي ، فتسير جباله ، وتبقى أرضه بارزة لا حجر فيها ولا شجر ، ولا بناء ولا وادي ولا علم ، ذكره في مواضع أخر كثيرة ، فذكر أنه يوم القيامة يحمل الأرض والجبال من أماكنهما ، ويدكهما دكة واحدة ، وذلك في قوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة . . الآية [ 69 \ 13 - 15 ] .
وما ذكره من تسيير الجبال في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في مواضع أخر ، كقوله : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 9 - 10 ] ، وقولـه : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقولـه : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] ، وقولـه : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب الآية [ 27 \ 88 ] .
ثم ذكر في مواضع أخر أنه جل وعلا يفتتها حتى تذهب صلابتها الحجرية وتلين ، فتكون في عدم صلابتها ولينها كالعهن المنفوش ، وكالرمل المتهايل ، كقوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن [ 70 \ 8 - 9 ] ، وقولـه تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 4 - 5 ] ، والعهن : الصوف ، وقولـه تعالى : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 73 \ 14 ] ، وقولـه تعالى : وبست الجبال بسا [ 56 \ 5 ] ، أي : فتتت حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن ، على أشهر التفسيرات .
ثم ذكر جل وعلا أنه يجعلها هباء وسرابا . قال : وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا [ 56 \ 5 ، 6 ] ، وقال : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] .
وبين في موضع آخر أن السراب عبارة عن لا شيء ; وهو قوله : [ ص: 283 ] والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة ، إلى قوله : لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] .
وقولـه : ويوم نسير الجبال ، قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو : " تسير الجبال " بالتاء المثناة الفوقية وفتح الياء المشددة من قوله : " تسير " مبنيا للمفعول ، و الجبال بالرفع نائب فاعل تسير والفاعل المحذوف ضمير يعود إلى الله جل وعلا ، وقرأه باقي السبعة " نسير " بالنون وكسر الياء المشددة مبنيا للفاعل ، و " الجبال " منصوب مفعول به ، والنون في قوله " نسير " للتعظيم .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : وترى الأرض بارزة ، البروز : الظهور ، أي : ترى الأرض ظاهرة منكشفة لذهاب الجبال والظراب والآكام ، والشجر والعمارات التي كانت عليها . وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه أيضا في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 105 - 106 ] ، وأقوال العلماء في معنى ذلك راجعة إلى شيء واحد ، وهو أنها أرض مستوية لا نبات فيها ، ولا بناء ولا ارتفاع ولا انحدار . وقول من قال : إن معنى وترى الأرض بارزة ، أي : بارزا ما كان في بطنها من الأموات والكنوز بعيد جدا كما ترى ، وبروز ما في بطنها من الأموات والكنوز دلت عليه آيات أخر ، كقوله تعالى : وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت [ 84 \ 3 - 4 ] ، وقولـه تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 ] ، وقولـه : وأخرجت الأرض أثقالها [ 99 \ 2 ] ، وقولـه : وإذا القبور بعثرت [ 82 \ 4 ] .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : وحشرناهم ، أي : جمعناهم للحساب والجزاء ، وهذا الجمع المعبر عنه بالحشر هنا جاء مذكورا في آيات أخر ، كقوله تعالى : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] ، وقولـه تعالى : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة [ 4 \ 87 ] ، وقولـه تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] ، وقولـه تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] ، وقولـه : ويوم نحشرهم جميعا الآية [ 6 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وبين في موضع آخر أن هذا الحشر المذكور شامل للعقلاء وغيرهم من أجناس المخلوقات ، وهو قوله تعالى : [ ص: 284 ] وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] ، أي : لم نترك ، والمغادرة : الترك ، ومنه الغدر ; لأنه ترك الوفاء والأمانة ، وسمي الغدير من الماء غديرا ; لأن السيل ذهب وتركه ، ومن المغادرة بمعنى الترك قول عنترة في مطلع معلقته :
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
وقوله أيضا :
غادرته متعفرا أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل
وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أنه حشرهم ولم يترك منهم أحدا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : ويوم نحشرهم جميعا الآية [ 6 \ 22 ] ، ونحوها من الآيات ; لأن حشرهم جميعا هو معنى أنه لم يغادر منهم أحدا .
قوله تعالى : وعرضوا على ربك .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الخلائق يوم القيامة يعرضون على ربهم صفا ، أي : في حال كونهم مصطفين ، قال بعض العلماء : صفا بعد صف ، وقال بعضهم : صفا واحدا وقال بعض العلماء " صفا " أي : جميعا ، كقوله : ثم ائتوا صفا [ 20 \ 64 ] ، على القول فيه بذلك ، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع : يا عبادي ، أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين ، يا عبادي ، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون ، أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسئولون محاسبون . يا ملائكتي ، أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب " ، قلت : هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية ، ولم يذكره كثير من المفسرين ، وقد كتبناه في كتاب التذكرة ومنه نقلناه ، والحمد لله .
انتهى كلام القرطبي ، والحديث المذكور يدل على أن " صفا " في هذه الآية يراد به صفوفا ، كقوله في الملائكة : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، ونظير الآية قوله في الملائكة : يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 38 - 39 ] .
فإذا علمت أن الله جل وعلا ذكر في هذه الآية الكريمة حالا من أحوال عرض [ ص: 285 ] الخلائق عليه يوم القيامة فاعلم أنه بين في مواضع أخر أشياء أخر من أحوال عرضهم عليه ، كقوله : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [ 69 \ 18 ] ، وبين في مواضع أخر ما يلاقيه الكفار ، وما يقال لهم عند ذلك العرض على ربهم . كقوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون [ 11 \ 18 - 19 ] .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : صفا أصله مصدر ، والمصدر المنكر قد يكون حالا على حد قوله في الخلاصة :
ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع
قوله تعالى : لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة .
هذا الكلام مقول قول محذوف ، وحذف القول مطرد في اللغة العربية ، كثير جدا في القرآن العظيم . والمعنى : يقال لهم يوم القيامة لقد جئتمونا ، أي : والله لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة ، أي : حفاة عراة غرلا ، أي : غير مختونين ، كل واحد منكم فرد لا مال معه ولا ولد ، ولا خدم ولا حشم .
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون [ 6 \ 94 ] ، وقولـه : لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 94 - 95 ] ، وقولـه تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا الآية [ 21 \ 104 ] ، وقولـه : كما بدأكم تعودون [ 7 \ 29 ] تقدم .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : كما خلقناكم " ما " مصدرية ، والمصدر المنسبك منها ومن صلتها نعت لمصدر محذوف على حذف مضاف ، وإيضاح تقريره : ولقد جئتمونا كما خلقناكم ، أي : مجيئا مثل مجيء خلقكم ، أي : حفاة عراة غرلا كما جاء في الحديث ، وخالين من المال والولد ، وهذا الإعراب هو مقتضى كلام أبي حيان في البحر ، ويظهر لي أنه يجوز إعرابه أيضا حالا ، أي : جئتمونا في حال كونكم مشابهين لكم في حالتكم الأولى ; لأن التشبيه يؤول بمعنى الوصف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
[ ص: 286 ]
ويكثر الجمود في سعر وفي مبدي تأول بلا تكلف
كبعه مدا بكذا يدا بيد وكر زيد أسدا أي كأسد
فقوله " وكر زيد أسدا : أي : كأسد " مثال لمبدي التأول ; لأنه في تأويل كر في حال كونه مشابها للأسد كما ذكرنا ، واعلم أن حذف القول وإثبات مقوله مطرد في اللغة العربية ، وكثير في القرآن العظيم كما ذكرناه آنفا ، لكن عكسه وهو إثبات القول وحذف مقوله قليل جدا ، ومنه قول الشاعر :
لنحن الألى قلتم فأنى ملئتم برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
لأن المراد لنحن الألى قلتم نقاتلهم ، فحذف جملة نقاتلهم التي هي مقول القول ، وقوله : ولقد جئتمونا ، عبر فيه بالماضي وأراد المستقبل ; لأن تحقيق وقوع ذلك ينزله منزلة الواقع بالفعل ، والتعبير بصيغة الماضي عن المستقبل لما ذكرنا كثير جدا في القرآن العظيم ، ومنه قوله هنا : وحشرناهم [ 18 \ 47 ] ، وقولـه : وعرضوا على ربك [ 18 \ 48 ] ، وقولـه : لقد جئتمونا ، ومنه قوله : أتى أمر الله ، وقولـه : ونفخ في الصور [ 18 \ 99 ] ، وقولـه : وسيق الذين كفروا [ 39 \ 71 ] ، وقولـه : وسيق الذين اتقوا ربهم [ 39 \ 73 ] ، ونحو ذلك كثير في القرآن لما ذكرنا .
قوله تعالى : بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار زعموا أن الله لن يجعل لهم موعدا ، والموعد يشمل زمان الوعد ومكانه ، والمعنى : أنهم زعموا أن الله لم يجعل وقتا ولا مكانا لإنجاز ما وعدهم على ألسنة رسله من البعث والجزاء والحساب . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من إنكارهم البعث جاء مبينا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا الآية [ 64 \ 7 ] ، وقولـه عنهم : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وقد بين الله تعالى كذبهم في إنكارهم للبعث في آيات كثيرة ، كقوله في هذه السورة الكريمة : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 58 ] ، وقولـه : قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم الآية [ 64 \ 7 ] ، وقولـه : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا [ 16 \ 38 ] ، وقولـه : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (237)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 287 إلى صـ 292
وقد قدمنا في [ ص: 287 ] سورة " البقرة " وسورة " النحل " البراهين التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث ، وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : بل زعمتم إضراب انتقالي من خبر إلى خبر آخر ، لا إبطالي كما هو واضح . وأن في قوله : ألن نجعل ، مخففة من الثقيلة ، وجملة الفعل الذي بعدها خبرها ، والاسم ضمير الشأن المحذوف على حد قوله في الخلاصة :
وإن تخفف أن . . .
البيت .
والفعل المذكور متصرف وليس بدعاء ، ففصل بينه وبينها بالنفي . على حد قوله في الخلاصة :
وإن يكن فعلا ولم يكن دعا
البيتين .
قوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكتاب يوضع يوم القيامة . والمراد بالكتاب : جنس الكتاب ، فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا . وأن المجرمين يشفقون مما فيه . أي : يخافون منه ، وأنهم يقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر [ 18 \ 49 ] ، أي : لا يترك صغيرة ولا كبيرة من المعاصي التي عملنا إلا أحصاها أي : ضبطها وحصرها .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر . كقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، وبين أن بعضهم يؤتى كتابه بيمينه . وبعضهم يؤتاه بشماله . وبعضهم يؤتاه وراء ظهره . قال : وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه [ 69 \ 25 ] ، وقال تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا [ 84 \ 3 - 12 ] وقد قدمنا هذا في سورة " بني إسرائيل " . وما ذكره من وضع الكتاب هنا ذكره في " الزمر " في قوله : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق [ 39 \ 69 ] .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : فترى المجرمين ، تقدم معنى مثله في الكلام على [ ص: 288 ] قوله : وترى الشمس إذا طلعت الآية [ 18 \ 49 ] ، والمجرمون : جمع المجرم ، وهو اسم فاعل الإجرام . والإجرام : ارتكاب الجريمة ، وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال ، ومعنى كونهم " مشفقين مما فيه " : أنهم خائفون مما في ذلك الكتاب من كشف أعمالهم السيئة ، وفضيحتهم على رءوس الأشهاد ، وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي ، وقولهم ياويلتنا الويلة : الهلكة ، وقد نادوا هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات فقالوا : يا ويلتنا ! أي : يا هلكتنا احضري فهذا أوان حضورك ! وقال أبو حيان في البحر : المراد من بحضرتهم : كأنهم قالوا : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا . وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله : يا أسفا على يوسف [ 12 \ 84 ] ، يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله [ 39 \ 56 ] ، ياويلنا من بعثنا من مرقدنا [ 36 \ 52 ] ، وقولـه : يا عجبا لهذه الفليقة ، فيا عجبا من رحلها المتحمل ، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام أبي حيان . وحاصل ما ذكره : أن أداة النداء في قوله " يا ويلتنا " ينادى بها محذوف ، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف ، والتقدير كما ذكره : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا ، ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء ، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب . ومنه قول عنترة في معلقته :
يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت على وليتها لم تحرم
يعني : يا قوم انظروا شاة قنص ، وقول ذي الرمة :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر
يعني : يا هذه اسلمي .
وقولـه تعالى : مال هذا الكتاب [ 18 \ 49 ] أي : أي شيء ثبت لهذا الكتاب لا يغادر أي : لا يترك صغيرة ولا كبيرة أي : من المعاصي ، وقول من قال : الصغيرة القبلة ، والكبيرة الزنا ، ونحو ذلك من الأقوال في الآية إنما هو على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر ، وللعلماء اختلاف كثير في تعريف الكبيرة معروف في الأصول . وقد صرح تعالى بأن المنهيات منها كبائر ، ويفهم من ذلك أن منها صغائر ، وبين أن اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر ; وذلك في قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية [ 4 \ 31 ] ، ويروى عن الفضيل بن عياض في هذه الآية أنه [ ص: 289 ] قال : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر ، وجملة " لا يغادر " حال من " الكتاب " .
تنبيه
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ; لأنهم وجدوا في كتاب أعمالهم صغائر ذنوبهم محصاة عليهم ، فلو كانوا غير مخاطبين بها لما سجلت عليهم في كتاب أعمالهم . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم في يوم القيامة يجدون أعمالهم التي عملوها في الدنيا حاضرة محصاة عليهم . وأوضح هذا أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ 3 \ 30 ] ، وقولـه تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت الآية [ 10 \ 30 ] ، وقولـه : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقولـه : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا يظلم أحدا ، فلا ينقص من حسنات محسن ، ولا يزيد من سيئات مسيء ، ولا يعاقب على غير ذنب .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] ، وقولـه تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] ، وقولـه : وما ربك بظلام للعبيد [ 41 \ 46 ] وقولـه : وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 16 \ 33 ] ، وقولـه : وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 16 \ 118 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه .
قدمنا في سورة " البقرة " أن قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 2 \ 34 ] محتمل لأن يكون أمرهم بذلك قبل وجود آدم أمرا معلقا على وجوده . ومحتمل لأنه أمرهم بذلك تنجيزا بعد وجود آدم . وأنه جل وعلا بين في سورة " الحجر " وسورة " ص " أن أصل [ ص: 290 ] الأمر بالسجود متقدم على خلق آدم معلق عليه ، قال في " الحجر " : وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ 15 \ 28 - 29 ] وقال في " ص " : إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين [ 38 \ 71 - 72 ] ، ولا ينافي هذا أنه بعد وجود آدم جدد لهم الأمر بالسجود له تنجيزا .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : فسجدوا محتمل لأن يكونوا سجدوا كلهم أو بعضهم ، ولكنه بين في مواضع أخر أنهم سجدوا كلهم ، كقوله : فسجد الملائكة كلهم أجمعون [ 15 ، 73 و 38 ] ونحوها من الآيات .
وقولـه في هذه الآية الكريمة ، كان من الجن ففسق عن أمر ربه [ 18 \ 50 ] ، ظاهر في أن سبب فسقه عن أمر ربه كونه من الجن ، وقد تقرر في الأصول في " مسلك النص " وفي " مسلك الإيماء والتنبيه " : أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل ، كقولهم : سرق فقطعت يده ، أي : لأجل سرقته . وسها فسجد ، أي : لأجل سهوه ، ومن هذا القبيل قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] أي : لعلة سرقتهما . وكذلك قوله هنا كان من الجن ففسق [ 18 \ 50 ] أي : لعلة كينونته من الجن ; لأن هذا الوصف فرق بينه وبين الملائكة ; لأنهم امتثلوا الأمر وعصا هو ; ولأجل ظاهر هذه الآية الكريمة ذهبت جماعة من العلماء إلى أن إبليس ليس من الملائكة في الأصل بل من الجن ، وأنه كان يتعبد معهم ، فأطلق عليهم اسمهم لأنه تبع لهم ، كالحليف في القبيلة يطلق عليه اسمها . والخلاف في إبليس هل هو ملك في الأصل وقد مسخه الله شيطانا ، أو ليس في الأصل بملك ، وإنما شمله لفظ الملائكة لدخوله فيهم وتعبده معهم مشهور عند أهل العلم . وحجة من قال : إن أصله ليس من الملائكة أمران : أحدهما عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس . كما قال تعالى عنهم : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] ، وقال تعالى : لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون [ 21 \ 27 ] ، والثاني : أن الله صرح في هذه الآية الكريمة بأنه من الجن ، والجن غير الملائكة . قالوا : وهو نص قرآني في محل النزاع . واحتج من قال : إنه ملك في الأصل بما تكرر في الآيات القرآنية من قوله : فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس [ 15 \ 30 - 31 ] ، قالوا : فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم . وقال [ ص: 291 ] بعضهم : والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص . ومن المعلوم أن الأصل في الاستثناء الاتصال لا الانقطاع ، قالوا : ولا حجة لمن خالفنا في قوله تعالى كان من الجن [ 18 \ 50 ] ; لأن الجن قبيلة من الملائكة ، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم كما روي عن ابن عباس ، والعرب تعرف في لغتها إطلاق الجن على الملائكة ، ومنه قول الأعشى في سليمان بن داود :
وسخر من جن الملائك تسعة قياما لديه يعملون بلا أجر
قالوا : ومن إطلاق الجن على الملائكة قوله تعالى : وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا [ 37 \ 158 ] ، عند من يقول : بأن المراد بذلك قولهم : الملائكة بنات الله . سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوا كبيرا ! وممن جزم بأنه ليس من الملائكة في الأصل لظاهر هذه الآية الكريمة : الحسن البصري ، وقصره الزمخشري في تفسيره ، وقال القرطبي في تفسير سورة " البقرة " : إن كونه من الملائكة هو قول الجمهور : ابن عباس ، وابن مسعود ، وابن جريج ، وابن المسيب ، وقتادة وغيرهم . وهو اختيار الشيخ أبي الحسن ، ورجحه الطبري ، وهو ظاهر قوله " إلا إبليس " اهـ . وما يذكره المفسرون عن جماعة من السلف كابن عباس وغيره : من أنه كان من أشراف الملائكة ، ومن خزان الجنة ، وأنه كان يدبر أمر السماء الدنيا ، وأنه كان اسمه عزازيل كله من الإسرائيليات التي لا معول عليها .
وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال : إنه غير ملك . لأن قوله تعالى : إلا إبليس كان من الجن ففسق الآية [ 18 \ 50 ] ، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي . والعلم عند الله تعالى .
وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : ففسق عن أمر ربه ، أي : خرج عن طاعة أمر ربه ، والفسق في اللغة : الخروج ; ومنه قول رؤبة بن العجاج :
يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا
وهذا المعنى ظاهر لا إشكال فيه ، فلا حاجة لقول من قال : إن " عن " سببية ، كقوله : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] ، أي : بسببه وأن المعنى : ففسق عن أمر ربه ، أي : بسبب أمره حيث لم يمتثله ، ولا غير ذلك من الأقوال .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ، [ ص: 292 ] الهمزة فيه للإنكار والتوبيخ ، ولا شك أن فيها معنى الاستبعاد كما تقدم نظيره مرارا . أي : أبعد ما ظهر منه من الفسق والعصيان ، وشدة العداوة لكم ولأبويكم آدم وحواء تتخذونه وذريته أولياء من دون خالقكم جل وعلا بئس للظالمين بدلا من الله إبليس وذريته وقال للظالمين ; لأنهم اعتاضوا الباطل من الحق ، وجعلوا مكان ولايتهم لله ولايتهم لإبليس وذريته ، وهذا من أشنع الظلم الذي هو في اللغة : وضع الشيء في غير موضعه . كما تقدم مرارا ، والمخصوص بالذم في الآية محذوف دل عليه المقام ، وتقديره : بئس البدل من الله إبليس وذريته . وفاعل " بئس " ضمير محذوف يفسره التمييز الذي هو " بدلا " على حد قوله له في الخلاصة :
ويرفعان مضمرا يفسره مميز كنعم قوما معشره
والبدل : العوض من الشيء ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من عداوة الشيطان لبني آدم جاء مبينا في آيات أخر .
كقوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ 35 \ 6 ] ، وكذلك الأبوان ، كما قال تعالى : فقلنا ياآدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] .
