المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ



الصفحات : 1 [2] 3

ابو وليد البحيرى
2022-03-08, 02:47 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (250)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 365 إلى صـ 370



الثالث : أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ما تركنا صدقة " وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح " نحن معشر الأنبياء لا نورث " وعلى هذا فتعين حمل قوله : فهب لي من لدنك وليا يرثني [ 19 \ 6 ] ، [ ص: 365 ] على ميراث النبوة ، ولهذا قال ويرث من آل يعقوب ; كقوله : وورث سليمان داود [ 27 \ 16 ] ، أي : في النبوة ، إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل : أن الولد يرث أباه ، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها ، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة " ا هـ محل الغرض من كلام ابن كثير ، ثم ساق بعد هذا طرق الحديث الذي أشرنا له " يرحم الله زكريا وما كان عليه من ورثة ماله " الحديث ، ثم قال في أسانيده : وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح .

واعلم أن لفظ " نحن معاشر الأنبياء " ولفظ " إنا معاشر الأنبياء " مؤداهما واحد ، إلا أن " إن " دخلت على " نحن " فأبدلت لفظة " نحن " التي هي المبتدأ بلفظة " نا " الصالحة للنصب ، والجملة هي هي إلا أنها في أحد اللفظين أكدت بـ " إن " كما لا يخفى ، وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : فهب لي من لدنك وليا ، يعني بهذا الولي الولد خاصة دون غيره من الأولياء ، بدليل قوله تعالى في القصة نفسها هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الآية [ 3 \ 38 ] ، وأشار إلى أنه الولد أيضا بقوله : وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين [ 21 \ 89 ] ، فقوله " لا تذرني فردا " ، أي : واحدا بلا ولد .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة ، عن زكريا : وإني خفت الموالي من ورائي ، أي : من بعدي إذا مت أن يغيروا في الدين ، وقد قدمنا أن الموالي الأقارب والعصبات ، ومن ذلك قوله تعالى : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون الآية [ 4 \ 33 ] ، والمولى في لغة العرب : يطلق على كل من انعقد بينك وبينه سبب يواليك وتواليه به ، وكثيرا ما يطلق في اللغة على ابن العم ; لأن ابن العم يوالي ابن عمه بالقرابة العصبية ، ومنه قول طرفة بن العبد :



واعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل
يعني إذا ذلت بنو عمه فهو ذليل ، وقول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب :



مهلا ابن عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكانت امرأتي عاقرا ، ظاهر في أنها كانت عاقرا في زمن شبابها ، والعاقر : هي العقيم التي لا تلد وهو يطلق على الذكر والأنثى ; [ ص: 366 ] فمن إطلاقه على الأنثى هذه الآية ، وقوله تعالى عن زكريا أيضا : وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر [ 3 \ 40 ] ، ومن إطلاقه على الذكر قول عامر بن الطفيل :



لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضر

وقد أشار تعالى إلى أنه أزال عنها العقم ، وأصلحها ، فجعلها ولودا بعد أن كانت عاقرا في قوله عز وجل : فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه [ 21 \ 90 ] ، فهذا الإصلاح هو كونها صارت تلد بعد أن كانت عقيما ، وقول من قال : إن إصلاحها المذكور هو جعلها حسنة الخلق بعد أن كانت سيئة الخلق لا ينافي ما ذكر لجواز أن يجمع له بين الأمرين فيها ، مع أن كون الإصلاح هو جعلها ولودا بعد العقم هو ظاهر السياق ، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير ، ومجاهد وغيرهم ، والقول الثاني يروى عن عطاء .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة عن زكريا واجعله رب رضيا [ 19 \ 6 ] ، أي : مرضيا عندك وعند خلقك في أخلاقه وأقواله وأفعاله ودينه ، وهو فعيل بمعنى مفعول .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : فهب لي من لدنك ، أي : من عندك ، وقولـه جل وعلا في هذه الآية الكريمة يرثني ويرث من آل يعقوب [ 19 \ 6 ] ، قرأه أبو عمرو والكسائي بإسكان الثاء المثلثة من الفعلين ، أعني يرثني ويرث من آل يعقوب وهما على هذه القراءة مجزومان لأجل جواب الطلب الذي هو " هب لي " والمقرر عند علماء العربية ، أن المضارع المجزوم في جواب الطلب مجزوم بشرط مقدر يدل عليه فعل الطلب ، وتقديره في هذه الآية التي نحن بصددها ، إن تهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ، وقرأ الباقون يرثني ويرث من آل يعقوب ، يرفع الفعلين على أن الجملة نعت لقوله " وليا " أي : وليا وارثا لي ، ووارثا من آل يعقوب ، كما قال في الخلاصة :

ونعتوا بجملة منكرا فأعطيت ما أعطيته خبرا وقراءة الجمهور برفع الفعلين أوضح معنى ، وقرأ ابن كثير بفتح الياء من قوله : من ورائي وكانت امرأتي ، والباقون بإسكانها ، وقرأ " زكريا " بلا همزة بعد الألف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ، والباقون قرءوا " زكرياء " بهمزة بعد الألف ، وبه تعلم أن المد في قوله : " وزكرياء إذ نادى " ، منفصل على قراءة حمزة والكسائي وحفص ، ومتصل [ ص: 367 ] على قراءة الباقين ، والهمزة الثانية على قراءة الجمهور التي هي همزة " إذا " مسهلة في قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ، ومحققة في قراءة ابن عامر وشعبة عن عاصم ، وقراءة خفت الموالي بفتح الخاء والفاء المشددة بصيغة الفعل الماضي بمعنى أن مواليه خفوا أي : قلوا شاذة لا تجوز القراءة بها وإن رويت عن عثمان بن عفان ، ومحمد بن علي بن الحسين ، وغيرهم رضي الله عنهم ، وامرأة زكريا المذكورة قال القرطبي : هي إيشاع بنت فاقوذ بن قبيل ، وهي أخت حنة بنت فاقوذا ، قاله الطبري ، وحنة : هي أم مريم ، وقال القتبي : امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران ، فعلى هذا القول يكون يحيى بن خالة عيسى عليهما السلام على الحقيقة ، وعلى القول الأول يكون ابن خالة أمه ، وفي حديث الإسراء قال عليه الصلاة والسلام : " فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى " شاهدا للقول الأول ا هـ ، منه ، والظاهر شهادة الحديث للقول الثاني لا للأول ، خلافا لما ذكره رحمه الله تعالى ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا

، في هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه ، وتقديره : فأجاب الله دعاءه فنودي : يازكريا الآية [ 19 \ 7 ] ، وقد أوضح جل وعلا في موضع آخر هذا الذي أجمله هنا ، فبين أن الذي ناداه بعض الملائكة ، وأن النداء المذكور وقع وهو قائم يصلي في المحراب ، وذلك قوله تعالى : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين [ 3 \ 39 ] ، وقولـه تعالى : فنادته الملائكة ، قال بعض العلماء : أطلق الملائكة وأراد جبريل ، ومثل به بعض علماء الأصول العام المراد به الخصوص قائلا : إنه أراد بعموم الملائكة خصوص جبريل ، وإسناد الفعل للمجموع مرادا بعضه قد بينا فيما مضى مرارا .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : اسمه يحيى ، يدل على أن الله هو الذي سماه ، ولم يكل تسميته إلى أبيه ، وفي هذا منقبة عظيمة ليحيى .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : لم نجعل له من قبل سميا ، اعلم أولا أن السمي يطلق في اللغة العربية إطلاقين : الأول قولهم : فلان سمي فلان أي : مسمى باسمه ، فمن كان اسمهما واحدا فكلاهما سمي الآخر ، أي : مسمى باسمه .

والثاني : إطلاق السمي يعني المسامي ، أي : المماثل في السمو والرفعة [ ص: 368 ] والشرف ، وهو فعيل بمعنى مفاعل من السمو بمعنى العلو والرفعة ، ويكثر في اللغة إتيان الفعيل بمعنى المفاعل ، كالقعيد والجليس بمعنى المقاعد والمجالس ، والأكيل والشريب بمعنى المؤاكل والمشارب ، وكذلك السمي بمعنى المسامي ، أي : المماثل في السمو ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله هنا : لم نجعل له من قبل سميا [ 19 \ 7 ] ، أي : لم نجعل من قبله أحدا يتسمى باسمه ، فهو أول من كان اسمه يحيى ، وقول من قال : إن معناه لم نجعل له سميا ، أي : نظيرا في السمو والرفعة غير صواب لأنه ليس بأفضل من إبراهيم وموسى ونوح ، فالقول الأول هو الصواب ، وممن قال به ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم وغيرهم ، ويروى القول الثاني عن مجاهد وابن عباس أيضا ، وإذا علمت أن الصواب أن معنى قوله : لم نجعل له من قبل سميا ، أي : لم نسم أحدا باسمه قبله فاعلم أن قوله : رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا [ 19 \ 65 ] ، معناه : أنه تعالى ليس له نظير ولا مماثل يساميه في العلو والعظمة والكمال على التحقيق ، وقال بعض العلماء : وهو مروي عن ابن عباس هل تعلم له سميا ، هل تعلم أحدا يسمى باسمه الرحمن جل وعلا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن زكريا لما بشر بيحيى قال : رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا [ 19 \ 8 ] ، وهذا الذي ذكر أنه قاله هنا ذكره أيضا في " آل عمران " في قوله : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر [ 3 \ 40 ] ، وقولـه في هذه الآية الكريمة وقد بلغت من الكبر عتيا [ 19 \ 8 ] ، قرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " عتيا " بكسر العين اتباعا للكسرة التي بعدها ، ومجانسة للياء وقرأه الباقون " عتيا " بضمها على الأصل . ومعنى قوله : وقد بلغت من الكبر عتيا ، أنه بلغ غاية الكبر في السن ، حتى نحل عظمه ويبس ، قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية : يقول وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها ، يقال منه للعود اليابس : عود عات وعاس ، وقد عتا يعتو عتوا وعتيا ، وعسا يعسو عسيا وعسوا ، وكل متناه إلى غاية في كبر أو فساد أو كفر فهو عات وعاس .
[ ص: 369 ] تنبيه

فإن قيل : ما وجه استفهام زكريا في قوله : أنى يكون لي غلام ، مع علمه بقدرة الله تعالى على كل شيء .

فالجواب من ثلاثة أوجه قد ذكرناها في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عند آيات الكتاب ( في سورة " آل عمران " وواحد منها فيه بعد وإن روي عن عكرمة والسدي وغيرهما .

الأول : أن استفهام زكريا استفهام استخبار واستعلام ; لأنه لا يعلم هل الله يأتيه بالولد من زوجة العجوز على كبر سنهما على سبيل خرق العادة ، أو يأمره بأن يتزوج شابة ، أو يردهما شابين ؟ فاستفهم عن الحقيقة ليعلمها ، ولا إشكال في هذا ، وهو أظهرها .

الثاني : أن استفهامه استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى .

الثالث : وهو الذي ذكرنا أن فيه بعدا هو ما ذكره ابن جرير عن عكرمة والسدي : من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى ، قال له الشيطان : ليس هذا نداء الملائكة ، وإنما هو نداء الشيطان ، فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان ، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله : أنى يكون لي غلام [ 19 \ 8 ] ، ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله : رب اجعل لي آية الآية [ 19 \ 10 ] ، وإنما قلنا : إن هذا القول فيه بعد ; لأنه لا يلتبس على زكريا نداء الملائكة بنداء الشيطان .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : " عتيا " أصله عتوا ، فأبدلت الواو ياء ، ومن إطلاق العتي الكبر المتناهي قول الشاعر :



إنما يعذر الوليد ولا يع ذر من كان في الزمان عتيا
وقراءة " عسيا " بالسين شاذة لا تجوز القراءة بها ، وقال القرطبي : وبها قرأ ابن عباس ، وهي كذلك في مصحف أبي .
قوله تعالى : قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .

هذا الذي ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ذكره أيضا في " آل عمران " في قوله : قال كذلك الله يفعل ما يشاء [ 3 \ 40 ] ، وقولـه في هذه الآية الكريمة " كذلك " للعلماء في إعرابه أوجه :

[ ص: 370 ] الأول : أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره ، الأمر كذلك ، ولا محالة أن تلد الغلام المذكور ، وقيل ، الأمر كذلك أنت كبير في السن ، وامرأتك عاقر ، وعلى هذا فقوله : قال ربك [ 19 \ 9 ] ، ابتداء كلام :

الوجه الثاني : أن " كذلك " في محل نصب بـ " قال " وعليه فالإشارة بقوله " ذلك " إلى مبهم يفسره قوله : هو علي هين ، ونظيره على هذا القول قوله تعالى : وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين [ 15 \ 66 ] ، وغير هذين من أوجه إعرابه تركناه لعدم وضوحه عندنا ، وقوله : هو علي هين ، أي : يسير سهل .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا أي : ومن خلقك ولم تك شيئا فهو قادر على أن يرزقك الولد المذكور كما لا يخفى ، وهذا الذي قاله هنا لزكريا : من أنه خلقه ولم يك شيئا أشار إليه بالنسبة إلى الإنسان في مواضع أخر ، كقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 67 ] ، وقولـه تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا [ 76 \ 1 ] .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم تك شيئا ، دليل على أن المعدوم ليس بشيء ، ونظيره قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] ، وهذا هو الصواب ، خلافا للمعتزلة القائلين : إن المعدوم الممكن وجوده شيء ، مستدلين لذلك بقوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، قالوا : قد سماه الله شيئا قبل أن يقول له كن فيكون ، وهو يدل على أنه شيء قبل وجوده ، ولأجل هذا قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : لأن المعدوم ليس بشيء ، أو ليس شيئا يعتد به ، كقولهم : عجبت من لا شيء ، وقول الشاعر :



وضاقت الأرض حتى كان هاربهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
لأن مراده بقوله : غير شيء ، أي : إذا رأى شيئا تافها لا يعتد به كأنه لا شيء لحقارته ظنه رجلا ; لأن غير شيء بالكلية لا يصح وقوع الرؤية عليه ، والتحقيق هو ما دلت عليه هذه الآية وأمثالها في القرآن : من أن المعدوم ليس بشيء ؟ والجواب عن استدلالهم بالآية : أن ذلك المعدوم لما تعلقت الإرادة بإيجاده ، صار تحقق وقوعه كوقوعه بالفعل ، كقوله : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] ، وقولـه : ونفخ في الصور [ 18 \ 99 ] ، وقولـه : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين الآية [ 39 \ 69 ] ، [ ص: 371 ] وقولـه : وسيق الذين كفروا الآية [ 39 \ 73 ] ، وقولـه : وسيق الذين اتقوا ربهم ، وأمثال ذلك ، كل هذه الأفعال الماضية الدالة على الوقوع بالفعل فيما مضى أطلقت مرادا بها المستقبل ; لأن تحقق وقوع ما ذكر صيره كالواقع بالفعل ، وكذلك تسميته شيئا قبل وجوده لتحقق وجوده بإرادة الله تعالى .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ، قرأه عامة السبعة ما عدا حمزة والكسائي " خلقتك " بتاء الفاعل المضمومة التي هي تاء المتكلم ، وقرأه حمزة والكسائي " وقد خلقناك " بنون بعدها ألف ، وصيغة الجمع فيها للتعظيم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:23 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (251)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 371 إلى صـ 376



قوله تعالى : قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا .

المراد بالآية هنا العلامة ، أي : اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به من الولد ، قال بعض أهل العلم : طلب الآية على ذلك لتتم طمأنينته بوقوع ما بشر به ، ونظيره على هذا القول قوله تعالى عن إبراهيم : قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي [ 2 \ 260 ] ، وقيل : أراد بالعلامة أن يعرف ابتداء حمل امرأته ; لأن الحمل في أول زمنه يخفى .

وقولـه في هذه الآية الكريمة : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا أي : علامتك على وقوع ذلك ألا تكلم الناس ، أي : أن تمنع الكلام فلا تطيقه ثلاث ليال بأيامهن في حال كونك سويا ، أي : سوي الخلق ، سليم الجوارح ، ما بك خرس ولا بكم ولكنك ممنوع من الكلام على سبيل خرق العادة ، كما قدمنا في " آل عمران " ، أما ذكر الله فليس ممنوعا منه بدليل قوله في " آل عمران " : واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار [ 3 \ 41 ] ، وقول من قال : إن معنى قوله تعالى ، ثلاث ليال سويا ، أي : ثلاث ليال متتابعات غير صواب ، بل معناه هو ما قدمنا من كون اعتقال لسانه عن كلام قومه ليس لعلة ولا مرض حدث به ، ولكن بقدرة الله تعالى وقد قال تعالى هنا " ثلاث ليال " ولم يذكر معها أيامها ، ولكنه ذكر الأيام في " آل عمران " ، في قوله : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام [ 3 \ 41 ] ، فدلت الآيتان على أنها ثلاث ليالي بأيامهن .

وقولـه تعالى في هذه الآية : ألا تكلم الناس ، يعني إلا بالإشارة أو الكتابة ، كما دل عليه قوله هنا : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ 19 \ 11 ] ، وقولـه في " آل [ ص: 372 ] عمران " : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام [ 3 \ 41 ] ; لأن الرمز : الإشارة والإيماء بالشفتين والحاجب ، والإيحاء في قوله : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية ، قال بعض العلماء : هو الإشارة وهو الأظهر بدليل قوله " إلا رمزا " كما تقدم آنفا ، وممن قال بأن الوحي في الآية الإشارة : قتادة ، والكلبي ، وابن منبه ، والعتبي ، كما نقله عنهم القرطبي وغيره ، وعن مجاهد ، والسدي " فأوحى إليهم " ، أي : كتب لهم في الأرض ، وعن عكرمة : كتب لهم في كتاب ، والوحي في لغة العرب يطلق على كل إلقاء في سرعة وخفاء ، ولذلك أطلق على الإلهام ، كما في قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل الآية [ 16 \ 68 ] ، وعلى الإشارة كما هو الظاهر في قوله تعالى : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية [ 19 \ 11 ] ، ويطلق على الكتابة كما هو القول الآخر في هذه الآية الكريمة ، وإطلاق الوحي على الكتابة مشهور في كلام العرب ، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :



فمدافع الريان عري رسمها خلقا كما ضمن الوحي سلامها فقوله " الوحي " بضم الواو وكسر الحاء وتشديد الياء ، جمع وحي بمعنى الكتابة .

وقول عنترة :



كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطمي
وقول ذي الرمة :



سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في ون الصحائف
وقول جرير :



كأن أخا الكتاب يخط وحيا بكاف في منازلها ولام
قوله تعالى : فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن زكريا خرج على قومه من المحراب فأشار إليهم ، أو كتب لهم : أن سبحوا الله أول النهار وآخره ، فالبكرة أول النهار ، والعشي آخره ، وقد بين تعالى في " آل عمران " أن هذا الذي أمر به زكريا قومه بالإشارة أو الكتابة من التسبيح بكرة وعشيا أن الله أمر زكرياء به أيضا ، وذلك في قوله : واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار [ 3 \ 41 ] ، والظاهر أن هذا المحراب الذي خرج منه على قومه هو المحراب الذي بشر بالولد وهو قائم يصلي فيه المذكور في قوله تعالى : [ ص: 373 ] فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب [ 3 \ 39 ] ، قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : والمحراب : أرفع المواضع ، وأشرف المجالس ، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ا هـ ، وقال الجوهري في صحاحه : قال الفراء : المحاريب : صدور المجالس ، ومنه سمي محراب المسجد ، والمحراب : الغرفة ، قال وضاح اليمن :


ربة محراب إذا جئتها لم ألقها أو أرتقي سلما ومن هذا المعنى قوله تعالى : كلما دخل عليها زكريا المحراب الآية [ 3 \ 37 ] . ؤتنبيه

أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة : مشروعية ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة ; لأن المحراب موضع صلاة زكريا ، كما دل عليه قوله : وهو قائم يصلي في المحراب [ 3 \ 39 ] ، والمحراب أرفع من غيره ، فدل ذلك على ما ذكر ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره : هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم ، وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار ، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره ، متمسكا بقصة المنبر ، ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام .

قلت : وهذا فيه نظر ، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا ، أو ينهى عن ذلك ؟ قال بلى ، ذكرت ذلك حين مددتني ، وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم " أو نحو ذلك ؟ فقال عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي .

قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك ، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر ، فدل على أنه منسوخ ، ومما يدل على نسخه : أن فيه عملا زائدا في الصلاة وهو النزول والصعود ، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام ، وهذا أولى مما [ ص: 374 ] اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر ; لأن كثيرا من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا ، والله أعلم ، انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى .

قال مقيده عفا الله عنه : سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة ، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة ، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل .

أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال : ثنا يعلى ، ثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه إلى آخر الحديث ، ثم قال أبو داود رحمه الله : حدثنا أحمد بن إبراهيم ثنا حجاج عن ابن جريج ، أخبرني أبو خالد عن عدي بن ثابت الأنصاري ، حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، إلى آخر الحديث ، ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف ; لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يدرى من هو كما ترى ، وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد ، وروي مرفوعا صريحا ، قال ابن حجر في ) التلخيص ( في الكلام على الأثر والحديث المذكورين : ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك ؟ قال بلى ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه ، ورواه أبو داود من وجه آخر ، وفيه أن الإمام كان عمار بن ياسر ، والذي جبذه حذيفة ، وهو مرفوع لكن فيه مجهول ، والأول أقوى ، ويقويه ما رواه الدارقطني من وجه آخر عن همام عن أبي مسعود : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه ، ا هـ من التلخيص ، وقال النووي في شرح المهذب ، في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور : رواه الشافعي وأبو داود والبيهقي ، ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم ، وإسناده صحيح ، ويقال جذب وجبذ ، لغتان مشهورتان ا هـ منه ، وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي ، وقال : إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم ، فهي حديث سهل بن سعد : أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع ، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه ، ثم عاد حتى فرغ ، فلما انصرف قال : " أيها الناس ، إنما فعلت هذا لتأتموا بي ، ولتعلموا صلاتي " متفق عليه ، أما أقوال الأئمة في هذه [ ص: 375 ] المسألة : فمذهب الشافعي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم ، وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه ، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر ، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم ، وكارتفاع المأموم ليبلغ غيره من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور .

قال النووي في شرح المهذب : هذا مذهبنا ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، وعنه رواية ، أنه يكره الارتفاع مطلقا ، وبه قال مالك والأوزاعي ، وحكى الشيخ أبو حامد عن الأوزاعي : أنه قال تبطل به الصلاة .

وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه ، فعلو المأموم جائز عنده ، وقد رجع إلى كراهته ، وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه ، وعلو الإمام لا يعجبه ، وفي المدونة قال مالك : لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد ، ثم كرهه ، وأخذ ابن القاسم بقوله الأول ، انتهى بواسطة نقل المواق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفا على ما يجوز ، وعلو مأموم ولو بسطح ، وفي المدونة أيضا قال مالك : إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني ، انتهى بواسطة نقل المواق أيضا ، وقوله " يعجبني " ظاهر في الكراهة ، وحمله بعضهم على المنع ، وفي وجوب إعادة الصلاة قولان .

ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التكبر على الناس ، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إماما كان أو مأموما ، وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله : وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه ، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكشبر ا هـ ، وقولـه " إلا بكشبر " يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر ، ونحو الشبر عظم الذراع عندهم ، ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر ، فقوله " إلا بكشبر " مستثنى من قوله " لا عكسه " لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقا : قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة : كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه ، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه ، قال ابن القاسم : فإن فعل أعادوا أبدا ، لأنهم يعبثون إلا أن يكون ذلك دكانا يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة ، قال أبو محمد : مثل الشبر وعظم الذراع إلى أن قال : وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصدا [ ص: 376 ] إلى التكبر عن مساواة الإمام ، قال ابن بشير : صلاته أيضا باطلة ، ا هـ محل الغرض منه ، وقول ابن القاسم " لأنهم يعبثون " يعني برفع ذلك البنيان الذي يصلي عليه الإمام ، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطبا لقومه عاد : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 128 - 129 ] ، وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس ، أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم ، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله : وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة .

وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة : فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه ، وقال الطحاوي : لا يكره علو المأموم على الإمام ، ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير ، ولا كراهة عندهم في اليسير : وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة ، ولا بأس بما دونها ، ذكره الطحاوي ، وهو مروي عن أبي يوسف : وقيل هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز ، وقيل : مقدر بقدر ذراع اعتبارا بالسترة ، قال صاحب تبيين الحقائق ، وعليه الاعتماد ، وإن كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع ، وبقية المأمومين أسفل منهم فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم انتهى بمعناه ) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ( .

وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة : فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم ، فيكره على المشهور من مذهب أحمد ، وبين علو المأموم الإمام فيجوز ، قال ابن قدامة في المغني : المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين ، سواء أراد تعليمهم الصلاة ، أو لم يرد ، وهو قول مالك والأوزاعي وأصحاب الرأي ، وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكره ا هـ محل الغرض منه ، وقال في المغني أيضا : فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد : لا تصح صلاتهم ، وهو قول الأوزاعي ; لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، وقال القاضي : لا تبطل ، وهو قول أصحاب الرأي ا هـ محل الغرض منه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:26 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (252)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 377 إلى صـ 382


فإذا عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة فاعلم أن حجة من كره علو الإمام على المأموم أو منعه هي ما قدمنا في قصة جبذ أبي مسعود لحذيفة لما أم الناس ، وقام يصلي على دكان ، الحديث المتقدم ، وقد بينا أقوال أهل العلم في الحديث المذكور . وحجة من أجاز ذلك للتعليم حديث سهل بن سعد المتفق عليه في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 377 ] على المنبر ، وجواب المخالفين عن صلاته على المنبر ، بأنه ارتفاع يسير ، وذلك لا بأس به ، أو بأنه منسوخ كما تقدم في كلام القرطبي ، وحجة من أجاز على المأموم على الإمام ما روي عن أبي هريرة : أنه صلى بصلاة الإمام وهو على سطح المسجد .

قال ابن حجر " في التلخيص " : رواه الشافعي عن إبراهيم بن محمد قال حدثني صالح مولى التوءمة أنه رأى أبا هريرة يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد ، ورواه البيهقي من حديث القعنبي عن ابن أبي ذئب عن صالح ، ورواه سعد بن منصور ، وذكره البخاري تعليقا . انتهى محل الغرض من كلامه ، فقد رأيت مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم .

قال مقيده عفا الله عنه : والذي يظهر والله تعالى أعلم وجوب الجمع بين الأدلة المذكورة ، وأن علو الإمام مكروه لما تقدم ، ويجمع بينه وبين قصة الصلاة على المنبر بجوازه للتعليم دون غيره ، ويدل لهذا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتفع رأوه وإذا نزل لم يره إلا من يليه ، وجمع بعضهم بأن ارتفاعه على المنبر ارتفاع يسير وهو مغتفر ، أما علو المأموم فقد تعارض فيه القياس مع فعل أبي هريرة ; لأن القياس يقتضي كراهة ارتفاع المأموم قياسا على ارتفاع الإمام وهو قياس جلي ، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي فمن الأصوليين من يقول بتقديم القياس ، وهو مذهب مالك وجماعة ، ومنهم من يقول بتقديم قول الصحابي ، ولا شك أن الأحوط تجنب علو كل واحد من الإمام والمأموم على الآخر ، والعلم عند الله تعالى .

و " أن " في قوله : فأوحى إليهم أن سبحوا [ 19 \ 11 ] ، هي المفسرة ، والمعنى أن ما بعدها يفسر الإيحاء المذكور قبلها ، فهذا الذي أشار لهم به هو الأمر بالتسبيح بكرة وعشيا ، وهذا هو الصواب ، ويحتمل أن تكون مصدرية بناء على أن " أن " المصدرية تأتي مع الأفعال الطلبية ، وعليه فالمعنى : أوحى إليهم أي : أشار إليهم بأن سبحوا ، أي : بالتسبيح أو كتب لهم ذلك بناء على القول بأن المراد به الكتابة ، وكونها مفسرة هو الصواب ، والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .

[ ص: 378 ] اعلم أولا : أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيئا مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر ، فإنا نبينها ، وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك ، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام ، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا فإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة بعض صفات يحيى ، وقد ذكر شيئا من صفاته أيضا في غير هذا الموضع ، وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا ، والمذكور في غير هذا الموضع .

اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له : يايحيى خذ الكتاب بقوة [ 19 \ 12 ] ، ووصفه بقوله : وآتيناه الحكم إلى قوله : ويوم يبعث حيا ، فقوله : يايحيى خذ الكتاب مقول قول محذوف ، أي : وقلنا له يايحيى خذ الكتاب بقوة ، والكتاب : التوراة ، أي : خذ التوراة بقوة ، أي : بجد واجتهاد ، وذلك بتفهم المعنى أولا حتى يفهمه على الوجه الصحيح ، ثم يعمل به من جميع الجهات ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويتأدب بآدابه ، ويتعظ بمواعظه ، إلى غير ذلك من جهات العمل به ، وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا : التوراة ، وحكى غير واحد عليه الإجماع ، وقيل : هو كتاب أنزل على يحيى ، وقيل : هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة ، وقيل : هو صحف إبراهيم ، والأظهر قول الجمهور : إنه التوراة كما قدمنا .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وآتيناه الحكم ، أي : أعطيناه الحكم ، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة ، مرجعها إلى شيء واحد ، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب ، أي : إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبيا ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وآتيناه الحكم صبيا ، أي : الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث ، قال عبد الله بن المبارك قال معمر : قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقنا فلهذا أنزل الله وآتيناه الحكم صبيا ، وقال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : وآتيناه الحكم صبيا ، يقول تعالى ذكره : وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال ، وقد حدثنا أحمد بن منيع قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرني معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية : وآتيناه الحكم صبيا ، قال بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى : اذهب بنا نلعب ، فقال : [ ص: 379 ] ما للعب خلقنا ، فأنزل الله وآتيناه الحكم صبيا ، وقال الزمخشري في الكشاف : وآتيناه الحكم ، أي : الحكمة ، ومنه قول نابغة ذبيان :



واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد وقال أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية : والحكم النبوة ، أو حكم الكتاب ، أو الحكمة ، أو العلم بالأحكام ، أو اللب وهو العقل ، أو آداب الخدمة ، أو الفراسة الصادقة ، أقوال .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به ، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهما صحيحا ، والعمل به حقا ، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة ، وأصل معنى " الحكم " المنع ، والعلم النافع ، والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان .

وقولـه تعالى : صبيا ، أي : لم يبلغ ، وهو الظاهر ، وقيل : صبيا ، أي : شابا لم يبلغ سن الكهولة ذكره أبو حيان وغيره ، والظاهر الأول ، قيل ابن ثلاث سنين ، وقيل ابن سبع ، وقيل ابن سنتين ، والله أعلم .

وقولـه في هذه الآية الكريمة وحنانا ، معطوف على الحكم ، أي : وآتيناه حنانا من لدنا ، والحنان : هو ما جبل عليه من الرحمة ، والعطف والشفقة ، وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب ، ومنه قولهم : حنانك وحنانيك يا رب ، بمعنى رحمتك ، ومن هذا المعنى قول امرئ القيس :



أبنت الحارث الملك بن عمرو له ملك العراق إلى عمان
ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
يعني : رحمتك يا رحمن ، وقول طرفة بن العبد :



أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقول منذر بن درهم الكلبي :



وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا أذو نسب أم أنت بالحي
عارف فقوله " حنان " أي : أمري حنان ، أي رحمة لك ، وعطف وشفقة عليك [ ص: 380 ] وقول الحطيئة أو غيره :

تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا وقولـه تعالى : من لدنا ، أي : من عندنا ، وأصح التفسيرات في قوله " وزكاة " أنه معطوف على ما قبله ، أي : أو أعطيناه زكاة ، أي : طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة ، والتقرب إلى الله بما يرضيه : وقد قدمنا في سورة " الكهف " الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية " وزكاة " الزكاة : التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير ، أي : جعلناه مباركا للناس يهديهم ، وقيل المعنى : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنسانا ، وقيل " زكاة " صدقة على أبويه ، قاله ابن قتيبة انتهى كلام القرطبي ، وهو خلاف التحقيق في معنى الآية ، والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا ، من أن المعنى : وأعطيناه زكاة ، أي : طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى ، وقول من قال من العلماء : بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح ، راجع إلى ما ذكرنا ; لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وكان تقيا ، أي : ممتثلا لأوامر ربه مجتنبا كل ما نهى عنه ، ولذا لم يعمل خطيئة قط ، ولم يلم بها ، قاله القرطبي وغيره عن قتادة وغيره ، وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة ، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعا ، إما بانقطاع ، وإما بعنعنة مدلس : وإما بضعف واو ، كما أشار له ابن كثير وغيره ، وقد قدمنا معنى " التقوى " مرارا وأصل مادتها في اللغة العربية .

وقولـه تعالى : وبرا بوالديه [ 19 \ 14 ] ، البر بالفتح هو فاعل البر بالكسر كثيرا أي : وجعلناه كثير البر بوالديه ، أي : محسنا إليهما ، لطيفا بهما ، لين الجانب لهما ، وقولـه " وبرا " معطوف على قوله " تقيا " ، وقوله : ولم يكن جبارا عصيا ، أي : لم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه ، ولكنه كان مطيعا لله ، متواضعا لوالديه ، قاله ابن جرير ، والجبار : هو كثير الجبر ، أي : القهر للناس ، والظلم لهم ، وكل متكبر على الناس يظلمهم : فهو جبار ، وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى : وإذا بطشتم بطشتم جبارين [ 26 \ 130 ] ، وعلى من يتكرر منه القتل في [ ص: 381 ] قوله : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض الآية [ 28 \ 19 ] ، والظاهر أن قوله : " عصيا " فعول قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة : التي عقدها ابن مالك في الخلاصة بقوله :



إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا
فياء الواو اقلبن مدغما وشذ معطى غير ما قد رسما
فأصل " عصيا " على هذا " عصويا " كصبور ، أي : كثير العصيان ، ويحتمل أن يكون أصله فعيلا وهي من صيغ المبالغة أيضا ، قاله أبو حيان في البحر .

وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، قال ابن جرير : وسلام عليه ، أي : أمان له ، وقال ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف من الأمان ; لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة ، وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول .

انتهى كلام ابن عطية بواسطة نقل القرطبي في تفسير هذه الآية ، ومرجع القولين إلى شيء واحد ; لأن معنى سلام ، التحية ، الأمان ، والسلامة مما يكره ، وقول من قال : هو الأمان ، يعني أن ذلك الأمان من الله ، والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره ، والظاهر المتبادر أن قوله : وسلام عليه يوم ولد ، تحية من الله ليحيى ومعناها الأمان والسلامة ، وقولـه : وسلام عليه مبتدأ ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء ، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته ، ووقت موته ، ووقت بعثه ، في قوله : يوم ولد ويوم يموت الآية ; لأنها أوحش من غيرها ، قال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها ، رواه عنه ابن جرير وغيره ، وذكر ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن الحسن رحمه الله قال : إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال الآخر : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال عيسى : أنت خير مني ، سلمت على نفسي وسلم الله عليك ، وقد نقل القرطبي هذا الكلام الذي رواه ابن جرير عن الحسن البصري رحمه الله تعالى ، ثم قال : انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال إدلاله [ ص: 382 ] في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه ، قال ابن عطية : ولكل وجه ، انتهى كلام القرطبي ، والظاهر أن سلام الله على يحيى في قوله : وسلام عليه يوم ولد الآية [ 19 \ 15 ] ، أعظم من سلام عيسى على نفسه في قوله : والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [ 19 \ 33 ] ، كما هو ظاهر . تنبيه

الفتحة في قوله : يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، يحتمل أن تكون في الظروف الثلاثة فتحة إعراب نصبا على الظرفية ، ويحتمل أن تكون فتحة بناء لجواز البناء في نحو ذلك ، والأجود أن تكون فتحة يوم ولد فتحة بناء ، وفتحة ويوم يموت ويوم يبعث فتحة نصب ; لأن بناء ما قبل الفعل الماضي أجود من إعرابه وإعراب ما قبل المضارع والجملة الاسمية أجود من بنائه ، كما عقده في الخلاصة بقوله :



وابن أو أعرب ما كإذ قد أجريا واختر بنا متلو فعل بنيا وقبل فعل معرب أو مبتدا
أعرب ومن بنى فلن يفندا والأحوال في مثل هذا أربعة : الأول أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء أصليا وهو الماضي ; كقول نابغة ذبيان :



على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع
فبناء الظرف في مثل ذلك أجود ، وإعرابه جائز .

الثاني : أن يضاف الظرف المذكور إلى جملة فعلية فعلها مبني بناء عارضا ، كالمضارع المبني لاتصاله بنون النسوة ، كقول الآخر :



لأجتذبن منهن قلبي تحلما على حين يستصبين كل حليم
وحكم هذا كما قبله .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:30 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (253)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 383 إلى صـ 388


قوله تعالى : ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس ، أي علامة دالة على كمال قدرته ، وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف [ ص: 389 ] يشاء : إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى ، وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء ، كما نص على ذلك في قوله : وخلق منها زوجها [ 4 \ 1 ] ، أي : خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء ، وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم ، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم ، فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج ، أشار له أيضا في " الأنبياء " بقوله : وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] ، وفي " الفلاح " بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الآية [ 23

] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولنجعله آية للناس [ 19 \ 21 ] ، فيه حذف دل المقام عليه ، قال الزمخشري في الكشاف : ولنجعله آية للناس تعليل معلله محذوف ، أي : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك ، أو هو معطوف على تعليل مضمر ، أي : لنبين به قدرتنا ولنجعله آية ، ونحوه : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت [ 45 \ 22 ] ، وقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه [ 12 \ 21 ] اهـ .

وقوله في هذه الآية : ورحمة منا ، أي : لمن آمن به ، ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه ، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

وقوله تعالى : وكان أمرا مقضيا [ 19 \ 21 ] ، أي : وكان وجود ذلك الغلام منك أمرا مقضيا ، أي : مقدرا في الأزل ، مسطورا في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه ، فهو واقع لا محالة .
قوله تعالى : فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم حملت عيسى ، فقوله : فحملته ، أي : عيسى فانتبذت به ، أي : تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها مكانا قصيا ، أي : في مكان بعيد ، والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم ، وفيه أقوال أخر غير ذلك . وقوله : فأجاءها المخاض ، أي : ألجأها الطلق إلى جذع النخلة ، أي : جذع نخلة في ذلك المكان ، والعرب تقول : جاء فلان ، و : أجاءه غيره : إذا حمله على المجيء ، [ ص: 390 ] ومنه قول زهير :



وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء وقول حسان رضي الله عنه :



إذ شددنا شدة صادقة فاجأناكم إلى سفح الجبل والمخاض
: الطلق ، وهو وجع الولادة ، وسمي مخاضا من المخض ، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج .

وقوله : قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا [ 19 \ 23 ] ، تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئا يذكر ، فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به ، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله ، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك وكانت نسيا منسيا ، وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى ، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى - وقعت فيه أو سلمت منه ، ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع ، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك ، كما قال : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا [ 66 \ 12 ] ، وقال : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا الآية [ 21 \ 91 ] ، والذي عليه الجمهور من العلماء : أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت ، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا [ 19 \ 18 ] ، كما تقدم ، ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله : فنفخنا لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته ، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ ، فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى ، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا - أسنده إلى نفسه ، والله تعالى أعلم .

وقول من قال : إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط ، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل .

وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه ، ولكن الله برأها ، وذلك كقوله عنهم : قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون الفاحشة ، وقوله عنهم ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، [ ص: 391 ] يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] .

وقوله : مكانا قصيا ، القصي : البعيد ، ومنه قول الراجز :



لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي
وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23

] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : فانتبذت به ، أي : انتبذت وهو في بطنها ، والإشارة في قوله " هذا " إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع .

وقوله في هذه الآية الكريمة عنها : وكنت نسيا منسيا ، النسي والنسي بالكسر وبالفتح : هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته ، كخرق الحيض ، وكالوتد والعصا ، ونحو ذلك ، ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم : انظروا أنساءكم . جمع نسي أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد ، ونحو ذلك ، فقولها " وكنت نسيا " أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة ، وقولها " منسيا " تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت :



أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل
فقوله " بنسي " أي : شيء تافه منسي ، وقول الشنفرى :



كأن لها في الأرض نسيا تقصه على أمها وإن تحدثك تبلت
فقوله " نسيا " أي : شيء تركته ونسيته ، وقوله " تبلت " بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ، أي : تقطع كلامها من الحياء ، والبلت في اللغة : القطع .

وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي " ياليتني مت " بكسر الميم ، وقرأ الباقون " مت " بضم الميم ، وقرأ حفص عن عاصم ، وحمزة " وكنت نسيا " بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان صحيحتان .
[ ص: 392 ] تنبيه

قراءة " مت " بكسر الميم كثيرا ما يخفى على طلبة العلم وجهها ; لأن لغة " مات يموت " لا يصح منها " مت " بكسر الميم ، ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات ، كخاف يخاف ، لا من مات يموت ، كقال يقول . فلفظ " مات " فيها لغتان عربيتان فصيحتان ، الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :

من ياء أو واو بتحريك أصل ألفا ابدل بعد فتح متصل إن حرك الثاني . . . إلخ ،ومضارع هذه المفتوحة " يموت " بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين ، والحركة المناسبة للواو هي الضمة ، فتقول " مت " بضم الميم ، ولا يجوز غير ذلك .

الثانية أنها " موت " بكسر الواو ، أبدلت الواو ألفا للقاعدة المذكورة آنفا ، ومضارع هذه " يمات " بالفتح ; لأن " فعل " بكسر العين ينقاس في مضارعها بـ " فعل " بفتح العين ، كما قال ابن مالك في اللامية :



وافتح موضع الكسر في المبني من فعلا ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها ، والمقرر في فن الصرف أن كل فعل ثلاثي أجوف - أعني معتل العين - إذا كان على وزن فعل بكسر العين ، أو فعل بضمها ، فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين ، وتضم إن كان من فعل بضمها ، مثال الأول " مت " من مات يمات ; لأن أصلها " موت " بالكسر وكذلك خاف يخاف ، ونام ينام ، فإنك تقول فيها " مت " بكسر الميم ، و " نمت " بكسر النون ، " وخفت " بكسر الخاء ; لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة ، ومثاله في الضم " طال " فأصلها " طول " بضم الواو فتقول فيها " طلت " بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء ، أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت ، وقال يقول ، فإن العين تسقط بالاعتلال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فتضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوا كمات يموت ، وقال يقول ، فتقول مت وقلت ، بالضم . وتكسر الفاء إن [ ص: 393 ] كانت العين الساقطة ياء ، كباع وسار ، فتقول : بعت وسرت بالكسر فيهما ، وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله :



وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين إذا اعتلت
وكان بـ " نا " الإضمار متصلا أو نونه وإذا فتحا يكون منه
اعتض مجانس تلك العين منتقلا واعلم أن مات يمات ، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة ، ومنها قول الراجز :



بنيتي سيدة البنات عيشي ولا نأمن أن تمات
وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة ، وقد أشار إلى اللغات الثلاث - الفصيحتين والردية - بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله :



من منعت زوجته منه المبيت مات يموت ويمات ويميت
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها ; لعدم دليل على شيء منها ، وأظهرها أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ، اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين : قرأه نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي فناداها من تحتها [ 19 \ 24 ] ، بكسر الميم على أن " من " حرف جر ، وخفض تاء " تحتها " لأن الظرف مجرور بـ " من " وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " فناداها من تحتها " بفتح ميم " من " على أنه اسم موصول هو فاعل " نادى " أي ناداها الذي تحتها ، وفتح " تحتها " فعلى القراءة الأولى ففاعل النداء ضمير محذوف ، وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو " من " .

وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير ، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو ؟ فقال بعض العلماء : هو عيسى ، وقال بعض العلماء : هو جبريل ، وممن قال : " إن الذي نادى مريم هو جبريل " ابن عباس ، وعمرو بن ميمون الأودي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وأهل هذا القول قالوا : لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها .

[ ص: 394 ] وممن قال إن الذي ناداها هو عيسى عندما وضعته أبي ، ومجاهد ، والحسن ، ووهب بن منبه ، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد .

فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول : فناداها جبريل من مكان تحتها ; لأنها على ربوة مرتفعة ، وقد ناداها من مكان منخفض عنها ، وبعض أهل هذا القول يقول : كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة ، والظاهر الأول على هذا القول ، وعلى قراءة " فناداها من تحتها " بفتح الميم وتاء " تحتها " عند أهل هذا القول ، فالمعنى فناداها الذي هو تحتها ، أي : في مكان أسفل من مكانها ، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة ، مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا ، أي : وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول " فناداها " هو ، أي : جبريل من تحتها ، وعلى القراءة الثانية " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو جبريل ، وأما على القول بأن المنادي هو عيسى ، فالمعنى على القراءة الأولى : فناداها هو ، أي : المولود الذي وضعته من تحتها ; لأنه كان تحتها عند الوضع ، وعلى القراءة الثانية : " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع ، وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى : ابن جرير الطبري في تفسيره ، واستظهره أبو حيان في البحر ، واستظهر القرطبي أنه جبريل .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى ، وتدل على ذلك قرينتان : الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه ، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل ; لأن الله قال : فحملته ، يعني عيسى فانتبذت به ، أي بعيسى .

ثم قال بعده : " فناداها " فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:34 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (254)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 389 إلى صـ 394


قوله تعالى : ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس ، أي علامة دالة على كمال قدرته ، وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف [ ص: 389 ] يشاء : إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى ، وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء ، كما نص على ذلك في قوله : وخلق منها زوجها [ 4 \ 1 ] ، أي : خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء ، وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معا كما فعل بآدم ، وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم ، فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج ، أشار له أيضا في " الأنبياء " بقوله : وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] ، وفي " الفلاح " بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما الآية [ 23

] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولنجعله آية للناس [ 19 \ 21 ] ، فيه حذف دل المقام عليه ، قال الزمخشري في الكشاف : ولنجعله آية للناس تعليل معلله محذوف ، أي : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك ، أو هو معطوف على تعليل مضمر ، أي : لنبين به قدرتنا ولنجعله آية ، ونحوه : وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت [ 45 \ 22 ] ، وقوله : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه [ 12 \ 21 ] اهـ .

وقوله في هذه الآية : ورحمة منا ، أي : لمن آمن به ، ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه ، كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

وقوله تعالى : وكان أمرا مقضيا [ 19 \ 21 ] ، أي : وكان وجود ذلك الغلام منك أمرا مقضيا ، أي : مقدرا في الأزل ، مسطورا في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه ، فهو واقع لا محالة .
قوله تعالى : فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن مريم حملت عيسى ، فقوله : فحملته ، أي : عيسى فانتبذت به ، أي : تنحت به وبعدت معتزلة عن قومها مكانا قصيا ، أي : في مكان بعيد ، والجمهور على أن المكان المذكور بيت لحم ، وفيه أقوال أخر غير ذلك . وقوله : فأجاءها المخاض ، أي : ألجأها الطلق إلى جذع النخلة ، أي : جذع نخلة في ذلك المكان ، والعرب تقول : جاء فلان ، و : أجاءه غيره : إذا حمله على المجيء ، [ ص: 390 ] ومنه قول زهير :



وجار سار معتمدا إلينا أجاءته المخافة والرجاء وقول حسان رضي الله عنه :



إذ شددنا شدة صادقة فاجأناكم إلى سفح الجبل والمخاض
: الطلق ، وهو وجع الولادة ، وسمي مخاضا من المخض ، وهو الحركة الشديدة لشدة تحرك الجنين في بطنها إذا أراد الخروج .

وقوله : قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا [ 19 \ 23 ] ، تمنت أن تكون قد ماتت قبل ذلك ولم تكن شيئا يذكر ، فإذا عرفت معنى هاتين الآيتين فاعلم أنه هنا لم يبين كيفية حملها به ، ولم يبين هل هذا الذي تنحت عنهم من أجله ، وتمنت من أجله أن تكون ماتت قبل ذلك وكانت نسيا منسيا ، وهو خوفها من أن يتهموها بالزنى ، وأنها جاءت بذلك الغلام من زنى - وقعت فيه أو سلمت منه ، ولكنه تعالى بين كل ذلك في غير هذا الموضع ، فأشار إلى أن كيفية حملها أنه نفح فيها فوصل النفخ إلى فرجها فوقع الحمل بسبب ذلك ، كما قال : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا [ 66 \ 12 ] ، وقال : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا الآية [ 21 \ 91 ] ، والذي عليه الجمهور من العلماء : أن المراد بذلك النفخ نفخ جبريل فيها بإذن الله فحملت ، كما تدل لذلك قراءة الجمهور في قوله : إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا [ 19 \ 18 ] ، كما تقدم ، ولا ينافي ذلك إسناد الله جل وعلا النفخ المذكور لنفسه في قوله : فنفخنا لأن جبريل إنما أوقعه بإذنه وأمره ومشيئته ، وهو تعالى الذي خلق الحمل من ذلك النفخ ، فجبريل لا قدرة له على أن يخلق الحمل من ذلك النفخ ومن أجل كونه بإذنه ومشيئته وأمره تعالى ، ولا يمكن أن يقع النفخ المذكور ولا وجود الحمل منه إلا بمشيئته جل وعلا - أسنده إلى نفسه ، والله تعالى أعلم .

وقول من قال : إن فرجها الذي نفخ فيه الملك هو جيب درعها ظاهر السقوط ، بل النفخ الواقع في جيب الدرع وصل إلى الفرج المعروف فوقع الحمل .

وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أن ذلك الذي خافت منه وهو قذفهم لها بالفاحشة قد وقعت فيه ، ولكن الله برأها ، وذلك كقوله عنهم : قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، يعنون الفاحشة ، وقوله عنهم ، ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، [ ص: 391 ] يعنون فكيف فجرت أنت وجئت بهذا الولد ؟ وكقوله تعالى وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] .

وقوله : مكانا قصيا ، القصي : البعيد ، ومنه قول الراجز :



لتقعدن مقعد القصي مني ذي القاذورة المقلي
أو تحلفي بربك العلي أني أبو ذيالك الصبي
وهذا المكان القصي قد وصفه الله تعالى في غير هذا الموضع بقوله : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23

] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : فانتبذت به ، أي : انتبذت وهو في بطنها ، والإشارة في قوله " هذا " إلى الحمل والمخاض الذي أصابها للوضع .

وقوله في هذه الآية الكريمة عنها : وكنت نسيا منسيا ، النسي والنسي بالكسر وبالفتح : هو ما من حقه أن يطرح وينسى لحقارته ، كخرق الحيض ، وكالوتد والعصا ، ونحو ذلك ، ومن كلام العرب إذا ارتحلوا عن الدار قولهم : انظروا أنساءكم . جمع نسي أي الأشياء الحقيرة التي من شأنها أن تترك وتنسى كالعصا والوتد ، ونحو ذلك ، فقولها " وكنت نسيا " أي شيئا تافها حقيرا من حقه أن يترك وينسى عادة ، وقولها " منسيا " تعني أن ذلك الشيء التافه الذي من عادته أن يترك وينسى قد نسي وطرح بالفعل فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وأقوال المفسرين في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، ومن إطلاق النسي على ما ذكرنا قول الكميت :



أتجعلنا جسرا لكلب قضاعة ولست بنسي في معد ولا دخل
فقوله " بنسي " أي : شيء تافه منسي ، وقول الشنفرى :



كأن لها في الأرض نسيا تقصه على أمها وإن تحدثك تبلت
فقوله " نسيا " أي : شيء تركته ونسيته ، وقوله " تبلت " بفتح التاء وسكون الباء الموحدة وفتح اللام بعدها تاء التأنيث ، أي : تقطع كلامها من الحياء ، والبلت في اللغة : القطع .

وقرأ نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي " ياليتني مت " بكسر الميم ، وقرأ الباقون " مت " بضم الميم ، وقرأ حفص عن عاصم ، وحمزة " وكنت نسيا " بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان صحيحتان .
[ ص: 392 ] تنبيه

قراءة " مت " بكسر الميم كثيرا ما يخفى على طلبة العلم وجهها ; لأن لغة " مات يموت " لا يصح منها " مت " بكسر الميم ، ووجه القراءة بكسر الميم أنه من مات يمات ، كخاف يخاف ، لا من مات يموت ، كقال يقول . فلفظ " مات " فيها لغتان عربيتان فصيحتان ، الأولى منهما موت بفتح الواو فأبدلت الواو ألفا على القاعدة التصريفية المشار لها بقوله في الخلاصة :

من ياء أو واو بتحريك أصل ألفا ابدل بعد فتح متصل إن حرك الثاني . . . إلخ ،ومضارع هذه المفتوحة " يموت " بالضم على القياس وفي هذه ونحوها إن أسند الفعل إلى تاء الفاعل أو نونه سقطت العين بالاعتلال وحركت الفاء بحركة تناسب العين ، والحركة المناسبة للواو هي الضمة ، فتقول " مت " بضم الميم ، ولا يجوز غير ذلك .

الثانية أنها " موت " بكسر الواو ، أبدلت الواو ألفا للقاعدة المذكورة آنفا ، ومضارع هذه " يمات " بالفتح ; لأن " فعل " بكسر العين ينقاس في مضارعها بـ " فعل " بفتح العين ، كما قال ابن مالك في اللامية :



وافتح موضع الكسر في المبني من فعلا ويستثنى من هذه القاعدة كلمات معروفة سماعية تحفظ ولا يقاس عليها ، والمقرر في فن الصرف أن كل فعل ثلاثي أجوف - أعني معتل العين - إذا كان على وزن فعل بكسر العين ، أو فعل بضمها ، فإنه إذا أسند إلى تاء الفاعل أو نونه تسقط عينه بالاعتلال وتنقل حركة عينه الساقطة بالاعتلال إلى الفاء فتكسر فاؤه إن كان من فعل بكسر العين ، وتضم إن كان من فعل بضمها ، مثال الأول " مت " من مات يمات ; لأن أصلها " موت " بالكسر وكذلك خاف يخاف ، ونام ينام ، فإنك تقول فيها " مت " بكسر الميم ، و " نمت " بكسر النون ، " وخفت " بكسر الخاء ; لأن حركة العين نقلت إلى الفاء وهي الكسرة ، ومثاله في الضم " طال " فأصلها " طول " بضم الواو فتقول فيها " طلت " بالضم لنقل حركة العين إلى الفاء ، أما إذا كان الثلاثي من فعل بفتح العين كمات يموت ، وقال يقول ، فإن العين تسقط بالاعتلال وتحرك الفاء بحركة مناسبة للعين الساقطة فتضم الفاء إن كانت العين الساقطة واوا كمات يموت ، وقال يقول ، فتقول مت وقلت ، بالضم . وتكسر الفاء إن [ ص: 393 ] كانت العين الساقطة ياء ، كباع وسار ، فتقول : بعت وسرت بالكسر فيهما ، وإلى هذا أشار ابن مالك في اللامية بقوله :



وانقل لفاء الثلاثي في شكل عين إذا اعتلت
وكان بـ " نا " الإضمار متصلا أو نونه وإذا فتحا يكون منه
اعتض مجانس تلك العين منتقلا واعلم أن مات يمات ، من فعل بالكسر يفعل بالفتح لغة فصيحة ، ومنها قول الراجز :



بنيتي سيدة البنات عيشي ولا نأمن أن تمات
وأما مات يميت فهي لغة ضعيفة ، وقد أشار إلى اللغات الثلاث - الفصيحتين والردية - بعض أدباء قطر شنقيط في بيت رجز هو قوله :



من منعت زوجته منه المبيت مات يموت ويمات ويميت
وأقوال العلماء في قدر المدة التي حملت فيها مريم بعيسى قبل الوضع لم نذكرها ; لعدم دليل على شيء منها ، وأظهرها أنه حمل كعادة حمل النساء وإن كان منشؤه خارقا للعادة ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا ، اعلم أولا أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين : قرأه نافع ، وحفص عن عاصم ، وحمزة والكسائي فناداها من تحتها [ 19 \ 24 ] ، بكسر الميم على أن " من " حرف جر ، وخفض تاء " تحتها " لأن الظرف مجرور بـ " من " وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " فناداها من تحتها " بفتح ميم " من " على أنه اسم موصول هو فاعل " نادى " أي ناداها الذي تحتها ، وفتح " تحتها " فعلى القراءة الأولى ففاعل النداء ضمير محذوف ، وعلى الثانية فالفاعل الاسم الموصول الذي هو " من " .

وإذا عرفت هذا فاعلم أن العلماء مختلفون في هذا المنادي الذي ناداها المعبر عنه في إحدى القراءتين بالضمير ، وفي الثانية بالاسم الموصول من هو ؟ فقال بعض العلماء : هو عيسى ، وقال بعض العلماء : هو جبريل ، وممن قال : " إن الذي نادى مريم هو جبريل " ابن عباس ، وعمرو بن ميمون الأودي ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وسعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه ، وأهل هذا القول قالوا : لم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها .

[ ص: 394 ] وممن قال إن الذي ناداها هو عيسى عندما وضعته أبي ، ومجاهد ، والحسن ، ووهب بن منبه ، وسعيد بن جبير في الرواية الأخرى عنه وابن زيد .

فإذا علمت ذلك فاعلم أن من قال إنه الملك يقول : فناداها جبريل من مكان تحتها ; لأنها على ربوة مرتفعة ، وقد ناداها من مكان منخفض عنها ، وبعض أهل هذا القول يقول : كان جبريل تحتها يقبل الولد كما تقبله القابلة ، والظاهر الأول على هذا القول ، وعلى قراءة " فناداها من تحتها " بفتح الميم وتاء " تحتها " عند أهل هذا القول ، فالمعنى فناداها الذي هو تحتها ، أي : في مكان أسفل من مكانها ، أو تحتها يقبل الولد كما تقبل القابلة ، مع ضعف الاحتمال الأخير كما قدمنا ، أي : وهو جبريل فعلى القراءة الأولى على هذا القول " فناداها " هو ، أي : جبريل من تحتها ، وعلى القراءة الثانية " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو جبريل ، وأما على القول بأن المنادي هو عيسى ، فالمعنى على القراءة الأولى : فناداها هو ، أي : المولود الذي وضعته من تحتها ; لأنه كان تحتها عند الوضع ، وعلى القراءة الثانية : " فناداها من تحتها " أي : الذي تحتها وهو المولود المذكور الكائن تحتها عند الوضع ، وممن اختار أن الذي ناداها هو عيسى : ابن جرير الطبري في تفسيره ، واستظهره أبو حيان في البحر ، واستظهر القرطبي أنه جبريل .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن الذي ناداها هو ابنها عيسى ، وتدل على ذلك قرينتان : الأولى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور إلا بدليل صارف عن ذلك يجب الرجوع إليه ، وأقرب مذكور في الآية هو عيسى لا جبريل ; لأن الله قال : فحملته ، يعني عيسى فانتبذت به ، أي بعيسى .

ثم قال بعده : " فناداها " فالذي يظهر ويتبادر من السياق أنه عيسى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:37 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (255)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 395 إلى صـ 400



والقرينة الثانية أنها لما جاءت به قومها تحمله ، وقالوا لها ما قالوا أشارت إلى عيسى ليكلموه ، كما قال تعالى عنها : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، وإشارتها إليه ليكلموه قرينة على أنها عرفت قبل ذلك أنه يتكلم على سبيل خرق العادة لندائه لها عندما وضعته ، وبهذه القرينة الأخيرة استدل سعيد بن جبير في إحدى الروايتين عنه على أنه عيسى ، كما نقله عنه غير واحد ، و " أن " في قوله " ألا تحزني " هي المفسرة ، فهي بمعنى أي ، وضابط " أن " المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه كما هنا ، فالنداء فيه بمعنى القول دون حروفه ومعنى كونها مفسرة : أن الكلام الذي بعدها هو معنى ما [ ص: 395 ] قبلها ، فالنداء المذكور قبلها هو : لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .

واختلف العلماء في المراد بالسري هنا ، فقال بعض العلماء : هو الجدول وهو النهر الصغير ; لأن الله أجرى لها تحتها نهرا ، وعليه فقوله تعالى : فكلي أي : من الرطب المذكور في قوله : تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، واشربي [ 19 \ 26 ] ، أي : من النهر المذكور في قوله : قد جعل ربك تحتك سريا ، وإطلاق السري على الجدول مشهور في كلام العرب ، ومنه قول لبيد في معلقته :



فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاورا قلامها وقول لبيد أيضا يصف نخلا نابتا على ماء النهر :



سحق يمتعها الصفا وسريه عم نواعم بينهن كروم
وقول الآخر : .



سهل الخليقة ماجد ذو نائل مثل السري تمده الأنهار
فقوله " سريا " ، وقولهما " السري " بمعنى الجدول ، وكذلك قول الراجز :



سلم ترى الدالي منه أزورا إذا يعب في السري هرهرا
وقال بعض أهل العلم : السري هو عيسى ، والسري هو الرجل الذي له شرف ومروءة ، يقال في فعله سرو " بالضم " وسرا " بالفتح " يسرو سروا ، فيهما ، وسري " بالكسر " يسري سرى وسراء وسروا : إذا شرف ، ويجمع السري هذا على أسرياء على القياس ، وسرواء وسراة بالفتح ، وعن سيبويه أن السراة بالفتح اسم جمع لا جمع ، ومنه قول الأفوه الأودي :



لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ويجمع السراة على سروات ، ومنه قول قيس بن الحطيم :



وعمرة من سروات النساء تنفح بالمسك أردانها
ومن إطلاق السري بمعنى الشريف قول الشاعر :



تلقى السري من الرجال بنفسه وابن السري إذا سرا أسراهما
وقوله " أسراهما " ، أي : أشرفهما ، قاله في اللسان .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي أن السري في الآية النهر [ ص: 396 ] الصغير ، والدليل على ذلك أمران :

أحدهما : القرينة من القرآن ، فقوله تعالى : فكلي واشربي ، قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به في قوله : قد جعل ربك تحتك سريا [ 19 \ 24 ] ، وقوله : تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، وكذلك قوله تعالى : وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين [ 23 \ 25 ] ; لأن المعين الماء الجاري ، والظاهر أنه الجدول المعبر عنه بالسري في هذه الآية ، والله تعالى أعلم .

الأمر الثاني : حديث جاء بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وقد جاء بذلك حديث مرفوع ، قال الطبراني : حدثنا أبو شعيب الحراني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي ، حدثنا أيوب بن نهيك ، سمعت عكرمة مولى ابن عباس ، سمعت ابن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن السري الذي قال الله لمريم : قد جعل ربك تحتك سريا ، نهر أخرجه الله لها لتشرب منه " وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ، وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي ، قال فيه أبو حاتم الرازي : ضعيف ، وقال أبو زرعة : منكر الحديث ، وقال أبو الفتح الأزدي : متروك الحديث . انتهى كلام ابن كثير ، وقال ابن حجر رحمه الله في " الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف " في الحديث المذكور : أخرجه الطبراني في الصغير ، وابن عدي من رواية أبي سنان سعيد بن سنان ، عن أبي إسحاق ، عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : قد جعل ربك تحتك سريا ، قال : " السري : النهر " ، قال الطبراني : لم يرفعه عن أبي إسحاق إلا أبو سنان ، رواه عنه يحيى بن معاوية وهو ضعيف ، وأخرجه عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن أبي إسحاق عن البراء موقوفا ، وكذا ذكره البخاري تعليقا عن وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، ورواه ابن مردويه من طريق آدم ، عن إسرائيل كذلك وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبي إسحاق موقوفا ، وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " إن السري الذي قاله لمريم نهر أخرجه الله لتشرب منه " ، أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر ، وراويه عن عكرمة أيوب بن نهيك ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة ، انتهى .

فهذا الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت طرقه لا يخلو شيء منها من ضعف أقرب إلى الصواب من دعوى أن السري عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وممن اختار أن السري المذكور في الآية النهر : ابن جرير في تفسيره ، وبه قال البراء بن عازب ، وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وعمرو بن ميمون ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، [ ص: 397 ] والضحاك ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والسدي ، ووهب بن منبه وغيرهم ، وممن قال إنه عيسى : الحسن ، والربيع بن أنس ، ومحمد بن عباد بن جعفر ، وهو إحدى الروايتين عن قتادة ، وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قاله ابن كثير وغيره .
قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا ، لم يصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة ببيان الشيء الذي أمرها أن تأكل منه ، والشيء الذي أمرها أن تشرب منه ، ولكنه أشار إلى أن الذي أمرها أن تأكل منه هو : " الرطب الجني " المذكور ، والذي أمرها أن تشرب منه هو النهر المذكور المعبر عنه " بالسري " كما تقدم ، هذا هو الظاهر .

وقال بعض العلماء : إن جذع النخلة الذي أمرها أن تهز به كان جذعا يابسا ; فلما هزته جعله الله نخلة ذات رطب جني ، وقال بعض العلماء : كان الجذع جذع نخلة نابتة إلا أنها غير مثمرة ، فلما هزته أنبت الله فيه الثمر وجعله رطبا جنيا ، وقال بعض العلماء : كانت النخلة مثمرة ، وقد أمرها الله بهزها ليتساقط لها الرطب الذي كان موجودا ، والذي يفهم من سياق القرآن : أن الله أنبت لها ذلك الرطب على سبيل خرق العادة ، وأجرى لها ذلك النهر على سبيل خرق العادة ، ولم يكن الرطب والنهر موجودين قبل ذلك ، سواء قلنا إن الجذع كان يابسا أو نخلة غير مثمرة ، إلا أن الله أنبت فيه الثمر وجعله رطبا جنيا ، ووجه دلالة السياق على ذلك أن قوله تعالى : فكلي واشربي وقري عينا ، يدل على أن عينها إنما تقر في ذلك الوقت بالأمور الخارقة للعادة ; لأنها هي التي تبين براءتها مما اتهموها به ، فوجود هذه الخوارق من تفجير النهر ، وإنبات الرطب ، وكلام المولود - تطمئن إليه نفسها وتزول به عنها الريبة ، وبذلك يكون قرة عين لها ; لأن مجرد الأكل والشرب مع بقاء التهمة التي تمنت بسببها أن تكون قد ماتت من قبل وكانت نسيا منسيا ، لم يكن قرة لعينها في ذلك الوقت كما هو ظاهر ، وخرق الله لها العادة بتفجير الماء ، وإنبات الرطب ، وكلام المولود لا غرابة فيه ، وقد نص الله جل وعلا في " آل عمران " على خرقه لها العادة في قوله : كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب [ 3 \ 37 ] ، قال العلماء : كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وإجراء النهر وإنبات الرطب ليس أغرب من هذا المذكور في سورة " آل عمران " .
[ ص: 398 ] مسألة

أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وهزي إليك بجذع النخلة الآية ، أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا ، وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة أن الأخذ بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال ; لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ، فهو متوكل على الله ، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر ، ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف .

ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى : قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الآية [ 21 \ 69 ] ، فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجزأ إلى معان مختلفة ، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رمادا من حرها في الوقت الذي هي كائنة بردا وسلاما على إبراهيم ، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا .

ومن أوضح الأدلة في ذلك : أنه ربما جعل الشيء سببا لشيء آخر مع أنه مناف له ، كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سببا لحياته ، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته ؛ إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت ، وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، ولا يقع تأثير ألبتة إلا بمشيئته جل وعلا .

ومما يوضح أن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله قوله تعالى عن يعقوب : وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة [ 12 \ 67 ] ، أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب ، وتسبب في ذلك بالأمر به ; لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلا أبناء رجل واحد ، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام ، فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطيا للسبب في السلامة من إصابة العين ; كما قال غير واحد من علماء السلف ، ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه : [ ص: 399 ] وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] ، فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله : لا تدخلوا من باب واحد ، وبين التوكل على الله في قوله : عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ، وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته ، والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع ، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع ، وقد قال بعضهم في ذلك :



ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزه
جنته ولكن كل شيء له سبب وقد أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن خير ما تطعمه النفساء الرطب ، قالوا : لو كان شيء أحسن للنفساء من الرطب لأطعمه الله مريم وقت نفاسها بعيسى ، قاله الربيع بن خثيم وغيره ، والباء في قوله : وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] ، مزيدة للتوكيد ; لأن فعل الهز يتعدى بنفسه ، وزيادة حرف الباء للتوكيد قبل مفعول الفعل المتعدي بنفسه كثيرة في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله هنا وهزي إليك بجذع النخلة ; لأن المتبادر من اللغة أن الأصل : وهزي إليك جذع النخلة ، وقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] ، وقوله : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم الآية [ 22 \ 25 ] ، وقوله : فستبصر ويبصرون بأييكم المفتون الآية [ 68 \ 5 - 6 ] ، وقوله : " تنبت بالدهن " ، على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم التاء وكسر الباء مضارع " أنبت " الرباعي ; لأن الرباعي الذي هو " أنبت ينبت " بضم الياء المثناة وكسر الباء الموحدة يتعدى بنفسه دون الحرف ، فالباء مزيدة للتوكيد كما رأيت في الآيات المذكورة ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :



إذ يسفون بالدقيق وكانوا قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
لأن الأصل : يسفون الدقيق ، فزيدت الباء للتوكيد .

وقول الراعي :



هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور
فالأصل : لا يقرأن السور ، فزيدت الباء لما ذكر .

وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره :

[ ص: 400 ]

بواد يمان ينبت السدر صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
فالأصل : وأسفله المرخ ; أي : وينبت أسفله المرخ ، فزيدت الباء لما ذكر .

وقول الأعشى :



ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ملء المراجل والصريح الأجردا
فالأصل : ضمنت رزق عيالنا .

وقول الراجز :



نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي : نرجو الفرج .

وقول امرئ القيس :



فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
فالأصل : هصرت غصنا ; لأن هصر تتعدى بنفسها .

وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب .

وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : " تساقط " تسع قراءات ، ثلاث منها سبعية ، وست شاذة ، أما الثلاث السبعية فقد قرأه حمزة وحده من السبعة " تساقط " بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف ، وأصله : تتساقط ; فحذفت إحدى التاءين ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل ، وقرأه حفص وحده عن عاصم " تساقط " بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين ، مضارع ساقطت تساقط ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " مفعول به للفعل الذي هو : تساقط هي ، أي النخلة ، رطبا ، وقرأه بقية السبعة " تساقط " بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، أصله : تتساقط ; فأدغمت إحدى التاءين في السين ، وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزة .

وغير هذا من القراءات شاذ .