وقد بين في غير هذا الموضع : أن الذين اتخذوا الشياطين أولياء بدلا من ولاية الله يحسبون أنهم في ذلك على حق . كقوله تعالى : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 \ 30 ] ، وبين في مواضع أخر أن الكفار أولياء الشيطان . كقوله تعالى : والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان [ 4 \ 76 ] ، وقوله تعالى : إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون [ 7 \ 27 ] ، وقولـه تعالى : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت [ 2 \ 257 ] ، وقولـه : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 175 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:33 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (238)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 293 إلى صـ 298
وقولـه في هذه الآية الكريمة : وذريته [ 18 \ 50 ] ، دليل على أن للشيطان ذرية . فادعاء أنه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى . وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك ! ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره ، لا دليل عليها من نص صريح ، والعلماء مختلفون فيها . وقال الشعبي : سألني الرجل : هل لإبليس زوجة ؟ فقلت : إن ذلك عرس لم أشهده ثم ذكرت قوله تعالى : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني [ 18 \ 50 ] ، [ ص: 293 ] فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة فقلت : نعم ، وما فهمه الشعبي من هذه الآية من أن الذرية تستلزم الزوجة روي مثله عن قتادة ، وقال مجاهد : إن كيفية وجود النسل منه أنه أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات : قال : فهذا أصل ذريته ، وقال بعض أهل العلم : إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا ، وفي اليسرى فرجا ، فهو ينكح هذا بهذا فيخرج له كل يوم عشر بيضات ، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة ، ولا يخفى أن هذه الأقوال ونحوها لا معول عليها لعدم اعتضادها بدليل من كتاب أو سنة . فقد دلت الآية الكريمة على أن له ذرية . أما كيفية ولادة تلك الذرية فلم يثبت فيه نقل صحيح ، ومثله لا يعرف بالرأي . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : قلت : الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميري في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني : أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ ، من رواية عاصم ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها ، فيها باض الشيطان وفرخ " وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحديث إنما يدل على أنه يبيض ويفرخ ، ولكن لا دلالة فيه على ذلك . هل هي من أنثى هي زوجة له ، أو من غير ذلك . مع أن دلالة الحديث على ما ذكرنا لا تخلو من احتمال ; لأنه يكثر في كلام العرب إطلاق باض وفرخ على سبيل المثل ، فيحتمل معنى باض وفرخ أنه فعل بها ما شاء من إضلال وإغواء ووسوسة ونحو ذلك على سبيل المثل ; لأن الأمثال لا تغير ألفاظها ، وما يذكره كثير من المفسرين وغيرهم من تعيين أسماء أولاده ووظائفهم التي قلدهم إياها ; كقوله : زلنبور صاحب الأسواق ، وتبر صاحب المصائب يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب ونحو ذلك ، والأعور صاحب أبواب الزنا . ومسوط صاحب الأخبار يلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا . وداسم هو الشيطان الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره ما لم يرفع من المتاع وما لم يحسن موضعه يثير شره على أهله ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه . والولهان صاحب المزامير وبه كان يكنى إبليس ، إلى غير ذلك من تعيين أسمائهم ووظائفهم كله لا معول عليه ; إلا ما ثبت منه عن النبي صلى الله عليه وسلم . ومما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من تعيين وظيفة الشيطان واسمه ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن خلف [ ص: 294 ] الباهلي ، حدثنا عبد الأعلى عن سعيد الجريري عن أبي العلاء : أن عثمان بن أبي العاص أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي ! ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذاك شيطان يقال له خنزب . فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل عن يسارك ثلاثا " قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني .
وتحريش الشيطان بين الناس وكون إبليس يضع عرشه على البحر ، ويبعث سرايا فيفتنون الناس فأعظمهم عنده أعظمهم فتنة كل ذلك معروف ثابت في الصحيح . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا ، التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة أن الله يقول : ما أشهدت إبليس وجنوده ; أي : ما أحضرتهم خلق السماوات والأرض ، فأستعين بهم على خلقها ولا خلق أنفسهم ، أي : ولا أشهدتهم خلق أنفسهم ، أي : ما أشهدت بعضهم خلق بعضهم فأستعين به على خلقه ، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير ! فكيف تصرفون لهم حقي وتتخذونهم أولياء من دوني وأنا خالق كل شيء .
وهذا المعنى الذي أشارت له الآية من أن الخالق هو المعبود وحده جاء مبينا في آيات كثيرة ، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع متعددة ، كقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، وقولـه : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] ، وقولـه : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] ، وقولـه تعالى : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات [ 35 \ 40 ] ، وقولـه تعالى : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات [ 46 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمناه مرارا . وقال بعض العلماء ولا خلق أنفسهم أي : ما أشهدتهم خلق أنفسهم ; بل خلقتهم على ما أردت وكيف شئت . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] ، فيه الإظهار في محل الإضمار ; لأن الأصل الظاهر . وما كنت متخذهم عضدا ، كقوله : ما أشهدتهم والنكتة البلاغية في الإظهار في محل الإضمار هي ذمه تعالى لهم بلفظ [ ص: 295 ] الإضلال . وقوله " عضدا " أي : أعوانا .
وفي هذه الآية الكريمة التنبيه على أن الضالين المضلين لا تنبغي الاستعانة بهم ، والعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .
والمعنى المذكور أشير له في مواضع أخر ; كقوله تعالى : قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ 28 \ 17 ] ، والظهير : المعين ، والمضلون : الذين يضلون أتباعهم عن طريق الحق ، وقد قدمنا معنى الضلال وإطلاقاته في القرآن بشواهده العربية .
قوله تعالى : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا .
أي : واذكر يوم يقول الله جل وعلا للمشركين الذين كانوا يشركون معه الآلهة والأنداد من الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله توبيخا لهم وتقريعا : نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم شركاء معي ، فالمفعولان محذوفان : أي : زعمتموهم شركاء لي كذبا وافتراء . أي : ادعوهم واستغيثوا بهم لينصروكم ويمنعوكم من عذابي ، فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ، أي : فاستغاثوا بهم فلم يغيثوهم . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من عدم استجابتهم لهم إذا دعوهم يوم القيامة جاء موضحا في مواضع أخر ، كقوله تعالى في سورة " القصص " : ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون [ 28 \ 62 - 64 ] ، وقولـه تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 13 - 14 ] ، وقولـه : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 ] ، وقولـه : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 ] ، وقولـه تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون [ 6 \ 94 ] ، والآيات في تبرئهم منهم يوم القيامة ، وعدم استجابتهم لهم كثيرة جدا . وخطبة الشيطان المذكورة في سورة " إبراهيم " في [ ص: 296 ] قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم إلى قوله : إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 22 ] ، من قبيل ذلك المعنى المذكور في الآيات المذكورة .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : وجعلنا بينهم موبقا اختلف العلماء فيه من ثلاث جهات :
الأولى : في المراد بالظرف الذي هو " بين " ، والثانية : في مرجع الضمير . والثالثة : في المراد بالموبق ، وسنذكر هنا أقوالهم ، وما يظهر لنا رجحانه منها إن شاء الله تعالى .
أما الموبق : فقيل : المهلك . وقيل واد في جهنم . وقيل الموعد . قال صاحب الدر المنثور : أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله : وجعلنا بينهم موبقا يقول : مهلكا ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله " موبقا " يقول : مهلكا . وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله " موبقا " قال . واد في جهنم .
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد ، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن أنس في قوله : وجعلنا بينهم موبقا قال : واد في جهنم من قيح ودم . وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عمر في قوله : وجعلنا بينهم موبقا قال : هو واد عميق في النار ، فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى والضلالة ، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عمرو البكالي قال : الموبق الذي ذكر الله : واد في النار ، بعيد القعر ، يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الإسلام وبين من سواهم من الناس . وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى موبقا ، قال : هو نهر يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم ، فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها . وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال : إن في النار أربعة أودية يعذب الله بها أهلها : غليظ ، وموبق ، وأثام ، وغي . انتهى كلام صاحب الدر المنثور . ونقل ابن جرير عن بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة : أن الموبق : الموعد ، واستدل لذلك بقول الشاعر :
وجاد شرورى والستار فلم يدع تعارا له والواديين بموبق
يعني : بموعد ، والتحقيق : أن الموبق المهلك ، من قولهم وبق يبق ، كوعد يعد ، [ ص: 297 ] إذا هلك . وفيه لغة أخرى وهي : وبق يوبق كوجل يوجل ، ولغة ثالثة أيضا وهي : وبق يبق كورث يرث . ومعنى كل ذلك : الهلاك . والمصدر من وبق بالفتح الوبوق على القياس ، والوبق . ومن وبق بالكسر الوبق بفتحتين على القياس . وأوبقته ذنوبه : أهلكته ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : أو يوبقهن بما كسبوا [ 42 \ 34 ] ، أي : يهلكهن ، ومنه الحديث ، " فموبق نفسه أو بائعها فمعتقها " وحديث " السبع الموبقات " أي : المهلكات ، ومن هذا المعنى قول زهير :
ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه عن كل شنعاء موبق
وقول من قال ، إن الموبق العداوة ، وقول من قال : إنه المجلس كلاهما ظاهر السقوط . والتحقيق فيه هو ما قدمنا . وأما أقوال العلماء في المراد بلفظه " بين " فعلى قول الحسن ومن وافقه : أن الموبق العداوة فالمعنى واضح ; أي : وجعلنا بينهم عداوة ; كقوله : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو [ 43 \ 67 ] ، وقولـه : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا [ 29 \ 25 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . ولكن تفسير الموبق بالعداوة بعيد كما قدمنا . وقال بعض العلماء : المراد بالبين في الآية : الوصل ; أي : وجعلنا تواصلهم في الدنيا ملكا لهم يوم القيامة ; كما قال تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب [ 2 \ 166 ] ، أي : المواصلات التي كانت بينهم في الدنيا . وكما قال : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] ، وكما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا [ 29 \ 25 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقال بعض العلماء : وجعلنا بينهم موبقا : جعلنا الهلاك بينهم ; لأن كلا منهم معين على هلاك الآخر لتعاونهم على الكفر والمعاصي فهم شركاء في العذاب ; كما قال تعالى : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ 43 \ 39 ] ، وقولـه : قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون [ 7 \ 38 ] ، ومعنى هذا القول مروي عن ابن زيد . وقال بعض العلماء : وجعلنا بينهم موبقا : أي : بين المؤمنين والكافرين موبقا ، أي : مهلكا يفصل بينهم ، فالداخل فيه ، في هلاك ، والخارج عنه في عافية . وأظهر الأقوال عندي وأجراها على ظاهر القرآن ، أن المعنى : وجعلنا بين الكفار وبين من كانوا يعبدونهم ويشركونهم مع الله موبقا أي : مهلكا ، [ ص: 298 ] لأن الجميع يحيط بهم الهلاك من كل جانب ، كما قال تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل [ 39 \ 16 ] ، وقولـه : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ 7 \ 41 ] ، وقولـه : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم الآية [ 21 \ 98 ] ، وقال ابن الأعرابي : كل شيء حاجز بين شيئين يسمى موبقا ، نقله عنه القرطبي ، وبما ذكرنا تعلم أن الضمير في قوله " بينهم " قيل راجع إلى أهل النار . وقيل راجع إلى أهل الجنة وأهل النار معا . وقيل راجع للمشركين وما كانوا يعبدونه من دون الله . وهذا هو أظهرها لدلالة ظاهر السياق عليه ; لأن الله يقول : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم [ 18 \ 52 ] ، ثم قال مخبرا عن العابدين والمعبودين : وجعلنا بينهم موبقا [ 18 \ 52 ] ، أي : مهلكا يفصل بينهم ويحيط بهم ، وهذا المعنى كقوله : ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم الآية [ 10 \ 28 ] ، أي : فرقنا بينهم .
وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : ويوم يقول قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة بالياء المثناة التحتية ، وقرأه حمزة " نقول " بنون العظمة ، وعلى قراءة الجمهور فالفاعل ضمير يعود إلى الله ، أي : يقول هو أي : الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:34 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (239)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 299 إلى صـ 304
قوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المجرمين يرون النار يوم القيامة ، ويظنون أنهم مواقعوها ، أي : مخالطوها وواقعون فيها . والظن في هذه الآية بمعنى اليقين ; لأنهم أبصروا الحقائق وشاهدوا الواقع . وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم موقنون بالواقع ; كقوله عنهم : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] ، وكقوله : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] ، وقولـه تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] ، ومن إطلاق الظن على اليقين [ قولـه ] تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون [ 2 \ 45 - 46 ] ، أي : يوقنون أنهم ملاقو ربهم ، وقولـه تعالى : قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [ 2 \ 249 ] ، وقولـه تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 19 - 20 ] ، [ ص: 299 ] فالظن في هذه الآيات كلها بمعنى اليقين ، والعرب تطلق الظن على اليقين وعلى الشك ، ومن إطلاقه على اليقين في كلام العرب قول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
وقول عميرة بن طارق :
بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المجرمين يرون النار ، وبين في موضع آخر أنها هي تراهم أيضا ، وهو قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 11 - 12 ] ، وما جرى على ألسنة العلماء من أن الظن جل الاعتقاد اصطلاح للأصوليين والفقهاء ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم يجدوا عنها مصرفا ، المصرف : المعدل ، أي : ولم يجدوا عن النار مكانا ينصرفون إليه ويعدلون إليه ، ليتخذوه ملجأ ومعتصما ينجون فيه من عذاب الله ، ومن إطلاق المصرف على المعدل بمعنى مكان الانصراف للاعتصام بذلك المكان قول أبي كبير الهذلي :
أزهير هل عن شيبة من مصرف أم لا خلود لباذل متكلف
وقولـه في هذه الآية الكريمة :
ورأى المجرمون النار ، من رأى البصرية ، فهي تتعدى لمفعول واحد ، والتعبير بالماضي عن المستقبل نظرا لتحقق الوقوع ، فكان ذلك لتحقق وقوعه كالواقع بالفعل ، كما تقدم مرارا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، قوله : ولقد صرفنا [ 18 \ 54 ] ، أي : رددنا وكثرنا تصريف الأمثال بعبارات مختلفة ، وأساليب متنوعة في هذا القرآن للناس . ليهتدوا إلى الحق ، ويتعظوا . فعارضوا بالجدل والخصومة ، والمثل : هو القول الغريب السائر في الآفاق ، وضرب الأمثال كثير في القرآن جدا ، كما قال تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها [ 2 \ 26 ] ، ومن أمثلة ضرب المثل فيه ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الآية [ 22 \ 73 ] ، وقولـه : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون [ 29 \ 41 ] [ ص: 300 ] وقوله : فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا الآية [ 7 \ 176 - 177 ] ، وكقوله : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله الآية [ 62 \ 5 ] ، وقولـه : واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء الآية [ 18 \ 45 ] ، وقولـه : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون [ 16 \ 75 ] ، وقولـه : وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم [ 16 \ 76 ] ، وقولـه : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم الآية [ 30 \ 28 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة جدا ، وفي هذه الأمثال وأشباهها في القرآن عبر ومواعظ وزواجر عظيمة جدا ، لا لبس في الحق معها ، إلا أنها لا يعقل معانيها إلا أهل العلم ، كما قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ، ومن حكم ضرب المثل : أن يتذكر الناس ، كما قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون
وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوما ، ويضل بها قوما آخرين ، كما في قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] ، وأشار إلى هذا المعنى في سورة " الرعد " ; لأنه لما ضرب المثل بقوله : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [ 13 \ 17 ] ، أتبع ذلك بقوله : للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد [ 13 \ 18 ] ، ولا شك أن الذين [ ص: 301 ] استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال ، وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق ، وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين لم يعقلوها ، ولم يعرفوا ما أوضحته من الحقائق ، فالفريق الأول هم الذين قال الله فيهم ويهدي به كثيرا [ 2 \ 26 ] ، والفريق الثاني هم الذين قال فيهم يضل به كثيرا وقال فيهم وما يضل به إلا الفاسقين .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : ولقد صرفنا قال بعض العلماء : مفعول " صرفنا " محذوف ، تقديره : البينات والعبر ، وعلى هذا فـ " من " لابتداء الغاية ، أي : ولقد صرفنا الآيات والعبر من أنواع ضرب المثل للناس في هذا القرآن ليذكروا ، فقابلوا ذلك بالجدال والخصام ، ولذا قال : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 45 ] ، وهذا هو الذي استظهره أبو حيان في البحر ، ثم قال : وقال ابن عطية يجوز أن تكون " من " زائدة للتوكيد ، فالتقدير : ولقد صرفنا كل مثل ، فيكون مفعول " صرفنا " : " كل مثل " وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش ، لا على مذهب جمهور البصريين ، انتهى الغرض من كلام صاحب البحر المحيط ، وقال الزمخشري : " من كل مثل " من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ا هـ ، وضابط ضرب المثل الذي يرجع إليه كل معانيه التي يفسر بها : هو إيضاح معنى النظير بذكر نظيره ; لأن النظير يعرف بنظيره ، وهذا المعنى الذي ذكره في هذه الآية الكريمة جاء مذكورا في آيات أخر ، كقوله في " الإسراء " : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا [ 17 \ 89 ] ، وقولـه تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا [ 17 \ 41 ] ، وقولـه : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] ، وقولـه : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون [ 39 \ 27 - 28 ] ، وقولـه : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون [ 30 \ 58 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
وقولـه في هذه الآية : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] أي : أكثر الأشياء التي من شأنها الخصومة إن فصلتها واحدا بعد واحد " جدلا " أي : خصومة ومماراة بالباطل لقصد إدحاض الحق .
ومن الآيات الدالة على خصومة الإنسان بالباطل لإدحاض الحق قوله هنا ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق [ 18 \ 56 ] ، [ ص: 302 ] وقولـه تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم الآية [ 42 \ 16 ] وقولـه تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] وقولـه تعالى : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما فسرنا به قوله تعالى : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا من أن معناه كثرة خصومة الكفار ومماراتهم بالباطل ليدحضوا به الحق هو السياق الذي نزلت فيه الآية الكريمة ; لأن قوله : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ 17 \ 89 ] ، أي : ليذكروا ويتعظوا وينيبوا إلى ربهم : بدليل قوله : ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا [ 17 \ 41 ] وقولـه : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] ، فلما أتبع ذلك بقوله : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] ، علمنا من سياق الآية أن الكفار أكثروا الجدل والخصومة والمراء لإدحاض الحق الذي أوضحه الله بما ضربه في هذا القرآن من كل مثل ، ولكن كون هذا هو ظاهر القرآن وسبب النزول لا ينافي تفسير الآية الكريمة بظاهر عمومها ; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما بيناه بأدلته فيما مضى ، ولأجل هذا لما طرق النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة رضي الله عنهما ليلة فقال : " ألا تصليان " ؟ وقال علي رضي الله عنه : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، انصرف النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وهو يضرب فخذه ويقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، والحديث مشهور متفق عليه ، فإيراده صلى الله عليه وسلم الآية على قول علي رضي الله عنه " إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا " دليل على عموم الآية الكريمة ، وشمولها لكل خصام وجدل ، لكنه قد دلت آيات أخر على أن من الجدل ما هو محمود مأمور به لإظهار الحق ، كقوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] ، وقولـه تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [ 29 \ 46 ] ، وقولـه " جدلا " منصوب على التمييز ، على حد قوله في الخلاصة :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا
وقولـه : أكثر شيء جدلا أي : أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل جدلا كما تقدم ، وصيغة التفضيل إذا أضيفت إلى نكرة كما في هذه الآية ، أو جردت من الإضافة والتعريف بالألف واللام لزم إفرادها وتذكيرها كما عقده في الخلاصة بقوله :
[ ص: 303 ]
وإن لمنكور يضف أو جردا ألزم تذكيرا وأن يوحدا
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة مبينا بعض الآيات المبينة للمراد بجدل الإنسان في الآية الكريمة ، بعد أن ساق سنده إلى ابن زيد في قوله : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، قال : الجدل الخصومة خصومة القوم لأنبيائهم وردهم عليهم ما جاءوا به ، وقرأ ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون [ 23 \ 33 ] ، وقرأ : يريد أن يتفضل عليكم [ 23 \ 24 ] ، وقرأ حتى توفى الآية ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 6 \ 7 ] ، وقرأ : ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 ] انتهى من تفسير الطبري ، ولا شك أن هذه الآيات التي ذكر عن ابن زيد أنها مفسرة لجدل الإنسان المذكور في الآية أنها كذلك ، كما قدمنا أن ذلك هو ظاهر السياق وسبب النزول ، والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة في القرآن العظيم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا .
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم ، وكلاهما تدل على مقتضاه آيات من كتاب الله تعالى ، وأحد الوجهين أظهر عندي من الآخر .
الأول منهما أن معنى الآية : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إذ جاءتهم الرسل بالبينات الواضحات ، إلا ما سبق في علمنا : من أنهم لا يؤمنون ، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين من الكفار ، وإتيان العذاب إياهم يوم القيامة قبلا ، وعلى هذا القول فالآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا ، كقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] وقولـه : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقولـه تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] [ ص: 304 ] وكقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] ، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة .
القول الثاني : أن في الآية الكريمة مضافا محذوفا ، تقديره : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلا .
والآيات الدالة على طلبهم الهلاك والعذاب عنادا وتعنتا كثيرة جدا ، كقوله عن قوم شعيب : فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين [ 26 \ 187 ] ، وكقوله عن قوم هود : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 46 \ 22 ] ، وكقوله عن قوم صالح : وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وكقوله عن قوم لوط : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين [ 29 \ 29 ] ، وكقوله عن قوم نوح : قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 11 \ 32 ] .
فهذه الآيات وأمثالها في القرآن ذكر الله فيها شيئا من سنة الأولين : أنهم يطلبون تعجيل العذاب عنادا وتعنتا ، وبين تعالى أنه أهلك جميعهم بعذاب مستأصل ، كإهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة ، وقوم هود بالريح العقيم ، وقوم لوط بجعل عالي قراهم سافلها ، وإرسال حجارة السجيل عليهم ، كما هو مفصل في الآيات القرآنية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-02-22, 07:35 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (240)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 305 إلى صـ 310
وبين في آيات كثيرة : أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سألوا العذاب كما سأله من قبلهم ، كقوله : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ 8 \ 32 ] ، وقولـه : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] ، وأصل القط : كتاب الملك الذي فيه الجائزة ، وصار يطلق على النصيب : فمعنى عجل لنا قطنا أي : نصيبنا المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك ، كالنصيب الذي يقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة ، ومنه قول الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق
وقوله " يأفق " أي : يفضل بعضا على بعض في العطاء ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والقول الأول أظهر عندي ; لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير إلا بحجة [ ص: 305 ] الرجوع إليها تثبت المحذوف المقدر ، والله تعالى أعلم ، وقد ذكرنا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( وجه الجمع بين قوله تعالى هنا : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين الآية [ 18 \ 55 ] ، وبين قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، بما حاصله باختصار : أن المانع المذكور في سورة " الإسراء " مانع عادي يجوز تخلفه ; لأن استغرابهم بعث رسول من البشر مانع عادي يجوز تخلفه لإمكان أن يستغرب الكافر بعث رسول من البشر ثم يؤمن به مع ذلك الاستغراب ، فالحصر في قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، حصر في المانع العادي ، وأما الحصر في قوله هنا : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا [ 18 \ 55 ] ، فهو حصر في المانع الحقيقي ; لأن إرادته جل وعلا عدم إيمانهم ، وحكمه عليهم بذلك ، وقضاءه به مانع حقيقي من وقوع غيره .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : أو يأتيهم العذاب قبلا ، قرأه الكوفيون : وهم عاصم وحمزة والكسائي " قبلا " بضم القاف والباء ، وقرأه الأربعة الباقون من السبعة : وهم نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر " قبلا " بكسر القاف وفتح الباء ، أما على قراءة الكوفيين فقوله " قبلا " بضمتين جمع قبيل ، والفعيل إذا كان اسما يجمع على فعل كسرير وسرر ، وطريق وطرق ، وحصير وحصر ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
وفعل لاسم رباعي بمد قد زيد قبل لام إعلالا فقد
ما لم يضاعف في الأعم ذو الألف . ، إلخ .
وعلى هذا ، فمعنى الآية أو يأتيهم العذاب قبلا أي : أنواعا مختلفة ، يتلو بعضها بعضا ، وعلى قراءة من قرءوا " قبلا " كعنب ، فمعناه عيانا ، أي : أو يأتيهم العذاب عيانا ، وقال مجاهد رحمه الله " قبلا " أي : فجأة ، والتحقيق : أن معناها عيانا ، وأصله من المقابلة ; لأن المتقابلين يعاين كل واحد منهما الآخر ، وذكر أبو عبيد : أن معنى القراءتين واحد ، وأن معناهما عيانا ، وأصله من المقابلة ، وانتصاب " قبلا " على الحال على كلتا القراءتين ، وهو على القولين المذكورين في معنى " قبلا " إن قدرنا أنه بمعنى عيانا ، فهو مصدر منكر حال كما قدمنا مرارا ، وعلى أنه جمع قبيل : فهو اسم جامد [ ص: 306 ] مؤول بمشتق ; لأنه في تأويل : أو يأتيهم العذاب في حال كونه أنواعا وضروبا مختلفة ، والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : أن يؤمنوا في محل نصب ; لأنه مفعول " منع " الثاني ، والمنسبك في " أن " وصلتها في قوله : إلا أن تأتيهم سنة الأولين في محل رفع ; لأنه فاعل " منع " لأن الاستثناء مفرغ ، وما قبل " إلا " عامل فيما بعدها ، فصار التقدير : منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين ، على حد قوله في الخلاصة :
وإن يفرغ سابق إلا لما بعد يكن كما لو إلا عدما
والاستغفار في قوله : ويستغفروا ربهم هو طلب المغفرة منه جل وعلا لجميع الذنوب السالفة بالإنابة إليه ، والندم على ما فات ، والعزم المصمم على عدم العود إلى الذنب .
قوله تعالى : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه ما يرسل الرسل إلا مبشرين من أطاعهم بالجنة ، ومنذرين من عصاهم بالنار ، وكرر هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 6 \ 48 ] ، وقد أوضحنا معنى البشارة والإنذار في أول هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله تعالى : لينذر بأسا شديدا من لدنه الآية [ 18 \ 2 ] ، وانتصاب قوله " مبشرين " على الحال ، أي : ما نرسلهم إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين .
قوله تعالى : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين كفروا يجادلون بالباطل ، أي : يخاصمون الرسل بالباطل ، كقولهم في الرسول : ساحر ، شاعر ، كاهن ، وكقولهم في القرآن : أساطير الأولين ، سحر ، شعر ، كهانة ، وكسؤالهم عن أصحاب الكهف ، وذي القرنين ، وسؤالهم عن الروح عنادا وتعنتا ، ليبطلوا الحق بجدالهم وخصامهم بالباطل ، فالجدال : المخاصمة ، ومفعول " يجادل " محذوف دل ما قبله عليه ; لأن قوله : وما نرسل المرسلين يدل على أن الذين يجادلهم الكفار بالباطل هم المرسلون المذكورون آنفا ، وحذف الفضلة إذا دل المقام عليها جائز ، وواقع كثيرا في القرآن وفي كلام العرب : كما عقده في الخلاصة بقوله :
وحذف فضلة أجز إن لم يضر كحذف ما سيق جوابا أو حصر
[ ص: 307 ] والباطل : ضد الحق وكل شيء زائل مضمحل تسميه العرب : باطلا ، ومنه قول لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
ويجمع الباطل كثيرا على أباطيل على غير القياس ، فيدخل في قول ابن مالك في الخلاصة :
وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكما رسما
ومنه قول كعب بن زهير :
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيده إلا الأباطيل
ويجمع أيضا على البواطل قياسا ، والحق : ضد الباطل ، وكل شيء ثابت غير زائل ولا مضمحل تسميه العرب حقا ، وقوله تعالى : ليدحضوا به الحق [ 18 \ 56 ] ، أي : ليبطلوه ويزيلوه به وأصله من إدحاض القدم ، وهو إزلاقها وإزالتها عن موضعها ، تقول العرب ، دحضت رجله : إذا زلقت ، وأدحضها الله أزلقها ، ودحضت حجته إذا بطلت ، وأدحضها الله أبطلها ، والمكان الدحض : هو الذي تزل فيه الأقدام ؟ ومنه قول طرفة :
أبا منذر رمت الوفاء فهبته وحدت كما حاد البعير عن الدحض
وهذا الذي ذكره هنا من مجادلة الكفار للمرسل بالباطل أوضحه في مواضع أخر : كقوله : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم [ 42 \ 16 ] ، وقولـه جل وعلا : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 32 ] ، وقولـه تعالى : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 61 \ 8 ] ، وإرادتهم إطفاء نور الله بأفواههم ، إنما هي بخصامهم وجدالهم بالباطل .
وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ما أراده الكفار من إدحاض الحق بالباطل لا يكون ، وأنهم لا يصلون إلى ما أرادوا ، بل الذي سيكون هو عكس ما أرادوه فيحق [ الحق ] ويبطل الباطل ، كما قال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ 61 \ 9 ] ، وكقوله : ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 33 ] ، وقولـه : والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 9 \ 32 ] ، [ ص: 308 ] وقولـه تعالى : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون [ 21 \ 18 ] ، وقولـه تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] ، وقولـه تعالى : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [ 13 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الحق سيظهر ويعلو ، وأن الباطل سيضمحل ويزهق ويذهب جفاء ، وذلك هو نقيض ما كان يريده الكفار من إبطال الحق وإدحاضه بالباطل عن طريق الخصام والجدال .
قوله تعالى : واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار اتخذوا آياته التي أنزلها على رسوله ، وإنذاره لهم هزؤا ، أي : سخرية واستخفافا ، والمصدر بمعنى اسم المفعول ، أي : اتخذوها مهزوءا بها مستخفا بها : كقوله : إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 \ 30 ] .
وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا [ 45 \ 9 ] ، وكقوله تعالى : ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون [ 36 \ 30 ] ، وقولـه تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] ، وقولـه تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم الآية [ 9 \ 65 - 66 ] إلى غير ذلك من الآيات ، و " ما " في قوله " ما أنذروا " مصدرية ، كما قررنا ، وعليه فلا ضمير محذوف ، وقيل هي موصولة والعائد محذوف ، تقديره : " وما أنذروا به هزوا " ، وحذف العائد المجرور بحرف إنما يطرد بالشروط التي ذكرها في الخلاصة بقوله :
كذلك الذي جر بما الموصول جر كمر بالذي مررت فهو بر
وفي قوله " هزوا " ثلاث قراءات سبعية قرأه حمزة بإسكان الزاي في الوصل ، وبقية السبعة بضم الزاي وتحقيق الهمزة ، إلا حفصا عن عاصم فإنه يبدل الهمزة واوا ، وذلك مروي عن حمزة في الوقف .
قوله تعالى ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه ، ذكر جل [ ص: 309 ] وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد أظلم ، أي : أكثر ظلما لنفسه ممن ذكر ، أي : وعظ بآيات ربه ، وهي هذا القرآن العظيم فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، أي : تولى وصد عنها .
وإنما قلنا : إن المراد بالآيات هذا القرآن العظيم لقرينة تذكير الضمير العائد إلى الآيات في قوله : أن يفقهوه ، أي : القرآن المعبر عنه بالآيات ، ويحتمل شمول الآيات للقرآن وغيره ، ويكون الضمير في قوله : أن يفقهوه أي : ما ذكر من الآيات ، كقول رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] ، أي : ذلك الذي ذكر من الفارض والبكر ، ونظيره من كلام العرب قول ابن الزبعرى :
إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل أي
: كلا ذلك المذكور من خير وشر ، وقد قدمنا إيضاح هذا ، وقوله : ونسي ما قدمت يداه [ 18 \ 57 ] ، أي : من المعاصي والكفر ، مع أن الله لم ينسه بل هو محصيه عليه ومجازيه ، كما قال تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد [ 58 \ 6 ] ، وقال تعالى : وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ، وقال تعالى : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقال بعض العلماء في قوله : ونسي ما قدمت يداه أي : تركه عمدا ولم يتب منه ، وبه صدر القرطبي رحمه الله تعالى ، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الإعراض عن التذكرة بآيات الله من أعظم الظلم ، قد زاد عليه في مواضع أخر بيان أشياء من النتائج السيئة ، والعواقب الوخيمة الناشئة من الإعراض عن التذكرة ، فمن نتائجه السيئة : ما ذكره هنا من أن صاحبه من أعظم الناس ظلما ، ومن نتائجه السيئة جعل الأكنة على القلوب حتى لا تفقه الحق ، وعدم الاهتداء أبدا كما قال هنا مبينا بعض ما ينشأ عنه من العواقب السيئة : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] ، ومنها انتقام الله جل وعلا من المعرض عن التذكرة ، كما قال تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون [ 32 \ 22 ] ، ومنها [ ص: 310 ] كون المعرض كالحمار ، كما قال تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة الآية [ 74 \ 49 - 50 ] ، ومنها الإنذار بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ، كما قال تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود الآية [ 41 \ 13 ] ، ومنها المعيشة الضنك والعمى ، كما قال تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 124 ] ، ومنها سلكه العذاب الصعد ، كما قال تعالى : ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ 72 \ 17 ] ، ومنها تقييض القرناء من الشياطين ، كما قال تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من النتائج السيئة ، والعواقب الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن التذكير بآيات الله جل وعلا ، وقد أمر تعالى في موضع آخر بالإعراض عن المتولي عن ذكره ، القاصر نظره على الحياة الدنيا ، وبين أن ذلك هو مبلغه من العلم ، فلا علم عنده بما ينفعه في معاده ، وذلك في قوله تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم [ 53 \ 29 - 30 ] ، وقد نهى جل وعلا عن طاعة مثل ذلك المتولي عن الذكر الغافل عنه في قوله : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [ 18 \ 28 ] ، كما تقدم إيضاحه .
وقولـه في هذه الآية : ما قدمت يداه أي : ما قدم من أعمال الكفر ، ونسبة التقديم إلى خصوص اليد ; لأن اليد أكثر مزاولة للأعمال من غيرها من الأعضاء ، فنسبت الأعمال إليها على عادة العرب في كلامهم ، وإن كانت الأعمال التي قدمها منها ما ليس باليد كالكفر باللسان والقلب ، وغير ذلك من الأعمال التي لا تزاول باليد كالزنا ، وقد بينا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( وجه الجمع بين قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه الآية [ 18 \ 57 ] ، وقولـه : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا [ 11 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وأشهر أوجه الجمع في ذلك وجهان : أحدهما أن كل من قال الله فيه : ومن أظلم ممن فعل كذا ، لا أحد أظلم من واحد منهم ، وإذا فهم متساوون في الظلم لا يفوق بعضهم فيه بعضا ، فلا إشكال في كون كل واحد منهم لا أحد أظلم منه ، والثاني أن صلة الموصول تعين كل واحد في محله ، وعليه فالمعنى في قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، لا أحد أظلم ممن ذكر فأعرض أظلم ممن ذكر بآيات ربه [ ص: 311 ] فأعرض عنها ، وفي قوله : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا [ 11 \ 18 ] لا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وهكذا الأول أولى ; لأنه جار على ظاهر القرآن ولا إشكال فيه ، وممن اختاره أبو حيان في البحر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:41 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (241)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 311 إلى صـ 316
قوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل على قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها أكنة ، أي : أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به ، وواحد الأكنة كنان ، وهو الغطاء ، وأنه جعل في آذانهم وقرا ، أي : ثقلا يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات التي ذكروا بها ، وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر ، كقوله : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقولـه : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة الآية [ 45 \ 23 ] ، وقولـه تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا [ 17 \ 45 ] ، وقولـه : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقولـه : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
فإن قيل : إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون ; لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم ، والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون ، فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره ؟ !
فالجواب : أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم : أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة ، ونحو ذلك إنما جعلها عليهم جزاء وفاقا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك ، جزاء على كفرهم ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، أي : بسبب كفرهم ، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم ، وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .
[ ص: 312 ] وهو دليل أيضا واضح على أن سبب إزاغة الله قلوبهم هو زيغهم السابق ، وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، وقولـه تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقولـه : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] ، وقولـه تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك .
وهذا الذي ذكرنا هو وجه رد شبهة الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم ، وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضا عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا : وهو أن يقول : قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها ، مع أن ظاهر الآية يدل عكس ذلك من أن الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب ; لأن " إن " من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه ، كقولك : اقطعه إنه سارق ، وعاقبه إنه ظالم ، فالمعنى : اقطعه لعلة سرقته ، وعاقبه لعلة ظلمه ، وكذلك قوله تعالى : فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة [ 18 \ 57 ] ، أي : أعرض عنها لعلة جعل الأكنة على قلوبهم ; لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع ، وتارة بالختم ، وتارة بالأكنة ، ونحو ذلك سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه .
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان ، الأول : أن يقال : ما مفسر الضمير في قوله : أن يفقهوه ، وقد قدمنا أنه الآيات في قوله : ذكر بآيات ربه [ 18 \ 57 ] ، بتضمين الآيات معنى القرآن ، فقوله : أن يفقهوه ، أي : القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريبا .
السؤال الثاني أن يقال : ما وجه إفراد الضمير في قوله : ذكر ، وقولـه : أعرض عنها ، وقولـه : ونسي ما قدمت يداه ، مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد ، وهو الاسم الموصول في قوله : ممن ذكر بآيات ربه الآية .
[ ص: 213 ] والجواب : هو أن الإفراد باعتبار لفظ " من " ، والجمع باعتبار معناها ، وهو كثير في القرآن العظيم ، والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقا ، خلافا لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى لا تصح ، والدليل على صحة قوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا [ 65 \ 11 ] ، فإنه في هذه الآية الكريمة راعى لفظ " من " أولا فأفرد الضمير في قوله : يؤمن ، وقولـه " ويعمل " ، وقولـه " يدخله " وراعى المعنى في قوله : خالدين فأتى فيه بصيغة الجمع ، ثم راعى اللفظ بعد ذلك في قوله : قد أحسن الله له رزقا . وقوله : أن يفقهوه ، فيه وفي كل ما يشابهه من الألفاظ وجهان معروفان لعلماء التفسير : أحدهما أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لئلا يفقهوه ، وعليه فلا النافية محذوفة دل المقام عليها ، وعلى هذا القول هنا اقتصر ابن جرير الطبري ، والثاني : أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة كراهة أن يفقهوه ، وعلى هذا فالكلام على تقدير مضاف ، وأمثال هذه الآية في القرآن كثيرة ، وللعلماء في كلها الوجهان المذكوران كقوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا [ 4 \ 176 ] ، أي : لئلا تضلوا ، أو كراهة أن تضلوا ، وقولـه : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة [ 49 \ 6 ] ، أي : لئلا تصيبوا ، أو كراهة أن تصيبوا ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العظيم .
وقولـه تعالى : أن يفقهوه ، أي : يفهموه ، فالفقه : الفهم ، ومنه قوله تعالى : فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ 4 \ 78 ] ، أي : يفهمونه ، وقولـه تعالى : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول [ 11 \ 91 ] ، أي : ما نفهمه ، والوقر : الثقل ، وقال الجوهري في صحاحه : الوقر بالفتح ، الثقل في الأذن ، والوقر بالكسر : الحمل ، يقال جاء يحمل وقره ، وأوقر بعيره وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار ا هـ ، وهذا الذي ذكره الجوهري وغيره جاء به القرآن ، قال في ثقل الأذن : وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] ، وقال في الحمل : فالحاملات وقرا [ 51 \ 2 ] .
قوله تعالى : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا .
بين في هذه الآية الكريمة : أن الذين جعل الله على قلوبهم أكنة تمنعهم أن يفقهوا ما ينفعهم من آيات القرآن التي ذكروا بها لا يهتدون أبدا ، فلا ينفع فيهم دعاؤك إياهم إلى الهدى ، وهذا المعنى الذي أشار [ ص: 314 ] له هنا من أن من أشقاهم الله لا ينفع فيهم التذكير جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 ] ، وقولـه تعالى : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم [ 26 \ 200 ] ، وقولـه تعالى : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقولـه تعالى : وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 100 ] ، وقولـه تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] ، وهذه الآية وأمثالها في القرآن فيها وجهان معروفان عند العلماء .
أحدهما : أنها في الذين سبق لهم في علم الله أنهم أشقياء ، عياذا بالله تعالى .
والثاني : أن المراد أنهم كذلك ما داموا متلبسين بالكفر ، فإن هداهم الله إلى الإيمان وأنابوا زال ذلك المانع ، والأول أظهر ، والعلم عند الله تعالى .
والفاء في قوله : فلن يهتدوا [ 18 \ 57 ] ; لأن الفعل الذي بعد " لن " لا يصلح أن يكون شرطا لـ " إن " ونحوها ، والجزاء إذا لم يكن صالحا لأن يكون شرطا لـ " إن " ونحوها لزم اقترانه بالفاء ، كما عقده في الخلاصة بقوله :
واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لإن أو غيرها لم ينجعل
وقولـه في هذه الآية الكريمة " إذا " جزاء وجواب ، فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سببا للاهتداء سببا لانتفائه ; لأن المعنى : فلن يهتدوا إذا دعوتهم ، ذكر هذا المعنى الزمخشري ، وتبعه أبو حيان في البحر ، وهذا المعنى قد غلطا فيه ، وغلط فيه خلق لا يحصى كثرة من البلاغيين وغيرهم .