وقوله في هذه الآية الكريمة : رطبا جنيا الجني : هو ما طاب وصلح لأن يجنى فيؤكل ، وعن أبي عمرو بن العلاء : أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس ، ولم يبعد عن يدي متناوله .
قوله تعالى : فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، قائل هذا الكلام لمريم : هو الذي ناداها من تحتها ألا تحزني ، وقد قدمنا الخلاف فيه ; هل هو عيسى أو جبريل ، وما يظهر رجحانه عندنا من ذلك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:40 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (256)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 401 إلى صـ 406



[ ص: 401 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : فقولي إني نذرت للرحمن صوما [ 19 \ 21 ] ، قيل أمرت أن تقول ذلك باللفظ ، وقيل أمرت أن تقوله بالإشارة ، وكونها أمرت أن تقوله باللفظ هو مذهب الجمهور ; كما قاله القرطبي وأبو حيان ، وهو ظاهر الآية الكريمة ; لأن ظاهر القول في قوله تعالى : فقولي إني نذرت الآية ، أنه قول باللسان ، واستدل من قال : إنها أمرت أن تقول ذلك بالإشارة بأنها لو قالته باللفظ أفسدت نذرها الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسيا ، فإذا قالت لإنسي بلسانها : إني نذرت للرحمن صوما ، فقد كلمت ذلك الإنسي فأفسدت نذرها ، واختار هذا القول الأخير لدلالة الآية عليه ابن كثير رحمه الله ، قال في تفسير هذه الآية : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ، المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك لا أن المراد القول اللفظي لئلا ينافي فلن أكلم اليوم إنسيا ، وأجاب المخالفون عن هذا بأن المعنى فلن أكلم اليوم إنسيا بعد قولي : إني نذرت للرحمن صوما فقد رأيت كلام العلماء في الآية ، وأن القول الأول يدل عليه ظاهر السياق ، وأن الثاني يدل عليه قوله : فلن أكلم اليوم إنسيا لأنه يدل على نفي الكلام للإنسي مطلقا ، قال أبو حيان في البحر : وقوله " إنسيا " لأنها كانت تكلم الملائكة ، ومعنى كلامه أن قوله " إنسيا " له مفهوم مخالفة ، أي : بخلاف غير الإنسي كالملائكة فإني أكلمه ، والذي يظهر لي أنه لم يرد في الكلام إخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وإنما المراد شمول نفي الكلام لكل إنسان كائنا من كان .
مسألة .

اعلم أنه على هذا القول الذي اختاره ابن كثير أن المراد بقوله : فقولي إني نذرت للرحمن صوما ، أي : قولي ذلك بالإشارة - يدل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام ; لأنها في هذه الآية سميت قولا على هذا الوجه من التفسير ، وسمع في كلام العرب كثيرا إطلاق الكلام على الإشارة ، كقوله :



إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى ما يدل من النصوص على أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة الكلام ، وما يدل من النصوص على أنها ليست كالكلام ، وأقوال العلماء في ذلك .

اعلم أنه دلت أدلة على قيام الإشارة المفهمة مقام الكلام ، وجاءت أدلة أخرى يفهم [ ص: 402 ] منها خلاف ذلك ، فمن الأدلة الدالة على قيام الإشارة مقام الكلام قصة الأمة السوداء التي قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين الله " ؟ فأشارت إلى السماء ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أعتقها فإنها مؤمنة " فجعل إشارتها كنطقها في الإيمان الذي هو أصل الديانات ، وهو الذي يعصم به الدم والمال ، وتستحق به الجنة ، وينجى به من النار ، والقصة مشهورة مروية عن جماعة من الصحابة ، منهم أبو هريرة ، وابن عباس ، ومعاوية بن الحكم السلمي ، والشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنهم ، وفي بعض رواياتهم أنها أشارت إلى السماء ، قال أبو داود في سننه : حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، ثنا يزيد بن هارون ، قال أخبرني المسعودي عن عون بن عبد الله ، عن عبد الله بن عتبة ، عن أبي هريرة : أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بجارية سوداء فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة . فقال لها : " أين الله فأشارت إلى السماء بإصبعها فقال لها : " فمن أنا " ؟ فأشارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى السماء ، يعني أنت رسول الله ، فقال : " أعتقها فإنها مؤمنة " ، والظاهر حمل الروايات التي فيها أنه لما قال لها أين الله قالت في السماء من غير ذكر الإشارة ، على أنها قالت ذلك بالإشارة ; لأن القصة واحدة ، والروايات يفسر بعضها بعضا . قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في سورة " آل عمران " في الكلام على قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] ، ما نصه : في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة ، وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها : " أين الله " ؟ فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : " أعتقها فإنها مؤمنة " فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الدين الذي يحرز به الدم والمال ، وتستحق به الجنة وينجى به من النار ، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك ، فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة ، وهو قول عامة الفقهاء .

وروى ابن القاسم عن مالك : أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه ، وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه : فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق ، وقال أبو حنيفة : ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف ، وإن شك فيها فهذا باطل ، وليس ذلك بقياس ، وإنما هو استحسان ، والقياس في هذا كله أنه باطل ; لأنه لا يتكلم ولا تعقل إشارته . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي رحمه الله .

وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة تدل على قيام الإشارة مقام الكلام في أشياء متعددة ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، أن [ ص: 403 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال : " الشهر هكذا وهكذا وهكذا - ثم عقد إبهامه في الثالثة - فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن أغمي عليكم فاقدروا له ثلاثين " هذا لفظ مسلم في صحيحه وهو صريح في أنه صلى الله عليه وسلم نزل إشارته بأصابعه إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما ، وقد يكون ثلاثين منزلة نطقه بذلك ، وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على هذا الحديث : وفي هذا الحديث جواز اعتماد الإشارة المفهمة في مثل هذا ، وحديث ابن عمر هذا أورده البخاري في باب ) اللعان ( مستدلا به على أن الإشارة كاللفظ ، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه أحاديث كثيرة تدل على جعل الإشارة كالنطق ، قال رحمه الله تعالى : ) باب الإشارة في الطلاق والأمور ( وقال ابن عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم ، " لا يعذب الله بدمع العين ولكن يعذب بهذا " فأشار إلى لسانه ، وقال كعب بن مالك : أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلي ، أي : خذ النصف ، وقالت أسماء : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف ، فقلت لعائشة : ما شأن الناس ؟ وهي تصلي ، فأومأت برأسها إلى الشمس ، فقلت : آية ؟ فأومأت برأسها أن نعم ، وقال أنس : أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وقال ابن عباس : أومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده لا حرج ، وقال أبو قتادة : قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد للمحرم : " أحدكم أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ " قالوا لا ، قال : " فكلوا " حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، حدثنا إبراهيم ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير ، وكان كلما أتى على الركن أشار إليه وكبر ، وقالت زينب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فتح من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وهذه " وعقد تسعين .

حدثنا مسدد ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا سلمة بن علقمة ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : " في الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم قائم يصلي يسأل الله خيرا إلا أعطاه " وقال بيده ، ووضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر ، قلنا : يزهدها . وقال الأويسي : حدثنا إبراهيم بن سعد عن شعبة بن الحجاج عن هشام بن يزيد عن أنس بن مالك قال : عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية فأخذ أوضاحا كانت عليها ، ورضخ رأسها ، فأتى به أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتلك ، فلان ؟ " لغير الذي قتلها ، فأشارت برأسها أن لا ، قال : فقال لرجل آخر غير الذي قتلها ، فأشارت أن لا ، فقال : " فلان ؟ " لقاتلها ، فأشارت أن نعم ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين ، حدثنا قبيصة ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن [ ص: 404 ] دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الفتنة من هنا " وأشار إلى المشرق ، حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن أبي إسحاق الشيباني عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كنا في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلما غربت الشمس قال لرجل : " انزل فاجدح لي " قال : يا رسول الله ، لو أمسيت . ثم قال : انزل فاجدح " قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو أمسيت إن عليك نهارا ، ثم قال : " انزل فاجدح " فنزل فجدح له في الثالثة فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أومأ بيده إلى المشرق فقال : " إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم " ، حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا يزيد بن زريع ، عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدا منكم نداء بلال - أو قال : أذانه من سحوره - فإنما ينادي - أو قال : يؤذن - ليرجع قائمكم وليس أن يقول . كأنه يعني الصبح أو الفجر . وأظهر يزيد يديه ثم مد إحداهما من الأخرى ، وقال الليث : حدثني جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز ، سمعت أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثدييهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق شيئا إلا مادت على جلده حتى تجن بنانه وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد ينفق إلا لزمت كل حلقة موضعها ، فهو يوسعها فلا تتسع " ، ويشير بأصبعه إلى حلقه ، انتهى من صحيح البخاري .

فهذه أحاديث دالة على قيام الإشارة مقام النطق في أمور متعددة ، وقال ابن حجر في الفتح في هذا الباب : ذكر فيه عدة أحاديث معلقة وموصولة أولها قوله : وقال ابن عمر . هو طرف من حديث تقدم موصولا في الجنائز ، وفيه قصة لسعد بن عبادة ، وفيها : " ولكن الله يعذب بهذا " وأشار إلى لسانه .

ثانيها : وقال كعب بن مالك . هو أيضا طرف من حديث تقدم موصولا في الملازمة . وفيها وأشار إلي أن خذ النصف . ثالثها : وقالت أسماء هي بنت أبي بكر : صلى النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف ، الحديث تقدم موصولا في كتاب الإيمان بلفظ : فأشارت إلى السماء ، وفيه : فأشارت برأسها ، أي : نعم ، وفي صلاة الكسوف بمعناه ، وفي صلاة السهو باختصار . إلى آخر كلامه ، وبالجملة فجميع الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب المذكور كلها ثابتة في الصحيح موصولة ، أما ما جاء منها موصولا في الباب المذكور فأمره واضح ، وأما ما جاء منها معلقا في الباب المذكور فقد جاء موصولا في محل آخر من [ ص: 405 ] البخاري .

والحديث الأول دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل إشارته إلى اللسان أن الله يعذب به كنطقه بذلك .

والحديث الثاني جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى كعب بن مالك أن يسقط نصف ديته عن ابن أبي حدرد ويأخذ النصف الباقي منه كنطقه بذلك .

والحديث الثالث جعلت فيه عائشة إشارتها لأختها أن الكسوف آية من آيات الله هي السبب في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ، كنطقها بذلك .

والحديث الرابع : جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يتقدم كنطقه له بذلك ، وإيضاح ذلك هو ما رواه البخاري عن أنس في باب ) أهل العلم والفضل أحق بالإمامة ) .

قال أنس : لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه فلما وضح وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما نظرنا منظرا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم حين وضح لنا ، فأومأ النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى أبي بكر أن يتقدم ، وأرخى النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب فلم يقدر عليه حتى مات . اهـ . هذا لفظ البخاري .

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث في مرض موته وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بقليل إشارته إلى أبي بكر أن يتقدم ليصلي بالناس كنطقه له بذلك ; لأن أبا بكر رضي الله عنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم كشف الحجاب نكص على عقبيه ليصل الصف ، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى الصلاة كما ثبت في صحيح البخاري في الباب المذكور آنفا من حديث أنس ، فأشار إليه أن يتقدم ، وقامت الإشارة مقام النطق .

والحديث الخامس جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الفتيا بإشارة اليد كالفتيا بالنطق ، وإيضاحه هو ما رواه البخاري في كتاب العلم ) في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس ( حدثنا موسى بن إسماعيل ، قال حدثنا وهيب ، قال حدثنا أيوب ، عن عكرمة عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل في حجته فقال : " ذبحت قبل أن أرمي فأومأ بيده قال : ولا حرج ، قال : حلقت قبل أن أذبح ، فأومأ بيده ولا حرج " ، ومن أمثلة الفتيا بإشارة اليد ما رواه البخاري في هذا الباب المذكور آنفا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقبض العلم ويظهر الجهل والفتن ، ويكثر الهرج " قيل : يا رسول الله ، وما الهرج ! فقال هكذا بيده ، فحرفها كأنه يريد القتل . اهـ .

فجعل صلى الله عليه وسلم إشارته بيده كنطقه ، بأن [ ص: 406 ] المراد بالهرج القتل .

والحديث السادس جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة المحرم إلى الصيد لينبه إليه المحل كأمره له باصطياده بالنطق ، وقد قدمنا هذا الحديث في سورة " المائدة " .

والحديث السابع جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة إلى الركن في طوافه كاستلامه وتقبيله بالفعل .

والحديث الثامن جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارته بأصابعه كعقد التسعين لبيان القدر الذي فتح من ردم يأجوج ومأجوج كالنطق بذلك .

والحديث التاسع فيه أنه جعل وضع أنملته على بطن الوسطى والخنصر ، مشيرا بذلك لقلة زمن الساعة التي يجاب فيها الدعاء بالخير يوم الجمعة ، أو مشيرا بذلك لوقتها عند من قال : إن وضع الأنملة في وسط الكف يراد به الإشارة إلى أن ساعة الجمعة في وسط يوم الجمعة ، ووضعها على الخنصر يراد به أنها في آخر النهار ; لأن الخنصر آخر أصابع الكف كالنطق بذلك ، وذكر ابن حجر عن بعض أهل العلم ، أن هذه الإشارة باليد لساعة الجمعة من فعل بشر بن المفضل راوي الحديث عن سلمة بن علقمة كما تقدم في إسناد الحديث ، وعليه ففي سياق هذا الحديث عند البخاري إدراج .

والحديث العاشر جعل فيه النبي صلى الله عليه وسلم إشارة الجارية التي قتلها اليهودي كنطقها بأن اليهودي قتلها ، وأن من سمي لها غيره لم يكن هو الذي قتلها ، وقد قدمنا هذا الحديث في سورة " بني إسرائيل " وبينا هنالك أن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان جعل إشارة الجارية كنطقها لم يقتل اليهودي بإشارة الجارية القائمة مقام نطقها بمن قتلها ، ولكنه اعترف بأنه قتلها فثبت عليه القتل باعترافه واقتص لها منه بذلك .

والحديث الحادي عشر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الفتنة من هنا " وأشار إلى المشرق ، فجعل إشارته إلى المشرق كنطقه بذلك .

والحديث الثاني عشر فيه أنه صلى الله عليه وسلم أومأ بيده إلى المشرق فقال : " إذا رأيتم الليل قد أقبل من هاهنا فقد أفطر الصائم " فجعل إشارته بيده إلى المشرق كنطقه بلفظ المشرق .

والحديث الثالث عشر جعل فيه الإشارة باليد إلى الفرق بين الفجر الكاذب والفجر الصادق بذلك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (257)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 407 إلى صـ 412



والحديث الرابع عشر : قال فيه صلى الله عليه وسلم : " فهو يوسعها ولا تتسع " ، ويشير بإصبعه إلى [ ص: 407 ] حلقه ، فجعل إشارته إلى أن درع الحديد المضروب بها المثل للبخيل ثابتة على حلقه لا تنزل عنه ولا تستر عورته ولا بدنه كالنطق بذلك .

فهذه أربعة عشر حديثا أوردها البخاري رحمه الله في الباب المذكور ، وسقناها هنا ، وبينا وجه الدلالة على أن الإشارة كالنطق في كل واحد منها ، مع ما قدمنا من الأحاديث الدالة على ذلك زيادة على ما ذكره البخاري هنا .

وقد ذكر البخاري رحمه الله في أول باب ) اللعان ( خمسة أحاديث أيضا كل واحد منها فيه الدلالة على أن الإشارة كالنطق ولم نذكرها هنا لأن فيما ذكرنا كفاية .

وقال ابن حجر في ) الفتح ( في آخر كلامه على أحاديث الباب المذكورة : قال ابن بطال : ذهب الجمهور إلى أن الإشارة المفهمة تنزل منزلة النطق ، وخالفه الحنفية في بعض ذلك ، ولعل البخاري رد عليهم بهذه الأحاديث التي جعل فيها النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة قائمة مقام النطق ، وإذا جازت الإشارة في أحكام مختلفة في الديانة فهي لمن لا يمكنه النطق أجوز .

وقال ابن المنير : أراد البخاري أن الإشارة بالطلاق وغيره من الأخرس وغيره التي يفهم منها الأصل والعدد نافذة كاللفظ . اهـ .

ويظهر لي أن البخاري أورد هذه الترجمة وأحاديثها توطئة لما يذكره من البحث في الباب الذي يليه ، مع من فرق بين لعان الأخرس ، وطلاقه ، والله أعلم .

فهذه الأحاديث وأمثالها هي حجة من قال : إن الإشارة المفهمة تقوم مقام اللفظ ، واحتج من قال بأن الإشارة ليست كاللفظ بأن القرآن العظيم دل على ذلك ، وذلك في قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها : فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا [ 19 \ 26 ] ، فإن في هذه الآية التصريح بنذرها الإمساك عن كلام كل إنسي ، مع أنه تعالى قال : فأشارت إليه [ 19 \ 29 ] ، أي : أشارت لهم إليه أن كلموه يخبركم بحقيقة الأمر ، فهذه إشارة مفهمة ، وقد فهمها قومها فأجابوها جوابا مطابقا لفهمهم ما أشارت به : قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، وهذه الإشارة المفهمة لو كانت كالنطق لأفسدت نذر مريم ألا تكلم إنسيا ، فالآية صريحة في أن الكلام باللفظ يخل بنذرها ، وأن الإشارة ليست كذلك ، فقد جاء الفرق صريحا في القرآن بين اللفظ والإشارة ، وكذلك قوله تعالى : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] ، فإن الله جعل له آية على ما بشر به وهي منعه من الكلام ، مع أنه لم يمنع من الإشارة بدليل قوله : [ ص: 408 ] إلا رمزا ، وقوله : فأوحى إليهم أن سبحوا الآية [ 19 \ 11 ] ، فدل ذلك على أن الإشارة ليست كالكلام ، والآية الأولى أصرح في الدلالة على أن الإشارة ليست كاللفظ ; لأن الآية الثانية محتملة لكون الإشارة كالكلام ; لأن استثناءه تعالى قوله : إلا رمزا ، من قوله : ألا تكلم الناس ، يفهم منه أن الرمز الذي هو الإشارة نوع من جنس الكلام استثني منه ; لأن الأصل في الاستثناء الاتصال ، والله تعالى أعلم .

فإذا علمت أدلة الفريقين في الإشارة ، هل هي كاللفظ أو لا ؟ فاعلم أن العلماء مختلفون في الإشارة المفهمة ، هل تنزل منزلة اللفظ أو لا ، وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى جملا من أقوال أهل العلم في ذلك ، وما يظهر رجحانه بالدليل .

قال ابن حجر رحمه الله تعالى في ) فتح الباري ( في آخر باب الإشارة في الطلاق والأمور ، ما نصه : وقد اختلف العلماء في الإشارة المفهمة ، فأما في حقوق الله فقالوا : تكفي ولو من القادر على النطق ، وأما في حقوق الآدميين كالعقود والإقرار والوصية ونحو ذلك ، فاختلف العلماء في من اعتقل لسانه ، ثالثها عن أبي حنيفة إن كان ميئوسا من نطقه ، وعن بعض الحنابلة إن اتصل بالموت ، ورجحه الطحاوي ، وعن الأوزاعي إن سبقه كلام ، ونقل عن مكحول ، إن قال : فلان حر ، ثم أصمت فقيل له : وفلان ؟ فأومأ صح ، وأما القادر على النطق فلا تقوم إشارته مقام نطقه عند الأكثرين واختلف هل يقوم منه مقام النية ، كما لو طلق امرأته فقيل له : كم طلقة ؟ فأشار بأصبعه . انتهى منه .

وقال البخاري في أول باب اللعان ، ما نصه : فإذا قذف الأخرس امرأته بكتابة أو إشارة أو إيماء معروف فهو كالمتكلم ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أجاز الإشارة في الفرائض ، وهو قول بعض أهل الحجاز وأهل العلم ، وقال تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ، وقال الضحاك : إلا رمزا إشارة ، وقال بعض الناس : لا حد ولا لعان ، ثم زعم أنه إن طلق بكتاب أو إشارة أو إيماء جائز وليس بين الطلاق والقذف فرق ، فإن قال : القذف لا يكون إلا بكلام قيل له : كذلك الطلاق لا يجوز إلا بكلام وإلا بطل الطلاق والقذف وكذلك العتق ، وكذلك الأصم يلاعن ، وقال الشعبي وقتادة : إذا قال أنت طالق فأشار بأصابعه تبين منه بإشارته ، وقال إبراهيم : الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه ، وقال حماد : الأخرس والأصم إن قال برأسه جاز . انتهى محل الغرض من كلام البخاري رحمه الله .

[ ص: 409 ] ومذاهب الأئمة الأربعة متقاربة في هذه المسألة ، وبينهم اختلاف في بعض فروعها .

فمذهب مالك رحمه الله : أن الإشارة المفهمة تقوم مقام النطق ، قال خليل بن إسحاق في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ، يعني في مذهب مالك : الكلام على الصيغة التي يحصل بها الطلاق : ولزم بالإشارة المفهمة . يعني أن الطلاق يلزم بالإشارة المفهمة مطلقا من الأخرس والناطق وقال شارحه المواق رحمه الله من المدونة : ما علم من الأخرس بإشارة أو بكتاب من طلاق أو خلع أو عتق أو نكاح ، أو بيع أو شراء أو قذف - لزمه حكم المتكلم ، وروى الباجي : إشارة السليم بالطلاق برأسه أو بيده كلفظه ، لقوله تعالى : ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا [ 3 \ 41 ] انتهى منه ، ورواية الباجي هذه عليها أهل المذهب ، ومذهب أبي حنيفة رحمه الله : أن إشارة الأخرس تقوم مقام كلام الناطق في تصرفاته ، كإعتاقه وطلاقه ، وبيعه وشرائه ، ونحو ذلك ، أما السليم فلا تقبل عنده إشارته لقدرته على النطق ، وإشارة الأخرس بقذف زوجته لا يلزم عنده فيها حد ولا لعان ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات ، وعدم التصريح شبهة عنده ; لأن الإشارة قد تفهم ما لا يقصد المشير ، ولأن أيمان اللعان لها صيغ لا بد منها ولا تحصل بالإشارة وكذلك عنده إذا كانت الزوجة المقذوفة خرساء فلا حد ولا لعان عنده ، لاحتمال أنها لو نطقت لصدقته ، ولأنها لا يمكنها الإتيان بألفاظ الأيمان المنصوصة في آية اللعان ، وكذلك عنده القذف لا يصح من الأخرس ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات .

وقال بعض العلماء من الحنفية : إن القياس منع اعتبار إشارة الأخرس ; لأنها لا تفهم كالنطق في الجميع ، وأنهم أجازوا العمل بإشارة الأخرس في غير اللعان والقذف على سبيل الاستحسان ، والقياس المنع مطلقا ، ومذهب الشافعي في هذه المسألة اعتبار إشارة الأخرس في اللعان وغيره ، وعدم اعتبار إشارة السليم .

وأما مذهب الإمام أحمد فظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى أنه لا لعان إن كان أحد الزوجين أخرس ، كما قدمنا توجيهه في مذهب أبي حنيفة ، وقال القاضي أبو الخطاب : إن فهمت إشارة الأخرس فهو كالناطق في قذفه ولعانه ، وأما طلاق الأخرس ونكاحه وشبه ذلك فالإشارة كالنطق في مذهب الإمام أحمد ، وأما السليم فلا تقبل عنده إشارته بالطلاق ونحوه .

هذا حاصل كلام الأئمة وغيرهم من فقهاء الأمصار في هذه المسألة ، وقد رأيت ما جاء فيها من أدلة الكتاب والسنة .

[ ص: 410 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي رجحانه في المسألة : أن الإشارة إن دلت على المعنى دلالة واضحة لا شك في المقصود معها أنها تقوم مقام النطق مطلقا ، ما لم تكن في خصوص اللفظ أهمية مقصودة من قبل الشارع ، فإن كانت فيه فلا تقوم الإشارة مقامه كأيمان اللعان ، فإن الله نص عليها بصورة معينة ، فالظاهر أن الإشارة لا تقوم مقامها وكجميع الألفاظ المتعبد بها فلا تكفي فيها الإشارة ، والله جل وعلا أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إني نذرت للرحمن صوما ، أي : إمساكا عن الكلام في قول الجمهور ، والصوم في اللغة : الإمساك ، ومنه قول نابغة ذبيان :



خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
فقوله : " خيل صيام " أي : ممسكة عن الجري ، وقيل عن العلف " وخيل غير صائمة " أي : غير ممسكة عما ذكر .

وقول امرئ القيس :



كأن الثريا علقت في مصامها بأمراس كتان إلى صم جندل
فقوله : " في مصامها " أي : مكان صومها ، يعني إمساكها عن الحركة ، وهذا القول هو الصحيح في معنى الآية ، أن المراد بالصوم الإمساك عن الكلام ، بدليل قوله بعده : فلن أكلم اليوم إنسيا ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وقال ابن حجر ) في الفتح في باب اللعان ( وقد ثبت من حديث أبي بن كعب وأنس بن مالك : أن معنى قوله تعالى : إني نذرت للرحمن صوما أي : صمتا ، أخرجه الطبراني وغيره . اهـ . وقال بعض العلماء : المراد بالصوم في الآية : هو الصوم الشرعي المعروف المذكور في قوله تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم [ 2 \ 183 ] ، وعليه فالمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم حرم عليهم الكلام كما يحرم عليهم الطعام ، والصواب في معنى الآية الأول ، وعليه فهذا النذر الذي نذرته ألا تكلم اليوم إنسيا كان جائزا في شريعتهم ، أما في الشريعة التي جاءنا بها نبينا صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ذلك النذر ولا يجب الوفاء به ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : بينا النبي يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ، " مره فليتكلم ، وليستظل وليقعد وليتم صومه " قال عبد الوهاب : حدثنا أيوب عن عكرمة عن [ ص: 411 ] النبي صلى الله عليه وسلم . اهـ .

وقال ابن حجر " في الفتح " في الكلام على هذا الحديث وفي حديثه أن السكوت عن المباح ليس من طاعة الله ، وقد أخرج أبو داود من حديث علي " ولا صمت يوم إلى الليل " وتقدم في السيرة النبوية قول أبي بكر الصديق إن هذا - يعني الصمت - من فعل الجاهلية ، وفيه أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنة ، كالمشي حافيا ، والجلوس في الشمس ليس هو من طاعة الله ، فلا ينعقد به النذر ، فإنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصوم دون غيره ، وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه ، وأمره أن يقعد ويتكلم ويستظل ، قال القرطبي : في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية ، أو ما لا طاعة فيه ، قال مالك لما ذكره : ولم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالكفارة ، انتهى كلام صاحب ) فتح الباري ( وقد قال الزمخشري في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها : وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت ، فقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( : لم أره هكذا ، وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ " لا صمت يوم إلى الليل " وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف ، ولأبي داود من حديث علي مثله ، وقد تقدم في تفسير سورة " النساء " .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فإما ترين ، معناه فإن تري من البشر أحدا ، فلفظة " إما " مركبة من " إن " الشرطية و " ما " المزيدة لتوكيد الشرط ، والأصل ترأيين على وزن تفعلين ، تحركت الياء التي هي لام الكلمة وانفتح ما قبلها وجب قلبها ألفا فصارت ترآين ، فحذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الراء ; لأن اللغة الفصحى التي هي الأغلب في كلام العرب حذف همزة رأى في المضارع والأمر ، ونقل حركتها إلى الراء فصارت تراين ، فالتقى الساكنان فحذف الأول وهو الألف ، فصار ترين فدخلت عليه نون التوكيد الثقيلة فحذفت نون الرفع من أجلها هي ، والجازم الذي هو " إن " الشرطية ; لأن كل واحد منهما بانفراده يوجب حذف نون الرفع ، فصار ترين ، فالتقى ساكنان هما الياء الساكنة والنون الأولى الساكنة من نون التوكيد المثقلة ; لأن كل حرف مشدد فهو حرفان ، فحركت الياء بحركة تناسبها وهي الكسرة فصارت ترين ، كما أشار إلى هذا ابن مالك في الخلاصة بقوله :



واحذفه من رافع هاتين وفي واو ويا شكل مجانس قفي
نحو اخشين يا هند بالكسر ويا قوم اخشون واضمم وقس مسويا
[ ص: 412 ] وما ذكرنا من أن همزة " رأى " تحذف في المضارع والأمر هو القياس المطرد في كلام العرب وبقاؤها على الأصل مسموع ، ومنه قول سراقة بن مرداس البارقي الأصغر :



أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالم بالترهات
وقول الأعلم بن جرادة السعدي ، أو شاعر من تيم الرباب :



ألم ترأ ما لاقيت والدهر أعصر ، ومن يتمل الدهر يرأ ويسمع
وقول الآخر :

أحن إذا رأيت جبال نجد ولا أرأى إلى نجد سبيلا
ونون التوكيد في العمل المضارع بعد " إما " لازمة عند بعض علماء العربية ، وممن قال بلزومها بعد " إما " كقوله هنا : فإما ترين من البشر أحدا ، : المبرد والزجاج ، ومذهب سيبويه والفارسي وجماعة أن نون التوكيد في الفعل المضارع بعد " إما " غير لازمة ، ويدل له كثرة وروده في شعر العرب ، كقول الأعشى ميمون بن قيس :



فإما تريني ولي لمة فإن الحوادث أردى بها
وقول لبيد بن ربيعة :



فإما تريني اليوم أصبحت سالما فلست بأحيا من كلاب وجعفر
وقول الشنفرى :



فإما تريني كابنة الرمل ضاحيا على رقة أحفي ولا أتنعل
وقول الأفوه الأودي :



إما تري رأسي أزرى به مأسر زمان ذي انتكاس مئوس
وقول الآخر :



زعمت تماضر أنني إما أمت يسدد بنيوها الأصاغر خلتي
وقول الآخر :



يا صاح إما تجدني غير ذي جدة فما التخلي عن الخلان من شيمي
وأمثال هذا كثيرة في شعر العرب .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (258)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 413 إلى صـ 418


والمبرد والزجاج يقولان : إن حذف النون في الأبيات المذكورة ونحوها إنما هو لضرورة الشعر ، ومن خالفهم كسيبويه والفارسي [ ص: 413 ] يمنعون كونه للضرورة ، ويقولون : إنه جائز مطلقا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، لما اطمأنت مريم بسبب ما رأت من الآيات الخارقة للعادة التي تقدم ذكرها آنفا أتت به ) أي بعيسى ( قومها تحمله غير محتشمة ولا مكترثة بما يقولون ، فقالوا لها : يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، قال مجاهد وقتادة وغير واحد : " فريا " ، أي : عظيما ، وقال سعيد بن مسعدة : " فريا " أي : مختلقا مفتعلا ، وقال أبو عبيدة والأخفش : " فريا " أي : عجيبا نادرا .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يفهم من الآيات القرآنية أن مرادهم بقولهم لقد جئت شيئا فريا ، أي : منكرا عظيما ; لأن " الفري " فعيل من الفرية ، يعنون به الزنى ; لأن ولد الزنى كالشيء المفترى المختلق ; لأن الزانية تدعي إلحاقه بمن ليس أباه ، ويدل على أن مرادهم بقولهم " فريا " الزنى قوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] ، لأن ذلك البهتان العظيم الذي هو ادعاؤهم أنها زنت ، وجاءت بعيسى من ذلك الزنى ) حاشاها وحاشاه من ذلك ( هو المراد بقولهم لها : لقد جئت شيئا فريا ، ويدل لذلك قوله تعالى بعده : ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ، والبغي الزانية كما تقدم ، يعنون كان أبواك عفيفين لا يفعلان الفاحشة ، فما لك أنت ترتكبينها ! ومما يدل على أن ولد الزنى كالشيء المفترى قوله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن [ 60 \ 12 ] ، قال بعض العلماء : معنى قوله تعالى : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ، أي : ولا يأتين بولد زنى يقصدن إلحاقه برجل ليس أباه ، هذا هو الظاهر الذي دل عليه القرآن في معنى الآية ، وكل عمل أجاده عامله فقد فراه لغة ، ومنه قول الراجز وهو زرارة بن صعب بن دهر :



وقد أطعمتني دقلا حوليا مسوسا مدودا حجريا قد كنت تفرين به الفريا
يعني : تعملين به العمل العظيم ، والظاهر أنه يقصد أنها تؤكله أكلا لما عظيما .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ياأخت هارون ، ليس المراد به هارون بن [ ص: 414 ] عمران أخا موسى ، كما يظنه بعض الجهلة ، وإنما هو رجل آخر صالح من بني إسرائيل يسمى هارون ، والدليل على أنه ليس هارون أخا موسى ما رواه مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير ، وأبو سعيد الأشج ، ومحمد بن المثنى العنزي - واللفظ لابن نمير - قالوا : حدثنا ابن إدريس عن أبيه ، عن سماك بن حرب ، عن علقمة بن وائل ، عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرءون : ياأخت هارون ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال : " إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم " اهـ ، هذا لفظ مسلم في الصحيح ، وهو دليل على أنه رجل آخر غير هارون أخي موسى ، ومعلوم أن هارون أخا موسى قبل مريم بزمن طويل ، وقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( في قول الزمخشري : إنما عنوا هارون النبي ، ما نصه : لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند ، ورواه الطبري عن السدي قوله ، وليس بصحيح ، فإن عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي : أرأيتم شيئا تقرءونه " ياأخت هارون " وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين ، فلم أدر ما أجيبهم . فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم " وروى الطبري من طريق ابن سيرين : نبئت أن كعبا قال : إن قوله تعالى ياأخت هارون ، ليس بهارون أخي موسى ، فقالت له عائشة : كذبت . فقال لها : يا أم المؤمنين ، إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم ، وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة . انتهى كلام ابن حجر .

وقال صاحب الدر المنثور في قوله تعالى : ياأخت هارون : أخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد وعبد بن حميد ، ومسلم والترمذي والنسائي ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن حبان والطبراني ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن المغيرة بن شعبة قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران . . . ، إلى آخر الحديث كما تقدم آنفا ، وبهذا الحديث الصحيح الذي رأيت إخراج هؤلاء الجماعة له ، وقد قدمناه بلفظه عند مسلم في صحيحه تعلم أن قول من قال : إن المراد هارون أخو موسى ، باطل سواء قيل إنها أخته ، أو أن المراد بأنها أخته أنها من ذريته ، كما يقال للرجل : يا أخا تميم ، والمراد يا أخا بني تميم ; لأنه من ذرية تميم ، ومن هذا القبيل قوله : واذكر أخا عاد [ 46 \ 21 ] ; لأن هودا إنما قيل له أخو عاد لأنه من ذريته ، فهو أخو بني عاد ، وهم المراد بعاد في الآية ; لأن [ ص: 415 ] المراد بها القبيلة لا الجد ، وإذا حققت أن المراد بهارون في الآية غير هارون أخي موسى ، فاعلم أن بعض العلماء ، قال : إن لها أخا اسمه هارون ، وبعضهم يقول : إن هارون المذكور رجل من قومها مشهور بالصلاح ، وعلى هذا فالمراد بكونها أخته أنها تشبهه في العبادة والتقوى ، وإطلاق اسم الأخ على النظير المشابه معروف في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن قوله تعالى : وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها الآية [ 43 \ 48 ] ، وقوله تعالى : إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين الآية [ 7 \ 27 ] ، وقوله تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] ، ومنه في كلام العرب قوله :



وكل أخ يفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان
فجعل الفرقدين أخوين .

وكثيرا ما تطلق العرب اسم الأخ على الصديق والصاحب ، ومن إطلاقه على الصاحب قول القلاخ بن حزن :



أخا الحرب لباسا إليها جلالها وليس بولاج الخوالف أعقلا
فقوله : " أخا الحرب " يعني صاحبها .

ومنه قول الراعي ، وقيل لأبي ذؤيب :



عشية سعدى لو تراءت لراهب بدومة تجر دونه وحجيج
قلى دينه واهتاج للشوق إنها على النأي إخوان العزاء هيوج
فقوله " إخوان العزاء " يعني أصحاب الصبر .
قوله تعالى : فأشارت إليه .

معنى إشارتها إليه : أنهم يكلمونه فيخبرهم بحقيقة الأمر ، والدليل على أن هذا هو مرادها بإشارتها إليه قوله تعالى بعده : قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، فالفعل الماضي الذي هو " كان " بمعنى الفعل المضارع المقترن بالحال كما يدل عليه السياق ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى :

قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .

[ ص: 416 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أول كلمة نطق لهم بها عيسى وهو صبي في مهده أنه عبد الله ، وفي ذلك أعظم زجر للنصارى عن دعواهم أنه الله أو ابنه أو إله معه وهذه الكلمة التي نطق بها عيسى في أول خطابه لهم ذكرها الله جل وعلا عنه في مواضع أخر ، كقوله تعالى : وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم [ 5 \ 72 ] ، وقوله في " آل عمران " : إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 3 \ 51 ] ، وقوله في " الزخرف " فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 43 \ 62 - 64 ] ، وقوله هنا في سورة " مريم " : وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم [ 19 \ 39 ] ، وقوله : ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : آتاني الكتاب وجعلني نبيا ، التحقيق فيه إن شاء الله : أنه عبر بالماضي عما سيقع في المستقبل تنزيلا لتحقق الوقوع منزلة الوقوع ، ونظائره في القرآن كثيرة ، كقوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] ، وقوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت إلى قوله : وسيق الذين كفروا [ 39 \ 68 - 71 ] ، وقوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم [ 39 \ 73 ] .

فهذه الأفعال الماضية المذكورة في الآيات بمعنى المستقبل ، تنزيلا لتحقق وقوعه منزلة الوقوع بالفعل ، ونظائرها كثيرة في القرآن ، وهذا الذي ذكرنا من أن الأفعال الماضية في قوله تعالى : آتاني الكتاب . . . إلخ ، بمعنى المستقبل هو الصواب إن شاء الله ، خلافا لمن زعم أنه نبئ وأوتي الكتاب في حال صباه لظاهر اللفظ ، وقوله : وجعلني مباركا ، أي : كثير البركات ; لأنه يعلم الخير ويدعو إلى الله ، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية : مباركا أين ما كنت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نفاعا حيث كنت ، وقال ابن حجر في ) الكافي الشافي ( : أخرجه أبو نعيم ) في الحلية ( في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبي هريرة بهذا وأتم ، وقال : تفرد به هشيم عن يونس ، وعنه شعيب بن محمد الكوفي ، ورواه ابن مردويه من هذا الوجه . اهـ .

وقوله في هذه الآية الكريمة وبرا بوالدتي قال الحوفي وأبو البقاء : هو [ ص: 417 ] معطوف على قوله : وجعلني مباركا ، وقال أبو حيان ) في البحر ( : وفيه بعد للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجملة التي هي " أوصاني " ومتعلقها ، والأولى أنه منصوب بفعل مضمر ، أي : وجعلني برا بوالدتي ، ولما قال بوالدتي ولم يقل بوالدي علم أنه أمر من قبل الله ، كما ذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد قدمنا معنى " الجبار والشقي " وقال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : " شقيا " أي : خائبا من الخير ، وقال ابن عباس : عاقا ، وقيل عاصيا لربه ، وقيل : لم يجعلني تاركا لأمره فأشقى كما شقي إبليس . انتهى كلام القرطبي .
تنبيه

احتج مالك رحمه الله بهذه الآية على القدرية ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية : ما أشدها على أهل القدر ! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت . اهـ .
قوله تعالى : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ، اعلم أن هذا الحرف فيه قراءتان سبعيتان : قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي " قول الحق " [ 19 \ 34 ] بضم اللام ، وقرأه ابن عامر وعاصم قول الحق بالنصب .

والإشارة في قوله " ذلك " راجعة إلى المولود المذكور في الآيات المذكورة قبل هذا ، وقوله " ذلك " مبتدأ ، " وعيسى " خبره ، و " ابن مريم " نعت لـ " عيسى " وقيل : بدل منه ، وقيل : خبر بعد خبر .

وقوله : قول الحق على قراءة النصب مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، وإلى نحوه أشار ابن مالك بقوله في الخلاصة :



والثاني كابني أنت حقا صرفا وقيل : منصوب على المدح . وأما على قراءة الجمهور بالرفع فـ " قول الحق " خبر مبتدأ محذوف - أي : هو - أي : نسبته إلى أمه فقط قول الحق ، قاله أبو حيان ، وقال الزمخشري : وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : اعلم أن لفظة " الحق " في قوله هنا " قول الحق " فيها للعلماء وجهان :

[ ص: 418 ] الأول : أن المراد بالحق ضد الباطل بمعنى الصدق والثبوت ، كقوله : وكذب به قومك وهو الحق ، وعلى هذا القول فإعراب قوله " قول الحق " على قراءة النصب أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كما تقدم ، وعلى قراءة الرفع فهو خبر مبتدأ محذوف كما تقدم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في " آل عمران " في القصة بعينها : الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 60 ] .

الوجه الثاني : أن المراد بالحق في الآية الله جل وعلا ; لأن من أسمائه " الحق " كقوله : ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 25 ] ، وقوله : ذلك بأن الله هو الحق الآية [ 22 \ 62 ] ، وعلى هذا القول فإعراب قوله تعالى قول الحق [ 19 \ 34 ] على قراءة النصب أنه منصوب على المدح ، وعلى قراءة الرفع فهو بدل من " عيسى " أو خبر ، وعلى هذا الوجه فـ " قول الحق " ، هو " عيسى " كما سماه الله كلمة في قوله : وكلمته ألقاها إلى مريم [ 4 \ 171 ] ، وقوله : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح الآية [ 3 \ 45 ] ، وإنما سمي " عيسى " كلمة لأن الله أوجده بكلمته التي هي " كن " فكان ، كما قال : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن [ 3 \ 59 ] ، والقول والكلمة على هذا الوجه من التفسير بمعنى واحد .

وقوله : الذي فيه يمترون أي : يشكون ، فالامتراء افتعال من المرية وهي الشك ، وهذا الشك الذي وقع للكفار نهى الله عنه المسلمين على لسان نبيهم في قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين [ 3 \ 59 - 60 ] ، وهذا القول الحق الذي أوضح الله به حقيقة الأمر في شأن عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بعد نزوله على نبينا صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يدعو من حاجه في شأن عيسى إلى المباهلة ، ثم أخبره أن ما قص عليه من خبر عيسى هو القصص الحق ، وذلك في قوله تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق الآية [ 3 \ 61 - 62 ] ، ولما نزلت ودعا النبي صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى المباهلة خافوا الهلاك وأدوا [ الجزية ] كما هو مشهور .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (259)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 419 إلى صـ 424



قوله تعالى : ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .

[ ص: 419 ] اعلم أولا أن لفظ " ما كان " يدل على النفي ، فتارة يدل ذلك النفي من جهة المعنى على الزجر والردع ، كقوله تعالى : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله الآية [ 9 \ 120 ] ، وتارة يدل على التعجيز ، كقوله تعالى : آلله خير أم ما يشركون أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها الآية [ 27 \ 59 - 60 ] .

وتارة يدل على التنزيه ، كقوله هنا : ما كان لله أن يتخذ من ولد ، وقد أعقبه بقوله : سبحانه أي : تنزيها له عن اتخاذ الولد وكل ما لا يليق بكماله وجلاله ، فقوله : ما كان لله بمعنى : ما يصح ولا يتأتى ولا يتصور في حقه جل وعلا أن يتخذ ولدا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، والآية كقوله تعالى : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 92 ] وفي هذه الآية الرد البالغ على النصارى الذين زعموا المحال في قولهم " عيسى ابن الله " وما نزه عنه جل وعلا نفسه هنا من الولد المزعوم كذبا - كعيسى - نزه عنه نفسه في مواضع أخر ، كقوله تعالى : إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم إلى قوله : إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد الآية [ 4 \ 171 ] ، والآيات الدالة على مثل ذلك كثيرة ، كقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 88 - 91 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم مستوفى في سورة " الكهف " .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذا قضى أمرا [ 19 \ 35 ] أي : أراد قضاءه بدليل قوله : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] ، وقوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، وحذف فعل الإرادة لدلالة المقام عليه كثير في القرآن وفي كلام العرب ، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية [ 5 \ 6 ] أي : إذا أردتم القيام إليها ، وقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ 16 \ 98 ] ، أي : إذا أردت قراءة القرآن ، كما تقدم مستوفى .

وقوله تعالى في الآية التي نحن بصددها : ما كان لله أن يتخذ من ولد زيدت فيه لفظة " من " قبل المفعول به لتأكيد العموم ، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي [ ص: 420 ] إذا زيدت قبلها لفظة " من " لتوكيد العموم كانت نصا صريحا في العموم ، وتطرد زيادتها للتوكيد المذكور قبل النكرة في سياق النفي في ثلاثة مواضع : قبل الفاعل ، كقوله تعالى : ما أتاهم من نذير [ 28 \ 46 ] ، وقبل المفعول ، كهذه الآية ، وكقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه الآية [ 21 \ 25 ] ، وقبل المبتدأ كقوله : لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره .
قوله تعالى : فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم ، أظهر الأقوال في " الأحزاب " المذكورة في هذه الآية أنهم فرق اليهود والنصارى الذين اختلفوا في شأن عيسى ، فقالت طائفة : هو ابن زنى ، وقالت طائفة : هو ابن الله ، وقالت طائفة : هو الله ، وقالت طائفة : هو إله مع الله .

ثم إن الله توعد الذين كفروا منهم بالويل لهم من شهود يوم القيامة ، وذلك يشمل من كفر بالتفريط في عيسى كالذي قال إنه ابن زنى ، ومن كفر بالإفراط فيه كالذين قالوا إنه الله أو ابنه ، وقوله " ويل " كلمة عذاب ، فهو مصدر لا فعل له من لفظه ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة كونه في معنى الدعاء ، والظاهر أن المشهد في الآية مصدر ميمي ، أي : فويل لهم من شهود ذلك اليوم - أي حضوره - لما سيلاقونه فيه من العذاب ، خلافا لمن زعم أن المشهد في الآية اسم مكان ، أي : فويل لهم من ذلك المكان الذي يشهدون فيه تلك الأهوال والعذاب ، والأول هو الظاهر وهو الصواب إن شاء الله تعالى ، وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة " الزخرف " في قوله تعالى : ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم [ 43 \ 63 - 64 ] ، وما أشار إليه في الآيتين من أن الذين كفروا بالإفراط أو التفريط في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، أنه لم يعاجلهم بالعذاب ، وأنه يؤخر عذابهم إلى الوقت المحدد لذلك - أشار له في مواضع أخر ، كقوله تعالى : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] وقوله تعالى : وما نؤخره إلا لأجل معدود [ 11 \ 104 ] ، وقوله : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون [ 29 \ 53 ] .

وبالجملة فالله تعالى يمهل الظالم إلى وقت عذابه ، ولكنه لا يهمله ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله [ ص: 421 ] عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] ، وقال تعالى : وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير [ 22 \ 48 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاختلف الأحزاب من بينهم [ 19 \ 37 ] ، قال أبو حيان في ) البحر ( : ومعنى قوله " من بينهم " أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين . انتهى محل الغرض منه .
قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين ، قوله : أسمع بهم وأبصر صيغتا تعجب ، ومعنى الآية الكريمة : أن الكفار يوم القيامة يسمعون ويبصرون الحقائق التي أخبرتهم بها الرسل سمعا وإبصارا عجيبين ، وأنهم في دار الدنيا في ضلال وغفلة لا يسمعون الحق ولا يبصرونه ، وهذا الذي بينه تعالى في هذه الآية الكريمة بينه في مواضع أخر ، كقوله في سمعهم وإبصارهم يوم القيامة : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] ، وقوله تعالى : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] ، وكقوله في غفلتهم في الدنيا وعدم إبصارهم وسمعهم : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ 21 \ 1 ] ، وقوله : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 \ 7 ] ، وقوله : صم بكم عمي فهم لا يرجعون [ 2 \ 18 ] ، وقوله : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية [ 11 \ 24 ] ، والمراد بالأعمى والأصم : الكفار ، والآيات بمثل هذا كثيرة ، واعلم أن صيغة التعجب إذا كانت على وزن " أفعل به " فهي فعل عند الجمهور ، وأكثرهم يقولون إنه فعل ماض جاء على صورة الأمر ، وبعضهم يقول : إنه فعل أمر لإنشاء التعجب ، وهو الظاهر من الصيغة ، ويؤيده دخول نون التوكيد عليه ، كقول الشاعر :



ومستبدل من بعد غضيا صريمة فأحر به لطول فقر وأحريا لأن الألف في قوله : " وأحريا " مبدلة من نون التوكيد الخفيفة على حد قوله في الخلاصة :



وأبدلنها بعد فتح ألفا وقفا كما تقول في قفن قفا
[ ص: 422 ] والجمهور أيضا على أن صيغة التعجب الأخرى التي هي : " ما أفعله " فعل ماض ، خلافا لجماعة من الكوفيين في قولهم : إنها اسم بدليل تصغيرها في قول العرجي :



يا ما أميلح غزلانا شدن لنا من هؤلياء بين الضال والسمر
قالوا : والتصغير لا يكون إلا في الأسماء ، وأجاب من خالفهم بأن تصغيرها في البيت المذكور شاذ يحفظ ولا يقاس عليه .
قوله تعالى : وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون ، الحسرة : أشد الندم والتلف على الشيء الذي فات ولا يمكن تداركه ، والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد ، أي : أنذر الناس يوم القيامة ، وقيل له : يوم الحسرة ؛ لشدة ندم الكفار فيه على التفريط ، وقد يندم فيه المؤمنون على ما كان منهم من التقصير ، وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين الآية [ 40 \ 18 ] ، وقوله : إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ 34 \ 46 ] .

وأشار إلى ما يحصل فيه من الحسرة في مواضع أخر ، كقوله : أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله الآية [ 39 \ 56 ] ، وقوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 6 \ 31 ] ، وقوله : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وقوله في هذه الآية الكريمة : وهم في غفلة ، أي : في غفلة الدنيا معرضون عن الآخرة ، وجملة " وهم في غفلة " حالية ، والعامل فيها " أنذرهم " أي : أنذرهم في حال غفلتهم غير مؤمنين ، خلافا لمن قال : إن العامل في الجملة الحالية قوله قبل هذا " في ضلال مبين " ، وقد جاء في الحديث الصحيح ما يدل على أن المراد بقوله هنا " إذ قضي الأمر " أي : ذبح الموت .

قال البخاري رحمه الله في صحيحه : ) باب قوله عز وجل : وأنذرهم يوم الحسرة ، حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد : يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، ثم ينادى : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل [ ص: 423 ] تعرفون هذا ؟ فيقولون : نعم هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، فيذبح ، ثم يقول : يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت " ، ثم قرأ وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة [ 19 \ 39 ] ، وهؤلاء في غفلة الدنيا وهم لا يؤمنون " انتهى من صحيح البخاري .

والحديث مشهور متفق عليه وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم الآية بعد ذكره ذبح الموت تدل على أن المراد بقوله " إذ قضي الأمر " أي : ذبح الموت ، وفي معناه أقوال أخر غير هذا تركناها لدلالة الحديث الصحيح على المعنى الذي ذكرنا .
قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون ، معنى قوله جل وعلا في هذه الآية أنه يرث الأرض ومن عليها : أنه يميت جميع الخلائق الساكنين بالأرض ، ويبقى هو جل وعلا لأنه الحي الذي لا يموت ، ثم يرجعون إليه يوم القيامة ، وقد أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 26 - 27 ] ، وقوله تعالى : وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون [ 15 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا ، أمر الله جل وعلا نبيه " محمدا " صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يذكر في الكتاب الذي هو القرآن العظيم المنزل إليه من الله " إبراهيم " عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، ويتلو على الناس في القرآن نبأه مع قومه ودعوته لهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر ، وكرر هذا المعنى المذكور في هذه الآيات في آيات أخر من كتابه جل وعلا ، فهذا الذي أمر به نبيه هنا من ذكره في الكتاب إبراهيم : إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر الآية [ 19 \ 42 ] ، أوضحه في سورة " الشعراء " في قوله : واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون [ 26 \ 69 - 70 ] .

فقوله هنا : واذكر في الكتاب ، هو معنى قوله : واتل عليهم نبأ إبراهيم ، وزاد في " الشعراء " أن هذا الذي قاله لأبيه من النهي عن عبادة الأوثان قاله أيضا لسائر قومه ، وكرر [ ص: 424 ] تعالى الإخبار عنه بهذا النهي لأبيه وقومه عن عبادة الأوثان في مواضع أخر ، كقوله : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين [ 6 \ 74 ] ، وقوله تعالى : إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين [ 26 \ 70 - 77 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين [ 21 \ 51 - 56 ] ، وقوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 43 \ 26 - 27 ] ، وقوله تعالى : وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين [ 37 \ 83 - 87 ] ، وقوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك الآية [ 60 \ 40 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية : إذ قال لأبيه ، الظرف الذي هو " إذ " بدل اشتمال من " إبراهيم " في قوله : واذكر في الكتاب إبراهيم ، كما تقدم نظيره في قوله : واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت الآية [ 19 \ 16 ] ، وقد قدمنا هناك إنكار بعضهم لهذا الإعراب ، وجملة : إنه كان صديقا نبيا [ 19 \ 41 ] ، معترضة بين البدل والمبدل منه على الإعراب المذكور ، والصديق صيغة مبالغة من الصدق ، لشدة صدق إبراهيم في معاملته مع ربه وصدق لهجته ، كما شهد الله له بصدق معاملته في قوله : وإبراهيم الذي وفى [ 53 \ 37 ] ، وقوله : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما [ 2 \ 124 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-03-19, 09:52 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (260)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 425 إلى صـ 430


ومن صدقه في معاملته ربه : رضاه بأن يذبح ولده ، وشروعه بالفعل في ذلك طاعة لربه ، مع أن الولد فلذة من الكبد .

[ ص: 425 ]

لكنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض قال تعالى : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا الآية [ 37 \ 103 - 105 ] .

ومن صدقه في معاملته مع ربه : صبره على الإلقاء في النار ، كما قال تعالى : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] ، وقال : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار الآية [ 29 \ 24 ] .

وذكر علماء التفسير في قصته أنهم لما رموه إلى النار لقيه جبريل فسأله : هل لك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا ، وأما إلى الله فنعم ، فقال له : لم لا تسأله ؟ فقال : علمه بحالي كاف عن سؤالي .

ومن صدقه في معاملته ربه : صبره على مفارقة الأهل والوطن فرارا بدينه ، كما قال تعالى : فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي [ 29 \ 26 ] ، وقد هاجر من سواد العراق إلى دمشق : وقد بين جل وعلا في مواضع أخر أنه لم يكتف بنهيهم عن عبادة الأوثان وبيان أنها لا تنفع ولا تضر ، بل زاد على ذلك أنه كسرها وجعلها جذاذا وترك الكبير من الأصنام ، ولما سألوه هل هو الذي كسرها قال لهم : إن الذي فعل ذلك كبير الأصنام ، وأمرهم بسؤال الأصنام إن كانت تنطق ، كما قال تعالى عنه : وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا ياإبراهيم قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون [ 21 \ 57 - 67 ] ، وقال تعالى : فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون فراغ عليهم ضربا باليمين فأقبلوا إليه يزفون قال أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون [ 37 \ 92 ] ، فقوله : فراغ عليهم ضربا باليمين ، أي : مال إلى الأصنام يضربها ضربا بيمينه حتى جعلها جذاذا ، أي : قطعا متكسرة من قولهم : جذه : إذا قطعه وكسره .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه كان صديقا ، أي : كثير الصدق ، يعرف [ ص: 426 ] منه أن الكذبات الثلاث المذكورة في الحديث عن إبراهيم كلها في الله تعالى ، وأنها في الحقيقة من الصدق لا من الكذب بمعناه الحقيقي ، وسيأتي إن شاء الله زيادة إيضاح لهذا في سورة " الأنبياء " .

وقوله تعالى عن إبراهيم : يا أبت ، التاء فيه عوض عن ياء المتكلم ، فالأصل : يا أبي كما أشار له في الخلاصة بقوله :

وفي الندا " أبت أمت " عرض واكسر أو افتح ومن الياء التا عوض


وقوله تعالى في هذه الآية : لم تعبد أصله " ما " الاستفهامية ، فدخل عليها حرف الجر الذي هو " اللام " فحذف ألفها على حد قوله في الخلاصة :



وما في الاستفهام إن جرت حذف ألفها وأولها الها إن تقف
ومعلوم أن القراءة سنة متبعة لا تجوز بالقياس ، ولذا يوقف على " لم " بسكون الميم لا بهاء السكت كما في البيت ، ومعنى عبادته للشيطان في قوله : لا تعبد الشيطان طاعته للشيطان في الكفر والمعاصي ، فذلك الشرك شرك طاعة ، كما قال تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [ 36 \ 60 - 61 ] ، كما تقدم هذا المبحث مستوفى في سورة " الإسراء " وغيرها .

والآية تدل على أن الكفار المعذبين يوم القيامة أولياء الشيطان ، لقوله هنا : إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا [ 19 \ 45 ] ، والآيات الدالة على أن الكفار أولياء الشيطان كثيرة ، وقد قدمنا كثيرا من ذلك في سورة الكهف وغيرها ، كقوله تعالى : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] ، وقوله : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه الآية [ 3 \ 175 ] ، أي : يخوفكم أولياءه ، وقوله : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله الآية [ 7 \ 30 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم ، وكل من كان الشيطان يزين له الكفر والمعاصي فيتبعه في ذلك في الدنيا فلا ولي له في الآخرة إلا الشيطان ، كما قال تعالى : تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم [ 16 \ 63 ] ، ومن كان لا ولي له يوم القيامة إلا الشيطان ، تحقق أنه لا ولي له ينفعه يوم القيامة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك [ 19 \ 43 ] ، [ ص: 427 ] يعني ما علمه الله من الوحي وما ألهمه وهو صغير ، كما قال تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين [ 21 \ 51 ] ، ومحاجة إبراهيم لقومه كما ذكرنا بعض الآيات الدالة عليها أثنى الله بها على إبراهيم ، وبين أنها حجة الله آتاها نبيه إبراهيم ، كما قال تعالى : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء الآية [ 6 \ 83 ] ، وقال تعالى : وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني الآية [ 6 \ 80 ] ، وكون الآيات المذكورة واردة في محاجته لهم المذكورة في سورة " الأنعام " لا ينافي ما ذكرنا ; لأن أصل المحاجة في شيء واحد ، وهو توحيد الله جل وعلا وإقامة الحجة القاطعة على أنه لا معبود إلا هو وحده جل وعلا في سورة " الأنعام " وفي غيرها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا

بين الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرفق واللين ، وإيضاح الحق والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ، ومن عذاب الله تعالى وولاية الشيطان - خاطبه هذا الخطاب العنيف ، وسماه باسمه ولم يقل له " يا بني " في مقابلة قوله له " يا أبت " وأنكر عليه أنه راغب عن عبادة الأوثان ، أي : معرض عنها لا يريدها ; لأنه لا يعبد إلا ال له وحده جل وعلا ، وهدده بأنه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه ) قيل بالحجارة وقيل باللسان شتما ( والأول أظهر ، ثم أمره بهجره مليا أي : زمانا طويلا ، ثم بين أن إبراهيم قابل أيضا جوابه العنيف بغاية الرفق واللين في قوله : قال سلام عليك سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] ، وخطاب إبراهيم لأبيه الجاهل بقوله : سلام عليك قد بين جل وعلا أنه خطاب عباده المؤمنين للجهال إذا خاطبوهم ، كما قال تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] ، وقال تعالى : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] ، وما ذكره تعالى هنا من أن إبراهيم لما أقنع أباه بالحجة القاطعة ، قابله أبوه بالعنف والشدة بين في مواضع أخر أنه هو عادة الكفار المتعصبين لأصنامهم ، كلما أفحموا بالحجة القاطعة لجئوا إلى استعمال القوة ، كقوله تعالى عن إبراهيم لما قال له الكفار عن أصنامهم : [ ص: 428 ] لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [ 21 \ 65 ] ، قال : أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون [ 21 \ 67 ] ، فلما أفحمهم بهذه الحجة لجئوا إلى القوة ، كما قال تعالى عنهم : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] ، ونظيره قوله تعالى عن قوم إبراهيم : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار الآية [ 29 \ 24 ] ، وقوله عن قوم لوط لما أفحمهم بالحجة : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله : سلام عليك ، يعني : لا ينالك مني أذى ولا مكروه ، بل ستسلم مني فلا أوذيك ، وقوله : سأستغفر لك ربي ، وعد من إبراهيم لأبيه باستغفاره له ، وقد وفى بذلك الوعد ، كما قال تعالى عنه : واغفر لأبي إنه كان من الضالين [ 19 \ 47 ] ، وكما قال تعالى عنه : ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب [ 14 \ 41 ] .

ولكن الله لما بين له أنه عدو لله تبرأ منه ، ولم يستغفر له بعد ذلك ، كما قال تعالى : فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] ، وقد قال تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه [ 9 \ 114 ] ، والموعدة المذكورة هي قوله هنا : سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] ، ولما اقتدى المؤمنون بإبراهيم فاستغفروا لموتاهم المشركين ، واستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب أنزل الله فيهم : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] ، ثم قال : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه الآية [ 9 \ 114 ] ، وبين في سورة " الممتحنة " أن الاستغفار للمشركين مستثنى من الأسوة بإبراهيم ، والأسوة الاقتداء ، وذلك في قوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله - إلى قوله - إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك [ 60 \ 4 ] ، أي : فلا أسوة لكم في إبراهيم في ذلك ، ولما ندم المسلمون على استغفارهم للمشركين حين قال فيهم : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين الآية [ 9 \ 113 ] ، بين الله تعالى أنهم معذورون في ذلك ; لأنه لم يبين لهم منع ذلك قبل فعله ، وذلك في قوله : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] .

وقوله في هذه الآية : أراغب أنت عن آلهتي ، يجوز فيه أن يكون " راغب " خبرا [ ص: 429 ] مقدما ، و " أنت " مبتدأ مؤخرا ، وأن يكون " أراغب " مبتدأ ، و " أنت " فاعل سد مسد الخبر ، ويترجح هذا الإعراب الأخير على الأول من وجهين : الأول أنه لا يكون فيه تقديم ولا تأخير ، والأصل في الخبر التأخير كما هو معلوم ، الوجه الثاني هو ألا يكون فصل بين العامل الذي هو " أراغب " ، وبين معموله الذي هو " عن آلهتي " بما ليس بمعمول للعامل ; لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ ، بخلاف كون " أنت " فاعلا ، فإنه معمول " أراغب " فلم يفصل بين " أراغب " وبين " عن آلهتي " بأجنبي ، وإنما فصل بينهما بمعمول المبتدأ الذي هو فاعله الساد مسد خبره ، والرغبة عن الشيء : تركه عمدا للزهد فيه وعدم الحاجة إليه ، وقد قدمنا في سورة " النساء " الفرق بين قولهم : رغب عنه ، وقولهم : رغب فيه . في الكلام على قوله تعالى : وترغبون أن تنكحوهن الآية [ 4 \ 127 ] ، والتحقيق في قوله " مليا " أن المراد به الزمن الطويل ومنه قول مهلهل :



فتصدعت صم الجبال لموته وبكت عليه المرملات مليا وأصله واوي اللام ; لأنه من الملاوة وهي مدة العيش ، ومن ذلك قيل الليل والنهار الملوان ، ومنه قول ابن مقبل :



ألا يا ديار الحي بالسبعان أمل عليها بالبلى الملوان
وقول الآخر :



نهار وليل دائم ملواهما على كل حال المرء يختلفان
وقيل : الملوان في بيت ابن مقبل : طرفا النهار .

وقوله : إنه كان بي حفيا ، أي : لطيفا بي ، كثير الإحسان إلي ، وجملة : واهجرني عطف على جملة لئن لم تنته لأرجمنك ، وذلك دليل على جواز عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :



وإن شفائي عبرة إن سفحتها فهل عند رسم دارس من معول
فجملة " وإن شفائي " خبرية ، وجملة " وهل عند رسم " . . . إلخ إنشائية معطوفة عليها .

وقول الآخر أيضا :



تناغي غزالا عند باب ابن عامر وكحل مآقيك الحسان بإثمد
وهذا هو الظاهر كما قاله أبو حيان عن سيبويه ، وقال الزمخشري في الكشاف : فإن [ ص: 430 ] قلت : علام عطف واهجرني ؟ قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه " لأرجمنك " أي : فاحذرني واهجرني ; لأن لأرجمنك تهديد وتقريع . اهـ .
قوله تعالى : واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ، اعلم أن في قوله " مخلصا " قراءتين سبعيتين : قرأه عاصم وحمزة والكسائي بفتح اللام بصيغة اسم المفعول ، والمعنى على هذه القراءة أن الله استخلصه واصطفاه : ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي الآية [ 7 \ 144 ] ، ومما يماثل هذه القراءة في القرآن قوله تعالى : إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار [ 38 \ 46 ] ، فالذين أخلصهم الله هم المخلصون بفتح اللام ، وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر " مخلصا " بكسر اللام بصيغة اسم الفاعل ، كقوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، وقوله تعالى :

قل الله أعبد مخلصا له ديني الآية [ 39 \ 14 ] .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 12:57 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (261)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 431 إلى صـ 437




قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ، قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : يقول تعالى ذكره : ونادينا موسى من ناحية الجبل ، ويعني بالأيمن يمين موسى ; لأن الجبل لا يمين له ولا شمال ، وإنما ذلك كما يقال : قام عن يمين القبلة وعن شمالها ، وهذه القصة جاءت مبينة في مواضع متعددة من كتاب الله تعالى ، وذلك أن موسى لما قضى الأجل الذي بينه وبين صهره ، وسار بأهله راجعا من مدين إلى مصر آنس من جانب الطور نارا ، فذهب إلى تلك النار ليجد عندها من يدله على الطريق ، وليأتي بجذوة منها ليوقد بها النار لأهله ليصطلوا بها ، فناداه الله وأرسله إلى فرعون ، وشفعه في أخيه هارون فأرسله معه ، وأراه في ذلك الوقت معجزة العصا واليد ليستأنس بذلك قبل حضوره عند فرعون ; لأنه لما رأى العصا في المرة الأولى صارت ثعبانا ولى مدبرا ولم يعقب ، فلو فعل ذلك عندما انقلبت ثعبانا لما طالبه فرعون وقومه بآية ، لكان ذلك غير لائق ، ولأجل هذا مرن عليها في أول مرة ليكون مستأنسا غير خائف منها حين تصير ثعبانا مبينا قال تعالى في سورة " طه " : وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى فلما أتاها نودي ياموسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 8 - 13 ] ، [ ص: 431 ] وقوله : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] ، هو معنى قوله في " طه " : فلما أتاها نودي ياموسى إني أنا ربك .

وقوله : بقبس ، أي : شهاب ، بدليل قوله في " النمل " : أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون [ 20 \ 7 ] ، وذلك هو المراد بالجذوة في قوله : أو جذوة من النار [ 28 \ 29 ] ، وقوله : أو أجد على النار هدى [ 20 \ 10 ] ، أي : من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها ، لأنهم كانوا ضلوا الطريق ، والزمن زمن برد ، وقوله : آنست نارا [ 20 \ 10 ] ، أي : أبصرتها ، وقوله : فاخلع نعليك [ 20 \ 12 ] ، قال بعض العلماء : لأنهما كانتا من جلد حمار غير ذكي ، ويروى هذا عن كعب وعكرمة وقتادة ، نقله عنهم القرطبي وغيره ، وروي أيضا عن علي والحسن والزهري كما رواه عنهم صاحب الدر المنثور ، ونقله ابن كثير عن علي وأبي أيوب وغير واحد من السلف ، ويروى هذا القول عن غير من ذكر ، وجاء فيه حديث مرفوع من حديث عبد الله بن مسعود رواه الترمذي وغيره ولا يصح ، وفيه أقوال أخر للعلماء غير ذلك ، وأظهرها عندي والله تعالى أعلم : أن الله أمره بخلع نعليه - أي نزعهما من قدميه - ليعلمه التواضع لربه حين ناداه ، فإن نداء الله لعبده أمر عظيم ، يستوجب من العبد كمال التواضع والخضوع ، والله تعالى أعلم .

وقول من قال : إنه أمر بخلعهما احتراما للبقعة ، يدل له أنه أتبع أمره بخلعهما بقوله : إنك بالوادي المقدس طوى [ 20 \ 12 ] ، وقد تقرر في ) مسك الإيماء والتنبيه ( : أن " إن " من حروف التعليل ، وأظهر الأقوال في قوله " طوى " : أنه اسم للوادي ، فهو بدل من الوادي أو عطف بيان ، وفيه أقوال أخر غير ذلك .

وقوله : وأنا اخترتك ، أي : اصطفيتك برسالتي ، كقوله : إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ 7 \ 144 ] ، ومعنى الاستعلاء في قوله : على النار ، أن المصطلين بالنار يستعلون المكان القريب منها ، ونظير ذلك من كلام العرب قول الأعشى :

تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق

قال تعالى في سورة " النمل " : وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم [ 27 \ 6 - 9 ] ، فقوله في " النمل " : فلما جاءها نودي [ 27 \ 8 ] ، [ ص: 432 ] هو معنى قوله في " مريم " : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] ، وقوله في " طه " : فلما أتاها نودي ياموسى [ 20 \ 11 ] ، وقوله : سآتيكم منها بخبر [ 27 \ 7 ] ، هو معنى قوله في " طه " : أو أجد على النار هدى [ 20 \ 10 ] ، أي : من يدلني على الطريق فيخبرني عنها فآتيكم بخبره عنها ، وقال تعالى في سورة " القصص " : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة الآية [ 28 \ 29 - 30 ] .

فالنداء في هذه الآية هو المذكور في " مريم " ، وطه ، والنمل " وقد بين هنا أنه نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ، فدلت الآيات على أن الشجرة التي رأى فيها النار عن يمين الجبل الذي هو الطور ، وفي يمين الوادي المقدس الذي هو طوى على القول بأن طوى اسم له ، وقد قدمنا قول ابن جرير : أن المراد يمين موسى ; لأن الجبل ومثله الوادي لا يمين له ولا شمال ، وقال ابن كثير في قوله : نودي من شاطئ الوادي الأيمن [ 28 \ 30 ] ، أي : من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ، كما قال تعالى : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر [ 28 \ 44 ] ، فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة والجبل الغربي عن يمينه . انتهى منه وهو معنى قوله : وناديناه من جانب الطور الأيمن الآية [ 19 \ 52 ] ، وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا الآية [ 28 \ 46 ] .

والنداء المذكور في جميع الآيات المذكورة نداء الله له ، فهو كلام الله أسمعه نبيه موسى ، ولا يعقل أنه كلام مخلوق ، ولا كلام خلقه الله في مخلوق كما يزعم ذلك بعض الجهلة الملاحدة ، إذ لا يمكن أن يقول غير الله : إنه أنا الله العزيز الحكيم [ 27 \ 9 ] ، ولا أن يقول : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [ 20 \ 14 ] ، ولو فرض أن الكلام المذكور قاله مخلوق افتراء على الله ، كقول فرعون : أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] ، على سبيل فرض المحال فلا يمكن أن يذكره الله في معرض أنه حق وصواب .

فقوله : إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [ 20 \ 14 ] ، وقوله : إنه أنا الله العزيز الحكيم [ 27 \ 9 ] ، صريح في أن الله هو المتكلم بذلك صراحة لا تحتمل غير ذلك ، كما هو معلوم عند من له أدنى معرفة بدين الإسلام .

[ ص: 433 ] وقوله تعالى : من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة [ 28 \ 30 ] ، قال الزمخشري في الكشاف : " من " الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي : أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة ، و من الشجرة بدل من قوله : من شاطئ الوادي بدل اشتمال ; لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، كقوله : لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم [ 43 \ 33 ] .

وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : نودي من شاطئ الوادي الأيمن الآية ، : قال المهدوي : وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه ، وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء . انتهى منه ، وشاطئ الوادي جانبه ، وقال بعض أهل العلم : معنى " الأيمن " في قوله : من شاطئ الوادي الأيمن ، وقوله : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] ، من اليمن وهو البركة ; لأن تلك البلاد بارك الله فيها ، وأكثر أهل العلم على أن النار التي رآها موسى " نور " وهو يظنها نارا ، وفي قصته أنه رأى النار تشتعل فيها وهي لا تزداد إلا خضرة وحسنا ، قيل هي شجرة عوسج ، وقيل شجرة عليق ، وقيل شجرة عناب ، وقيل سمرة ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في سورة " النمل " : فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها [ 27 \ 8 ] ، اختلفت عبارات المفسرين في المراد بـ من في النار في هذه الآية في سورة " النمل " فقال بعضهم : هو الله جل وعلا ، وممن روي عنه هذا القول : ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب قالوا : بورك من في النار أي : تقدس الله وتعالى ، وقالوا : كان نور رب العالمين في الشجرة ، واستدل من قال بهذا القول بحديث أبي موسى الثابت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .

قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول بعيد من ظاهر القرآن ، ولا ينبغي أن يطلق على الله أنه في النار التي في الشجرة ، سواء قلنا : إنها نار أو نور ، سبحانه جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله وتأويل ذلك بـ من في النار سلطانه وقدرته ، لا يصح ; لأن صرف كتاب الله عن ظاهره المتبادر منه لا يجوز إلا بدليل يجب الرجوع [ ص: 434 ] إليه من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم . وبه تعلم أن قول أبي حيان في " البحر المحيط " : قال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن وغيرهم : أراد بمن في النار : ذاته ، وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله تعالى .

وإذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف ، أي : بورك من قدرته وسلطانه في النار . انتهى ، أنه أصاب في تنزيهه لله عن تلك العبارات ، ولم يصب فيما ذكر من التأويل ، والله أعلم .

وقال بعضهم : إن معنى بورك من في النار ، أي : بوركت النار لأنها نور ، وبعده عن ظاهر القرآن واضح كما ترى ، وقال بعضهم : أن بورك من في النار أي : بوركت الشجرة التي تتقد فيها النار ، وبعده عن ظاهر القرآن أيضا واضح كما ترى ، وإطلاق لفظة " من " على الشجرة وعلى ما في النار من أمر الله غير مستقيم في لغة العرب التي نزل بها القرآن العظيم كما ترى .

1 تتمة القرطبي 13 \ 282 : ولا يجوز أن يوصف الله تعالى بالانتقال والزوال ، وما يشبه ذلك من صفة المخلوقين

وأقرب الأقوال في معنى الآية إلى ظاهر القرآن العظيم قول من قال : إن في النار التي هي نور ملائكة وحولها ملائكة وموسى ، وأن معنى : أن بورك من في النار ، أي : الملائكة الذين هم في ذلك النور ، ومن حولها ، أي : وبورك الملائكة الذين هم حولها ، وبورك موسى لأنه حولها معهم ، وممن يروى عنه هذا : السدي .

وقال الزمخشري ) في الكشاف ( : ومعنى أن بورك من في النار ومن حولها ، بورك من في مكان النار ومن حول مكانها ، ومكانها البقعة التي حصلت فيها ، وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى : نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة [ 28 \ 30 ] ، وتدل عليه قراءة أبي " أن تباركت النار ومن حولها " ، وعنه " بوركت النار " .

وقال القرطبي رحمه الله في قوله : أن بورك من في النار ، وهذا تحية من الله لموسى ، وتكرمة له كما حيا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا إليه قال : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ، وقوله : من في النار نائب فاعل " بورك " والعرب تقول : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك ، فهي أربع لغات ، قال الشاعر :



فبوركت مولودا وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وقال أبو طالب بن عبد المطلب يرثي مسافر بن أبي عمرو بن أمية : [ ص: 435 ]

ليت شعري مسافر بن أبي عم رو وليت يقولها المحزون
بورك الميت الغريب كما بو رك نضر الريحان والزيتون

وقال آخر :



فبورك في بنيك وفي بنيهم إذا ذكروا ونحن لك الفداء

والآيات في هذه القصة الدالة على أنه أراه آية اليد والعصا ليتمرن على ذلك قبل حضوره عند فرعون وقومه ، وأنه ولى مدبرا خوفا منها في المرة الأولى لما صارت ثعبانا جاءت في مواضع متعددة ، كقوله تعالى في سورة " طه " : قال ألقها ياموسى فألقاها فإذا هي حية تسعى قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى [ 20 \ 19 - 22 ] ، فقوله : ولا تخف ، يدل على أنه فزع منها لما صارت ثعبانا مبينا ، كما جاء مبينا في " النمل والقصص " .

وقوله في آية " طه " هذه من غير سوء [ 20 \ 22 ] ، أي : من غير برص ، وفيه ما يسميه البلاغيون احتراسا ، وكقوله تعالى في سورة " النمل " : ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء [ 27 \ 9 - 12 ] ، وقوله في " القصص " : وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 28 \ 31 - 32 ] ، والبرهانان المشار إليهما بقوله : فذانك برهانان ، هما اليد والعصا ، فلما تمرن موسى على البرهانين المذكورين ، وبلغ الرسالة هو وأخوه إلى فرعون وملئه طالبوه بآية تدل على صدقه فجاءهم بالبرهانين المذكورين ، ولم يخف من الثعبان الذي صارت العصا إياه كما قال تعالى : قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 26 \ 30 - 33 ] ، ونحوها من الآيات .

وقوله في " النمل ، والقصص " : ولم يعقب ، أي : لم يرجع من فراره منها ، يقال : عقب الفارس إذا كر بعد الفرار ، ومنه قوله :

[ ص: 436 ]

فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وقربناه نجيا [ 19 \ 52 ] ، أي : قرب الله موسى في حال كونه نجيا ، أي : مناجيا لربه ، وإتيان الفعيل بمعنى الفاعل كثير كالقعيد والجليس ، وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : روى ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان ، حدثنا سفيان عن عطاء بن يسار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وقربناه نجيا ، قال : أدني حتى سمع صريف القلم .

وهكذا قال مجاهد وأبو العالية وغيرهم ، يعنون صريف القلم بكتابة التوراة ، وقال السدي وقربناه نجيا ، قال : أدخل في السماء فكلم ، وعن مجاهد نحوه ، وقال عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة : وقربناه نجيا ، قال نجيا بصدقه . انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

وقوله تعالى في طه : اشدد به أزري [ 20 \ 31 ] ، أي : قوني به ، والأزر : القوة ، وآزره ، أي : قواه ، وقوله في القصص : سنشد عضدك بأخيك [ 28 \ 35 ] ، أي : سنقويك به ، وذلك لأن العضد هو قوام اليد ، وبشدتها تشتد اليد ، قال طرفة :

أبني لبينى لستم بيد إلا يدا ليست لها عضد وقوله : ردءا ، أي : معينا ; لأن الردء اسم لكل ما يعان به ، ويقال ردأته ، أي : أعنته .

قوله تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ، معنى الآية الكريمة : أن الله وهب لموسى نبوة هارون ، والمعنى أنه سأله ذلك فآتاه سؤله ، وهذا المعنى أوضحه تعالى في آيات أخر ، كقوله في سورة " طه " عنه : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري إلى قوله : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى [ 20 \ 29 - 36 ] ، وقوله في " القصص " : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 \ 33 - 35 ] ، وقوله في سورة " الشعراء " : [ ص: 437 ] وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إني أخاف أن يكذبون ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 10 - 16 ] ، فهذه الآيات تبين أنه سأل ربه أن يرسل معه أخاه ، فأجاب ربه جل وعلا سؤاله في ذلك ، وذلك يبين أن الهبة في قوله : ووهبنا ، هي في الحقيقة واقعة على رسالته لا على نفس هارون ; لأن هارون أكبر من موسى ، كما قاله أهل التاريخ .

قوله تعالى : واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ، أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يذكر في الكتاب وهو هذا القرآن العظيم ) جده إسماعيل ( ، وأثنى عليه - أعني إسماعيل - بأنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ، ومما يبين من القرآن شدة صدقه في وعده : أنه وعد أباه بصبره له على ذبحه ثم وفى بهذا الوعد ، ومن وفى بوعده في تسليم نفسه للذبح فإن ذلك من أعظم الأدلة على عظيم صدقه في وعده ، قال تعالى : فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فهذا وعده .

وقد بين تعالى وفاءه به في قوله : فلما أسلما وتله للجبين الآية [ 37 \ 103 ] ، والتحقيق أن الذبيح هو إسماعيل ، وقد دلت على ذلك آيتان من كتاب الله تعالى دلالة واضحة لا لبس فيها ، وسنوضح ذلك إن شاء الله غاية الإيضاح في سورة " الصافات " ، وثناؤه جل وعلا في هذه الآية الكريمة على نبيه إسماعيل بصدق الوعد يفهم من دليل خطابه أعني مفهوم مخالفته أن إخلاف الوعد مذموم ، وهذا المفهوم قد جاء مبينا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى ، كقوله تعالى : فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون [ 9 \ 77 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وفي الحديث : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 12:58 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (262)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 438 إلى صـ 444





وقوله تعالى في هذه الآية : وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة [ 19 \ 55 ] ، قد بين في مواضع أخر أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك الذي أثنى الله به على جده إسماعيل ، كقوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها الآية [ 20 \ 132 ] ، ومعلوم أنه امتثل [ ص: 438 ] هذا الأمر ، وكقوله : ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا الآية [ 66 \ 6 ] ، ويدخل في ذلك أمرهم أهليهم بالصلاة والزكاة ، إلى غير ذلك من الآيات .

مسألة

اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد ، فقال بعضهم : يلزم الوفاء به مطلقا ، وقال بعضهم : لا يلزم مطلقا ، وقال بعضهم : إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به ، وإلا فلا ، ومثاله ما لو قال له : تزوج ، فقال له : ليس عندي ما أصدق به الزوجة ، فقال : تزوج والتزم لها الصداق وأنا أدفعه عنك ، فتزوج على هذا الأساس ، فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق ، واحتج من قال يلزمه ، بأدلة منها آيات من كتاب الله دلت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث ، فالآيات كقوله تعالى : وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود الآية [ 5 \ 1 ] ، وقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها الآية [ 16 \ 91 ] ، وقوله هنا : إنه كان صادق الوعد الآية [ 19 \ 54 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

والأحاديث كحديث " العدة دين " فجعلها دينا دليل على لزومها ، قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس : " العدة دين ، رواه الطبراني في الأوسط والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود بلفظ : قال : لا يعد أحدكم صبيه ثم لا ينجز له ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " العدة دين " ورواه أبو نعيم عنه بلفظ : إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز له : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكره بلفظ " عطية " ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفا ، ورواه الطبراني والديلمي عن علي مرفوعا بلفظ : العدة دين ، ويل لمن وعد ثم أخلف ، ويل له . " ثلاثا ، ورواه القضاعي بلفظ الترجمة فقط ، والديلمي أيضا بلفظ : " الواعد بالعدة مثل الدين أو أشد " أي : وعد الواعد ، وفي لفظ له " عدة المؤمن دين ، وعدة المؤمن كالأخذ باليد " ، وللطبراني في الأوسط عن قباث بن أشيم الليثي مرفوعا : " العدة عطية " .

وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلا : أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فلم تجد عنده ، فقالت : عدني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العدة عطية " ، وهو في مراسيل أبي داود ، وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العدة عطية " ، وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ، فقال : " ما عندي ما أعطيك " قال : في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه : وقد أفردته مع [ ص: 439 ] ما يلائمه بجزء . انتهى منه ، وقد علم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف .

وقال شارحه المناوي : وفيه دارم بن قبيصة ، قال الذهبي : لا يعرف . اهـ . ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة ، وقد روي عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود ، وقباث بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما ، وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة ، دالة على الوفاء بالوعد .

واحتج من قال بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع على أن من وعد رجلا بمال إذا أفلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء ، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد ، حكى الإجماع على هذا ابن عبد البر ، كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ، وفيه مناقشة ، وحجة من فرق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم ، وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم ، أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها ، فقد أضر به ، وليس للمسلم أن يضر بأخيه ، للحديث " لا ضرر ولا ضرار " .

وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال مالك : إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة ، فيقول له نعم ، ثم يبدو له ألا يفعل ، فما أرى يلزمه ، قال مالك : ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم ، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان .

وقال أبو حنيفة وأصحابه ، والأوزاعي ، والشافعي وسائر الفقهاء : إن العدة لا يلزم منها شيء ; لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة ، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها ، وفي البخاري : واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد [ 19 \ 54 ] ، وقضى ابن أشوع بالوعد ، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب ، قال البخاري : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع . انتهى كلام القرطبي ، وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه ، هو قوله في آخر كتاب " الشهادات " : باب من أمر بإنجاز الوعد ، وفعله الحسن واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد ، وقضى ابن أشوع بالوعد ، وذكر ذلك عن سمرة وقال المسور بن مخرمة : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر صهرا له ، قال وعدني فوفى لي ، قال أبو عبد الله : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع : حدثنا إبراهيم بن حمزة ، حدثنا [ ص: 440 ] إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله : أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له : سألتك ماذا يأمركم ، فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ، قال : وهذه صفة نبي .

حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان ، وإذا وعد أخلف " ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهم قال : لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر : من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين ، أو كانت له قبله عدة فليأتنا ، قال جابر : فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا ، فبسط يديه ثلاث مرات ، قال جابر : فعد في يدي خمسمائة ، ثم خمسمائة ، ثم خمسمائة .

حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير : قال : سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله ، فقدمت فسألت ابن عباس ، قال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله إذا قال فعل . انتهى من صحيح البخاري ، وقوله في ترجمة الباب المذكور " وفعله الحسن " يعني الأمر بإنجاز الوعد ، ووجه احتجاجه بآية : إنه كان صادق الوعد ، أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله ، فلا يجوز ، وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي ، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق ، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه ، وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع ، كما قاله ابن حجر في " الفتح " ، والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد ، وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافرا ، وقد وعده برد ابنته زينب إليه ، وردها إليه ، خلافا لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه ، وقد ذكر البخاري في الباب المذكور أربعة أحاديث في كل واحد منها دليل على الوفاء بإنجاز الوعد .

الأول : حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح [ ص: 441 ] مشهور ، ووجه الدلالة منه في قوله : " فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة " فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة ، وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة ، وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والاقتداء بالأنبياء واجب .

الثاني : حديث أبي هريرة في آية المنافق ، ومحل الدليل منه قوله " وإذا وعد أخلف " فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين .

الثالث : حديث جابر في قصته مع أبي بكر ، ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال : من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قبله عدة . . . الحديث ، فجعل العدة كالدين ، وأنجز لجابر ما وعده النبي صلى الله عليه وسلم من المال ، فدل ذلك على الوجوب .

الرابع : حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى ، ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل ، فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل ، وأن يفعلوا إذا قالوا ، وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين .

ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 3 ] ; لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به ، وقال ابن حجر في " الفتح " في الكلام على ترجمة الباب المذكورة : قال المهلب : إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض ؛ لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء . اهـ .

ونقل الإجماع في ذلك مردود ، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل . وقال ابن عبد البر وابن العربي : أجل من قال به عمر بن العزيز . انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح ، وقال أيضا : وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة ، هل تملك بالقبض أو قبله .

فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، وما استدل به كل فريق منهم فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم : أن إخلاف الوعد لا يجوز ، لكونه من علامات المنافقين ، ولأن الله يقول : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ، وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ، ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبرا ، بل يؤمر به ولا يجبر عليه ; لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به ; لأنه وعد بمعروف محض ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 442 ] ] قوله تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، الإشارة في قوله : أولئك ، راجعة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة الكريمة ، وقد بين الله هنا أنه أنعم عليهم واجتباهم وهداهم ، وزاد على هذا في سورة " النساء " بيان جميع من أنعم عليهم من غير الأنبياء في قوله : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا [ 4 \ 69 ] ، وبين في سورة الفاتحة : أن صراط الذين أنعم عليهم غير صراط المغضوب عليهم ولا الضالين في قوله : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 6 - 7 ] ، وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : قال السدي وابن جرير رحمهما الله : فالذي عنى به من ذرية آدم : " إدريس " ، والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح : " إبراهيم " ، والذي عنى به من ذرية إبراهيم : " إسحاق ويعقوب وإسماعيل " ، والذي عنى به من ذرية إسرائيل : " موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم " ، قال ابن جرير : ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم ; لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح .

قلت : هذا هو الأظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وقد قيل : إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذا من حديث الإسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم : مرحبا بالنبي الصالح ، والأخ الصالح ، ولم يقل : والولد الصالح ، كما قال آدم وإبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام . انتهى الغرض من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

وقال ابن كثير أيضا في تفسير هذه الآية الكريمة : يقول تعالى : هؤلاء النبيون ، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط ، بل جنس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس ، إلى أن قال في آخر كلامه : ومما يؤيد أن المراد بهذه الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة " الأنعام " : وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 83 - 90 ] ، اهـ ، [ ص: 443 ] وقد قال تعالى في صفة هؤلاء المذكورين في " الأنعام " : واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم [ 6 \ 87 ] ، كما قال في صفة هؤلاء المذكورين في سورة " مريم " : وممن هدينا واجتبينا [ 19 \ 58 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، بين فيه أن هؤلاء الأنبياء المذكورين إذا تتلى عليهم آيات ربهم بكوا وسجدوا ، وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر بالنسبة إلى المؤمنين لا خصوص الأنبياء ، كقوله تعالى : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا [ 17 \ 107 - 109 ] ، وقوله : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [ 5 \ 83 ] ، وقوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [ 8 \ 2 ] ، وقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، فكل هذه الآيات فيها الدلالة على أنهم إذا سمعوا آيات ربهم تتلى تأثروا تأثرا عظيما ، يحصل منه لبعضهم البكاء والسجود ، ولبعضهم قشعريرة الجلد ولين القلوب والجلود ، ونحو ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وبكيا ، جمع باك ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية من سورة " مريم " فسجد وقال : هذا السجود ، فأين البكي ؟ يريد البكاء ، وهذا الموضع من عزائم السجود بلا خلاف بين العلماء في ذلك .

قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا .

الضمير في قوله " من بعدهم " راجع إلى النبيين المذكورين في قوله تعالى : أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح الآية [ 19 \ 58 ] ، أي : فخلف من بعد أولئك النبيين خلف ، أي : أولاد سوء ، قال القرطبي رحمه الله في تفسير سورة " الأعراف " قال أبو حاتم : الخلف بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجمع فيه سواء ، والخلف بفتح اللام : البدل ، ولدا كان أو غريبا ، وقال ابن الأعرابي : الخلف بالفتح : الصالح ، وبالسكون : الطالح ، قال لبيد :

[ ص: 444 ]

ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل للرديء من الكلام : خلف ، ومنه المثل السائر " سكت ألفا ونطق خلفا " ، فخلف في الذم بالإسكان ، وخلف بالفتح في المدح ، هذا هو المستعمل المشهور ، قال صلى الله عليه وسلم : " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله " وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :



لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع

وقال آخر :



إنا وجدنا خلفا بئس الخلف أغلق عنا بابه ثم حلف
لا يدخل البواب إلا من عرف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف

ويروى : خضف ، أي : ردم . انتهى منه ، و الردام : الضراط .

ومعنى الآية الكريمة أن هذا الخلف السيئ الذي خلف من بعد أولئك النبيين الكرام كان من صفاتهم القبيحة : أنهم أضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، واختلف أهل العلم في المراد بإضاعتهم الصلاة ، فقال بعضهم : المراد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها ، وممن يروى عنه هذا القول ابن مسعود ، والنخعي ، والقاسم بن مخيمرة ، ومجاهد ، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم ، وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن هذا القول هو الصحيح ، وقال بعضهم : إضاعتها الإخلال بشروطها ، وممن اختار هذا القول الزجاج ، وقال بعضهم : المراد بإضاعتها جحد وجوبها ، ويروى هذا القول وما قبله عن محمد بن كعب القرظي ، وقيل : إضاعتها : إقامتها في غير الجماعات ، وقيل : إضاعتها : تعطيل المساجد والاشتغال بالصنائع والأسباب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 12:59 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (263)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 445 إلى صـ 451






قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وكل هذه الأقوال تدخل في الآية ; لأن تأخيرها عن وقتها ، وعدم إقامتها في الجماعة ، والإخلال بشروطها ، وجحد وجوبها ، وتعطيل المساجد منها كل ذلك إضاعة لها ، وإن كانت أنواع الإضاعة تتفاوت ، واختلف العلماء أيضا في الخلف المذكورين من هم ؟ فقيل : هم اليهود ، ويروى عن ابن عباس ومقاتل ، وقيل : هم اليهود والنصارى ، ويروى عن السدي ، وقيل : هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون عند ذهاب الصالحين منها ، يركب بعضهم بعضا في الأزقة زنى ، ويروى عن مجاهد وعطاء وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ، وقيل : إنهم أهل الغرب ، وفيهم [ ص: 445 ] أقوال أخر .

قال مقيده عفا الله عنه : وكونهم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليس بوجيه عندي ; لأن قوله تعالى : فخلف من بعدهم [ 19 \ 59 ] ، صيغة تدل على الوقوع في الزمن الماضي ، ولا يمكن صرفها إلى المستقبل إلا بدليل يجب الرجوع إليه كما ترى ، والظاهر أنهم اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار الذين خلفوا أنبياءهم وصالحيهم قبل نزول الآية ، فأضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فكل خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات يدخلون في الذم والوعيد المذكور في هذه الآية ، واتباع الشهوات المذكور في الآية عام في اتباع كل مشتهى يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة ، وعن علي رضي الله عنه : من بنى المشيد ، وركب المنظور ، ولبس المشهور فهو ممن اتبع الشهوات .

وقوله تعالى : فسوف يلقون غيا ، اعلم أولا أن العرب تطلق الغي على كل شر ، والرشاد على كل خير ، قال المرقش الأصغر :



فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

فقوله : " ومن يغو " يعني ومن يقع في شر ، والإطلاق المشهور هو أن الغي الضلال ، وفي المراد بقوله " غيا " في الآية أقوال متقاربة ، منها أن الكلام على حذف مضاف ، أي : فسوف يلقون جزاء غي ، ولا شك أنهم سيلقون جزاء ضلالهم ، وممن قال بهذا القول : الزجاج ، ونظير هذا التفسير قوله تعالى : يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ، عند من يقول : إن معناه يلق مجازاة آثامه في الدنيا ، ويشبه هذا المعنى قوله تعالى : إنما يأكلون في بطونهم نارا [ 4 \ 10 ] ، وقوله : أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار [ 2 \ 174 ] ، فأطلق النار على ما أكلوا في بطونهم في الدنيا من المال الحرام لأنها جزاؤه ، كما أطلق الغي والأثام على العذاب لأنه جزاؤهما ، ومنها أن الغي في الآية الخسران والحصول في الورطات ، وممن روي عنه هذا القول : ابن عباس ، وابن زيد ، وروي عن ابن زيد أيضا " غيا " أي : شرا أو ضلالا أو خيبة ، وقال بعضهم : إن المراد بقوله " غيا " في الآية : واد في جهنم من قيح ; لأنه يسيل فيه قيح أهل النار وصديدهم ، وهو بعيد القعر خبيث الطعم ، وممن قال بهذا ابن مسعود ، والبراء بن عازب ، وروي عن عائشة ، وشفي بن ماتع .

[ ص: 446 ] وجاء حديث مرفوع بمقتضى هذا القول من حديث أبي أمامة وابن عباس ، فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن غيا واد في جنهم " كما في حديث ابن عباس ، وفي حديث أبي أمامة : أن غيا ، وأثاما : نهران في أسفل جهنم ، يسيل فيهما صديد أهل النار ، والظاهر أنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية حديث أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي الذي أشرنا له آنفا ، ثم قال : هذا حديث غريب ورفعه منكر ، وقيل : إن المعنى : فسوف يلقون غيا ، أي : ضلالا في الآخرة عن طريق الجنة ، ذكره الزمخشري ، وفيه أقوال أخر ، ومدار جميع الأقوال في ذلك على شيء واحد ، وهو : أن أولئك الخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات سوف يلقون يوم القيامة عذابا عظيما .

فإذا عرفت كلام العلماء في هذه الآية الكريمة ، وأن الله تعالى توعد فيها من أضاع الصلاة واتبع الشهوات بالغي الذي هو الشر العظيم والعذاب الأليم ، فاعلم أنه أشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في ذم الذين يضيعون الصلاة ولا يحافظون عليها وتهديدهم : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون [ 107 \ 4 - 7 ] ، وقوله في ذم المنافقين : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ 4 \ 142 ] ، وقوله فيهم أيضا : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ 9 \ 54 ] ، وأشار في مواضع كثيرة إلى ذم الذين يتبعون الشهوات وتهديدهم ، كقوله تعالى : والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم [ 47 \ 12 ] ، وقوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله تعالى : كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 46 - 47 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية الكريمة : أن الخلف الطيبين لا يضيعون الصلاة ، ولا يتبعون الشهوات ، وقد أشار تعالى إلى هذا في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ، إلى قوله : والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ 23 \ 1 - 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وكقوله : [ ص: 447 ] وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 - 41 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : أجمع العلماء على أن تارك الصلاة الجاحد لوجوبها ، كافر ، وأنه يقتل كفرا ما لم يتب ، والظاهر أن ترك ما لا تصح الصلاة بدونه كالوضوء وغسل الجنابة كتركها ، وجحد وجوبه كجحد وجوبها .

المسألة الثانية : اختلف العلماء في تارك صلاة عمدا تهاونا وتكاسلا مع اعترافه بوجوبها ، هل هو كافر أو مسلم ، وهل يقتل كفرا أو حدا أو لا يقتل ؟ فذهب بعض أهل العلم إلى أنه كافر مرتد يستتاب ، فإن تاب فذلك ، وإن لم يتب قتل كفرا ، وممن قال بهذا : الإمام أحمد رحمه الله في أصح الروايتين ، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وبه قال ابن المبارك ، وإسحاق بن راهويه ، ومنصور الفقيه من الشافعية ، ويروى أيضا عن أبي الطيب بن سلمة من الشافعية ، وهو رواية ضعيفة عن مالك ، واحتج أهل هذا القول بأدلة ، منها قوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم الآية [ 9 \ 11 ] ، ويفهم من مفهوم الآية : أنهم إن لم يقيموا الصلاة لم يكونوا من إخوان المؤمنين ، ومن انتفت عنهم أخوة المؤمنين فهم من الكافرين ; لأن الله يقول : إنما المؤمنون إخوة الآية [ 49 \ 10 ] ، ومنها حديث جابر الثابت في صحيح مسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين ، لفظ المتن في الأولى منهما : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " ، ولفظ المتن في الأخرى : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " انتهى منه ، وهو واضح في أن تارك الصلاة كافر ; لأن عطف الشرك على الكفر فيه تأكيد قوي لكونه كافرا ، ومنها حديث أم سلمة ، وحديث عوف بن مالك الآتيين الدالين على قتال الأمراء إذا لم يصلوا ، وهما في صحيح مسلم مع حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه ، قال : بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهله ، قال : " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان " ، فدل مجموع الأحاديث المذكورة أن ترك الصلاة كفر بواح عليه من الله برهان ، وقد قدمنا هذه الأحاديث المذكورة في سورة " البقرة " ، وهذا من أقوى أدلة أهل هذا القول ، ومنها حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " العهد الذي [ ص: 448 ] بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " أخرجه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان والحاكم ، وقال الشوكاني في ) نيل الأوطار ( في هذا الحديث : صححه النسائي ، والعراقي ، وقال النووي في شرح ) المهذب ( : رواه الترمذي والنسائي ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وقال الحاكم في المستدرك بعد أن ساق هذا الحديث بإسناده : هذا حديث صحيح الإسناد ، لا تعرف له علة بوجه من الوجوه ، فقد احتجا جميعا بعبد الله بن بريدة عن أبيه ، واحتج مسلم بالحسين بن واقد ، ولم يخرجاه بهذا اللفظ ، ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا ، أخبرنا أحمد بن سهل الفقيه ببخارى ، حدثنا قيس بن أنيف ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بشر بن المفضل ، عن الجريري عن عبد الله بن شقيق ، عن أبي هريرة قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ، وأقره الذهبي على تصحيحه لحديث بريدة المذكور ، وقال في أثر ابن شقيق عن أبي هريرة المذكور : لم يتكلم عليه وإسناده صالح .

قال مقيده عفا الله عنه : والظاهر أن قول الحافظ الذهبي رحمه الله " لم يتكلم عليه " سهو منه ; لأنه تكلم عليه في كلامه على حديث بريدة المذكور آنفا ، حيث قال : ولهذا الحديث شاهد صحيح على شرطهما جميعا ، يعني أثر ابن شقيق المذكور كما ترى ، وقال النووي في شرح المهذب : وعن عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي المتفق على جلالته : كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة ، رواه الترمذي في كتاب الإيمان بإسناد صحيح . انتهى منه ، وقد ذكر النووي رحمه الله في كلامه هذا الاتفاق على جلالة ابن شقيق المذكور مع أن فيه نصبا ، وقال المجد في المنتقى : وعن عبد الله بن شقيق العقيلي : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . إلى آخره ، ثم قال : رواه الترمذي . اهـ ، ولا يخفى عليك أن رواية الحاكم فيها أبو هريرة ورواية الترمذي ليس فيها أبو هريرة ، وحديث بريدة بن الحصيب ، وأثر ابن شقيق المذكوران فيهما الدلالة الواضحة على أن ترك الصلاة عمدا تهاونا كفر ، ولو أقر تاركها بوجوبها ، وبذلك يعتضد حديث جابر المذكور عند مسلم .

ومن الأدلة الدالة على أن ترك الصلاة كفر ما رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير والأوسط من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه ذكر الصلاة يوما فقال : " من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة ، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن [ ص: 449 ] خلف " اهـ ، وهذا الحديث أوضح دلالة على كفر تارك الصلاة ; لأن انتفاء النور والبرهان والنجاة ، والكينونة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف يوم القيامة أوضح دليل على الكفر كما ترى ، وقال الهيثمي في ) مجمع الزوائد ( في هذا الحديث : رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ، ورجال أحمد ثقات . اهـ . وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا ، منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صالح للاحتجاج ، وذكر طرفا منها الهيثمي في مجمع الزوائد ، وفيما ذكرناه كفاية .

وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن تارك الصلاة عمدا تهاونا وتكاسلا إذا كان معترفا بوجوبها غير كافر ، وأنه يقتل حدا - كالزاني المحصن - لا كفرا ، وهذا هو مذهب مالك وأصحابه ، وهو مذهب الشافعي وجمهور أصحابه ، وعزاه النووي في شرح المهذب للأكثرين من السلف والخلف ، وقال في شرح مسلم : ذهب مالك والشافعي رحمهما الله تعالى والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب ، فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ، ولكنه يقتل بالسيف . اهـ .

واعلم : أن هذا القول يحتاج إلى الدليل من جهتين ، وهما عدم كفره ، وأنه يقتل ، وهذه أدلتهم على الأمرين معا ، أما أدلتهم على أنه يقتل :

فمنها قوله تعالى : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم [ 9 \ 5 ] ، فإن الله تعالى في هذه الآية اشترط في تخلية سبيلهم إقامتهم الصلاة ، ويفهم من مفهوم الشرط أنهم إن لم يقيموها لم يخل سبيلهم وهو كذلك .

) ومنها ( ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " اهـ .

فهذا الحديث الصحيح يدل على أنهم لا تعصم دماؤهم ولا أموالهم إلا بإقامة الصلاة كما ترى .

ومنها : ما أخرجه الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية فقسمها بين أربعة فقال رجل : يا رسول الله ، اتق الله ، فقال : " ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله " ؟ ثم ولى الرجل ، فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ؟ فقال : " لا ، لعله أن [ ص: 450 ] يكون يصلي " فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم " مختصر من حديث متفق عليه ، فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح " لا " يعني لا تقتله ، وتعليله ذلك بقوله " لعله أن يكون يصلي " فيه الدلالة الواضحة على النهي عن قتل المصلين ، ويفهم منه أنه إن لم يصل يقتل ، وهو كذلك .

ومنها ما رواه مسلم في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع " قالوا : يا رسول الله ، ألا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما صلوا " هذا لفظ مسلم في صحيحه ، و " ما " في قوله " ما صلوا " مصدرية ظرفية ، أي : لا تقاتلوهم مدة كونهم يصلون ، ويفهم منه أنهم إن لم يصلوا قوتلوا ، وهو كذلك ، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه : " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " ، فحديث أم سلمة هذا ونحو حديث عوف بن مالك الآتي يدل على قتل من لم يصل ، وبضميمة حديث عبادة بن الصامت إلى ذلك يظهر الدليل على الكفر بترك الصلاة ; لأنه قال في حديث عبادة بن الصامت : " إلا أن تروا كفرا بواحا . " الحديث ، وأشار في حديث أم سلمة وعوف بن مالك : إلى أنهم إن تركوا الصلاة قوتلوا ، فدل ذلك على أن تركها من الكفر البواح ، وهذا من أقوى أدلة أهل القول الأول ، وحديث عوف بن مالك المذكور هو ما رواه مسلم في صحيحه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ : قال : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ويصلون عليكم وتصلون عليهم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم " قيل : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : " لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة . " الحديث ، وفيه الدلالة الواضحة على قتالهم إذا لم يقيموا الصلاة كما ترى .

ومن أدلة أهل هذا القول على قتل تارك الصلاة ، ما رواه الأئمة الثلاثة : مالك في موطئه ، والشافعي ، وأحمد في مسنديهما ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار : أن رجلا من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس يساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين ، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أليس يشهد ألا إله إلا الله " ؟ قال الأنصاري : بلى يا رسول الله ، ولا شهادة له ، قال : " أليس يشهد أن محمدا رسول الله " ؟ قال : بلى ولا شهادة له ، قال : " أليس يصلي " ؟ قال : بلى ولا صلاة له ، قال : " أولئك الذين نهاني [ ص: 451 ] الله عن قتلهم " اهـ . وفي رواية : عنهم .

هذا هو خلاصة أدلة أهل هذا القول على قتل تارك الصلاة ، واعلم أن جمهور من قال بقتله يقولون إنه يقتل بالسيف ، وقال بعضهم : يضرب بالخشب حتى يموت ، وقال ابن سريج : ينخس بحديدة أو يضرب بخشبة ، ويقال له : صل وإلا قتلناك ، ولا يزال يكرر عليه حتى يصلي أو يموت .

واختلفوا في استتابته ، فقال بعضهم : يستتاب ثلاثة أيام ، فإن تاب وإلا قتل ، وقال بعضهم : لا يستتاب ; لأنه يقتل حدا والحدود لا تسقط بالتوبة ، وقال بعضهم : إن لم يبق من الضروري إلا قدر ركعة ولم يصل قتل ، وبعضهم يقول : لا يقتل حتى يخرج وقتها ، والجمهور على أنه يقتل بترك صلاة واحدة ، وهو ظاهر الأدلة ، وقيل : لا يقتل حتى يترك أكثر من واحدة ، وعن الإمام أحمد روايتان : إحداهما أنه لا يقتل حتى يضيق وقت الصلاة الثانية المتروكة مع الأولى ، والأخرى : لا يقتل حتى يضيق وقت الرابعة .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر الأقوال عندي أنه يقتل بالسيف ، وأنه يستتاب ، للإجماع على قبول توبته إذا تاب ، والأظهر أنه يستتاب في الحال ، ولا يمهل ثلاثة أيام وهو يمتنع من الصلاة لظواهر النصوص المذكورة ، وأنه لا يقتل حتى لا يبقى من الوقت الضروري ما يسع ركعة بسجدتيها ، والعلم عند الله تعالى .

وأما أدلة أهل هذا القول على عدم كفره ، فمنها قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 116 ] ، ومنها حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز : أن رجلا من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول : إن الوتر واجب ، فقال المخدجي : فرحت إلى عبادة بن الصامت فاعترضت له وهو رائح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد ، فقال عبادة : كذب أبو محمد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئا استخفافا بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 01:00 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (264)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 452 إلى صـ 458









انتهى منه بلفظه ، وفي سنن أبي داود : حدثنا القعنبي عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن حبان ، إلى آخر الإسناد ، والمتن كلفظ الموطأ الذي ذكرنا ، وفي سنن النسائي : أخبرنا قتيبة عن مالك عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، إلى آخر الإسناد والمتن كاللفظ المذكور ، وفي سنن ابن ماجه : حدثنا محمد بن بشار ، ثنا ابن أبي عدي عن [ ص: 452 ] شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن محمد بن يحيى بن حبان ، عن ابن محيريز عن المخدجي ، عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات افترضهن الله على عباده . . . " إلى آخر الحديث المذكور بمعناه قريبا من لفظه ، ومعلوم أن رجال هذه الأسانيد ثقات معروفون إلا المخدجي المذكور وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، وبتوثيقه تعلم صحة الحديث المذكور ، وله شواهد يعتضد بها أيضا ، قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن حرب الواسطي ، ثنا يزيد يعني ابن هارون ، ثنا محمد بن مطرف ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله الصنابحي قال : زعم أبو محمد : أن الوتر واجب ، فقال عبادة بن الصامت كذب أبو محمد ، أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات افترضهن الله . " إلى آخر الحديث بمعناه ، وعبد الله الصنابحي المذكور قيل إنه صحابي مدني ، وقيل : هو عبد الرحمن بن عسيلة المرادي أبو عبد الله الصنابحي ، وهو ثقة من كبار التابعين ، قدم المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمسة أيام ، مات في خلافة عبد الملك ، وعلى كلا التقديرين فرواية الصنابحي المذكور إما رواية صحابي أو تابعي ثقة ، وبها تعتضد رواية المخدجي المذكور ، ورجال سند أبي داود هذا غير عبد الله الصنابحي ثقات ، معروفون لا مطعن فيهم ، وبذلك تعلم صحة حديث عبادة بن الصامت المذكور .

وقال الزرقاني ) في شرح الموطأ ( : وفيه يعني حديث عبادة المذكور أن تارك الصلاة لا يكفر ولا يتحتم عذابه ، بل هو تحت المشيئة بنص الحديث ، وقد أخرجه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من طريق مالك ، وصححه ابن حبان ، والحاكم ، وابن عبد البر ، وجاء من وجه آخر عن عبادة بنحوه في أبي داود ، والنسائي ، والبيهقي ، وله شاهد عند محمد بن نصر من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص . انتهى منه .

وقال العلامة الشوكاني رحمه الله في ) نيل الأوطار ( : ولهذا الحديث شاهد من حديث أبي قتادة عند ابن ماجه ، ومن حديث كعب بن عجرة عند أحمد ، ورواه أبو داود عن الصنابحي . انتهى محل الغرض منه .

وقال النووي ) في شرح المهذب ( بعد أن ساق حديث عبادة بن الصامت المذكور : هذا حديث صحيح ، رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة ، وقال ابن عبد البر : هو حديث صحيح ثابت ، لم يختلف عن مالك فيه ، فإن قيل : كيف صححه ابن عبد البر مع أنه قال : إن المخدجي المذكور في سنده مجهول ؟ فالجواب عن هذا من جهتين : الأولى : أن [ ص: 453 ] صحته من قبيل الشواهد التي ذكرنا ، فإنها تصيره صحيحا ، والثانية هي ما قدمنا من توثيق ابن حبان المخدجي المذكور ، وحديث عبادة المذكور فيه الدلالة الواضحة على أن ترك الصلاة ليس بكفر ; لأن كونه تحت المشيئة المذكورة فيه ، دليل على عدم الكفر لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 116 ] .

ومن أدلة أهل هذا القول على أن تارك الصلاة المقر بوجوبها غير كافر ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة ، فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع ، فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك " اهـ .

وقال الشوكاني رحمه الله في ) نيل الأوطار ( : الحديث أخرجه أبو داود من ثلاث طرق : طريقين متصلين بأبي هريرة ، والطريقة الثالثة متصلة بتميم الداري ، وكلها لا مطعن فيها ، ولم يتكلم عليه هو ولا المنذري بما يوجب ضعفه ، وأخرجه النسائي من طريق إسنادها جيد ورجالها رجال الصحيح كما قال العراقي وصححها ابن القطان ، وأخرج الحديث الحاكم ) في المستدرك ( وقال : هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وفي الباب عن تميم الداري عند أبي داود وابن ماجه بنحو حديث أبي هريرة ، قال العراقي : وإسناده صحيح ، وأخرجه الحاكم ) في المستدرك ( وقال : إسناده صحيح على شرط مسلم . انتهى محل الغرض منه .

ووجه الاستدلال بالحديث المذكور على عدم كفر تارك الصلاة أن نقصان الصلوات المكتوبة وإتمامها من النوافل يتناول بعمومه ترك بعضها عمدا ، كما يقتضيه ظاهر عموم اللفظ كما ترى .

وقال المجد ) في المنتقى ( بعد أن ساق الأدلة التي ذكرنا على عدم كفر تارك الصلاة المقر بوجوبها ، ما نصه : ويعضد هذا المذهب عمومات ، ومنها ما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " متفق عليه ، وعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومعاذ رديفه على الرحل : " يا معاذ " ، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك ، ثلاثا ، ثم قال : " ما من عبد يشهد ألا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله [ ص: 454 ] إلا حرمه الله على النار " ، قال : يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا ؟ قال : " إذا يتكلوا " فأخبر بها معاذ عند موته تأثما ، أي : خوفا من الإثم بترك الخبر به ، متفق عليه ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا " رواه مسلم ، وعنه أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه " رواه البخاري . انتهى محل الغرض منه .

وقالت جماعة من أهل العلم ، منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه ، وجماعة من أهل الكوفة ، وسفيان الثوري ، والمزني صاحب الشافعي : إن تارك الصلاة عمدا تكاسلا وتهاونا مع إقراره بوجوبها لا يقتل ولا يكفر ، بل يعزر ويحبس حتى يصلي واحتجوا على عدم كفره بالأدلة التي ذكرنا آنفا لأهل القول الثاني ، واحتجوا لعدم قتله بأدلة ، منها حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في سورة " المائدة " وغيرها : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " ، قالوا : هذا حديث متفق عليه ، صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث ، ولم يذكر منها ترك الصلاة ، فدل ذلك على أنه غير موجب للقتل ، قالوا : والأدلة التي ذكرتم على قتله إنما دلت عليه بمفاهيمها أعني مفاهيم المخالفة كما تقدم إيضاحه ، وحديث ابن مسعود دل على ما ذكرنا بمنطوقه والمنطوق مقدم على المفهوم ، مع أن المقرر في أصول الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - أنه لا يعتبر المفهوم المعروف بدليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة ، وعليه فإنه لا يعترف بدلالة الأحاديث المذكورة على قتله ; لأنها إنما دلت عليه بمفهوم مخالفتها ، وحديث ابن مسعود دل على ذلك بمنطوقه ، ومنها قياسهم ترك الصلاة على ترك الصوم والحج مثلا ، فإن كل واحد منهما من دعائم الإسلام ولم يقتل تاركها ، فكذلك الصلاة .

أما الذين قالوا بأنه كافر وأنه يقتل ، فقد أجابوا عن حديث ابن مسعود بأنه عام يخصص بالأحاديث الدالة على قتل تارك الصلاة ، وعن قياسه على تارك الحج والصوم بأنه فاسد الاعتبار لمخالفته للأحاديث المذكورة الدالة على قتله ، وعن الأحاديث الدالة على عدم الكفر بأن منها ما هو عام يخصص بالأحاديث الدالة على كفره ، ومنها ما هو ليس كذلك كحديث عبادة بن الصامت الدال على أنه تحت المشيئة ، فالأحاديث الدالة [ ص: 455 ] على كفره مقدمة عليه ; لأنها أصح منه ; لأن بعضها في صحيح مسلم وفيه التصريح بكفره وشركه ، ومنها حديث عبادة بن الصامت المتفق عليه ، مع حديث أم سلمة وعوف بن مالك في صحيح مسلم كما تقدم إيضاحه .

ورد القائلون بأنه غير كافر أدلة مخالفيهم بأن المراد بالكفر في الأحاديث المذكورة كفر دون كفر ، وليس المراد الكفر المخرج عن ملة الإسلام ، واحتجوا لهذا بأحاديث كثيرة يصرح فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالكفر ، وليس مراده الخروج عن ملة الإسلام ، قال المجد ) في المنتقى ( : وقد حملوا أحاديث التكفير على كفر النعمة ، أو على معنى قد قارب الكفر وقد جاءت أحاديث في غير الصلاة أريد بها ذلك ، فروى ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " متفق عليه ، وعن أبي ذر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر ، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار " متفق عليه ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت " رواه أحمد ومسلم ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان عمر يحلف : " وأبي " فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " من حلف بشيء دون الله فقد أشرك " رواه أحمد ، وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مدمن الخمر إن مات لقي الله كعابد وثن " انتهى منه بلفظه ، وأمثاله في السنة كثيرة جدا ، ومن ذلك القبيل تسمية الرياء شركا ، ومنه الحديث الصحيح في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رأيت النار فلم أر منظرا كاليوم أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء " قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : " بكفرهن " قيل : يكفرن بالله ؟ قال : " يكفرن العشير ، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا ، قالت : ما رأيت منك خيرا قط " هذا لفظ البخاري في بعض المواضع التي أخرج فيها الحديث المذكور ، وقد أطلق فيه النبي صلى الله عليه وسلم اسم الكفر عليهن ، فلما استفسروه عن ذلك تبين أن مراده غير الكفر المخرج عن ملة الإسلام .

هذا هو حاصل كلام العلماء وأدلتهم في مسألة ترك الصلاة عمدا مع الاعتراف بوجوبها ، وأظهر الأقوال أدلة عندي : قول من قال إنه كافر ، وأجرى الأقوال على مقتضى الصناعة الأصولية وعلوم الحديث قول الجمهور : إنه كفر غير مخرج عن الملة لوجوب الجمع بين الأدلة إذا أمكن ، وإذا حمل الكفر والشرك المذكوران في الأحاديث على الكفر الذي لا يخرج عن الملة حصل بذلك الجمع بين الأدلة والجمع واجب إذا أمكن ; لأن [ ص: 456 ] إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما كما هو معلوم في الأصول وعلم الحديث ، وقال النووي ) في شرح المهذب ( بعد أن ساق أدلة من قالوا إنه غير كافر ، ما نصه : ولم يزل المسلمون يورثون تارك الصلاة ويورثون عنه ولو كان كافرا لم يغفر له ولم يرث ولم يورث .

وأما الجواب عما احتج به من كفره من حديث جابر وبريدة ، ورواية ابن شقيق فهو أن كل ذلك محمول على أنه شارك الكافر في بعض أحكامه وهو القتل ، وهذا التأويل متعين للجمع بين نصوص الشرع وقواعده التي ذكرناها . انتهى محل الغرض منه .

المسألة الثالثة

أجمع العلماء على أن من نسي الصلاة أو نام عنها حتى خرج وقتها يجب عليه قضاؤها ، وقد دلت على ذلك أدلة صحيحة :

) منها ( ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " .

) ومنها ( ما رواه مسلم عن أنس أيضا مرفوعا : " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله عز وجل يقول : وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] .

ومنها : ما رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها ، فإن الله يقول : وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] .

ومنها : ما رواه النسائي ، والترمذي وصححه ، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال : ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة ، فقال : " إنه ليس في النوم تفريط ، إنما التفريط في اليقظة ، فإذا نسي أحدكم صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها " .

ومنها : ما رواه مسلم ، والإمام أحمد ، عن أبي قتادة في قصة نومهم عن صلاة الفجر ، قال : ثم أذن بلال بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم .

ومنها ما أخرجه الإمام أحمد ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، وابن أبي شيبة ، والطبراني وغيرهم ، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : سرينا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كان في آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى أيقظنا حر الشمس ، فجعل [ ص: 457 ] الرجل منا يقوم دهشا إلى طهوره ، ثم أمر بلالا فأذن ، ثم صلى الركعتين قبل الفجر ، ثم أقام فصلينا ، فقالوا : يا رسول الله ، ألا نعيدها في وقتها من الغد ؟ فقال : " أينهاكم ربكم تعالى عن الربا ويقبله منكم " ؟ اهـ ، وأصل حديث عمران هذا في الصحيحين ، وليس فيهما ذكر الأذان والإقامة ، ولا قوله : فقالوا يا رسول الله ألا نعيدها إلى آخره .

والحاصل أن قضاء النائم والناسي لا خلاف فيه بين العلماء ، وقد دلت عليه الأحاديث التي ذكرنا وأمثالها مما لم نذكره .

المسألة الرابعة

اعلم أن التحقيق أنه يجب تقديم الصلوات الفوائت على الصلاة الحاضرة ، والدليل على ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث جابر رضي الله عنه : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس ، فجعل يسب كفار قريش ، قال يا رسول الله ، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله ما صليتها " فقمنا إلى بطحان فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب . اهـ .

فهذا الحديث المتفق عليه فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر قضاء بعد غروب الشمس ، وقدمها على المغرب ، وهو نص صحيح صريح في تقديم الفائتة على الحاضرة ، والمقرر في الأصول : أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة من قرينة الوجوب وغيره تحمل على الوجوب ، لعموم النصوص الواردة بالتأسي به صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله ، وللاحتياط في الخروج من عهدة التكليف .

ومن أظهر الأدلة في ذلك أنه لما خلع نعله في الصلاة فخلع أصحابه نعالهم تأسيا به صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلموا أن جبريل أخبره أن بباطنها أذى ، وسألهم صلى الله عليه وسلم لم خلعوا نعالهم ؟ وأجابوا بأنهم رأوه خلع نعله - وهو فعل مجرد من قرائن الوجوب وغيره - أقرهم على ذلك ولم ينكر عليهم ، فدل ذلك على لزوم التأسي به في أفعاله المجردة من القرائن ، والحديث وإن ضعفه بعضهم بالإرسال فقد رجح بعضهم وصله .

والأدلة الكثيرة الدالة على وجوب التأسي به صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة شاهدة له ، وإلى كون أفعاله صلى الله عليه وسلم المجردة من القرائن تحمل على الوجوب أشار في " مراقي السعود " في كتاب السنة بقوله :



وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل
[ ص: 458 ] وفي حمله على الوجوب مناقشات معروفة في الأصول ، انظرها في ) نشر البنود ( وغيره .

ويعتضد ما ذكرنا من أن فعله المجرد الذي هو تقديم العصر الفائتة على المغرب الحاضرة يقتضي الوجوب بقوله صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وقال الحافظ في ) فتح الباري ( في استدلال البخاري على تقديم الأولى من الفوائت فالأولى بفعل النبي صلى الله عليه وسلم المذكور ما نصه : ولا ينهض الاستدلال به لمن يقول بترتيب الفوائت ، إلا إذا قلنا : إن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم المجردة للوجوب ، اللهم إلا أن يستدل له بعموم قوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وقد اعتبر ذلك الشافعية في أشياء غير هذا . انتهى منه .

ونحن نقول : الأظهر أن الأفعال المجردة تقتضي الوجوب كما جزم به صاحب المراقي في البيت المذكور ، وكذلك عموم حديث : " صلوا كما رأيتموني أصلي " يقتضي ذلك أيضا ، والعلم عند الله تعالى .



https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 01:00 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (265)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 459 إلى صـ 465




واعلم أنه إن تذكر فائتة في وقت حاضرة ضيق ، فقد اختلف العلماء : هل يقدم الفائتة وإن خرج وقت الحاضرة أو لا ؟ إلى ثلاثة مذاهب :




الأول : أنه يقدم الفائتة وإن خرج وقت الحاضرة ، هو مذهب مالك وجل أصحابه .

الثاني : أن يبدأ بالحاضرة محافظة على الوقت ، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وأكثر أصحاب الحديث .

الثالث : أنه يخير في تقديم ما شاء منهما ، وهو قول أشهب من أصحاب مالك ، قال عياض : ومحل الخلاف إذا لم تكثر الصلوات الفوائت ، فأما إذا كثرت فلا خلاف أنه يبدأ بالحاضرة ، واختلفوا في حد القليل في ذلك ، فقيل صلاة يوم ، وقيل أربع صلوات .
المسألة الخامسة

أما ترتيب الفوائت في أنفسها فأكثر أهل العلم على وجوبه مع الذكر لا مع النسيان ، وهو الأظهر . وقال الشافعي رحمه الله : لا يجب الترتيب فيها بل يندب ، وهو مروي عن طاوس والحسن البصري ومحمد بن الحسن وأبي ثور وداود .



وقال بعض أهل العلم : الترتيب واجب مطلقا ، قلت الفوائت أم كثرت ، وبه قال أحمد وزفر ، وعن أحمد رحمه الله : لو نسي الفوائت صحت الصلوات التي صلى بعدها ، وقال أحمد وإسحاق : لو [ ص: 459 ] ذكر فائتة وهو في حاضرة تمم التي هو فيها ثم قضى الفائتة ، ثم يجب إعادة الحاضرة ، واحتج لهم بحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ، ثم ليعد الصلاة التي صلاها مع الإمام " ، قال النووي في ) شرح المهذب ( وهذا حديث ضعيف ، ضعفه موسى بن هارون الحمال ) بالحاء ( الحافظ ، وقال أبو زرعة الرازي ، ثم البيهقي : الصحيح أنه موقوف .

قال مقيده عفا الله عنه : والأظهر عندي وجوب ترتيب الفوائت في أنفسها الأولى فالأولى ، والدليل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري ، وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما ، قال النسائي في سننه : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا ابن أبي ذئب قال : حدثنا سعيد بن أبي سعيد ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد ، عن أبيه قال : شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنزل الله عز وجل : وكفى الله المؤمنين القتال [ 33 \ 25 ] ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام لصلاة الظهر فصلاها كما كان يصليها لوقتها ، ثم أقام العصر فصلاها كما كان يصليها في وقتها ، ثم أذن للمغرب فصلاها كما كان يصليها في وقتها . اهـ .

فهذا الإسناد صحيح كما ترى ، ورجاله ثقات معروفون ، فعمرو بن علي هو أبو حفص الفلاس وهو ثقة حافظ ، ويحيى هو القطان وجلالته معروفة ، وكذلك ابن أبي ذئب جلالته معروفة ، وسعيد بن سعيد هو المقبري وهو ثقة ، وعبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ثقة ، فهذا إسناد صحيح كما ترى ، وفيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب الفوائت في القضاء : الأولى فالأولى .

وقد قدمنا أن أفعاله المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب على الأصح ، وأن ذلك يعتضد بحديث مالك بن الحويرث الثابت في الصحيح : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحديث أبي سعيد هذا أخرجه أيضا الإمام أحمد ، قال الشوكاني في ) نيل الأوطار ( : ورجال إسناده رجال الصحيح ، وقال الشوكاني أيضا عن ابن سيد الناس اليعمري : إن حديث أبي سعيد رواه الطحاوي عن المزني عن الشافعي : حدثنا ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه ، قال . وهذا إسناد صحيح جليل . اهـ .

وقال النسائي في سننه : أخبرنا هناد عن هشيم ، عن أبي الزبير ، عن نافع بن جبير ، عن أبي عبيدة ، قال : قال عبد الله : إن المشركين شغلوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات يوم [ ص: 460 ] الخندق ، فأمر بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء . اهـ .

أخبرنا القاسم بن زكريا بن دينار قال : حدثنا حسين بن علي ، عن زائدة قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال : حدثنا هشام : أن أبا الزبير المكي حدثهم عن نافع بن جبير : أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود حدثهم أن عبد الله بن مسعود قال : كنا في غزوة فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فأقام لصلاة الظهر فصلينا ، وأقام لصلاة العصر فصلينا ، وأقام لصلاة المغرب فصلينا ، وأقام لصلاة العشاء فصلينا ، ثم طاف علينا فقال : " ما على الأرض عصابة يذكرون الله عز وجل غيركم " اهـ ، وحديث ابن مسعود هذا أخرجه الترمذي أيضا ، قال الشوكاني رحمه الله في ) نيل الأوطار ( : إن إسناده لا بأس به .

قال مقيده عفا الله عنه : والظاهر أن إسناد حديث ابن مسعود هذا لا يخلو من ضعف ; لأن راويه عنه ابنه أبو عبيدة ، وروايته عنه مرسلة لأنه لم يسمع منه ، ولكن هذا المرسل يعتضد بحديث أبي سعيد الذي قدمنا آنفا أنه صحيح ، ومن يحتج من العلماء بالمرسل يحتج به ولو لم يعتضد بغيره .

واعلم أن حديث أبي سعيد وابن مسعود المذكورين لا يعارضهما ما في الصحيحين من كونهم شغلوهم عن العصر وحدها ; لأن ما فيهما زيادة ، وزيادة العدول مقبولة ) ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ( وبه تعلم أن ما ذكره ابن العربي من تقديم ما في الصحيحين على الزيادة التي في حديث أبي سعيد وابن مسعود خلاف التحقيق .

تنبيه

اعلم أن الأئمة الأربعة وأصحابهم وجماهير فقهاء الأمصار على أن من نسي صلاة أو نام عنها قضاها وحدها ولا تلزمه زيادة صلاة أخرى ، قال البخاري في صحيحه : ) باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد إلا تلك الصلاة ( وقال إبراهيم : من ترك صلاة واحدة عشرين سنة لم يعد إلا تلك الصلاة الواحدة ، حدثنا أبو نعيم ، وموسى بن إسماعيل قالا : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " ، وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] ، قال موسى : قال همام : سمعته يقول بعد وأقم الصلاة لذكري [ 20 \ 14 ] ، وقال همام ، حدثنا قتادة ، [ ص: 461 ] حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه اهـ .

وقال في ) فتح الباري ( في الكلام على هذا الحديث وترجمته : قال علي بن المنير : صرح البخاري بإثبات هذا الحكم مع كونه مما اختلف فيه لقوة دليله ، ولكنه على وفق القياس ، إذ الواجب خمس صلوات لا أكثر ، فمن قضى الفائتة كمل العدد المأمور به ، ولكونه على مقتضى ظاهر الخطاب ، لقول الشارع " فليصلها " ولم يذكر زيادة ، وقال أيضا : " لا كفارة لها إلا ذلك " فاستفيد من هذا الحصر أن لا يجب غير إعادتها ، وذهب مالك إلى أن من ذكر بعد أن صلى صلاة أنه لم يصل التي قبلها فإنه يصلي التي ذكر ، ثم يصلي التي كان صلاها مراعاة للترتيب . انتهى منه ، فإن قيل : جاء في صحيح مسلم في بعض طرق حديث أبي قتادة في قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الصبح حتى ضربتهم الشمس ما نصه : ثم قال - يعني النبي صلى الله عليه وسلم : " أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى ، فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها ، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها " اهـ .

فقوله في هذا الحديث : فإذا كان الغد . . . إلخ يدل على أنه يقضي الفائتة مرتين : الأولى عند ذكرها ، والثانية : عند دخول وقتها من الغد ؟ فالجواب ما ذكره النووي في شرحه للحديث المذكور قال : وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها " فمعناه أنه إذا فاتته صلاة فقضاها لا يتغير وقتها ويتحول في المستقبل ، بل يبقى كما كان ، فإذا كان الغد صلى صلاة الغد في وقتها المعتاد ولا يتحول ، وليس معناه أنه يقضي الفائتة مرتين : مرة في الحال ، ومرة في الغد ، وإنما معناه ما قدمناه ، فهذا هو الصواب في معنى هذا الحديث ، وقد اضطربت أقوال العلماء فيه ، واختار المحققون ما ذكرته ، والله أعلم . انتهى منه ، وهذا الذي فسر به هذه الرواية هو الذي يظهر لنا صوابه والعلم عند الله تعالى .

ولكن جاء في سنن أبي داود في بعض طرق حديث أبي قتادة في قصة النوم عن الصلاة المذكورة ما نصه : " فمن أدرك منكم صلاة الغد من غد صالحا فليقض معها مثلها " اهـ ، وهذا اللفظ صريح في أنه يقضي الفائتة مرتين ، ولا يحتمل المعنى الذي فسر به النووي وغيره لفظ رواية مسلم .

وللعلماء عن هذه الرواية أجوبة ، قال ابن حجر في ( فتح الباري ) بعد أن أشار إلى رواية أبي داود المذكورة ما نصه : قال الخطابي : لا أعلم أحدا قال بظاهره وجوبا ، قال : ويشبه أن يكون الأمر فيه للاستحباب ليحوز فضيلة الوقت في القضاء . انتهى ، ولم يقل أحد من السلف باستحباب ذلك أيضا ، بل عدوا الحديث غلطا من راويه ، حكى ذلك الترمذي وغيره عن البخاري ، ويؤيده ما رواه [ ص: 462 ] النسائي من حديث عمران بن حصين أنهم قالوا : يا رسول الله ، ألا نقضيها لوقتها من الغد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ينهاكم الله عن الربا ويأخذه منكم " . انتهى كلام صاحب الفتح ، وحديث عمران المذكور قد قدمناه وذكرنا من أخرجه ، والعلم عند الله تعالى .

المسألة السادسة

اعلم أن العلماء اختلفوا في من ترك الصلاة عمدا تكاسلا حتى خرج وقتها وهو معترف بوجوبها ، هل يجب عليه قضاؤها أو لا يجب عليه ، فقد قدمنا خلاف العلماء في كفره ، فعلى القول بأنه كافر مرتد يجري على الخلاف في المرتد ، هل يجب عليه قضاء ما فاته في زمن ردته أو لا يجب عليه .

واعلم أولا : أن الكافر تارة يكون كافرا أصليا لم يسبق عليه إسلام ، وتارة يكون كافرا بالردة عن دين الإسلام بعد أن كان مسلما .

أما الكافر الأصلي فلا يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في حال كفره وهذا لا خلاف فيه بين علماء المسلمين ; لأن الله تعالى يقول : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقد أسلم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم خلق كثير فلم يأمر أحدا منهم بقضاء شيء فائت في كفره .

وأما المرتد ففيه خلاف بين العلماء معروف ، قال بعض أهل العلم : لا يلزمه قضاء ما تركه في زمن ردته ، ولا في زمن إسلامه قبل ردته ; لأن الردة تحبط جميع عمله وتجعله كالكافر الأصلي عياذا بالله تعالى ، وإن كان قد حج حجة الإسلام أبطلتها ردته على هذا القول ، فعليه إعادتها إذا رجع إلى الإسلام ، وتمسك من قال بهذا بظاهر قوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك الآية [ 39 \ 65 ] ، وقوله : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين [ 5 \ 5 ] ، وقال بعض أهل العلم : يلزمه قضاء ما تركه من العبادات في زمن ردته وزمن إسلامه قبل ردته ، ولا تجب عليه إعادة حجة الإسلام ; لأن الردة لم تبطلها ، واحتج من قال بهذا بقوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية [ 2 \ 217 ] ، فجعل الموت على الكفر شرطا في حبوط العمل ، وبالأول قال مالك ومن وافقه ، وبالثاني قال الشافعي ومن وافقه ، وهما روايتان عن الإمام أحمد ، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن قول الشافعي ومن وافقه في هذه المسألة أجرى على الأصول ، لوجوب [ ص: 463 ] حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا .

وأما على قول الجمهور بأنه غير كافر فقد اختلفوا أيضا في وجوب القضاء عليه .

اعلم أولا أن علماء الأصول اختلفوا في الأمر بالعبادة المؤقتة بوقت معين ، هل هو يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج وقتها من غير احتياج إلى أمر جديد بالقضاء أو لا يستلزم القضاء بعد خروج الوقت ، ولا بد للقضاء من أمر جديد ، فذهب أبو بكر الرازي من الحنفية وفاقا لجمهور الحنفية إلى أن الأمر بالعبادة الموقتة يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت من غير احتياج إلى أمر جديد ، واستدلوا لذلك بقاعدة هي قولهم : الأمر بالمركب أمر بكل جزء من أجزائه ، فإذا تعذر بعض الأجزاء لزم فعل بعضها الذي لم يتعذر ، فالأمر بالعبادة الموقتة كالصلوات الخمس أمر بمركب من شيئين : الأول منهما : فعل العبادة ، والثاني : كونها مقترنة بالوقت المعين لها ، فإذا خرج الوقت تعذر أحدهما وهو الاقتران بالوقت المعين ، وبقي الآخر غير متعذر وهو فعل العبادة ، فيلزم من الأمر الأول فعل الجزء المقدور عليه ; لأن الأمر بالمركب أمر بأجزائه .

وهذا القول صدر به ابن قدامة في ) روضة الناظر ( وعزاه هو والغزالي في ) المستصفى ( إلى بعض الفقهاء .

وذهب جمهور أهل الأصول إلى أن الأمر بالعبادة المؤقتة لا يستلزم الأمر بقضائها بعد خروج الوقت واستدلوا لذلك بقاعدة ، وهي ) أن تخصيص العبادة بوقت معين دون غيره من الأوقات لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت دون غيره ، إذ لو كانت المصلحة في غيره من الأوقات لما كان لتخصيصه دونها فائدة ( ، قالوا : فتخصيصه الصلوات بأوقاتها المعينة ، والصوم برمضان مثله كتخصيص الحج بعرفات ، والزكاة بالمساكين والصلاة بالقبلة ، والقتل بالكافر ، ونحو ذلك .

واعلم أن الذين قالوا : إن الأمر لا يستلزم القضاء - وهم الجمهور - اختلفوا في إعادة الصلاة المتروكة عمدا على قولهم : إن تاركها غير كافر ، فذهب جمهورهم إلى وجوب إعادتها ، قالوا : نحن نقول : إن القضاء لا بد له من أمر جديد ، ولكن الصلاة المتروكة عمدا جاءت على قضائها أدلة ، منها : قياس العامد على الناسي والنائم المنصوص على وجوب القضاء عليهما ، قالوا : فإذا وجب القضاء على النائم والناسي فهو واجب على العامد من باب أولى ، وقال النووي في شرح المهذب : ومما يدل على وجوب القضاء حديث أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في نهار [ ص: 464 ] رمضان أن يصوم يوما مع الكفارة ، أي : بدل اليوم الذي أفسده بالجماع عمدا ، رواه البيهقي بإسناد جيد ، وروى أبو داود نحوه . انتهى كلام النووي .

ومن أقوى الأدلة على وجوب القضاء على التارك عمدا عموم الحديث الصحيح الذي قدمناه في سورة " الإسراء " الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " فدين الله أحق أن يقضى " ، فقوله : " دين الله " اسم جنس مضاف إلى معرفة فهو عام في كل دين ، كقوله : وإن تعدوا نعمة الله الآية [ 14 \ 34 ] ، فهو عام في كل نعمة ، ولا شك أن الصلاة المتروكة عمدا دين الله في ذمة تاركها ، فدل عموم الحديث على أنها حقيقة جديرة بأن تقضى ، ولا معارض لهذا العموم .

وقال بعض أهل العلم : ليس على التارك للصلاة عمدا قضاء ; لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد ولم يأت أمر جديد بقضاء التارك عمدا ، وممن قال بهذا ابن حزم واختاره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :

والأمر لا يستلزم القضاء بل هو بالأمر الجديد جاء لأنه في زمن معين يجي لما عليه من نفع بني وخالف الرازي إذ المركب لكل جزء حكمه ينسحب

تنبيه

سبب اختلاف العلماء في هذه المسألة أنها تجاذبها أصلان مختلفان ، فنظرت كل طائفة إلى أحد الأصلين المختلفين :

أحدهما : الأمر بالمركب أمر بأجزائه ، وإليه نظر الحنفية ومن وافقهم .

والثاني : الأمر بالعبادة في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بالوقت المذكور ، وإليه نظر الجمهور ، ومثل هذا من الأشياء التي تكون سببا للاختلاف في المسألة كما أشار له الشيخ ميارة في التكميل ، بقوله :

وإن يكن في الفرع تقريران بالمنع والجواز فالقولان

قوله تعالى : جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه وعد عباده المؤمنين المطيعين جنات عدن ، ثم بين أن وعده مأتي ، بمعنى أنهم يأتونه وينالون ما وعدوا به ; لأنه جل وعلا لا يخلف [ ص: 465 ] الميعاد ، وأشار لهذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله : وعد الله لا يخلف الله وعده الآية [ 30 \ 6 ] ، وقوله : إن الله لا يخلف الميعاد [ 13 \ 31 ] ، وقوله : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد فاستجاب لهم ربهم الآية [ 3 \ 193 - 194 ] ، وقوله تعالى : إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا [ 17 \ 107 - 108 ] ، وقوله تعالى : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به كان وعده مفعولا [ 73 \ 17 - 18 ] ، وقوله تعالى : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا [ 25 \ 15 - 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله : مأتيا ، اسم مفعول " أتاه " : إذا جاءه ، والمعنى : أنهم لا بد أن يأتون ما وعدوا به ، خلافا لمن زعم أن مأتيا ، صيغة مفعول أريد بها الفاعل ، أي : كان وعده آتيا ، إذ لا داعي لهذا مع وضوح ظاهر الآية .

تنبيه

مثل بعض علماء البلاغة بهذه الآية لنوع من أنواع البدل ، وهو بدل الكل من البعض ، قالوا : جنات عدن [ 19 \ 61 ] ، بدل من الجنة في قوله : فأولئك يدخلون الجنة [ 19 \ 60 ] ، بدل كل من بعض .

قالوا : ومن أمثلة بدل الكل من البعض قوله :



رحم الله أعظما دفنوها بسجستان طلحة الطلحات

فـ " طلحة " بدل من قوله " أعظما " بدل كل من بعض ، وعليه فأقسام البدل ستة : بدل الشيء من الشيء ، وبدل البعض من الكل ، وبدل الكل من البعض ، وبدل الاشتمال ، وبدل البداء ، وبدل الغلط .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 01:01 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (266)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 466 إلى صـ 472







قال مقيده عفا الله عنه : ولا يتعين عندي في الآية والبيت كون البدل بدل كل من بعض ، بل يجوز أن يكون بدل الشيء من الشيء ; لأن الألف واللام في قوله : فأولئك يدخلون الجنة للجنس ، وإذا كان للجنس جاز أن يراد بها جميع الجنات ، فيكون قوله : جنات عدن ، بدلا من الجنة بدل الشيء من الشيء ; لأن المراد [ ص: 466 ] بالأول الجمع كما تقدم كثير من أمثلة ذلك ، والأعظم في البيت كناية عن الشخص ، " فطلحة " بدل منه ، بدل الشيء من الشيء ، لأنهم لم يدفنوا الأعظم وحدها ، بل دفنوا الشخص المذكور جميعه ، أعظمه وغيرها من بدنه ، وعبر هو عنه بالأعظم .

قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المؤمنين إذا أدخلهم ربهم جنات عدن التي وعدهم لا يسمعون فيها [ 19 \ 62 ] ، أي : في الجنات المذكورة لغوا ، أي : كلاما تافها ساقطا كما يسمع في الدنيا ، واللغو : هو فضول الكلام ، وما لا طائل تحته ، ويدخل فيه فحش الكلام وباطله ، ومنه قول رؤبة ، وقيل العجاج :



ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
كما تقدم في سورة " المائدة " .

والظاهر أن قوله : إلا سلاما ، استثناء منقطع ، أي : لكن يسمعون فيها سلاما ، لأنهم يسلم بعضهم على بعض ، وتسلم عليهم الملائكة ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : تحيتهم فيها سلام الآية [ 14 \ 23 ] ، وقوله : والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم الآية [ 13 \ 23 - 24 ] ، كما تقدم مستوفى .

وهذا المعنى الذي أشار له هنا جاء في غير هذا الموضع أيضا كقوله في " الواقعة " : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما [ 56 \ 25 - 26 ] ، وقد جاء الاستثناء المنقطع في آيات أخر من كتاب الله ، كقوله تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن الآية [ 4 \ 157 ] : وقوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [ 92 \ 19 - 20 ] ، وقوله : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [ 44 \ 56 ] ، وكقوله : ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم الآية [ 4 \ 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، فكل الاستثناءات المذكورة في هذه الآيات منقطعة ، ونظير ذلك من كلام العرب في الاستثناء المنقطع قول نابغة ذبيان :



وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

فالأواري التي هي مرابط الخيل ليست من جنس " الأحد " .

وقول الفرزدق :

[ ص: 467 ]

وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله

وقول جران العود :



وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

" فالسنان " ليس من جنس " الخاطب " و " اليعافير والعيس " ليس واحد منهما من جنس " الأنيس " .

وقول ضرار بن الأزور :



أجاهد إذ كان الجهاد غنيمة ولله بالعبد المجاهد أعلم
عشية لا تغني الرماح مكانها ولا النبل إلا المشرقي المصمم

وبهذا الذي ذكرنا تعلم صحة وقوع الاستثناء المنقطع كما عليه جماهير الأصوليين خلافا للإمام أحمد بن حنبل وبعض الشافعية القائلين : بأن الاستثناء المنقطع لا يصح ; لأن الاستثناء إخراج ما دخل في اللفظ ، وغير جنس المستثنى منه لم يدخل في اللفظ أصلا حتى يخرج بالاستثناء .

تنبيهات

الأول : اعلم أن تحقيق الفرق بين الاستثناء المتصل والمنقطع يحصل بأمرين يتحقق بوجودهما أن الاستثناء متصل ، وإن اختل واحد منهما فهو منقطع : الأول أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه ، نحو : جاء القوم إلا زيدا ، فإن كان من غير جنسه فهو منقطع ، نحو : جاء القوم إلا حمارا ، والثاني : أن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه ، ومعلوم أن نقيض الإثبات النفي كالعكس ، ومن هنا كان الاستثناء من النفي إثباتا ، ومن الإثبات نفيا ، فإن كان الحكم على المستثنى ليس نقيض الحكم على المستثنى منه فهو منقطع ولو كان المستثنى من جنس المستثنى منه ، فقوله تعالى : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى [ 44 \ 56 ] ، استثناء منقطع على التحقيق ، مع أن المستثنى من جنس المستثنى منه ، وكذلك قوله : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] ، وإنما كان منقطعا في الآيتين ; لأنه لم يحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه ، فنقيض : لا يذوقون فيها الموت إلا ، هو : يذوقون فيها الموت ، وهذا النقيض الذي هو ذوق الموت في الآخرة لم يحكم به على المستثنى بل حكم بالذوق في الدنيا ، ونقيض [ ص: 468 ] لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل كلوها بالباطل ولم يحكم به في المستثنى .

فتحصل أن انقطاع الاستثناء قسمان : أحدهما بالحكم على غير جنس المستثنى منه ، كقولك : رأيت أخويك إلا ثوبا ، الثاني : بالحكم بغير النقيض ، نحو : رأيت أخويك إلا زيدا لم يسافر .

التنبيه الثاني

اعلم أنه يبنى على الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع بعض الفروع الفقهية ، فلو أقر رجل لآخر فقال له : علي ألف دينار إلا ثوبا ، فعلى القول بعدم صحة الاستثناء المنقطع يكون قوله " إلا ثوبا " لغوا وتلزمه الألف كاملة ، وعلى القول بصحة الاستثناء المنقطع لا يلغى قوله " إلا ثوبا " وتسقط قيمة الثوب من الألف ، والذين قالوا تسقط قيمته اختلفوا في توجيهه على قولين : أحدهما : أنه مجاز ، وأنه أطلق الثوب وأراد قيمته ، والثاني : أن فيه إضمارا ، أي : حذف مضاف ، يعني : إلا قيمة ثوب ، فمن قال يقدم المجاز على الإضمار قال " إلا ثوبا " مجاز ، أطلق الثوب وأراد القيمة ، كإطلاق الدم على الدية ، ومن قال يقدم الإضمار على المجاز قال " إلا ثوبا " ، أي : إلا قيمة ثوب ، واعتمد صاحب مراقي السعود تقديم المجاز على الإضمار في قوله :



وبعد تخصيص مجاز يلي الإضمار فالنقل على المعول
ومعنى البيت : أن المقدم عندهم التخصيص ، ثم المجاز ، ثم الإضمار ، ثم النقل ، مثال تقديم التخصيص على المجاز إذا احتمل اللفظ كل واحد منهما قوله تعالى : فاقتلوا المشركين [ 9 \ 5 ] ، يحتمل التخصيص ; لأن بعض المشركين كالذميين والمعاهدين أخرجهم دليل مخصص لعموم المشركين ، ويحتمل عند القائلين بالمجاز أنه مجاز مرسل ، أطلق فيه الكل وأراد البعض ، فيقدم التخصيص لأمرين : أحدهما أن اللفظ يبقى حقيقة في ما لم يخرجه المخصص ، والحقيقة مقدمة على المجاز .

الثاني أن اللفظ يبقى مستصحبا في الأفراد الباقية بعد التخصيص من غير احتياج إلى قرينة ، ومثال تقديم المجاز على الإضمار عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما ، قول السيد لعبده الذي هو أكبر منه سنا : أنت أبي ، يحتمل أنه مجاز مرسل ، من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم ، أي : أنت عتيق ; لأن الأبوة يلزمها العتق ، ويحتمل الإضمار ، أي : أنت مثل أبي في الشفقة والتعظيم ، فعلى الأول يعتق ، وعلى الثاني : لا يعتق ، ومن أمثلته المسألة التي [ ص: 469 ] نحن بصددها ، ومثال تقديم الإضمار على النقل عند احتمال اللفظ لكل واحد منهما : قوله تعالى : وحرم الربا [ 2 \ 275 ] ، يحتمل الإضمار ، أي : أخذ الربا وهو الزيادة في بيع درهم بدرهمين مثلا ، وعلى هذا لو حذف الدرهم الزائد لصح البيع في الدرهم بالدرهم ، ويحتمل نقل الربا إلى معنى العقد ، فيمتنع عقد بيع الدرهم بالدرهمين ، ولو حذف الزائد فلا بد من عقد جديد مطلقا .

قال مقيده عفا الله عنه : وعلى هذين الوجهين اللذين ذكروهما في : " له علي ألف دينار إلا ثوبا " ، وهما الإضمار والنقل يرجع الاستثناء إلى كونه متصلا ; لأن قيمة الثوب من جنس الألف التي أقر بها ، سواء قلنا إن القيمة مضمرة ، أو قلنا إنها معبر عنها بلفظ الثوب .

التنبيه الثالث

اعلم أن الخلاف في صحة الاستثناء المنقطع هو في الحقيقة خلاف لفظي ; لأن الذين منعوه لم يمنعوه بالكلية ، وإنما قالوا : إنه ليس من الاستثناء الحقيقي ; لأن أداة الاستثناء فيه بمعنى " لكن " فهو إلى الاستدراك أقرب منه إلى الاستثناء ، وبعض القائلين بالاستثناء المنقطع يقول : إن الثوب في المثال المتقدم لغو ، ويعد ندما من المقر بالألف ، والنسبة بين الاستثناء المتصل والمنقطع عند القائلين به ، قيل إنها نسبة تواطؤ ، وقيل : إنها من قبيل الاشتراك ، وإلى مسألة الاستثناء المنقطع والفرق بينه وبين المتصل أشار في مراقي السعود ، بقوله :



والحكم بالنقيض للحكم حصل لما عليه الحكم قبل متصل وغيره منقطع ورجحا
جوازه وهو مجاز أوضحا فلتنم ثوابا بعد ألف درهم
للحذف والمجاز أو للندم وقيل بالحذف لدى الإقرار
والعقد معنى الواو فيه جار بشركة وبالتواطي قال
بعض وأوجب فيه الاتصالا

وما ذكرنا من أن الاستثناء في قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ 19 \ 62 ] ، منقطع ، هو الظاهر ، وقيل : هو من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم ، كقول نابغة ذبيان :



ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

[ ص: 470 ] وقول الآخر :



فما يك في من عيب فإني جبان الكلب مهزول الفصيل

وعلى هذا القول فالآية كقوله : وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا الآية [ 7 \ 126 ] ، وقوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، كما تقدم مستوفى في سورة " براءة " .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ، فيه سؤال معروف ، وهو أن يقال : ما وجه ذكر البكرة والعشي ، مع أن الجنة ضياء دائم ولا ليل فيها ، وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة :

الأول : أن المراد بالبكرة والعشي قدر ذلك من الزمن ، كقوله : غدوها شهر ورواحها شهر [ 34 \ 12 ] ، أي : قدر شهر ، وروي معنى هذا عن ابن عباس ، وابن جريج وغيرهما .

الجواب الثاني : أن العرب كانت في زمنها ترى أن من وجد غداء وعشاء فذلك الناعم ، فنزلت الآية مرغبة لهم وإن كان في الجنة أكثر من ذلك ، ويروى هذا عن قتادة ، والحسن ، ويحيى بن أبي كثير .

الجواب الثالث : أن العرب تعبر عن الدوام بالبكرة والعشي ، والمساء والصباح ، كما يقول الرجل : أنا عند فلان صباحا ومساء ، وبكرة وعشيا ، يريد الديمومة ولا يقصد الوقتين المعلومين .

الجواب الرابع : أن تكون البكرة هي الوقت الذي قبل اشتغالهم بلذاتهم ، والعشي : هو الوقت الذي بعد فراغهم من لذاتهم ; لأنه يتخللها فترات انتقال من حال إلى حال ، وهذا يرجع معناه إلى الجواب الأول .

الجواب الخامس : هو ما رواه الترمذي الحكيم في ) نوادر الأصول ( من حديث أبان عن الحسن وأبي قلابة ، قالا : قال رجل : يا رسول الله ، هل في الجنة من ليل ؟ قال : " وما يهيجك على هذا " ؟ قال : سمعت الله تعالى يذكر : ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا ، فقلت : الليل بين البكرة والعشي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس هناك ليل ، إنما هو ضوء ونور ، يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو ، تأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا ، وتسلم عليهم الملائكة " . انتهى [ ص: 471 ] بواسطة نقل صاحب الدر المنثور والقرطبي في تفسيره ، وقال القرطبي بعد أن نقل هذا : وهذا في غاية البيان لمعنى الآية ، وقد ذكرناه في كتاب ) التذكرة ( ، ثم قال : وقال العلماءليس في الجنة ليل ولا نهار ، وإنما هم في نور أبدا ، إنما يعرفون مقدار الليل من النهار بإرخاء الحجب ، وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب ، وفتح الأبواب ، ذكره أبو الفرج الجوزي والمهدوي وغيرهما . انتهى منه ، وهذا الجواب الأخير الذي ذكره الحكيم الترمذي عن الحسن وأبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى الجواب الأول ، والعلم عند الله تعالى . \ 50

قوله تعالى : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ، الإشارة في قوله : تلك [ 19 \ 63 ] ، إلى ما تقدم من قوله : فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب الآية ، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يورث المتقين من عباده جنته ، وقد بين هذا المعنى أيضا في مواضع أخر ، كقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون - إلى قوله - أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون [ 23 \ 1 - 11 ] ، وقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الآيات [ 3 \ 133 ] ، وقوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا الآية [ 39 \ 71 ] ، وقوله : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومعنى إيراثهم الجنة : الإنعام عليهم بالخلود فيها في أكمل نعيم وسرور ، قال الزمخشري في ) الكشاف ( : نورث أي : نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث ، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم ، وثمرتها باقية وهي الجنة ، فإذا أدخلهم الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى ، وقال بعض أهل العلم : معنى إيراثهم الجنة أن الله تعالى خلق لكل نفس منزلا في الجنة ، ومنزلا في النار ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة ; أراهم منازلهم في النار لو كفروا وعصوا الله ليزداد سرورهم وغبطتهم ; وعند ذلك يقولون : الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله الآية [ 7 \ 43 ] ، وكذلك يرى أهل النار منازلهم في الجنة لو آمنوا واتقوا الله لتزداد ندامتهم وحسرتهم ، وعند ذلك يقول الواحد منهم : [ ص: 472 ] لو أن الله هداني لكنت من المتقين ، ثم إنه تعالى يجعل منازل أهل الجنة في النار لأهل النار ، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة فيرثون منازل أهل النار في الجنة ، وهذا هو معنى الإيراث المذكور على هذا القول .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد جاء حديث يدل لما ذكر من أن لكل أحد منزلا في الجنة ومنزلا في النار ، إلا أن حمل الآية عليه غير صواب ; لأن أهل الجنة يرثون من الجنة منازلهم المعدة لهم بأعمالهم وتقواهم ، كما قد قال تعالى : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] ، ونحوها من الآيات ، ولو فرضنا أنهم يرثون منازل أهل النار فحمل الآية على ذلك يوهم أنهم ليس لهم في الجنة إلا ما أورثوا من منازل أهل النار والواقع بخلاف ذلك كما ترى ، والحديث المذكور هو ما رواه الإمام أحمد في المسند ، والحاكم في المستدرك من حديث أبي هريرة " كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله ، هداني فيكون له أشكر ، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني ، فيكون عليه حسرة " اهـ ، وعلم في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة ، وقال شارحه المناوي : قال الحاكم : صحيح على شرطهما وأقره الذهبي ، وقال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح . اهـ .

قوله تعالى : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا .

قال بعض أهل العلم : نزلت هذه الآية في أبي بن خلف ، وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال : زعم محمد أنا نبعث بعد الموت ؟ قاله الكلبي ، وذكره الواحدي والثعلبي ، وقال المهدوي : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأصحابه ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : نزلت في العاص بن وائل ، وقيل : في أبي جهل ، وعلى كل واحد من هذه الأقوال فقد أسند تعالى هذا القول لجنس الإنسان وهو صادر من بعض أفراد الجنس ; لأن من أساليب العربية إسناد الفعل إلى المجموع ، مع أن فاعله بعضهم لا جميعهم ، ومن أظهر الأدلة القرآنية في ذلك قراءة حمزة والكسائي : فإن قتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] ، من القتل في الفعلين ، أي : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، كما تقدم مرارا ، ومن أظهر الشواهد العربية في ذلك قول الفرزدق :


فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 01:02 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (267)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 473 إلى صـ 479




فقد أسند الضرب إلى بني عبس ، مع أنه صرح بأن الضارب الذي بيده السيف هو ورقاء وهو ابن زهير بن جذيمة العبسي ، وخالد هو ابن جعفر الكلابي ، وقصة قتله لزهير المذكور مشهورة .





وقد بين في هذه الآية : أن هذا الإنسان الكافر يقول منكرا البعث : أئذا ما مت لسوف أخرج حيا زعما منه أنه إذا مات لا يمكن أن يحيا بعد الموت ، وقد رد الله عليه مقالته هذه بقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ، يعني : أيقول الإنسان مقالته هذه في إنكار البعث ، ولا يذكر أنا أوجدناه الإيجاد الأول ولم يك شيئا ، بل كان عدما فأوجدناه ، وإيجادنا له المرة الأولى دليل قاطع على قدرتنا على إيجاده بالبعث مرة أخرى .

وهذا البرهان الذي أشار له هنا قد قدمنا الآيات الدالة عليه في سورة البقرة والنحل وغيرهما ، كقوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] ، وقوله تعالى : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] ، وقوله : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] ، وقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الآية [ 30 \ 27 ] ، وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، وقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .

وفي الحديث الصحيح الذي يرويه صلى الله عليه وسلم عن ربه : " يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني ، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني ; وليس أول الخلق أهون علي من آخره ، وأما أذاه إياي ، فقوله إن لي ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " ، فإن قيل : أين العامل في الظرف الذي هو إذا ، فالجواب : أنه منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط ; وتقديره : أأخرج حيا إذا ما مت ؟ أي : حين يتمكن في الموت والهلاك أخرج حيا ، يعني لا يمكن ذلك ، فإن قيل : لم لا تقول بأنه منصوب بـ أخرج ، المذكور في [ ص: 474 ] قوله : لسوف أخرج حيا ، على العادة المعروفة ، من أن العامل في " إذا " هو جزاؤها ؟ فالجواب : أن لام الابتداء في قوله : لسوف أخرج حيا ، مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها كما هو معلوم في علم العربية ، فلا يجوز أن تقول : اليوم لزيد قائم ; تعني لزيد قائم اليوم ، وما زعمه بعضهم من أن حرف التنفيس الذي هو سوف مانع من عمل ما بعده فيما قبله أيضا ، حتى إنه على قراءة طلحة بن مصرف : " أئذا ما مت سأخرج حيا " بدون اللام يمتنع نصب " إذا " بـ " أخرج " المذكورة ; فهو خلاف التحقيق .

والتحقيق أن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده فيما قبله ، ودليله وجوده في كلام العرب ; كقول الشاعر :



فلما رأته أمنا هان وجدها وقالت أبونا هكذا سوف يفعل

فقوله " هكذا " منصوب بقوله " يفعل " كما أوضحه أبو حيان في البحر ، وعليه فعلى قراءة طلحة بن مصرف فقوله : " إذا " منصوب بقوله : " أخرج " لعدم وجود اللام فيها وعدم منع حرف التنفيس من عمل ما بعده فيما قبله .

تنبيه

فإن قلت : لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال ، فكيف جامعت حرف التنفيس الدال على الاستقبال ؟ فالجواب : أن اللام هنا جردت من معنى الحال ، وأخلصت لمعنى التوكيد فقط ، ولذلك جامعت حرف الاستقبال كما بينه الزمخشري في الكشاف ، وتعقبه أبو حيان في البحر المحيط بأن من علماء العربية من يمنع أن اللام المذكورة تعطي معنى الحال ، وعلى قوله يسقط الإشكال من أصله ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ، لما أقام الله جل وعلا البرهان على البعث بقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 67 ] ، أقسم جل وعلا بنفسه الكريمة ، أنه يحشرهم - أي : الكافرين المنكرين للبعث - وغيرهم من الناس ، ويحشر معهم الشياطين الذين كانوا يضلونهم في الدنيا ، وأنه يحضرهم حول جهنم جثيا ، وهذان الأمران اللذان ذكرهما في هذه الآية الكريمة أشار إليهما في غير هذا الموضع ، أما حشره لهم ولشياطينهم فقد أشار إليه في قوله : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ 37 \ 22 - 23 ] ، [ ص: 475 ] على أحد التفسيرات ، وقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 43 \ 38 ] .

وأما إحضارهم حول جهنم جثيا ، فقد أشار له في قوله : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون [ 45 \ 28 ] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : جثيا ، جمع جاث ، والجاثي : اسم فاعل : جثا يجثو جثوا ، وجثى يجثي جثيا : إذا جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه ، والعادة عند العرب : أنهم إذا كانوا في موقف ضنك وأمر شديد ، جثوا على ركبهم ، ومنه قول بعضهم :

فمن للحماة ومن للكماة إذا ما الكماة جثوا للركب إذا قيل مات أبو مالك فتى المكرمات قريع العرب وكون معنى قوله : جثيا في هذه الآية ، وقوله : وترى كل أمة جاثية الآية [ 45 \ 28 ] ، أنه جثيهم على ركبهم هو الظاهر ، وهو قول الأكثر ، وهو الإطلاق المشهور في اللغة ; ومنه قول الكميت :



هم تركوا سراتهم جثيا وهم دون السراة مقرنينا
وعن ابن عباس في قوله في هذه الآية الكريمة : جثيا ، أن معناه : جماعات ، وعن مقاتل جثيا ، أي : جمعا جمعا ، وهو على هذا القول جمع " جثوة " مثلثة الجيم ، وهي الحجارة المجموعة والتراب المجموع ، فأهل الخمر يحضرون حول جهنم على حدة ، وأهل الزنى على حدة ; وأهل السرقة على حدة . ; وهكذا ، ومن هذا المعنى قول طرفة بن العبد في معلقته :



ترى جثوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد

هكذا قال بعض أهل العلم ، ولكنه يرد عليه أن " فعلة " كجثوة ، لم يعهد جمعها على فعول كجثي ، وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص جثيا بكسر الجيم إتباعا للكسرة بعده وقرأ الباقون : " جثيا " بضم الجيم على الأصل .

قوله تعالى : ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا .

قوله في هذه الآية الكريمة : لننزعن [ 19 \ 69 ] ، أي : لنستخرجن [ ص: 476 ] من كل شيعة ، أي : من كل أمة أهل دين واحد ، وأصل الشيعة فعلة كفرقة ، وهي الطائفة التي شاعت غيرها ، أي : تبعته في هدى أو ضلال ; تقول العرب : شاعه شياعا : إذا تبعه .

وقوله تعالى : أيهم أشد على الرحمن عتيا ، أي : لنستخرجن ولنميزن من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم ، وأعتاهم فأعتاهم ، فيبدأ بتعذيبه وإدخاله النار على حسب مراتبهم في الكفر ، والإضلال والضلال ، وهذا هو الظاهر في معنى الآية الكريمة : أن الرؤساء القادة في الكفر يعذبون قبل غيرهم ويشدد عليهم العذاب لضلالهم وإضلالهم .

وقد جاءت آيات من كتاب الله تعالى تدل على هذا ، كقوله تعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] ، وقوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] ، وقوله : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] ، ولأجل هذا كان في أمم النار أولى وأخرى ، فالأولى : التي يبدأ بعذابها وبدخولها النار ، والأخرى التي تدخل بعدها على حسب تفاوتهم في أنواع الكفر والضلال ، كما قال تعالى : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون [ 7 \ 38 - 39 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا [ 19 \ 70 ] ، يعني : أنه جل وعلا أعلم بمن يستحق منهم أن يصلى النار ، ومن هو أولى بذلك ، وقد بين أن الرؤساء والمرءوسين كلهم ممن يستحق ذلك في قوله : قال لكل ضعف الآية ، والصلي : مصدر صلي النار - كرضي - يصلاها صليا ) بالضم والكسر ( إذا قاسى ألمها ، وباشر حرها .

واختلف العلماء في وجه رفع " أي " مع أنه منصوب ; لأنه مفعول لننزعن ، فذهب سيبويه ومن تبعه إلى أن لفظة " أي " موصولة ، وأنها مبنية على الضم إذا كانت مضافة وصدر صلتها ضمير محذوف كما هنا ، وعقده ابن مالك في الخلاصة بقوله :

[ ص: 477 ]

أي كما وأعربت ما لم تضف وصدر وصلها ضمير انحذف وبعضهم أعرب مطلقا . . .
. . . . . . .
إلخ .

ويدل على صحة قول سيبويه رحمه الله قول غسان بن وعلة :



إذا ما لقيت بني مالك فسلم على أيهم أفضل

والرواية بضم " أيهم " ، وخالف الخليل ويونس وغيرهما سيبويه في " أي " المذكورة ، فقال الخليل : إنها في الآية استفهامية محكية بقول مقدر والتقدير : ثم لننزعن من كل شيعة الذي يقال فيه أيهم أشد ; وأنشد الخليل لهذا المعنى الذي ذهب إليه قول الشاعر :



ولقد أبيت من الفتاة بمنزل فأبيت لا حرج ولا محروم

أي : فأبيت بمنزلة الذي يقال له : لا هو حرج ولا محروم .

وأما يونس فذهب إلى أنها استفهامية أيضا ; لكنه حكم بتعليق الفعل قبلها بالاستفهام لأن التعليق عنده لا يختص بأفعال القلوب ، واحتج لسيبويه على الخليل ويونس ومن تبعهما ببيت غسان بن وعلة المذكور آنفا ; لأن الرواية فيه بضم " أيهم " ، مع أن حروف الجر ، لا يضمر بينها وبين معمولها قول ولا تعلق على الأصوب ، وإن خالف فيه بعضهم ببعض التأويلات ، ومما ذكرنا تعلم أن ما ذكره بعضهم من أن جميع النحويين غلطوا سيبويه في قوله هذا في " أي " في هذه الآية الكريمة خلاف التحقيق ، والعلم عند الله تعالى .

وقرأه حمزة والكسائي وحفص عتيا بكسر العين ، و صليا بكسر الصاد للإتباع ، وقرأ الباقون بالضم فيهما على الأصل .

قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا .

اختلف العلماء في المراد بورود النار في هذه الآية الكريمة على أقوال :

الأول : أن المراد بالورود الدخول ، ولكن الله يصرف أذاها عن عباده المتقين عند ذلك الدخول .

الثاني : أن المراد بورود النار المذكور : الجواز على الصراط ; لأنه جسر منصوب على متن جهنم .

[ ص: 478 ] الثالث : أن الورود المذكور هو الإشراف عليها والقرب منها .

الرابع : أن حظ المؤمنين من ذلك الورود هو حر الحمى في دار الدنيا ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن ، فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية ، وقد قدمنا أمثلة لذلك ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك .

وإيضاحه أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة ، والمراد في كل واحدة منها الدخول ، فاستدل بذلك ابن عباس على أن " الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول " ؛ لدلالة الآيات الأخرى على ذلك ، كقوله تعالى : يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود [ 11 \ 98 ] ، قال : فهذا ورود دخول ، وكقوله : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [ 21 \ 99 ] ، فهو ورود دخول أيضا ، وكقوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] ، وقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 68 ] ، وبهذا استدل ابن عباس على نافع بن الأزرق في " أن الورود الدخول " .

واحتج من قال بأن الورود : الإشراف والمقاربة بقوله تعالى : ولما ورد ماء مدين الآية [ 28 \ 23 ] ، قال : فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه ، وكذا قوله تعالى : فأرسلوا واردهم الآية [ 12 \ 11 ] ، ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :



فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم


قالوا : والعرب تقول : وردت القافلة البلد ، وإن لم تدخله ولكن قربت منه ، واحتج من قال بأن الورود في الآية التي نحن بصددها ليس نفس الدخول بقوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون [ 21 \ 101 - 102 ] ، قالوا : إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدل على عدم دخولهم فيها ; فالورود غير الدخول .

واحتج من قال : بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين : حر الحمى في دار [ ص: 479 ] الدنيا بحديث " الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء " ، وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ، وابن عمر ورافع بن خديج رضي الله عنهم ، ورواه البخاري أيضا مرفوعا عن ابن عباس .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة ، الأول : هو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع ، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

الدليل الثاني : هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك ، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 70 - 71 ] ، بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها [ 19 \ 72 ] ، أي : نترك الظالمين فيها ، دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها ، إذ لو لم يدخلوها لم يقل : ونذر الظالمين فيها بل يقول : وندخل الظالمين ، وهذا واضح كما ترى ، وكذلك قوله : ثم ننجي الذين اتقوا ، دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة ، ولذا عطف على قوله : وإن منكم إلا واردها قوله : ثم ننجي الذين اتقوا .

الدليل الثالث : ما روي من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة : أخرج أحمد وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في البعث ، عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضهم : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فذكرت له ذلك فقال وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه : صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا " اهـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 01:03 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (268)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 480 إلى صـ 486








وقال ابن حجر في ) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ( في هذا الحديث : رواه أحمد وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد قالوا : حدثنا سليمان بن حرب ، وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى ، والبيهقي في الشعب في باب النار ، والحكيم في النوادر ، كلهم من طريق سليمان ، قال : حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان ، عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود فسألنا جابرا فذكر الحديث أتم من اللفظ [ ص: 480 ] الذي ذكره الزمخشري ، وخالفهم كلهم الحاكم فرواه من طريق سليمان بهذا الإسناد فقال : عن سمية الأزدية عن عبد الرحمن بن شيبة . بدل أبي سمية عن جابر . اهـ . وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا غالب بن سليمان ، عن كثير بن زياد البرساني ، عن أبي سمية ، قال : اختلفنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضهم : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت : إنا اختلفنا في الورود فقال : يدخلونها جميعا ، ثم ذكر الحديث المتقدم ، ثم قال ابن كثير رحمه الله : غريب ولم يخرجوه .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر أن الإسناد المذكور لا يقل عن درجة الحسن لأن طبقته الأولى : سليمان بن حرب ، وهو ثقة إمام حافظ مشهور ، وطبقته الثانية : أبو صالح أو أبو سلمة غالب بن سليمان العتكي الجهضمي الخراساني أصله من البصرة ، وهو ثقة ، وطبقته الثالثة : كثير بن زياد أبو سهل البرساني بصري نزل بلخ ، وهو ثقة ، وطبقته الرابعة : أبو سمية وقد ذكره ابن حبان في الثقات ، قاله ابن حجر في تهذيب التهذيب . وبتوثيق أبي سمية المذكور تتضح صحة الحديث ; لأن غيره من رجال هذا الإسناد ثقات معروفون ، مع أن حديث جابر المذكور يعتضد بظاهر القرآن وبالآيات الأخرى التي استدل بها ابن عباس وآثار جاءت عن علماء السلف رضي الله عنهم كما ذكره ابن كثير عن خالد بن معدان ، وعبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، وذكره هو وابن جرير عن أبي ميسرة ، وذكره ابن كثير عن عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري ، كلهم يقولون : إنه ورود دخول ، وأجاب من قال بأن الورود في الآية الدخول عن قوله تعالى : أولئك عنها مبعدون [ 21 \ 101 ] ، بأنهم مبعدون عن عذابها وألمها ، فلا ينافي ذلك ورودهم إياها من غير شعورهم بألم ولا حر منها ، كما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية الكريمة .

وأجابوا عن الاستدلال بحديث " الحمى من فيح جهنم " ، بالقول بموجبه ، قالوا : الحديث حق صحيح ولكنه لا دليل فيه لمحل النزاع ; لأن السياق صريح في أن الكلام في النار في الآخرة وليس في حرارة منها في الدنيا ; لأن أول الكلام قوله تعالى : فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا إلى أن قال وإن منكم إلا واردها [ 19 \ 68 - 70 ] ، فدل على أن كل ذلك في الآخرة لا في الدنيا كما ترى .

والقراءة في قوله : جثيا ، كما قدمنا في قوله : [ ص: 481 ] ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا .

وقوله : ثم ننجي ، قراءة الكسائي بإسكان النون الثانية وتخفيف الجيم ، وقرأه الباقون بفتح النون الثانية وتشديد الجيم ، وقد ذكرنا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( أن جماعة رووا عن ابن مسعود : أن ورود النار المذكور في الآية هو المرور عليها ; لأن الناس تمر على الصراط وهو جسر منصوب على متن جهنم ، وأن الحسن وقتادة روي عنهما نحو ذلك أيضا ، وروي عن ابن مسعود أيضا مرفوعا : " أنهم يردونها جميعا ويصدرون عنها بحسب أعمالهم " ، وعنه أيضا تفسير الورود بالوقوف عليها ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في الآية الكريمة : كان على ربك حتما مقضيا ، يعني أن ورودهم النار المذكور كان حتما على ربك مقضيا ، أي : أمرا واجبا مفعولا لا محالة ، والحتم : الواجب الذي لا محيد عنه ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :



عبادك يخطئون وأنت رب بكفيك المنايا والحتوم

فقوله : " والحتوم " : جمع حتم ، يعني الأمور الواجبة التي لا بد من وقوعها ، وما ذكره جماعة من أهل العلم من أن المراد بقوله : حتما مقضيا قسما واجبا ، كما روي عن عكرمة وابن مسعود ومجاهد وقتادة وغيرهم - لا يظهر كل الظهور .

واستدل من قال : إن في الآية قسما ، بحديث أبي هريرة الثابت في الصحيحين ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا علي ، حدثنا سفيان قال : سمعت الزهري عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم " قال أبو عبد الله : وإن منكم إلا واردها اهـ . وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم " ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب قالوا ، حدثنا سفيان بن عيينة ) ح ( وحدثنا عبد بن حميد ، وابن رافع ، عن عبد الرزاق ، أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري بإسناد مالك ، وبمعنى حديثه إلا أن في حديث سفيان " فيلج النار إلا تحلة القسم " اهـ .

قالوا : المراد بالقسم المذكور في هذا الحديث الصحيح هو قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ، وهو معنى ما ذكرنا عن البخاري في قوله : قال أبو عبد الله وإن منكم إلا واردها ، [ ص: 482 ] والذين استدلوا بالحديث المذكور على أن الآية الكريمة قسم اختلفوا في موضع القسم من الآية ، فقال بعضهم : هو مقدر دل عليه الحديث المذكور ، أي : والله إن منكم إلا واردها ، وقال بعضهم : هو معطوف على القسم قبله ، والمعطوف على القسم قسم ، والمعنى : فوربك لنحشرنهم والشياطين وربك إن منكم إلا واردها ، وقال بعضهم : القسم المذكور مستفاد من قوله : كان على ربك حتما مقضيا أي : قسما واجبا كما قدمناه عن ابن مسعود ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق ، فإن قوله تعالى : كان على ربك حتما مقضيا ، تذييل وتقرير لقوله : وإن منكم إلا واردها ، وهذا بمنزلة القسم في تأكيد الإخبار ، بل هذا أبلغ للحصر في الآية بالنفي والإثبات .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن الآية ليس يتعين فيها قسم ; لأنها لم تقترن بأداة من أدوات القسم ، ولا قرينة واضحة دالة على القسم ، ولم يتعين عطفها على القسم ، والحكم بتقدير قسم في كتاب الله دون قرينة ظاهرة فيه ، زيادة على معنى كلام الله بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وحديث أبي هريرة المذكور المتفق عليه لا يتعين منه أن في الآية قسما ; لأن من أساليب اللغة العربية التعبير بتحلة القسم عن القلة الشديدة وإن لم يكن هناك قسم أصلا ، يقولون : ما فعلت كذا إلا تحلة القسم ، يعنون إلا فعلا قليلا جدا قدر ما يحلل به الحالف قسمه ، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب ، ومنه قول كعب بن زهير في وصف ناقته :



تخدي على يسرات وهي لاصقة ذوابل مسهن الأرض تحليل

يعني : أن قوائم ناقته لا تمس الأرض لشدة خفتها إلا قدر تحليل القسم ، ومعلوم أنه لا يمين من ناقته أنها تمس الأرض حتى يكون ذلك المس تحليلا لها كما ترى ، وعلى هذا المعنى المعروف ، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم " إلا تحلة " ، أي : لا يلج النار إلا ولوجا قليلا جدا لا ألم فيه ولا حر ، كما قدمنا في حديث جابر المرفوع ، وأقرب أقوال من قالوا : إن في الآية قسما ، قول من قال : إنه معطوف على قوله : فوربك لنحشرنهم ; لأن الجمل المذكورة بعده معطوفة عليه ، كقوله : ثم لنحضرنهم ، وقوله : ثم لننزعن وقوله : ثم لنحن أعلم لدلالة قرينة لام القسم في الجمل المذكورة على ذلك ، أما قوله : وإن منكم إلا واردها ، فهو محتمل للعطف أيضا ، ومحتمل للاستئناف ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 483 ] قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا .

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : خير مقاما [ 19 \ 73 ] ، قرأه ابن كثير بضم الميم ، والباقون بفتحها ، وقوله : ورئيا ، قرأه قالون وابن ذكوان " وريا " بتشديد الياء من غير همز ، وقرأه الباقون بهمزة ساكنة بعد الراء وبعدها ياء مخففة .

ومعنى الآية الكريمة : أن كفار قريش كانوا إذا يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه آيات هذا القرآن في حال كونها بينات ، أي مرتلات الألفاظ ، واضحات المعاني بينات المقاصد ، إما محكمات جاءت واضحة ، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا ، أو ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها ، أو حججا وبراهين .

والظاهر أن قوله : بينات حال مؤكدة ; لأن آيات الله لا تكون إلا كذلك ، ونظير ذلك قوله تعالى : وهو الحق مصدقا [ 35 \ 31 ] ، أي : إذا تتلى عليهم آيات الله في حال كونها متصفة بما ذكرنا عارضوها واحتجوا على بطلانها ، وأن الحق معهم لا مع من يتلوها بشبهة ساقطة لا يحتج بها إلا من لا عقل له ، ومضمون شبهتهم المذكورة : أنهم يقولون لهم : نحن أوفر منكم حظا في الدنيا ، فنحن أحسن منكم منازل ، وأحسن منكم متاعا ، وأحسن منكم منظرا ، فلولا أننا أفضل عند الله منكم لما آثرنا عليكم في الحياة الدنيا ، وأعطانا من نعيمها وزينتها ما لم يعطكم .

فقوله : أي الفريقين خير مقاما [ 19 \ 73 ] ، أي : نحن وأنتم أينا خير مقاما ، والمقام على قراءة ابن كثير بضم الميم محل الإقامة ، وهو المنازل والأمكنة التي يسكنونها ، وعلى قراءة الجمهور فالمقام - بفتح الميم - مكان القيام وهو موضع قيامهم وهو مساكنهم ومنازلهم ، وقيل : هو موضع القيام بالأمور الجليلة ، والأول هو الصواب .

وقوله : وأحسن نديا ، أي : مجلسا ومجتمعا ، والاستفهام في قوله : أي الفريقين الظاهر أنه استفهام تقرير ، ليحملوا به ضعفاء المسلمين الذين هم في تقشف ورثاثة هيئة على أن يقولوا أنتم خير مقاما وأحسن نديا منا ، وعلى كل حال فلا خلاف أن [ ص: 484 ] مقصودهم بالاستفهام المذكور أنهم - أي كفار قريش - خير مقاما وأحسن نديا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك هو دليلهم على أنهم على الحق ، وأنهم أكرم على الله من المسلمين ، وما في التلخيص وشروحه من أن السؤال بـ " أي " في الآية التي نحن بصددها سؤال بها عما يميز أحد المشتركين في أمر يعمهما كالعادة في أي غلط منهم ; لأنهم فسروا الآية الكريمة بغير معناها الصحيح ، والصواب ما ذكرناه إن شاء الله تعالى ، واستدلالهم هذا بحظهم في الحياة الدنيا على حظهم يوم القيامة ، وأن الله ما أعطاهم في الدنيا إلا لمكانتهم عنده ، واستحقاقهم لذلك - لسخافة عقولهم ، ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى عنهم : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم [ 46 \ 11 ] ، وقوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين [ 6 \ 53 ] ، وقوله تعالى : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، وقوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وقوله : قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 35 - 36 ] ، وقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، فكل هذه الآيات دالة على أنهم لجهلهم يظنون أن الله لم يعطهم نصيبا من الدنيا إلا لرضاه عنهم ، ومكانتهم عنده ، وأن الأمر في الآخرة سيكون كذلك .

وقد أبطل الله تعالى دعواهم هذه في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا [ 19 \ 74 ] ، والمعنى : أهلكنا قرونا كثيرة ، أي أمما كانت قبلهم وهم أكثر نصيبا في الدنيا منهم ، فما منعهم ما كان عندهم من زينة الدنيا ومتاعها من إهلاك الله إياهم لما عصوا وكذبوا رسله ، فلو كان الحظ والنصيب في الدنيا يدل على رضا الله والمكانة عنده لما أهلك الذين من قبلكم ، الذين هم أحسن أثاثا ورئيا منكم .

وقوله في هذه الآية الكريمة : وكم هي الخبرية ، ومعناها الإخبار بعدد كثير ، وهي في محل نصب على المفعول به لـ " أهلكنا " أي : أهلكنا كثيرا ، و من مبينة [ ص: 485 ] لـ وكم وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم ، قيل : سموا قرنا لاقترانهم في الوجود ، والأثاث : متاع البيت ، وقيل هو الجديد من الفرش ، وغير الجديد منها يسمى " الخرثي " بضم الخاء وسكون الراء والثاء المثلثة بعدها ياء مشددة ، وأنشد لهذا التفصيل الحسن بن علي الطوسي قول الشاعر :



تقادم العهد من أم الوليد بنا دهرا وصار أثاث البيت خرثيا
والإطلاق المشهور في العربية هو إطلاق الأثاث على متاع البيت مطلقا ، قال الفراء : لا واحد له ، ويطلق الأثاث على المال أجمع : الإبل ، والغنم ، والعبيد ، والمتاع ، والواحد أثاثة ، وتأثث فلان : إذا أصاب رياشا ، قاله الجوهري عن أبي زيد ، وقوله : ورئيا على قراءة الجمهور مهموزا ، أي : أحسن منظرا وهيئة ، وهو فعل بمعنى مفعول من : رأى ، البصرية ، والمراد به الذي تراه العين من هيئتهم الحسنة ومتاعهم الحسن ، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي في هذا المعنى قوله :



أشاقتك الظعائن يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث

وعلى قراءة قالون وابن ذكوان بتشديد الياء من غير همز ، فقال بعض العلماء : معناه معنى القراءة الأولى ، إلا أن الهمزة أبدلت ياء فأدغمت في الياء ، وقال بعضهم : لا همز على قراءتهما أصلا ، بل عليها فهو من الري الذي هو النعمة والترفه ، من قولهم : هو ريان من النعيم ، وهي ريا منه ، وعلى هذا فالمعنى : أحسن نعمة وترفها ، والأول أظهر عندي ، والله تعالى أعلم .

والآيات التي أبطل الله بها دعواهم هذه كثيرة ، كقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] ، وقوله : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 ] ، وقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقد قدمنا شيئا من ذلك .

وقول الكفار الذي حكاه الله عنهم في هذه الآية الكريمة : أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ، [ ص: 486 ] الظاهر فيه أن وجه ذكرهم للمقام والندي : أن المقام هو محل السكنى الخاص لكل واحد منهم ، والندي محل اجتماع بعضهم ببعض ، فإذا كان كل منهما للكفار أحسن من نظيره عند المسلمين دل ذلك على أن نصيبهم في الدنيا أوفر من نصيب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت ، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :



يومان يوم مقامات وأندية ويوم سير إلى الأعداء تأويب

والمقامات : جمع مقامة بمعنى المقام ، والأندية : جمع ناد بمعنى الندي ، وهو مجلس القوم ، ومنه قوله تعالى : وتأتون في ناديكم المنكر [ 29 \ 29 ] ، فالنادي والندي يطلقان على المجلس ، وعلى القوم الجالسين فيه ، وكذلك المجلس يطلق على القوم الجالسين ، ومن إطلاق الندي على المكان قول الفرزدق :



وما قام منا قائم في ندينا فينطق إلا بالتي هي أعرف

وقوله تعالى هنا : وأحسن نديا .

ومن إطلاقه على القوم قوله : فليدع ناديه سندع الزبانية [ 96 \ 17 - 18 ] ، ومن إطلاق المجلس على القوم الجالسين فيه قول ذي الرمة :



لهم مجلس صهب السبال أذلة سواسية أحرارها وعبيدها

والجملة في قوله : هم أحسن أثاثا ورئيا ، قال الزمخشري : هي في محل نصب صفة لقوله : " كم " ألا ترى أنك لو تركت لفظة " هم " لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية . اهـ . وتابع الزمخشري أبو البقاء على ذلك ، وتعقبه أبو حيان في البحر بأن بعض علماء النحو نصوا على أن " كم " سواء كانت استفهامية أو خبرية لا توصف ولا يوصف بها ، قال : وعلى هذا يكون هم أحسن في موضع الصفة لـ قرن وجمع نعت القرن اعتبارا لمعنى القرن ، وهذا هو الصواب عندي لا ما ذكره الزمخشري وأبو البقاء ، وصيغة التفضيل في قوله : هم أحسن أثاثا ورئيا ، تلزمها " من " لتجردها من الإضافة والتعريف ، إلا أنها محذوفة لدلالة المقام عليها ، والتقدير : هم أحسن أثاثا ورئيا منهم ، على حد قوله في الخلاصة :

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 01:04 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (269)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 487 إلى صـ 494








وأفعل التفضيل صله أبدا تقديرا أو لفظا بمن إن جردا فإن قيل : أين مرجع الضمير في هذه الآية الكريمة في قوله : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا ؟ الآية [ 19 \ 73 ] ، فالجواب : أنه راجع إلى الكفار [ ص: 487 ] المذكورين في قوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت الآية [ 19 \ 66 ] ، وقوله : ونذر الظالمين فيها جثيا ، قاله القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا .

في معنى هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء ، وكلاهما يشهد له قرآن :

الأول : أن الله جل وعلا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول هذه الكلمات كدعاء المباهلة بينه وبين المشركين ، وإيضاح معناه : قل يا نبي الله صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المشركين الذين ادعوا أنهم خير منكم ، وأن الدليل على ذلك أنهم خير منكم مقاما وأحسن منكم نديا : من كان منا ومنكم في الضلالة - أي الكفر والضلال عن طريق الحق - فليمدد له الرحمن مدا ، أي : فأمهله الرحمن إمهالا فيما هو فيه حتى يستدرجه بالإمهال ويموت على ذلك ولا يرجع عنه ، بل يستمر على ذلك حتى يرى ما يوعده الله ، وهو : إما عذاب في الدنيا بأيدي المسلمين ، كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] ، أو بغير ذلك ، وإما عذاب الآخرة إن ماتوا وهم على ذلك الكفر ، وعلى ذلك التفسير فصيغة الطلب المدلول عليها باللام في قوله : فليمدد على بابها ، وعليه فهي لام الدعاء بالإمهال في الضلال على الضال من الفريقين ، حتى يرى ما يوعده من الشر وهو على أقبح حال من الكفر والضلال ، واقتصر على هذا التفسير ابن كثير وابن جرير ، وهو الظاهر من صيغة الطلب في قوله : فليمدد ، ونظير هذا المعنى في القرآن قوله تعالى : فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين [ 3 \ 61 ] ; لأنه على ذلك التفسير يكون في كلتا الآيتين دعاء بالشر على الضال من الطائفتين ، وكذلك قوله تعالى في اليهود : فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [ 2 \ 94 ] ، في " البقرة والجمعة " عند من يقول : إن المراد بالتمني الدعاء بالموت على الكاذبين من الطائفتين ، وهو اختيار ابن كثير ، وظاهر الآية لا يساعد عليه .

الوجه الثاني أن صيغة الطلب في قوله : فليمدد ، يراد بها الإخبار عن سنة الله في الضالين ، وعليه فالمعنى : أن الله أجرى العادة بأنه يمهل الضال ويملي له فيستدرجه [ ص: 488 ] بذلك حتى يرى ما يوعده ، وهو في غفلة وكفر وضلال .

وتشهد لهذا الوجه آيات كثيرة ، كقوله : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما الآية [ 3 \ 178 ] ، وقوله : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة الآية [ 6 \ 44 ] ، كما قدمنا قريبا بعض الآيات الدالة عليه .

ومما يؤيد هذا الوجه ما أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال : في حرف أبي : " قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة " اهـ . قاله صاحب الدر المنثور ، ومثل هذا من جنس التفسير لا من جنس القراءة ، فإن قيل على هذا الوجه : ما النكتة في إطلاق صيغة الطلب في معنى الخبر ؟ فالجواب : أن الزمخشري أجاب في كشافه عن ذلك ، قال في تفسير قوله تعالى : فليمدد له الرحمن مدا ، أي : مد له الرحمن ، يعني أمهله وأملى له في العمر ، فأخرج على لفظ الأمر إيذانا بوجوب ذلك ، وأنه مفعول لا محالة ، كالمأمور به الممتثل لتنقطع معاذير الضال ، ويقال له يوم القيامة : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر [ 35 \ 37 ] . انتهى محل الغرض منه ، وأظهر الأقوال عندي في قوله : حتى إذا رأوا ما يوعدون ، أنه متعلق بما قبله وما يليه ، والمعنى : فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأى ما يوعد علم أن الأمر على خلاف ما كان يظن .

وقال الزمخشري : إن حتى في هذه الآية هي التي تحكى بعدها الجمل ، واستدل على ذلك بمجيء الجملة الشرطية بعدها .

وقوله : ما يوعدون لفظة ما ، مفعول به لـ ما ، وقوله : إما العذاب وإما الساعة ، بدل من المفعول به الذي هو " ما " ولفظة من من قوله : فسيعلمون من هو ، قال بعض العلماء : هي موصولة في محل نصب على المفعول به لـ " يعلمون " وعليه فعلم هنا عرفانية تتعدى إلى مفعول واحد ، وقال بعض أهل العلم : من استفهامية والفعل القلبي الذي هو يعلمون معلق بالاستفهام ، وهذا أظهر عندي .

وقوله : شر مكانا وأضعف جندا ، في مقابلة قولهم : خير مقاما وأحسن نديا ; لأن مقامهم هو مكانهم ومسكنهم ، والندي : المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم وأنصارهم ، والجند هم الأنصار والأعوان ، فالمقابلة المذكورة ظاهرة ، وقد دلت آية من كتاب الله على إطلاق شر مكانا ، والمراد اتصاف الشخص بالشر [ ص: 489 ] لا المكان ، وهو قوله تعالى : قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا [ 12 \ 72 ] ، فتفضيل المكان في الشر هاهنا الظاهر أن المراد به تفضيله إخوته في الشر على نفسه فيما نسبوا إليه من شر السرقة لا نفس المكان ، اللهم إلا أن يراد بذلك المكان المعنوي ، أي : أنتم شر منزلة عند الله تعالى .

وقوله في هذه الآيات المذكورة مقاما ، و نديا ، و أثاثا ، و مكانا ، و جندا ، كل واحد منها تمييز محول عن الفاعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كـ " أنت أعلى منزلا "

قوله تعالى : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا .

قوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى [ 19 \ 76 ] ، دليل على رجحان القول الثاني في الآية المتقدمة ، وأن المعنى : أن من كان في الضلالة زاده الله ضلالة ، ومن اهتدى زاده الله هدى ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ، كقوله في الضلال : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، وقوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] ، كما قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على هذا المعنى .

وقال في الهدى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقال : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ 48 \ 4 ] ، وقال : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا الآية [ 29 \ 69 ] ، وقد جمع بينهما في آيات أخر ، كقوله : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ 17 \ 82 ] ، وقوله تعالى : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى الآية [ 41 \ 44 ] ، وقوله تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون [ 9 \ 124 - 125 ] ، كما تقدم إيضاحه .

وقوله : والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا [ 19 \ 76 ] ، تقدم [ ص: 490 ] إيضاحه في سورة " الكهف " .

فإن قيل : ظاهر الآية أن لفظة خير في قوله : خير عند ربك ثوابا وخير مردا ، صيغة تفضيل ، والظاهر أن المفضل عليه هو جزاء الكافرين ، ويدل لذلك ما قاله صاحب الدر المنثور ، قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : خير عند ربك ثوابا ، يعني : خير جزاء من جزاء المشركين ، وخير مردا ، يعني مرجعا من مرجعهم إلى النار ، والمعروف في العربية أن صيغة التفضيل تقتضي مشاركة المفضل عليه ، والخيرية منفية بتاتا عن جزاء المشركين وعن مردهم ، فلم يشاركوا في ذلك المسلمين حتى يفضلوا عليهم .

فالجواب : أن الزمخشري في كشافه حاول الجواب عن هذا السؤال بما حاصله : أنه كأنه قيل ثوابهم النار ، والجنة خير منها على طريقة قول بشر بن أبي حازم :



غضبت تميم أن تقتل عامر يوم النسار ، فأعتبوا بالصيلم
فقوله : " أعتبوا بالصيلم " يعني أرضوا بالسيف ، أي : لا رضا لهم عندنا إلا السيف لقتلهم به .

ونظيره قول عمرو بن معدي كرب :



وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع

أي لا تحية بينهم إلا الضرب الوجيع

وقول الآخر :



شجعاء جرتها الذميل تلوكه أصلا إذا راح المطي غراثا

يعني : أن هذه الناقة لا جرة لها تخرجها من كرشها فتمضغها إلا السير ، وعلى هذا المعنى فالمراد : لا ثواب لهم إلا النار ، وباعتبار جعلها ثوابا بهذا المعنى فضل عليها ثواب المؤمنين ، هذا هو حاصل جواب الزمخشري مع إيضاحنا له .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ويظهر لي في الآية جواب آخر أقرب من هذا ، وهو أنا قدمنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا على أن الكافر مجازى بعمله الصالح في الدنيا ، فإذا بر والديه ونفس عن المكروب ، وقرى الضيف ، ووصل الرحم مثلا يبتغي بذلك وجه الله فإن الله يثيبه في الدنيا ، كما قدمنا دلالة الآيات عليه ، وحديث أنس عند مسلم ، فثوابه هذا الراجع إليه من عمله في الدنيا ، هو الذي فضل الله عليه في الآية ثواب المؤمنين ، وهذا واضح لا إشكال فيه ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 491 ] قوله تعالى : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا ، أخرج الشيخان وغيرهما من غير وجه عن خباب بن الأرت رضي الله عنه ، قال : " جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده ، فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فقلت : لا ، حتى تموت ثم تبعث ، قال : وإني لميت ثم مبعوث ؟ قلت : نعم ، قال : إن لي هناك مالا فأقضيك ، فنزلت هذه الآية : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " ، وقال بعض أهل العلم : إن مراده بقوله : لأوتين مالا وولدا الاستهزاء بالدين وبخباب بن الأرت رضي الله عنه ، والظاهر أنه زعم أنه يؤتى مالا وولدا قياسا منه للآخرة على الدنيا ، كما بينا الآيات الدالة على ذلك ، كقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات الآية [ 23 \ 55 - 56 ] ، وقوله : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه ، وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي : " وولدا " بضم الواو الثانية وسكون اللام ، وقرأه الباقون بفتح الواو واللام معا ، وهما لغتان معناهما واحد كالعرب والعرب ، والعدم والعدم ، ومن إطلاق العرب الولد بضم الواو وسكون اللام كقراءة حمزة والكسائي قول الحارث بن حلزة :



ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
وقول رؤبة :



الحمد لله العزيز فردا لم يتخذ من ولد شيء ولدا

وزعم بعض علماء العربية : أن الولد بفتح الواو واللام مفرد ، وأن الولد بضم الواو وسكون اللام جمع له ، كأسد بالفتح يجمع على أسد بضم فسكون ، والظاهر عدم صحة هذا ، ومما يدل على أن " الولد " بالضم ليس بجمع قول الشاعر :



فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار

لأن " الولد " في هذا البيت بضم الواو وسكون اللام ، وهو مفرد قطعا كما ترى .

قوله تعالى : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا .

اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على العاص بن وائل السهمي [ ص: 492 ] قوله : إنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا ، بالدليل المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد ، وعند الأصوليين بالسبر والتقسيم ، وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل .

وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين : أحدهما حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر ، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين ، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين .

والثاني : هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة ، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى ، وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين " بالسبر " ، وعند الجدليين " بالترديد " ، وعند المنطقيين ، بالاستثناء في الشرطي المنفصل ، والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة ، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث ، وبذلك يتم إلقام العاص بن وائل الحجر في دعواه أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا .

أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول : قولك أنك تؤتى مالا وولدا يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء :

الأول : أن تكون اطلعت على الغيب ، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ .

والثاني : أن يكون الله أعطاك عهدا بذلك ، فإنه إن أعطاك عهدا لن يخلفه .

الثالث : أن تكون قلت ذلك افتراء على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب .

وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، مبطلا لهما بأداة الإنكار ، ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل ; لأن العاص المذكور لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراء على الله ، وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله : كلا ، أي : لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك ، لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، بل قال ذلك افتراء على الله ; لأنه لو كان أحدهما حاصلا لم يستوجب الردع عن مقالته كما ترى ، وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة في سورة " البقرة " ، وصرح في ذلك بالقسم الذي هو الحق ، وهو أنهم قالوا ذلك كذبا من غير علم .

[ ص: 493 ] وحذف في " البقرة " قسم اطلاع الغيب المذكور في " مريم " لدلالة ذكره في " مريم " على قصده في " البقرة " كما أن كذبهم الذي صرح به في " البقرة " لم يصرح به في " مريم " لأن ما في " البقرة " يبين ما في " مريم " لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضا ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 80 ] ، فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في " مريم " كما أوضحنا ، وما حذف منها يدل عليه ذكره في " مريم " فاتخاذ العهد ذكره في " البقرة ومريم " معا والكذب في ذلك على الله صرح به في " البقرة " بقوله : أم تقولون على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 80 ] ، وأشار له في " مريم " بحرف الزجر الذي هو كلا ، واطلاع الغيب صرح به في " مريم " وحذفه في " البقرة " لدلالة ما في " مريم " على المقصود في " البقرة " كما أوضحنا .

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى

اعلم أن هذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم تكرر وروده في القرآن العظيم ، وقد ذكرنا الآن مثالين لذلك أحدهما في " البقرة " والثاني في " مريم " كما أوضحناه آنفا ، وذكر السيوطي في الإتقان في كلامه على جدل القرآن مثالا واحدا للسبر والتقسيم ، ومضمون المثال الذي ذكره باختصار ، هو ما تضمنه قوله تعالى : ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين الآيتين [ 6 \ 143 ] ، فكأن الله يقول للذين حرموا بعض الإناث كالبحائر والسوائب دون بعضها ، وحرموا بعض الذكور كالحامي دون بعضها : لا يخلو تحريمكم لبعض ما ذكر دون بعضه من أن يكون معللا بعلة معقولة أو تعبديا ، وعلى أنه معلل بعلة فإما أن تكون العلة في المحرم من الإناث الأنوثة ، ومن الذكور الذكورة ، أو تكون العلة فيهما معا التخلق في الرحم ، واشتمالها عليهما ، هذه هي الأقسام التي يمكن ادعاء إناطة الحكم بها ، ثم بعد حصر الأوصاف بهذا التقسيم نرجع إلى سبر الأقسام المذكورة ، أي : اختبارها ليتميز الصحيح من الباطل فنجدها كلها باطلة بالسبر الصحيح ; لأن كون العلة الذكورة يقتضي تحريم كل ذكر وأنتم تحلون بعض الذكور ، فدل ذلك على بطلان التعليل بالذكورة لقادح النقض الذي هو عدم الاطراد ، وكون العلة الأنوثة يقتضي تحريم كل أنثى كما ذكرنا فيما قبله ، وكون العلة اشتمال الرحم عليهما يقتضي تحريم [ ص: 494 ] الجميع ، وإلى هذا الإبطال أشار تعالى بقوله : قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين [ 6 \ 144 ] ، أي : فلو كانت العلة الذكورة لحرم كل ذكر ، ولو كانت الأنوثة لحرمت كل أنثى ، ولو كانت اشتمال الرحم عليهما لحرم الجميع ، وكون ذلك تعبديا يقتضي أن الله وصاكم به بلا واسطة ، إذ لم يأتكم منه رسول بذلك ، فدل ذلك على أنه باطل أيضا ، وأشار تعالى إلى بطلانه بقوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 144 ] ، ثم بين أن ذلك التحريم بغير دليل من أشنع الظلم ، وأنه كذب مفترى وإضلال ، بقوله : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 6 \ 144 ] ، ثم أكد عدم التحريم في ذلك بقوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] .

والحاصل أن إبطال جميع الأوصاف المذكورة دليل على بطلان الحكم المذكور كما أوضحنا ، ومن أمثلة السبر والتقسيم في القرآن قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، فكأنه تعالى يقول : لا يخلو الأمر من واحدة من ثلاث حالات بالتقسيم الصحيح ، الأولى : أن يكونوا خلقوا من غير شيء أي : بدون خالق أصلا ، الثانية : أن يكونوا خلقوا أنفسهم ، الثالثة : أن يكون خلقهم خالق غير أنفسهم ، ولا شك أن القسمين الأولين باطلان ، وبطلانهما ضروري كما ترى ، فلا حاجة إلى إقامة الدليل عليه لوضوحه ، والثالث هو الحق الذي لا شك فيه ، أنه هو جل وعلا خالقهم المستحق منهم أن يعبدوه وحده جل وعلا .

واعلم أن المنطقيين والأصوليين والجدليين كل منهم يستعملون هذا الدليل في غرض ليس هو غرض الآخر من استعماله ، إلا أن استعماله عند الجدليين أعم من استعماله عند المنطقيين والأصوليين .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-01, 01:05 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (270)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 495 إلى صـ 500









المسألة الثانية

اعلم أن مقصود الجدليين من هذا الدليل معرفة الصحيح والباطل من أوصاف محل النزاع ، وهو عندكم يتركب من أمرين ، الأول : حصر أوصاف المحل ، والثاني : إبطال الباطل منها وتصحيح الصحيح مطلقا ، وقد تكون باطلة كلها فيتحقق بطلان الحكم المستند إليها ، كآية قل آلذكرين [ 6 \ 144 ] المتقدمة ، وقد يكون بعضها باطلا وبعضها [ ص: 495 ] صحيحا ، كآية " مريم والبقرة والطور " التي قدمنا إيضاح هذا الدليل في كل واحدة منها ، وهذا الدليل أعم نفعا ، وأكثر فائدة على طريق الجدليين منه على طريق الأصوليين والمنطقيين .

المسألة الثالثة

اعلم : أن السبر والتقسيم عند الأصوليين يستعمل في شيء خاص ، وهو استنباط علة الحكم الشرعي بمسلك السبر والتقسيم ، وضابط هذا المسلك عند الأصوليين أمران ، الأول : هو حصر أوصاف الأصل المقيس عليه بطريق من طرق الحصر التي سنذكر بعضها إن شاء الله تعالى ، والثاني : إبطال ما ليس صالحا للعلة بطريق من طرق الإبطال التي سنذكر أيضا بعضها إن شاء الله تعالى ، وزاد بعضهم أمرا ثالثا وهو الإجماع على أن حكم الأصل معلل في الجملة لا تعبدي ، والجمهور لا يشترطون هذا الأخير ، والحاصل : أن هذا الدليل يتركب عند الأصوليين من أمرين ، الأول : حصر أوصاف المحل ، والثاني : إبطال ما ليس صالحا للعلة ، فإن كان الحصر والإبطال معا قطعيين فهو دليل قطعي ، وإن كانا ظنيين أو أحدهما ظنيا فهو دليل ظني ، ومثال ما كان الحصر والإبطال فيه قطعيين قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ; لأن حصر أوصاف المحل في الأقسام الثلاثة قطعي لا شك فيه ، لأنهم إما أن يخلقوا من غير شيء أو يخلقوا أنفسهم أو يخلقهم خالق غير أنفسهم ، ولا رابع ألبتة ، وإبطال القسمين الأولين قطعي لا شك فيه : فيتعين أن الثالث حق لا شك فيه ، وقد حذف في الآية لظهوره ، فدلالة هذا السبر والتقسيم على عبادة الله وحده قطعية لا شك فيها ، وإن كان المثال بهذه الآية للقطعي من هذا الدليل إنما يصح على المراد به عند الجدليين دون الأصوليين ; لأن المراد التمثيل للقطعي من هذا الدليل ولو بمعناه الأعم ، والقطعي منه لا يمكن الاختلاف فيه ، وأما الظني فإن العلماء يختلفون فيه لاختلاف ظنون المجتهدين عند نظرهم في المسائل ، وقد اختلفوا في الربا في أشياء كثيرة كالتفاح ونحوه ، والنورة ونحوها بسبب اختلافهم في إبطال ما ليس بصالح فيقول بعضهم : هذا وصف يصح إبطاله ، ويقول الآخر : هو ليس بصالح فيلزم إبطاله كقولهم مثلا في حصر أوصاف البر الذي هو الأصل مثلا المحرم فيه الربا إذا أريد قياس الذرة عليه مثلا : إما أن يكون علة تحريم الربا في البر الكيل أو الطعم أو الاقتيات والادخار أو هما وغلبة العيش به أو المالية والملكية . فيقول المالكي : غير الاقتيات والادخار باطل ، ويدعي أن دليل بطلانه عدم الاطراد الذي هو النقض ، ويقول [ ص: 496 ] الحنفي والحنبلي : غير الكيل من تلك الأوصاف باطل ، والكيل : هو العلة التي هي مناط الحكم ، ويستدل على ذلك بأحاديث كحديث حيان بن عبيد الله عند الحاكم ، وفيه بعد ذكر الستة التي يمنع فيها الربا : وكذلك كل ما يكال أو يوزن ، وبالحديث الصحيح الذي فيه ، وكذلك الميزان . كما قدمناه مستوفى في سورة البقرة في الكلام على آية الربا .

ويقول الشافعي : غير الطعم باطل ، والعلة في تحريم الربا في البر الطعم ، ويستدل بحديث معمر بن عبد الله عند مسلم " الطعام بالطعام مثلا بمثل " الحديث . كما تقدم إيضاحه أيضا في البقرة ، وهذا النوع من القياس الذي يختلف المجتهدون في العلة فيه هو المعروف عند أهل الأصول بمركب الأصل ، وأشار إليه في مراقي السعود بقوله :



وإن يكن لعلتين اختلفا تركب الأصل لدى من سلفا
وأشار إلى مركب الوصف بقوله :

مركب الوصف إذا الخصم منع وجود ذا الوصف في الأصل المتبع والقياس المركب بنوعيه المذكورين لا تنهض الحجة به على الخصم خلافا لبعض الجدليين ، وإلى كون رده بالنسبة للخصم المخالف هو المختار ، أشار في مراقي السعود بقوله :



ورده انتفى وقيل يقبل وفي التقدم خلاف ينقل والضمير

في قوله : " ورده " راجع إلى المركب بنوعيه ، وهذا هو الحق ، فلا تنهض الحجة بقول الشافعي : إن العلة في تحريم الربا في البر الطعم ، على الحنفي والحنبلي القائلين إنها الكيل كالعكس ، وهكذا ، أما في حق المجتهد ومقلديه فظنه المذكور حجة ناهضة له ولمقلديه ، واعلم أن لحصر أوصاف المحل طرقا ، منها أن يكون الحصر عقليا كما قدمنا في آية أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وكقولك : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عالما بهذا الأمر الذي تدعو الناس إليه أو غير عالم به : كما يأتي إيضاحه ، فأوصاف المحل محصورة في الأمرين المذكورين - إذ لا ثالث ألبتة - أنه لا واسطة بين الشيء ونقيضه كما هو معروف ، ومنها أن يدل على الحصر المذكور إجماع ، ومثل له بعض الأصوليين بإجبار البكر البالغة على النكاح عند من يقول به ، فإن علة الإجبار إما الجهل بالمصالح ، وإما البكارة . فإن قال المعترض : أين دليل حصر الأوصاف في الأمرين ؟ أجيب بأنه الإجماع على عدم التعليل بغيرهما ، فلو ادعى [ ص: 497 ] المستدل حصر أوصاف المحل ، فقال المعترض : أين دليل الحصر ؟ فقال المستدل : بحثت بحثا تاما عن أوصاف المحل فلم أجد غير ما ذكرت ، أو قال : الأصل عدم غير ما ذكرت ، فالصحيح أن هذا يكفيه في إثبات الحصر ، فإن قال المعترض : أنا أعلم وصفا زائدا لم تذكره ، قيل له : بينه ، فإن لم يبينه سقط اعتراضه ، وإن بين وصفا زائدا على الأوصاف التي ذكرها المستدل بطل حصر المستدل بمجرد إبداء المعترض الوصف الزائد ، إلا أن يبين المستدل أنه لا يصلح للعلية فيكون إذا وجوده وعدمه سواء ، وقول من قال : إنه لا يكفيه قوله : بحثت فلم أجد غير هذا - خلاف التحقيق ، وأشار في مراقي السعود إلى هذا المسلك من مسالك العلة بقوله :



والسبر والتقسيم قسم رابع أن يحصر الأوصاف فيه جامع
ويبطل الذي لها لا يصلح فما بقي تعيينه متضح
معترض الحصر في دفعه يرد بحثت ثم بعد بحثي لم أجد
أو انفقاد ما سواها الأصل وليس في الحصر لظن حظل
وهو قطعي إذا ما نميا للقطع والظني سواه وعيا
حجية الظني عند الأكثر في حق ناظر وفي المناظر
إن يبد وصفا زائدا معترض وفى به دون البيان الغرض
وقطع ذي السبر إذا منحتم والأمر في إبطاله منبهم

وقوله في هذه الأبيات " في حق ناظر وفي المناظر " محله ما لم يدع المناظر علة غير علته ، وإن ادعاها فلا تكون علة أحدهما حجة على الآخر ، كما أوضحناه آنفا ، وكما أشار له بقوله المذكور آنفا " ورده انتفى . . . " إلخ .

وإذا حصل حصر أوصاف المحل فإبطال غير الصالح منها له طرق معروفة :

منها : بيان أن الوصف طردي محض ، إما بالنسبة إلى جميع الأحكام كالطول والقصر ، والبياض والسواد ، أو بالنسبة إلى خصوص الحكم المتنازع في ثبوته أو نفيه ، كالذكورة والأنوثة بالنسبة إلى باب العتق ، فإنه لا فرق في أحكام العتق بين الذكر والأنثى ; لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إليه وصفان طرديان ، وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالإرث والشهادة والقضاء وولاية النكاح ، فإن الذكر في ذلك ليس كالأنثى ، ويعرف كون الوصف طرديا - أي : لا مدخل له في التعليل أصلا - باستقراء موارد الشرع ومصادره ، إما مطلقا ، وإما في بعض الأبواب دون بعضها كما قدمناه آنفا .

[ ص: 498 ] ومثال إبطال الطردي في جميع الأحكام ما جاء في بعض روايات الحديث في المجامع في رمضان ، فإن في بعض الروايات أنه أعرابي ، وفي بعضها أنه جاء ينتف شعره ويضرب صدره ، والقاعدة المقررة في الأصول : أن المثال لا يعترض ; لأن المراد منه بيان القاعدة ، ويكفي فيه الفرض ومطلق الاحتمال ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :



والشأن لا يعترض المثال إذ قد كفى الغرض والاحتمال



فإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن كونه أعرابيا ، وكونه جاء يضرب صدره وينتف شعره من أوصاف المحل في هذا الحكم ، وهي أوصاف يجب إبطالها وعدم تعليل وجوب الكفارة بها ; لأنها أوصاف طردية لا تحصل من إناطة الحكم بها فائدة أصلا ، فالأعرابي وغيره في ذلك سواء ، ومن جاء في سكينة ووقار ومن جاء يضرب صدره وينتف شعره في ذلك سواء أيضا ، ومثال الإبطال بكون الوصف طرديا في الباب الذي فيه النزاع دون غيره ، حديث " من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد . . . " الحديث ، وهو متفق عليه من حديث ابن عمر ، وقد قدمناه في سورة " الإسراء والكهف " فلفظ العبد الذكر في هذا الحديث وصف طردي ، فمن أعتق شركا له في أمة فكذلك ; لأنه عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تناط بهما أحكام العتق ، وإن كانت الذكورة والأنوثة غير طرديين في غير العتق كالميراث والشهادة كما تقدم ، والوصف الطردي في اصطلاح أهل الأصول : هو ما علم من الشرع إلغاؤه وعدم اعتباره ; لأنه ليس في إناطة الحكم به مصلحة أصلا فهو خال من المناسبة ، ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر ألا تظهر للوصف مناسبة ، والمناسبة في اصطلاح أهل الأصول : هي كون إناطة الحكم بالوصف تترتب عليها مصلحة فعدم المناسبة المذكورة من طرق إبطاله في مسلك السبر ، وإن كان عدم ظهور المناسبة في الوصف لا يبطله في بعض المسالك - غير السبر - كالإيماء على الأصح والدوران ، فالأحوال ثلاثة :

الأول : أن تظهر المناسبة ، وظهورها لا بد منه في مسلك السبر ومسلك المناسبة والإخالة .

الثاني : ألا تظهر المناسبة ولا عدمها ، وهذا يكفي في الدوران والإيماء على الصحيح .