وإيضاح ذلك أن الزمخشري هنا وأبا حيان ظنا أن قوله : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا شرط وجزاء ، وأن الجزاء مرتب على الشرط كترتيب الجزاء على ما هو شرط فيه ; ولذا ظنا أن الجزاء الذي هو عدم الاهتداء المعبر عنه في الآية بقوله : فلن يهتدوا مرتب على الشرط الذي هو دعاؤه إياهم المعبر عنه في الآية بقوله : وإن تدعهم إلى الهدى ، المشار إليه أيضا بقوله " إذا " فصار دعاؤه إياهم سبب انتفاء اهتدائهم وهذا غلط ; لأن هذه القضية الشرطية في هذه الآية الكريمة ليست شرطية لزومية ، حتى يكون بين شرطها وجزائها ارتباط ، بل هي شرطية اتفاقية ، والشرطية الاتفاقية [ ص: 315 ] لا ارتباط أصلا بين طرفيها ، فليس أحدهما سببا في الآخر ، ولا ملزوما له ، كما لو قلت : إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل فلا ربط بين الطرفين ; لأن الجزاء في الاتفاقية له سبب آخر غير مذكور ، كقولك : لو لم يخف الله لم يعصه ; لأن سبب انتفاء العصيان ليس هو عدم الخوف الذي هو الشرط ، بل هو شيء آخر غير مذكور ، وهو تعظيم الله جل وعلا ، ومحبته المانعة من معصيته ، وكذلك قوله هنا : فلن يهتدوا إذا أبدا ، سببه الحقيقي غير مذكور معه فليس هو قوله " وإن تدعهم " كما ظنه الزمخشري وأبو حيان وغيرهما ، بل سببه هو إرادة الله جل وعلا انتفاء اهتدائهم على وفق ما سبق في علمه أزلا .
ونظير هذه الآية الكريمة في عدم الارتباط بين طرفي الشرطية قوله تعالى : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم [ 3 \ 154 ] ; لأن سبب بروزهم إلى مضاجعهم شيء آخر غير مذكور في الآية ، وهو ما سبق في علم الله من أن بروزهم إليها لا محالة واقع ، وليس سببه كينونتهم في بيوتهم المذكورة في الآية ، وكذلك قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر [ 18 \ 109 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحت الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في أرجوزتي في المنطق وشرحي لها في قولي :
مقدم الشرطية المتصله مهما تكن صحبة ذاك التال له لموجب قد اقتضاها
كسبب فهي اللزومية ثم إن ذهب موجب الاصطحاب
ذا بينهما فالاتفاقية عند العلما ومثال الشرطية المتصلة اللزومية قولك
: كلما كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا
، لظهور التلازم بين الطرفين ، ويكفي في ذلك حصول مطلق اللازمية دون التلازم من الطرفين ، كقولك : كلما كان الشيء إنسانا كان حيوانا ، إذ لا يصدق عكسه .
فلو قلت : كلما كان الشيء حيوانا كان إنسانا لم يصدق ; لأن اللزوم في أحد الطرفين لا يقتضي الملازمة في كليهما ، ومطلق اللزوم تكون به الشرطية لزومية ، أما إذا عدم اللزوم من أصله بين طرفيها فهي اتفاقية ، ومثالها : كلمة كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا ، وبسبب عدم التنبه للفرق بين الشرطية اللزومية ، والشرطية الاتفاقية ارتبك خلق كثير من النحويين والبلاغيين في الكلام على معنى " لو " لأنهم أرادوا أن يجمعوا في [ ص: 316 ] المعنى بين قولك : لو كانت الشمس طالعة لكان النهار موجودا ، وبين قولك : لو لم يخف الله لم يعصه ، مع أن الشرط سبب في الجزاء في الأول ; لأنها شرطية لزومية ، ولا ربط بينهما في الثاني لأنها شرطية اتفاقية ، ولا شك أن من أراد أن يجمع بين المفترقين ارتبك ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وربك الغفور ذو الرحمة
، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه غفور ، أي : كثير المغفرة ، وأنه ذو الرحمة يرحم عباده المؤمنين يوم القيامة ، ويرحم الخلائق في الدنيا .
وبين في مواضع أخر : أن هذه المغفرة شاملة لجميع الذنوب بمشيئته جل وعلا إلا الشرك ، كقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] ، وقولـه : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة [ 5 \ 72 ] .
وبين في موضع آخر : أن رحمته واسعة ، وأنه سيكتبها للمتقين ، وهو قوله : ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة [ 7 \ 156 ] .
وبين في مواضع أخر سعة مغفرته ورحمته : كقوله : إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 32 ] ، وقولـه : إن الله يغفر الذنوب جميعا [ 39 \ 53 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وبين في مواضع أخر أنه مع سعة رحمته ومغفرته شديد العقاب ، كقوله : وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب [ 13 \ 6 ] ، وقولـه : غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب [ 40 \ 3 ] ، وقولـه تعالى : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ 15 \ 49 - 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب
، بين في هذه الآية الكريمة : أنه لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب كالكفر والمعاصي لعجل لهم العذاب لشناعة ما يرتكبونه ، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة ، فهو يمهل ولا يهمل .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 61 ] ، وقولـه : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقد قدمنا هذا في سورة " النحل " مستوفى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:42 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (242)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 317 إلى صـ 322
قوله تعالى : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه وإن لم يعجل لهم العذاب في الحال فليس غافلا عنهم ولا تاركا [ ص: 317 ] عذابهم ، بل هو تعالى جاعل لهم موعدا يعذبهم فيه ، لا يتأخر العذاب عنه ولا يتقدم .
وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله في " النحل " : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 16 \ 61 ] ، وقولـه في آخر سورة " فاطر " : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا [ 35 \ 45 ] ، وكقوله : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] ، وكقوله : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب [ 29 \ 53 ] .
وقد دلت آيات كثيرة على أن الله لا يؤخر شيئا عن وقته الذي عين له ولا يقدمه عليه ، كقوله : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ، وقولـه : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34 ] ، وقولـه تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 71 \ 4 ] ، وقولـه : لكل أجل كتاب [ 13 \ 38 ] ، وقولـه : لكل نبإ مستقر [ 6 \ 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 57 ] ، أي : ملجأ يلجئون إليه فيعتصمون به من ذلك العذاب المجعول له الموعد المذكور ، وهو اسم مكان ، من وأل يئل وألا ووءولا بمعنى لجأ ، ومعلوم في فن الصرف أن واوي الفاء من الثلاثي ينقاس مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه على المفعل بكسر العين كما هنا ، ما لم يكن معتل اللام فالقياس فيه الفتح كالمولى ، والعرب تقول : لا وألت نفسه ، أي : لا وجدت منجى تنجو به ، ومنه قول الشاعر :
لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم
وقال الأعشى :
وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو .
وأقوال المفسرين في " الموئل " راجعة إلى ما ذكرنا ، كقول بعضهم : موئلا محيصا ، وقول بعضهم منجى ، وقول بعضهم محرزا ، إلى غير ذلك ، فكله بمعنى ما ذكرنا .
[ ص: 318 ] وقولـه تعالى : وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ، بين في هذه الآية الكريمة : أن القرى الماضية لما ظلمت بتكذيب الرسل والعناد واللجاج في الكفر والمعاصي أهلكهم الله بذنوبهم .
وهذا الإجمال في تعيين هذه القرى وأسباب هلاكها ، وأنواع الهلاك التي وقعت بها جاء مفصلا في آيات أخر كثيرة ، كما جاء في القرآن من قصة قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وقوم موسى ، كما تقدم بعض تفاصيله ، والقرى : جمع قرية على غير قياس ; لأن جمع التكسير على " فعل " بضم ففتح لا ينقاس إلا في جمع " فعلة " بالضم اسما كغرفة وقربة ، أو " فعلى " إذا كانت أنثى الأفعل خاصة ، كالكبرى والكبر ، كما أشار لذلك في الخلاصة بقوله :
وفعل جمعا لفعلة عرف ونحو كبرى . . . إلخ أي : وأما في غير ذلك فسماع يحفظ ولا يقاس عليه ، وزاد في التسهيل نوعا ثالثا ينقاس فيه " فعل " بضم ففتح ، وهو الفعلة بضمتين إن كان اسما كجمعة وجمع ، واسم الإشارة في قوله : وتلك القرى [ 18 \ 59 ] ، إنما أشير به لهم لأنهم يمرون عليها في أسفارهم ، كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] ، وقولـه : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] ، وقولـه : وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وقولـه " وتلك " مبتدأ و " القرى " صفة له ، أو عطف بيان ، وقولـه : " أهلكناهم " هو الخبر ، ويجوز أن يكون الخبر هو " القرى " وجملة " أهلكناهم " في محل حال ، كقوله : فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ 27 \ 52 ] ، ويجوز أن يكون قوله : " وتلك " في محل نصب بفعل محذوف يفسره العامل المشتغل بالضمير ، على حد قوله في الخلاصة :
إن مضمر اسم سابق فعلا شغل عنه بنصب لفظه أو المحل
فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا
وقولـه في هذه الآية الكريمة : لمهلكهم موعدا [ 18 \ 59 ] ، قرأه عامة السبعة ما عدا عاصما بضم الميم وفتح اللام على صيغة اسم المفعول ، وهو محتمل على هذه القراءة أن يكون مصدرا ميميا ، أي : جعلنا لإهلاكهم موعدا ، وأن يكون اسم زمان ، أي : [ ص: 319 ] وجعلنا لوقت إهلاكهم موعدا ، وقد تقرر في فن الصرف أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة أحرف مطلقا فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه أن يكون الجميع بصيغة اسم المفعول ، والمهلك بضم الميم من أهلكه الرباعي ، وقرأه حفص عن عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم وكسر اللام ، وقرأه شعبة عن عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم واللام معا ، والظاهر أنه على قراءة حفص اسم زمان ، أي : وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا ; لأنه من هلك يهلك بالكسر ، وما كان ماضيه على " فعل " بالفتح ومضارعه " يفعل " بالكسر كهلك يهلك ، وضرب يضرب ، ونزل ينزل فالقياس في اسم مكانه وزمانه " المفعل " بالكسر ، وفي مصدره الميمي المفعل بالفتح ، تقول هذا منزله بالكسر أي : مكان نزوله أو وقت نزوله ، وهذا " منزله " بفتح الزاي ، أي : نزوله ، وهكذا ، منه قول الشاعر :
أإن ذكرتك الدار منزلها جمل بكيت فدمع العين منحدر سجل
فقوله : " منزلها جمل " بالفتح ، أي : نزول جمل إياها وبه تعلم أنه على قراءة شعبة " لمهلكهم " بفتح الميم واللام أنه مصدر ميمي ، أي : وجعلنا لهلاكهم موعدا ، والموعد : الوقت المحدد لوقوع ذلك فيه .
تنبيه
لفظة " لما " ترد في القرآن وفي كلام العرب على ثلاثة أنواع :
الأول : لما النافية الجازمة للمضارع ، نحو قوله : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم [ 2 \ 214 ] ، وقولـه : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم الآية [ 3 \ 142 ] ، وهذه حرف بلا خلاف ، وهي مختصة بالمضارع ، والفوارق المعنوية بينها وبين لم النافية مذكورة في علم العربية ، وممن أوضحها ابن هشام وغيره .
الثاني : أن تكون حرف استثناء بمعنى إلا ، فتدخل على الجملة الاسمية ، كقوله تعالى : إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 4 ] ، في قراءة من شدد " لما " أي : ما كل نفس إلا عليها حافظ ، ومن هذا النوع قول العرب : أنشدك الله لما فعلت ; أي : ما أسألك إلا فعلك ، ومنه قول الراجز :
قالت له بالله يا ذا البردين لما غنثت نفسا أو نفسين
[ ص: 320 ] فقولها " غنثت " بغين معجمة ونون مكسورة وثاء مثلثة مسندا لتاء المخاطب ، والمراد بقولها " غنثت " تنفست في الشرب ، كنت بذلك عن الجماع ، تريد عدم متابعته لذلك ، وأن يتنفس بين ذلك ، وهذا النوع حرف أيضا بلا خلاف ، وبعض أهل العلم يقول : إنه لغة هذيل .
الثالث من أنواع " لما " هو النوع المختص بالماضي المقتضي جملتين ، توجد ثانيتهما عند وجود أولاهما ، كقوله : لما ظلموا ، أي : لما ظلموا أهلكناهم ، فما قبلها دليل على الجملة المحذوفة ، وهذا النوع هو الغالب في القرآن وفي كلام العرب ، " ولما " هذه التي تقتضي ربط جملة بجملة اختلف فيها النحويون : هل هي حرف ، أو اسم ، وخلافهم فيها مشهور ، وممن انتصر لأنها حرف ابن خروف وغيره ، وممن انتصر لأنها اسم ابن السراج والفارسي وابن جني وغيرهم ، وجواب " لما " هذه يكون فعلا ماضيا بلا خلاف ، كقوله تعالى : فلما نجاكم إلى البر أعرضتم الآية [ 17 \ 67 ] ، ويكون جملة اسمية مقرونة بـ " إذا " الفجائية ، كقوله : فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] ، أو مقرونة بالفاء كقوله : فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد الآية [ 31 \ 32 ] ، ويكون جوابها فعلا مضارعا كما قاله ابن عصفور ، كقوله : فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط الآية [ 11 \ 74 ] ، وبعض ما ذكرنا لا يخلو من مناقشة عند علماء العربية ، ولكنه هو الظاهر .
هذه الأنواع الثلاثة ، هي التي تأتي لها " لما " في القرآن وفي كلام العرب .
أما " لما " المتركبة من كلمات أو كلمتين فليست من " لما " التي كلامنا فيها ; لأنها غيرها ، فالمركبة من كلمات كقول بعض المفسرين في معنى قوله تعالى : وإن كلا لما ليوفينهم ربك [ 11 \ 111 ] ، في قراءة ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم بتشديد نون " إن " وميم " لما " على قول من زعم أن الأصل على هذه القراءة : لمن ما بمن التبعيضية ، وما بمعنى من ، أي : وإن كلا لمن جملة ما يوفيهم ربك أعمالهم ، فأبدلت نون " من " ميما وأدغمت في ما ، فلما كثرت الميمات حذفت الأولى فصار لما ، وعلى هذا القول : فـ " لما " مركبة من ثلاث كلمات : الأولى الحرف الذي هو اللام ، والثانية من ، والثالثة ما ، وهذا القول وإن قال به بعض أهل العلم لا يخفى ضعفه وبعده ، وأنه لا يجوز حمل القرآن عليه ، وقصدنا مطلق التمثيل لـ " لما " المركبة من كلمات على [ ص: 321 ] قول من قال بذلك ، وأما المركبة من كلمتين فكقول الشاعر :
لما رأيت أبا يزيد مقاتلا أدع القتال وأشهد الهيجاء
لأن قوله : " لما " في هذا البيت ، مركبة من " لن " النافية الناصبة للمضارع و " ما " المصدرية الظرفية ، أي : لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلا ، أي : مدة رؤيتي له مقاتلا .
قوله تعالى : فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى وفتاه نصبا حوتهما لما بلغ مجمع البحرين ، ولكنه تعالى أوضح أن النسيان واقع من فتى موسى ; لأنه هو الذي كان تحت يده الحوت ، وهو الذي نسيه ، وإنما أسند النسيان إليهما ; لأن إطلاق المجموع مرادا بعضه أسلوب عربي كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وقد أوضحنا أن من أظهر أدلته قراءة حمزة والكسائي : فإن قاتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] ، من القتل في الفعلين لا من القتال ، أي : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، والدليل على أن النسيان إنما وقع من فتى موسى دون موسى قوله تعالى عنهما : فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره الآية [ 18 \ 62 ] ; لأن قول موسى : " آتنا غداءنا " يعني به الحوت فهو يظن أن فتاه لم ينسه ، كما قاله غير واحد ، وقد صرح فتاه : بأنه نسيه بقوله : فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان الآية .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : وما أنسانيه إلا الشيطان ، دليل على أن النسيان من الشيطان كما دلت عليه آيات أخر ، كقوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، وقولـه تعالى : استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله الآية [ 58 \ 19 ] .
وفتى موسى هو يوشع بن نون ، والضمير في قوله تعالى : مجمع بينهما [ 18 \ 61 ] ، عائد إلى " البحرين " المذكورين في قوله تعالى : لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين . الآية [ 18 \ 60 ] ، والمجمع : اسم مكان على القياس ، أي : مكان اجتماعهما .
والعلماء مختلفون في تعيين " البحرين " المذكورين ، فذهب أكثرهم إلى أنهما بحر [ ص: 322 ] فارس مما يلي المشرق ، وبحر الروم مما يلي المغرب ، وقال محمد بن كعب القرظي : " مجمع البحرين " عند طنجة في أقصى بلاد المغرب وروى ابن أبي حاتم من طريق السدي قال : هما الكر والرأس حيث يصبان في البحر ، وقال ابن عطية : " مجمع البحرين " ذراع في أرض فارس من جهة أذربيجان ، يخرج من البحر المحيط من شماله إلى جنوبه ، وطرفيه مما يلي بر الشام ، وقيل : هما بحر الأردن والقلزم ، وعن ابن المبارك قال : قال بعضهم بحر أرمينية ، وعن أبي بن كعب قال : بإفريقية ، إلى غير ذلك من الأقوال ، ومعلوم أن تعيين " البحرين " من النوع الذي قدمنا أنه لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ، وليس في معرفته فائدة ، فالبحث عنه تعب لا طائل تحته ، وليس عليه دليل يجب الرجوع إليه ، وزعم بعض الملاحدة الكفرة المعاصرين : أن موسى لم يسافر إلى مجمع بحرين ، بدعوى أنه لم يعرف ذلك في تاريخه ، زعم في غاية الكذب والبطلان ، ويكفي في القطع بذلك أنه مناقض لقوله تعالى : فلما بلغا مجمع بينهما الآية [ 18 \ 61 ] ، مع التصريح بأنه سفر فيه مشقة وتعب ، وذلك لا يكون إلا في بعيد السفر ، ولذا قال تعالى عن موسى : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا [ 18 \ 62 ] ، ومعلوم أن ما ناقض القرآن فهو باطل ; لأن نقيض الحق باطل بإجماع العقلاء لاستحالة صدق النقيضين معا .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : وما أنسانيه إلا الشيطان ، قرأه عامة القراء ما عدا حفصا " أنسانيه " بكسر الهاء ، وقرأه حفص عن عاصم " أنسانيه " بضم الهاء .
قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ، هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو الخضر عليه السلام بإجماع العلماء ، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها ، أو رحمة الولاية وعلمها ، والعلماء مختلفون في الخضر : هل هو نبي ، أو رسول ، أو ولي ، كما قال الراجز :
واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول
وقيل ملك ، ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة ، وأن هذا العلم اللدني علم وحي ، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:42 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (243)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 323 إلى صـ 328
اعلم أولا أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن ، وكذلك العلم المؤتى [ ص: 323 ] من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي ، فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في " الزخرف " : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 31 ] ، أي : نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين ، وقولـه تعالى في سورة " الدخان " : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك الآية [ 44 \ 4 - 5 ] ، وقولـه تعالى في آخر " القصص " : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] ، ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ 4 \ 113 ] ، وقوله : وإنه لذو علم لما علمناه الآية [ 12 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها ، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف ، ومن أظهر الأدلة في أن الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه : وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] ، أي : وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا ، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي ، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا ، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر ، وتعييب سفن الناس بخرقها ; لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى ، وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى : قل إنما أنذركم بالوحي [ 21 \ 45 ] ، و " إنما " صيغة حصر ، فإن قيل : قد يكون ذلك عن طريق الإلهام ؟ فالجواب أن المقرر في الأصول أن الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء ، لعدم العصمة ، وعدم الدليل على الاستدلال به ، بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به ، وما يزعمه بعض المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره ، وما يزعمه بعض الجبرية أيضا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] ، وبخبر " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " كله باطل لا يعول عليه ، لعدم اعتضاده بدليل ، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره ; لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان ، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع ، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات ، والإلهام في الاصطلاح : إيقاع شيء [ ص: 324 ] في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية ، يختص الله به من يشاء من خلقه ، أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم ، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم ، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال :
وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفا وبالجملة ، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه ، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي ، فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل ، وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى ، قال تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما ، وقال تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، وقال : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية [ 20 \ 134 ] ، والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد بينا طرفا من ذلك في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع ، كمخالفة ما فعله الخضر لظاهر العلم الذي عند موسى ، زندقة ، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام ، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره .
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه : قال شيخنا الإمام أبو العباس : ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية فقالوا : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص ، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم ، وقالوا : وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار ، وخلوها عن الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكائنات ، ويعلمون أحكام الجزئيات ، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، كما اتفق للخضر فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم عما كان عند موسى من تلك الفهوم ، وقد جاء فيما [ ص: 325 ] ينقلون " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " ، قال شيخنا رضي الله عنه : وهذا القول زندقة وكفر ، يقتل قائله ولا يستتاب ; لأنه إنكار ما علم من الشرائع ، فإن الله تعالى قد أجرى سنته ، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه ، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه ، المبينون شرائعه وأحكامه ، اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك ، كما قال تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير [ 22 \ 75 ] ، وقال تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] ، وقال تعالى : كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين [ 2 \ 213 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى الجملة ، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري ، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه ، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل ، فمن قال إن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل حيث يستغني عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال وجواب ، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله ، فلا نبي بعده ولا رسول .
وبيان ذلك أن من قال : يأخذ عن قلبه ، وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى ، وأنه يعمل بمقتضاه ، وأنه ولا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ، فإن هذا نحو ما قاله صلى الله عليه وسلم : " إن روح القدس نفث في روعي . " الحديث ، انتهى من تفسير القرطبي .
وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن الزنديق لا يستتاب هو مذهب مالك ومن وافقه ، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم ، وما يرجحه الدليل في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( في سورة " آل عمران " ، وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث " استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام : لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به أن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب ، بل من الحديث : التحذير من الشبه ; لأن الحرام بين والحلال بين ، وبينهما أمور مشتبهة لا يعلمها كل الناس .
فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراما ، وذلك باستناد إلى الشرع ، فإن قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة ، والحديث ، كقوله " دع ما [ ص: 326 ] يريبك إلى ما لا يريبك " وقولـه صلى الله عليه وسلم : " البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه ، وحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " جئت تسأل عن البر " ؟ قلت نعم : قال : " استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " قال النووي في ) رياض الصالحين ( : حديث حسن ، رواه أحمد والدارمي في مسنديهما ، ولا شك أن المراد بهذا الحديث ونحوه الحث على الورع وترك الشبهات ، فلو التبست مثلا ميتة بمذكاة ، أو امرأة محرم بأجنبية ، وأفتاك بعض المفتين بحلية إحداهما لاحتمال أن تكون هي المذكاة في الأول ، والأجنبية في الثاني ، فإنك إذا استفتيت قلبك علمت أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت ، وأن ترك الحرام والاستبراء للدين والعرض لا يتحقق إلا بتجنب الجميع ; لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب ، فهذا يحيك في النفس ولا تنشرح له ، لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى ، وكل ذلك مستند لنصوص الشرع لا للإلهام .
ومما يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري رحمه الله : ( مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ) ، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه رحمه الله ، كابن كثير وابن خلكان وغيرهما ، ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق ، فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وبهذا كله تعلم أن قتل الخضر للغلام ، وخرقه للسفينة ، وقوله : وما فعلته عن أمري ، دليل ظاهر على نبوته . وعزا الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين ، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله : قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا [ 18 \ 66 ] ، وقولـه : قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا [ 18 \ 69 ] ، مع قول الخضر له وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ، [ 18 \ 68 ] .
مسألة
اعلم أن العلماء اختلفوا في الخضر : هل هو حي إلى الآن ، أو هو غير حي ، بل ممن مات فيما مضى من الزمان ؟ فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه حي ، وأنه شرب من [ ص: 327 ] عين تسمى عين الحياة ، وممن نصر القول بحياته القرطبي في تفسيره ، والنووي في شرح مسلم وغيره ، وابن الصلاح ، والنقاش وغيرهم ، قال ابن عطية : وأطنب النقاش له هذا المعنى ، يعني حياة الخضر وبقاءه إلى يوم القيامة ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب ، وكلها لا تقوم على ساق انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره .
وحكايات الصالحين عن الخضر أكثر من أن تحصر ، ودعواهم أنه يحج هو وإلياس كل سنة ، ويروون عنهما بعض الأدعية ، كل ذلك معروف ، ومستند القائلين بذلك ضعيف جدا ; لأن غالبه حكايات عن بعض من يظن به الصلاح ، ومنامات وأحاديث مرفوعة عن أنس وغيره ، وكلها ضعيف لا تقوم به حجة .
ومن أقواه عند القائلين به آثار التعزية حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر ابن عبد البر في تمهيده عن علي رضي الله عنه قال : لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وسجي بثوب هتف هاتف من ناحية البيت يسمعون صوته ولا يرون شخصه : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، السلام عليكم أهل البيت كل نفس ذائقة الموت الآية [ 3 \ 185 ] ، إن في الله خلفا من كل هالك ، وعوضا من كل تالف ، وعزاء من كل مصيبة فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، فكانوا يرون أنه الخضر عليه السلام ، يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، انتهى بواسطة نقل القرطبي في تفسيره .
قال مقيده عفا الله عنه : والاستدلال على حياة الخضر بآثار التعزية كهذا الأثر الذي ذكرنا آنفا مردود من وجهين :
الأول : أنه لم يثبت ذلك بسند صحيح ، قال ابن كثير في تفسيره : وحكى النووي وغيره في بقاء الخضر إلى الآن ، ثم إلى يوم القيامة قولين ، ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه ، وذكروا في ذلك حكايات عن السلف وغيرهم ، وجاء ذكره في بعض الأحاديث ، ولا يصح شيء من ذلك ، وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف ا هـ ، منه .
الثاني : أنه على فرض أن حديث التعزية صحيح لا يلزم من ذلك عقلا ولا شرعا ولا عرفانا أن يكون ذلك المعزي هو الخضر ، بل يجوز أن يكون غير الخضر من مؤمني الجن ; لأن الجن هم الذين قال الله فيهم : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [ 7 \ 27 ] ، ودعوى أن ذلك المعزي هو الخضر تحكم بلا دليل ، وقولـهم : كانوا يرون أنه الخضر ليس حجة يجب الرجوع إليها ; لاحتمال أن يخطئوا في ظنهم ، ولا يدل ذلك على [ ص: 328 ] إجماع شرعي معصوم ، ولا متمسك لهم في دعواهم أنه الخضر كما ترى .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل في هذه المسألة أن الخضر ليس بحي بل توفي ، وذلك لعدة أدلة :
الأول : ظاهر عموم قوله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون [ 21 \ 34 ] ، فقوله " لبشر " نكرة في سياق النفي فهي تعم كل بشر ، فيلزم من ذلك نفي الخلد عن كل بشر من قبله ، والخضر بشر من قبله ، فلو كان شرب من عين الحياة وصار حيا خالدا إلى يوم القيامة لكان الله قد جعل لذلك البشر الذي هو الخضر من قبله الخلد .
الثاني : قوله صلى الله عليه وسلم : " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا هناد بن السري ، حدثنا ابن المبارك عن عكرمة بن عمار ، حدثني سماك الحنفي قال : سمعت ابن عباس يقول : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر ) ح ( وحدثنا زهير بن حرب واللفظ له ، حدثنا عمر بن يونس الحنفي ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثني أبو زميل هو زميل الحنفي ، حدثني عبد الله بن عباس قال : حدثني عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه : " اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عز وجل : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [ 8 \ 9 ] ، فأمده الله بالملائكة . . ، الحديث ، ومحل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تعبد في الأرض " فعل في سياق النفي فهو بمعنى : لا تقع عبادة لك في الأرض ; لأن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين ، وعن مصدر ونسبة وزمن عند كثير من البلاغيين ، فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا ، فيتسلط عليه النفي فيؤول إلى النكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم كما تقدم إيضاحه في سورة " بني إسرائيل " وإلى كون الفعل في سياق النفي والشرط من صيغ العموم أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يفيد العموم :
ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا
فإذا علمت أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " أي : لا تقع عبادة لك في الأرض .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:43 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (244)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 329 إلى صـ 334
فاعلم أن ذلك النفي يشمل بعمومه وجود الخضر حيا في الأرض ; لأنه على تقدير وجوده حيا في الأرض فإن الله يعبد في الأرض ، ولو على فرض هلاك تلك العصابة من أهل الإسلام ; لأن الخضر ما دام حيا فهو يعبد الله في الأرض ، وقال البخاري في صحيحه : حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : " اللهم أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض " فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك ! فخرج وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ 54 \ 45 ] ، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " اللهم إن شئت لم تعبد في الأرض " أي : إن شئت إهلاك هذه الطائفة من أهل الإسلام لم تعبد في الأرض ، فيرجع معناه إلى الرواية التي ذكرنا عن مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد بينا وجه الاستدلال بالحديث عن وفاة الخضر .
الثالث : إخباره صلى الله عليه وسلم بأنه على رأس مائة سنة من الليلة التي تكلم فيها بالحديث لم يبق على وجه الأرض أحد ممن هو عليها تلك الليلة ، فلو كان الخضر حيا في الأرض لما تأخر بعد المائة المذكورة ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن رافع ، وعبد بن حميد ، قال محمد بن رافع : حدثنا ، وقال عبد : أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، أخبرني سالم بن عبد الله وأبو بكر بن سليمان : أن عبد الله بن عمر قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته ، فلما سلم قام فقال : " أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهرها أحد " . قال ابن عمر : فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة ، وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " ، يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن ، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب ، ورواه الليث عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر ، كلاهما عن الزهري بإسناد معمر كمثل حديثه ، حدثني هارون بن عبد الله ، وحجاج بن الشاعر قالا : حدثنا حجاج بن محمد ، قال : قال ابن جريج : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بشهر : " تسألوني [ ص: 330 ] عن الساعة وإنما علمها عند الله ، وأقسم الله ما على الأرض من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة " حدثنيه محمد بن حاتم ، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج بهذا الإسناد ولم يذكر " قبل موته بشهر " .
حدثني يحيى بن حبيب ، ومحمد بن عبد الأعلى ، كلاهما عن المعتمر قال ابن حبيب ، حدثنا معتمر بن سليمان ، قال : سمعت أبي ، حدثنا أبو نضرة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك قبل موته بشهر أو نحو ذلك : " ما من نفس منفوسة اليوم تأتي مائة سنة وهي حية يومئذ " ، وعن عبد الرحمن صاحب السقاية ، عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل ذلك ، وفسرها عبد الرحمن قال : نقص العمر ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا سليمان التيمي بالإسنادين جميعا مثله .
حدثنا ابن نمير ، حدثنا أبو خالد عن داود واللفظ له ) ح ( وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا سليمان بن حيان عن داود عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك سألوه عن الساعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تأتي مائة وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم " حدثني إسحاق بن منصور ، أخبرنا أبو الوليد ، أخبرنا أبو عوانة عن حصين عن سالم عن جابر بن عبد الله قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من نفس منفوسة تبلغ مائة سنة " فقال سالم : تذاكرنا ذلك عنده : إنما هي كل نفس مخلوقة يومئذ ا هـ منه بلفظه .
فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر ، وجابر ، وأبو سعيد فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا تبقى نفس منفوسة حية على وجه الأرض بعد مائة سنة ، فقوله " نفس منفوسة " ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث نكرة في سياق النفي فهي تعم كل نفس مخلوقة على الأرض ، ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخضر ; لأنه نفس منفوسة على الأرض ، وقال البخاري في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب عن الزهري قال : حدثني سالم بن عبد الله بن عمر ، وأبو بكر بن أبي حثمة أن عبد الله بن عمر قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء في آخر حياته ، فلما سلم قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أرأيتكم ليلتكم هذه ، فإن رأس مائة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد " فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة : وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض " يريد بذلك أنها تخرم ذلك القرن انتهى منه بلفظه ، وقد بينا وجه دلالته على المراد قريبا .
[ ص: 331 ] الرابع : أن الخضر لو كان حيا إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكان من أتباعه ، ولنصره وقاتل معه ; لأنه مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، والآيات الدالة على عموم رسالته كثيرة جدا ، كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وقولـه : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ، وقولـه تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ 34 \ 28 ] ، ويوضح هذا أنه تعالى بين في سورة " آل عمران " : أنه أخذ على جميع النبيين الميثاق المؤكد أنهم إن جاءهم نبينا صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به وينصرونه ، وذلك في قوله : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ 3 \ 81 - 82 ] .
وهذه الآية الكريمة على القول بأن المراد بالرسول فيها نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما قاله ابن العباس وغيره فالأمر واضح ، وعلى أنها عامة فهو صلى الله عليه وسلم يدخل في عمومها دخولا أوليا ، فلو كان الخضر حيا في زمنه لجاءه ونصره وقاتل تحت رايته ، ومما يوضح أنه لا يدركه نبي إلا اتبعه ما رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار من حديث جابر رضي الله عنه : أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال : " لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو باطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " ا هـ قال ابن حجر في الفتح : ورجاله موثقون ، إلا أن في مجالد ضعفا ، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه بعد أن ساق آية " آل عمران " المذكورة آنفا مستدلا بها على أن الخضر لو كان حيا لجاء النبي صلى الله عليه وسلم ونصره ما نصه : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبينا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ على أمته الميثاق لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به وينصرونه ، ذكره البخاري عنه .
فالخضر إن كان نبيا أو وليا فقد دخل في هذا الميثاق ، فلو كان حيا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان أشرف أحواله أن يكون بين يديه ، يؤمن بما أنزل الله عليه ، وينصره أن يصل أحد من الأعداء إليه ; لأنه إن كان وليا فالصديق أفضل منه ، وإن كان نبيا فموسى أفضل منه .
[ ص: 332 ] وقد روى الإمام أحمد في مسنده : حدثنا شريح بن النعمان ، حدثنا هشيم أنبأنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " ، وهذا الذي يقطع به ويعلم من الدين علم الضرورة .
وقد دلت هذه الآية الكريمة : أن الأنبياء كلهم لو فرض أنهم أحياء مكلفون في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا كلهم أتباعا له وتحت أوامره ، وفي عموم شرعه ، كما أن صلوات الله وسلامه عليه لما اجتمع بهم الإسراء رفع فوقهم كلهم ، ولما هبطوا معه إلى بيت المقدس وحانت الصلاة أمره جبريل عن أمر الله أن يؤمهم ، فصلى بهم في محل ولايتهم ودار إقامتهم ، فدل على أنه الإمام الأعظم ، والرسول الخاتم المبجل المقدم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين .
فإذا علم هذا ، وهو معلوم عند كل مؤمن ، علم أنه لو كان الخضر حيا لكان من جملة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وممن يقتدي بشرعه لا يسعه إلا ذلك ، هذا عيسى بن مريم عليه السلام إذا نزل في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة ، لا يخرج منها ولا يحيد عنها ، وهو أحد أولي العزم الخمسة المرسلين ، وخاتم أنبياء بني إسرائيل ، والمعلوم أن الخضر لم ينقل بسند صحيح ولا حسن تسكن النفس إليه أنه اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد ، ولم يشهد معه قتالا في مشهد من المشاهد ، وهذا يوم بدر يقول الصادق المصدوق فيما دعا به ربه عز وجل واستنصره واستفتحه على من كفره : " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض " وتلك العصابة كان تحتها سادة المسلمين يومئذ ، وسادة الملائكة حتى جبريل عليه السلام ، كما قال حسان بن ثابت في قصيدة له في بيت يقال بأنه أفخر بيت قالته العرب :
وببئر بدر إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا
ومحمد
فلو كان الخضر حيا لكان وقوفه تحت هذه الراية أشرف مقاماته ، وأعظم غزواته ، قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي : سئل بعض أصحابنا عن الخضر هل مات ؟ فقال : نعم ، قال : وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن العبادي قال : وكان يحتج بأنه لو كان حيا لجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نقله ابن الجوزي في العجالة ، فإن قيل : فهل يقال إنه كان حاضرا في هذه المواطن كلها ولكن لم يكن أحد يراه ؟
فالجواب : أن الأصل عدم هذا الاحتمال البعيد الذي يلزم منه تخصيص العمومات بمجرد التوهمات ، ثم [ ص: 333 ] ما الحامل له على هذا الاختفاء ؟ وظهوره أعظم لأجره ، وأعلى في مرتبته ، وأظهر لمعجزته ، ثم لو كان باقيا بعده لكان تبليغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحاديث النبوية ، والآيات القرآنية ، وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة ، والروايات المقلوبة ، والآراء البدعية ، والأهواء العصبية ، وقتاله مع المسلمين في غزواتهم ، وشهوده جمعهم وجماعاتهم ، ونفعه إياهم ، ودفعه الضرر عنهم مما سواهم ، وتسديده العلماء والحكام ، وتقريره الأدلة والأحكام أفضل مما يقال من كونه في الأمصار ، وجوبه الفيافي والأقطار ، واجتماعه بعباد لا تعرف أحوال كثير منهم ، وجعله كالنقيب المترجم عنهم
وهذا الذي ذكرته لا يتوقف أحد فيه بعد التفهم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، انتهى من البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله تعالى .
فتحصل أن الأحاديث المرفوعة التي تدل على وجود الخضر حيا باقيا لم يثبت منها شيء ، وأنه قد دلت الأدلة المذكورة على وفاته ، كما قدمنا إيضاحه .
وممن بين ضعف الأحاديث الدالة على حياة الخضر وبقائه ابن كثير في تاريخه وتفسيره ، وبين كثيرا من أوجه ضعفها ابن حجر في الإصابة ، وقال ابن كثير في البداية والنهاية بعد أن ساق الأحاديث والحكايات الواردة في حياة الخضر : وهذه الروايات والحكايات هي عمدة من ذهب إلى حياته إلى اليوم ، وكل من الأحاديث المرفوعة ضعيفة جدا ، لا تقوم بمثلها حجة في الدين .
والحكايات لا يخلو أكثرها من ضعف في الإسناد ، وقصاراها أنها صحيحة إلى من ليس بمعصوم من صحابي أو غيره ; لأنه يجوز عليه الخطأ ) والله أعلم ( ، إلى أن قال رحمه الله : وقد تصدى الشيخ أبو الفرج بن الجوزي رحمه الله في كتابه ) عجلة المنتظر في شرح حالة الخضر ( للأحاديث الواردة في ذلك من المرفوعات فبين أنها موضوعات ، ومن الآثار عن الصحابة والتابعين فمن بعدهم ، فبين ضعف أسانيدها ببيان أحوالها ، وجهالة رجالها ، وقد أجاد في ذلك وأحسن الانتقاد ا هـ منه .
واعلم أن جماعة من أهل العلم ناقشوا الأدلة التي ذكرنا أنها تدل على وفاته ، فزعموا أنه لا يشمله عموم وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد [ 21 \ 34 ] ، ولا عموم حديث : " أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لم يبق على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم " كما تقدم ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره رحمه الله تعالى : ولا حجة لمن استدل به يعني الحديث المذكور على بطلان قول من يقول : إن الخضر [ ص: 334 ] حي لعموم قوله " ما من نفس منفوسة . " ; لأن العموم وإن كان مؤكد الاستغراق ليس نصا فيه ، بل هو قابل للتخصيص ، فكما لم يتناول عيسى عليه السلام فإنه لم يمت ولم يقتل ، بل هو حي بنص القرآن ومعناه ، ولا يتناول الدجال مع أنه حي بدليل حديث الجساسة : فكذلك لم يتناول الخضر عليه السلام ، وليس مشاهدا للناس ، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا ، فمثل هذا العموم لا يتناوله ، وقيل : إن أصحاب الكهف أحياء ، ويحجون مع عيسى عليه السلام كما تقدم ، وكذلك فتى موسى في قول ابن عباس كما ذكرنا ا هـ منه .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : كلام القرطبي هذا ظاهر السقوط كما لا يخفى على من له إلمام بعلوم الشرع ، فإنه اعترف بأن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عام في كل نفس منفوسة عموما مؤكدا ; لأن زيادة " من " قبل النكرة في سياق النفي تجعلها نصا صريحا في العموم لا ظاهرا فيه كما هو مقرر في الأصول ، وقد أوضحناه في سورة " المائدة " .
ولو فرضنا صحة ما قاله القرطبي رحمه الله تعالى من أنه ظاهر في العموم لا نص فيه ، وقررنا أنه قابل للتخصيص كما هو الحق في كل عام ، فإن العلماء مجمعون على وجوب استصحاب عموم العام حتى يرد دليل مخصص صالح للتخصيص سندا ومتنا ، فالدعوى المجردة عن دليل من كتاب أو سنة لا يجوز أن يخصص بها نص من كتاب أو سنة إجماعا .
وقولـه : " إن عيسى لم يتناوله عموم الحديث " فيه أن لفظ الحديث من أصله لم يتناوله عيسى ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : " لم يبق على ظهر الأرض ممن هو بها اليوم أحد " ، فخصص ذلك بظهر الأرض فلم يتناول اللفظ من في السماء ، وعيسى قد رفعه الله من الأرض كما صرح بذلك في قوله تعالى : بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وهذا واضح جدا كما ترى .
ودعوى حياة أصحاب الكهف ، وفتى موسى ظاهرة السقوط ولو فرضنا حياتهم فإن الحديث يدل على موتهم عند المائة كما تقدم ، ولم يثبت شيء يعارضه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:44 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (245)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 335 إلى صـ 340
وقولـه " إن الخضر ليس مشاهدا للناس ، ولا ممن يخالطهم حتى يخطر ببالهم حالة مخاطبة بعضهم بعضا " يقال فيه : إن الاعتراض يتوجه عليه من جهتين :
الأولى : أن دعوى كون الخضر محجوبا عن أعين الناس كالجن والملائكة [ ص: 335 ] دعوى لا دليل عليها والأصل خلافها ; لأن الأصل أن بني آدم يرى بعضهم بعضا لاتفاقهم في الصفات النفسية ، ومشابهتهم فيما بينهم .
الثانية : أنا لو فرضنا أنه لا يراه بنو آدم ، فالله الذي أعلم النبي بالغيب الذي هو " هلاك كل نفس منفوسة في تلك المائة " عالم بالخضر ، وبأنه نفس منفوسة ، ولو سلمنا جدليا أن الخضر فرد نادر لا تراه العيون ، وأن مثله لم يقصد بالشمولي في العموم فأصح القولين عند علماء الأصول شمول العام والمطلق للفرد النادر والفرد غير المقصود ، خلافا لمن زعم أن الفرد النادر وغير المقصود لا يشملهما العام ولا المطلق .