[ ص: 499 ] الثالث : أن يظهر عدم المناسبة ، فيكون الوصف طرديا كما تقدم قريبا .

ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف ملغى وإن كان مناسبا للحكم المتنازع فيه ، ويكون الإلغاء باستقلال الوصف المستبقى بالحكم دونه في صورة مجمع عليها ، حكاه الفهري ، ومثاله قول الشافعي : إن الكيل والاقتيات ونحو ذلك أوصاف ملغاة بالنسبة إلى تحريم الربا في ملء كف من البر ; لأنه لا يكال ولا يقات لقلته ، فعلة تحريم الربا فيه الطعم لاستقلال علة الطعم بالحكم دون غيرها من الأوصاف في هذه الصورة ، والقصد مطلق التمثيل ، لا مناقشة الأمثلة .

ومن طرق الإبطال بعد ثبوت الحصر كون الوصف الذي أبقاه المستدل متعديا من محل الحكم إلى غيره ، والوصف الذي يريد المعترض إبقاءه قاصر على محل الحكم ، قال صاحب ) الضياء اللامع ( : وذلك يشبه تعارض العلة المتعدية والقاصرة ، وهو كما قال ، ومثاله : اختلاف الأئمة رحمهم الله في علة الكفارة في الإفطار عمدا في نهار رمضان ، فبعضهم يقول : العلة في ذلك خصوص الجماع ، وبعضهم يقول : العلة في ذلك انتهاك حرمة رمضان ، فكون الوصف المعلل به في هذا الحكم الجماع يقتضي عدم التعدي عن محل الحكم إلى غيره ، فلا تكون كفارة إلا في الجماع خاصة ، وكونه في هذا الحكم انتهاك حرمة رمضان يقضي التعدي في محل الحكم إلى غيره ، فتلزم الكفارة في الأكل والشرب عمدا في نهار رمضان بجامع انتهاك حرمة رمضان في الجميع من جماع وأكل وشرب ، فيترجح هذا الوصف بكونه متعديا على الآخر لقصوره على حمل الحكم وقصدنا التمثيل لا مناقشة الأمثلة ، ولا ينافي ما ذكرنا أن يأتي من يقول : العلة الجماع ، بمرجحات أخر لعلته ، وأشار في مراقي السعود إلى طرق الإبطال المذكورة بقوله :



أبطل لما طردا يرى ويبطل غير مناسب له المنخزل
كذلك بالإلغا وإن قد ناسبا ويتعدى وصفه الذي اجتبى

هذا هو حاصل كلام أهل الأصول في المقصود عندهم بهذا الدليل الذي هو السبر والتقسيم .

المسألة الرابعة

اعلم : أن المقصود من هذا الدليل المذكور عند المنطقيين يخالف المقصود منه عند الأصوليين والجدليين ، فالتقسيم عند المنطقيين لا يكون إلا في الأوصاف التي بينها تناف [ ص: 500 ] وتنافر ، وهذا التقسيم هو المعبر عنه عندهم بالشرطي المنفصل ، ومقصودهم من ذكر تلك الأوصاف المتنافية هو أن يستدلوا بوجود بعضها على عدم بعضها ، وبعدمه على وجوده ، وهذا هو المعبر عنه عندهم ) بالاستثناء في الشرطي المنفصل ( وحرف الاستثناء عندهم هو " لكن " والتنافي المذكور بين الأوصاف المذكورة يحصره العقل في ثلاثة أقسام :

لأنه إما أن يكون في الوجود والعدم معا ، أو الوجود فقط ، أو العدم فقط ، ولا رابع ألبتة .

فإن كان في الوجود والعدم معا ، فهي عندهم الشرطية المنفصلة المعروفة بالحقيقية ، وهي مانعة الجميع والخلو معا ، ولا تتركب إلا من النقيضين ، أو من الشيء ومساوي نقيضيه ، وضابطها أن طرفيها لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا ، بل لا بد من وجود أحدهما وعدم الآخر ، وعدم اجتماعهما لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود ، وعدم ارتفاعهما لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم ، وضروبها الأربعة منتجة ، كما لو قلت : العدد إما زوج وإما فرد ، فلو قلت : لكنه زوج أنتج فهو غير فرد ، ولو قلت : لكنه فرد أنتج فهو غير زوج ، ولو قلت : ولكنه غير زوج أنتج فهو فرد ، ولو قلت : لكنه غير فرد أنتج فهو زوج ، وضابط قياسها أنه يرجع إلى الاستدلال بعدم النقيض أو مساويه على وجود النقيض ، أو مساويه كعكسه .

وإن كان التنافر والعناد بين طرفيها في الوجود فقط فهي مانعة الجمع المجوزة للخلو ، ولا يلزم فيها حصر الأوصاف ، ولا تتركب إلا من قضية وأخص من نقيضها ، وضابطها : أن طرفيها لا يجتمعان لما بينهما من المنافرة والعناد في الوجود ، ولا مانع من ارتفاعهما لعدم العناد والمنافرة بينهما في العدم ، ومانعة الجمع المذكورة ينتج من قياسها ضربان ، ويعقم منه ضربان ، ومثالها قولك : الجسم إما أبيض ، وإما أسود ، فإن استثناء عين كل واحد من الطرفين ينتج نقيض الآخر ، بخلاف استثناء نقيض أحدهما فلا ينتج شيئا ، فلو قلت : الجسم إما أبيض وإما أسود لكنه أبيض ، أنتج : فهو غير أسود ، وإن قلت : لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض ، بخلاف ما لو قلت : لكنه غير أبيض فلا ينتج كونه أسود ; لأن غير الأبيض صادق بالأسود وغيره ، وكذلك لو قلت : لكنه غير أسود ، فلا ينتج كونه أبيض لصدق غير الأسود بالأبيض وغيره ، فلا مانع من انتفاء الطرفين وكون جسم غير أبيض وغير أسود ; لأن مانعة الجميع تجوز الخلو من الطرفين بأن يكونا معدومين معا ، وإنما جاز فيها الخلو من الطرفين معا لواحد من سببين .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:19 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (271)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 501 إلى صـ 507




الأول : وجود واسطة أخرى غير طرفي القضية المذكورة ، فقولنا في المثال السابق : الجسم إما أبيض ، وإما أسود يجوز فيه الخلو عن البياض والسواد لوجود واسطة أخرى من الألوان غير السواد والبياض ، كالحمرة والصفرة مثلا ، فالجسم الأحمر مثلا غير أبيض ولا أسود .

السبب الثاني : ارتفاع المحل ، كقولك : الجسم إما متحرك ، وإما ساكن ، فإنه إن انعدم بعض الأجسام التي كانت موجودة ورجع إلى العدم بعد الوجود فإنه يرتفع عنه كل من طرفي القضية المذكورة ، فلا يقال للمعدوم : هو ساكن ولا متحرك ; لأن المعدوم ليس بشيء ، بدليل قوله تعالى : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا [ 19 \ 9 ] ، وقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 67 ] .

وإن كان العناد والمنافرة بين طرفيها في العدم فقط فهي مانعة الخلو المجوزة للجمع ، وهي عكس التي ذكرنا قبلها تصورا وإنتاجا ، ولا تتركب إلا من قضية وأعم من نقيضها ، وضابطها أن طرفيها لا يرتفعان لما بينهما من المنافرة والعناد في العدم ، ولا مانع من اجتماعهما لعدم المنافرة والعناد بينهما في الوجود ، ومثالها : الجسم إما غير أبيض ، وإما غير أسود ، فإن هذا المثال قد يجتمع فيه الطرفان فلا مانع من وجود جسم موصوف بأنه غير أبيض وغير أسود ، كالأحمر ، فإنه غير أبيض وغير أسود ، ولكنه لا يمكن بحال وجود جسم خال من طرفي هذه القضية التي مثلنا بها ، فيكون خاليا من كونه غير أبيض وغير أسود ; لأنك إذا نفيت غير أبيض أثبت أنه أبيض ; لأن نفي النفي إثبات ، وإذا أثبت أنه أبيض استحال ارتفاع الطرف الثاني الذي هو غير أسود ; لأن الأبيض موصوف ضرورة بأنه غير أسود ، وهكذا في الطرف الآخر ، لأنك إذا نفيت غير أسود أثبت أنه أسود ، وإذا أثبت أنه أسود لزم ضرورة أنه غير أبيض ، وهو عين الآخر من طرفي القضية المذكورة ، وقياس هذه ينتج منه الضربان العقيمان في قياس التي قبلها ، ويعقم منه الضربان المنتجان في قياس التي قبلها ، فتبين أن استثناء نقيض كل واحد من الطرفين في قياس هذه الأخيرة ينتج عين الآخر ، وأن استثناء عين الواحد منهما لا ينتج شيئا .

فقولنا في المثال السابق : الجسم إما غير أبيض وإما غير أسود ، لو قلت فيه : لكنه أبيض ، أنتج ، فهو غير أسود ، ولو قلت : لكنه أسود أنتج فهو غير أبيض ، بخلاف ما لو قلت : لكنه غير أبيض ، فلا ينتج نفي الطرف الآخر ولا وجوده ; لأن غير الأبيض يجوز أن يكون أسود ، ويجوز أن يكون غير أسود بل أحمر أو أصفر ، وكذلك لو قلت : لكنه غير [ ص: 502 ] أسود ، لم يلزم منه نفي الطرف الآخر ولا إثباته ; لأن غير الأسود يجوز أن يكون أبيض وغير أبيض لكونه أحمر مثلا .

هذه خلاصة موجزة عن هذا الدليل المذكور في نظر المنطقيين .
المسألة الخامسة

اعلم أن لهذا الدليل آثارا تاريخية ، وسنذكر هنا إن شاء الله بعضها .

فمن ذلك أن هذا الدليل العظيم جاء في التاريخ أنه أول سبب لضعف المحنة العظمى على المسلمين في عقائدهم بالقول بخلق القرآن العظيم ، وذلك أن محنة القول بخلق القرآن نشأت في أيام المأمون ، واستفحلت جدا في أيام المعتصم ، واستمرت على ذلك في أيام الواثق ، وهي في جميع ذلك التاريخ قائمة على ساق وقدم .

ومعلوم ما وقع فيها من قتل بعض أهل العلم الأفاضل وتعذيبهم ، واضطرار بعضهم إلى المداهنة بالقول خوفا .

ومعلوم ما وقع فيها لسيد المسلمين في زمنه " الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل " - تغمده الله برحمته الواسعة ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا - من الضرب المبرح أيام المعتصم ، وقد جاء أن أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة وكبح جماحها هو هذا الدليل العظيم .

قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد في الكلام على ترجمة " أحمد بن أبي دؤاد " : أخبرنا محمد بن الفرج بن علي البزار ، أخبرنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي ، حدثنا جعفر بن شعيب الشاشي ، حدثني محمد بن يوسف الشاشي ، حدثني إبراهيم بن منبه قال : سمعت طاهر بن خلف يقول : سمعت محمد بن الواثق الذي يقال له المهتدي بالله يقول : كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا ذلك المجلس ، فأتي بشيخ مخضوب مقيد فقال أبي : ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه ) يعني ابن أبي دؤاد ( قال : فأدخل الشيخ والواثق في مصلاه فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، فقال له : لا سلم الله عليك فقال : يا أمير المؤمنين ، بئس ما أدبك مؤدبك ، قال الله تعالى : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ 4 \ 86 ] ، والله ما حييتني بها ولا بأحسن منها ، فقال ابن أبي دؤاد : يا أمير المؤمنين ، الرجل متكلم ، فقال له : كلمه ، فقال : يا شيخ ، ما تقول في القرآن ؟ قال الشيخ : لم تنصفني - يعني ولي السؤال - فقال له : سل : فقال [ ص: 503 ] له الشيخ : ما تقول في القرآن ؟ فقال : مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والخلفاء الراشدون ، أم شيء لم يعلموه ؟ فقال : شيء لم يعلموه ، فقال : سبحان الله شيء لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي ، ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ ! قال : فخجل ، فقال : أقلني والمسألة بحالها ، قال : نعم ، قال : ما تقول في القرآن ؟ فقال مخلوق ، فقال : هذا شيء علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون أو لم يعلموه ؟ فقال : علموه ولم يدعوا الناس إليه ، قال : أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ! قال : ثم قام أبي فدخل مجلس الخلوة واستلقى على قفاه ووضع إحدى رجليه على الأخرى وهو يقول : هذا شيء لم يعلمه النبي ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا الخلفاء الراشدون ، علمته أنت ؟ سبحان الله ، شيء علمه النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، والخلفاء الراشدون ولم يدعوا الناس إليه أفلا وسعك ما وسعهم ؟ ثم دعا عمارا الحاجب ، فأمره أن يرفع عنه القيود ويعطيه أربعمائة دينار ، ويأذن له في الرجوع ، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد ، ولم يمتحن بعد ذلك أحدا . انتهى منه .

وذكر ابن كثير في تاريخه هذه القصة عن الخطيب البغدادي ، ولما انتهى من سياقها قال : ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف . اهـ .

ويستأنس لهذه القصة بما ذكره الخطيب وغيره : من أن الواثق تاب من القول بخلق القرآن .

قال ابن كثير في البداية والنهاية : قال الخطيب : وكان ابن أبي دؤاد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ، ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن : قال : ويقال إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته ، فأخبرني عبد الله بن أبي الفتح ، أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن ، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة ، حدثني حامد بن العباس ، عن رجل عن المهتدي : أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن ، وعلى كل حال فهذه القصة لم تزل مشهورة عند العلماء صحيحة الاحتجاج ، فيها إلقام الخصم الحجر .

وحاصل هذه القصة التي ألقم بها هذا الشيخ - الذي كان مكبلا بالقيود يراد قتله - أحمد بن أبي دؤاد حجرا ، هو هذا الدليل العظيم الذي هو السبر والتقسيم . فكان الشيخ المذكور يقول لابن أبي دؤاد : مقالتك هذه التي تدعو الناس إليها لا تخلو بالتقسيم الصحيح من أحد أمرين : إما أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون عالمين بها أو غير [ ص: 504 ] عالمين بها ولا واسطة بين العلم وغيره ، فلا قسم ثالث ألبتة ، ثم إنه رجع بالسبر الصحيح إلى القسمين المذكورين فبين أن السبر الصحيح يظهر أن أحمد بن أبي دؤاد ليس على كل تقدير من التقديرين .

أما على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عالما بها هو وأصحابه ، وتركوا الناس ولم يدعوهم إليها ، فدعوة ابن أبي دؤاد إليها مخالفة لما كان عليه النبي وأصحابه من عدم الدعوة لها ، وكان يسعه ما وسعهم .

وأما على كون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه غير عالمين بها ، فلا يمكن لابن أبي دؤاد أن يدعي أنه عالم بها مع عدم علمهم بها ، فظهر ضلاله على كل تقدير ، ولذلك سقط من عين الواثق ، وترك الواثق لذلك امتحان أهل العلم ، فكان هذا الدليل العظيم أول مصدر تاريخي لضعف هذه المحنة الكبرى ، حتى أزالها الله بالكلية على يد المتوكل رحمه الله ، وفي هذا منقبة تاريخية عظيمة لهذا الدليل المذكور .

ومن آثار هذا الدليل التاريخية ما ذكره بعض المؤرخين ، من أن عبد الله بن همام السلولي وشى به واش إلى عبيد الله بن زياد ، فأدخل ابن زياد الواشي في محل قريب من مجلسه ، ثم نادى ابن همام السلولي وقال له : ما حملك على أن تقول في كذا وكذا ؟ ! فقال السلولي : أصلح الله الأمير والله ما قلت شيئا من ذلك ، فأخرج ابن زياد الواشي ، وقال : هذا أخبرني أنك قلت ذلك ، فسكت ابن همام هنيهة ثم قال مخاطبا للواشي :



وأنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا فخنت وإما قلت قولا بلا علم فأنت من الأمر الذي كان بيننا
بمنزلة بين الخيانة والإثم فقال ابن زياد : صدقت . وطرد الواشي .

وحاصل هذين البيتين الذين طرد بهما ابن زياد الواشي ولم يتعرض للسلولي بسوء بسببهما ، هو هذا الدليل العظيم المذكور ، فكأنه يقول له : لا يخلو قولك هذا من أحد أمرين : إما أن أكون ائتمنتك على سر فأفشيته ، وإما أن تكون قلته علي كذبا ، ثم رجع بالسبر إلى القسمين المذكورين فبين أن الواشي مرتكب ما لا ينبغي على كل تقدير من التقديرين ; لأنه إذا كان ائتمنه على سر فأفشاه فهو خائن له ، وإن كان قال عليه ذلك كذبا وافتراء فالأمر واضح .
المسألة السادسة

اعلم : أن هذا الدليل التاريخي العظيم يوضح غاية الإيضاح موقف المسلمين [ ص: 505 ] الطبيعي من الحضارة الغربية ، وبذلك الإيضاح التام يتميز النافع من الضار ، والحسن من القبيح ، والحق من الباطل ، وذلك أن الاستقراء التام القطعي دل على أن الحضارة الغربية المذكورة تشتمل على نافع وضار : أما النافع منها فهو من الناحية المادية ، وتقدمها في جميع الميادين المادية أوضح من أن أبينه ، وما تضمنته من المنافع للإنسان أعظم مما كان يدخل تحت التصور ، فقد خدمت الإنسان خدمات هائلة من حيث إنه جسد حيواني ، وأما الضار منها فهو إهمالها بالكلية للناحية التي هي رأس كل خير ، ولا خير ألبتة في الدنيا بدونها ، وهي التربية الروحية للإنسان وتهذيب أخلاقه ، وذلك لا يكون إلا بنور الوحي السماوي الذي يوضح للإنسان طريق السعادة ، ويرسم له الخطط الحكيمة في كل ميادين الحياة الدنيا والآخرة ، ويجعله على صلة بربه في كل أوقاته .

فالحضارة الغربية غنية بأنواع المنافع من الناحية الأولى ، مفلسة إفلاسا كليا من الناحية الثانية .

ومعلوم أن طغيان المادة على الروح يهدد العالم أجمع بخطر داهم ، وهلاك مستأصل ، كما هو مشاهد الآن ، وحل مشكلته لا يمكن ألبتة إلا بالاستضاءة بنور الوحي السماوي الذي هو تشريع خالق السماوات والأرض ; لأن من أطغته المادة حتى تمرد على خالقه ورازقه لا يفلح أبدا .

والتقسيم الصحيح يحصر أوصاف المحل الذي هو الموقف من الحضارة الغربية في أربعة أقسام لا خامس لها ، حصرا عقليا لا شك فيه :

الأول : ترك الحضارة المذكورة نافعها وضارها .

الثاني : أخذها كلها ضارها ونافعها .

الثالث : أخذ ضارها وترك نافعها .

الرابع : أخذ نافعها وترك ضارها .

فنرجع بالسبر الصحيح إلى هذه الأقسام الأربعة ، فنجد ثلاثة منها باطلة بلا شك ، وواحدا صحيحا بلا شك .

أما الثلاثة الباطلة : فالأول منها تركها كلها ، ووجه بطلانه واضح ; لأن عدم الاشتغال بالتقدم المادي يؤدي إلى الضعف الدائم ، والتواكل والتكاسل ، ويخالف الأمر السماوي في قوله جل وعلا : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة الآية [ 18 \ 60 ] .



لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم [ ص: 506 ] القسم الثاني من الأقسام الباطلة أخذها ; لأن ما فيها من الانحطاط الخلقي وضياع الروحية والمثل العليا للإنسانية أوضح من أن أبينه ، ويكفي في ذلك ما فيها من التمرد على نظام السماء ، وعدم طاعة خالق هذا الكون جل وعلا : آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] ، والقسم الثالث من الأقسام الباطلة هو أخذ الضار وترك النافع ، ولا شك أن هذا لا يفعله من له أقل تمييز ، فتعينت صحة القسم الرابع بالتقسيم والسبر الصحيح ، وهو أخذ النافع وترك الضار .

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يفعل ، فقد انتفع بحفر الخندق في غزوة الأحزاب ، مع أن ذلك خطة عسكرية كانت للفرس ، أخبره بها سلمان فأخذ بها ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها للكفار ، وقد هم صلى الله عليه وسلم بأن يمنع وطء النساء المراضع خوفا على أولادهن ; لأن العرب كانوا يظنون أن الغيلة - وهي وطء المرضع - تضعف ولدها وتضره ، ومن ذلك قول الشاعر :



فوارس لم يغالوا في رضاع فتنبو في أكفهم السيوف
فأخبرته صلى الله عليه وسلم فارس والروم بأنهم يفعلون ذلك ولا يضر أولادهم ، فأخذ صلى الله عليه وسلم منهم تلك الخطة الطبية ، ولم يمنعه من ذلك أن أصلها من الكفار .

وقد انتفع صلى الله عليه وسلم بدلالة ابن الأريقط الدؤلي له في سفر الهجرة على الطريق ، مع أنه كافر .

فاتضح من هذا الدليل أن الموقف الطبيعي للإسلام والمسلمين من الحضارة الغربية هو أن يجتهدوا في تحصيل ما أنتجته من النواحي المادية ، ويحذروا مما جنته من التمرد على خالق الكون جل وعلا فتصلح لهم الدنيا والآخرة ، والمؤسف أن أغلبهم يعكسون القضية ، فيأخذون منها الانحطاط الخلقي ، والانسلاخ من الدين ، والتباعد من طاعة خالق الكون ، ولا يحصلون على نتيجة مما فيها من النفع المادي ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين .

وما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل وقد قدمنا طرفا نافعا في كون الدين لا ينافي التقدم المادي في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، فأغنى ذلك [ ص: 507 ] عن إعادته هنا ، وقد عرف في تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم كانوا يسعون في التقدم في جميع الميادين مع المحافظة على طاعة خالق السموات والأرض جل وعلا .

وأظهر الأقوال عندي في معنى العهد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، أن المعنى : أم أعطاه الله عهدا أنه سيفعل له ذلك ، بدليل قوله تعالى في نظيره في سورة " البقرة " : قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده [ 2 \ 80 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وقيل : العهد المذكور : العمل الصالح ، وقيل شهادة أن لا إله إلا الله .
قوله تعالى : سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا ونرثه ما يقول ويأتينا فردا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه سيكتب ما قاله ذلك الكافر افتراء عليه ، من أنه يوم القيامة يؤتى مالا وولدا مع كفره بالله ، وأنه يمد له من العذاب مدا ، قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] أي : نزيده عذابا فوق عذاب ، وقال الزمخشري في الكشاف : ونمد له من العذاب مدا أي : نطول له من العذاب ما يستأهله ، ونعذبه بالنوع الذي يعذب به المستهزئون ، أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد ، يقال : مده وأمده ، بمعنى ، وتدل عليه قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه " ونمد له " ، بالضم .

وأكد ذلك بالمصدر ، وذلك من فرط غضب الله ، نعوذ به من التعرض لما يستوجب غضبه . اهـ .

وأصل المدد لغة : الزيادة ، ويدل لذلك المعنى قوله تعالى في أكابر الكفار الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله : زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] ، وقوله في الأتباع والمتبوعين : قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون [ 7 \ 38 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:26 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (272)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 508 إلى صـ 514



وقوله في هذه الآية : ونرثه ما يقول [ 19 \ 80 ] ، أي : ما يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من مال وولد ، أي : نسلبه منه في الدنيا ما أعطيناه من المال والولد بإهلاكنا إياه ، وقيل : نحرمه ما تمناه من المال والولد في الآخرة ، ونجعله للمسلمين ، ويدل للمعنى الأول قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون [ 19 \ 40 ] ، وقوله : وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون [ 15 \ 23 ] ، كما تقدم إيضاحه في [ ص: 508 ] هذه السورة الكريمة .

وقوله : ويأتينا فردا ، أي : منفردا لا مال له ولا ولد ولا خدم ولا غير ذلك ، كما قال تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة الآية [ 6 \ 94 ] ، وقال تعالى : وكلهم آتيه يوم القيامة فردا [ 19 \ 95 ] كما تقدم إيضاحه .

فإن قيل : كيف عبر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بحرف التنفيس الدال على الاستقبال في قوله : سنكتب ما يقول مع أن ما يقوله الكافر يكتب بلا تأخير ، بدليل قوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] .

فالجواب : أن الزمخشري في كشافه تعرض للجواب عن هذا السؤال بما نصه : .

قلت : فيه وجهان ، أحدهما : سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله ، على طريقة قول زائد بن صعصعة الفقعسي :



إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ولم تجدي من أن تقري بها بدا أي : تبين وعلم بالانتساب أني لست بابن لئيمة .

والثاني : أن المتوعد يقول للجاني : سوف أنتقم منك ، يعني أنه لا يخل بالانتصار وإن تطاول به الزمان واستأخر ، فجردها هنا لمعنى الوعيد . انتهى منه بلفظه ، إلا أنا زدنا اسم قائل البيت وتكملته .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يكتب ما يقول هذا الكافر ، ذكر نحوه في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله تعالى : قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون [ 10 \ 21 ] وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] وقوله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 19 ] وقوله تعالى : سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق [ 3 \ 181 ] ، وقوله تعالى : كلا بل تكذبون بالدين وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 9 - 11 ] وقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [ 18 \ 49 ] ، وقوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 509 ] قوله تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار المتقدم ذكرهم في قوله : ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 \ 72 ] ، اتخذوا من دون الله آلهة أي معبودات من أصنام وغيرها يعبدونها من دون الله ، وأنهم عبدوهم لأجل أن يكونوا لهم عزا ، أي : أنصارا وشفعاء ينقذونهم من عذاب الله ، كما أوضح تعالى مرادهم ذلك في قوله : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى [ 39 \ 3 ] ، فتقريبهم إياهم إلى الله زلفى في زعمهم هو عزهم الذي أملوه بهم ، وكقوله تعالى عنهم : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية [ 10 \ 18 ] ، فالشفاعة عند الله عز لهم بهم يزعمونه كذبا وافتراء على الله ، كما بينه بقوله تعالى : قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : كلا ، زجر وردع لهم عن ذلك الظن الفاسد الباطل ، أي : ليس الأمر كذلك ، لا تكون المعبودات التي عبدتم من دون الله عزا لكم ، بل تكون بعكس ذلك ، فتكون عليكم ضدا ، أي : أعوانا عليكم في خصومتكم وتكذيبكم والتبرؤ منكم ، وأقوال العلماء في الآية تدور حول هذا الذي ذكرنا ، كقول ابن عباس : ضدا أي : أعوانا ، وقول الضحاك : ضدا ، أي : أعداء ، وقول قتادة : ضدا ، أي : قرناء في النار يلعن بعضهم بعضا ، وكقول ابن عطية : ضدا يجيئهم منهم خلاف ما أملوه فيئول بهم ذلك إلى الذل والهوان ، ضد ما أملوه من العز .

وهذا المعنى الذي ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، بينه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] ، وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 13 - 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وضمير الفاعل في قوله : سيكفرون فيه وجهان للعلماء ، وكلاهما يشهد له قرآن ، إلا أن لأحدهما قرينة ترجحه على الآخر .

[ ص: 510 ] الأول : أن واو الفاعل في قوله : سيكفرون ، راجعة إلى المعبودات التي كانوا يعبدونها من دون الله ، أما العاقل منها فلا إشكال فيه ، وأما غير العاقل فالله قادر على أن يخلق له إدراكا يخاطب به من عبده ويكفر به بعبادته إياه ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى عنهم : تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون [ 28 \ 63 ] ، وقوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون [ 16 \ 86 ] ، وقوله تعالى : وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ 10 \ 28 - 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

الوجه الثاني : أن العابدين هم الذين يكفرون بعبادتهم شركاءهم وينكرونها ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله عنهم : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا الآية [ 40 \ 74 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والقرينة المرجحة للوجه الأول ، أن الضمير في قوله : ويكونون ، راجع للمعبودات ، وعليه فرجوع الضمير في يكفرون للمعبودات أظهر ; لانسجام الضمائر بعضها مع بعض .

أما على القول الثاني : فإنه يكون ضمير يكفرون للعابدين ، وضمير يكونون للمعبودين ، وتفريق الضمائر خلاف الظاهر ، والعلم عند الله تعالى .

وقول من قال من العلماء : إن كلا في هذه الآية متعلقة بما بعدها لا بما قبلها ، وأن المعنى : كلا سيكفرون ، أي : حقا سيكفرون بعبادتهم - محتمل ، ولكن الأول أظهر منه وأرجح ، وقائله أكثر ، والعلم عند الله تعالى ، وفي قوله : كلا قراءات شاذة تركنا الكلام عليها لشذوذها .

وقوله في هذه الآية : ليكونوا لهم عزا ، أفرد فيه العز مع أن المراد الجمع ; لأن أصله مصدر على حد قوله في الخلاصة :

ونعتوا بمصدر كثير فالتزموا الإفراد والتذكير والإخبار بالمصدر يجري على حكم النعت به ، وقوله : ضدا مفردا أيضا أريد به الجمع ، قال ابن عطية : لأنه مصدر في الأصل ، حكاه عنه أبو حيان في البحر ، وقال [ ص: 511 ] الزمخشري : الضد : العون ، وحد توحيد قوله عليه السلام ، " هم يد على من سواهم " لاتفاق كلمتهم ، وأنهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم .
قوله تعالى : ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا .

قوله : أرسلنا الشياطين الآية [ 19 \ 83 ] ، أي : سلطناهم عليهم وقيضناهم لهم ، وهذا هو الصواب ، خلافا لمن زعم أن معنى أرسلنا الشياطين الآية ، أي : خلينا بينهم وبينهم ، ولم نعصمهم من شرهم ، يقال : أرسلت البعير ، أي : خليته .

وقوله : تؤزهم أزا : الأز والهز والاستفزاز بمعنى ، ومعناها التهييج وشدة الإزعاج ، فقوله : تؤزهم أزا ، أي : تهيجهم وتزعجهم إلى الكفر والمعاصي .

وأقوال أهل العلم في الآية راجعة إلى ما ذكرنا : كقول ابن عباس تؤزهم أزا ، أي : تغريهم إغراء " ، وكقول مجاهد تؤزهم أزا ، أي : تشليهم إشلاء ، وكقول قتادة تؤزهم أزا أي : تزعجهم إزعاجا .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه سلط الشياطين على الكافرين ، وقيضهم لهم يضلونهم عن الحق بينه في مواضع أخر من كتابه ، كقوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم الآية [ 41 \ 25 ] ، وقوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل الآية [ 43 \ 36 ] وقوله تعالى : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس الآية [ 6 \ 128 ] وقوله : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا .

قوله : فلا تعجل عليهم [ 19 \ 84 ] ، أي : لا تستعجل وقوع العذاب بهم فإن الله حدد له أجلا معينا معدودا ، فإذا انتهى ذلك الأجل جاءهم العذاب ، فقوله : إنما نعد لهم عدا ، أي : نعد الأعوام والشهور والأيام التي دون وقت هلاكهم ، فإذا جاء الوقت المحدد لذلك أهلكناهم ، والعرب تقول : عجلت عليه بكذا : إذا استعجلته منه .

ومما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن هلاك الكفار حدد له أجل معدود ذكره في مواضع كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى : [ ص: 512 ] ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار [ 46 \ 35 ] وقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب الآية [ 29 \ 53 ] وقوله : وما نؤخره إلا لأجل معدود [ 11 \ 104 ] وقوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه [ 11 \ 8 ] وقوله : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] وقوله تعالى : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] ، وقوله : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار الآية [ 2 \ 126 ] ، وقوله : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وروي أن المأمون قرأ هذه السورة الكريمة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء ، فأشار إلى ابن السماك أن يعظه ، فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ، ولم يكن لها مدد ، فما أسرع ما تنفد .

والأظهر في الآية هو ما ذكرنا من أن العد المذكور عد الأعوام والأيام والشهور من الأجل المحدد .

وقال بعض أهل العلم : هو عد أنفاسهم ، كما أشار إليه ابن السماك في موعظته للمأمون التي ذكرنا إن صح ذلك ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما " أنه كان إذا قرأها بكى ، وقال : آخر العدد خروج نفسك ، آخر العدد : فراق أهلك ، آخر العدد : دخول قبرك " .

وقال بعض أهل العلم : إنما نعد لهم عدا أي : نعد أعمالهم لنجازيهم عليها ، والظاهر هو ما قدمنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المتقين الذين كانوا يتقونه في دار الدنيا بامتثال أمره واجتناب نهيه يحشرون إليه يوم القيامة في حال كونهم وفدا ، والوفد على التحقيق : جمع وافد كصاحب وصحب ، وراكب وركب ، وقدمنا في سورة " النحل " أن التحقيق أن الفعل بفتح فسكون من صيغ جموع الكثرة للفاعل وصفا ، وبينا شواهد ذلك من العربية ، وإن أغفله الصرفيون ، والوافد : من يأتي إلى الملك مثلا إلى أمر له شأن ، وجمهور المفسرين على أن معنى قوله : وفدا [ 19 \ 85 ] ، أي : ركبانا ، وبعض العلماء يقول : هم ركبان على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة ، وبعضهم يقول : [ ص: 513 ] يحشرون ركبانا على صور من أعمالهم الصالحة في الدنيا في غاية الحسن وطيب الرائحة .

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحا ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أما تعرفني ؟ فيقول : لا إلا أن الله قد طيب ريحك ، وحسن وجهك ، فيقول : أنا عملك الصالح ، وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه ، فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني ، فذلك قوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : ركبانا " ، وقال ابن جرير : حدثني ابن المثنى ، حدثني ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : على الإبل ، وقال ابن جريج : على النجائب ، وقال الثوري : على الإبل النوق ، وقال قتادة يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا قال : إلى الجنة ، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثنا سويد بن سعيد ، أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق ، حدثنا النعمان بن سعد قال : كنا جلوسا عند علي رضي الله عنه فقرأ هذه الآية : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، قال : والله ما على أرجلهم يحشرون ، ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ! ! وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به ، وزاد " عليها رحائل من ذهب ، وأزمتها الزبرجد . " والباقي مثله ، وروى ابن أبي حاتم هنا حديثا غريبا جدا مرفوعا عن علي قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي ، حدثنا سلمة بن جعفر البجلي ، سمعت أبا معاذ البصري يقول : إن عليا كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ، فقال : ما أظن الوفد إلا الركب يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون - أو : يؤتون - بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحائل الذهب ، شراك نعالهم نور يتلألأ ، كل خطوة منها مد البصر ، فينتهون إلى شجرة ينبع من أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ، ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا أشعارهم بعدها أبدا ، وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون - أو : فيأتون - باب الجنة فإذا حلقة من ياقوت [ ص: 514 ] حمراء على صفائح الذهب ، فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين يا علي ، فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل فتبعث قيمها ليفتح له فإذا رآه خر له ) قال سلمة : أراه قال ساجدا ( فيقول : ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك ، فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه . " إلى آخر الحديث بطوله ، وفي آخر السياق : هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعا ، وقد رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه ، وهو أشبه بالصحة ، والله أعلم . اهـ .

وركوبهم المذكور إنما يكون من المحشر إلى الجنة ، أما من القبر فالظاهر أنهم يحشرون مشاة ، بدليل حديث ابن عباس الدال على أنهم يحشرون حفاة عراة غرلا ، هذا هو الظاهر وجزم به القرطبي ، والله تعالى أعلم .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] ، السوق معروف ، والمجرمون : جمع تصحيح للمجرم ، وهو اسم فاعل الإجرام ، والإجرام : ارتكاب الجريمة ، وهي الذنب الذي يستحق صاحبه به النكال والعذاب ، ولم يأت الإجرام في القرآن إلا من " أجرم " الرباعي على وزن أفعل ، ويجوز إتيانه في اللغة بصيغة الثلاثي فتقول : جرم يجرم كضرب يضرب ، والفاعل منه جارم ، والمفعول مجروم ، كما هو ظاهر ، ومنه قول عمرو بن البراقة النهمي :

وننصر مولانا ونعلم أنه كما الناس مجروم عليه وجارم وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وردا ، أي : عطاشا ، وأصل الورد : الإتيان إلى الماء ، ولما كان الإتيان إلى الماء لا يكون إلا من العطش أطلق هنا اسم الورد على الجماعة العطاش ، أعاذنا الله والمسلمين من العطش في الآخرة والدنيا ، ومن إطلاق الورد على المسير إلى الماء قول الراجز يخاطب ناقته :



ردي ردي ورد قطاة صما كدرية أعجبها برد الما واختلف العلماء في العامل الناصب لقوله : يوم نحشر المتقين ، فقيل منصوب بـ يملكون بعده ، أي : لا يملكون الشفاعة يوم نحشر المتقين ، واختاره أبو حيان في البحر ، وقيل : منصوب بـ " اذكر " أو احذر ، مقدرا ، وفيه أقوال غير ذلك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:30 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (273)
سُورَةُ مَرْيَمَ
صـ 515 إلى صـ 519



وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى في سورة " الزمر " : [ ص: 515 ] وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 71 - 73 ] .
قوله تعالى : لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 87 ] .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون في الآية وجهان أو أوجه من التفسير كلها حق ، وكل واحد منها يشهد له قرآن ، فإنا نذكر الجميع وأدلته من كتاب الله تعالى ; لأنه كله حق ، فإذا علمت ذلك فاعلم أن هذه الآية الكريمة من ذلك النوع ، قال بعض أهل العلم : الواو في قوله : لا يملكون راجعة إلى المجرمين المذكورين في قوله : ونسوق المجرمين إلى جهنم أي : لا يملك المجرمون الشفاعة ، أي : لا يستحقون أن يشفع فيهم شافع يخلصهم مما هم فيه من الهول والعذاب .

وهذا الوجه من التفسير تشهد له آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، وقوله تعالى : فما لنا من شافعين ولا صديق حميم [ 26 \ 100 - 101 ] وقوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع الآية [ 40 \ 18 ] وقوله : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] مع قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وهذا الوجه يفهم منه بالأحرى أن المجرمين لا يشفعون في غيرهم ; لأنهم إذا كانوا لا يستحقون أن يشفع فيهم غيرهم لكفرهم فشفاعتهم في غيرهم ممنوعة من باب أولى ، وعلى كون الواو في لا يملكون راجعة إلى المجرمين فالاستثناء منقطع و " من " في محل نصب ، والمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يملكون الشفاعة ، أي : بتمليك الله إياهم وإذنه لهم فيملكون الشفاعة بما ذكرنا ويستحقها به المشفوع لهم ، قال تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] وقال : ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] وقال : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ 53 \ 26 ] .

[ ص: 516 ] وقال بعض أهل العلم : الواو في قوله : لا يملكون الشفاعة راجعة إلى " المتقين " ، " والمجرمين " جميعا المذكورين في قوله : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ، وعليه فالاستثناء في قوله : إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 87 ] متصل ، و من بدل من الواو في " لا يملكون " ، أي : لا يملك من جميعهم أحد الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون ، والعهد : العمل الصالح والقول بأنه لا إله إلا الله ، وغيره من الأقوال يدخل في ذلك ، أي : إلا المؤمنون فإنهم يشفع بعضهم في بعض ، كما قال تعالى : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا [ 20 \ 109 ] ، وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن المعبودات التي يعبدونها من دون الله لا تملك الشفاعة ، وأن من شهد بالحق يملكها بإذن الله له في ذلك ، وهو قوله تعالى : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق الآية [ 43 \ 86 ] ، أي : لكن من شهد بالحق يشفع بإذن الله له في ذلك ، وقال تعالى : ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء الآية [ 30 \ 12 - 13 ] وقال تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم الآية [ 10 \ 18 ] ، والأحاديث في الشفاعة وأنواعها كثيرة معروفة ، والعلم عند الله تعالى .

وفي إعراب جملة لا يملكون وجهان ، الأول : أنها حالية ، أي : نسوق المجرمين إلى جهنم في حال كونهم لا يملكون الشفاعة ، أو : نحشر المتقين ونسوق المجرمين في حال كونهم لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ منهم عند الرحمن عهدا ، والثاني أنها مستأنفة للإخبار ، حكاه أبو حيان في البحر ، ومن أقوال العلماء في العهد المذكور في الآية : أنه المحافظة على الصلوات الخمس ، واستدل من قال ذلك بحديث عبادة بن الصامت الذي قدمناه عند الكلام على قوله تعالى فخلف من بعدهم خلف الآية [ 19 \ 59 ] .

وقال بعضهم : العهد المذكور : هو أن يقول العبد كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمدا عبدك ورسولك ، فلا تكلني إلى نفسي ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تباعدني من الخير وتقربني من الشر ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، [ ص: 517 ] فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع الله عليها طابعا ووضعها تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الله عهد ؟ فيقوم فيدخل الجنة . انتهى ، ذكره القرطبي بهذا اللفظ مرفوعا عن ابن مسعود ، وذكر صاحب الدر المنثور أنه أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن مسعود موقوفا عليه ، وليس فيه قوله : فإذا قال ذلك . . . إلخ ، وذكر صاحب الدر المنثور أيضا : أن الحكيم الترمذي أخرج نحوه مرفوعا عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، والظاهر أن المرفوع لا يصح ، والذي يظهر لي أن العهد في الآية يشمل الإيمان بالله وامتثال أمره واجتناب نهيه ، خلافا لمن زعم أن العهد في الآية كقول العرب : عهد الأمير إلى فلان بكذا ، أي : أمره به ، أي : لا يشفع إلا من أمره الله بالشفاعة ، فهذا القول ليس صحيحا في المراد بالآية وإن كان صحيحا في نفسه ، وقد دلت على صحته آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، وقوله : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى [ 53 \ 26 ] ، وقوله : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [ 34 \ 23 ] ، وقوله : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن الآية [ 20 \ 109 ] ، وقوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا الآيات [ 2 \ 116 ] ، وقد تكلمنا عليها وعلى الآيات التي بمعناها في القرآن في مواضع متعددة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا الآية .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر في القرآن لفظ عام ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، وقد قدمنا أمثلة متعددة لذلك ، فإذا علمت ذلك فاعلم أنه جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكر أنه سيجعل لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ودا ، أي محبة في قلوب عباده ، وقد صرح في موضع آخر بدخول نبيه موسى عليه السلام وعلى نبينا الصلاة والسلام في هذا العموم ، وذلك في قوله : وألقيت عليك محبة مني الآية [ 20 \ 39 ] ، وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب فلانا فأحبه ، قال : فيحبه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه ، قال : فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل ، فقال يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه ، قال : فيبغضه جبريل ، [ ص: 518 ] ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه ، قال : فيبغضه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض " اهـ .
قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه إنما يسر هذا القرآن بلسان هذا النبي العربي الكريم ، ليبشر به المتقين ، وينذر به الخصوم الألداء ، وهم الكفرة ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر ، أما ما ذكر فيها من تيسير هذا القرآن العظيم فقد أوضحه في مواضع أخر ، كقوله في سورة " القمر " مكررا لذلك : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 32 ] ، وقوله في آخر " الدخان " : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] ، وأما ما ذكر فيها من كونه بلسان هذا النبي العربي الكريم فقد ذكره في مواضع أخر ، كقوله : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] ، وقوله تعالى : الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 12 \ 1 - 2 ] ، وقوله تعالى : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 1 ] ، وقوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : لتبشر به المتقين الآية ، قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة " الكهف " وغيرها فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وأظهر الأقوال في قوله : لدا أنه جمع الألد ، وهو شديد الخصومة ، ومنه قوله تعالى : وهو ألد الخصام [ 2 \ 204 ] ، وقول الشاعر :

أبيت نجيا للهموم كأنني أخاصم أقواما ذوي جدل لدا
قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا [ الآية 98 ] .

" وكم " في هذه الآية الكريمة هي الخبرية ، وهي في محل نصب ; لأنها مفعول أهلكنا ، و من هي المبينة لـ " كم " كما تقدم إيضاحه .

وقوله : هل تحس منهم من أحد ، أي : هل ترى أحدا منهم ، أو تشعر به ، أو تجده أو تسمع لهم ركزا ، أي : صوتا ، وأصل الركز : الصوت الخفي ، ومنه ركز [ ص: 519 ] الرمح : إذا غيب طرفه وأخفاه في الأرض ، ومنه الركاز : وهو دفن جاهلي مغيب بالدفن في الأرض ، ومن إطلاق الركز على الصوت قول لبيد في معلقته :



فتوجست ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها وقول طرفة في معلقته :



وصادقتا سمع التوجس للسرى لركز خفي أو لصوت مندد
وقول ذي الرمة :



إذا توجس ركزا مقفر ندس بنبأة الصوت ما في سمعه كذب
والاستفهام في قوله : هل يراد به النفي ، والمعنى : أهلكنا كثيرا من الأمم الماضية فما ترى منهم أحدا ولا تسمع لهم صوتا ، وما ذكره في هذه الآية من عدم رؤية أشخاصهم ، وعدم سماع أصواتهم ذكر بعضه في غير هذا الموضع ، كقوله في عاد : فهل ترى لهم من باقية [ 69 \ 8 ] ، وقوله فيهم : فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ 46 \ 25 ] ، وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 22 \ 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ طه

[ ص: 3 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : طه .

أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِيهِ عِنْدِي أَنَّهُ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ أَنَّ الطَّاءَ وَالْهَاءَ الْمَذْكُورَتَي ْنِ فِي فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ ، جَاءَتَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ لَا نِزَاعَ فِيهَا فِي أَنَّهُمَا مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ ، أَمَّا الطَّاءُ فَفِي فَاتِحَةِ " الشُّعَرَاءِ " طسم [ 26 1 ] وَفَاتِحَةِ " النَّمْلِ " طس [ 27 1 ] . وَفَاتِحَةِ " الْقَصَصِ " وَأَمَّا الْهَاءُ فَفِي فَاتِحَةِ " مَرْيَمَ " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى كهيعص [ 19 1 ] وَقَدْ قَدَّمَّنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ .

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : قَوْلُهُ طه : مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ . قَالُوا : وَهِيَ لُغَةُ بَنِي عَكِّ بْنِ عَدْنَانَ ، وَبَنِي طَيِّئٍ ، وَبَنِي عُكْلٍ ، قَالُوا : لَوْ قُلْتَ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي عَكِّ : يَا رَجُلُ ، لَمْ يَفْهَمْ أَنَّكَ تُنَادِيهِ حَتَّى تَقُولَ طه ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ التَّمِيمِيِّ :

دَعَوْتُ بِطه فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُوَائِلًا

وَيُرْوَى مُزَايِلًا ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : مَعْنَى ( طه ) بِلُغَةِ عَكٍّ يَا حَبِيبِي ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ . وَقَالَ قُطْرُبٌ : هُوَ بِلُغَةِ طَيِّئٍ ، وَأَنْشَدَ لِيَزِيدَ بْنِ الْمُهَلْهِلِ :



إِنَّ السَّفَاهَةَ طه فِي شَمَائِلِكُمْ لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي الْقَوْمِ الْمَلَاعِينِ


وَيُرْوَى :

إِنَّ السَّفَاهَةَ طه مِنْ خَلَائِقِكُمْ لَا قَدَّسَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْمَلَاعِينِ


وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ مَعْنَى " طه " : يَا رَجُلُ ، ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعَطَاءٌ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَأَبُو مَالِكٍ ، وَعَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَابْنُ أَبْزَى ، وَغَيْرُهُمْ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ . وَذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَاءِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ " طه " يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ يَا مُحَمَّدُ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْهَاءُ مُبْدَلَةٌ مِنَ الْهَمْزَةِ ، وَالْهَمْزَةُ خُفِّفَتْ بِإِبْدَالِهَا أَلِفًا كَقَوْلٍ فِي الْفَرَزْدَقِ :

[ ص: 4 ]

رَاحَتْ بِمُسْلِمَةِ الْبِغَالِ عَشِيَّةً فَارْعَيْ فَزَارَةَ لَا هَنَاكَ الْمَرْتَعُ


ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ ، وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ . وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنَ التَّعَسُّفِ ، وَالْبُعْدِ عَنِ الظَّاهِرِ .

وَفِي قَوْلِهِ طه أَقْوَالٌ أُخَرُ ضَعِيفَةٌ ، كَالْقَوْلِ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الطَّاءَ مِنَ الطَّهَارَةِ ، وَالْهَاءَ مِنَ الْهِدَايَةِ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ : يَا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ ، يَا هَادِيَ الْخَلْقِ إِلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الضَّعِيفَةِ . وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الْآيَةِ هُوَ مَا صَدَّرْنَا بِهِ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ .
قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى

. في قوله تعالى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وجهان من التفسير ، وكلاهما يشهد له قرآن :

الأول أن المعنى : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . أي لتتعب التعب الشديد بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم ، وتحسرك على أن يؤمنوا . وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة ، كقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 8 ] ، وقوله تعالى فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 6 ] وقوله لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 6 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع من هذا الكتاب المبارك .

الوجه الثاني أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بالليل حتى تورمت قدماه ، فأنزل الله ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي تنهك نفسك بالعبادة ، وتذيقها المشقة الفادحة . وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحة . وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله ، كقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 78 ] ، وقوله يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ 2 185 ] . والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:35 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (274)
سُورَةُ طه

صـ 5 إلى صـ 11




ويفهم من قوله : لتشقى أنه أنزل عليه ليسعد . كما يدل له الحديث الصحيح : " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وقد روى الطبراني عن ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الله يقول للعلماء يوم القيامة : " إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي " وقال ابن كثير : إن إسناده جيد ، ويشبه معنى الآية على هذا القول الأخير قوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الآية [ ص: 5 ] [ 73 20 ] . وأصل الشقاء في لغة العرب : العناء ، والتعب ، ومنه قول أبي الطيب :



ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

ومنه قوله تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 117 ] .
وقوله تعالى : إلا تذكرة لمن يخشى .

أظهر الأقوال فيه : أنه مفعول لأجله ، أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة ، أي إلا لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عذابه . والتذكرة : الموعظة التي تلين لها القلوب . فتمتثل أمر الله ، وتجتنب نهيه . وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم ، لأنهم هم المنتفعون بها ، كقوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] ، وقوله : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 11 ] وقوله : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 45 ] . فالتخصيص المذكور في الآيات بمن تنفع فيهم الذكرى لأنهم هم المنتفعون بها دون غيرهم . وما ذكره هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة بينه في غير هذا الموضع كقوله : إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم [ 81 27 - 28 ] ، وقوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 90 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وإعراب إلا تذكرة بأنه بدل من لتشقى لا يصح ، لأن التذكرة ليست بشقاء . وإعرابه مفعولا مطلقا أيضا غير ظاهر . وقال الزمخشري في الكشاف : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى :

ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا ليكون تذكرة . وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون تذكرة حالا ومفعولا له .
قوله تعالى : تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا

.

في قوله تنزيلا أوجه كثيرة من الإعراب ذكرها المفسرون . وأظهرها عندي أنه مفعول مطلق ، منصوب بنزل مضمرة دل عليها قوله : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى أي نزله الله تنزيلا ممن خلق الأرض أي فليس بشعر ، ولا كهانة ، ولا سحر ، ولا أساطير الأولين ، كما دل لهذا المعنى قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 41 ] ، والآيات المصرحة بأن القرآن منزل من رب العالمين كثيرة جدا معروفة ، [ ص: 6 ] كقوله وإنه لتنزيل رب العالمين [ 26 192 ] ، وقوله : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم [ 39 1 ] وقوله : تنزيل من الرحمن الرحيم [ 41 2 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى

.

تقدم إيضاح الآيات الموضحة لهذه الآية وأمثالها في القرآن في سورة الأعراف مستوفى فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى

. خاطب الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة بأنه : إن يجهر بالقول أي يقوله جهرة في غير خفاء ، فإنه جل وعلا يعلم السر وما هو أخفى من السر . وهذا المعنى الذي أشار إليه هنا ذكره في مواضع أخر ، كقوله : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 13 ] ، وقوله : والله يعلم ما تسرون وما تعلنون [ 16 19 ] ، وقوله تعالى : والله يعلم إسرارهم [ 47 26 ] ، وقوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 6 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وفي المراد بقوله في هذه الآية وأخفى أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها قرآن . قال بعض أهل العلم يعلم السر : أي ما قاله العبد سرا وأخفى أي ويعلم ما هو أخفى من السر ، وهو ما توسوس به نفسه . كما قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] . وقال بعض أهل العلم : فإنه يعلم السر : أي ما توسوس به نفسه وأخفى من ذلك ، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله ، كما قال تعالى : ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون [ 23 63 ] ، وكما قال تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 32 ] فالله يعلم ما يسره الإنسان اليوم . وما سيسره غدا . والعبد لا يعلم ما في غد كما قال زهير في معلقته :



وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأخفى صيغة تفضيل كما بينا ، أي [ ص: 7 ] ويعلم ما هو أخفى من السر . وقول من قال : إن " أخفى " فعل ماض بمعنى أنه يعلم سر الخلق ، وأخفى عنهم ما يعلمه هو . كقوله : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 110 ] ظاهر السقوط كما لا يخفى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر أي فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه ، كما قال تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ 7 55 ] ، وقال تعالى : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول [ 7 205 ] . ويوضح هذا المعنى الحديث الصحيح . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال - صلى الله عليه وسلم - : " أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ، ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا بصيرا . إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " .
قوله تعالى : الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه المعبود وحده ، وأن له الأسماء الحسنى . وبين أنه المعبود وحده في آيات لا يمكن حصرها لكثرتها ، كقوله : الله لا إله إلا هو الحي القيوم [ 2 255 ] ، وقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله الآية [ 47 19 ] .

وبين في مواضع أخر أن له الأسماء الحسنى ، وزاد في بعض المواضع الأمر بدعائه بها ، كقوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 180 ] ، وقوله : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 110 ] وزاد في موضع آخر تهديد من ألحد في أسمائه . وهو قوله : وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [ 7 180 ] .

قال بعض العلماء : ومن إلحادهم في أسمائه أنهم اشتقوا العزى من اسم العزيز ، واللات من اسم الله وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة " وقد دل بعض الأحاديث على أن من أسمائه جل وعلا ما استأثر به ولم يعلمه خلقه ، كحديث : " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " الحديث .

وقوله : الحسنى تأنيث الأحسن ، وإنما وصف أسماءه جل وعلا بلفظ المؤنث المفرد ، لأن جمع التكسير مطلقا وجمع المؤنث السالم يجريان مجرى المؤنثة الواحدة [ ص: 8 ] المجازية التأنيث ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :



والتاء مع جمع سوى السالم من مذكر كالتاء من إحدى اللبن

ونظير قوله هنا الأسماء الحسنى من وصف الجمع بلفظ المفرد المؤنث قوله : من آياتنا الكبرى [ 20 23 ] ، وقوله : مآرب أخرى [ 20 18 ] .
قوله تعالى : وهل أتاك حديث موسى الآيات [ 20 9 ] .

قد بينا الآيات الموضحة لها في سورة " مريم " في الكلام على قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [ الآية 52 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي

.

قال بعض العلماء : دل قوله عقدة من لساني بالتنكير ، والإفراد ، وإتباعه لذلك بقوله يفقهوا قولي على أنه لم يسأل إزالة جميع ما بلسانه من العقد ، بل سأل إزالة بعضها الذي يحصل بإزالته فهم كلامه مع بقاء بعضها . وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر ، كقوله تعالى عنه : وأخي هارون هو أفصح مني لسانا الآية [ 28 34 ] ، وقوله تعالى عن فرعون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 52 ] ، والاستدلال بقول فرعون عن موسى ، فيه أن فرعون معروف بالكذب ، والبهتان . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة . أنه من على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه ، وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير ، إذ أوحى إلى أمه أي ألهمها وقذف في قلبها ، وقال بعضهم : هي رؤيا منام . وقال بعضهم : أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك . ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبيا ، و " أن " في قوله أن اقذفيه هي المفسرة ، لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه . والتعبير بالموصول في قوله ما يوحى للدلالة على تعظيم شأن الأمر المذكور .

كقوله : فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 78 ] ، وقوله فأوحى إلى عبده ما أوحى [ 53 10 ] ، والتابوت : الصندوق . واليم : البحر . والساحل : شاطئ البحر . والبحر المذكور : نيل مصر . والقذف : الإلقاء ، والوضع ، ومنه قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب [ 33 26 ] ومعنى اقذفيه في التابوت أي ضعيه في الصندوق . [ ص: 9 ] والضمير في قوله أن اقذفيه راجع إلى موسى بلا خلاف . وأما الضمير في قوله فاقذفيه في اليم وقوله فليلقه فقيل : راجع إلى التابوت . والصواب رجوعه إلى موسى في داخل التابوت ، لأن تفريق الضمائر غير حسن ، وقوله يأخذه عدو لي وعدو له [ 20 39 ] هو فرعون ، وصيغة الأمر في قوله فليلقه اليم بالساحل فيها وجهان معروفان عند العلماء :

أحدهما أن صيغة الأمر معناها الخبر ، قال أبو حيان في البحر المحيط : فليلقه أمر معناه الخبر ، وجاء بصيغة الأمر مبالغة ، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها .

الوجه الثاني أن صيغة الأمر في قوله فليلقه أريد بها الأمر الكوني القدري ، كقوله إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 82 ] فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل ، لأن الله أمره بذلك كونا وقدرا . وقد قدمنا ما يشبه هذين الوجهين في الكلام على قوله تعالى : فليمدد له الرحمن مدا [ 19 75 ] .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " القصص " : وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [ 28 7 - 8 ] وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر ، وألقاه اليم بالساحل ، وأخذه عدوه فرعون في قوله تعالى : وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين [ 28 10 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة يأخذه مجزوم في جواب الطلب الذي هو فليلقه اليم بالساحل وعلى أنه بمعنى الأمر الكوني فالأمر واضح . وعلى أنه بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ . والعلم عند الله تعالى . وذكر في قصتها أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت ، وحشته قطنا محلوجا . وقيل : إن التابوت المذكور من شجر الجميز ، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون ، قيل : واسمه حزقيل . وكانت عقدت في التابوت حبلا فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها ، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل . فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى فحصل لها بذلك من الغم ، والهم ما ذكره الله تعالى في قوله وأصبح فؤاد أم موسى فارغا الآية [ 28 10 ] .

[ ص: 10 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى حيث قال ولقد مننا عليك مرة أخرى [ 20 37 ] أشار إلى ما يشبهه في قوله : ولقد مننا على موسى وهارون الآية [ 37 114 ] .
قوله تعالى : وألقيت عليك محبة مني

.

من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ما ذكره جل وعلا في " القصص " في قوله : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه [ 28 9 ] ، قال ابن عباس وألقيت عليك محبة مني : أي أحبه الله وحببه إلى خلقه . وقال ابن عطية : جعل عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه . وقال قتادة : كانت في عيني موسى ملاحة ، ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه . قال القرطبي
قوله تعالى إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن

.

اختلف في العامل الناصب للظرف الذي هو " إذ " من قوله إذ تمشي أختك فقيل : هو " ألقيت " أي ألقيت عليك محبة مني حين تمشي أختك . وقيل : هو " تصنع " أي " تصنع على عيني " حين تمشي أختك . وقيل : هو بدل من " إذ " في قوله إذ أوحينا إلى أمك [ 20 38 ] .

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف يصح البدل ، والوقتان مختلفان متباعدان ؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل : لقيت فلانا سنة كذا . فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك . وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها .

وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كون أخته مشت إليهم ، وقالت لهم هل أدلكم على من يكفله أوضحه جل وعلا في سورة " القصص " فبين أن أخته المذكورة مرسلة من قبل أمها لتتعرف خبره بعد ذهابه في البحر ، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك . وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريما كونيا قدريا . فقالت لهم أخته هل أدلكم على من يكفله أي على مرضع يقبل هو ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة وذلك في قوله تعالى : وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 28 11 - 13 ] [ ص: 11 ] فقوله تعالى في آية " القصص " هذه وقالت لأخته أي قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها قصيه أي اتبعي أثره ، وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره .

وقوله : فبصرت به عن جنب أي رأته من بعيد كالمعرضة عنه ، تنظر إليه وكأنها لا تريده وهم لا يشعرون بأنها أخته جاءت لتعرف خبره فوجدته ممتنعا من أن يقبل ثدي مرضعة ، لأن الله يقول : وحرمنا عليه المراضع أي تحريما كونيا قدريا ، أي منعناه منها ليتيسر بذلك رجوعه إلى أمه ، لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه . وعن ابن عباس : أنه لما قالت لهم هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون أخذوها وشكوا في أمرها وقالوا لها : ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه ؟

فقالت لهم : نصحهم له ، وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك ، ورجاء منفعته ، فأرسلوها . فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ، ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك فاستدعت أم موسى ، وأحسنت إليها ، وأعطتها عطاء جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ، ولكن لكونه قبل ثديها . ثم سألتها " آسية " أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت : إن لي بعلا وأولادا ، ولا أقدر على المقام عندك ، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك ، وأجرت عليها النفقة ، والصلات ، والكساوى ، والإحسان الجزيل . فرجعت أم موسى بولدها قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا في عز وجاه ، ورزق دار . ا ه من ابن كثير .

وقوله تعالى في آية " القصص " : ولتعلم أن وعد الله حق [ 28 13 ] وعد الله المذكور هو قوله : ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين [ 28 7 ] ، والمؤرخون يقولون : إن أخت موسى المذكورة اسمها " مريم " وقوله كي تقر عينها إن قلنا فيه : إن " كي " حرف مصدري فاللام محذوفة ، أي لكي تقر . وإن قلنا : إنها تعليلية ، فالفعل منصوب بأن مضمرة . وقوله تقر عينها قيل : أصله من القرار . لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه ، ولا تنظر إلى غيره : كما قال أبو الطيب :



وخصر تثبت الأبصار فيه كأن عليه من حدق نطاقا https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:38 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (275)
سُورَةُ طه
صـ 12 إلى صـ 18


وقيل : أصله من القر بضم القاف وهو البرد ، تقول العرب : يوم قر بالفتح أي بارد ، ومنه قول امرئ القيس :

تميم بن مر وأشياعها وكندة حولي جميعا صبر
إذا ركبوا الخيل واستلأموا تحرقت الأرض واليوم قر


ومنه أيضا قول حاتم الطائي الجواد :



أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا واقد ريح صر
عل يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفا فأنت حر


وعلى هذا القول : فقرة العين من بردها . لأن عين المسرور باردة ، ودمع البكاء من السرور بارد جدا ، بخلاف عين المحزون فإنها حارة ، ودمع البكاء من الحزن حار جدا . ومن أمثال العرب : أحر من دمع المقلات . وهي التي لا يعيش لها ولد ، فيشتد حزنها لموت أولادها فتشتد حرارة دمعها لذلك .
قوله تعالى : وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا

.

لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله لهذه النفس ، ولا ممن هي ، ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم ، ولا الفتون الذي فتنه ، ولكنه بين في سورة " القصص " خبر القتيل المذكور في قوله تعالى : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم [ 28 15 - 16 ] وأشار إلى القتيل المذكور في قوله : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون [ 28 33 ] وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى : فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون [ 26 13 - 14 ] وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه : وفعلت فعلتك التي فعلت الآية [ 26 19 ] . وقد أشار تعالى في " القصص " أيضا إلى غم موسى ، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه في قوله : وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل [ ص: 13 ] إلى قوله قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين [ 28 20 - 25 ] . وقوله وفتناك فتونا ، قال بعض أهل العلم : الفتون مصدر ، وربما جاء مصدر الثلاثي المتعدي على فعول . وقال بعضهم : هو جمع فتنة . وقال الزمخشري في الكشاف فتونا يجوز أن يكون مصدرا على فعول في المتعدي كالثبور ، والشكور ، والكفور . وجمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي فتناك ضروبا من الفتن . وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث " الفتون " ، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده . وهو حديث طويل يقتضي أن الفتون يشمل كل ما جرى على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره ، كالخوف عليه من الذبح وهو صغير ، ومن أجل ذلك ألقي في التابوت وقذف في اليم فألقاه اليم بالساحل . وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله . وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور . وقال ابن كثير بعد أن ساق حديث الفتون بطوله : هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى . وأخرجه أبو جعفر بن جرير ، وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به ، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره . والله أعلم . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا ا ه .
قوله تعالى : فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر

. السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى : قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك [ 28 27 ] وقد قدمنا في سورة " مريم " أنه أتم العشر ، وبينا دليل ذلك من السنة . وبه تعلم أن الأجل في قوله : فلما قضى موسى الأجل [ 28 29 ] أنه عشر سنين لا ثمان . وقال بعض أهل العلم : لبث موسى في مدين ثماني وعشرين سنة ، عشر منها مهر ابنة صهره ، وثمان عشرة أقامها هو اختيارا ، والله تعالى أعلم .

وأظهر الأقوال في قوله تعالى : ثم جئت على قدر ياموسى [ 20 40 ] أي جئت على القدر الذي قدرته وسبق في علمي أنك تجيء فيه فلم تتأخر عنه ولم تتقدم ، كما قال تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 49 ] وقال : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 8 ] ، [ ص: 14 ] وقال وكان أمر الله قدرا مقدورا [ 33 38 ] . وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :



نال الخلافة أو كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر


قوله تعالى : اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى في ذكري اذهبا إلى فرعون إنه طغى .

قال بعض أهل العلم : المراد بالآيات في قوله هنا : اذهب أنت وأخوك بآياتي الآيات التسع المذكورة في قوله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات الآية [ 17 101 ] ، وقوله : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات الآية [ 27 12 ] . والآيات التسع المذكورة هي : العصا ، واليد البيضاء . . . إلى آخرها . وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " بني إسرائيل " .

وقوله تعالى : إنه طغى .

أصل الطغيان : مجاوزة الحد ، ومنه : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 11 ] وقد بين تعالى شدة طغيان فرعون ومجاوزته الحد في قوله عنه : فقال أنا ربكم الأعلى [ 79 24 ] ، وقوله عنه ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقوله عنه أيضا : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا تنيا مضارع ونى يني ، على حد قول ابن مالك في الخلاصة :



فا أمر ومضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد

والونى في اللغة : الضعف ، والفتور ، والكلال ، والإعياء ، ومنه قول امرئ القيس في معلقته :



مسح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد المركل


وقول العجاج :



فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر


فقوله : ولا تنيا في ذكري أي لا تضعفا ، ولا تفترا في ذكري . وقد أثنى الله على من يذكره في جميع حالاته في قوله : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ 3 191 ] ، وأمر بذكر الله عند لقاء العدو في قوله : إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ 8 45 ] [ ص: 15 ] كما تقدم إيضاحه .

وقال ابن كثير في تفسيره هذه الآية الكريمة : والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله في حال مواجهة فرعون . ليكون ذكر الله عونا لهما عليه ، وقوة لهما وسلطانا كاسرا له ، كما جاء في الحديث : " إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه " اه منه .

وقال بعض أهل العلم : ولا تنيا في ذكري لا تزالا في ذكري . واستشهد لذلك بقول طرفة :



كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبدا تغلي


أي لا تزال تغلي . ومعناه راجع إلى ما ذكرنا . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى

.

أمر الله جل وعلا نبيه موسى وهارون عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام : أن يقولا لفرعون في حال تبليغ رسالة الله إليه " قولا لينا " أي كلاما لطيفا سهلا رقيقا ، ليس فيه ما يغضب وينفر . وقد بين جل وعلا المراد بالقول اللين في هذه الآية بقوله : اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ 79 17 - 18 ] وهذا ، والله غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى . وما أمر به موسى وهارون في هذه الآية الكريمة أشار له تعالى في غير هذا الموضع ، كقوله ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 125 ] .

مسألة

يؤخذ من هذه الآية الكريمة : أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرفق ، واللين . لا بالقسوة ، والشدة ، والعنف . كما بيناه في سورة " المائدة " في الكلام على قوله تعالى : عليكم أنفسكم [ الآية 105 ] . وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : قال يزيد الرقاشي عند قوله فقولا له قولا لينا [ 20 44 ] : يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكشف بمن يتولاه ويناديه ؟ اه ولقد صدق من قال :



ولو أن فرعون لما طغى وقال على الله إفكا وزورا أناب إلى الله مستغفرا
لما وجد الله إلا غفورا

[ ص: 16 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لعله يتذكر أو يخشى قد قدمنا قول بعض العلماء : إن " لعل " في القرآن بمعنى التعليل ، إلا التي في سورة " الشعراء " : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 129 ] فهي بمعنى كأنكم . وقد قدمنا أيضا أن " لعل " تأتي في العربية للتعليل . ومنه قوله :



فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب بالملا متألق


فقوله : " لعلنا نكف " أي لأجل أن نكف .

وقال بعض أهل العلم : لعله يتذكر أو يخشى معناه على رجائكما وطمعكما ، فالترجي ، والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر . وعزا القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كسيبويه ، وغيره .
قوله تعالى : فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى

.

ألف الاثنين في قوله " فأتياه " راجعة إلى موسى وهارون . والهاء راجعة إلى فرعون . أي فأتيا فرعون " فقولا " له : " إنا رسولان إليك من ربك فأرسل معنا بني إسرائيل " أي خل عنهم وأطلقهم لنا يذهبون معنا حيث شاءوا ، ولا تعذبهم .

العذاب الذي نهى الله فرعون أن يفعله ببني إسرائيل : هو المذكور في سورة " البقرة " في قوله : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 2 49 ] ، وفي سورة " إبراهيم " في قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم [ 14 6 ] ، وفي سورة " الأعراف " في قوله تعالى : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم [ 7 141 ] . وفي سورة " الدخان " في قوله : ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين [ 44 20 ] وفي سورة " الشعراء " في قوله : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 26 22 ] .

[ ص: 17 ] وما أمر به الله موسى وهارون في آية " طه " هذه من أنهما يقولان لفرعون إنهما رسولا ربه إليه ، وأنه يأمره بإرسال بني إسرائيل ، ولا يعذبهم أشار إليه تعالى في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " الشعراء " : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل [ 26 16 - 17 ] .

تنبيه

فإن قيل ، ما وجه الإفراد في قوله إنا رسول رب العالمين في " الشعراء " ؟ مع أنهما رسولان ؟ كما جاء الرسول مثنى في " طه " فما وجه التثنية في " طه " ، والإفراد في " الشعراء " ، وكل واحد من اللفظين : المثنى ، والمفرد يراد به موسى وهارون ؟

فالذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم أن لفظ الرسول أصله مصدر وصف به ، والمصدر إذا وصف به ذكر وأفرد كما قدمنا مرارا . فالإفراد في " الشعراء " نظرا إلى أن أصل الرسول مصدر . والتثنية في " طه " اعتدادا بالوصفية العارضة وإعراضا عن الأصل ، ولهذا يجمع الرسول اعتدادا بوصفيته العارضة ، ويفرد مرادا به الجمع نظرا إلى أن أصله مصدر . ومثال جمعه قوله تعالى : تلك الرسل الآية [ 2 253 ] ، وأمثالها في القرآن . ومثال إفراده مرادا به الجمع قول أبي ذؤيب الهذلي :



ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر

ومن إطلاق الرسول مرادا به المصدر على الأصل قوله :



لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول


أي برسالة .