قال صاحب جمع الجوامع في " مبحث العام " ما نصه : والصحيح دخول النادرة وغير المقصودة تحته ، فقوله : " النادرة وغير المقصودة " ، يعني الصورة النادرة وغير المقصودة ، وقولـه : " تحته " يعني العام ، والحق أن الصورة النادرة ، وغير المقصودة صورتان واحدة ، وبينهما عموم وخصوص من وجه على التحقيق ; لأن الصورة النادرة قد تكون مقصودة وغير مقصودة ، والصورة غير المقصودة قد تكون نادرة وغير نادرة ، ومن الفروع التي تبنى على دخول الصورة النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما اختلاف العلماء في جواز دفع السبق - بفتحتين - في المسابقة على الفيل ، وإيضاحه أنه جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن والإمام أحمد من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر " ولم يذكر فيه ابن ماجه " أو نصل " والفيل ذو خف ، وهو صورة نادرة ، فعلى القول بدخول الصورة النادرة في العام يجوز دفع السبق - بفتحتين - في المسابقة على الفيلة ، والسبق المذكور هو المال المجعول للسابق ، وهذا الحديث جعله بعض علماء الأصول مثالا لدخول الصورة النادرة في المطلق لا العام ، قال : لأن قوله : " إلا في خف " نكرة في سياق الإثبات ; لأن ما بعد " إلا " مثبت ، والنكرة في سياق الإثبات إطلاق لا عموم ، وجعله بعض أهل الأصول مثالا لدخول الصورة النادرة في العام .
قال الشيخ زكريا : وجه عمومه مع أنه نكرة في الإثبات أنه في حيز الشرط معنى ، إذ التقدير : إلا إذا كان في خف ، والنكرة في سياق الشرط تعم ، وضابط الصورة النادرة عند أهل الأصول هي : أن يكون ذلك الفرد لا يخطر غالبا ببال المتكلم لندرة وقوعه ، ومن أمثلة الاختلاف في الصورة النادرة : هل تدخل في العام والمطلق أو لا ؟ ! اختلاف العلماء في وجوب الغسل من خروج المني الخارج بغير لذة ، كمن تلدغه عقرب في ذكره فينزل منه [ ص: 336 ] المني ، وكذلك الخارج بلذة غير معتادة كالذي ينزل في ماء حار أو تهزه دابة فينزل منه المني ، فنزول المني بغير لذة ، أو بلذة غير معتادة صورة نادرة ، ووجوب الغسل منه يجري على الخلاف المدخول في دخول الصور النادرة في العام والمطلق وعدم دخولها فيهما ، فعلى دخول تلك الصورة النادرة في عموم " إنما الماء من الماء " فالغسل واجب ، وعلى العكس فلا ، ومن أمثلة ذلك في المطلق ما لو أوصى رجل برأس من رقيقه ، فهل يجوز دفع الخنثى أو لا ؟ فعلى دخول الصورة النادرة في المطلق يجوز دفع الخنثى ، وعلى العكس فلا ، ومن أمثلة الاختلاف في دخول الصورة غير المقصودة في الإطلاق ، ما لو وكل رجل آخر على أن يشتري له عبدا ليخدمه ، فاشترى الوكيل عبدا يعتق على الموكل ، فالموكل لم يقصد من يعتق عليه ، وإنما أراد خادما يخدمه ، فعلى دخول الصورة غير المقصودة في المطلق يمضي البيع ويعتق العبد ، وعلى العكس فلا ، وإلى هاتين المسألتين أشار في المراقي بقوله :
هل نادر في ذي العموم يدخل ومطلق أو لا خلاف ينقل
فما لغير لذة والفيل ومشبه فيه تنافي القيل
وما من القصد خلا فيه اختلف وقد يجيء بالمجاز متصف
وممن مال إلى عدم دخول الصور النادرة وغير المقصودة في العام والمطلق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر رجحانه بحسب المقرر في الأصول شمول العام والمطلق للصور النادرة ; لأن العام ظاهر في عمومه حتى يرد دليل مخصص من كتاب أو سنة ، وإذا تقرر أن العام ظاهر في عمومه وشموله لجميع الأفراد فحكم الظاهر أنه لا يعدل عنه ، بل يجب العمل به إلا بدليل يصلح للتخصيص ، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون بشمول العمومات من غير توقف في ذلك ، وبذلك تعلم أن دخول الخضر في عموم قوله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد الآية [ 21 \ 34 ] ، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد " هو الصحيح ، ولا يمكن خروجه من تلك العمومات إلا بمخصص صالح للتخصيص .
ومما يوضح ذلك : أن الخنثى صورة نادرة جدا ، مع أنه داخل في عموم آيات المواريث والقصاص والعتق ، وغير ذلك من عمومات أدلة الشرع ، وما ذكره القرطبي من [ ص: 337 ] خروج الدجال من تلك العمومات بدليل حديث الجساسة لا دليل فيه ; لأن الدجال أخرجه دليل صالح للتخصيص ، وهو الحديث الذي أشار له القرطبي ، وهو حديث ثابت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إنه حدثه به تميم الداري ، وأنه أعجبه حديث تميم المذكور ; لأنه وافق ما كان يحدث به أصحابه من خبر الدجال ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، وحجاج بن الشاعر كلاهما عن عبد الصمد واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد ، حدثنا أبي عن جدي عن الحسين بن ذكوان ، حدثنا ابن بريدة حدثني عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان ، أنه سأل فاطمة بنت قيس وكانت من المهاجرات الأول فقال : حدثيني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره ، فقالت لئن شئت لأفعلن ؟ فقال لها : أجل ؟ حدثيني ، فقالت : . . . ثم ساق الحديث وفيه طول ، ومحل الشاهد منه قول تميم الداري : فانطلقنا سراعا حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقا ، وأشده وثاقا ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد ، قلنا : ويلك ! ما لك ؟ ! الحديث بطوله إلى قوله وإني مخبركم عني ، إني أنا المسيح ، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الأرض ، فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة ، فهما محرمتان على كلتاهما ، الحديث .
فهذا نص صحيح صريح في أن الدجال حي موجود في تلك الجزيرة البحرية المذكورة في حديث تميم الداري المذكور ، وإنه باق وهو حي حتى يخرج في آخر الزمان ، وهذا نص صالح للتخصيص يخرج الدجال من عموم حديث موت كل نفس في تلك المائة ، والقاعدة المقررة في الأصول : أن العموم يجب إبقاؤه على عمومه ، فما أخرجه نص مخصص خرج من العموم وبقي العام حجة في بقية الأفراد التي لم يدل على إخراجها دليل ، كما قدمناه مرارا وهو الحق ومذهب الجمهور ، وهو غالب ما في الكتاب والسنة من العمومات يخرج منها بعض الأفراد بنص مخصص ، ويبقى العام حجة في الباقي ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود في مبحث التخصيص بقوله :
وهو حجة لدى الأكثر إن مخصص له معينا يبن
وبهذا كله يتبين أن النصوص الدالة على موت كل إنسان على وجه الأرض في ظرف تلك المائة ، ونفي الخلد عن كل بشر قبله تتناول بظواهرها الخضر ، ولم يخرج منها نص [ ص: 338 ] صالح للتخصيص كما رأيت ، والعلم عند الله تعالى .
واعلم أن العلماء اختلفوا اختلافا كثيرا في نسب الخضر ، فقيل : هو ابن آدم لصلبه ، وقال ابن حجر في الإصابة : وهذا قول رواه الدارقطني في الأفراد من طريق رواد بن الجراح عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس ، ورواد ضعيف ، ومقاتل متروك ، والضحاك لم يسمع من ابن عباس ، وقيل : إنه ابن قابيل بن آدم قال ابن حجر : ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين ، ثم ساق سنده وقال : هو معضل وحكى صاحب هذا القول : أنه اسمه خضرون وهو الخضر ، وقيل : اسمه عامر ، ذكره أبو الخطاب بن دحية عن ابن حبيب البغدادي ، وقيل : إن اسمه بليام بن ملكان بن فالغ بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح ، ذكر هذا القول ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه ، قاله ابن كثير ، وغيره ، وقيل : إن اسمه المعمر بن مالك بن عبد الله بن نصر بن الأزد ، وهذا قول إسماعيل بن أبي أويس ، نقله عنه ابن كثير وغيرهما .
وقيل : خضرون بن عمائيل من ذرية العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل : وهذا القول حكاه ابن قتيبة أيضا ذكره عنه ابن حجر ، وقيل : إنه من سبط هارون أخي موسى ، وروي ذلك عن الكلبي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن ابن عباس ، ذكره ابن حجر أيضا ثم قال : وهو بعيد ، وأعجب منه قول ابن إسحاق : إنه أرميا بن حلقيا ، وقد رد ذلك أبو جعفر بن جرير ، وقيل : إنه ابن بنت فرعون ، حكاه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة .
وقيل : ابن فرعون لصلبه ، حكاه النقاش ، وقيل : إنه اليسع ، حكي عن مقاتل ، وقال ابن حجر : إنه بعيد ، وقيل : إنه من ولد فارس ، قال ابن حجر : جاء ذلك عن ابن شوذب ، أخرجه الطبري بسند جيد من رواية ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب ، وقيل : إنه من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل ، حكاه ابن جرير الطبري في تاريخه ، وقيل : كان أبوه فارسيا ، وأمه رومية ، وقيل عكس ذلك ا هـ ، والله أعلم بحقيقة الواقع ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة أنه قال : إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء ، فإذا هي تهتز من خلفه خضراء ، والفروة البيضاء : ما على وجه الأرض من الحشيش الأبيض وشبهه من الهشيم ، وقيل ، الفروة : الأرض البيضاء التي لا نبات فيها ، وقيل : هي الهشيم اليابس .
ومن ذلك القبيل تسمية جلدة الرأس فروة ، كما قدمنا في سورة " البقرة " في قول الشاعر :
[ ص: 339 ]
دنس الثياب كأن فروة رأسه غرست فأنبت جانباها فلفلا
قوله تعالى : فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه
، هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون : بأن المجاز في القرآن زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة ، وإنما هي مجاز ، وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة ; لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ، فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها هو جل وعلا ونحن لا نعلمها ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن والسنة .
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله الآية [ 2 \ 74 ] ، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك ; لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه ، وقولـه تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان الآية [ 33 \ 72 ] ، فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت ، أي : خافت ، دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه .
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي بمكة " وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعا لفراقه ، فتسليم ذلك الحجر ، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه ، كما صرح بمثله في قوله : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ، وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها ، وإنما هي ضرب أمثال ، زعم باطل ; لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وأمثال هذا كثيرة جدا ، وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض ، وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة ، وهذا واضح جدا كما ترى ، مع أنه من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء ، كما في قول الشاعر :
[ ص: 340 ]
في مهمه قلقت به هامتها قلق الفئوس إذا أردن نضولا
فقوله : إذا أردن نضولا ، أي قاربنه . وقول الآخر :
يريد الرمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل
أي : يميل إلى صدر أبي براء ، وكقول راعي نمير :
إن دهرا يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان
فقوله " لزمان يهم بالإحسان فيه ، وقد بينا في رسالتنا المسماة ) منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ( أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز أن ذلك لا يتعين في شيء منها ، وبينا أدلة ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا
، ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة ، صحيحة كانت أو معيبة ، ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة ، وهي قوله : فأردت أن أعيبها [ 18 \ 79 ] ، أي : لئلا يأخذها ، وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله : حتى إذا ركبا في السفينة خرقها [ 18 \ 71 ] ، ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب ; لأن عيبها يزهده فيها ; ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالا عند علماء العربية لحذف النعت ، أي : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة بدليل ما ذكرنا .
وقد قدمنا الشواهد العربية على ذلك في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا الآية [ 17 \ 58 ] ، واسم ذلك الملك : هدد بن بدر : وقوله " وراءهم " أي : أمامهم كما تقدم في سورة " إبراهيم " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:44 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (246)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 341 إلى صـ 346
قوله تعالى : حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة
، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم " حمئة " بلا ألف بعد الحاء ، وبهمزة مفتوحة بعد الميم المكسورة ، وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم " حامية " بألف بعد الحاء ، وياء مفتوحة بعد الميم المكسورة على صيغة اسم الفاعل ، فعلى القراءة الأولى فمعنى " حمئة " : ذات حمأة وهي الطين الأسود ، ويدل لهذا التفسير قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون [ 15 \ 26 ] ، [ ص: 341 ] والحمأ : الطين كما تقدم ، ومن هذا المعنى قول تبع الحميري فيما يؤثر عنه يمدح ذا القرنين :
بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها
في عين ذي خلب وثأط حرمد
والخلب - في لغة حمير - : الطين ، والثأط : الحمأة ، والحرمد : الأسود ، وعلى قراءة " حامية " بصيغة اسم الفاعل ، فالمعنى : أنها حارة ، وذلك لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها ، وملاقاتها الشعاع بلا حائل ، ولا منافاة بين القراءتين وكلتاهما حق ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : وجدها تغرب في عين حمئة [ 18 \ 86 ] ، أي : رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه إلى آخر كلامه ، ومقتضى كلامه أن المراد بالعين في الآية البحر المحيط ، وهو ذو طين أسود ، والعين تطلق في اللغة على ينبوع الماء ، والينبوع : الماء الكثير ، فاسم العين يصدق على البحر لغة ، وكون من على شاطئ المحيط الغربي يرى الشمس في نظر عينه تسقط في البحر أمر معروف ، وعلى هذا التفسير فلا إشكال في الآية ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا
اعلم أولا أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أنه إن كان لبعض الآيات بيان من القرآن لا يفي بإيضاح المقصود وقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نتمم بيانه بذكر السنة المبينة له ، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هاتين الآيتين لهما بيان من كتاب أوضحته السنة ، فصار بضميمة السنة إلى القرآن بيانا وافيا بالمقصود ، والله جل وعلا قال في كتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ 16 \ 44 ] ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة ، وآية الأنبياء قد دلتا في الجملة على أن السد الذي بناه ذو القرنين دون يأجوج ومأجوج إنما يجعله الله دكا عند مجيء الوقت الموعود بذلك فيه ، وقد دلتا على أنه بقرب يوم القيامة ; لأنه قال هنا : فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور الآية [ 18 \ 98 - 99 ] ، وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة [ ص: 342 ] التي عوض عنها تنوين " يومئذ " من قوله : وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ، أنه يوم إذ جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض ، ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم ، وإذا تقرر أن معنى " يومئذ " يوم إذ جاء الوعد بخروجهم وانتشارهم فاعلم أن الضمير في قوله : وتركنا بعضهم على القول بأنه لجميع بني آدم فالمراد يوم القيامة ، وإذا فقد دلت الآية على اقترانه بالخروج إذا دك السد ، وقربه منه ، وعلى القول بأن الضمير راجع إلى يأجوج ومأجوج ، فقوله بعده ونفخ في الصور يدل في الجملة على أنه قريب منه ، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية قال هذا رحمة من ربي ، هو إشارة إلى السد ، أي : هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده ، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته فإذا جاء وعد ربي يعني فإذا دنا مجيء يوم القيامة ، وشارف أن يأتي جعل السد دكا ، أي : مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض ، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك ، ومنه الجمل الأدك المنبسط السنام ا هـ .
وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا الآية [ 21 \ 96 - 97 ] ; لأن قوله : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وإتباعه لذلك بقوله : واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا ، يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها ، وذلك يدل على بطلان قول من قال : إنهم روسية ، وأن السد فتح منذ زمان طويل ، فإذا قيل : إنما تدل الآيات المذكورة في " الكهف " و " الأنبياء " على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد واقترابه من يوم القيامة لا ينافي كونه قد وقع بالفعل ، كما قال تعالى : اقترب للناس حسابهم الآية [ 21 \ 1 ] ، وقال : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ويل للعرب ، من شر قد اقترب ، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها . " الحديث ، وقد قدمنا في سورة " المائدة " ، فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به ، بل يصح اقترابه مع مهلة ، وإذا فلا ينافي دك السد الماضي المزعوم الاقتراب من يوم القيامة ، فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن .
[ ص: 343 ] فالجواب : هو ما قدمنا أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافيا بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له ، ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة ; لأنها مبينة للقرآن ، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص ، حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي : أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي ) ح ( وحدثني محمد بن مهران الرازي ) واللفظ له ( ، حدثني الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه جبير بن نفير ، عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال : " ما شأنكم " ؟ قلنا : يا رسول الله ، ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت ، حتى ظنناه في طائفة النخل ؟ فقال : " غير الدجال أخوفني عليكم ! إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، إنه شاب قطط ، عينه طافئة ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة " الكهف " إنه خارج خلة بين الشام والعراق ، فعاث يمينا وعاث شمالا ، " يا عباد الله فاثبتوا " قلنا : يا رسول الله ، وما لبثه في الأرض ؟ قال : " أربعون يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم " قلنا : يا رسول الله ، فذلك اليوم الذي كسنة ، أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : " لا ، اقدروا له قدره " قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض ؟ قال : " كالغيث استدبرته الريح " ، فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له : فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرا وأسبغه ضروعا ، وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله : فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك ، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ، ثم يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعون فيقبل ويتهلل وجهه يضحك ، فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ، واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ، فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لده فيقتله ، ثم يأتي عيسى ابن [ ص: 344 ] مريم قوم قد عصمهم الله منه ، فيمسح عن وجوههم ، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرا من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم ، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض : أنبتي ثمرتك ، وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ، ويستظلون بقحفها ، يبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة " انتهى بلفظه من صحيح مسلم رحمه الله تعالى .
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم : بأن الله يوحي إلى عيسى ابن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال ، فمن يدعي أنهم روسية ، وأن السد قد اندك منذ زمان فهو مخالف لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها ، ولا شك أن كل خبر ناقض خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو باطل ; لأن نقيض الخبر الصادق كاذب ضرورة كما هو معلوم ، ولم يثبت في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده ، ووضوح دلالته على المقصود .
والعمدة في الحقيقة لمن ادعى أن يأجوج ومأجوج هم روسية ، ومن ادعى من الملحدين أنهم لا وجود لهم أصلا هي حجة عقلية في زعم صاحبها ، وهي بحسب المقرر في الجدل قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية في زعم المستدل به يستثنى فيه نقيض التالي ، فينتج نقيض المقدم ، وصورة نظمه أن يقول : لو كان يأجوج ومأجوج وراء السد إلى الآن ، لاطلع عليهم الناس لتطور طرق المواصلات ، لكنهم لم [ ص: 345 ] يطلع عليهم أحد ينتج فهم ليسوا وراء السد إلى الآن ; لأن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم كما هو معلوم ، وبعبارة أوضح لغير المنطقي ; لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم هذا هو عمدة حجة المنكرين وجودهم إلى الآن وراء السد ، ومن المعلوم أن القياس الاستثنائي المعروف بالشرطي ، إذا كان مركبا من شرطية متصلة واستثنائية ، فإنه يتوجه عليه القدح من ثلاث وجهات :
الأولى : أن يقدح فيه من جهة شرطيته ، لكون الربط بين المقدم والتالي ليس صحيحا .
الثانية : أن يقدح فيه من جهة استثنائيته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:45 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (247)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 347 إلى صـ 352
الثالثة : أن يقدح فيه من جهتهما معا ، وهذا القياس المزعوم يقدح فيه من جهة شرطيته فيقول للمعترض : الربط فيه بين المقدم والتالي غير صحيح ، فقولكم : لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لاطلع عليهم الناس غير صحيح ، لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس ، ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره الله تعالى في سورة " المائدة " من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة ، وذلك في قوله تعالى : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض الآية [ 5 \ 26 ] ، وهم في فراسخ قليلة من الأرض ، يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه ، لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق ، وعلى كل حال ، فربك فعال لما يريد ، وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة ، وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة ، زاعمين أنه منزل في التوراة أو غيره من الكتب السماوية باطل يقينا لا يعول علينا ; لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم ، كقوله : يحرفون الكلم عن مواضعه [ 5 \ 13 ] ، وقولـه : تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا [ 6 \ 91 ] ، وقولـه : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون [ 2 \ 79 ] ، وقولـه تعالى : وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون [ 3 \ 78 ] ، [ ص: 346 ] إلى غير ذلك من الآيات بخلاف هذا القرآن العظيم ، فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه ، ولم يكلمه أحد حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف ، كما قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، وقال : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 - 17 ] ، وقال : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه [ 41 \ 42 ] ، وقال في النبي صلى الله عليه وسلم : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل ، ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم ، خوف أن يصدقوا بباطل ، أو يكذبوا بحق .
ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات : في واحدة منها يجب تصديقه ، وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه ، وفي واحدة يجب تكذيبه ، وهي ما إذا دل القرآن أو السنة أيضا على كذبه ، وفي الثالثة لا يجوز التكذيب ولا التصديق ، كما في الحديث المشار إليه آنفا : وهي ما إذا لم يثبت في كتاب ولا سنة صدقه ولا كذبه ، وبهذا التحقيق تعلم أن القصص المخالفة للقرآن والسنة الصحيحة التي توجه بأيدي بعضهم ، زاعمين أنها في الكتب المنزلة يجب تكذيبهم فيها لمخالفتها نصوص الوحي الصحيح ، التي لم تحرف ولم تبدل ، والعلم عند الله تعالى .
وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : جعله دكاء ، قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو " دكا " بالتنوين مصدر دكه ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي جعله دكاء ، بألف التأنيث الممدودة تأنيث الأدك ، ومعنى القراءتين راجع إلى شيء واحد ، وقد قدمنا إيضاحه .
قوله تعالى : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا .
قوله : وعرضنا أي : أبرزنا وأظهرنا جهنم يومئذ ، أي : يوم إذ جمعناهم جمعا ، كما دل على ذلك قوله قبله : ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا [ 18 \ 99 ] ، وقال بعض العلماء : اللام في قوله " للكافرين " بمعنى على ، أي : عرضنا جهنم على الكافرين ، وهذا يشهد له القرآن في آيات متعددة ; لأن العرض في القرآن يتعدى بعلى لا باللام ، كقوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار [ 46 \ 20 ] ، وقولـه : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 46 ] ، وقولـه تعالى : وعرضوا على ربك صفا [ 18 \ 48 ] ، [ ص: 347 ] ونظيره في كلام العرب من إتيان اللام بمعنى " على " البيت الذي قدمناه في أول سورة " هود " ، وقدمنا الاختلاف في قائله ، وهو قوله :
هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم
أي خر صريعا على اليدين .
وقد علم من هذه الآيات : أن النار تعرض عليهم ويعرضون عليها ; لأنها تقرب إليهم ويقربون إليها ، كما قال تعالى في عرضها عليهم هنا : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا [ 18 \ 100 ] ، وقال في عرضهم عليها : ويوم يعرض الذين كفروا على النار الآية [ 46 \ 34 ] ، ونحوها من الآيات ، وقد بينا شيئا من صفات عرضهم دلت عليه آيات أخر من كتاب الله في الكلام على قوله تعالى وعرضوا على ربك صفا [ 18 \ 48 ] ، وقول من قال : إن قوله هنا : وعرضنا جهنم الآية [ 18 \ 100 ] فيه قلب ، وأن المعنى : وعرضنا الكافرين لجهنم أي : عليها بعيد كما أوضحه أبو حيان في البحر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا .
التحقيق في قوله : الذين كانت أعينهم ، أنه في محل خفص نعتا للكافرين ، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من صفات الكافرين الذين تعرض لهم جهنم يوم القيامة أنهم كانت أعينهم في دار الدنيا في غطاء عن ذكره تعالى ، وكانوا لا يستطيعون سمعا ، وقد بين هذا من صفاتهم في آيات كثيرة ، كقوله في تغطية أعينهم : وعلى أبصارهم غشاوة الآية [ 2 \ 7 ] ، وقولـه : وجعل على بصره غشاوة الآية [ 45 \ 23 ] ، وقولـه : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى [ 13 \ 19 ] ، وقولـه : وما يستوي الأعمى والبصير الآية [ 35 \ 19 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقال في عدم استطاعتهم السمع : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقال : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، وقد بينا معنى كونهم لا يستطيعون السمع في أول سورة " هود " في الكلام على قوله تعالى : يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] ، فأغنى عن إعادته هنا ، وقد بينا أيضا طرفا من ذلك في الكلام على قوله تعالى في هذه السورة الكريمة : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، [ ص: 348 ] وقد بين تعالى في موضع آخر : أن الغطاء المذكور الذي يعشو بسببه البصر عن ذكره تعالى يقيض الله لصاحبه شيطانا فيجعله له قرينا ، وذلك في قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين الآية [ 43 \ 36 ] .
قوله تعالى : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا .
الهمزة في قوله تعالى : أفحسب للإنكار والتوبيخ ، وفي الآية حذف دل المقام عليه ، قال بعض العلماء : تقدير المحذوف هو : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ، ولا أعاقبهم العقاب الشديد ! كلا ! بل سأعاقبهم على ذلك العقاب الشديد ، بدليل قوله تعالى بعده : إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا [ 18 \ 102 ] ، وقال بعض العلماء : تقديره : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء وأن ذلك ينفعهم ، كلا لا ينفعهم بل يضرهم ، ويدل لهذا قوله تعالى عنهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ 39 \ 3 ] ، وقولـه عنهم : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [ 10 \ 18 ] ، ثم إنه تعالى بين بطلان ذلك بقوله : قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] ، وما أنكره عليهم هنا من ظنهم أنهم يتخذون من دونه أولياء من عباده ولا يعاقبهم ، أو أن ذلك ينفعهم جاء مبينا في مواضع ، كقوله في أول سورة " الأعراف " : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [ 7 \ 3 ] ، فقد نهاهم عن اتباع الأولياء من دونه في هذه الآية ; لأنه يضرهم ولا ينفعهم ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن من الأدلة على أنه لا ولي من دون الله لأحد ، وإنما الموالاة في الله ، كقوله : أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي الآية [ 18 \ 26 ] ، وقولـه : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون [ 11 \ 113 ] ، وقولـه : ومن يضلل الله فما له من ولي الآية [ 42 \ 44 ] ، وقولـه : وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي الآية [ 6 \ 51 ] ، وقولـه : وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ، ونحو ذلك من الآيات ، وسيأتي له قريبا إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح وأمثلة .
والأظهر المتبادر من الإضافة في قوله : " عبادي " أن المراد بهم نحو الملائكة [ ص: 349 ] وعيسى وعزير ، لا الشياطين ونحوهم ; لأن مثل هذه الإضافة للتشريف غالبا ، وقد بين تعالى : أنهم لا يكونون أولياء لهم في قوله : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم الآية [ 34 \ 40 - 41 ] ، وقولـه : إنا أعتدنا [ 18 \ 102 ] ، قد أوضحنا معناه في قوله تعالى : إنا أعتدنا للظالمين نارا الآية [ 18 \ 29 ] ، فأغنى عن إعادته هنا ، وفي قوله : نزلا أوجه من التفسير للعلماء ، أظهرها : أن " النزل " هو ما يقدم للضيف عند نزوله ، والقادم عند قدومه ، والمعنى : أن الذي يهيأ لهم من الإكرام عند قدومهم إلى ربهم هو جهنم المعدة لهم ، كقوله : فبشرهم بعذاب أليم [ 84 \ 24 ] ، وقولـه : يغاثوا بماء كالمهل [ 18 \ 29 ] ، وقد قدمنا شواهده العربية في الكلام على قوله تعالى ، يغاثوا بماء كالمهل ; لأن ذلك الماء الذي يشوي الوجوه ليس فيه إغاثة ، كما أن جهنم ليست نزل إكرام الضيف أو قادم .
الوجه الثاني : أن " نزلا " بمعنى المنزل ، أي : أعتدنا جهنم للكافرين منزلا ، أي : مكان نزول ، لا منزل لهم غيرها ، وأضعف الأوجه ما زعمه بعضهم من أن " النزل " جمع نازل ، كجمع الشارف على شرف بضمتين ، والذي يظهر في إعراب " نزلا " أنه حال مؤولة بمعنى المشتق ، أو مفعول لـ " أعتدنا " بتضمينه معنى صيرنا أو جعلنا ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .
المعنى : قل لهم يا نبي الله : هل ننبئكم ، أي : نخبركم بالأخسرين أعمالا ، أي : بالذين هم أخسر الناس أعمالا وأضيعها ، فالأخسر صيغة تفضيل من الخسران وأصله نقص مال التاجر ، والمراد به في القرآن غبنهم بسبب كفرهم ومعاصيهم في حظوظهم مما عند الله لو أطاعوه ، وقولـه : أعمالا منصوب على التمييز :
فإن قيل : نبئنا بالأخسرين أعمالا من هم ؟
كان الجواب : هم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وبه تعلم أن " الذين " من قوله : الذين ضل سعيهم [ 18 \ 104 ] ، خبر مبتدأ محذوف جوابا للسؤال المفهوم من المقام ، ويجوز نصبه على الذم ، وجره على أنه بدل من الأخسرين ، أو نعت له ، وقوله : ضل سعيهم ، أي : بطل عملهم وحبط ، فصار كالهباء وكالسراب وكالرماد ! كما في قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، [ ص: 350 ] وقولـه : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة الآية [ 24 \ 39 ] ، وقولـه : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] ، ومع هذا فهم يعتقدون أن عملهم حسن مقبول عند الله .
والتحقيق : أن الآية نازلة في الكفار الذين يعتقدون أن كفرهم صواب وحق ، وأن فيه رضا ربهم ، كما قال عن عبدة الأوثان : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ 39 \ 3 ] ، وقال عنهم : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله [ 10 \ 18 ] ، وقال عن الرهبان الذين يتقربون إلى الله على غير شرع صحيح : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية الآية [ 88 \ 2 - 4 ] ، على القول فيها بذلك ، وقولـه تعالى في الكفار : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 \ 30 ] ، وقولـه : وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] ، والدليل على نزولها في الكفار تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه : أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم الآية [ 18 \ 105 ] ، فقول من قال : إنهم الكفار ، وقول من قال : إنهم الرهبان ، وقول من قال : إنهم أهل الكتاب الكافرون بالنبي صلى الله عليه وسلم كل ذلك تشمله هذه الآية ، وقد روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأله ابنه مصعب عن " الأخسرين أعمالا " في هذه الآية هل هم الحرورية ؟ فقال لا ، هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة ، وقالوا لا طعام فيها ، ولا شراب ، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، وكان سعيد يسميهم الفاسقين ، ا هـ من البخاري ، وما روي عن علي رضي الله عنه من أنهم أهل حروراء المعروفون بالحروريين معناه أنهم يكون فيهم من معنى الآية بقدر ما فعلوا ; لأنهم يرتكبون أمورا شنيعة من الضلال ، ويعتقدون أنها هي معنى الكتاب والسنة ، فقد ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وإن كانوا في ذلك أقل من الكفار المجاهرين ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب كما قد قدمنا إيضاحه وأدلته .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : الذين ضل سعيهم [ 18 \ 104 ] ، أي : بطل واضمحل ، وقد قدمنا أن الضلال يطلق في القرآن واللغة العربية ثلاثة إطلاقات :
الأول : الضلال بمعنى الذهاب عن طريق الحق إلى طريق الباطل ، كالذهاب عن [ ص: 351 ] الإسلام إلى الكفر ، وهذا أكثر استعمالاته في القرآن ، ومنه قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] ، وقولـه : ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل 5 [ 5 \ 77 ] .
الثاني : الضلال بمعنى الهلاك والغيبة والاضمحلال ، ومنه قول العرب : ضل السمن في الطعام إذا استهلك فيه وغاب فيه ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 6 \ 24 ] ، أي : غاب واضمحل ، وقولـه هنا : الذين ضل سعيهم [ 18 \ 104 ] ، أي : بطل واضمحل ، وقول الشاعر :
ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا
أي : عن الحي الذي غاب واضمحل ، ومن هنا سمي الدفن إضلالا ; لأن مآل الميت المدفون إلى أن تختلط عظامه بالأرض ، فيضل فيها كما يضل السمن في الطعام ، ومن إطلاق الضلال على الدفن قول نابغة ذبيان :
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل
فقوله " مضلوه " يعني دافنيه في قبره ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد الآية [ 32 \ 10 ] ، فمعنى ضللنا في الأرض أنهم اختلطت عظامهم الرميم بها فغابت واستهلكت فيها .
الثالث : الضلال بمعنى الذهاب عن علم حقيقة الأمر المطابقة للواقع ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] ، أي : ذاهبا عما تعلمه الآن من العلوم والمعارف التي لا تعرف إلا بالوحي فهداك إلى تلك العلوم والمعارف بالوحي ، وحدد هذا المعنى قوله تعالى عن أولاد يعقوب : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] ، أي : ذهابك عن العلم بحقيقة أمر يوسف ، ومن أجل ذلك تطمع في رجوعه إليك ; وذلك لا طمع فيه على أظهر التفسيرات ، وقولـه تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما [ 2 \ 282 ] ، أي : تذهب عن حقيقة علم المشهود به بنسيان أو نحوه ، بدليل قوله : فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] ، وقولـه تعالى : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :
[ ص: 352 ]
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
فقوله " أراها في الضلال " : أي : الذهاب عن علم حقيقة الأمر حيث تظنني أبغي بها بدلا ، والواقع بخلاف ذلك .
وقولـه في هذه الآية : وهم يحسبون ، أي : يظنون ، وقرأه بعض السبعة بكسر السين ، وبعضهم بفتحها كما قدمنا مرارا في جميع القرآن ، ومفعولا " حسب " هما المبتدأ والخبر اللذان عملت فيهما " أن " والأصل ويحسبون أنفسهم محسنين صنعهم ، وقولـه " صنعا " أي : عملا وبين قوله " يحسبون ، ويحسنون " الجناس المسمى عند أهل البديع " تجنيس التصحيف " وهو أن يكون النقط فرقا بين الكلمتين ، كقول البحتري :
ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ليعجز والمعتز بالله طالبه
فبين " المغتر والمعتز " الجناس المذكور .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم الآية [ 18 \ 105 ] ، نص في أن الكفر بآيات الله ولقائه يحبط العمل ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا ، كقوله تعالى في " العنكبوت " والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم [ 29 \ 23 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وسيأتي بعض أمثلة لذلك قريبا إن شاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:46 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (248)
سُورَةُ الْكَهْفِ
صـ 353 إلى صـ 358
وقولـه في هذه الآية الكريمة : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا [ 18 \ 105 ] ، فيه للعلماء أوجه :
أحدها : أن المعنى أنهم ليس لهم حسنات توزن في الكفة الأخرى في مقابلة سيئاتهم ، بل لم يكن إلا السيئات ، ومن كان كذلك فهو في النار ، كما قال تعالى : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ، [ 23 \ 103 - 104 ] ، وقال : والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم الآية [ 7 \ 8 - 9 ] ، وقال : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما نار حامية [ 101 \ 8 - 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقال بعض أهل العلم : معنى [ ص: 353 ] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا : أنهم لا قدر لهم عند الله لحقارتهم ، وهو أنهم بسبب كفرهم ، وذلك كقوله عنهم : سيدخلون جهنم داخرين [ 40 \ 60 ] ، أي : صاغرين أذلاء حقيرين ، وقولـه : قل نعم وأنتم داخرون [ 37 \ 18 ] ، وقولـه : قال اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هوانهم وصغارهم وحقارتهم .
وقد دلت السنة الصحيحة على أن معنى الآية يدخل فيه الكافر السمين العظيم البدن ، لا يزن عند الله يوم القيامة جناح بعوضة ، قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا المغيرة بن عبد الرحمن ، حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرءوا فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا " وعن يحيى بن بكير ، عن المغيرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الزناد مثله ا هـ ، من البخاري .
وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في صحيحه ، وهو يدل على أن نفس الكافر العظيم السمين لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وفيه دلالة على وزن الأشخاص ، وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره هذه الآية بعد أن أشار إلى حديث أبي هريرة المذكور ما نصه : وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه ، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم ، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية ، المبتغى به الترفه والسمن ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين " ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيركم قرني ثم الذين يلونهم قال عمران ، فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمن " وهذا ذم ، وسبب ذلك : أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره والدعة والراحة والأمن ، والاسترسال مع النفس على شهواتها ، فهو عبد نفسه لا عبد ربه ، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام ، وكل لحم تولد من سحت فالنار أولى به ، وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [ 47 \ 12 ] ، فإذا كان المؤمن يتشبه بهم ، ويتنعم تنعمهم في كل أحواله وأزمانه ، فأين حقيقة الإيمان والقيام بوظائف الإسلام ، ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه ، وزاد [ ص: 354 ] بالليل كسله ونومه ، فكان نهاره هائما ، وليله نائما ا هـ ، محل الغرض من كلام القرطبي ، وما تضمنه كلامه من الجزم بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يبغض الحبر السمين " فيه نظر ; لأنه لم يصح مرفوعا ، وقد حسنه البيهقي من كلام كعب ، وما ذكر من ذم كثرة الأكل والشرب والسمن المكتسب ظاهر وأدلته كثيرة " وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه " .
قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا
، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الأعمال الصالحة والإيمان سبب في نيل جنات الفردوس ، والآيات الموضحة لكون العمل الصالح سببا في دخول الجنة كثيرة جدا ، كقوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] ، وقولـه : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] ، أي : بسببه ، وقولـه تعالى : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون [ 43 \ 72 ] ، وقولـه تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب الآية [ 19 \ 60 - 61 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
فإن قيل هذه الآيات فيها الدلالة على أن طاعة الله بالإيمان والعمل الصالح سبب في دخول الجنة ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " لن يدخل أحدكم عمله الجنة " قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " ، يرد بسببه إشكال على ذلك .
فالجواب : أن العمل لا يكون سببا لدخول الجنة إلا إذا تقبله الله تعالى ، وتقبله له فضل منه ، فالفعل الذي هو سبب لدخول الجنة هو الذي تقبله الله بفضله ، وغيره من الأعمال لا يكون سببا لدخول الجنة ، وللجمع بين الحديث والآيات المذكورة أوجه أخر ، هذا أظهرها عندي ، والعلم عند الله تعالى .
وقد قدمنا أن " النزل " ، هو ما يهيأ من الإكرام للضيف أو القادم .
قوله تعالى : خالدين فيها لا يبغون عنها حولا .
أي : خالدين في جنات الفردوس لا يبغون عنها حولا ، أي : تحولا إلى منزل آخر ; لأنها لا يوجد منزل أحسن منها يرغب في التحول إليه عنها ، بل هم خالدون فيها [ ص: 355 ] دائما من غير تحول ولا انتقال ، وهذا المعنى المذكور هنا جاء موضحا في مواضع أخر ، كقوله : الذي أحلنا دار المقامة [ 35 \ 35 ] ، أي : الإقامة أبدا ، وقولـه : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا ، [ 18 \ 2 - 3 ] ، وقولـه : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقولـه : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على دوامهم فيها ، ودوام نعيمها لهم ، والحول : اسم مصدر بمعنى التحول .
قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يقول لو كان البحر مدادا لكلمات ربي [ 18 \ 109 ] ، أي : لو كان ماء البحر مدادا للأقلام التي تكتب بها كلمات الله " لنفد البحر " أي : فرغ وانتهى قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ، أي : ببحر آخر مثله مددا ، أي : زيادة عليه ، وقوله " مددا " منصوب على التمييز ، ويصح إعرابه حالا ، وقد زاد هذا المعنى إيضاحا في سورة " لقمان " في قوله تعالى : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله [ 31 \ 27 ] ، وقد دلت هذه الآيات على أن كلماته تعالى لا نفاد لها سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
قوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد
، أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس : إنما أنا بشر مثلكم [ 18 \ 110 ] ، أي : لا أقول لكم إني ملك ولا غير بشر ، بل أنا بشر مثلكم ، أي : بشر من جنس البشر ، إلا أن الله تعالى فضلني وخصني بما أوحى إلي من توحيده وشرعه ، وقوله هنا يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد [ 18 \ 110 ] ، أي : فوحدوه ولا تشركوا به غيره ، وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية ، أوضحه في مواضع أخر ، كقوله في أول " فصلت " : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [ 41 \ 7 - 8 ] ، وقولـه تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ 17 \ 93 ] ، وقولـه : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي الآية [ 6 \ 50 ] ، [ ص: 356 ] وهذا الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية من أنه يقول للناس أنه بشر ، ولكن الله فضله على غيره بما أوحى إليه من وحيه جاء مثله عن الرسل غيره صلوات الله وسلامه عليهم في قوله تعالى : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده الآية [ 14 \ 11 ] ، فكون الرسل مثل البشر من حيث إن أصل الجميع وعنصرهم واحد ، وأنهم تجري على جميعهم الأعراض البشرية لا ينافي تفضيلهم على سائر البشر بما خصهم الله به من وحيه واصطفائه وتفضيله كما هو ضروري .
وقال بعض أهل العلم : معنى هذه الآية قل يا محمد للمشركين : إنما أنا بشر مثلكم ، فمن زعم منكم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به ، فإنني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به عما سألتم عنه من أخبار الماضين كقصة أصحاب الكهف ، وخبر ذي القرنين ، وهذا له اتجاه والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .
قوله في هذه الآية : فمن كان يرجوا لقاء ربه [ 18 \ 110 ] ، يشمل كونه يأمل ثوابه ، ورؤية وجهه الكريم يوم القيامة ، وكونه يخشى عقابه ، أي : فمن كان راجيا من ربه يوم يلقاه الثواب الجزيل والسلامة من الشر فليعمل عملا صالحا .
وقد قدمنا إيضاح العمل الصالح وغير الصالح في أول هذه السورة الكريمة وغيرها ، فأغنى عن إعادته هنا .