وقول الآخر :



ألا بلغ بني عصم رسولا بأني عن فتاحتكم غني


يعني أبلغهم رسالة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قد جئناك بآية يراد به جنس الآية الصادق بالعصا ، واليد ، وغيرهما . لدلالة آيات أخر على ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والسلام على من اتبع الهدى يدخل فيه السلام على فرعون إن اتبع الهدى . ويفهم من الآية : أن من لم يتبع الهدى لا سلام عليه ، وهو كذلك . ولذا كان في أول الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم :

[ ص: 18 ] " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى . أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام . . . " إلى آخر كتابه - صلى الله عليه وسلم - . قوله تعالى : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى

.

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن موسى وهارون . أن الله أوحى إليهما أن العذاب على من كذب وتولى أشير إلى نحوه في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى . كقوله : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ 79 37 - 39 ] ، وقوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [ 92 14 - 16 ] . وقوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى [ 75 31 - 35 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أمرا بتبليغه إياه قال لهما : من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي ؟ زاعما أنه لا يعرفه . وأنه لا يعلم لهما إلها غير نفسه ، كما قال : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقال : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] . وبين جل وعلا في غير هذا الموضع أن قوله فمن ربكما تجاهل عارف بأنه عبد مربوب لرب العالمين ، وذلك في قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 102 ] ، وقوله : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 13 - 14 ] كما تقدم إيضاحه . وسؤال فرعون عن رب موسى ، وجواب موسى له جاء موضحا في سورة " الشعراء " بأبسط مما هنا ، وذلك في قوله : قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [ 26 23 - 33 ] إلى آخر القصة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:42 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (276)
سُورَةُ طه
صـ 19 إلى صـ 25




[ ص: 19 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [ 20 \ 50 ] فيه للعلماء أوجه لا يكذب بعضها بعضا ، وكلها حق ، ولا مانع من شمول الآية لجميعها . منها أن معنى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أنه أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة ، والهيئة ، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا . وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا . فلم يعط الإنسان خلاف خلقه فيزوجه بالإناث من البهائم ، ولا البهائم بالإناث من الإنس ، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل ، والنماء ، كيف يأتيه ، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم ، والمشارب ، وغير ذلك .

وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما من طريق علي بن أبي طلحة ، وعن السدي وسعيد بن جبير ، وعن ابن عباس أيضا : ثم هدى أي هداه إلى الألفة ، والاجتماع ، والمناكحة .

وقال بعض أهل العلم أعطى كل شيء خلقه ثم هدى أي : أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه ، وهذا مروي عن الحسن وقتادة .

وقال بعض أهل العلم : أعطى كل شيء خلقه ثم هدى : أي أعطى كل شيء صورته المناسبة له . فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة ، ولا البهيمة في صورة الإنسان ، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديرا ، كما قال الشاعر :



وله في كل شيء خلقة وكذاك الله ما شاء فعل

يعني بالخلقة : الصورة ، وهذا القول مروي عن مجاهد ومقاتل ، وعطية وسعيد بن جبير ثم هدى كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه .

وقال بعض أهل العلم : أعطى كل شيء خلقه : أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به ، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع . وكذلك الأنف ، والرجل ، واللسان ، وغيرها ، كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه . وهذا القول روي عن الضحاك . وعلى جميع هذه الأقوال المذكورة فقوله تعالى كل شيء هو المفعول الأول لـ " أعطى " ، و " خلقه " هو المفعول الثاني .

وقال بعض أهل العلم : إن " خلقه " هو المفعول الأول ، و " كل شيء " هو [ ص: 20 ] المفعول الثاني . وعلى هذا القول فالمعنى : أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه ، ثم هداهم إلى طريق استعماله . ومعلوم أن المفعول من مفعولي باب كسا ومنه " أعطى " في الآية لا مانع من تأخيره وتقديم المفعول الأخير إن أمن اللبس ، ولم يحصل ما يوجب الجري على الأصل كما هو معلوم في علم النحو . وأشار له في الخلاصة بقوله :



ويلزم الأصل لموجب عرا وترك ذاك الأصل حتما قد يرى


قال مقيده - عفا الله عنه - : ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأقوال المذكورة . لأنه لا شك أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا ، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به . ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له ، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة ، والألفة ، والاجتماع . وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به فسبحانه جل وعلا ! ما أعظم شأنه وأكمل قدرته ! !

وفي هذه الأشياء المذكورة في معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء ، وهو المعبود وحده جل وعلا :

لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 88 ] .

وقد حرر تقي الدين أبو العباس بن تيمية في رسالته في علوم القرآن : أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافا حقيقيا متضادا يكذب بعضه بعضا ، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضا ، والآيات تشمل جميعه ، فينبغي حملها على شمول ذلك كله ، وأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم ، وعزاه لجماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى .

قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة ، والكسائي " مهدا " بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف . وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف . والمهاد : الفراش . والمهد بمعناه . وكون أصله مصدرا لا ينافي أن يستعمل اسما للفراش .

وقوله في هذه الآية : الذي جعل لكم الأرض في محل رفع نعت لـ " ربي " [ ص: 21 ] من قوله قبله قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 52 ] أي لا يضل ربي الذي جعل لكم الأرض مهدا . ويجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف . أي هو الذي جعل لكم الأرض . ويجوز أن ينصب على المدح ، وهو أجود من أن يقدر عامل النصب لفظة أعني ، كما أشار إلى هذه الأوجه من الإعراب في الخلاصة بقوله :



وارفع أو انصب إن قطعت مضمرا مبتدأ أو ناصبا لن يظهرا

هكذا قال غير واحد من العلماء . والتحقيق أنه يتعين كونه خبر مبتدأ محذوف . لأنه كلام مستأنف من كلام الله . ولا يصح تعلقه بقول موسى لا يضل ربي لأن قوله فأخرجنا يعين أنه من كلام الله ، كما نبه عليه أبو حيان في البحر ، والعلم عند الله تعالى .

وقد بين جل وعلا في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده . ومع كونها من آيات على كمال قدرته واستحقاقه العبادة وحده دون غيره فهي من النعم العظمى على بني آدم .

الأولى : فرشه الأرض على هذا النمط العجيب .

الثانية : جعله فيها سبلا يمر معها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر .

الثالثة : إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب .

الرابعة : إخراجه أنواع النبات من الأرض .

أما الأولى التي هي جعله الأرض مهدا فقد ذكر الامتنان بها مع الاستدلال بها على أنه المعبود وحده في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا الآية [ 43 9 - 10 ] ، وقوله تعالى : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 6 - 7 ] ، وقوله تعالى : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 48 ] ، وقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا [ 13 3 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

وأما الثانية التي هي جعله فيها سبلا فقد جاء الامتنان ، والاستدلال بها في آيات كثيرة . كقوله في " الزخرف " : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 43 9 ] ، [ ص: 22 ] وقوله تعالى : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 31 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة " النحل " في الكلام على قوله : وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 16 15 ] .

وأما الثالثة ، والرابعة وهما إنزال الماء من السماء وإخراج النبات به من الأرض فقد تكرر ذكرهما في القرآن على سبيل الامتنان ، والاستدلال معا . كقوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب الآية [ 16 10 ] . وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا التفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم . ونظيره في القرآن قوله تعالى في " الأنعام " : وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا [ 6 99 ] ، وقوله في " فاطر " : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها [ 35 27 ] ، وقوله في " النمل " : أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة [ 27 60 ] .

وهذا الالتفات من الغيبة إلى التكلم بصيغة التعظيم في هذه الآيات كلها في إنبات النبات يدل على تعظيم شأن إنبات النبات لأنه لو لم ينزل الماء ولم ينبت شيء لهلك الناس جوعا وعطشا . فهو يدل على عظمته جل وعلا ، وشدة احتياج الخلق إليه ولزوم طاعتهم له جل وعلا .

وقوله في هذه الآية : أزواجا من نبات شتى أي أصنافا مختلفة من أنواع النبات . فالأزواج : جمع زوج ، وهو هنا الصنف من النبات ، كما قال تعالى في سورة " الحج " : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 5 ] أي من كل صنف حسن من أصناف النبات ، وقال تعالى في سورة " لقمان " : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 10 ] أي من كل نوع حسن من أنواع النبات ، وقال تعالى في سورة " يس " : [ ص: 23 ] سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 36 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله شتى نعت لقوله : أزواجا [ 20 53 ] . ومعنى قوله : أزواجا من نبات شتى أي أصنافا مختلفة الأشكال ، والمقادير ، والمنافع ، والألوان ، والروائح ، والطعوم . وقيل شتى جمع لـ " نبات " أي نبات مختلف كما بينا . والأظهر الأول ، وقوله شتى جمع شتيت . كمريض ومرضى . والشتيت : المتفرق . ومنه قول رؤبة يصف إبلا جاءت مجتمعة ثم تفرقت ، وهي تثير غبارا مرتفعا :



جاءت معا وأطرقت شتيتا وهي تثير الساطع السختيتا


وثغر شتيت : أي متفلج لأنه متفرق الأسنان . أي ليس بعضها لاصقا ببعض .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وسلك لكم فيها سبلا قد قدمنا أن معنى السلك : الإدخال . وقوله سلك هنا معناه أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلا فجاجا يمر الخلق معها . وعبر عن ذلك هنا بقوله : وسلك لكم فيها سبلا [ 20 53 ] وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل ، كقوله في " الأنبياء " : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 31 ] وقوله في " الزخرف " : الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ 43 10 ] وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في " النحل " : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 31 15 ] لأن عطف السبل على الرواسي ظاهر في ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كلوا وارعوا أنعامكم أي كلوا أيها الناس من الثمار ، والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلنا من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب ، والفواكه ونحو ذلك ، وارعوا أنعامكم . أي أسيموها وسرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها . تقول : رعت الماشية الكلأ ، ورعاها صاحبها : أي أسامها وسرحها . يلزم ويتعدى . والأمر في قوله كلوا وارعوا للإباحة . ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان ، والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك للعبادة وحده .

وما ذكره في هذه الآية الكريمة : من الامتنان على بني آدم بأرزاقهم وأرزاق أنعامهم جاء موضحا في مواضع أخر . كقوله في سورة " السجدة " : فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 27 ] ، وقوله في " النازعات " : أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 31 - 33 ] ] ، [ ص: 24 ] وقوله في " عبس " : ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 25 - 32 ] وقوله في " النحل " : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 31 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة لأولي النهى أي لأصحاب العقول . فالنهى : جمع نهية بضم النون ، وهي العقل . لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق . تقول العرب : نهو الرجل بصيغة فعل بالضم : إذا كملت نهيته أي عقله . وأصله نهي بالياء فأبدلت الياء واوا لأنها لام فعل بعد ضم . كما أشار له في الخلاصة بقوله :



وواوا إثر الضم رد اليا متى ألفي لام فعل أو من قبل تا


قوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى

.

الضمير في قوله " منها " معا ، وقوله فيها راجع إلى " الأرض " المذكورة في قوله الذي جعل لكم الأرض مهدا .

وقد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

الأولى : أنه خلق بني آدم من الأرض .

الثانية : أنه يعيدهم فيها .

الثالثة : أنه يخرجهم منها مرة أخرى . وهذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما خلقه إياهم من الأرض فقد ذكره في مواضع من كتابه . كقوله ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب الآية [ 30 20 ] ، وقوله في سورة " المؤمن " : هو الذي خلقكم من تراب [ 40 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

والتحقيق أن معنى خلقه الناس من تراب أنه خلق أباهم آدم منها . كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب الآية [ 3 59 ] . ولما خلق أباهم من تراب وكانوا تبعا له في الخلق صدق عليهم أنهم خلقوا من تراب . وما يزعمه [ ص: 25 ] بعض أهل العلم من أن معنى خلقهم من تراب أن النطفة إذا وقعت في الرحم انطلق الملك الموكل بالرحم فأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق الله النسمة من النطفة ، والتراب معا فهو خلاف التحقيق . لأن القرآن يدل على أن مرحلة النطفة بعد مرحلة التراب بمهلة . فهي غير مقارنة لها بدليل الترتيب بينهما بـ " ثم " في قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة [ 22 5 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 40 67 ] ، وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ 23 12 - 13 ] ، وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 6 - 8 ] وكذلك ما يزعمه بعض المفسرين من أن معنى خلقهم من تراب أن المراد أنهم خلقوا من الأغذية التي تتولد من الأرض فهو ظاهر السقوط كما ترى .

وأما المسألة الثانية فقد ذكرها تعالى أيضا في غير هذا الموضع . وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا [ 77 25 - 26 ] فقوله كفاتا [ 77 26 ] أي موضعهم الذي يكفتون فيه أي يضمون فيه : أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها . وهو معنى قوله وفيها نعيدكم .

وأما المسألة الثالثة : وهي إخراجهم من الأرض أحياء يوم القيامة فقد جاءت موضحة في آيات كثيرة . كقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 19 ] أي من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] أي من القبور بالبعث يوم القيامة ، وقوله تعالى : ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [ 30 25 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 57 ] ، وقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 43 ] ، وقوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 42 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:45 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (277)
سُورَةُ طه
صـ 26 إلى صـ 32



وقوله في هذه الآية الكريمة : منها خلقناكم الآية ، كقوله تعالى : قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون [ 7 25 ] . والتارة في قوله تارة أخرى بمعنى [ ص: 26 ] المرة . وفي حديث السنن : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حضر جنازة ، فلما أرادوا دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال " منها خلقناكم " ثم أخذ أخرى وقال " وفيها نعيدكم " ثم أخرى وقال " ومنها نخرجكم تارة أخرى " .
قوله تعالى : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى

.

أظهر القولين أن الإضافة في قوله آياتنا مضمنة معنى العهد كالألف ، واللام . والمراد بآياتنا المعهودة لموسى كلها وهي التسع المذكورة في قوله : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات الآية [ 17 101 ] ، وقوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه الآية [ 27 12 ] . وقال بعضهم : الآيات التسع المذكورة هي : العصا ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، والحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، ونتق الجبل فوقهم كأنه ظلة . وقد قدمنا كلام أهل العلم في الآيات التسع في سورة " الإسراء " . وقال بعض أهل العلم : العموم على ظاهره ، وإن الله أرى فرعون جميع الآيات التي جاء بها موسى ، والتي جاء بها غيره من الأنبياء ، وذلك بأن عرفه موسى جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء . والأول هو الظاهر .

وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع : أن الآيات التي أراها فرعون وقومه بعضها أعظم من بعض ، كما قال تعالى في سورة " الزخرف " : وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها [ 48 ] ، وقوله : لنريك من آياتنا الكبرى [ 20 23 ] ، وقوله : فأراه الآية الكبرى [ 79 20 ] لأن الكبرى في الموضعين تأنيث الأكبر ، وهي صيغة تفضيل تدل على أنها أكبر من غيرها .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكذب وأبى يعني أنه مع ما أراه الله من الآيات المعجزات الدالة على صدق نبيه موسى ، كذب رسول ربه موسى ، وأبى عن قبول الحق . وقد أوضح جل وعلا في غير هذا الموضع شدة إبائه وعناده وتكبره على موسى في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 132 ] ، وقوله تعالى : فلما جاءهم بآياتنا إذا هم منها يضحكون [ 43 47 ] وقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] ، وقوله تعالى : ونادى فرعون في قومه قال ياقوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 51 - 53 ] ، [ ص: 27 ] ومقصوده بذلك كله تعظيم أمر نفسه وتحقير أمر موسى ، وأنه لا يمكن أن يتبع الفاضل المفضول .

وقد بين جل وعلا : أن فرعون كذب وأبى ، وهو عالم بأن ما جاء به موسى حق . وأن الآيات التي كذب بها وأبى عن قبولها ما أنزلها إلا الله ، وذلك في قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 14 ] . وقوله قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 102 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله أريناه أصله من رأى البصرية على الصحيح .
قوله تعالى : قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال : إن الآيات التي جاء بها موسى سحر ، وإنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم .

أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر فقد ذكره الله جل وعلا في مواضع كثيرة من كتابه . كقوله : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين [ 27 13 ] ، وقوله : فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين [ 10 76 ] ، وقوله : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر [ 20 71 ] ، وقوله : وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك الآية [ 43 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر فقد ذكره الله جل وعلا أيضا في مواضع من كتابه . كقوله تعالى في هذه السورة : قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ياموسى [ 20 57 ] ، وقوله في " الأعراف " : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون [ 7 109 - 110 ] ، وقوله في " الشعراء " : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون [ 26 34 ] ، وقوله في " يونس " : قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض [ 10 78 ] ، وقال سحرة فرعون : إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى [ 20 63 ] .
[ ص: 28 ] قوله تعالى : فلنأتينك بسحر مثله

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لعنه الله ، لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة ، وادعى أنها سحر أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر . وقد بين في غير هذا الموضع : أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك . كقوله في " الأعراف " : قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم [ 7 109 - 110 ] . وقوله في " الشعراء " : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم [ الآيات 34 - 37 ] ، لأن قوله فماذا تأمرون في الموضعين يدل على أن قول فرعون فلنأتينك بسحر مثله وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك .
قوله تعالى : فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لما وعد موسى بأنه يأتي بسحر مثل ما جاء به موسى في زعمه قال لموسى فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت والإخلاف : عدم إنجاز الوعد . وقرر أن يكون مكان الاجتماع المناظرة والمغالبة في السحر في زعمه مكانا سوى . وأصح الأقوال في قوله سوى على قراءة الكسر والضم : أنه مكان وسط تستوي أطراف البلد فيه . لتوسطها بينها ، فلم يكن أقرب للشرق من الغرب ، ولا للجنوب من الشمال . وهذا هو معنى قول المفسرين مكانا سوى أي نصفا وعدلا ليتمكن جميع الناس أن يحضروا . وقوله : سوى أصله من الاستواء . لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية . وقوله سوى فيه ثلاث لغات : الضم ، والكسر مع القصر ، وفتح السين مع المد . والقراءة بالأوليين دون الثالثة هنا ومن القراءة بالثالثة إلى كلمة سواء بيننا وبينكم [ 3 64 ] ومن إطلاق العرب مكانا سوى على المكان المتوسط بين الفريقين قول موسى بن جابر الحنفي ، وقد أنشده أبو عبيدة شاهدا لذلك :



وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس عيلان والفزر

[ ص: 29 ] والفزر : سعد بن زيد مناة بن تميم . يعني : حل ببلدة مستوية مسافتها بين قيس عيلان ، والفزر . وأن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أجاب فرعون إلى ما طلب منه من الموعد ، وقرر أن يكون وقت ذلك يوم الزينة . وأقوال أهل العلم في يوم الزينة راجعة إلى أنه يوم معروف لهم ، يجتمعون فيه ويتزينون . سواء قلنا : إنه يوم عيد لهم ، أو يوم عاشوراء ، أو يوم النيروز ، أو يوم كانوا يتخذون فيه سوقا ويتزينون فيه بأنواع الزينة .

قال الزمخشري : وإنما واعدهم موسى ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وظهور دينه ، وكبت الكافر وزهوق الباطل على رءوس الأشهاد في المجمع الغاص لتقوى رغبة من رغب في اتباع الحق ، ويكل حد المبطلين وأشياعهم ، ويكثر المحدث بذلك الأمر . ليعلم في كل بدو وحضر ، ويشيع في جميع أهل الوبر ، والحضر . اه منه .

والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله وأن يحشر الناس ضحى في محل جر عطفا على الزينة أي موعدكم يوم الزينة وحشر الناس ، أو في محل رفع عطفا على قوله يوم الزينة على قراءة الجمهور بالرفع . والحشر : الجمع ، والضحى : من أول النهار حين تشرق الشمس . والضحى يذكر ويؤنث . فمن أنثه ذهب إلى أنه جمع ضحوة . ومن ذكره ذهب إلى أنه اسم مفرد جاء على فعل بضم ففتح كصرد وزفر . وهو منصرف إذا لم ترد ضحى يوم معين بلا خلاف . وإن أردت ضحى يومك المعين فقيل يمنع من الصرف كسحر . وقيل لا .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كون المناظرة بين موسى ، والسحرة عين لوقتها يوم معلوم يجتمع الناس فيه . ليعرفوا الغالب من المغلوب أشير له في غير هذا الموضع . كقوله تعالى في " الشعراء " : فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين [ 26 38 - 40 ] .

فقوله تعالى : لميقات يوم معلوم .

اليوم المعلوم : هو يوم الزينة المذكور هنا . وميقاته وقت الضحى منه المذكور في قوله وأن يحشر الناس ضحى .
تنبيه

اعلم أن في تفسير هذه الآية الكريمة أنواعا من الإشكال معروفة عند العلماء ، وسنذكر إن شاء الله تعالى أوجه الإشكال فيها ، ونبين إزالة الإشكال عنها .

اعلم أولا أن الفعل الثلاثي إن كان مثالا أعني واوي الفاء كوعد ووصل ، [ ص: 30 ] فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه كلها المفعل ( بفتح الميم وكسر العين ) ما لم يكن معتل اللام . فإن كان معتلها فالقياس فيه المفعل ( بفتح الميم والعين ) كما هو معروف في فن الصرف .

فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاجعل بيننا وبينك موعدا صالح بمقتضى القياس الصرفي لأن يكون مصدرا ميميا بمعنى الوعد ، وأن يكون اسم زمان يراد به وقت الوعد ، وأن يكون اسم مكان يراد به مكان الوعد . ومن إطلاق الموعد في القرآن اسم زمان قوله تعالى : إن موعدهم الصبح [ 11 81 ] أي وقت وعدهم بالإهلاك الصبح . ومن إطلاقه في القرآن اسم مكان قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين [ 15 43 ] أي مكان وعدهم بالعذاب .

وأوجه الإشكال في هذا أن قوله : لا نخلفه نحن ولا أنت يدل على أن الموعد مصدر . لأن الذي يقع عليه الإخلاف هو الوعد لا زمانه ، ولا مكانه .

وقوله تعالى : مكانا سوى .

يدل على أن الموعد في الآية اسم مكان .

وقوله : قال موعدكم يوم الزينة يدل على أن الموعد في الآية اسم زمان . فإن قلنا إن الموعد في الآية مصدر أشكل على ذلك ذكر المكان في قوله : مكانا سوى والزمان في قوله : يوم الزينة وإن قلنا : إن الموعد اسم مكان أشكل عليه قوله لا نخلفه لأن نفس المكان لا يخلف وإنما يخلف الوعد ، وأشكل عليه أيضا قوله : قال موعدكم يوم الزينة .

وإن قلنا : إن الموعد اسم زمان أشكل عليه أيضا قوله : لا نخلفه وقوله مكانا سوى هذه هي أوجه الإشكال في هذه الآية الكريمة . وللعلماء عن هذا أجوبة منها ما ذكره الزمخشري في الكشاف قال : لا يخلو الموعد في قوله فاجعل بيننا وبينك موعدا من أن يجعل زمانا أو مكانا أو مصدرا . فإن جعلته زمانا نظرا في أن قوله موعدكم يوم الزينة مطابق له لزمك شيئان : أن تجعل الزمان مخلفا وأن يعضل عليك ناصب مكانا وإن جعلته مكانا لقوله تعالىمكانا سوى لزمك أيضا أن توقع الإخلاف على المكان ، ولا يطابق قوله موعدكم يوم الزينة إلى أن قال : فبقي أن يجعل مصدرا بمعنى الوعد ويقدر مضاف محذوف ، أي مكان الوعد ، ويجعل الضمير في نخلفه للموعد و مكانا بدل من المكان المحذوف .

[ ص: 31 ] فإن قلت : كيف طابقه قوله موعدكم يوم الزينة ولا بد من أن تجعله زمانا ، والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان ؟

قلت : هو مطابق معنى وإن لم يطابق لفظا . لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك اليوم . فبذكر الزمان علم المكان . انتهى محل الغرض منه . ولا يخفى ما في جوابه هذا من التعسف ، والحذف ، والإبدال من المحذوف .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر ما أجيب به عما ذكرنا من الإشكال عندي في هذه الآية الكريمة أن فرعون طلب من موسى تعيين مكان الموعد ، وأنه يكون مكانا سوى . أي وسطا بين أطراف البلد كما بينا . وأن موسى وافق على ذلك وعين زمان الوعد وأنه يوم الزينة ضحى . لأن الوعد لا بد له من مكان وزمان . فإذا علمت ذلك فاعلم أن الذي يترجح عندي المصير إليه هو قول من قال في قوله فاجعل بيننا وبينك موعدا إنه اسم مكان أي مكان الوعد ، وقوله مكانا بدل من قوله موعدا . لأن الموعد إذا كان اسم مكان صار هو نفس المكان فاتضح كون مكانا بدلا . ولا إشكال في ضمير نخلفه على هذا . ووجه إزالة الإشكال عنه أن المعروف في فن الصرف : أن اسم المكان مشتق من المصدر كاشتقاق الفعل منه ، فاسم المكان ينحل عن مصدر ومكان . فالمنزل مثلا مكان النزول ، والمجلس مكان الجلوس ، والموعد مكان الوعد . فإذا اتضح لك أن المصدر كامن في مفهوم اسم المكان فالضمير في قوله لا نخلفه راجع إلى المصدر الكامن في مفهوم اسم المكان ، كرجوعه للمصدر الكامن في مفهوم الفعل في قوله اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 8 ] : فقوله هو أي العدل المفهوم من اعدلوا وكذلك قوله تعالى : لا نخلفه أي : الوعد الكامن في مفهوم اسم المكان الذي هو الموعد . لأنه مكان الوعد ، فمعناه مركب إضافي وآخر جزأيه لفظ الوعد وهو مرجع الضمير في لا نخلفه .

فإذا عرفت معنى هذا الكلام الذي أخبر الله أن فرعون قاله لموسى فاعلم أن قوله عن موسى قال موعدكم يوم الزينة يدل على أنه وافق على طلب فرعون ضمنا ، وزاد تعيين زمان الوعد بقوله قال موعدكم يوم الزينة ولا إشكال في ذلك . هذا هو الذي ظهر لنا صوابه . وأقرب الأوجه التي ذكرها العلماء بعد هذا عندي قول من قال : إن [ ص: 32 ] الموعد في الآية مصدر وعليه فـ لا نخلفه راجع للمصدر ، و مكانا منصوب بفعل دل عليه الموعد . أي : عدنا مكانا سوى . ونصب المكان بأنه مفعول المصدر الذي هو موعدا أو أحد مفعولي فاجعل غير صواب فيما يظهر لي ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة مكانا سوى قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة " سوى " بضم السين ، والباقون بكسرها . ومعنى القراءتين واحد كما تقدم .
قوله تعالى : فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى

.

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة فتولى فرعون قال بعض العلماء : معناه فتولى فرعون ، انصرف مدبرا من ذلك المقام ليهيئ ما يحتاج إليه مما تواعد عليه هو وموسى . ويدل لهذا الوجه قوله تعالى في سورة " النازعات " في القصة بعينها ثم أدبر يسعى فحشر فنادى [ 79 22 - 23 ] وقوله فحشر أي : جمع السحرة .

وقال بعض العلماء : معنى قوله فتولى فرعون أي : أعرض عن الحق الذي جاء به موسى . ومن معنى هذا الوجه قوله تعالى : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ 20 48 ] .

وقوله تعالى : فجمع كيده الظاهر أن المراد بـ كيده ما جمعه من السحر ليغلب به موسى في زعمه . وعليه فالمراد بقوله فجمع كيده هو جمعه للسحرة من أطراف مملكته ، ويدل على هذا أمران : أحدهما تسمية السحر في القرآن كيدا . كقوله إنما صنعوا كيد ساحر الآية [ 20 69 ] ، وقوله تعالى عن السحرة : فأجمعوا كيدكم [ 20 64 ] وكيدهم سحرهم . الثاني أن الذي جمعه فرعون هو السحرة كما دلت عليه آيات من كتاب الله . كقوله تعالى في " الأعراف " : وأرسل في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم [ 7 111 - 112 ] . وقوله حاشرين أي : جامعين يجمعون السحرة من أطراف مملكته ، وقوله في " الشعراء " : وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم [ 26 36 ] ، وقوله في " يونس " : وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم [ 10 79 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم أتى أي : جاء فرعون بسحرته للميعاد ليغلب نبي الله موسى بسحره في زعمه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:49 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (278)
سُورَةُ طه
صـ 33 إلى صـ 39



[ ص: 33 ] قوله تعالى : قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن السحرة لما جمعهم فرعون واجتمعوا مع موسى للمغالبة قالوا له متأدبين معه : إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى وقد بين تعالى مقالتهم هذه في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " : قالوا ياموسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين [ 7 115 ] . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يحذف مفعول فعل في موضع ، ثم يبين في موضع آخر ، فإنا نبين ذلك ، وقد حذف هنا في هذه الآية مفعول تلقي ومفعول أول من ألقى وقد بين تعالى في مواضع أخر أن مفعول إلقاء موسى هو عصاه وذلك في قوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 117 ] ، وقوله في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 26 45 ] ، وقوله هنا : وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا الآية [ 20 69 ] . وما في يمينه هو عصاه . كما قال تعالى : وما تلك بيمينك ياموسى قال هي عصاي الآية [ 20 17 ] .

وقد بين تعالى أيضا في موضع آخر : أن مفعول إلقائهم هو حبالهم وعصيهم ، وذلك في قوله في " الشعراء " : فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون [ 26 44 ] . وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضا بقوله هنا قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [ 20 66 ] ، لأن في الكلام حذفا دل المقام عليه ، والتقدير : قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله أن تلقي وفي قوله أن نكون فيه وجهان من الإعراب : الأول أنه في محل نصب بفعل محذوف دل المقام عليه ، والتقدير : إما أن تختار أن تلقي أي : تختار إلقاءك أولا ، أو تختار إلقاءنا أولا . وتقدير المصدر الثاني : وإما أن تختار أن نكون أي : كوننا أول من ألقى ، والثاني أنه في محل رفع ، وعليه فقيل هو مبتدأ ، والتقدير إما إلقاؤك أولا ، أو إلقاؤنا أولا . وقيل خبر مبتدأ محذوف ، أي : إما الأمر إلقاؤنا أو إلقاؤك .
قوله تعالى : قال بل ألقوا

.

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما خيره سحرة فرعون أن يلقي قبلهم أو يلقوا قبله قال لهم : ألقوا يعني ألقوا [ ص: 34 ] ما أنتم ملقون كما صرح به في " الشعراء " في قوله تعالى : قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون [ 26 43 ] وذلك هو المراد أيضا بقوله في " الأعراف " قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] .

تنبيه

قول موسى للسحرة : ألقوا المذكور في " الأعراف ، وطه ، والشعراء " فيه سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف قال هذا النبي الكريم للسحرة ألقوا . أي : ألقوا حبالكم وعصيكم ، يعني اعملوا السحر وعارضوا به معجزة الله التي أيد بها رسوله ، وهذا أمر بمنكر ؟ ، والجواب : هو أن قصد موسى بذلك قصد حسن يستوجبه المقام ، لأن إلقاءهم قبله يستلزم إبراز ما معهم من مكائد السحر ، واستنفاد أقصى طرقهم ومجهودهم . فإذا فعلوا ذلك كان في إلقائه عصاه بعد ذلك وابتلاعها لجميع ما ألقوا من إظهار الحق وإبطال الباطل ما لا جدال بعده في الحق لأدنى عاقل . ولأجل هذا قال لهم : ألقوا ، فلو ألقى قبلهم وألقوا بعده لم يحصل ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى

.

قرأ هذا الحرف ابن ذكوان عن ابن عامر " تخيل " بالتاء ، أي : تخيل هي أي : الحبال ، والعصي أنها تسعى . والمصدر في " أنها تسعى " بدل من ضمير الحبال ، والعصي الذي هو نائب فاعل لـ " تخيل " بدل اشتمال . وقرأ الباقون بالياء التحتية . والمصدر في سحرهم أنها تسعى نائب فاعل لـ " تخيل " .

وفي هذه الآية الكريمة حذف دل المقام عليه ، والتقدير : قال بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم ، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . وبه تعلم أن الفاء في قوله فإذا حبالهم عاطفة على محذوف كما أشار لنحو ذلك ابن مالك في الخلاصة بقوله :



وحذف متبوع بدا هنا استبح


و " إذا " هي الفجائية ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها فأغنى ذلك عن إعادته هنا . والحبال : جمع حبل ، وهو معروف . و " العصي " جمع عصا ، وألف العصا منقلبة عن واو ، ولذا ترد إلى أصلها في التثنية : ومنه قول غيلان ذي الرمة :

[ ص: 35 ]

فجاءت بنسج العنكبوت كأنه على عصويها سابري مشبرق



وأصل العصي عصوو على وزن فعول جمع عصا . فأعل بإبدال الواو التي في موضع اللام ياء فصار عصويا ، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء ، فالياءان أصلهما واوان . وإلى جواز هذا النوع من الإعلال في واوي اللام مما جاء على فعول أشار في الخلاصة بقوله :



كذاك ذا وجهين جا الفعول من ذي الواو لام جمع أو فرد يعن



وضمة الصاد في وعصيهم أبدلت كسرة لمجانسة الياء ، وضمة عين " عصيهم " أبدلت كسرة لاتباع كسرة الصاد . والتخيل في قوله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى هو إبداء أمر لا حقيقة له ، ومنه الخيال . وهو الطيف الطارق في النوم . قال الشاعر :



ألا يا لقومي للخيال المشوق وللدار تنأى بالحبيب ونلتقي



وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى يدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر . وهذا الذي دلت عليه آية " طه " هذه دلت عليه آية " الأعراف " وهي قوله تعالى : فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] ، لأن قوله : سحروا أعين الناس يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمرا لا حقيقة له . وبهاتين الآيتين احتج المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له .

والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين : أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل لا حقيقة له ، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 102 ] فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سببا للتفريق بين الرجل وامرأته وقد عبر الله عنه بما الموصولة وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي . ومما يدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد [ 113 4 ] يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن . فلولا أن السحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه . وسيأتي إن شاء الله أن السحر أنواع : منها ما هو أمر له حقيقة ، ومنها ما هو تخييل لا حقيقة له . وبذلك يتضح عدم التعارض بين الآيات الدالة على أن له حقيقة ، والآيات الدالة على أنه خيال .

[ ص: 36 ] فإن قيل : قوله في " طه " : يخيل إليه من سحرهم [ 20 66 ] ، وقوله في " الأعراف " : سحروا أعين الناس [ 7 116 ] الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له ، يعارضهما قوله في " الأعراف " : وجاءوا بسحر عظيم [ 7 116 ] لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال . فالذي يظهر في الجواب ، والله أعلم أنهم أخذوا كثيرا من الحبال ، والعصي ، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال ، والعصي تسعى وهي كثيرة . فظن الناظرون أن الأرض ملئت حيات تسعى ، لكثرة ما ألقوا من الحبال ، والعصي فخافوا من كثرتها ، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظم . وهذا ظاهر لا إشكال فيه . وقد قال غير واحد : إنهم جعلوا الزئبق على الحبال ، والعصي ، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال ، والعصي ، فخيل للناظرين أنها تسعى . وعن ابن عباس : أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا ، مع كل ساحر منهم حبال وعصي . وقيل : كانوا أربعمائة . وقيل كانوا اثني عشر ألفا . وقيل أربعة عشر ألفا . وقال ابن المنكدر : كانوا ثمانين ألفا . وقيل : كانوا مجمعين على رئيس يقال له شمعون . وقيل : كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيبا ، مع كل نقيب عشرون عريفا ، مع كل عريف ألف ساحر . وقيل : كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم ، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد وثلاثمائة ألف ساحر من الريف فصاروا تسعمائة ألف ، وكان رئيسهم أعمى ا ه . وهذه الأقوال من الإسرائيليات ، ونحن نتجنبها دائما ، ونقلل من ذكرها ، وربما ذكرنا قليلا منها منبهين عليه .
قوله تعالى : وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر .

قرأ هذا الحرف نافع ، وأبو عمرو وحمزة ، والكسائي وقنبل عن ابن كثير ، وهشام عن ابن عامر ، وشعبة عن عاصم بتاء مفتوحة مخففة بعدها لام مفتوحة ثم قاف مفتوحة مشددة بعدها فاء ساكنة ، وهو مضارع تلقف وأصله تتلقف بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

وما بتاءين ابتدي قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر

والمضارع مجزوم ، لأنه جزاء الطلب في قوله وألق وجمهور علماء العربية على أن الجزم في نحو ذلك بشرط مقدر دلت عليه صيغة الطلب ، وتقديره هنا : إن تلق ما في يمينك تلقف ما صنعوا . وقرأه البزي عن ابن كثير كالقراءة التي ذكرنا ، إلا أنه يشدد [ ص: 37 ] تاء تلقف وصلا . ووجه تشديد التاء هو إدغام إحدى التاءين في الأخرى ، وهو جائز في كل فعل بدئ بتاءين كما هنا ، وأشار إليه في الخلاصة بقوله :



وحيي افكك وادغم دون حذر كذاك نحو تتجلى واستتر


ومحل الشاهد منه أوله نحو " تتجلى " ومثاله في الماضي قوله :



تولي الضجيج إذا ما التذها خصرا عذب المذاق إذا ما اتابع القبل



أصله تتابع ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر كالقراءة المذكورة للجمهور إلا أنه يضم الفاء ، فالمضارع على قراءته مرفوع ، ووجه رفعه أن جملة الفعل حال ، أي : ألق بما في يمينك في حال كونها متلقفة ما صنعوا . أو مستأنفة ، وعليه فهي خبر مبتدأ محذوف ، أي : فهي تلقف ما صنعوا . وقرأ حفص عن عاصم تلقف بفتح التاء وسكون اللام وفتح القاف مخففة مع الجزم ، مضارع لقفه بالكسر يلقفه بالفتح ومعنى القراءتين واحد ، لأن معنى تلقفه ولقفه إذا تناوله بسرعة ، والمراد بقوله تلقف ما صنعوا على جميع القراءات أنها تبتلع كل ما زوروه وافتعلوه من الحبال ، والعصي التي خيلوا للناس أنها تسعى وصنعهم في قوله تعالى : ما صنعوا واقع في الحقيقة على تخييلهم إلى الناس بسحرهم أن الحبال والعصي تسعى ، لا على نفس الحبال ، والعصي لأنها من صنع الله تعالى . ومن المعلوم أن كل شيء كائنا ما كان بمشيئته تعالى الكونية القدرية .

وهذا المعنى الذي ذكره جل وعلا هنا في هذه الآية الكريمة : من كونه أمر نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أن يلقي ما في يمينه أي : يده اليمنى ، وهو عصاه فإذا هي تبتلع ما يأفكون من الحبال ، والعصي التي خيلوا إليه أنها تسعى أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين [ 7 117 - 119 ] ، وقوله تعالى في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 26 45 ] فذكر العصا في " الأعراف ، والشعراء " يوضح أن المراد بما في يمينه في " طه " أنه عصاه كما لا يخفى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يأفكون أي : يختلقونه ويفترونه من الكذب ، وهو زعمهم أن الحبال ، والعصي تسعى حقيقة ، وأصله من قولهم : أفكه عن شيء يأفكه عنه ( من باب ضرب ) : إذا صرفه عنه وقلبه . فأصل الأفك بالفتح [ ص: 38 ] القلب والصرف عن الشيء . ومنه قيل لقرى قوم لوط والمؤتفكات .

لأن الله أفكها أي : قلبها . كما قال تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا [ 15 74 ] . ومنه قوله تعالى : يؤفك عنه من أفك [ 51 9 ] أي : يصرف عنه من صرف ، وقوله : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا [ 46 22 ] أي : لتصرفنا عن عبادتها ، وقول عمرو بن أذينة :



إن تك عن أحسن المروءة مأفوكا ففي آخرين قد أفكوا



وأكثر استعمال هذه المادة في الكذب لأنه صرف وقلب للأمر عن حقيقته بالكذب ، والافتراء . كما قال تعالى : ويل لكل أفاك أثيم [ 45 7 ] ، وقال تعالى : وذلك إفكهم وما كانوا يفترون [ 46 28 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنما صنعوا كيد ساحر " ما " موصولة وهي اسم " إن " ، و " كيد " خبرها ، والعائد إلى الموصول محذوف . على حد قوله في الخلاصة : .

. . . . . . . . . . . .

والحذف عندهم كثير منجلي


في عائد متصل إن انتصب بفعل أو وصف كمن نرجو يهب

والتقدير : إن الذي صنعوه كيد ساحر . وأما على قراءة من قرأ كيد ساحر بالنصب فـ " ما " كافة و " كيد " مفعول " صنعوا " وليست سبعية ، وعلى قراءة حمزة ، والكسائي " كيد سحر " بكسر السين وسكون الحاء ، فالظاهر أن الإضافة بيانية . لأن الكيد المضاف إلى السحر هو المراد بالسحر . وقد بسطنا الكلام في نحو ذلك في غير هذا الموضع . والكيد : هو المكر .
قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى

.

وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم . لأنه ينحل عند بعض أهل العلم عن مصدر وزمان ، وعند بعضهم عن مصدر وزمان ونسبة . فالمصدر كامن في مفهومه إجماعا ، وهذا المصدر الكامن في مفهوم الفعل في حكم النكرة فيرجع ذلك إلى النكرة في سياق النفي وهي صيغة عموم عند الجمهور . فظهر أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم ، وكذلك الفعل في سياق الشرط . لأن النكرة في سياق الشرط أيضا صيغة عموم . وأكثر أهل العلم على ما ذكرنا من أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم ، خلافا لبعضهم فيما إذا لم يؤكد الفعل المذكور بمصدر . فإن أكد به فهو [ ص: 39 ] صيغة عموم بلا خلاف ، كما أشار إلى ذلك في مراقي السعود بقوله عاطفا على صيغ العموم :



ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدرا قد جلبا


والتحقيق في هذه المسألة : أنها لا تختص بالفعل المتعدي دون اللازم ، خلافا لمن زعم ذلك ، وأنه لا فرق بين التأكيد بالمصدر وعدمه . لإجماع النحاة على أن ذكر المصدر بعد الفعل تأكيد للفعل ، والتأكيد لا ينشأ به حكم ، بل هو مطلق تقوية لشيء ثابت قبل ذلك كما هو معروف . وخلاف العلماء في عموم الفعل المذكور هل هو بدلالة المطابقة أو الالتزام معروف . وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يفلح الساحر الآية . يعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر ، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله : حيث أتى وذلك دليل على كفره . لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفيا عاما إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر . ويدل على ما ذكرنا أمران :

الأول هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر . كقوله تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر الآية [ 2 102 ] . فقوله وما كفر سليمان يدل على أنه لو كان ساحرا وحاشاه من ذلك لكان كافرا . وقوله ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر صريح في كفر معلم السحر ، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقررا له : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] ، وقوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] أي : من نصيب ، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذا بالله تعالى . وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح ، وذلك مما لا شك فيه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-14, 11:56 PM
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (279)
سُورَةُ طه
صـ 40 إلى صـ 46



الأمر الثاني أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة لا يفلح يراد بها الكافر ، كقوله تعالى في سورة " يونس " : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 68 - 70 ] ، وقوله في " يونس " أيضا : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون [ 10 17 ] ، وقوله [ ص: 40 ] في " الأنعام " : ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون [ 6 21 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة : أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة ، والكفرة غيرهم أنه ينال الفلاح ، وهو كذلك ، كما بينه جل وعلا في آيات كثيرة . كقوله : أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 5 ] ، وقوله تعالى : قد أفلح المؤمنون [ 23 1 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يفلح الساحر مضارع أفلح بمعنى نال الفلاح . والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب . ومنه قول لبيد :



فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل


فقوله " ولقد أفلح من كان عقل " يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر مطلوب . ويطلق الفلاح أيضا على البقاء ، والدوام في النعيم . ومنه قول لبيد :



لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح


فقوله " مدرك الفلاح " يعني البقاء . وقول الأضبط بن قريع السعدي ، وقيل كعب بن زهير :



لكل هم من الهموم سعه والمسي والصبح لا فلاح معه


عنى أنه ليس مع تعاقب الليل ، والنهار بقاء . وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم " حي على الفلاح " في الأذان ، والإقامة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حيث أتى حيث كلمة تدل على المكان ، كما تدل حينا على الزمان ، ربما ضمنت معنى الشرط . فقوله : ولا يفلح الساحر حيث أتى أي : حيث توجه وسلك . وهذا أسلوب عربي معروف يقصد به التعميم . كقولهم : فلان متصف بكذا حيث سار ، وأية سلك ، وأينما كان . ومن هذا القبيل قول زهير :



بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا وزودوك اشتياقا أية سلكوا


وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : ولا يفلح الساحر حيث أتى أي : لا يفوز ، ولا ينجو حيث أتى من الأرض . وقيل : حيث احتال . والمعنى في الآية هو [ ص: 41 ] ما بينا ، والله تعالى أعلم .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن السحر يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه ولطف ودق . ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء : أخفى من السحر . ومنه قول مسلم بن الوليد الأنصاري :



جعلت علامات المودة بيننا مصائد لحظ هن أخفى من السحر فأعرف منها الوصل في لين طرفها
وأعرف منها الهجر في النظر الشزر

ولهذا قيل لملاحة العينين : سحر . لأنها تصيب القلوب بسهامها في خفاء . ومنه قول المرأة التي شببت بنصر بن حجاج السلمي :



وانظر إلى السحر يجري في لواحظه وانظر إلى دعج في طرفه الساجي


المسألة الثانية : اعلم أن السحر في الاصطلاح لا يمكن حده بحد جامع مانع . لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته ، ولا يتحقق قدر مشترك بينها يكون جامعا لها مانعا لغيرها . ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافا متباينا .
المسألة الثالثة : اعلم أن الفخر الرازي في تفسيره قسم السحر إلى ثمانية أقسام :

القسم الأول : سحر الكلدانيين ، والكسدائيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب ، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها تصدر الخيرات ، والشرور ، والسعادة ، والنحوسة ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلا لمقالتهم ورادا عليهم . وقد أطال الكلام في هذا النوع من السحر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومعلوم أن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف . لأنهم كانوا يتقربون فيه للكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله ، ويرجون الخير من قبل الكواكب ويخافون الشر من قبلها كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه . فهم كفرة يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر البواح .

[ ص: 42 ] النوع الثاني من السحر : سحر أصحاب الأوهام ، والنفوس القوية . ثم استدل على تأثير الوهم بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه قال : وما ذاك إلا أن تخيل السقوط متى قوي أوجبه . وقال : واجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان ، والدوران . وما ذاك إلا أن النفوس خلقت مطيعة للأوهام .

قال : وحكى صاحب الشفاء عن أرسطو في طبائع الحيوان : أن الدجاجة إذا تشبهت كثيرا بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة نبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك ، قال : ثم قال صاحب الشفاء : وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية . قال : واجتمعت الأمم على أن الدعاء اللساني الخالي عن الطلب النفساني قليل العمل عديم الأثر . فدل ذلك على أن للهمم والنفوس آثارا . . . إلى آخر كلامه في هذا النوع من أنواع السحر ، وقد أطال فيه الكلام .

ومعلوم أن النفوس الخبيثة لها آثار بإذن الله تعالى ، ومن أصرح الأدلة الشرعية في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " . وهذا الحديث الصحيح يدل على أن همة العائن وقوة نفسه في الشر جعلها الله سببا للتأثير في المصاب بالعين .

وقال الرازي في هذا النوع من أنواع السحر : إذا عرفت هذا فنقول : النفوس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفعال عن الاستعانة بالآلات ، والأدوات ، وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات . وتحقيقه : أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماء كانت كأنها روح من الأرواح السماوية ، فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم ، أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف البتة إلا في هذا البدن . إلى آخر كلامه . ولا يخفى ما فيه على من نظره .

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره في سورة " البقرة " بعد أن ساق كلام الرازي الذي ذكرناه آنفا ما نصه : ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء ، والانقطاع عن الناس . قلت : وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال وهو على قسمين : تارة يكون حالا صحيحة شرعية ، يتصرف بها فيما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويترك ما نهى الله تعالى عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - : فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى ، وكرامات للصالحين من هذه [ ص: 43 ] الأمة ، ولا يسمى هذا سحرا في الشرع . وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتصرف بها في ذلك . فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ، ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم . كما أن الدجال له من خوارق العادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة ، مع أنه مذموم شرعا لعنه الله . وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

النوع الثالث من أنواع السحر المذكورة : الاستعانة بالأرواح الأرضية ، يعني تسخير الجن واستخدامهم . قال :

واعلم أن القول بالجن مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة ، والمعتزلة . أما أكابر الفلاسفة فلم ينكروا القول بها . إلا أنهم سموها بالأرواح الأرضية . والجن المذكورون قسمان : مؤمنون ، وكافرون وهم الشياطين .

قال الرازي في كلامه على هذا النوع من السحر : واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة ، والقرب . ثم إن أصحاب الصنعة وأصحاب التجربة شاهدوا بأن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال سهلة من الرقى ، والدخن ، والتجريد . وهذا النوع هو المسمى بالعزائم ، وعمل تسخير الجن . وقد أطال الرازي أيضا الكلام في هذا النوع من أنواع السحر .

النوع الرابع من أنواع السحر : هو التخيلات ، والأخذ بالعيون . ومبنى هذا النوع منه على أن القوة الباصرة قد ترى الشيء على خلاف ما هو عليه في الحقيقة لبعض الأسباب العارضة . ولأجل هذا كانت أغلاط البصر كثيرة . ألا ترى أن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة ، والشط متحركا ، وذلك يدل على أن الساكن يرى متحركا . والمتحرك ساكنا . والقطرة النازلة ترى خطا مستقيما . إلى آخر كلام الرازي . وقد أطال الكلام أيضا في هذا النوع .

وقال ابن كثير في تفسيره في سورة " البقرة " مختصرا كلام الرازي المذكور : ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشيء المعين دون غيره . ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ، ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استغرقهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة ، وحينئذ ، يظهر لهم شيء غير ما انتظروه فيتعجبون منه جدا ، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما [ ص: 44 ] يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله . قال : وكلما كانت الأحوال تفيد حس البصر نوعا من أنواع الخلل أشد ، كان العمل أحسن . مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جدا أو مظلم ، فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها ، والحالة هذه . ا ه منه .

ولا يخفى أن يكون سحر سحرة فرعون من هذا النوع . فهو تخييل وأخذ بالعيون كما دل عليه قوله تعالى : فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى [ 20 66 ] فإطلاق التخييل في الآية على سحرهم نص صريح في ذلك . وقد دل على ذلك أيضا قوله في " الأعراف " : فلما ألقوا سحروا أعين الناس [ 7 116 ] . لأن إيقاع السحر على أعين الناس في الآية يدل على أن أعينهم تخيلت غير الحقيقة الواقعة ، والعلم عند الله تعالى .

النوع الخامس من أنواع السحر : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية ، كفارس على فرس في يده بوق ، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد . ومنها الصور التي يصورها الروم ، والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، حتى إنهم يصورونها ضاحكة وباكية ، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور ، وبين ضحك الخجل ، وضحك الشامت .

فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل . قال الرازي : وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب . ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات . ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال ، وهو أن يجر ثقيلا عظيما بآلة خفيفة سهلة ، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لأن لها أسبابا معلومة نفيسة ، من اطلع عليها قدر عليها ، إلا أن الاطلاع عليها لما كان عسيرا عد أهل الظاهر ذلك من باب السحر لخفاء مأخذه ا ه .

وقد علمت أن الرازي يرى أن سحر سحرة فرعون من هذا النوع الأخير ، لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال ، والعصي فحركته حرارة الشمس فتحركت الحبال والعصي فظنوا أنها حركة طبيعية حقيقية . والذي يظهر لنا أنه من النوع الذي قبله كما قدمنا ، ولا مانع من أن يتوارد نوعان على شيء واحد فيكون داخلا في هذا وفي هذا . والله تعالى أعلم .

وقال ابن كثير بعد أن ذكر كلام الرازي الذي ذكرنا في هذا النوع من السحر . قلت : ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار ، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس ، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى [ ص: 45 ] الكنيسة ، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم ، وأما الخواص منهم فمعترفون بذلك ، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم ، فيرون ذلك سائغا لهم ، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب ، والترهيب ، فيدخلون في عداد من قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " ، وقوله : " حدثوا عني ، ولا تكذبوا علي ، فإنه من يكذب علي يلج النار " . ثم ذكرها هنا - يعني الرازي - حكاية عن بعض الرهبان ، وهي أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ، ضعيف الحركة ، فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به ، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوفا ، فإذا دخلته الريح سمع منه صوت كصوت ذلك الطائر . وانقطع في صومعة ابتناها ، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم ، وعلق ذلك الطائر في مكان منها ، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابا من ناحيته فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا ، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئا كثيرا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ، ولا يدرون ما سببه . ففتنهم بذلك وأوهمهم أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة انتهى كلام ابن كثير .

وذكر الرازي في هذه المسألة التي نقلها عنه ابن كثير : أن ذلك الطائر المذكور يسمى البراصل ، وأن الذي عمل صورته يسمى أرجعيانوس الموسيقار ، وأنه جعل ذلك على هيكل أورشليم العتيق عند تجديده إياه ، وأن الذي قام بعمارة ذلك الهيكل أولا أسطرخس الناسك .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا النوع الخامس الذي عده الرازي من أنواع السحر ، الذي هو الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية . . . إلخ لا ينبغي عده اليوم من أنواع السحر . لأن أسبابه صارت واضحة متعارفة عند الناس ، بسبب تقدم العلم المادي . والواضح الذي صار عاديا لا يدخل في حد السحر ، وقد كانت أمور كثيرة خفية الأسباب فصارت اليوم ظاهرتها جدا . والله تعالى أعلم .

النوع السادس من أنواع السحر : الاستعانة بخواص الأدوية ، مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلدة المزيلة للعقل ، والدخن المسكرة نحو دماغ الحمار إذا تناوله [ ص: 46 ] الإنسان تبلد عقله ، وقلت فطنته ، قاله الرازي . ثم قال : واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص : فإن أثر المغناطيس مشاهد إلا أن الناس قد أكثروا فيه وخلطوا الصدق بالكذب ، والباطل بالحق . ا ه كلام الرازي .

وقال ابن كثير بعد أن ذكر هذا النوع من السحر نقلا عن الرازي : قلت : يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ، ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعيا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحاولات . انتهى كلام ابن كثير .

النوع السابع من أنواع السحر المذكور : تعليق القلب ، وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم ، وأن الجن يطيعون وينقادون له في أكثر الأحوال : فإذا اتفق أن كان السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق : وتعلق قلبه بذلك : حصل في نفسه نوع من الرعب ، والمخافة : وإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة : فحينئذ يتمكن الساحر من أن يفعل ما يشاء . قال الرازي : وإن من جرب الأمور وعرف أحوال أهل العلم علم أن لتعلق القلب أثرا عظيما في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار .

وقال ابن كثير بعد أن نقل هذا النوع من السحر عن الرازي : هذا النمط يقال له التنبلة ، وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم . وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه . فإذا كان النبيل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره .

النوع الثامن من أنواع السحر : السعي بالنميمة ، والتضريب من وجوه لطيفة خفية وذلك شائع في الناس ا ه . والتضريب بين القوم : إغراء بعضهم على بعض .

وقال ابن كثير بعد أن نقل هذا النوع الأخير عن الرازي قلت : النميمة على قسمين : تارة تكون على وجه التحريش بين الناس ، وتفريق قلوب المؤمنين . فهذا حرام متفق عليه . فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس ، وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث " ليس الكذاب من ينم خيرا " أو يكون على وجه التخذيل ، والتفريق بين جموع الكفرة ، فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث " الحرب خدعة " ، وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة ، جاء إلى هؤلاء ونمى إليهم عن هؤلاء ، ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر ، ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت . وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة . والله المستعان .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-04-15, 12:01 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (280)
سُورَةُ طه
صـ 47 إلى صـ 53




[ ص: 47 ] ثم قال الرازي : فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه .

قلت : وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها . لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه ، ولهذا جاء في الحديث " إن من البيان لسحرا " وسمي السحور سحورا لكونه يقع خفيا آخر الليل . والسحر : الرئة وهي محل الغذاء ، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه ، كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : أنتفخ سحره ؟ أي : أنتفخت رئته من الخوف ؟

وقالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري . وقال تعالى : سحروا أعين الناس [ 7 116 ] أي : أخفوا عنهم عملهم ، انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

هذا هو حاصل الأقسام الثمانية التي ذكر الفخر الرازي في تفسيره في سورة " البقرة " انقسام السحر إليها . ولأهل العلم فيه تقسيمات متعددة يرجع غالبها إلى هذه الأقسام المذكورة وقد قسمه الشيخ سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوي الشنقيطي صاحب التآليف العديدة المفيدة في نظمه المسمى ( رشد الغافل ) وشرحه له ، الذي بين فيه أنواع علوم الشر لتتقى وتجتنب إلى أقسام متعددة :

( منها ) قسم يسمى ( بالهيمياء ) بكسر الهاء بعدها مثناة تحتية فميم فياء بعدها ألف التأنيث الممدودة ، على وزن كبرياء . قال : وهو ما تركب من خواص سماوية تضاف لأحوال الأفلاك ، يحصل لمن عمل له شيء من ذلك أمور معلومة عند السحرة ، وقد يبقى له إدراك ، وقد يسلبه بالكلية فتصير أحواله كحالات النائم من غير فرق ، حتى يتخيل مرور السنين الكثيرة في الزمن اليسير وحدوث الأولاد وانقضاء الأعمار ، وغير ذلك في ساعة ونحوها من الزمن اليسير . ومن لم يعمل له ذلك لا تجد شيئا مما ذكر . وهذا تخييل لا حقيقة له اه .

( ومنها ) نوع يسمى ( بالسيمياء ) بكسر السين المهملة وبقية حروفه كحروف ما قبله . قال : وهو عبارة عما تركب من خواص أرضية كدهن خاص ، أو مائعات خاصة يبقى معها إدراك ، وقد يسلب بالكلية إلى آخر ما تقدم في الهيمياء .

( ومنها ) : نوع هو رقى ضارة . قال : كرقى الجاهلية وأهل الهند ، وربما كانت كفرا . قال : ولهذا نهى مالك عن الرقى بالعجمية . وقال ابن زكريا في شرح ( النصيحة ) : ولا يقال لما يحدث ضررا رقى ، بل ذلك يقال له سحر .

[ ص: 48 ] ( ومنها ) : قسم يسمى خصائص بعض الحقائق التي لها تسلط على النفوس . كالمشط ، والمشاقة وجف طلع الذكر من النخل ، وقصة جعل اليهودي الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر في سحره مشهورة . وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى .

ومن أمثلة هذا النوع عند أهله : أن بعض أنواع الكلاب من شأنه إذا رمي بحجر أن يعضه ، فإذا رمي بسبع حجارة وعض كل واحدة منها وطرحت تلك الحجارة في ماء فمن شرب منه فإن السحرة يزعمون أن تظهر فيه آثار مخصوصة معروفة عندهم . قبحهم الله تعالى .

( ومنها ) : نوع يسمى ( بالطلاسم ) وهو عبارة عن نقش أسماء خاصة لها تعلق بالأفلاك والكواكب على زعم أهلها في جسم من المعادن أو غيرها ، تحدث بها خاصية ربطت في مجاري العادات ، ولا بد مع ذلك من نفس صالحة لهذه الأعمال . فإن بعض النفوس لا تجري الخاصة المذكورة على يده .

( ومنها ) : نوع يسمى ( بالعزائم ) وهم يزعمون أن لكل نوع من الملائكة أسماء أمروا بتعظيمها ، ومتى أقسم عليهم بها أطاعوا وأجابوا وفعلوا ما طلب منهم ا هـ ، ولا يخفى ما في هذا الزعم من الفساد .

( ومنها ) : نوع يسمونه الاستخدام للكواكب ، والجن . وأهل الاستخدمات يزعمون أن للكواكب إدراكات روحانية . فإذا قوبلت الكواكب ببخور خاص ولباس خاص على الذي يباشر البخور ، كانت روحانية فلك الكواكب مطيعة له ، متى ما أراد شيئا فعلته له على زعمهم لعنهم الله تعالى . وهذا النوع من سحر الكلدانيين المتقدم . وكذلك ملوك الجان يزعمون أنهم إذا عملوا لهم أشياء خاصة بكل ملك من ملوكهم أطاعوا وفعلوا لهم ما أرادوا . قال : وشروط هذه الأمور مستوعبة في كتبهم . وذكر من علوم الشر أنواعا كثيرة : كالخط ، والأشكال ، والموالد ، والقرعة ، والفأل ، وعلم الكتف ، والموسيقى ، والرعدي ، والكهانة ، وغير ذلك .

والخط الرملي معروف . والأشكال جمع شكل ، ويسمى علمها علم الجداول وعلم الأوفاق ، وهي معروفة وهي من الباطل .

والموالد جمع مولد ، وهي أن يدعي من معرفة النجم الذي كان طالعا عند ولادة الشخص أنه يكون سلطانا أو عالما ، أو غنيا أو فقيرا ، أو طويل العمر أو قصيره ، ونحو ذلك .

[ ص: 49 ] والقرعة ما يسمونه قرعة الأنبياء ، وحاصلها جدول مرسوم في بيوته أسماء الأنبياء وأسماء الطيور . وبعد الجدول تراجم ، لكل اسم ترجمة خاصة به ، ويذكر فيها أمور من المنافع ، والمضار ، يقال للشخص غمض عينيك وضع أصبعك في الجدول . فإذا وضعها على اسم قرئت له ترجمته ليعتقد أنه يكون له ذلك المذكور منها . قال : وقد عدها العلماء من باب الاستقسام بالأزلام .

ومراده بالفأل : الفأل المكتسب . كأن يريد إنسان التزوج أو السفر مثلا ، فيخرج ليسمع ما يفهم منه الإقدام أو الإحجام ، ويدخل فيه النظر في المصحف لذلك : ولا يخفى أن ذلك من نوع الاستقسام بالأزلام . أما ما يعرض من غير اكتساب كأن يسمع قائلا يقول : ما مفلح ، فليس من هذا القبيل كما جاءت به الأحاديث الصحيحة .

وعلم الكتف : علم يزعم أهل الشر ، والضلال أن من علمه يكون إذا نظر في أكتاف الغنم اطلع على أمور من الغيب ، وربما زعم المشتغل به أن السلطان يموت في تاريخ كذا ، وأنه يطرأ رخص أو غلاء أو موت الأعيان كالعلماء ، والصالحين ، وقد يذكر شأن الكنوز أو الدفائن ، ونحو ذلك . والموسيقى معروفة ، وكلها من الباطل كما لا يخفى على من له إلمام بالشرع الكريم .

والرعديات : علم يزعم أهله أن الرعد إذا كان في وقت كذا من السنة والشهر فهو علامة على أمور غيبية من جدب وخصب ، وكثرة الرواج في الأسواق وقلته ، وكثرة الموت وهلاك الماشية ، وانقراض الملك ونحو ذلك . والفرق بين العرافة والكهانة مع أنهما يشتركان في دعوى الاطلاع على الغيب : أن العرافة مختصة بالأمور الماضية ، والكهانة مختصة بالأمور المستقبلة ا ه منه .

وعلوم الشر كثيرة ، وقصدنا بذكر ما ذكرنا منها التنبيه على خستها وقبحها شرعا ، وأن منها ما هو كفر بواح ، ومنها ما يؤدي إلى الكفر ، وأقل درجاتها التحريم الشديد . وقد دل بعض الأحاديث ، والآثار على أن العيافة ، والطرق ، والطيرة من السحر . وقد قدمنا معنى ذلك في " الأنعام " وعنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس رضي الله عنه : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد " رواه أبو داود بإسناد صحيح . وللنسائي من حديث أبي هريرة " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلق شيئا وكل إليه " .
[ ص: 50 ] المسألة الرابعة

اختلف العلماء في السحر هل هو حقيقة أو هو تخييل لا حقيقة له . والتحقيق أن منه ما هو حقيقة كما قدمنا ، ومنه ما هو تخييل كما تقدم إيضاحه . وهو مفهوم من أقسام السحر المتقدمة في كلام الرازي ، وغيره .
المسألة الخامسة

اختلف العلماء فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال بعضهم : إنه يكفر بذلك ، وهو قول جمهور العلماء منهم مالك ، وأبو حنيفة وأصحاب أحمد ، وغيرهم . وعن أحمد ما يقتضي عدم كفره . وعن الشافعي أنه إذا تعلم السحر قيل له صف لنا سحرك . فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب ، وأنها تفعل ما يطلب منها فهو كافر ، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر ، وإلا فلا . وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة معروفة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل . فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب ، والجن ، وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر فهو كفر بلا نزاع ، ومن هذا النوع سحر هاروت وماروت المذكور في سورة " البقرة " فإنه كفر بلا نزاع . كما دل عليه قوله تعالى : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ 2 102 ] ، وقوله تعالى : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] ، وقوله : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] ، وقوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 69 ] كما تقدم إيضاحه . وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر . هذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى في هذه المسألة التي اختلف فيها العلماء .
المسألة السادسة

اعلم أن العلماء اختلفوا في الساحر هل يقتل بمجرد فعله للسحر واستعماله له أو لا ؟ قال ابن كثير في تفسيره : قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله له ؟ فقال مالك وأحمد : نعم . وقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا . فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه [ ص: 51 ] يقتل عند مالك ، والشافعي وأحمد . وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك ، أو يقر بذلك في حق شخص معين . وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل ، والحالة هذه قصاصا .

وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك ، وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم : لا تقبل . وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى : تقبل التوبة .

وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم . وقال مالك والشافعي وأحمد : لا يقتل . يعني لقصة لبيد بن الأعصم .

واختلفوا في المسلمة الساحرة . فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ، ولكن تحبس . وقال الثلاثة : حكمها حكم الرجل . وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال : قرأ على أبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال : يقتل ساحر المسلمين ، ولا يقتل ساحر المشركين . لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها . وقد نقل القرطبي عن مالك أنه قال في الذمي : يقتل إن قتل بسحره . وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر : إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل : والثانية أنه يقتل وإن أسلم .

وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة ، وغيرهم ، لقوله تعالى : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ 2 102 ] لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته . لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاء تائبا قبلناه . فإن قتل سحره قتل . قال الشافعي فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى .

وقال النووي في شرح مسلم : وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا . وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب منه ، ولا يقتل عندنا ، فإن تاب قبلت توبته . وقال مالك : الساحر كافر يقتل بالسحر ، ولا يستتاب ، ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله : والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق ، لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا ، وعندنا ليس بكافر ، وعندنا تقبل توبة المنافق ، والزنديق . وقال القاضي عياض : وبقول مالك قال أحمد بن حنبل ، وهو مروي عن جماعة من الصحابة ، والتابعين . قال أصحابنا : فإذا قتل الساحر بسحره إنسانا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبا لزمه القصاص . وإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص ، وتجب الدية في ماله [ ص: 52 ] لا على عاقلته . لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني . وقال أصحابنا : ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة ، وإنما يتصور باعتراف الساحر ، والله أعلم . انتهى كلام النووي .

وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على قول البخاري : ( باب السحر ) وقول الله تعالى : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ 2 102 ] : وقد استدل بهذه الآية على أن السحر كفر ومتعلمه كافر ، وهو واضح في بعض أنواعه التي قدمتها ، وهو التعبد للشياطين أو الكواكب . وأما النوع الآخر الذي هو من باب الشعوذة فلا يكفر من تعلمه أصلا .

قال النووي . عمل السحر حرام ، وهو من الكبائر بالإجماع ، وقد عده النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات ، ومنه ما يكون كفرا . ومنه ما لا يكون كفرا ، بل معصية كبيرة . فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر فهو كفر وإلا فلا . وأما تعلمه وتعليمه فحرام ، إلى آخر كلام النووي الذي ذكرناه عنه آنفا . ثم إن ابن حجة لما نقله عنه قال : وفي المسألة اختلاف كبير وتفاصيل ليس هذا موضع بسطها ا ه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة إن شاء الله تعالى أن السحر نوعان كما تقدم ؟ منه ما هو كفر ، ومنه ما لا يبلغ بصاحبه الكفر ، فإن كان الساحر استعمل السحر الذي هو كفر فلا شك في أنه يقتل كفرا ؟ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " .

وأظهر القولين عندي في استتابته أنه يستتاب ، فإن تاب قبلت توبته . وقد بينت في كتابي ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " آل عمران " أن أظهر القولين دليلا أن الزنديق تقبل توبته ؟ لأن الله لم يأمر نبيه ، ولا أمته - صلى الله عليه وسلم - بالتنقيب عن قلوب الناس ؟ بل بالاكتفاء بالظاهر . وما يخفونه في سرائرهم أمره إلى الله تعالى . خلافا للإمام مالك وأصحابه القائلين بأن الساحر له حكم الزنديق . لأنه مستمر بالكفر ، والزنديق لا تقبل توبته عنده إلا إذا جاء تائبا قبل الاطلاع عليه . وأظهر القولين عندي : أن المرأة الساحرة حكمها حكم الرجل الساحر وأنها إن كفرت بسحرها قتلت كما يقتل الرجل . لأن لفظة " من " في قوله : " من بدل دينه فاقتلوه " تشمل الأنثى على أظهر القولين وأصحهما إن شاء الله تعالى . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى الآية [ 4 124 ] . فأدخل الأنثى في لفظة " من " وقوله تعالى : يانساء النبي من يأت منكن الآية [ 4 124 ] ، وقوله : ومن يقنت منكن لله الآية [ 33 30 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وإلى هذه المسألة التي هي شمول لفظة " من " في الكتاب ، والسنة [ ص: 53 ] للأنثى أشار في مراقي السعود بقوله :



وما شمول من للأنثى جنف وفي شيبه المسلمين اختلفوا

وأما إن كان الساحر عمل السحر الذي لا يبلغ بصاحبه الكفر ، فهذا هو محل الخلاف بين العلماء . فالذين قالوا يقتل ولو لم يكفر بسحره قال أكثرهم : يقتل حدا ولو قتل إنسانا بسحره ، وانفرد الشافعي في هذه الصورة بأنه يقتل قصاصا لا حدا .

وهذه حجج الفريقين ومناقشتها :

أما الذين قالوا مطلقا إذا عمل بسحره ولو لم يقتل به أحدا فاستدلوا بآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ، وبحديث جاء بذلك إلا أنه لم يصح . فمن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه في كتاب ( الجهاد في باب الجزية ) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان قال : سمعت عمرا قال : كنت جالسا مع جابر بن زيد وعمرو بن أوس فحدثهما بجالة سنة سبعين عام حج مصعب بن الزبير بأهل البصرة عند درج زمزم قال : كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف ، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة : اقتلوا كل ساحر ، وفرقوا بين كل ذي محرم من المجوس قال : فقتلنا في يوم واحد ثلاث سواحر وفرقنا بين المحارم منهم . ورواه أيضا أحمد ، وأبو داود . واعلم أن لفظة " اقتلوا كل ساحر " إلخ في هذا الأثر ساقطة في بعض روايات البخاري ، ثابتة في بعضها ، وهي ثابتة في رواية مسدد وأبي يعلى . قاله في الفتح .

ومن الآثار الدالة على ذلك أيضا ما رواه مالك في الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جارية لها سحرتها ، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت . قال مالك : الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه : ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق [ 2 102 ] فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك من نفسه انتهى من الموطأ .