وقولـه : ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، قال جماعة من أهل العلم ، أي : لا يرائي الناس في عمله ; لأن العمل بعبادة الله لأجل رياء الناس من نوع الشرك ، كما هو معروف عند العلماء أن الرياء من أنواع الشرك ، وقد جاءت في ذلك أحاديث مرفوعة ، وقد ساق طرفها ابن كثير في تفسير هذه الآية ، والتحقيق أن قوله : ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، أعم من الرياء وغيره ، أي : لا يعبد ربه رياء وسمعة ، ولا يصرف شيئا من حقوق خالقه لأحد من خلقه ; لأن الله يقول : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ 4 \ 48 ] ، في الموضعين ، ويقول : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ 22 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الذي يشرك أحدا بعبادة ربه ، ولا يعمل صالحا أنه لا يرجو لقاء ربه ، والذي لا يرجو لقاء ربه لا خير له عند الله يوم القيامة .
وهذا المفهوم جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله تعالى فيما مضى قريبا : [ ص: 357 ] أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاؤهم جهنم الآية [ 18 \ 105 - 106 ] ; لأن من كفر بلقاء الله لا يرجو لقاءه ، وقوله في " العنكبوت " والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي [ 29 \ 23 ] ، وقولـه في " الأعراف " : والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون [ 7 \ 147 ] ، وقولـه في " الأنعام " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها [ 6 \ 31 ] ، وقولـه تعالى في " يونس " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] ، وقولـه في " الفرقان " : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا [ 25 \ 21 ] ، وقولـه في " الروم " : وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ 30 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
اعلم أن الرجاء كقوله هنا يرجوا لقاء ربه [ 18 \ 110 ] ، يستعمل في رجاء الخير ، ويستعمل في الخوف أيضا ، واستعماله في رجاء الخير مشهور ، ومن استعمال الرجاء في الخوف قول أبي ذؤيب الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وحالفها في بيت نوب عواسل
فقوله " لم يرج لسعها " أي : لم يخف لسعها ، ويروى حالفها بالحاء والخاء ، ويروى عواسل بالسين ، وعوامل بالميم .
فإذا علمت أن الرجاء يطلق على كلا الأمرين المذكورين فاعلم أنهما متلازمان ، فمن كان يرجو ما عند الله من الخير فهو يخاف ما لديه من الشر كالعكس ، واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية الكريمة .
أعني قوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا الآية [ 18 \ 110 ] ، فعن ابن عباس أنها نزلت في جندب بن زهير الأزدي الغامدي ، قال : يا رسول الله ، إنني أعمل العمل لله تعالى وأريد وجه الله تعالى ، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ، ولا يقبل ما شورك فيه " فنزلت الآية ، وذكره القرطبي في تفسيره ، وذكر ابن حجر في الإصابة : أنه من رواية ابن الكلبي في التفسير عن أبي صالح عن أبي هريرة ، وضعف هذا السند مشهور ، [ ص: 358 ] وعن طاوس أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى ، وأحب أن يرى مكاني ، فنزلت هذه الآية ، وعن مجاهد قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أتصدق وأصل الرحم ، ولا أصنع ذلك إلا لله تعالى ، فيذكر ذلك مني ، وأحمد عليه فيسرني ذلك ، وأعجب به فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا ، فأنزل الله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، انتهى من تفسير القرطبي .
ومعلوم أن من قصد بعمله وجه الله فعله لله ولو سره اطلاع الناس على ذلك ، ولا سيما إن كان سروره بذلك لأجل أن يقتدوا به فيه ، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ، والعلم عند الله تعالى .
وقال صاحب الدر المنثور : أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : فمن كان يرجوا لقاء ربه قال : نزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلها غيره ، وليست هذه في المؤمنين ، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في الإخلاص ، وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم عن طاوس قال : قال رجل : يا نبي الله إني أقف مواقف أبتغي وجه الله ، وأحب أن يرى موطني ، فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، وأخرجه الحاكم وصححه ، والبيهقي موصولا عن طاوس عن ابن عباس ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان من المسلمين من يقاتل وهو يحب أن يرى مكانه ، فأنزل الله فمن كان يرجوا لقاء ربه ، وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة ، وابن عساكر من طريق السدي الصغير ، عن الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له ، فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله ، فنزل في ذلك : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، وأخرج هناد في الزهد عن مجاهد قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتصدق بالصدقة وألتمس بها ما عند الله ، وأحب أن يقال لي خير ، فنزلت : فمن كان يرجوا لقاء ربه ا هـ ، من " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:47 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (249)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 359 إلى صـ 364
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ مَرْيَمَ
قَوْلُهُ تَعَالَى : كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا .
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، كَقَوْلِهِ هُنَا : كهيعص [ 19 \ 1 ] ، فِي سُورَةِ " هُودٍ " فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا . وَقَوْلُهُ : ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ [ 19 \ 2 ] ، خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ : هَذَا ذِكِرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، وَقِيلَ : مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ ، وَتَقْدِيرُهُ : فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ قَوْلِهِ " كهيعص " ظَاهِرُ السُّقُوطِ لِعَدَمِ رَبْطٍ بَيْنَهُمَا ، وَقَوْلُهُ : ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ لَفْظَةُ " ذِكْرُ " مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ ، وَلَفْظَةُ " رَحْمَةٍ " مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ وَهُوَ " رَبِّكَ " ، وَقَوْلُـهُ : عَبْدَهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِلْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ " رَحْمَةِ " الْمُضَافُ إِلَى فَاعِلِهِ ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ :
وَبَعْدَ جَرِّهِ الَّذِي أُضِيفَ لَهْ كَمِّلْ بِنَصْبٍ أَوْ بِرَفْعٍ عَمَلَهْ وَقَوْلُهُ : " زَكَرِيَّا " بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ " عَبْدَهُ " أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ : أَنَّ هَذَا الَّذِي يُتْلَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ رَحْمَتَهُ الَّتِي رَحِمَ بِهَا عَبْدَهُ زَكَرِيَّا حِينَ نَادَاهُ نِدَاءً خَفِيًّا أَيْ : دَعَاهُ فِي سِرٍّ وَخُفْيَةٍ ، وَثَنَاؤُهُ جَلَّ وَعَلَا عَلَيْهِ بِكَوْنِ دُعَائِهِ خَفِيًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِخْفَاءَ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ مِنْ إِظْهَارِهِ وَإِعْلَانِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً الْآيَةَ [ 6 \ 63 ] ، وَقَوْلِـهِ تَعَالَى : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [ 7 \ 55 ] ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ مِنَ الْإِظْهَارِ ; لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى الْإِخْلَاصِ ، وَأَبْعَدُ مِنَ الرِّيَاءِ ، فَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّ سَبَبَ إِخْفَائِهِ دُعَاءَهُ أَنَّهُ خَوَّفَهُ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَلُومُوهُ عَلَى طَلَبِ الْوَلَدِ ، فِي حَالَةٍ لَا يُمْكِنُ فِيهَا الْوَلَدُ عَادَةً لِكِبَرِ [ ص: 360 ] سِنِّهِ وَسِنِّ امْرَأَتِهِ ، وَكَوْنِهَا عَاقِرًا ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ أَخْفَاهُ ; لِأَنَّهُ طَلَبُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ ، فَإِنْ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فِيهِ نَالَ مَا كَانَ يُرِيدُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ أَحَدٌ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ ، كُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْأَظْهَرِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ السِّرَّ فِي إِخْفَائِهِ هُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَوْنِ الْإِخْفَاءِ أَفْضَلَ مِنَ الْإِعْلَانِ فِي الدُّعَاءِ ، وَدُعَاءُ زَكَرِيَّا هَذَا لَمْ يُبَيِّنِ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَكَانَهُ وَلَا وَقْتَهُ ، وَلَكِنَّهُ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ " آلِ عِمْرَانَ " فِي قَوْلِهِ : كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [ 3 \ 37 - 38 ] ، فَقَوْلُهُ " هُنَالِكَ " أَيْ : فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَ فِيهِ ذَلِكَ الرِّزْقَ عِنْدَ مَرْيَمَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : " هُنَالِكَ " أَيْ : فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ هُنَا رُبَّمَا أُشِيرَ بِهَا إِلَى الزَّمَانِ ، وَقَوْلُهُ فِي دُعَائِهِ هَذَا :رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [ 19 \ 4 ] ، أَيْ : ضَعُفَ ، وَالْوَهْنُ : الضَّعْفُ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَعْفَ الْعَظْمِ ; لِأَنَّهُ عَمُودُ الْبَدَنِ وَبِهِ قِوَامُهُ ، وَهُوَ أَصْلُ بِنَائِهِ فَإِذَا وَهَنَ دَلَّ عَلَى ضَعْفِ جَمِيعِ الْبَدَنِ ; لِأَنَّهُ أَشَدُّ مَا فِيهِ وَأَصْلَبُهُ ، فَوَهْنُهُ يَسْتَلْزِمُ وَهْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْبَدَنِ .
الْحَرْفُ الْمُنِيرُ \ سِحْرٌ \ أَضْوَاءُ الْبَيَانِ ج 4 \ مِنْ ص 204 - إِلَى ص 212 وَقَوْلُـهُ : وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ، الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي " الرَّأْسِ " قَامَا مَقَامَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ ، إِذِ الْمُرَادُ : وَاشْتَعَلَ رَأْسِي شَيْبًا ، وَالْمُرَادُ بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا : انْتِشَارُ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِيهِ ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي كَشَّافِهِ : شَبَّهَ الشَّيْبَ بِشُوَاظِ النَّارِ فِي بَيَاضِهِ وَإِنَارَتِهِ وَانْتِشَارِهِ فِي الشِّعْرِ وَفُشُوِّهِ فِيهِ ، وَأَخْذِهِ مِنْهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعَالِ النَّارِ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعَارَةِ ، ثُمَّ أَسْنَدَ الِاشْتِعَالَ إِلَى مَكَانِ الشَّعْرِ وَمَنْبَتِهِ وَهُوَ الرَّأْسُ ، وَأَخْرَجَ الشَّيْبَ مُمَيِّزًا ، وَلَمْ يُضِفِ الرَّأْسَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِ أَنَّهُ رَأْسُ زَكَرِيَّا ، فَمِنْ ثَمَّ فَصُحَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَشُهِدَ لَهَا بِالْبَلَاغَةِ انْتَهَى مِنْهُ ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَّا مِرَارًا : أَنَّ مِثْلَ هَذَا مِنَ التَّعْبِيرِ عَنِ انْتِشَارِ بَيَاضِ الشَّيْبِ فِي الرَّأْسِ ، بِاشْتِعَالِ الرَّأْسِ شَيْبًا أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الْفُصْحَى جَاءَ الْقُرْآنُ بِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
ضَيَّعْتُ حَزْمِي فِي إِبْعَادِي الْأَمَلَا وَمَا ارْعَوَيْتُ وَشَيْبًا رَأْسِيَ اشْتَعَلَا
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُ ابْنِ دُرَيْدٍ فِي مَقْصُورَتِهِ .
وَاشْتَعَلَ الْمِبْيَضُ فِي مُوَسَّدِهِ مِثْلَ اشْتِعَالِ النَّارِ فِي جَزْلِ الْغَضَا
[ ص: 361 ] وَقَوْلُهُ " شَيْبًا " تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ فِي أَظْهَرِ الْأَعَارِيبِ ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ قَوْلِهِ " وَاشْتَعَلَ " لِأَنَّهُ اشْتَعَلَ بِمَعْنَى شَابَ ، فَيَكُونُ " شَيْبًا " مَصْدَرًا مِنْهُ فِي الْمَعْنَى وَمَنْ زَعَمَ أَيْضًا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنَكَّرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ .
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا عَنْ زَكَرِيَّا فِي دُعَائِهِ مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ وَالْكِبَرِ جَاءَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ هُنَا : وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا [ 19 \ 8 ] ، وَقَوْلِـهِ فِي " آلِ عِمْرَانَ " : وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ الْآيَةَ [ 3 \ 40 ] ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ إِظْهَارِ الضَّعْفِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلدَّاعِي إِظْهَارُ الضَّعْفِ وَالْخَشْيَةِ وَالْخُشُوعِ فِي دُعَائِهِ .
وَقَوْلُـهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [ 19 \ 4 ] ، أَيْ : لَمْ أَكُنْ بِدُعَائِي إِيَّاكَ شَقِيًّا ، أَيْ : لَمْ تَكُنْ تُخَيِّبُ دُعَائِي إِذَا دَعَوْتُكَ ، يَعْنِي أَنَّكَ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ : شَقِيَ بِذَلِكَ إِذَا تَعِبَ فِيهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ ، وَرُبَّمَا أَطْلَقْتَ الشَّقَاءَ عَلَى التَّعَبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَ ا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [ 20 \ 117 ] ، وَأَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي ضِدِّ السَّعَادَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ مِنَ السَّعَادَةِ ، فَيَكُونُ عَدَمُ إِجَابَتِهِ مِنَ الشَّقَاءِ .
قوله تعالى : وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا ، يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .
معنى قوله : خفت الموالي [ 19 \ 5 ] ، أي : خفت أقاربي وبني عمي وعصبتي : أن يضيعوا الدين بعدي ، ولا يقوموا لله بدينه حق القيام ، فارزقني ولدا يقوم بعدي بالدين حق القيام ، وبهذا التفسير تعلم أن معنى قوله " يرثني " أنه إرث علم ونبوة ، ودعوة إلى الله والقيام بدينه ، لا إرث مال ، ويدل لذلك أمران :
أحدهما : قوله : ويرث من آل يعقوب [ 19 \ 5 ] ، ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان ، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين .
والأمر الثاني : ما جاء من الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال ، وإنما يورث عنهم العلم والدين ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة " ، ومن ذلك أيضا ما رواه الشيخان أيضا عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير وسعد ، وعلي ، والعباس رضي الله عنهم : أنشدكم الله [ ص: 362 ] الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " ، قالوا : نعم ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أردن أن يبعثن عثمان إلى أبي بكر يسألنه ميراثهن ، فقالت عائشة : أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما تركنا صدقة " ، ومن ذلك ما رواه الشيخان أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقتسم ورثتي دينارا ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة " وفي لفظ عند أحمد : " لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما " ، ومن ذلك أيضا ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، عن أبي هريرة : أن فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه : من يرثك إذا مت ؟ قال : ولدي وأهلي ، قالت : فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن النبي لا يورث " ، ولكن أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوله ، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق .
فهذه الأحاديث وأمثالها ظاهرة في أن الأنبياء لا يورث عنهم المال بل العلم والدين ، فإن قيل : هذا مختص به صلى الله عليه وسلم ; لأن قوله " لا نورث " يعني به نفسه ، كما قال عمر رضي الله عنه في الحديث الصحيح المشار إليه عنه آنفا : أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ، فقال الرهط : قد قال ذلك الحديث ، ففي هذا الحديث الصحيح أن عمر قال : إن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا نورث " نفسه ، وصدقه الجماعة المذكورون في ذلك ، وهذا دليل على الخصوص فلا مانع إذن من كون الموروث عن زكريا في الآية التي نحن بصددها هو المال ؟ فالجواب من أوجه :
الأول : أن ظاهر صيغة الجمع شمول جميع الأنبياء ، فلا يجوز العدول عن هذا الظاهر إلا بدليل من كتاب أو سنة ، وقول عمر لا يصح تخصيص نص من السنة به ; لأن النصوص لا يصح تخصيصها بأقوال الصحابة على التحقيق كما هو مقرر في الأصول .
الوجه الثاني : أن قول عمر " يريد صلى الله عليه وسلم نفسه " لا ينافي شمول الحكم لغيره من الأنبياء ، لاحتمال أن يكون قصده يريد أنه هو صلى الله عليه وسلم يعني نفسه فإنه لا يورث ، ولم يقل عمر إن اللفظ لم يشمل غيره ، وكونه يعني نفسه لا ينافي أن غيره من الأنبياء لا يورث أيضا .
الوجه الثالث : ما جاء من الأحاديث صريحا في عموم عدم الإرث المالي في جميع الأنبياء ، وسنذكر طرفا من ذلك هنا إن شاء الله تعالى .
قال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : وأما ما اشتهر في كتب أهل الأصول [ ص: 363 ] وغيرهم بلفظ " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " فقد أنكره جماعة من الأئمة ، وهو كذلك بالنسبة لخصوص لفظ " نحن " لكن أخرجه النسائي من طريق ابن عيينة عن أبي الزناد بلفظ " إنا معاشر الأنبياء لا نورث . " الحديث ، وأخرجه عن محمد بن منصور ، عن ابن عيينة عنه ، وهو كذلك في مسند الحميدي عن ابن عيينة ، وهو من أتقن أصحاب ابن عيينة فيه ، وأورده الهيثم بن كليب في مسنده من حديث أبي بكر الصديق باللفظ المذكور ، وأخرجه الطبراني في الأوسط بنحو اللفظ المذكور ، وأخرجه الدارقطني في العلل من رواية أم هانئ عن فاطمة رضي الله عنها ، عن أبي بكر الصديق بلفظ " إن الأنبياء لا يورثون " انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر ، وقد رأيت فيه هذه الطرق التي فيها التصريح بعموم الأنبياء ، وقد قال ابن حجر : إن إنكار الحديث المذكور غير مسلم إلا بالنسبة لخصوص لفظ " نحن " وهذه الروايات التي أشار لها يشد بعضها ، وقد تقرر في الأصول أن البيان يصح بكل ما يزيل الإشكال ولو قرينة أو غيرها كما قدمناه موضحا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، وعليه فهذه الأحاديث التي ذكرنا تبين أن المقصود من قوله في الحديث المتفق عليه " لا نورث " أنه يعني نفسه ، كما قال عمر وجميع الأنبياء كما دلت عليه الروايات المذكورة ، والبيان إرشاد ودلالة يصح بكل شيء يزيل اللبس عن النص من نص أو فعل أو قرينة أو غير ذلك ، قال في مراقي السعود في تعريف البيان وما به البيان : .
تصيير مشكل من الجلي وهو واجب على النبي إذا أريد فهمه وهو بما من الدليل مطلقا يجلو العما وبهذا الذي قررنا تعلم : أن قوله هنا يرثني ويرث من آل يعقوب ، يعني وراثة العلم والدين لا المال ، وكذلك قوله : وورث سليمان داود الآية [ 27 \ 16 ] ، فتلك الوراثة أيضا وراثة علم ودين ، والوراثة قد تطلق في الكتاب والسنة على وراثة العلم والدين ، كقوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية [ 35 \ 32 ] ، وقولـه : وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب [ 42 \ 14 ] ، وقولـه : فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب الآية [ 7 \ 169 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن السنة الواردة في ذلك ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " العلماء ورثة الأنبياء " ، وهو في المسند والسنن ، قال صاحب ) تمييز الطيب من [ ص: 364 ] الخبيث ، فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث ( : رواه أحمد وأبو داود والترمذي وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة " إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم " وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما انتهى منه بلفظه ، وقال صاحب ) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس ( : " العلماء ورثة الأنبياء " رواه أحمد والأربعة وآخرون عن أبي الدرداء مرفوعا بزيادة " إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم . " الحديث ، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما ، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم لاضطراب سنده لكن له شواهد ، ولذا قال الحافظ : له طرق يعرف بها أن للحديث أصلا ، ورواه الديلمي عن البراء بن عازب بلفظ الترجمة ا هـ محل الغرض منه ، والظاهر صلاحية هذا الحديث للاحتجاج لاعتضاد بعض طرقه ببعض ، فإذا علمت ما ذكرنا من دلالة هذه الأدلة على أن الوراثة المذكورة في الآية وراثة علم ودين لا وراثة مال فاعلم أن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال : الأول : هو ما ذكرنا ، والثاني : أنها وراثة مال ، والثالث : أنها وبالنسبة لآل يعقوب في قوله " ويرث من آل يعقوب " وراثة علم ودين .
وهذا اختيار ابن جرير الطبري ، وقد ذكر من قال : إن وراثته لزكريا وراثة مال حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أنه قال : " رحم الله زكريا ما كان عليه من ورثته " أي : ما يضره إرث ورثته لماله ، ومعلوم أن هذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والأرجح فيما يظهر لنا هو ما ذكرنا من أنها وراثة علم ودين ; للأدلة التي ذكرنا وغيرها مما يدل على ذلك ، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره هنا ما يؤيد ذلك من أوجه ، قال رحمه الله في تفسير قوله تعالى : وإني خفت الموالي من ورائي [ 19 \ 5 ] ، وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ; ليسوسهم بنبوته بما يوحى إليه فأجيب في ذلك ; لا أنه خشي من وراثتهم له ماله ; فإن النبي أعظم منزلة ، وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده ، وأن يأنف من وراثة عصباته له ، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم وهذا وجه .
الثاني : أنه لم يذكر أنه كان ذا مال ; بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ، ومثل هذا لا يجمع مالا ، ولا سيما الأنبياء ، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.