ونحوه أخرجه عبد الرزاق . ومن الآثار الدالة على ذلك ما رواه البخاري في تاريخه الكبير : حدثنا إسحاق . حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن أبي عثمان : كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه ، فجاء جندب الأزدي فقتله . حدثني عمرو بن محمد ، حدثنا هشيم عن خالد عن أبي عثمان عن جندب البجلي : أنه قتله . حدثنا موسى قال حدثنا عبد الواحد عن عاصم عن أبي عثمان : قتله جندب بن كعب .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:13 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (281)
سُورَةُ طه
صـ 54 إلى صـ 60




وفي ( فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ) للعلامة الشيخ عبد الرحمن بن حسن ، رحمه الله تعالى بعد أن أشار لكلام البخاري في [ ص: 54 ] التاريخ الذي ذكرنا ، ورواه البيهقي في الدلائل مطولا ، وفيه : فأمر به الوليد فسجن . فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة انتهى منه .

فهذه آثار عن ثلاثة من الصحابة في قتل الساحر : وهم عمر وابنته أم المؤمنين حفصة رضي الله عنهم جميعا ، وجندب ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . ويعتضد ذلك بما رواه للترمذي ، والدارقطني عن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " حد الساحر ضربه بالسيف " . وضعف الترمذي إسناد هذا الحديث وقال : الصحيح عن جندب موقوف ، وتضعيفه بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي وهو يضعف في الحديث . وقال في ( فتح المجيد ) أيضا في الكلام على حديث جندب المذكور : روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة وحده " ا ه منه .

وقال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر تضعيفه بإسماعيل المذكور : قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر ، عن الحسن عن جندب مرفوعا ا ه . وهذا يقويه كما ترى .

فهذه الآثار التي لم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكرها على من عمل بها مع اعتضادها بالحديث المرفوع المذكور هي حجة من قال بقتله مطلقا . والآثار المذكورة والحديث فيهما الدلالة على أنه يقتل ولو لم يبلغ به سحره الكفر . لأن الساحر الذي قتله جندب رضي الله عنه كان سحره من نحو الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، حتى إنه يخيل إليهم أنه أبان رأس الرجل ، والواقع بخلاف ذلك . وقول عمر " اقتلوا كل ساحر " يدل على ذلك لصيغة العموم . وممن قال بمقتضى هذه الآثار وهذا الحديث : مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد في أصح الروايتين ، وعمر ، وعثمان ، وابن عمر ، وحفصة ، وجندب بن عبد الله ، وجندب بن كعب ، وقيس بن سعد ، وعمر بن عبد العزيز . وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن قدامة في ( المغني ) خلافا للشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهما .

واحتج من قال : بأنه إن كان سحره لم يبلغ به الكفر لا يقتل بحديث ابن مسعود المتفق عليه " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث . . . " الحديث ، وقد قدمناه مرارا . وليس السحر الذي لم يكفر صاحبه من الثلاث المذكورة . قال القرطبي منتصرا لهذا القول : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف ، والله أعلم .

واحتجوا أيضا بأن عائشة رضي الله عنها باعت مدبرة لها سحرتها ، ولو وجب قتلها [ ص: 55 ] لما حل بيعها . قاله ابن المنذر ، وغيره . وما حاوله بعضهم من الجمع بين الأدلة المذكورة بحمل السحر على الذي يقتضي الكفر في قول من قال بالقتل ، وحمله على الذي لا يقتضي الكفر في قول من قال بعدم القتل لا يصح . لأن الآثار الواردة في قتله جاءت بقتل الساحر الذي سحره من نوع الشعوذة كساحر جندب الذي قتله ، وليس ذلك مما يقتضي الكفر المخرج من ملة الإسلام ، كما تقدم إيضاحه . فالجمع غير ممكن . وعليه فيجب الترجيح ، فبعضهم يرجح عدم القتل بأن دماء المسلمين حرام إلا بيقين . وبعضهم يرجح القتل بأن أدلته خاصة ، ولا يتعارض عام وخاص . لأن الخاص يقضي على العام عند أكثر أهل الأصول كما هو مقرر في محله .

قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي أن الساحر الذي لم يبلغ به سحره الكفر ولم يقتل به إنسانا أنه لا يقتل . لدلالة النصوص القطعية ، والإجماع على عصمة دماء المسلمين عامة إلا بدليل واضح . وقتل الساحر الذي لم يكفر بسحره لم يثبت فيه شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والتجرؤ على دم مسلم من غير دليل صحيح من كتاب أو سنة مرفوعة غير ظاهر عندي . والعلم عند الله تعالى ، مع أن القول بقتله مطلقا قوي جدا لفعل الصحابة له من غير نكير .
المسألة السابعة

اعلم أن الناس اختلفوا في تعلم السحر من غير عمل به . هل يجوز أو لا ؟ ، والتحقيق وهو الذي عليه الجمهور : هو أنه لا يجوز ، ومن أصرح الأدلة في ذلك تصريحه تعالى بأنه يضر ولا ينفع في قوله : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ 2 102 ] وإذا أثبت الله أن السحر ضار ونفى أنه نافع فكيف يجوز تعلم ما هو ضرر محض لا نفع فيه ؟ !

وجزم الفخر الرازي في تفسيره في سورة " البقرة " بأنه جائز بل واجب . قال ما نصه :

( المسألة الخامسة ) في أن العلم بالسحر غير قبيح ، ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف ، وأيضا لعموم قوله تعالى : هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 9 ] ، ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة ، والعلم بكون المعجز معجزا واجب ، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب ، فهذا [ ص: 56 ] يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا ، وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا . انتهى منه بلفظه .

ولا يخفى سقوط هذا الكلام وعدم صحته . وقد تعقبه ابن كثير في تفسيره بعد أن نقله عنه بلفظه الذي ذكرنا بما نصه :

وهذا الكلام فيه نظر من وجوه : أحدها قوله : " العلم بالسحر ليس بقبيح " إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا ، وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعا ففي هذه الآية الكريمة يعني قوله تعالى ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم تبشيع لعلم السحر . وفي السنن " من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " ، وفي السنن " من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر " وقوله " ولا محظور ، اتفق المحققون على ذلك " كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرنا من الآية ، والحديث ، واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم . وأين نصوصهم على ذلك ! !

ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 9 ] فيه نظر . لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ، ولما قلت إن هذا منها ! ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد . لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا . ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة ، والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ، ويفرقون بينه وبين غيره ، ولم يكونوا يعلمون السحر ، ولا تعلموه ، ولا علموه ، والله أعلم . انتهى .

ولا يخفى أن كلام ابن كثير هذا صواب ، وأن رده على الرازي واقع موقعه ، وأن تعلم السحر لا ينبغي أن يختلف في منعه . لقوله جل وعلا : ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم [ 2 102 ] . وقول ابن كثير في كلامه المذكور : وفي الصحيح " من أتى عرافا أو كاهنا . . إلخ " إن كان يعني أن الحديث بذلك صحيح فلا مانع ، وإن كان يعني أنه في الصحيحين أو أحدهما فليس كذلك . وبذلك كله تعلم أن قول ابن حجر في ( فتح الباري ) : وقد أجاز بعض العلماء تعلم السحر لأمرين : إما لتمييز ما فيه كفر من غيره . وإما لإزالته عمن وقع فيه .

فأما الأول : فلا محذور فيه إلا من جهة الاعتقاد ، فإذا سلم الاعتقاد فمعرفة الشيء [ ص: 57 ] بمجرده لا تستلزم منعا . كمن يعرف كيفية عبادة أهل الأوثان للأوثان . لأن كيفية ما يعلمه الساحر إنما هي حكاية قول أو فعل ، بخلاف تعاطيه ، والعمل به .

وأما الثاني : فإن كان لا يتم كما زعم بعضهم إلا بنوع من أنواع الكفر أو الفسق فلا يحل أصلا ، وإلا جاز للمعنى المذكور . ا ه خلاف التحقيق ، إذ ليس لأحد أن يبيح ما صرح الله بأنه يضر ، ولا ينفع ، مع أن تعلمه قد يكون ذريعة للعمل به ، والذريعة إلى الحرام يجب سدها كما قدمناه . قال في المراقي :



سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم



هذا هو الظاهر لنا . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة

اعلم أن العلماء اختلفوا في حل السحر عن المسحور . فأجازه بعضهم ، ومنعه بعضهم . وممن أجازه سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى . قال البخاري في صحيحه ( باب هل يستخرج السحر ) : وقال قتادة : قلت لسعيد بن المسيب : رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته ، أيحل عنه ، أو ينشر ؟ قال : لا بأس به ، إنما يريدون به الإصلاح . فأما ما ينفع فلم ينه عنه ا ه . ومال إلى هذا المزني . وقال الشافعي : لا بأس بالنشرة . قاله القرطبي . وقال أيضا : قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل . فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله تعالى ، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله انتهى منه .

وممن أجاز النشرة وهي حل السحر عن المسحور : أبو جعفر الطبري ، وعامر الشعبي ، وغيرهما . وممن كره ذلك : الحسن . وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما سحره لبيد بن الأعصم : هلا تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني وكرهت أن أثير على الناس شرا " .

قال مقيده - عفا الله عنه - : التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في هذه المسألة : أن استخراج السحر إن كان بالقرآن كالمعوذتين ، وآية الكرسي ونحو ذلك مما تجوز الرقيا به فلا مانع من ذلك . وإن كان بسحر أو بألفاظ عجمية ، أو بما لا يفهم معناه ، أو بنوع آخر مما لا يجوز فإنه ممنوع . وهذا واضح وهو الصواب إن شاء الله تعالى كما ترى .

[ ص: 58 ] وقال ابن حجر في فتح الباري ما نصه : ( تكميل ) قال ابن القيم : من أنفع الأدوية ، وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثيرات الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية : من الذكر ، والدعاء ، والقراءة . فالقلب إذا كان ممتلئا من الله ، معمورا بذكره ، وله ورد من الذكر ، والدعاء ، والتوجه ، لا يخل به كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له . قال : وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة . ولهذا غالب ما يؤثر فيه النساء ، والصبيان ، والجهال . لأن الأرواح الخبيثة إنما تنشط على الأرواح ، تلقاها مستعدة لما يناسبها انتهى ملخصا . ويعكر عليه حديث الباب ، وجواز السحر على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، مع عظيم مقامه ، وصدق توجهه ، وملازمة ورده ولكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب ، وإنما وقع به - صلى الله عليه وسلم - لبيان تجويز ذلك ، والله أعلم انتهى من فتح الباري .
المسألة التاسعة

اعلم أن العلماء اختلفوا في تحقيق القدر الذي يمكن أن يبلغه تأثير السحر في المسحور ، واعلم أن لهذه المسألة واسطة وطرفين : طرف لا خلاف في أن تأثير السحر يبلغه كالتفريق بين الرجل وامرأته ، وكالمرض الذي يصيب المسحور من السحر ونحو ذلك ، ودليل ذلك القرآن ، والسنة الصحيحة . أما القرآن فقوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 102 ] فصرح جل وعلا في هذه الآية الكريمة بأن من تأثير السحر التفريق بين المرء وزوجه . وأما السنة فما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها بألفاظ متعددة متقاربة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن . فقال : " يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه ، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال : مطبوب ، قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف اليهودي كان منافقا ، قال : وفيم ؟ قال : في مشط ومشاطة ؟ قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راعوفة فيبئر ذروان " قالت : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - البئر حتى استخرجه ، فقال : " هذه البئر التي أربتها ، وكأن ماءها نقاعة الحناء ، وكأن نخلها رءوس الشياطين ، فاستخرج " قالت فقلت : أفلا أي : تنشرت ؟ فقال : " أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا " ا ه هذا لفظ البخاري في بعض رواياته لهذا الحديث . والقصة مشهورة صحيحة . ففي هذا الحديث الصحيح : أن تأثير السحر فيه - صلى الله عليه وسلم - سبب له [ ص: 59 ] المرض . بدليل قوله " أما الله فقد شفاني " وفي بعض الروايات الثابتة في صحيح البخاري ، وغيره بلفظ : فقال أحدهما لصاحبه : ما وجع الرجل ؟ قال مطبوب . أي : مسحور . وهو تصريح بأن السحر سبب له وجعا . ونفي بعض الناس لهذه القصة مستدلا بأنها لا تجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم - ، لقوله تعالى عن الكفار منكرا عليهم . إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] ساقط ؛ لأن الروايات الصحيحة الثابتة لا يمكن ردها بمثل هذه الدعاوى . وسترى في آخر بحث هذه المسألة إن شاء الله تعالى إيضاح وجه ذلك . وطرف لا خلاف في أن تأثير السحر لا يمكن أن يبلغه كإحياء الموتى ، وفلق البحر ونحو ذلك .

قال القرطبي في تفسيره : أجمع المسلمون على أنه ليس في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد ، والقمل ، والضفادع ، وفلق البحر ، وقلب العصا ، وإحياء الموتى ، وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام . فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون لا يفعله الله عند إرادة الساحر . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه انتهى كلام القرطبي .

وأما الواسطة فهي محل خلاف بين العلماء ، وهي هل يجوز أن ينقلب بالسحر الإنسان حمارا مثلا ، والحمار إنسانا ؟ وهل يصح أن يطير الساحر في الهواء ، وأن يستدق حتى يدخل من كوة ضيقة . وينتصب على رأس قصبة ، ويجري على خيط مستدق ، ويمشي على الماء ، ويركب الكلب ونحو ذلك . فبعض الناس يجيز هذا . وجزم بجوازه الفخر الرازي في تفسيره ، وكذلك صاحب رشد الغافل ، وغيرهما . وبعضهم يمنع مثل هذا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما بالنسبة إلى أن الله قادر على أن يفعل جميع ذلك ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب وإن لم تكن هناك مناسبة عقلية بين السبب ، والمسبب كما قدمناه مستوفى في سورة " مريم " فلا مانع من ذلك ، والله جل وعلا يقول وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ 2 102 ] . وأما بالنسبة إلى ثبوت وقوع مثل ذلك بالفعل فلم يقم عليه دليل مقنع . لأن غالب ما يستدل عليه به قائله حكايات لم تثبت عن عدول ، ويجوز أن يكون ما وقع منها من جنس الشعوذة ، والأخذ بالعيون ، لا قلب الحقيقة مثلا إلى حقيقة أخرى . وهذا هو الأظهر عندي ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 60 ] تنبيه

اعلم أن ما وقع من تأثير السحر في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يستلزم نقصا ، ولا محالا شرعيا حتى ترد بذلك الروايات الصحيحة . لأنه من نوع الأعراض البشرية ، كالأمراض المؤثرة في الأجسام ، ولم يؤثر البتة فيما يتعلق بالتبليغ . واستدلال من منع ذلك زاعما أنه محال في حقه - صلى الله عليه وسلم - بآية إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] مردود كما سنوضحه إن شاء الله في آخر هذا البحث .

قال ابن حجر في الفتح : قال المازري : أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث ، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها . قالوا : وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل . وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع ، إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ، ثم وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه شيء . قال المازري : هذا كله مردود . لأن الدليل قد قام على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن الله تعالى ، وعلى عصمته في التبليغ . والمعجزات شاهدات بتصديقه . فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل . وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ، ولا كانت الرسالة من أجلها ، فهو في ذلك عرضة لما يعتري البشر كالأمراض . فغير بعيد أن يخيل الله في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين . قال : وقد قال بعض الناس : إن المراد بالحديث : أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطئهن وهذا كثير ما يقع تخيله للإنسان في المنام . فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:13 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (282)
سُورَةُ طه
صـ 61 إلى صـ 67




قلت : وهذا قد ورد صريحا في رواية ابن عيينة في الباب الذي يلي هذا ، ولفظه : " حتى كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن " وفي رواية الحميدي " أنه يأتي أهله ، ولا يأتيهم " قال الداودي : " يرى " بضم أوله أي : يظن . وقال ابن التين : ضبطت " يرى " بفتح أوله . قلت : وهو من الرأي لا من الرؤية فيرجع إلى معنى الظن . وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبد الرزاق : سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة ، حتى أنكر بصره . وعنده في مرسل سعيد بن المسيب : حتى كاد ينكر بصره . قال عياض فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه ، لا على تمييزه ومعتقده . قلت : ووقع في مرسل عبد الرحمن بن كعب عند ابن سعد : فقالت أخت لبيد بن الأعصم : إن يكن نبينا فسيخبر ، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله : قلت : فوقع الشق الأول كما في هذا الحديث الصحيح . وقد [ ص: 61 ] قال بعض العلماء : لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك ، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ، ولا يثبت . فلا يبقى على هذا للملحد حجة .

وقال عياض : يحتمل أن يكون المراد بالتخيل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء ، فإذا دنا من المرأة فتر من ذلك كما هو شأن المعقود ، ويكون قوله في الرواية الأخرى " حتى كاد ينكر بصره " أي : صار كالذي أنكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته . فإذا تأمله عرف حقيقته . ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به . وقال المهلب : صون النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده ، فقد مضى في الصحيح : أن شيطانا أراد أن يفسد عليه صلاته ، فأمكنه الله منه . فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصا على ما يتعلق بالتبليغ ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض : من ضعف عن الكلام ، أو عجز عن بعض الفعل ، أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول . ويبطل الله كيد الشياطين .

واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث : " أما أنا فقد شفاني الله " وفي الاستدلال به نظر . لكن يؤيد المدعي أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في الدلائل : فكان يدور ، ولا يدري ما وجعه . وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد : مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذ عن النساء ، والطعام ، والشراب . فهبط عليه ملكان . الحديث انتهى من ( فتح الباري ) .

وعلى كل حال فهو - صلى الله عليه وسلم - معصوم بالإجماع من كل ما يؤثر خللا في التبليغ ، والتشريع . وأما بالنسبة إلى الأعراض البشرية : كأنواع الأمراض ، والآلام ، ونحو ذلك فالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يعتريهم من ذلك ما يعتري البشر . لأنهم بشر كما قال تعالى عنهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 11 ] ونحو ذلك من الآيات .

وأما قوله تعالى : إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 47 ] فمعناه أنهم يزعمون أنه - صلى الله عليه وسلم - مسحور أو مطبوب ، قد خبله السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره . يقولون ذلك لينفروا الناس عنه . وقال مجاهد : " مسحورا " أي : مخدوعا . مثل قوله فأنى تسحرون [ 23 89 ] أي : من أين تخدعون . ومعنى هذا راجع إلى [ ص: 62 ] ما قبله . لأن المخدوع مغلوب في عقله . وقال أبو عبيدة مسحورا معناه أن له سحرا أي : رئة فهو لا يستغني عن الطعام ، والشراب ، فهو مثلكم وليس بملك . كقولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ 25 7 ] ، وقوله عن الكفار ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 33 - 34 ] ونحو ذلك من الآيات . ويقال لكل من أكل أو شرب من آدمي أو غيره : مسحور ومسحر . ومنه قول لبيد :



فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر


وقال امرؤ القيس :



أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب



أي : نغذى ونعلل .

وإذا علمت أن أقوال العلماء في قوله " مسحورا " راجعة إلى دعواهم اختلال عقله بالسحر أو الخديعة ، أو كونه بشرا علمت أنه لا دليل في الآية على منع بعض التأثيرات العرضية التي لا تعلق لها بالتبليغ ، والتشريع كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

وقد أشرنا فيما تقدم لحكم ساحر أهل الذمة ، واختلاف العلماء في قتله ، واستدلال من قال بأنه لا يقتل بعدم قتله - صلى الله عليه وسلم - لبيد بن الأعصم الذي سحره . والقول بأنه قتله ضعيف ، ولم يثبت أنه قتله . وأظهر الأقوال عندنا أنه لا يكون أشد حرمة من ساحر المسلمين ، بل يقتل كما يقتل ساحر المسلمين . وأما عدم قتله - صلى الله عليه وسلم - لابن الأعصم فقد بينت الروايات الصحيحة أنه ترك قتله اتقاء إثارة فتنة ، فدل على أنه لولا ذلك لقتله . وقد ترك المنافقين لئلا يقول الناس : محمد يقتل أصحابه . فيكون في ذلك تنفير عن دين الإسلام مع اتفاق العلماء على قتل الزنديق وهو عبارة عن المنافق ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجدا لله تعالى قائلين : آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى . فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي ، هذه الهداية العظيمة . وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر . كقوله في " الأعراف " : وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [ 7 117 ] ، [ ص: 63 ] وقوله في " الشعراء " : فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون [ 26 45 - 48 ] ، وقوله : فألقي يدل على قوة البرهان الذي عاينوه . كأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها . وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم . والظاهر أن ذلك من نوع الإسرائيليات ، وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظرا إلى حالهم الماضية . كقوله : وآتوا اليتامى أموالهم [ 4 2 ] فأطلق عليهم اسم اليتم بعد البلوغ نظرا إلى الحال الماضية كما هو معروف في محله .

والظاهر أن تقديم هارون على موسى في هذه الآية لمراعاة فواصل الآيات .

واعلم أن علم السحر مع خسته ، وأن الله صرح بأنه لا يضر ، ولا ينفع ، قد كان سببا لإيمان سحرة فرعون . لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا معجزة العصا خارجة عن طور السحر ، وأنها أمر إلهي فلم يداخلهم شك في ذلك . فكان ذلك سببا لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد ، والتهديد . ولو كانوا غير عالمين بالسحر جدا ، لأمكن أن يظنوا أن مسألة العصا من جنس الشعوذة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن سحرة فرعون لما آمنوا برب هارون وموسى قال لهم فرعون منكرا عليهم : آمنتم له أي : صدقتموه في أنه نبي مرسل من الله ، وآمنتم بالله قبل أن آذن لكم . يعني أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم ، لأنه يزعم أنهم لا يحق لهم أن يفعلوا شيئا إلا بعد إذنه هو لهم . وقال لهم أيضا : إن موسى هو كبيرهم . أي : كبير السحرة وأستاذهم الذي علمهم السحر . ثم هددهم مقسما على أنه يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ؛ يعني اليد اليمنى ، والرجل اليسرى مثلا . لأنه أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة . لأنه إن كان قطعهما من جهة واحدة يبقى عنده شق كامل صحيح ، بخلاف قطعهما من خلاف . فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد ، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم . وأنه يصلبهم في جذوع النخل ، وجذع النخلة هو أخشن جذع من جذوع الشجر ، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من [ ص: 64 ] الجذوع كما هو معروف .

وما ذكره جل وعلا عنه هنا أوضحه في غير هذا الموضع أيضا . كقوله في سورة " الشعراء " : قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين [ 26 49 ] . وذكر هذا أيضا في سورة " الأعراف " وزاد فيها التصريح بفاعل ، قال : وادعاء فرعون أن موسى ، والسحرة تمالئوا على أن يظهروا أنه غلبهم مكرا ليتعاونوا على إخراج فرعون وقومه من مصر . وذلك في قوله : قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين [ 7 123 - 124 ] " وقوله في " طه " : ولأصلبنكم في جذوع النخل يبين أن التصليب في جذوع النخل هو مراده بقوله في " الأعراف ، والشعراء " : ولأصلبنكم أجمعين [ 7 124 ، 26 49 ] . أي : في جذوع النخل ، وتعدية التصليب بـ " في " أسلوب عربي معروف ، ومنه قول سويد بن أبي كاهل :



هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا


ومعلوم عند علماء البلاغة : أن في مثل هذه الآية استعارة تبعية في معنى الحرف كما سيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح كلامهم في ذلك ونحوه في سورة " القصص " . وقد أوضحنا في كتابنا المسمى ( منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ) . أن ما يسميه البلاغيون من أنواع المجاز مجازا كلها أساليب عربية نطقت بها العرب في لغتها . وقد بينا وجه عدم جواز المجاز في القرآن وما يترتب على ذلك من المحذور .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قال بعض أهل العلم : ولتعلمن أينا : يعني أنا ، أم رب موسى أشد عذابا وأبقى . واقتصر على هذا القرطبي . وعليه ففرعون يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله . وهذا كقوله : أنا ربكم الأعلى [ 79 24 ] ، وقوله : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 38 ] ، وقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 29 ] . وقال بعضهم : ولتعلمن أينا أنا ، أم موسى أشد عذابا وأبقى . وعلى هذا فهو كالتهكم بموسى لاستضعافه له ، وأنه لا يقدر على أن يعذب من لم يطعه . كقوله : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين [ 43 52 ] . والله جل وعلا أعلم .

[ ص: 65 ] واعلم أن العلماء اختلفوا : هل فعل بهم فرعون ما توعدهم به ، أو لم يفعله بهم ؟ فقال قوم : قتلهم وصلبهم . وقوم أنكروا ذلك ، وأظهرهما عندي : أنه لم يقتلهم ، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى . لأن الله يقول لموسى وهارون : أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 35 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا .

قوله : لن نؤثرك أي : لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك ، وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات . كمعجزة العصا التي أتتنا وتيقنا صحتها . والواو في قوله والذي فطرنا عاطفة على " ما " من قوله : على ما جاءنا أي : لن نختارك على ما جاءنا من البينات ولا على والذي فطرنا أي : خلقنا وأبرزنا من العدم إلى الوجود . وقيل : هي واو القسم ، والمقسم عليه محذوف دل عليه ما قبله . أي : والذي فطرنا لا نؤثرك على ما جاءنا من البينات فاقض ما أي : اصنع ما أنت صانع . فلسنا راجعين عما نحن عليه إنما تقضي هذه الحياة الدنيا أي : إنما ينفذ أمرك فيها . فـ " هذه " منصوب على الظرف على الأصح . أي : وليس فيها شيء يهم لسرعة زوالها وانقضائها .

وما ذكره جل وعلا عنهم في هذا الموضع : من ثباتهم على الإيمان ، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ووعيده رغبة فيما عند الله قد ذكره في غير هذا الموضع . كقوله في " الشعراء " عنهم في القصة بعينها : قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون [ 26 \ 50 ] . وقوله في " الأعراف " : قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ 7 125 - 126 ] . وقوله : فاقض ما أنت قاض عائد الصلة محذوف ، أي : ما أنت قاضيه لأنه مخفوض بالوصف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :



كذاك حذف ما بوصف خفضا كأنت قاض بعد أمر من قضى



ونظيره من كلام العرب قول سعد بن ناشب المازني :



ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت يميني بإدراك الذي كنت طالبا



[ ص: 66 ] أي : طالبه .
قوله تعالى : إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون لعنه الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا ، قالوا له : إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا [ 20 73 ] يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر ، وغيره من المعاصي وما أكرهتنا عليه من السحر أي : ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر . وهذا الذي ذكره عنهم هنا أشار له في غير هذا الموضع . كقوله تعالى في " الشعراء " عنهم : إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين [ 26 50 - 51 ] وقوله عنهم في " الأعراف " : ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين [ 7 126 ] . وفي آية طه " هذا سؤال معروف ، وهو أن يقال : قولهم وما أكرهتنا عليه من السحر [ 20 73 ] يدل على أنه أكرههم عليه ، مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين ، كقوله في " طه " : فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى [ 20 62 - 63 ] . فقولهم : فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا [ 20 64 ] صريح في أنهم غير مكرهين . وكذلك قوله عنهم في " الشعراء " : قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 26 41 ] وقوله في " الأعراف " : قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين [ 7 113 - 114 ] فتلك الآيات تدل على أنهم غير مكرهين .

وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة :

( منها ) : أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم ، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين ، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر ، وطوعهم بالنسبة إلى آخر الأمر ، فانفكت الجهة وبذلك ينتفي التعارض ، ويدل لهذا قوله : وابعث في المدائن حاشرين [ 26 36 ] وقوله : وأرسل في المدائن حاشرين [ 7 111 ] .

( ومنها ) : أنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم ، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر . ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين .

[ ص: 67 ] ( ومنها ) : أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائما : ففعل فوجدوه قرب عصاه ، فقالوا : ما هذا بسحر الساحر ! لأن الساحر إذا نام بطل سحره . فأبى إلا أن يعارضوه ، وألزمهم بذلك . فلما لم يجدوا بدا من ذلك فعلوه طائعين . وأظهرها عندي الأول ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله : في هذه الآية الكريمة خطايانا جمع خطيئة ، وهي الذنب العظيم . كالكفر ونحوه . والفعيلة تجمع على فعائل ، والهمزة في فعائل مبدلة من الياء في فعيلة ، ومثلها الألف ، والواو ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :



والمد زيد ثالثا في الواحد همزا يرى في مثل كالقلائد


فأصل خطايا " خطائي " بياء مكسورة ، وهي ياء خطيئة ، وهمزة بعدها هي لام الكلمة . ثم أبدلت الياء همزة على حد الإبدال في صحائف فصارت خطائئ بهمزتين ، ثم أبدلت الثانية ياء للزوم إبدال الهمزة المتطرفة بعد الهمزة المكسورة ياء ، فصارت خطائي ، ثم فتحت الهمزة الأولى تخفيفا فصار خطاءي ، ثم أبدلت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار خطاءا بألفين بينهما همزة ، والهمزة تشبه الألف ، فاجتمع شبه ثلاثة ألفات ، فأبدلت الهمزة ياء فصار خطايا بعد خمسة أعمال ، وإلى ما ذكرنا أشار في الخلاصة بقوله :



وافتح ورد الهمز يا فيما أعل لاما وفي مثل هراوة جعل

واوا . . . إلخ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:14 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (283)
سُورَةُ طه
صـ 68 إلى صـ 74





وقوله في هذه الآية الكريمة : والله خير وأبقى ظاهره المتبادر منه : أن المعنى خير من فرعون وأبقى منه . لأنه باق لا يزول ملكه ، ولا يذل ، ولا يموت ، ولا يعزل . كما أوضحنا هذا المعنى في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وله الدين واصبا [ 16 52 ] . أي : بخلاف فرعون ، وغيره من ملوك الدنيا فإنه لا يبقى ، بل يموت أو يعزل ، أو يذل بعد العز . وأكثر المفسرين على أن المعنى : أن ثوابه خير مما وعدهم فرعون في قوله : قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 7 113 - 114 ] . وأبقى : أي : أدوم . لأن ما وعدهم به فرعون زائل ، وثواب الله باق . كما قال تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 96 ] وقال تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ 87 16 ] . وقال بعض العلماء : وأبقى أي : أبقى عذابا من عذابك ، وأدوم منه . وعليه فهو رد لقول فرعون ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى [ ص: 68 ] ومعنى أبقى أكثر بقاء .
قوله تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا .

ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : إنه أي : الأمر والشأن من يأت ربه يوم القيامة في حال كونه مجرما أي : مرتكبا الجريمة في الدنيا حتى مات على ذلك كالكافر عياذا بالله تعالى فإن له عند الله جهنم يعذب فيها فـ لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة فيها راحة .

وهذا الذي ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع : كقوله : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 30 36 ] وقوله تعالى : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ [ 14 15 - 17 ] وقوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 56 ] وقوله تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 11 - 13 ] وقوله تعالى : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [ 43 77 ] إلى غير ذلك من الآيات . ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة :



ألا من لنفس لا تموت فينقضي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم


قوله تعالى : ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : " أن " ومن يأته يوم القيامة في حال كونه مؤمنا قد عمل الصالحات أي : في الدنيا حتى مات على ذلك فأولئك لهم عند الله الدرجات العلا والعلا : جمع عليا وهي تأنيث الأعلى . وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 21 ] وقوله : ولكل درجات مما عملوا [ 6 132 ] ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة . أنه أوحى إلى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة [ ص: 69 ] والسلام : أن يسري بعباده ، وهم بنو إسرائيل فيخرجهم من قبضة فرعون ليلا ، وأن يضرب لهم طريقا في البحر يبسا ، أي : يابسا لا ماء فيه ، ولا بلل ، وأنه لا يخاف دركا من فرعون وراءه أن يناله بسوء . ولا يخشى من البحر أمامه أن يغرق قومه . وقد أوضح هذه القصة في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " الشعراء " : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 52 - 63 ] .

فقوله في " الشعراء " : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [ 26 63 ] أي : فضربه فانفلق يوضح معنى قوله : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا [ 20 77 ] وقوله : قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 26 61 - 62 ] يوضح معنى قوله : لا تخاف دركا ولا تخشى وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله في " الدخان " : فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 22 - 24 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة " البقرة " ، والقصة معروفة واضحة من القرآن العظيم . وقرأ نافع ، وابن كثير " أن اسر " بهمزة وصل وكسر نون أن لالتقاء الساكنين ، والباقون قرءوا أن أسر بهمزة قطع مفتوحة مع إسكان نون " أن " وقد قدمنا في سورة " هود " أن أسرى وسرى لغتان وبينا شواهد ذلك العربية . وقرأ حمزة لا تخف بسكون الفاء بدون ألف بين الخاء ، والفاء ، وهو مجزوم لأنه جزاء الطلب ، أي : فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف . وقد قدمنا أن نحو ذلك من الجزم بشرط محذوف تدل عليه صيغة الطلب ، أي : أن تضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف . وعلى قراءة الجمهور " لا تخاف " بالرفع ، فلا إشكال في قوله ولا تخشى لأنه فعل مضارع مرفوع بضمة مقدرة على الألف ، معطوف على فعل مضارع مرفوع هو قوله : لا تخاف .

وأما على قراءة حمزة " لا تخف " بالجزم ففي قوله ولا تخشى إشكال معروف ، وهو أنه معطوف على مضارع مجزوم ، وذلك يقتضي جزمه ، ولو جزم لحذفت [ ص: 70 ] الألف من تخشى على حد قوله في الخلاصة :



واحذف جازما ثلاثهن تقض حكما لازما


والألف لم تحذف فوقع الإشكال بسبب ذلك .

وأجيب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن ولا تخشى مستأنف خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : وأنت لا تخشى ، أي : ومن شأنك أنك آمن لا تخشى .

والثاني : أن الفعل مجزوم ، والألف ليست هي الألف التي في موضع لام الكلمة ، ولكنها زيدت للإطلاق من أجل الفاصلة ، كقوله : فأضلونا السبيل [ 33 67 ] وقوله : وتظنون بالله الظنون [ 33 10 ] .

والثالث : أن إشباع الحركة بحرف مد يناسبها أسلوب معروف من أساليب اللغة العربية ، كقول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :



وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا



وقول الراجز :



إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق



وقول الآخر :



قلت وقد خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجال



وقول عنترة في معلقته :



ينباع من ذفري غضوب جسرة زيافة مثل الفنيق المكدم



فالأصل في البيت الأول : كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الثاني ، ولا ترضها ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الثالث على الكلكال يعني الصدر ، ولكن الفتحة أشبعت . والأصل في الرابع ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته على التحقيق ، ولكن الفتحة أشبعت ، وإشباع الفتحة بألف في هذه الأبيات وأمثالها مما لم نذكره ليس لضرورة للشعر لتصريح علماء العربية بأنه أسلوب عربي معروف . ويؤيد ذلك أنه مسموع في النثر ، كقولهم في النثر : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون كلكلا ، وخاتما ، ودانقا . وقد أوضحنا هذه المسألة ، وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا [ ص: 71 ] ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " البلد " في الكلام على قوله : لا أقسم بهذا البلد [ 90 1 ] مع قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 3 ] وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية فاضرب لهم طريقا : فاجعل لهم طريقا ، من قولهم : ضرب له في ماله سهما ، وضرب اللبن عمله ا هـ . والتحقيق أن يبسا صفة مشبهة جاءت على فعل بفتحتين كبطل وحسن . وقال الزمخشري : اليبس مصدر وصف به . يقال : يبس يبسا ويبسا ، ونحوهما العدم ، والعدم ، ومن ثم وصف به المؤنث فقيل : شاتنا يبس ، وناقتنا يبس . إذا جف لبنها .

وقوله : لا تخاف دركا الدرك : اسم مصدر بمعنى الإدراك ، أي : لا يدرك فرعون وجنوده ، ولا يلحقونك من ورائك ، ولا تخشى من البحر أمامك . وعلى قراءة الجمهور لا تخاف فالجملة حال من الضمير في قوله فاضرب أي : فاضرب لهم طريقا في حال كونك غير خائف دركا ، ولا خاش . وقد تقرر في علم النحو أن الفعل المضارع المنفي بلا إذا كانت جملته حالية وجب الربط فيها بالضمير وامتنع بالواو . كقوله هنا : فاضرب لهم طريقا أي : في حال كونك لا تخاف دركا ، وقوله ما لي لا أرى الهدهد [ 27 20 ] وقوله : وما لنا لا نؤمن بالله [ 5 84 ] ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :



ولو أن قوما لارتفاع قبيلة دخلوا السماء دخلتها لا أحجب



يعني دخلتها في حال كوني غير محجوب ، وبذلك تعلم أن قوله في الخلاصة :



وذات بدء بمضارع ثبت حوت ضميرا ومن الواو خلت



في مفهومه تفصيل كما هو معلوم في علم النحو .
قوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم .

التحقيق أن أتبع واتبع بمعنى واحد . فقوله : فـ أتبعهم أي : اتبعهم ، ونظيره قوله تعالى : فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 10 ] وقوله : فأتبعه الشيطان الآية [ 7 \ 175 ] . والمعنى : أن موسى لما أسرى ببني إسرائيل ليلا أتبعهم فرعون وجنوده فغشيهم من اليم [ 20 \ 78 ] أي : البحر ما غشيهم أي : أغرق الله فرعون وجنوده في البحر فهلكوا عن آخرهم . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن فرعون أتبع بني إسرائيل هو وجنوده ، وأن الله أغرقهم في البحر أوضحه في غير هذا [ ص: 72 ] الموضع . وقد بين تعالى أنهم اتبعوهم في أول النهار عند إشراق الشمس ، فمن الآيات الدالة على اتباعه لهم قوله تعالى في " الشعراء " : وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون [ 26 \ 52 ] يعني سيتبعكم فرعون وجنوده . ثم بين كيفية اتباعه لهم فقال فأرسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني إسرائيل فأتبعوهم مشرقين فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين [ 26 \ 53 - 62 ] .

وقوله في هذه الآية : فأتبعوهم مشرقين أي : أول النهار عند إشراق الشمس . ومن الآيات الدالة على ذلك أيضا قوله تعالى في " يونس " : وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا [ 10 \ 90 ] وقوله في " الدخان " : فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون [ 44 \ 23 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إتباعه لهم . وأما غرقه هو وجميع قومه المشار إليه بقوله هنا : فغشيهم من اليم ما غشيهم فقد أوضحه تعالى في مواضع متعددة من كتابه العزيز . كقوله في " الشعراء " : فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفنا ثم الآخرين وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 63 - 67 ] وقوله في " الأعراف " : فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم [ 136 ] وقوله في " الزخرف " : فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين [ 43 \ 55 ] وقوله في " البقرة " : وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] وقوله في " يونس " : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ 10 \ 90 ] وقوله في " الدخان " : واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 \ 24 ] إلى غير ذلك من الآيات . والتعبير بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 \ 78 ] يدل على تعظيم الأمر وتفخيم شأنه ، ونظيره في القرآن قوله : إذ يغشى السدرة ما يغشى [ 53 \ 16 ] وقوله : والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى [ 53 \ 53 - 54 ] وقوله : فأوحى إلى عبده ما أوحى [ 53 \ 10 ] . واليم : البحر . والمعنى : فأصابهم من البحر ما أصابهم وهو الغرق ، والهلاك المستأصل .
[ ص: 73 ] قوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى .

يعني أن فرعون أضل قومه عن طريق الحق وما هداهم إليها . وهذه الآية الكريمة بين الله فيها كذب فرعون في قوله : قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ 40 29 ] ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود [ 11 96 - 98 ] والنكتة البلاغية في حذف المفعول في قوله وما هدى ولم يقل وما هداهم ، هي مراعاة فواصل الآيات ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى [ 93 3 ] .
قوله تعالى : يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : امتنانه على بني إسرائيل بإنجائه إياهم من عدوهم فرعون ، وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن ، وأنه نزل عليهم المن ، والسلوى ، وقال لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم . ولا تطغوا فيغضب عليكم ربكم . وما ذكره هنا أوضحه في غير هذا الموضع . كقوله في امتنانه عليهم بإنجائهم من عدوهم فرعون في " سورة البقرة " : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 2 49 ] وقوله في " الأعراف " : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 7 141 ] وقوله في " الدخان " : ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين [ 44 30 - 31 ] وقوله في سورة " إبراهيم " : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم [ 14 6 ] وقوله في " الشعراء " كذلك وأورثناها بني إسرائيل [ 26 59 ] وقوله في " الدخان " كذلك وأورثناها قوما آخرين [ 44 28 ] وقوله في " الأعراف " : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها [ 7 137 ] وقوله في " القصص " : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة إلى قوله يحذرون [ 28 6 ] إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 74 ] وقوله هنا : وواعدناكم جانب الطور الأيمن [ 20 80 ] الأظهر أن ذلك الوعد هو المذكور في قوله : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر الآية [ 7 142 ] وقوله : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة الآية [ 2 51 ] وقوله : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا [ 20 86 ] وهو الوعد بإنزال التوراة . وقيل فيه غير ذلك .

وقوله هنا : ونزلنا عليكم المن والسلوى قد أوضح امتنانه عليهم بذلك في غير هذا الموضع . كقوله في " البقرة " : وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى [ 2 57 ] وقوله في " الأعراف " وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى [ 7 160 ] وأكثر العلماء على أن المن : الترنجبين ، وهو شيء ينزل من السماء كنزول الندى ثم يتجمد ، وهو يشبه العسل الأبيض . والسلوى : طائر يشبه السمانى . وقيل هو السمانى . وهذا قول الجمهور في المن ، والسلوى . وقيل : السلوى العسل . وأنكر بعضهم إطلاق السلوى على العسل . والتحقيق : أن " السلوى " يطلق على العسل لغة . ومنه قول خالد بن زهير الهذلي :



وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها


يعني ألذ من العسل إذا ما نستخرجها . لأن النشور : استخراج العسل . قال مؤرج بن عمر السدوسي : إطلاق السلوى على العسل لغة كنانة . سمي به لأنه يسلي . قاله القرطبي . إلا أن أكثر العلماء على أن ذلك ليس هو المراد في الآية . واختلفوا في السلوى . هل هو جمع أو مفرد ؟ فقال بعضهم : هو جمع ، واحده سلواة ، وأنشد الخليل لذلك قول الشاعر :



وإني لتعروني لذكراك هزة كما انتفض السلواة من بلل القطر



ويروى هذا البيت :



كما انتفض العصفور بلله القطر


وعليه فلا شاهد في البيت . وقال الكسائي : السلوى مفرد وجمعه سلاوى . وقال الأخفش : هو جمع لا واحد له من لفظه . مثل الخير والشر ، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى مثل جماعته . كما قالوا : دفلى وسمانى وشكاعى في الواحد والجمع . والدفلى كذكرى : شجر أخضر مر حسن المنظر ، يكون في الأودية . والشكاعى كحبارى وقد تفتح : نوع من دقيق النبات صغير أخضر ، دقيق العيدان يتداوى به . والسمانى : طائر معروف .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:15 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (284)
سُورَةُ طه
صـ 75 إلى صـ 81




قال مقيده - عفا الله عنه - : والأظهر عندي في المن : أنه اسم جامع لما يمن الله به على عبده من غير كد ، ولا تعب ، فيدخل فيه الترنجبين الذي من الله به على بني إسرائيل في التيه . ويشمل غير ذلك مما يماثله . ويدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - الثابت في الصحيحين : " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " .

والأظهر عندي في السلوى : أنه طائر ، سواء قلنا إنه السمانى ، أو طائر يشبهه ، لإطباق جمهور العلماء من السلف ، والخلف على ذلك . مع أن السلوى ، يطلق لغة على العسل ، كما بينا .

وقوله في آية " طه " هذه : كلوا من طيبات ما رزقناكم [ 20 81 ] أي : من المن ، والسلوى ، والأمر فيه للإباحة ، والامتنان .

وقد ذكر ذلك أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله في " البقرة " وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 2 57 ] وقوله في " الأعراف " : وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 7 160 ] وقوله : كلوا في هذه الآيات مقول قول محذوف ، أي : وقلنا لهم كلوا ، والضمير المجرور في قوله : ولا تطغوا فيه راجع إلى الموصول الذي هو " ما " أي : كلوا من طيبات الذي رزقناكم ولا تطغوا فيه أي : فيما رزقناكم . ونهاهم عن الطغيان فيما رزقهم ، وهو أن يتعدوا حدود الله فيه بأن يكفروا نعمته به ، ويشغلهم اللهو والنعيم عن القيام بشكر نعمه ، وأن ينفقوا رزقه الذي أنعم عليهم به في المعاصي ، أو يستعينوا به على المعصية ، أو يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم فيه ، ونحو ذلك .

وبين أن ذلك يسبب لهم أن يحل عليهم غضبه جل وعلا ، لأن الفاء في قوله فيحل سببية ، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها ، لأنه بعد النهي وهو طلب محض ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :



وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب



وقرأ هذا الحرف الكسائي " فيحل " بضم الحاء ( ومن يحلل ) بضم اللام . والباقون قرءوا يحل بكسر الحاء و يحلل بكسر اللام . وعلى قراءة الكسائي ( فيحل ) بالضم أي : ينزل بكم غضبي . وعلى قراءة الجمهور فهو من حل يحل بالكسر : [ ص: 76 ] إذا وجب ، ومنه حل دينه إذا وجب أداؤه . ومنه ثم محلها إلى البيت العتيق [ 22 33 ] . وقوله : فقد هوى أي : هلك وصار إلى الهاوية ، وأصله أن يسقط من جبل أو نحوه فيهوي إلى الأرض فيهلك ، ومنه قول الشاعر :



هوى من رأس مرقبة ففتت تحتها كبده



ويقولون : هوت أمه ، أي : سقط سقوطا لا نهوض بعده . ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :



هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يود الليل حين يئوب



ونحو هذا هو أحد التفسيرات في قوله تعالى : فأمه هاوية وعن شفي بن ماتع الأصبحي قال : إن في جهنم جبلا يدعى صعودا يطلع فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يرقاه . قال الله تعالى : سأرهقه صعودا [ 74 17 ] وإن في جهنم قصرا يقال له هوى ، يرمى الكافر من أعلاه فيهوي أربعين خريفا قبل أن يبلغ أصله ، قال الله تعالى : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى قال القرطبي ، وابن كثير ، والله تعالى أعلم .

واعلم أن الغضب صفة وصف الله بها نفسه إذا انتهكت حرماته ، تظهر آثارها في المغضوب عليهم . نعوذ بالله من غضبه جل وعلا . ونحن معاشر المسلمين نمرها كما جاءت فنصدق ربنا في كل ما وصف به نفسه ، ولا نكذب بشيء من ذلك ، مع تنزيهنا التام له جل وعلا عن مشابهة المخلوقين سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا . كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة " الأعراف " وقرأ حمزة ، والكسائي في هذه الآية قد أنجيتكم من عدوكم وواعدتكم بتاء المتكلم فيهما . وقرأه الباقون " وواعدناكم وأنجيناكم " بالنون الدالة على العظمة ، فصيغة الجمع في قراءة الجمهور للتعظيم . وقرأ أبو عمرو ( ووعدناكم ) بلا ألف بعد الواو الثانية بصيغة الفعل المجرد ، من الوعد لا من المواعدة مع نون التعظيم .
قوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى .

ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه غفار أي : كثير المغفرة لمن تاب إليه من معاصيه وكفره ، وآمن به وعمل صالحا ثم اهتدى . وقد أوضح هذا المعنى في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف الآية [ 8 38 ] . وقوله في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 74 ] [ ص: 77 ] وقوله تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له الآية [ 39 53 - 54 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا معنى التوبة ، والعمل الصالح .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ثم اهتدى أي : استقام وثبت على ما ذكر من التوبة ، والإيمان ، والعمل الصالح ولم ينكث . ونظير ذلك قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ 41 30 ] وفي الحديث : " قل آمنت بالله ثم استقم " . وقال تعالى : فاستقم كما أمرت الآية [ 11 112 ] .
قوله تعالى : وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى .

أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى قصة مواعدته موسى أربعين ليلة وذهابه إلى الميقات ، واستعجاله إليه قبل قومه . وذلك أنه لما واعده ربه وجعل له الميقات المذكور ، وأوصى أخاه هارون أن يخلفه في قومه ، استعجل إلى الميقات فقال له ربه وما أعجلك عن قومك .

الآية ، وهذه القصة التي أجملها هنا أشار لها في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " : وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك [ 7 142 ] .

وفي هذه الآية سؤال معروف : وهو أن جواب موسى ليس مطابقا للسؤال الذي سأله ربه ، لأن السؤال عن السبب الذي أعجله عن قومه ، والجواب لم يأت مطابقا لذلك . لأنه أجاب بقوله : هم أولاء على أثري وعجلت إليك .

وأجيب عن ذلك بأجوبة :

( منها ) : أن قوله : هم أولاء على أثري يعني هم قريب وما تقدمتهم إلا بيسير يغتفر مثله ، فكأني لم أتقدمهم ولم أعجل عنهم لقرب ما بيني وبينهم .

( ومنها ) : أن الله جل وعلا لما خاطبه بقوله وما أعجلك عن قومك داخله من الهيبة ، والإجلال ، والتعظيم لله جل وعلا ما أذهله عن الجواب المطابق . والله أعلم .

[ ص: 78 ] وقوله هم أولاء المد فيه لغة الحجازيين . ورجحها ابن مالك في الخلاصة بقوله :

والمد أولى .

ولغة التميميين " أولا " بالقصر ، ويجوز دخول اللام على لغة التميميين في البعد ، ومنه قول الشاعر :



أولالكا قومي لم يكونوا أشابة وهل يعظ الضليل إلا أولالكا


وأما على لغة الحجازيين بالمد فلا يجوز دخول اللام عليها .
قوله تعالى : قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري .

الظاهر أن الفتنة المذكورة هي عبادتهم العجل . فهي فتنة إضلال . كقوله : إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء [ 7 155 ] . وهذه الفتنة بعبادة العجل جاءت مبينة في آيات متعددة . كقوله : وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون [ 2 51 ] ونحو ذلك من الآيات .

قوله هنا : وأضلهم السامري أوضح كيفية إضلاله لهم في غير هذا الموضع . كقوله : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار إلى قوله اتخذوه وكانوا ظالمين [ 7 148 ] أي : اتخذوه إلها وقد صنعه السامري لهم من حلي القبط فأضلهم بعبادته . وقوله هنا فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي [ 20 88 ] والسامري : قيل اسمه هارون ، وقيل اسمه موسى بن ظفر ، وعن ابن عباس : أنه من قوم كانوا يعبدون البقر . وقيل : كان رجلا من القبط . وكان جارا لموسى آمن به وخرج معه . وقيل : كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام . قال سعيد بن جبير : كان من أهل كرمان . والفتنة أصلها في اللغة : وضع الذهب في النار ليتبين أهو خالص أم زائف . وقد أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة :

( منها ) : الوضع في النار ، كقوله يوم هم على النار يفتنون [ 51 13 ] أي : يحرقون بها ، وقوله إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 10 ] . أي : أحرقوهم بنار الأخدود .

[ ص: 79 ] ( ومنها ) : الاختبار وهو الأغلب في استعمال الفتنة . كقوله إنما أموالكم وأولادكم فتنة الآية [ 64 15 ] وقوله وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 16 - 17 ] .

( ومنها ) : نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة . ومن هنا أطلقت الفتنة على الشرك ، كقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 8 39 ] وقوله هنا فإنا قد فتنا قومك الآية [ 20 85 ] .

( ومنها ) : الحجة ، كقوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 23 ] أي : لم تكن حجتهم .

وقوله تعالى في هذه الآية : وأضلهم السامري أسند إضلالهم إليه ، لأنه هو الذي تسبب فيه بصياغته لهم العجل من حلي القبط ورميه عليه التراب الذي مسه حافر الفرس التي جاء عليها جبريل ، فجعله الله بسبب ذلك عجلا جسدا له خوار ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة : فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار وقال في " الأعراف " واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار [ 7 148 ] . والخوار : صوت البقر . قال بعض العلماء : جعل الله بقدرته ذلك الحلي المصوغ جسدا من لحم ودم ، وهذا هو ظاهر قوله عجلا جسدا .

وقال بعض العلماء : لم تكن تلك الصورة لحما ، ولا دما ، ولكن إذا دخلت فيها الريح صوتت كخوار العجل . والأول أقرب لظاهر الآية ، والله تعالى قادر على أن يجعل الجماد لحما ودما ، كما جعل آدم لحما ودما وكان طينا .
قوله تعالى : فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى رجع إلى قومه بعد مجيئه للميقات في حال كونه في ذلك الرجوع غضبان أسفا على قومه من أجل عبادتهم العجل .

وقوله أسفا أي : شديد الغضب . فالأسف هنا : شدة الغضب ، وعلى هذا فقوله غضبان أسفا أي : غضبان شديد الغضب . ومن إطلاق الأسف على الغضب في القرآن قوله تعالى في " الزخرف " فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين [ 43 55 ] أي : فلما أغضبونا بتماديهم في الكفر مع توالي الآيات عليهم انتقمنا منهم . وقال بعض العلماء : الأسف هنا الحزن ، والجزع . أي : رجع موسى في حال كونه غضبان [ ص: 80 ] حزينا جزعا لكفر قومه بعبادتهم للعجل . وقيل : أسفا أي : مغتاظا . وقائل هذا يقول : الفرق بين الغضب ، والغيظ : أن الله وصف نفسه بالغضب ، ولم يجز وصفه بالغيظ . حكاه الفخر الرازي . ولا يخفى عدم اتجاهه في تفسير هذه الآية ، لأنه راجع إلى القول الأول ، ولا حاجة في ذلك إلى التفصيل المذكور .

وقوله غضبان أسفا حالان . وقد قدمنا فيما مضى أن التحقيق جواز تعدد الحال من صاحب واحد مع كون العامل واحدا . كما أشار له في الخلاصة بقوله :



والحال قد يجيء ذا تعدد لمفرد فاعلم وغير مفرد


وما ذكره جل وعلا في آية " طه " هذه من كون موسى رجع إلى قومه غضبان أسفا ذكره في غير هذا الموضع ، وذكر أشياء من آثار غضبه المذكور ، كقوله في " الأعراف " : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي [ 7 150 ] . وقد بين تعالى أن من آثار غضب موسى إلقاءه الألواح التي فيها التوراة ، وأخذه برأس أخيه يجره إليه ، كما قال في " الأعراف " : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه [ 7 150 ] وقال في " طه " مشيرا لأخذه برأس أخيه : قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي [ الآية 94 ] . وهذه الآيات فيها الدلالة على أن الخبر ليس كالعيان ، لأن الله لما أخبر موسى بكفر قومه بعبادتهم العجل كما بينه في قوله : قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري [ 20 85 ] وهذا خبر من الله يقين لا شك فيه لم يلق الألواح ، ولكنه لما عاين قومه حول العجل يعبدونه أثرت فيه معاينة ذلك أثرا لم يؤثره فيه الخبر اليقين بذلك ، فألقى الألواح حتى تكسرت ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه لما أصابه من شدة الغضب من انتهاك حرمات الله تعالى .

وقال ابن كثير في تفسيره في سورة " الأعراف " : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر ، أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح " .
قوله تعالى : قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا .

[ ص: 81 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما رجع إلى قومه ، ووجدهم قد عبدوا العجل من بعده قال لهم : ياقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا .

وأظهر الأقوال عندي في المراد بهذا الوعد الحسن : أنه وعدهم أن ينزل على نبيهم كتابا فيه كل ما يحتاجون إليه من خير الدنيا ، والآخرة . وهذا الوعد الحسن المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى : وواعدناكم جانب الطور الأيمن الآية [ 20 80 ] وفيه أقوال غير ذلك .

وقوله : أفطال عليكم العهد الاستفهام فيه للإنكار ، يعني لم يطل العهد . كما يقال في المثل : ( وما بالعهد من قدم ) . لأن طول العهد مظنة النسيان ، والعهد قريب لم يطل فكيف نسيتم ؟

وقوله : أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم قال بعض العلماء : " أم " هنا هي المنقطعة ، والمعنى : بل أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم ، ومعنى إرادتهم حلول الغضب : أنهم فعلوا ما يستوجب غضب ربهم بإرادتهم . فكأنهم أرادوا الغضب لما أرادوا سببه ، وهو الكفر بعبادة العجل .

وقوله : فأخلفتم موعدي كانوا وعدوه أن يتبعوه لما تقدمهم إلى الميقات ، وأن يثبتوا على طاعة الله تعالى . فعبدوا العجل وعكفوا عليه ولم يتبعوا موسى . فأخلفوا موعده بالكفر وعدم الذهاب في أثره ، قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا قرأه نافع وعاصم " بملكنا " بفتح الميم . وقرأه حمزة ، والكسائي " بملكنا " بضم الميم ، وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو " بملكنا " بكسر الميم . والمعنى على جميع القراءات : ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا ، فلو ملكنا أمرنا ما أخلفنا موعدك . وهو اعتذار منهم بأنهم ما أخلفوا الموعد باختيارهم ، ولكنهم مغلوبون على أمرهم من جهة السامري وكيده . وهو اعتذار بارد ساقط كما ترى ! ولقد صدق من قال :



إذا كان وجه العذر ليس ببين فإن اطراح العذر خير من العذر

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:15 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (285)
سُورَةُ طه
صـ 82 إلى صـ 88




وأما على قول من قال : إن الذين قالوا لموسى : ما أخلفنا موعدك بملكنا هم الذين لم يعبدوا العجل . لأنهم وعدوه أن يتبعوه ، ولما وقع ما وقع من عبادة أكثرهم للعجل تأخروا عن اتباع موسى بسبب ذلك ، ولم يتجرءوا على مفارقتهم خوفا من الفرقة [ ص: 82 ] فالعذر له وجه في الجملة ، كما يشير إليه قوله تعالى في القصة في هذه السورة الكريمة قال ياهارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أفعصيت أمري قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي [ 20 92 ] .

والمصدر في قوله بملكنا مضاف إلى فاعله ومفعوله محذوف ، أي : بملكنا أمرنا . وقال القرطبي : كأنه قال بملكنا الصواب بل أخطأنا . فهو اعتراف منهم بالخطأ . وقال الزمخشري : أفطال عليكم العهد : الزمان ، يريد مدة مفارقته لهم .
تنبيه

كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ " لم " إذا تقدمتها همزة استفهام . كقوله هنا : ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا فيه وجهان معروفان عند العلماء :

الأول : أن مضارعته تنقلب ماضوية ، ونفيه ينقلب إثباتا . فيصير قوله : ألم يعدكم بمعنى وعدكم ، وقوله : ألم نشرح بمعنى شرحنا ، وقوله : ألم نجعل له عينين جعلنا له عينين . وهكذا . ووجه انقلاب المضارعة ماضوية ظاهر ، لأن " لم " حرف قلب تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي كما هو معروف . ووجه انقلاب النفي إثباتا أن الهمزة إنكارية ، فهي مضمنة معنى النفي ، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في " لم " فينفيه ، ونفي النفي إثبات فيؤول إلى معنى الإثبات .

الوجه الثاني : أن الاستفهام في ذلك التقرير ، وهو حمل المخاطب على أن يقر فيقول " بلى " وعليه فالمراد من قوله ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا حملهم على أن يقروا بذلك فيقولوا بلى هكذا . ونظير هذا من كلام العرب قول جرير :



ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح


فإذا عرفت أن قوله هنا فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا إلى قوله بملكنا قد بين الله فيه أن موسى لما رجع إليهم في شدة غضب مما فعلوا وعاتبهم قال لهم في ذلك العتاب ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد الآية [ 20 86 ] فاعلم أن بعض عتابه لهم لم يبينه هنا ، وكذلك بعض فعله ، ولكنه بينه في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " في القصة بعينها : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم [ 7 150 ] [ ص: 83 ] وبين بعض ما فعل بقوله في " الأعراف " : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه [ 7 150 ] وقد أشار إلى ذلك هنا في " طه " في قوله : قال ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي [ 20 94 ] .
قوله تعالى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي .

قرأ هذا الحرف أبو عمرو وشعبة عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي حملنا بفتح الحاء ، والميم المخففة مبينا للفاعل مجردا . وقرأه نافع ، وابن كثير ، وابن عامر وحفص عن عاصم " حملنا " بضم الحاء وكسر الميم المشددة مبنيا للمفعول . و " نا " على القراءة الأولى فاعل " حمل " وعلى الثانية نائب فاعل " حمل " بالتضعيف . والأوزار في قوله أوزارا قال بعض العلماء : معناها الأثقال . وقال بعض العلماء : معناها الآثام . ووجه القول الأول أنها أحمال من حلي القبط الذي استعاروه منهم . ووجه الثاني أنها آثام وتبعات . لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب ، وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي ، ولأن الغنائم لم تكن تحل لهم . والتعليل الأخير أقوى .

وقوله : من زينة القوم المراد بالزينة الحلي ، كما يوضحه قوله تعالى : واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم [ 7 148 ] أي : ألقيناها وطرحناها في النار التي أوقدها السامري في الحفرة ، وأمرنا أن نطرح الحلي فيها . وأظهر الأقوال عندي في ذلك : هو أنهم جعلوا جميع الحلي في النار ليذوب فيصير قطعة واحدة . لأن ذلك أسهل لحفظه حتى يرى نبي الله موسى فيه رأيه . والسامري يريد تدبير خطة لم يطلعوا عليها . وذلك أنه لما جاء جبريل ليذهب بموسى إلى الميقات وكان على فرس ، أخذ السامري ترابا مسه حافر تلك الفرس ، ويزعمون في القصة أنه عاين موضع أثرها ينبت فيه النبات ، فتفرس أن الله جعل فيها خاصية الحياة ، فأخذ تلك القبضة من التراب واحتفظ بها ، فلما أرادوا أن يطرحوا الحلي في النار ليجعلوه قطعة واحدة أو لغير ذلك من الأسباب وجعلوه فيها ، ألقى السامري عليه تلك القبضة من التراب المذكورة ، وقال له : كن عجلا جسدا له خوار . فجعله الله عجلا جسدا له خوار . فقال لهم : هذا العجل هو إلاهكم وإله موسى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى عن موسى : قال فما خطبك ياسامري قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي [ 20 59 ] .

[ ص: 84 ] وقوله في هذه الآية : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم هو من بقية اعتذارهم الفاسد البارد ، وهو يدل على أن ذلك الاعتذار من الذين عبدوا العجل لا من غيرهم ، ولا يبعد معه احتمال أنه من غيرهم . لأنه ليس فيه ما يعين كون الاعتذار منهم تعينا غير محتمل . ومعلوم أن هذا العذر عذر لا وجه له على كل حال .

وقوله في هذه الآية الكريمة : فنسي أي : نسي موسى إلهه هنا وذهب يطلبه في محل آخر . قاله ابن عباس في حديث الفتون . وهو قول مجاهد . وعن ابن عباس أيضا من طريق عكرمة فنسي أي : نسي أن يذكركم به . وعن ابن عباس أيضا فنسي أي : السامري ما كان عليه من الإسلام ، وصار كافرا بادعاء ألوهية العجل وعبادته .
قوله تعالى : أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا .

بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة سخافة عقول الذين عبدوا العجل ، وكيف عبدوا ما لا يقدر على رد الجواب لمن سأله ، ولا يملك نفعا لمن عبده ، ولا ضرا لمن عصاه . وهذا يدل على أن المعبود لا يمكن أن يكون عاجزا عن النفع ، والضرر ورد الجواب . وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله في " الأعراف " في القصة بعينها : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين [ 7 148 ] ولا شك أن من اتخذ من لا يكلمه ، ولا يهديه سبيلا إلها أنه من أظلم الظالمين . ونظير ذلك قوله تعالى عن إبراهيم : ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ 19 42 ] وقوله تعالى عنه أيضا : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ 26 72 ] وقوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها [ 7 195 ] وقوله تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 5 - 6 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 13 ] . وقد قدمنا [ ص: 85 ] الكلام مستوفى في همزة الاستفهام التي بعدها أداة عطف كالفاء ، والواو ، كقوله هنا : أفلا يرون فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ هذا الحرف جماهير القراء ألا يرجع بالرفع لأن " أن " مخففة من الثقيلة . والدليل على أنها مخففة من الثقيلة تصريحه تعالى بالثقيلة في قوله في المسألة بعينها في " الأعراف " : ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم الآية [ 7 148 ] ورأى في آية " طه ، والأعراف " علمية على التحقيق ، لأنهم يعلمون علما يقينا أن ذلك العجل المصوغ من الحلي لا ينفع ، ولا يضر ، ولا يتكلم .

واعلم أن المقرر في علم النحو أن : " أن " لها ثلاث حالات : الأولى أن تكون مخففة من الثقيلة قولا واحدا . ولا يحتمل أن تكون " أن " المصدرية الناصبة للفعل المضارع . وضابط هذه : أن تكون بعد فعل العلم وما جرى مجراه من الأفعال الدالة على اليقين . كقوله تعالى : أن سيكون منكم مرضى [ 73 \ 20 ] ، وقوله : ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم الآية [ 72 \ 28 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وقول الشاعر :



واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا


وقول الآخر :



في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى وينتعل



وإذا جاء بعد هذه المخففة من الثقيلة فعل مضارع فإنه يرفع ، ولا ينصب كقوله :



علموا أن يؤملون فجادوا قبل أن يسألوا بأعظم سؤل



و " أن " هذه المخففة من الثقيلة يكون اسمها مستكنا غالبا ، والأغلب أن يكون ضمير الشأن . وقيل لا يكون إلا ضمير الشأن ، وخبرها الجملة التي بعدها ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :



وإن تخفف أن فاسمها استكن والخبر اجعل جملة من بعد أن



وما سمع في شعر العرب من بروز اسمها في حال كونه غير ضمير الشأن فمن ضرورة الشعر . كقول جنوب أخت عمرو ذي الكلب :



لقد علم الضيف والمرملون إذا اغبر أفق وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيث مربع وأنك هناك تكون الثمالا



وقول الآخر :



فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق



[ ص: 86 ] الحالة الثانية أن تكون محتملة لكونها المصدرية الناصبة للمضارع . ومحتملة لأن تكون هي المخففة من الثقيلة .

وإن جاء بعدها فعل مضارع جاز نصبه للاحتمال الأول ، ورفعه للاحتمال الثاني ، وعليه القراءتان السبعيتان في قوله وحسبوا ألا تكون فتنة [ 5 ] ، بنصب " تكون " ورفعه ، وضابط " أن " هذه أن تكون بعد فعل يقتضي الظن ونحوه من أفعال الرجحان . وإذا لم يفصل بينها وبين الفعل فاصل فالنصب أرجح ، ولذا اتفق القراء على النصب في قوله تعالى أحسب الناس أن يتركوا الآية [ 29 \ 2 ] وقيل : إن " أن " الواقعة بعد الشك ليس فيها إلا النصب . نقله الصبان في حاشيته عن أبي حيان بواسطة نقل السيوطي .

الحالة الثالثة : أن تكون " أن " ليست بعد ما يقتضي اليقين ، ولا الظن ولم يجر مجراهما ، فهي المصدرية الناصبة للفعل المضارع قولا واحدا . وإلى الحالات الثلاث المذكورة أشار بقوله في الخلاصة :



وبلن انصبه وكي كذا بأن لا بعد علم والتي من بعد ظن
فانصب بها والرفع صحح واعتقد تخفيفها من أن فهو مطرد


تنبيه

قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : وليس المقصود من هذا أن العجل لو كان يكلمهم لكان إلها . لأن الشيء يجوز أن يكون مشروطا بشروط كثيرة ، ففوات واحد منها يقتضي فوات المشروط ، ولكن حصول الواحد فيها لا يقتضي حصول المشروط انتهى كلامه .

وما ذكره مقرر في الأصول . فكل ما توقف على شرطين فصاعدا لا يحصل إلا بحصول جميع الشروط . فلو قلت لعبدك : إن صام زيد وصلى وحج فأعطه دينارا . لم يجز له إعطاؤه الدينار إلا بالشروط الثلاثة . ومحل هذا ما لم يكن تعليق الشروط على سبيل البدل فإنه يكفي فيه واحد . فلو قلت لعبدك : إن صام زيد أو صلى فأعطه درهما . فإنه يستوجب إعطاء الدرهم بأحد الأمرين . وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود في مبحث المخصصات المتصلة بقوله :



وإن تعلق على شرطين شيء فبالحصول للشرطين وما على البدل قد تعلقا
فبحصول واحد تحققا



وقال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : وقد تقدم في حديث الفتون عن [ ص: 87 ] الحسن البصري : أن هذا العجل اسمه يهموت . وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة : أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل ، فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر : أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب . يعني هل يصلي فيه أم لا ؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق قتلوا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( يعني الحسين رضي الله عنه ) وهم يسألون عن دم البعوضة انتهى منه .
قوله تعالى : ولقد قال لهم هارون من قبل ياقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى .

بين جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : أن بني إسرائيل لما فتنهم السامري وأضلهم بعبادة العجل ، نصحهم نبي الله هارون عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وبين لهم أن عبادتهم العجل فتنة فتنوا بها . أي : كفر وضلال ارتكبوه بذلك ، وبين لهم أن ربهم الرحمن خالق كل شيء جل وعلا ، وأن عجلا مصطنعا من حلي لا يعبده إلا مفتون ضال كافر . وأمرهم باتباعه في توحيد الله تعالى ، والوفاء بموعد موسى عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام وأن يطيعوه في ذلك . فصارحوه بالتمرد ، والعصيان ، والديمومة على الكفر حتى يرجع موسى . وهذا يدل على أنه بلغ معهم غاية جهده وطاقته ، وأنهم استضعفوه وتمردوا عليه ولم يطيعوه .

وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين [ 7 \ 150 ] ، . فقوله عنهم في خطابهم له لن نبرح عليه عاكفين يدل على استضعافهم له وتمردهم عليه المصرح به في " الأعراف " كما بينا . وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات الكريمات ما نصه : وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي : ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية ؟ واعلم حرس الله مدته : أنه اجتمع جماعة من رجال فيكثرون من ذكر الله تعالى وذكر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه ، ويحضرون شيئا يأكلونه . هل الحضور معهم جائز أم لا ؟ أفتونا مأجورين . وهذا القول الذي يذكرونه :

يا شيخ كف عن الذنوب قبل التفرق والزلل

[ ص: 88 ]

واعمل لنفسك صالحا ما دام ينفعك العمل أما الشباب فقد مضى
ومشيب رأسك قد نزل


وفي مثل هذا ونحوه الجواب يرحمك الله : مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وأما الرقص ، والتواجد : فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار ، قاموا يرقصون حواليه ، ويتواجدون ، فهو دين الكفار وعبادة العجل . وأما القضيب : فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى . وإنما كان يجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كأنما على رءوسهم الطير من الوقار . فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم من حضور المساجد ، وغيرها . ولا يحل لأحد أن يؤمن بالله ، واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا أن يعينهم على باطلهم . هذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق انتهى منه بلفظه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد قدمنا في سورة " مريم " ما يدل على أن بعض الصوفية على الحق . ولا شك أن منهم من هو على الطريق المستقيم من العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وبذلك عالجوا أمراض قلوبهم وحرسوها ، وراقبوها وعرفوا أحوالها ، وتكلموا على أحوال القلوب كلاما مفصلا كما هو معلوم ، كعبد الرحمن بن عطية ، أو ابن أحمد بن عطية ، أو ابن عسكر أعني أبا سليمان الداراني ، وكعون بن عبد الله الذي كان يقال له حكم الأمة ، وأضرابهما ، وكسهل بن عبد الله التستري ، أبي طالب المكي ، وأبي عثمان النيسابوري ، ويحيى بن معاذ الرازي ، والجنيد بن محمد ، ومن سار على منوالهم ، لأنهم عالجوا أمراض أنفسهم بكتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يحيدون عن العمل بالكتاب ، والسنة ظاهرا وباطنا ، ولم تظهر منهم أشياء تخالف الشرع . فالحكم بالضلال على جميع الصوفية لا ينبغي ، ولا يصح على إطلاقه ، والميزان الفارق بين الحق ، والباطل في ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . فمن كان منهم متبعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأفعاله ، وهديه وسمته ، كمن ذكرنا وأمثالهم ، فإنهم من جملة العلماء العاملين ، ولا يجوز الحكم عليهم بالضلال . وأما من كان على خلاف ذلك فهو الضال .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:16 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (286)
سُورَةُ طه
صـ 89 إلى صـ 95



نعم ، صار المعروف في الآونة الأخيرة ، وأزمنة كثيرة قبلها بالاستقراء ، أن عامة الذين يدعون التصوف في أقطار الدنيا إلا من شاء الله منهم دجاجلة يتظاهرون بالدين ليضلوا العوام الجهلة وضعاف العقول من طلبة العلم ، ليتخذوا بذلك أتباعا وخدما ، [ ص: 89 ] وأموالا وجاها ، وهم بمعزل عن مذهب الصوفية الحق ، لا يعملون بكتاب الله ، ولا بسنة نبيه ، واستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشد من استعمار كل طوائف المستعمرين . فيجب التباعد عنهم ، والاعتصام من ضلالتهم بكتاب الله وسنة نبيه ، ولو ظهر على أيديهم بعض الخوارق ، ولقد صدق من قال :



إذا رأيت رجلا يطير وفوق ماء البحر قد يسير
ولم يقف عند حدود الشرع فإنه مستدرج أو بدعي



والقول الفصل في ذلك هو قوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا [ 4 \ 123 ] ، فمن كان عمله مخالفا للشرع كمتصوفة آخر الزمان فهو الضال . ومن كان عمله موافقا لما جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام فهو المهتدي . نرجو الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المؤمنين ، وألا يزيغنا ، ولا يضلنا عن العمل بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - التي هي محجة بيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك .
قوله تعالى : قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني .

قال بعض أهل العلم : " لا " في قوله : ألا تتبعني زائدة للتوكيد . واستدل من قال ذلك بقوله تعالى في " الأعراف " : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، قال لأن المراد : ما منعك أن تسجد إذ أمرتك . بدليل قوله في القصة بعينها في سورة " ص " : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية [ 38 ] . فحذف لفظة " لا " في " ص " مع ثبوتها في " الأعراف " ، والمعنى واحد . فدل ذلك على أنها مزيدة للتوكيد .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد عرف في اللغة العربية أن زيادة لفظة " لا " في الكلام الذي فيه معنى الجحد لتوكيده مطردة . كقوله هنا : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني أي : ما منعك أن تتبعني ، وقوله : ما منعك أن تسجد بدليل قوله في " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي الآية ، وقوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله الآية [ 57 \ 29 ] . أي : ليعلم أهل الكتاب ، وقوله فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] ، أي فوربك لا يؤمنون ، وقوله : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ 41 ] ، [ ص: 90 ] أي : والسيئة ، وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] ، على أحد القولين ، وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، على أحد القولين ، وقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا الآية [ 6 \ 151 ] على أحد الأقوال فيها .

ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :



فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر


يعني فوأبيك . وقول أبي النجم :



فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا



يعني أن تسخر ، وقول الآخر :



ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر



يعني وعمر . وقول الآخر :



وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع دائب غير غافل



يعني أن أحبه ، و " لا " مزيدة في جميع الأبيات لتوكيد الجحد فيها . وقال الفراء : إنها لا تزاد إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد كالأمثلة المتقدمة . والمراد بالجحد النفي وما يشبه كالمنع في قوله : ما منعك [ 20 \ 89 ] ، ونحو ذلك . والذي يظهر لنا ، والله تعالى أعلم . أن زيادة لفظة " لا " لتوكيد الكلام وتقويته أسلوب من أساليب اللغة العربية ، وهو في الكلام الذي فيه معنى الجحد أغلب مع أن ذلك مسموع في غيره . وأنشد الأصمعي لزيادة " لا " قول ساعدة الهذلي :



أفعنك لا برق كأن وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب



ويروى " أفمنك " بدل " أفعنك " و " تشيمه " بدل " تسنمه " يعني أعنك برق بـ " لا " زائدة للتوكيد ، والكلام ليس فيه معنى الجهد . ونظيره قول الآخر :



تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع



يعني كاد يتقطع . وأنشد الجوهري لزيادة " لا " قول العجاج :



في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر



والحور الهلكة . يعني في بئر هلكة ، ولا زائدة للتوكيد . قاله أبو عبيدة ، وغيره . [ ص: 91 ] والكلام ليس فيه معنى الجحد . وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " البلد " .
قوله تعالى : أفعصيت أمري .

الظاهر أن أمره المذكور في هذه الآية هو المذكور في قوله تعالى : وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] .

وهذه الآية الكريمة تدل على اقتضاء الأمر للوجوب . لأنه أطلق اسم المعصية على عدم امتثال الأمر ، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة : كقوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] ، وقوله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] ، فجعل أمره وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - مانعا من الاختيار ، موجبا للامتثال . وقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، فوبخه هذا التوبيخ الشديد على عدم امتثال الأمر المدلول عليه بصيغة افعل في قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 20 \ 116 ] ، . وجماهير الأصوليين على أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب للأدلة التي ذكرنا ، وغيرها مما هو مماثل لها . وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله :



وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب


. . إلخ .
قوله تعالى : قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن هارون قاله لأخيه موسى ياابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي وذلك يدل على أنه لشدة غضبه أراد أن يمسك برأسه ولحيته . وقد بين تعالى في " الأعراف " أنه أخذ برأسه يجره إليه . وذلك في قوله : وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن [ 7 \ 150 ] ، . وقوله : ولم ترقب قولي [ 20 \ 94 ] ، من بقية كلام هارون . أي : خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ، وأن تقول لي لم ترقب قولي أي : لم تعمل بوصيتي وتمتثل أمري .
[ ص: 92 ] تنبيه

هذه الآية الكريمة بضميمة آية " الأنعام " إليها تدل على لزوم إعفاء اللحية ، فهي دليل قرآني على إعفاء اللحية وعدم حلقها . وآية الأنعام المذكورة هي قوله تعالى : ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون الآية [ 6 \ 84 ] . ثم إنه تعالى قال بعد أن عد الأنبياء الكرام المذكورين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] ، فدل ذلك على أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم ، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بذلك أمر لنا . لأن أمر القدوة أمر لأتباعه كما بينا إيضاحه بالأدلة القرآنية في هذا الكتاب المبارك في سورة " المائدة " وقد قدمنا هناك : أنه ثبت في صحيح البخاري : أن مجاهدا سأل ابن عباس : من أين أخذت السجدة في " ص " قال : أو ما تقرأ ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] ، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] ، فسجدها داود فسجدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا علمت بذلك أن هارون من الأنبياء الذين أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم في سورة " الأنعام " ، وعلمت أن أمره أمر لنا . لأن لنا فيه الأسوة الحسنة ، وعلمت أن هارون كان موفرا شعر لحيته بدليل قوله لأخيه : لا تأخذ بلحيتي لأنه لو كان حالقا لما أراد أخوه الأخذ بلحيته تبين لك من ذلك بإيضاح : أن إعفاء اللحية من السمت الذي أمرنا به في القرآن العظيم ، وأنه كان سمت الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم . والعجب من الذين مضخت ضمائرهم ، واضمحل ذوقهم ، حتى صاروا يفرون من صفات الذكورية ، وشرف الرجولة ، إلى خنوثة الأنوثة ، ويمثلون بوجوههم بحلق أذقانهم ، ويتشبهون بالنساء حيث يحاولون القضاء على أعظم الفوارق الحسية بين الذكر ، والأنثى وهو اللحية . وقد كان - صلى الله عليه وسلم - كث اللحية ، وهو أجمل الخلق وأحسنهم صورة . والرجال الذين أخذوا كنوز كسرى وقيصر ، ودانت لهم مشارق الأرض ومغاربها : ليس فيهم حالق . نرجو الله أن يرينا وإخواننا المؤمنين الحق حقا ، ويرزقنا اتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه .

أما الأحاديث النبوية الدالة على إعفاء اللحية ، فلسنا بحاجة إلى ذكرها لشهرتها بين الناس ، وكثرة الرسائل المؤلفة في ذلك . وقصدنا هنا أن نبين دليل ذلك من القرآن . وإنما قال هارون لأخيه قال ياابن أم لأن قرابة الأم أشد عطفا وحنانا من قرابة الأب .

وأصله يا ابن أمي بالإضافة إلى ياء المتكلم ، ويطرد حذف الياء وإبدالها ألفا وحذف الألف المبدلة منها كما هنا ، وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله :



وفتح أو كسر وحذف اليا استمر في يا بن أم يا بن عم لا مفر


[ ص: 93 ] وأما ثبوت ياء المتكلم فيقول حرملة بن المنذر :



يا ابن أمي ويا شقيقي نفسي أنت خليتني لدهر شديد



فلغة قليلة . وقال بعضهم : هو لضرورة الشعر . وقوله " يا ابن أم " قرأه ابن عامر وشعبة عن عاصم وحمزة ، والكسائي بكسر الميم . وقرأه الباقون بفتحها . وكذلك قوله في " الأعراف " : قال ابن أم إن القوم [ 7 \ 150 ] .
قوله تعالى : إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما .

بين جل وعلا في هذه الآية : أن العجل الذي صنعه السامري من حلي القبط لا يمكن أن يكون إلاها ؟ وذلك لأنه حصر الإله أي : المعبود بحق بـ إنما التي هي أداة حصر على التحقيق في خالق السماوات ، والأرض . الذي لا إله إلا هو . أي : لا معبود بالحق إلا هو وحده جل وعلا ، وهو الذي وسع كل شيء علما . وقوله علما تمييز محول عن الفاعل ، أي : وسع علمه كل شيء .

وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة : من أنه تعالى هو الإله المعبود بحق دون غيره ، وأنه وسع كل شيء علما ذكره في آيات كثيرة من كتابه تعالى . كقوله تعالى : الله لا إله إلا هو الآية [ 3 \ 2 ] ، وقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله الآية [ 47 \ 19 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في إحاطة علمه بكل شيء : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق .

الكاف في قوله كذلك في محل نصب على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : نقص عليك من أنباء ما سبق قصصا مثل ذلك القصص الحسن الحق الذي قصصنا عليك عن موسى وهارون ، وعن موسى وقومه ، والسامري . والظاهر أن " من " في قوله من أنباء ما قد سبق للتبعيض ، ويفهم من ذلك أن بعضهم لم يقصص عليه خبره ويدل لهذا [ ص: 94 ] المفهوم قوله تعالى في سورة " النساء " : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك [ 4 \ 164 ] ، وقوله في سورة " المؤمن " : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك [ 40 \ 78 ] ، قوله في سورة " إبراهيم " ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات [ 14 \ 9 ] ، . والأنباء : جمع نبأ وهو الخبر الذي له شأن .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه قص على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أخبار الماضين . أي : ليبين بذلك صدق نبوته ، لأنه أمي لا يكتب ، ولا يقرأ الكتب ، ولم يتعلم أخبار الأمم وقصصهم . فلولا أن الله أوحى إليه ذلك لما علمه . بينه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله في " آل عمران " : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون [ 3 \ 44 ] ، أي : فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما كان لك علم به . وقوله تعالى في سورة " هود " تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين [ 11 \ 49 ] ، وقوله في " هود " أيضا : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك الآية [ 11 \ 120 ] . وقوله تعالى في سورة " يوسف " : ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون [ 12 \ 102 ] ، وقوله في " يوسف " أيضا : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] ، وقوله في " القصص " : وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر [ 28 \ 44 ] ، وقوله فيها : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا [ 28 \ 46 ] ، وقوله : وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا [ 28 \ 45 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . يعني لم تكن حاضرا يا نبي الله لتلك الوقائع ، فلولا أن الله أوحى إليك ذلك لما علمته . وقوله من أنباء ما قد سبق أي : أخبار ما مضى من أحوال الأمم ، والرسل .
قوله تعالى : وقد آتيناك من لدنا ذكرا .

أي : أعطيناك من عندنا ذكرا وهو هذا القرآن العظيم ، وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله . كقوله : وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون [ 21 \ 50 ] ، وقوله تعالى : ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم [ 3 \ 58 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 95 ] ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون [ 21 \ 2 ] ، وقوله : وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون [ 15 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ص والقرآن ذي الذكر [ 38 ] ، وقوله تعالى : وإنه لذكر لك ولقومك الآية [ 43 \ 44 ] وقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : ثم في تسمية القرآن بالذكر وجوه :

أحدها : أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم .

وثانيها : أنه يذكر أنواع آلاء الله ونعمائه تعالى . ففيه التذكير ، والمواعظ .

وثالثها : أنه فيه الذكر ، والشرف لك ولقومك على ما قال : وإنه لذكر لك ولقومك [ 43 \ 44 ] ، .

واعلم أن الله تعالى سمى كل كتبه ذكرا فقال : فاسألوا أهل الذكر [ 21 \ 7 ] ، ا ه المراد من كلام الرازي .

ويدل للوجه الثاني في كلامه قوله تعالى :

كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] ، وقوله تعالى : وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا . [ 20 \ 113 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:17 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (287)
سُورَةُ طه
صـ 96 إلى صـ 102




وقوله تعالى : من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أعرض عن هذا الذكر الذي هو القرآن العظيم ، أي : صد وأدبر عنه ، ولم يعمل بما فيه من الحلال ، والحرام ، والآداب ، والمكارم ، ولم يعتقد ما فيه من العقائد ويعتبر بما فيه من القصص ، والأمثال ، ونحو ذلك فإنه يحمل يوم القيامة وزرا ، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : يريد بالوزر العقوبة الثقيلة الباهظة . سماها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها ، بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره ، ويلقي عليه بوزره . أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله : على أن المجرمين يأتون يوم القيامة يحملون أوزارهم . أي : أثقال ذنوبهم على ظهورهم . كقوله في [ ص: 96 ] سورة " الأنعام " : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون [ 6 \ 31 ] ، وقوله في " النحل " : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] ، وقوله في " العنكبوت " : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] ، وقوله في " فاطر " : ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، .

وبهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تعلم أن معنى قوله تعالى : فإنه يحمل يوم القيامة وزرا [ 20 \ 100 ] ، وقوله : وساء لهم يوم القيامة حملا [ 20 \ 101 ] ، أن المراد بذلك الوزر المحمول أثقال ذنوبهم وكفرهم يأتون يوم القيامة يحملونها : سواء قلنا إن أعمالهم السيئة تتجسم في أقبح صورة وأنتنها ، أو غير ذلك كما تقدم إيضاحه . والعلم عند الله . وقد قدمنا عمل " ساء " التي بمعنى بئس مرارا . فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله تعالى : خالدين فيه . قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : خالدين فيه يريد مقيمين فيه ، أي : في جزائه ، وجزاؤه جهنم .

تنبيه

إفراد الضمير في قوله : أعرض وقوله : فإنه وقوله : يحمل باعتبار لفظ " من " وأما جمع خالدين وضمير لهم يوم القيامة فباعتبار معنى من . كقوله : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها [ 20 \ 101 ] ، وقوله : ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا الآية [ 72 \ 23 ] .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : اللام في " لهم " ما هي ؟ وبم تتعلق ؟ قلت : هي للبيان كما في هيت لك . [ 12 \ 23 ] .
قوله تعالى : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنهم يسألونه عن الجبال ، وأمره أن يقول لهم : [ ص: 97 ] إن ربه ينسفها نسفا ، وذلك بأن يقلعها من أصولها ، ثم يجعلها كالرمل المتهايل الذي يسيل ، وكالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا .

واعلم أنه جل وعلا بين الأحوال التي تصير إليها الجبال يوم القيامة في آيات من كتابه . فبين أنه ينزعها من أماكنها ويحملها فيدكها دكا . وذلك في قوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 13 - 14 ] ، .

ثم بين أنه يسيرها في الهواء بين السماء والأرض . وذلك في قوله ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون [ 27 \ 87 - 88 ] ، وقوله : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة الآية [ 18 \ 47 ] وقوله : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] ، وقوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقوله تعالى : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 9 - 10 ] ، .

ثم بين أنه يفتتها ويدقها كقوله وبست الجبال بسا أي : فتتت حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن أو نحوه على القول بذلك ، وقوله : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، .

ثم بين أنه يصيرها كالرمل المتهايل ، وكالعهن المنفوش ؟ وذلك في قوله : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 73 \ 14 ] ، وقوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن [ 70 \ 9 ] ، في " المعارج ، والقارعة " . والعهن : الصوف المصبوغ . ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :



كأن فتات العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم


ثم بين أنها تصير كالهباء المنبث في قوله : وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا [ 56 \ 5 - 6 ] ، ثم بين أنها تصير سرابا ، وذلك في قوله : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقد بين في موضع آخر : أن السراب لا شيء . وذلك قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] ، وبين أنه ينسفها نسفا في قوله هنا : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] ، .
تنبيه

[ ص: 98 ] جرت العادة في القرآن : أن الله إذا قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : يسألونك قال له قل بغير فاء . كقوله : ويسألونك عن الروح قل الروح الآية [ 17 \ 85 ] وقوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير الآية [ 2 \ 219 ] وقوله : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير الآية [ 2 \ 215 ] وقوله يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات الآية [ 5 \ 4 ] وقوله : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير [ 2 \ 217 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، أما في آية " طه " هذه فقال فيها : فقل ينسفها [ 20 \ 105 ] بالفاء . وقد أجاب القرطبي عن هذا في تفسير هذه الآية بما نصه : ويسألونك عن الجبال أي : عن حال الجبال يوم القيامة ، فقل . جاء هذا بفاء ، وكل سؤال في القرآن " قل " بغير فاء إلا هذا ؛ لأن المعنى : إن سألوك عن الجبال فقل ، فتضمن الكلام معنى الشرط ، وقد علم الله أنهم يسألونه عنها فأجابهم قبل السؤال . وتلك أسئلة تقدمت ، سألوا عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء الجواب عقب السؤال . فلذلك كان بغير فاء . وهذا سؤال لم يسألوه عنه بعد فتفهمه انتهى منه . وما ذكره يحتاج إلى دليل ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا .

الضمير في قوله : فيذرها فيه وجهان معروفان عند العلماء :

أحدهما : أنه راجع إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر . ونظير هذا القول في هذه الآية قوله تعالى : ما ترك على ظهرها من دابة [ 35 \ 45 ] ، وقوله : ما ترك عليها من دابة [ 16 \ 16 ] ، فالضمير فيهما راجع إلى الأرض ولم يجر لها ذكر . وقد بينا شواهد ذلك من العربية ، والقرآن بإيضاح في سورة " النحل " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

والثاني : أنه راجع إلى منابت الجبال التي هي مراكزها ومقارها لأنها مفهومة من ذكر الجبال . والمعنى : فيذر مواضعها التي كانت مستقرة فيها من الأرض قاعا صفصفا . والقاع : المستوي من الأرض . وقيل : مستنقع الماء . والصفصف : المستوي الأملس [ ص: 99 ] الذي لا نبات فيه ، ولا بناء ، فإنه على صف واحد في استوائه . وأنشد لذلك سيبويه قول الأعشى :



وكم دون بيتك من صفصف ودكداك رمل وأعقادها


ومنه قول الآخر :



وملمومة شهباء لو قذفوا بها شماريخ من رضوى إذا عاد صفصفا



وقوله : لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 107 ] ، أي : لا اعوجاج فيها ، ولا أمت . والأمت : النتوء اليسير . أي : ليس فيها اعوجاج ، ولا ارتفاع بعضها على بعض ، بل هي مستوية ، ومن إطلاق الأمت بالمعنى المذكور قول لبيد :



فاجرمزت ثم سارت وهي لاهية في كافر ما به أمت ، ولا شرف



وقول الآخر :



فأبصرت لمحة من رأس عكرشة في كافر ما به أمت ولا عوج



والكافر في البيتين : قيل الليل . وقيل المطر ، لأنه يمنع العين من رؤية الارتفاع ، والانحدار في الأرض .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : قد فرقوا بين العوج ، والعوج فقالوا . العوج بالكسر في المعاني ، والعوج بالفتح في الأعيان . والأرض عين ، فكيف صح فيها المكسور العين ؟

قلت اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء ، والملاسة ، ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون . وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسويتها ، وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة ، واتفقتم على أنه لم يبق فيها اعوجاج قط ، ثم استطلعت رأي المهندس فيها ، وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك ذلك بحاسة البصر ، ولكن بالقياس الهندسي ، فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك ، اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير ، والهندسة ، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلا بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه : عوج بالكسر ، والأمت : النتوء اليسير ، يقال : مد حبله حتى ما فيه أمت . انتهى منه . وقد قدمنا في أول سورة الكهف ما يغني عن هذا الكلام الذي ذكره ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 100 ] قوله تعالى : يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا .

قوله يومئذ أي : يوم إذ نسفت الجبال يتبعون الداعي . والداعي : هو الملك الذي يدعوهم إلى الحضور للحساب . قال بعض أهل العلم : يناديهم أيتها العظام النخرة ، والأوصال المتفرقة ، واللحوم المتمزقة ، قومي إلى ربك للحساب ، والجزاء ، فيسمعون الصوت ويتبعونه . ومعنى لا عوج له : أي : لا يحيدون عنه ، ولا يميلون يمينا ، ولا شمالا . وقيل : لا عوج لدعاء الملك عن أحد ، أي : لا يعدل بدعائه عن أحد ، بل يدعوهم جميعا . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من اتباعهم للداعي للحساب ، وعدم عدولهم عنه بينه في غير هذا الموضع ، وزاد أنهم يسرعون إليه كقوله تعالى فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 6 - 8 ] ، والإهطاع : الإسراع : وقوله تعالى : واستمع يوم ينادي المنادي من مكان قريب يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 41 - 42 ] ، وقوله تعالى : يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده الآية [ 17 \ 52 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وخشعت الأصوات للرحمن أي : خفضت وخفتت ، وسكنت هيبة لله ، وإجلالا وخوفا فلا تسمع في ذلك اليوم صوتا عاليا ، بل لا تسمع إلا همسا أي : صوتا خفيا خافتا من شدة الخوف . أو إلا همسا أي : إلا صوت خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر ، والهمس يطلق في اللغة على الخفاء ، فيشمل خفض الصوت وصوت الأقدام . كصوت أخفاف الإبل في الأرض التي فيها يابس النبات ، ومنه قول الراجز :



وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا


وما ذكره جل وعلا هنا أشار له في غير هذا الموضع ، كقوله : رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 37 ] .

وقوله هنا : يومئذ لا تنفع الشفاعة الآية ، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في " مريم " ، وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
[ ص: 101 ] قوله تعالى : وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما .

قوله : عنت أي : ذلت وخضعت . تقول العرب : عنا يعنو عنوا وعناء : إذ ذل وخضع ، وخشع . ومنه قيل للأسير عان لذله وخضوعه لمن أسره . ومنه قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :



مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد


وقوله أيضا :



وعنا له وجهي وخلقي كله في الساجدين لوجهه مشكورا



واعلم أن العلماء اختلفوا في هذه الآية الكريمة ، فقال بعضهم : المراد بالوجوه التي ذلت وخشعت للحي القيوم : وجوه العصاة خاصة وذلك يوم القيامة : وأسند الذل ، والخشوع لوجوههم ، لأن الوجه تظهر فيه آثار الذل ، والخشوع . ومما يدل على هذا المعنى من الآيات القرآنية قوله تعالى : فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا الآية [ 67 \ 27 ] وقوله : ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة [ 75 \ 24 ] ، وقوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية [ 88 \ 2 - 4 ] ، ، وعلى هذا القول انتصر الزمخشري واستدل له ببعض الآيات المذكورة .

وقال بعض العلماء وعنت الوجوه : أي : ذلت وخضعت وجوه المؤمنين لله في دار الدنيا ، وذلك بالسجود ، والركوع . وظاهر القرآن يدل على أن المراد الذل والخضوع لله يوم القيامة ، لأن السياق في يوم القيامة ، وكل الخلائق تظهر عليهم في ذلك اليوم علامات الذل ، والخضوع لله جل وعلا .

وقوله في هذه الآية : وقد خاب من حمل ظلما قال بعض العلماء : أي : خسر من حمل شركا . وتدل لهذا القول الآيات القرآنية الدالة على تسمية الشرك ظلما . كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، وقوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية [ 6 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات ، والأظهر أن الظلم في قوله : وقد خاب من حمل ظلما [ 20 \ 111 ] ، يعم الشرك ، وغيره من المعاصي . وخيبة كل ظالم بقدر ما حل من الظلم ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 102 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : للحي القيوم الحي : المتصف بالحياة الذي لا يموت أبدا . والقيوم صيغة مبالغة . لأنه جل وعلا هو القائم بتدبير شئون جميع الخلق . وهو القائم على كل نفس بما كسبت . وقيل : القيوم الدائم الذي لا يزول .
قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن بربه فإنه لا يخاف ظلما ، ولا هضما . وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] ، وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 60 \ 44 ] ، وقوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما قدمنا ذلك .

وفرق بعض أهل العلم بين الظلم ، والهضم بأن الظلم المنع من الحق كله . والهضم : النقص والمنع من بعض الحق . فكل هضم ظلم ، ولا ينعكس . ومن إطلاق الهضم على ما ذكر قول المتوكل الليثي :



إن الأذلة واللئام لمعشر مولاهم المنهضم المظلوم


فالمنهضم : اسم مفعول تهضمه إذا اهتضمه في بعض حقوقه وظلمه فيها .

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير بربه فلا يخاف [ 20 \ 111 ] ، بضم الفاء وبألف بعد الخاء مرفوعا ، ولا نافية . أي : فهو لا يخاف ، أو فإنه لا يخاف . وقرأه ابن كثير " فلا يخف " بالجزم من غير ألف بعد الخاء . وعليه فـ " لا " ناهية جازمة المضارع . وقول القرطبي في تفسيره : إنه على قراءة ابن كثير مجزوم . لأنه جواب لقوله ومن يعمل غلط منه . لأن الفاء في قوله فلا يخاف مانعة من ذلك . والتحقيق هو ما ذكرنا من أن " لا " ناهية على قراءة ابن كثير ، والجملة الطلبية جزاء الشرط ، فيلزم اقترانها بالفاء . لأنها لا تصلح فعلا للشرط كما قدمناه مرارا .
قوله تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد .

الآية ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:18 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (288)
سُورَةُ طه
صـ 103 إلى صـ 109



قوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما

.

[ ص: 103 ] كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جاءه جبريل بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه على حفظ القرآن . فأرشده الله في هذه الآية إلى ما ينبغي . فنهاه عن العجلة بقراءة القرآن مع جبريل ، بل أمره أن ينصت لقراءة جبريل حتى ينتهي ، ثم يقرؤه هو بعد ذلك ، فإن الله ييسر له حفظه . وهذا المعنى المشار إليه في هذه الآية أوضحه الله في غير هذا الموضع . كقوله في " القيامة " : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] ، وقال البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا أبو عوانة قال : حدثنا موسى بن أبي عائشة قال : حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعالج من التنزيل شدة ، وكان مما يحرك شفتيه ، فقال ابن عباس : فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركهما . وقال سعيد : أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما ، فحرك شفتيه . فأنزل الله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 - 17 ] ، قال : جمعه لك في صدرك ، ونقرؤه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ 75 \ 18 ] ، قال : فاستمع له وأنصت ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 19 ] ، ثم علينا أن نقرأه . فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع . فإذا انطلق جبريل قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قرأه ا ه .
قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما .

قوله : ولقد عهدنا إلى آدم أي : أوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة . وهذا العهد إلى آدم الذي أجمله هنا بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " البقرة " : وقلنا ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 2 \ 35 ] ، فقوله : ولا تقربا هذه الشجرة هو عهده إلى آدم المذكور هنا .

وقوله في " الأعراف " : ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 7 \ 19 ] ، .

وقوله تعالى : فنسي فيه للعلماء وجهان معروفان : أحدهما : أن المراد بالنسيان الترك ، فلا ينافي كون الترك عمدا . والعرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا ، ومنه قوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] ، فالمراد في هذه الآية : الترك قصدا . وكقوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، [ ص: 104 ] وقوله تعالى : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون [ 32 \ 14 ] ، وقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ 59 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 45 \ 34 ] . وعلى هذا فمعنى قوله : فنسي أي : ترك الوفاء بالعهد ، وخالف ما أمره الله به من ترك الأكل من تلك الشجرة ، لأن النهي عن الشيء يستلزم الأمر بضده .

والوجه الثاني : هو أن المراد بالنسيان في الآية : النسيان الذي هو ضد الذكر ، لأن إبليس لما أقسم له بالله أنه له ناصح فيما دعاه إليه من الأكل من الشجرة التي نهاه ربه عنها غره وخدعه بذلك ، حتى أنساه العهد المذكور . كما يشير إليه قوله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 - 22 ] ، . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي رواه عنه ابن أبي حاتم ا ه . ولقد قال بعض الشعراء :



وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب


أما على القول الأول فلا إشكال في قوله : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وأما على الثاني ففيه إشكال معروف . لأن الناسي معذور فكيف يقال فيه وعصى آدم ربه فغوى .

وأظهر أوجه الجواب عندي عن ذلك : أن آدم لم يكن معذورا بالنسيان . وقد بينت في كتابي ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) الأدلة الدالة على أن العذر بالنسيان والخطأ والإكراه من خصائص هذه الأمة . كقوله هنا فنسي مع قوله وعصى فأسند إليه النسيان ، والعصيان ، فدل على أنه غير معذور بالنسيان . ومما يدل على هذا ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله نعم قد فعلت . فلو كان ذلك معفوا عن جميع الأمم لما كان لذكره على سبيل الامتنان وتعظيم المنة عظيم موقع . ويستأنس لذلك بقوله : كما حملته على الذين من قبلنا [ 2 \ 286 ] ، ويؤيد ذلك حديث : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان وما استكرهوا عليه " . فقوله " تجاوز لي عن أمتي " يدل على الاختصاص بأمته . وليس مفهوم لقب . لأن مناط [ ص: 105 ] التجاوز عن ذلك هو ما خصه الله به من التفضيل على غيره من الرسل .

والحديث المذكور وإن أعله الإمام أحمد ، وابن أبي حاتم فله شواهد ثابتة في الكتاب ، والسنة . ولم يزل علماء الأمة قديما وحديثا يتلقونه بالقبول . ومن الأدلة على ذلك حديث طارق بن شهاب المشهور في الذي دخل النار في ذباب قربه مع أنه مكره وصاحبه الذي امتنع من تقريب شيء للصنم ولو ذبابا قتلوه . فدل ذلك على أن الذي قربه مكره . لأنه لو لم يقرب لقتلوه كما قتلوا صاحبه ، ومع هذا دخل النار فلم يكن إكراهه عذرا . ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى عن أصحاب الكهف : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا [ 18 \ 20 ] ، فقوله : يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم دليل على الإكراه ، وقوله : ولن تفلحوا إذا أبدا دليل على عدم العذر بذلك الإكراه . كما أوضحنا ذلك في غير هذا الموضع .

واعلم أن في شرعنا ما يدل على نوع من التكليف بذلك في الجملة ، كقوله تعالى : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة الآية [ 4 \ 92 ] . فتحرير الرقبة هنا كفارة لذلك القتل خطأ . والكفارة تشعر بوجود الذنب في الجملة . كما يشير إلى ذلك قوله في كفارة القتل خطأ فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما [ 4 \ 92 ] ، فجعل صوم الشهرين بدلا من العتق عند العجز عنه . وقوله بعد ذلك توبة من الله يدل على أن هناك مؤاخذة في الجملة بذلك الخطأ ، مع قوله : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به [ 33 \ 5 ] ، وما قدمنا من حديث مسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله نعم قد فعلت ، فالمؤاخذة التي هي الإثم مرفوعة ، والكفارة المذكورة . قال بعض أهل العلم : هي بسبب التقصير في التحفظ ، والحذر من وقوع الخطأ ، والنسيان ، والله جل وعلا أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 122 ] ، هو ونحوه من الآيات مستند من قال من أهل الأصول بعدم عصمة الأنبياء من الصغائر التي لا تتعلق بالتبليغ . لأنهم يتداركونها بالتوبة ، والإنابة إلى الله حتى تصير كأنها لم تكن .

واعلم أن جميع العلماء أجمعوا على عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في كل ما يتعلق بالتبليغ . واختلفوا في عصمتهم من الصغائر التي لا تعلق لها بالتبليغ اختلافا مشهورا معروفا في الأصول . ولا شك أنهم صلوات الله عليهم وسلامه إن وقع [ ص: 106 ] منهم بعض الشيء فإنهم يتداركونه بصدق الإنابة إلى الله حتى يبلغوا بذلك درجة أعلا من درجة من لم يقع منه ذلك . كما قال هنا : وعصى آدم ربه فغوى ثم أتبع ذلك بقوله : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] ، .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] ، يدل على أن أبانا آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس من الرسل الذين قال الله فيهم فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ 46 \ 35 ] ، وهم : نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : هم جميع الرسل . وعن ابن عباس ، وقتادة ولم نجد له عزما أي : لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة ومواظبة على التزام الأمر .

وأقوال العلماء راجعة إلى هذا ، والوجود في قوله : ولم نجد قال أبو حيان في البحر : يجوز أن يكون بمعنى العلم ، ومفعولاه له عزما وأن يكون نقيض العدم . كأنه قال : وعند مناله عزما ا ه منه . والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى . أي : أبى أن يسجد . فذكر عنه هنا الإباء ولم يذكر عنه هنا الاستكبار . وذكر عنه الإباء أيضا في " الحجر " في قوله : إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين [ 15 \ 31 ] ، . وقوله في آية " الحجر " هذه أبى أن يكون مع الساجدين يبين معمول " أبى " المحذوف في آية " طه " هذه التي هي قوله إلا إبليس أبى [ 20 \ 116 ] ، أي : أبى أن يكون مع الساجدين ، كما صرح به في " الحجر " وكما أشار إلى ذلك في " الأعراف " في قوله : إلا إبليس لم يكن من الساجدين [ 7 \ 11 ] ، وذكر عنه في سورة " ص " الاستكبار وحده في قوله : إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين [ 38 ] ، وذكر عنه الإباء ، والاستكبار معا في سورة " البقرة " في قوله : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 ] ، . وقد بينا في سورة " البقرة " سبب استكباره في زعمه وأدلة بطلان شبهته في زعمه المذكور . وقد بينها في سورة " الكهف " كلام العلماء فيه هل أصله ملك من الملائكة أو لا ؟

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فسجدوا إلا إبليس صرح في غير هذا الموضع أن السجود المذكور سجده الملائكة كلهم أجمعون لا بعضهم ، وذلك في قوله [ ص: 107 ] فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس . [ 38 - 74 ] .
قوله تعالى : فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى .

قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن هذا عدو لك ولزوجك قد قدمنا الآيات الموضحة له في " الكهف " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله في هذه الآية الكريمة : فتشقى أي : فتتعب في طلب المعيشة بالكد ، والاكتساب . لأنه لا يحصل لقمة العيش في الدنيا بعد الخروج من الجنة حتى يحرث الأرض ، ثم يزرعها ، ثم يقوم على الزرع حتى يدرك ، ثم يدرسه ، ثم ينقيه ، ثم يطحنه ، ثم يعجنه ، ثم يخبزه . فهذا شقاؤه المذكور .

والدليل على أن المراد بالشقاء في هذه الآية : التعب في اكتساب المعيشة قوله تعالى بعده : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 118 - 119 ] ، يعني احذر من عدوك أن يخرجك من دار الراحة التي يضمن لك فيها الشبع ، والري ، والكسوة ، والسكن . قال الزمخشري : وهذه الأربعة هي الأقطاب التي يدور عليها كفاف الإنسان ، فذكره استجماعها له في الجنة ، وأنه مكفي لا يحتاج إلى كفاية كاف ، ولا إلى كسب كاسب كما يحتاج إلى ذلك أهل الدنيا . وذكرها بلفظ النفي لنقائضها التي هي الجوع ، والعري ، والظمأ ، والضحو ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة التي حذره منها ، حتى يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها ا ه .

فقوله في هذه الآية الكريمة : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى [ 20 \ 118 ] ، قرينة واضحة على أن الشقاء المحذر منه تعب الدنيا في كد المعيشة ليدفع به الجوع ، والظمأ ، والعري ، والضحاء . والجوع معروف ، والظمأ : العطش . والعري بالضم : خلاف اللبس .

وقوله : ولا تضحى أي : لا تصير بارزا للشمس ، ليس لك ما تستكن فيه من حرها . تقول العرب : ضحي يضحى ، كرضي يرضى . وضحى يضحى كسعى يسعى إذا كان بارزا لحر الشمس ليس له ما يكنه منه . ومن هذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة :



رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فينحصر


وقول الآخر :



ضحيت له كي أستظل بظله إذا الظل أضحى في القيامة قالصا



[ ص: 108 ] وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا نافعا وشعبة عن عاصم وأنك لا تظمأ بفتح همزة " أن " ، والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها معطوف على المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : إن لك ألا تجوع أي : وإن لك أنك لا تظمأ فيها ولا تضحى . ويجوز في المصدر المعطوف المذكور النصب ، والرفع ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :



وجائز رفعك معطوفا على منصوب إن بعد أن تستكملا



وإيضاح تقدير المصدرين المذكورين : إن لك عدم الجوع فيها ، وعدم الظمأ .
تنبيه

أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب نفقة الزوجة على زوجها لأن الله لما قال إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة [ 20 \ 117 ] ، بخطاب شامل لآدم وحواء ، ثم خص آدم بالشقاء دونها في قوله فتشقى دل ذلك على أنه هو المكلف بالكد عليها وتحصيل لوازم الحياة الضرورية لها : من مطعم ، ومشرب ، وملبس ، ومسكن .

قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : وإنما خصه بذكر الشقاء ولم يقل فتشقيا يعلمنا أن نفقة الزوجة على الزوج ، فمن يومئذ جرت نفقة النساء على الأزواج . فلما كانت نفقة حواء على آدم كذلك نفقات بناتها على بني آدم بحق الزوجية . وأعلمنا في هذه الآية : أن النفقة التي تجب للمرأة على زوجها هذه الأربعة : الطعام ، والشراب ، والكسوة ، والمسكن . فإذا أعطاها هذه الأربعة فقد خرج إليها من نفقتها ، فإن تفضل بعد ذلك فهو مأجور . فأما هذه الأربعة فلا بد منها . لأن بها إقامة المهجة ا ه منه .

وذكر في قصة آدم : أنه لما أهبط إلى الأرض أهبط إليه ثور أحمر وحبات من الجنة ، فكان يحرث على ذلك الثور ويمسح العرق عن جبينه وذلك من الشقاء المذكور في الآية .

والظاهر أن الذي في هذه الآية الكريمة من البديع المعنوي في اصطلاح البلاغيين ، هو ما يسمى " مراعاة النظير " ، ويسمى " التناسب ، والائتلاف . والتوفيق ، والتلفيق " . فهذه كلها أسماء لهذا النوع من البديع المعنوي . وضابطه : أنه جمع أمر وما يناسبه لا بالتضاد . كقوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان [ 55 \ 5 ] ، فإن الشمس ، والقمر متناسبان [ ص: 109 ] لا بالتضاد . وكقول البحتري يصف الإبل الأنضاء المهازيل ، أو الرماح :



كالقسي المعطفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار


وبين الأسهم ، والقسي المعطفات ، والأوتار مناسبة في الرقة وإن كان بعضها أرق من بعض ، وهي مناسبة لا بالتضاد . وكقول ابن رشيق :



أصح وأقوى ما سمعناه في الندى من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا عن البحر عن كف الأمير تميم



فقد ناسب بين الصحة ، والقوة ، والسماع ، والخبر المأثور ، والأحاديث ، والرواية ، وكذا ناسب بين السيل ، والحيا وهو المطر ، والبحر وكف الأمير تميم ، وكقول أسيد بن عنقاء الفزاري :



كأن الثريا علقت في جبينه وفي خده الشعرى وفي وجهه البدر



فقد ناسب بين الثريا ، والشعرى ، والبدر ، كما ناسب بين الجبين ، والوجنة ، والوجه . وأمثلة هذا النوع كثيرة معروفة في فن البلاغة .

وإذا علمت هذا فاعلم أنه جل وعلا ناسب في هذه الآية الكريمة في قوله إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى بين نفي الجوع المتضمن لنفي الحرارة الباطنية ، والألم الباطني الوجداني ، وبين نفي العري المتضمن لنفي الألم الظاهري من أذى الحر ، والبرد ، وهي مناسبة لا بالتضاد . كما أنه تعالى ناسب في قوله وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى بين نفي الظمأ المتضمن لنفي الألم الباطني الوجداني الذي يسببه الظمأ . وبين نفي الضحى المتضمن لنفي الألم الظاهري الذي يسببه حر الشمس ونحوه كما هو واضح .

بما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن في هذه الآية المذكورة ما يسمى قطع النظير عن النظير ، وأن الغرض من قطع النظير عن النظير المزعوم تحقيق تعداد هذه النعم وتكثيرها . لأنه لو قرن النظير بنظيره لأوهم أن المعدودات نعمة واحدة ، ولهذا قطع الظمأ عن الجوع ، والضحو عن الكسوة ، مع ما بين ذلك من التناسب . وقالوا : ومن قطع النظير عن النظير المذكور قول امرئ القيس :



كأني لم أركب جوادا للذة ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لخيل كري كرة بعد إجفال


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:18 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (289)
سُورَةُ طه
صـ 110 إلى صـ 116





فقطع ركوب الجواد من قوله " لخيل كري كرة " وقطع " تبطن الكاعب " عن [ ص: 110 ] شرب " الزق الروي " مع التناسب في ذلك . وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها . كله كلام لا حاجة له لظهور المناسبة بين المذكورات في الآية كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى .

الوسوسة ، والوسواس : الصوت الخفي . ويقال لهمس الصائد ، والكلاب ، وصوت الحلي : وسواس . والوسوس بكسر الواو الأولى مصدر ، وبفتحها الاسم ، وهو أيضا من أسماء الشيطان ، كما في قوله تعالى : من شر الوسواس الخناس [ 114 \ 4 ] ، ويقال لحديث النفس : وسواس ووسوسة . ومن إطلاق الوسواس على صوت الحلي قول الأعشى :



تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت كما استعان بريح عشرق زجل


ومن إطلاقه على همس الصائد قول ذي الرمة :



فبات يشئزه ثأد ويسهره تذؤب الريح والوسواس والهضب



وقول رؤبة :



وسوس يدعو مخلصا رب الفلق سرا وقد أون تأوين العقق
في الزرب لو يمضع شربا ما بصق


وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة فوسوس إليه الشيطان [ 20 \ 120 ] ، أي : كلمه كلاما خفيا فسمعه منه آدم وفهمه .

والدليل على أن الوسوسة المذكورة في هذه الآية الكريمة كلام من إبليس سمعه آدم وفهمه أنه فسر الوسوسة في هذه الآية بأنها قول ، وذلك في قوله فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد [ 20 \ 120 ] ، . فالقول المذكور هو الوسوسة المذكورة . وقد أوضح هذا في سورة " الأعراف " وبين أنه وسوس إلى حواء أيضا مع آدم ، وذلك في قوله : فوسوس لهما الشيطان إلى قوله وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 ] ، لأن تصريحه تعالى في آية " الأعراف " هذه بأن إبليس قاسمهما أي : حلف لهما على أنه ناصح لهما فيما ادعاه من الكذب دليل واضح على أن الوسوسة المذكورة كلام مسموع . واعلم أن في وسوسة الشيطان إلى آدم إشكالا [ ص: 111 ] معروفا ، وهو أن يقال : إبليس قد أخرج من الجنة صاغرا مذموما مدحورا ، فكيف أمكنه الرجوع إلى الجنة حتى وسوس لآدم ؟ ، والمفسرون يذكرون في ذلك قصة الحية ، وأنه دخل فيها فأدخلته الجنة ، والملائكة الموكلون بها لا يشعرون بذلك . وكل ذلك من الإسرائيليات . والواقع أنه لا إشكال في ذلك ، لإمكان أن يقف إبليس خارج الجنة قريبا من طرفها بحيث يسمع آدم كلامه وهو في الجنة ، وإمكان أن يدخله الله إياها لامتحان آدم وزوجه ، لا لكرامة إبليس . فلا محال عقلا في شيء من ذلك . والقرآن قد جاء بأن إبليس كلم آدم ، وحلف له حتى غره وزوجه بذلك .

وقوله في هذه الآية الكريمة على شجرة الخلد أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود . لأن من أكل منها يكون في زعمه الكاذب خالدا لا يموت ، ولا يزول ، وكذلك يكون له في زعمه ملك لا يبلى أي : لا يفنى ، ولا ينقطع . وقد قدمنا أن قوله هنا وملك لا يبلى يدل لمعنى قراءة من قرأ إلا أن تكونا ملكين [ 7 \ 20 ] بكسر اللام . وقوله أو تكونا من الخالدين [ 7 \ 20 ] ، هو معنى قوله في " طه " : هل أدلك على شجرة الخلد [ 20 \ 120 ] ، .

والحاصل أن إبليس لعنه الله كان من جملة ما وسوس به إلى آدم وحواء : أنهما إن أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عنها نالا الخلود ، والملك ، وصارا ملكين ، وحلف لهما أنه ناصح لهما في ذلك ، يريد لهما الخلود ، والبقاء ، والملك فدلاهما بغرور . وفي القصة : أن آدم لما سمعه يحلف بالله اعتقد من شدة تعظيمه لله أنه لا يمكن أن يحلف به أحد على الكذب ، فأنساه ذلك العهد بالنهي عن الشجرة .
تنبيه

في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف عدى فعل الوسوسة في " طه " بإلى في قوله فوسوس إليه الشيطان مع أنه عداه في " الأعراف " باللام في قوله فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، . وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة .

أحدها : أن حروف الجر يخلف بعضها بعضا . فاللام تأتي بمعنى إلى كعكس ذلك .

قال الجوهري في صحاحه : وقوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان يريد إليهما ، ولكن العرب توصل بهذه الحروف كلها الفعل ا ه . وتبعه ابن منظور في اللسان . ومن الأجوبة عن ذلك : إرادة التضمين ، قال الزمخشري في تفسير هذه الآية : [ ص: 112 ] فإن قلت كيف عدى " وسوس " تارة باللام في قوله فوسوس لهما الشيطان وأخرى بإلى ؟ قلت : وسوسة الشيطان كولولة الثكلى ، ووعوعة الذئب ، ووقوقة الدجاجة ، في أنها حكايات للأصوات ، وحكمها حكم صوت وأجرس . ومنه وسوس المبرسم وهو موسوس بالكسر ، والفتح لحن . وأنشد ابن الأعرابي :



وسوس يدعو مخلصا رب الفلق . . . . . .


فإذا قلت : وسوس له . فمعناه لأجله . كقوله :



أجرس لها يا ابن أبي كباش فما لها الليلة من إنفاش
غير السرى وسائق نجاش


ومعنى فوسوس إليه أنهى إليه الوسوسة . كقوله : حدث إليه وأسر إليه ا ه منه . وهذا الذي أشرنا إليه هو معنى الخلاف المشهور بين البصريين ، والكوفيين في تعاقب حروف الجر ، وإتيان بعضها مكان بعض هل هو بالنظر إلى التضمين ، أو لأن الحروف يأتي بعضها بمعنى بعض ؟ وسنذكر مثالا واحدا من ذلك يتضح به المقصود . فقوله تعالى مثلا : ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا الآية [ 21 \ 77 ] على القول بالتضمين . فالحرف الذي هو " من " وارد في معناه لكن " نصر " هنا مضمنة معنى الإنجاء ، والتخليص ، أي : أنجيناه وخلصناه من الذين كذبوا بآياتنا . والإنجاء مثلا يتعدى بمن . وعلى القول الثاني فـ " نصر " وارد في معناه ، لكن " من " بمعنى على ، أي : نصرناه على القوم الذين كذبوا الآية ، وهكذا في كل ما يشاكله .

وقد قدمنا في سورة " الكهف " أن اختلاف العلماء في تعيين الشجرة التي نهى الله آدم عن الأكل منها اختلاف لا طائل تحته ، لعدم الدليل على تعيينها ، وعدم الفائدة في معرفة عينها .

وبعضهم يقول : هي السنبلة . وبعضهم يقول : هي شجرة الكرم . وبعضهم يقول : هي شجرة التين ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قوله تعالى : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى .

الفاء في قوله فأكلا تدل على أن سبب أكلهما هو وسوسة الشيطان المذكورة قبله في قوله : فوسوس إليه الشيطان أي : فأكلا منها بسبب تلك الوسوسة . وكذلك الفاء في قوله : فبدت لهما سوآتهما تدل على أن سبب ذلك هو أكلهما من الشجرة [ ص: 113 ] المذكورة ، فكانت وسوسة الشيطان سببا للأكل من تلك الشجرة . وكان الأكل منها سببا لبدو سوءاتهما . وقد تقرر في الأصول في مسلك ( الإيماء ، والتنبيه ) : أن الفاء تدل على التعليل كقولهم : سها فسجد ، أي : لعلة سهوه . سرق فقطعت يده ، أي : لعلة سرقته . كما قدمناه مرارا . وكذلك قوله هنا : فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها [ 20 \ 120 - 121 ] ، أي : بسبب تلك الوسوسة فبدت لهما سوءاتهما ، أي : بسبب ذلك الأكل ، ففي الآية ذكر السبب وما دلت عليه الفاء هنا كما بينا من أن وسوسة الشيطان هي سبب ما وقع من آدم وحواء جاء مبينا في مواضع من كتاب الله ، كقوله تعالى : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه [ 2 \ 36 ] ، فصرح بأن الشيطان هو الذي أزلهما . وفي القراءة الأخرى " فأزالهما " وأنه هو الذي أخرجهما مما كانا فيه ، أي : من نعيم الجنة ، وقوله تعالى : يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة الآية [ 7 \ 27 ] وقوله : فدلاهما بغرور [ 7 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وما ذكره جل وعلا في آية " طه " هذه من ترتب بدو سوءاتهما على أكلهما من تلك الشجرة أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله في " الأعراف " : فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما [ 7 \ 22 ] ، وقوله فيها أيضا : كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما [ 7 \ 27 ] .

وقد دلت الآيات المذكورة على أن آدم وحواء كانا في ستر من الله يستر به سوءاتهما ، وأنهما لما أكلا من الشجرة التي نهاهما ربهما عنهما انكشف ذلك الستر بسبب تلك الزلة . فبدت سوءاتهما أي : عوراتهما . وسميت العورة سوءة لأن انكشافها يسوء صاحبها ، وصارا يحاولان ستر العورة بورق شجر الجنة ، كما قال هنا : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ 20 \ 121 ] ، وقال في " الأعراف " : فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ 7 \ 27 ] ، .

وقوله وطفقا أي : شرعا . فهي من أفعال الشروع ، ولا يكون خبر أفعال الشروع إلا فعلا مضارعا غير مقترن بـ " أن " وإلى ذلك أشار في الخلاصة بقوله :



. . . . . وترك أن مع ذي الشروع وجبا كأنشأ السائق يحدو وطفق
وكذا جعلت وأخذت وعلق


[ ص: 114 ] فمعنى قوله وطفقا يخصفان أي : شرعا يلزقان عليهما من ورق الجنة بعضه ببعض ليسترا به عوراتهما . والعرب تقول : خصف النعل يخصفها : إذا خرزها : وخصف الورق على بدنه : إذا ألزقها وأطبقها عليه ورقة ورقة . وكثير من المفسرين يقولون : إن ورق الجنة التي طفق آدم وحواء يخصفان عليهما منه إنه ورق التين . والله تعالى أعلم .

واعلم أن الستر الذي كان على آدم وحواء ، وانكشف عنهما لما ذاقا الشجرة اختلف العلماء في تعيينه ، فقالت جماعة من أهل العلم : كان عليهما لباس من جنس الظفر . فلما أكلا من الشجرة أزاله الله عنهما إلا ما أبقى على رءوس الأصابع . وقال بعض أهل العلم : كان لباسهما نورا يستر الله به سوءاتهما . وقيل : لباس من ياقوت ، إلى غير ذلك من الأقوال . وهو من الاختلاف الذي لا طائل تحته ، ولا دليل على الواقع فيه كما قدمنا كثيرا من أمثلة ذلك في سورة " الكهف " . وغاية ما دل عليه القرآن : أنهما كان عليهما لباس يسترهما الله به . فلما أكلا من الشجرة نزع عنهما فبدت لهما سوءاتهما . ويمكن أن يكون اللباس المذكور الظفر أو النور ، أو لباس التقوى ، أو غير ذلك من الأقوال المذكورة فيه .

وأسند جل وعلا إبداء ما ووري عنهما من سوءاتهما إلى الشيطان قوله : ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [ 7 \ 20 ] ، كما أسند له نزع اللباس عنهما في قوله تعالى : كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما [ 7 \ 27 ] ، لأنه هو المتسبب في ذلك بوسوسته وتزيينه كما قدمناه قريبا . وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف جعل سبب الزلة في هذه الآية وهو وسوسة الشيطان مختصا بآدم دون حواء قوله : فوسوس إليه الشيطان مع أنه ذكر أن تلك الوسوسة سببت الزلة لهما معا كما أوضحناه .

والجواب ظاهر ، وهو أنه بين في " الأعراف " أنه وسوس لحواء أيضا مع آدم في القصة بعينها في قوله : فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، فبينت آية " الأعراف " ما لم تبينه آية " طه " كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
مسألة

أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة : وجوب ستر العورة ، لأن قوله : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة يدل على قبح انكشاف العورة ، وأنه ينبغي بذل [ ص: 115 ] الجهد في سترها . قال القرطبي في تفسيره في سورة " الأعراف " ما نصه : وفي الآية دليل على قبح كشف العورة ، وأن الله أوجب عليهما الستر ، ولذلك ابتدرا إلى سترها ، ولا يمتنع أن يؤمرا بذلك في الجنة كما قيل لهما حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة [ 7 \ 19 ] . وقد حكى صاحب البيان عن الشافعي : أن من لم يجد ما يستر به عورته إلا ورق الشجر لزمه أن يستقر بذلك . لأنه سترة ظاهرة ، عليه التستر بها كما فعل آدم في الجنة . والله أعلم . انتهى كلام القرطبي .

ووجوب ستر العورة في الصلاة مجمع عليه بين المسلمين . وقد دلت عليه نصوص من الكتاب ، والسنة ، كقوله تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] وكبعثه - صلى الله عليه وسلم - من ينادي عام حج أبي بكر بالناس عام تسع : " ألا يحج بعد هذا العام مشرك ، وألا يطوف بالبيت عريان " . وكذلك لا خلاف بين العلماء في منع كشف العورة أمام الناس . وسيأتي بعض ما يتعلق بهذا إن شاء الله في سورة " النور " .

فإن قيل : لم جمع السوءات في قوله سوآتهما مع أنهما سوأتان فقط ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : أن آدم وحواء كل واحد منهما له سوءتان : القبل ، والدبر ، فهي أربع ، فكل منهما يرى قبل نفسه وقبل الآخر ، ودبره . وعلى هذا فلا إشكال في الجمع .

الوجه الثاني : أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع ، والتثنية ، والإفراد ، وأفصحها الجمع ، فالإفراد ، فالتثنية على الأصح ، سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى . ومثال اللفظ : شويت رءوس الكبشين أو رأسهما ، أو رأسيهما . ومثال المعنى : قطعت من الكبشين الرءوس ، أو الرأس ، أو الرأسين . فإن فرق المثنى المضاف إليه فالمختار في المضاف الإفراد ، نحو : على لسان داود وعيسى ابن مريم .

ومثال جمع المثنى المضاف المذكور الذي هو الأفصح قوله تعالى فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] ، وقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، ومثال الإفراد قول الشاعر :



حمامة بطن الواديين ترنمي سقاك من الغر الغوادي مطيرها


ومثال التثنية قول الراجز :



ومهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين



[ ص: 116 ] والضمائر الراجعة إلى المضاف المذكور المجموع لفظا وهو مثنى معنى يجوز فيها الجمع نظرا إلى اللفظ ، والتثنية نظرا إلى المعنى ، فمن الأول قوله :



خليلي لا تهلك نفوسكما أسى فإن لهما فيما به دهيت أسى



ومن الثاني قوله :



قلوبكما يغشاهما الأمن عادة إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر



الوجه الثالث : ما ذهب إليه مالك بن أنس من أن أقل الجمع اثنان . قال في مراقي السعود :



أقل معنى الجمع في المشتهر الاثنان في رأي الإمام الحميري



وأما إن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه ، أي : كانا غير جزأيه فالقياس الجمع وفاقا للفراء ، كقولك : ما أخرجكما من بيوتكما ، وإذا أويتما إلى مضاجعكما ، وضرباه بأسيافهما ، وسألتا عن إنفاقهما على أزواجهما ، ونحو ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-12, 01:19 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (290)
سُورَةُ طه
صـ 117 إلى صـ 123

قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى .

المعصية خلاف الطاعة . فقوله وعصى آدم ربه فغوى أي : لم يطعه في اجتناب ما نهاه عنه من قربان تلك الشجرة .

وقوله : فغوى الغي : الضلال ، وهو الذهاب عن طريق الصواب . فمعنى الآية : لم يطع آدم ربه فأخطأ طريق الصواب بسبب عدم الطاعة ، وهذا العصيان ، والغي بين الله جل وعلا في غير موضع من كتابه أن المراد به : أن الله أباح له أن يأكل هو وامرأته من الجنة رغدا حيث شاءا ، ونهاهما أن يقربا شجرة معينة من شجرها . فلم يزل الشيطان يوسوس لهما ويحلف لهما بالله إنه لهما لناصح ، وإنهما إن أكلا منها نالا الخلود والملك الذي لا يبلى . فخدعهما بذلك كما نص الله على ذلك في قوله : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور [ 7 \ 21 ] ، فأكلا منها . وكان بعض أهل العلم يقول : من خادعنا بالله خدعنا . وهو مروي عن عمر . وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود ، والترمذي ، والحاكم : " المؤمن غر كريم ، والفاجر خب لئيم " . وأنشد لذلك نفطويه :



إن الكريم إذا تشاء خدعته وترى اللئيم مجربا لا يخدع


[ ص: 117 ] فآدم عليه الصلاة والسلام ما صدرت منه الزلة إلا بسبب غرور إبليس له . وقد قدمنا قول بعض أهل العلم : إنآدم من شدة تعظيمه لله اعتقد أنه لا يمكن أن يحلف به أحد وهو كاذب فأنساه حلف إبليس بالله العهد بالنهي عن الشجرة . وقول بعض أهل العلم : إن معنى قوله فغوى أي : فسد عليه عيشه بنزوله إلى الدنيا .

قالوا : والغي . الفساد ، خلاف الظاهر وإن حكاه النقاش واختاره القشيري واستحسنه القرطبي .

وكذلك قول من قال فغوى أي : بشم من كثرة الأكل . والبشم : التخمة ، فهو قول باطل . وقال فيه الزمخشري في الكشاف : وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا فيقول في فني وبقي ، فنا وبقا ، وهم بنو طيئ تفسير خبيث ، ا ه منه . وما أشار إليه الزمخشري من لغة طيئ معروف . فهم يقولون للجارية : جاراة ، وللناصية ناصاة ، ويقولون في بقي بقى كرمى . ومن هذه اللغة قول الشاعر :



لعمرك لا أخشى التصعلك ما بقى على الأرض قيسي يسوق الأباعرا



وهذه اللغة التي ذكرها الزمخشري لا حاجة لها في التفسير الباطل المذكور ، لأن العرب تقول : غوى الفصيل كرضي وكرمى : إذا بشم من اللبن .

وقوله تعالى في هذه الآية : وعصى آدم يدل على أن معنى " غوى " ضل عن طريق الصواب كما ذكرنا . وقد قدمنا أن هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن هي حجة من قال بأن الأنبياء غير معصومين من الصغائر . وعصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مبحث أصولي لعلماء الأصول فيه كلام كثير واختلاف معروف ، وسنذكر هنا طرفا من كلام أهل الأصول في ذلك . قال ابن الحاجب في مختصره في الأصول :
مسألة

الأكثر على أنه لا يمتنع عقلا على الأنبياء معصية . وخالف الروافض ، وخالف المعتزلة إلا في الصغائر . ومعتمدهم التقبيح العقلي . والإجماع على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام . لدلالة المعجزة على الصدق . وجوزه القاضي غلطا وقال : دلت على الصدق اعتقادا . وأما غيره من المعاصي فالإجماع على عصمتهم من الكبائر ، والصغائر الخسيسة . والأكثر على جواز غيرهما ا ه منه بلفظه .

وحاصل كلامه : عصمتهم من الكبائر ، ومن صغائر الخسة دون غيرها من الصغائر .

[ ص: 118 ] وقال العلامة العلوي الشنقيطي في ( نشر البنود شرح مراقي السعود ) في الكلام على قوله :



والأنبياء عصموا مما نهوا عنه ولم يكن لهم تفكه بجائز بل ذاك للتشريع
أو نية الزلفى من الرفيع


ما نصه : فقد أجمع أهل الملل ، والشرائع كلها على وجوب عصمتهم من تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه . كدعوى الرسالة ، وما يبلغونه عن الله تعالى للخلائق . وصدور الكذب عنهم فيما ذكر سهوا أو نسيانا منعه الأكثرون وما سوى الكذب في التبليغ . فإن كان كفرا فقد أجمعت الأمة على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها ، وإن كان غيره فالجمهور على عصمتهم من الكبائر عمدا . ومخالف الجمهور الحشوية .

واختلف أهل الحق : هل المانع لوقوع الكبائر منهم عمدا العقل أو السمع ؟ وأما المعتزلة فالعقل ، وإن كان سهوا فالمختار العصمة منها . وأما الصغائر عمدا أو سهوا فقد جوزها الجمهور عقلا . لكنها لا تقع منهم غير صغائر الخسة فلا يجوز وقوعها منهم لا عمدا ، ولا سهوا انتهى منه .

وحاصل كلامه : عصمتهم من الكذب فيما يبلغونه عن الله ومن الكفر ، والكبائر وصغائر الخسة . وأن الجمهور على جواز وقوع الصغائر الأخرى منهم عقلا . غير أن ذلك لم يقع فعلا . وقال أبو حيان في البحر في سورة " البقرة " وفي المنتخب للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ما ملخصه : منعت الأمة وقوع الكفر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، إلا الفضيلية من الخوارج قالوا : وقد وقع منهم ذنوب ، والذنب عندهم كفر . وأجاز الإمامية إظهار الكفر منهم على سبيل التقية . واجتمعت الأمة على عصمتهم من الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ ، فلا يجوز عمدا ، ولا سهوا . ومن الناس من جوز ذلك سهوا . وأجمعوا على امتناع خطئهم في الفتيا عمدا . واختلفوا في السهو . وأما أفعالهم فقالت الحشوية : يجوز وقوع الكبائر منهم على جهة العمد . وقال أكثر المعتزلة : بجواز الصغائر عمدا إلا في القول كالكذب . وقال الجبائي : يمتنعان عليهم إلا على جهة التأويل . وقيل : يمتنعان عليهم إلا على جهة السهو ، والخطأ ، وهم مأخوذون بذلك وإن كان موضوعا عن أمتهم . وقالت الرافضة يمتنع ذلك على كل جهة .

واختلف في وقت العصمة . فقالت الرافضة : من وقت مولدهم . وقال كثير من المعتزلة : من وقت النبوة . والمختار عندنا أنه لم يصدر عنهم ذنب حالة النبوة البتة لا الكبيرة ، ولا الصغيرة . لأنهم لو صدر عنهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة [ ص: 119 ] لعظيم شرفهم وذلك محال ، ولئلا يكونوا غير مقبولي الشهادة ، ولئلا يجب زجرهم وإيذاؤهم ، ولئلا يقتدى بهم في ذلك . ولئلا يكونوا مستحقين للعقاب ، ولئلا يفعلوا ضد ما أمروا به لأنهم مصطفون ، ولأن إبليس استثناهم في الإغواء . انتهى ما لخصناه من ( المنتخب ) ، والقول في الدلائل لهذه المذاهب . وفي إبطال ما ينبغي إبطاله منها مذكور في كتب أصول الدين . انتهى كلام أبي حيان .

وحاصل كلام الأصوليين في هذه المسألة : عصمتهم من الكفر وفي كل ما يتعلق بالتبليغ ، ومن الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة وتطفيف حبة ، وأن أكثر أهل الأصول على جواز وقوع الصغائر غير صغائر الخسة منهم . ولكن جماعة كثيرة من متأخري الأصوليين اختاروا أن ذلك وإن جاز عقلا لم يقع فعلا ، وقالوا : إنما جاء في الكتاب والسنة من ذلك أن ما فعلوه بتأويل أو نسيانا أو سهوا ، أو نحو ذلك .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا أنه الصواب في هذه المسألة أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يقع منهم ما يزري بمراتبهم العلية ، ومناصبهم السامية . ولا يستوجب خطأ منهم ، ولا نقصا فيهم صلوات الله وسلامه عليهم ، ولو فرضنا أنه وقع منهم بعض الذنوب لأنهم يتداركون ما وقع منهم بالتوبة ، والإخلاص ، وصدق الإنابة إلى الله حتى ينالوا بذلك أعلى درجاتهم فتكون بذلك درجاتهم أعلى من درجة من لم يرتكب شيئا من ذلك . ومما يوضح هذا قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 121 ] ، . فانظر أي أثر يبقى للعصيان والغي بعد توبة الله عليه ، واجتبائه أي : اصطفائه إياه ، وهدايته له ، ولا شك أن بعض الزلات ينال صاحبها بالتوبة منها درجة أعلى من درجته قبل ارتكاب تلك الزلة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى .

الاجتباء : الاصطفاء ، والاختيار . أي : ثم بعد ما صدر من آدم بمهلة اصطفاه ربه واختاره فتاب عليه وهداه إلى ما يرضيه . ولم يبين هنا السبب لذلك ، ولكنه بين في غير هذا الموضع أنه تلقى من ربه كلمات فكانت سبب توبة ربه عليه ، وذلك في قوله : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] ، أي : بسبب تلك الكلمات كما تدل عليه الفاء . وقد قدمنا في سورة " البقرة " : أن الكلمات المذكورة هي المذكورة في سورة " الأعراف " في قوله تعالى : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ 7 \ 23 ] ، [ ص: 120 ] وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
قوله تعالى : قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو

.

الظاهر أن ألف الاثنين في قوله اهبطا راجعة إلى آدم وحواء المذكورين في قوله فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما [ 20 \ 121 ] ، خلافا لمن زعم أنها راجعة إلى إبليس وآدم ، وأمره إياهما بالهبوط من الجنة المذكور في آية " طه " هذه جاء مبينا في غير هذا الموضع . كقوله في سورة " البقرة " : وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 2 \ 36 ] ، وقوله فيها أيضا : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] ، وقوله في " الأعراف " : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 7 \ 24 ] ، . وفي هذه الآيات سؤال معروف ، وهو أن يقال : كيف جيء بصيغة الجمع في قوله اهبطوا [ 2 \ 36 ، 7 24 ] ، في " البقرة " و " الأعراف " وبصيغة التثنية في " طه " في قوله : اهبطا مع أنه أتبع صيغة التثنية في " طه " بصيغة الجمع في قوله فإما يأتينكم مني هدى وأظهر الأجوبة عندي عن ذلك : أن التثنية باعتبار آدم وحواء فقط ، والجمع باعتبارهما مع ذريتهما . خلافا لمن زعم أن التثنية باعتبار آدم وإبليس ، والجمع باعتبار ذريتهما معهما ، وخلافا لمن زعم أن الجمع في قوله : اهبطوا مراد به آدم وحواء وإبليس ، والحية . والدليل على أن الحية ليست مرادة في ذلك هو أنها لا تدخل في قوله فإما يأتينكم مني هدى لأنها غير مكلفة .

واعلم أن المفسرين يذكرون قصة الحية ، وأنها كانت ذات قوائم أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله ، وأن إبليس دخل في فمها فأدخلته الجنة ، فوسوس لآدم وحواء بعد أن عرض نفسه على كثير من الدواب فلم يدخله إلا الحية . فأهبط هو إلى الأرض ولعنت هي وردت قوائمها في جوفها ، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم ، ولذلك أمروا بقتلها . وبهذه المناسبة ذكر القرطبي في تفسيره في سورة " البقرة " جملا من أحكام قتل الحيات . فذكر عن ساكنة بنت الجعد أنها روت عن سري بنت نبهان الغنوية أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمر بقتل الحيات صغيرها وكبيرها ، وأسودها وأبيضها ، ويرغب في ذلك . ثم ذكر عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود حديثا فيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه بقتل حية فسبقتهم إلى جحرها . فأمرهم أن يضرموا عليها [ ص: 121 ] نارا . وذكر عن علماء المالكية أنهم خصصوا بذلك النهي عن الإحراق بالنار ، وعن أن يعذب أحد بعذاب الله . ثم ذكر عن إبراهيم النخعي : أنه كره أن تحرق العقرب بالنار ، وقال : هو مثلة . وأجاب عن ذلك بأنه يحتمل أنه لم يبلغه الخبر المذكور . ثم ذكر حديث عبد الله بن مسعود الثابت في الصحيحين قال : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار ، وقد أنزلت عليه والمرسلات عرفا [ 77 ] ، فنحن نأخذها من فيه رطبة ، إذ خرجت علينا حية فقال " اقتلوها " ، فابتدرناها لنقتلها ، فسبقتنا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وقاها الله شركم كما وقاكم شرها " فلم يضرم نارا ، ولا احتال في قتلها ، وأجاب هو عن ذلك ، بأنه يحتمل أنه لم يجد نارا في ذلك الوقت ، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك ، مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحية . ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات من الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات ثم ذكر أن الأمر بقتل الحيات عام في جميع أنواعها إن كانت غير حيات البيوت ، ثم ذكر فيما خرجه أبو داود من حديث عبد الله بن مسعود : " اقتلوا الحيات كلهن ، فمن خاف ثأرهن فليس مني " ثم ذكر أن حيات البيوت لا تقتل حتى تؤذن ثلاثة أيام . لحديث : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام " ثم ذكر أن بعض العلماء خص ذلك بالمدينة دون غيرها لحديث : " إن بالمدينة جنا قد أسلموا " . قالوا : ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا . قاله ابن نافع ثم ذكر عن مالك النهي عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد . ثم قال : وهو الصحيح . لأن الله عز وجل قال : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن الآية [ 46 \ 29 ] . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن وفيه سألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة " وسيأتي بكماله في سورة " الجن " إن شاء الله تعالى . وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يخرج عليه وينذر ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى .

( ثم قال ) : روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة : أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته ، قال : فوجدته يصلي فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته ، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت ، فالتفت فإذا حية فوثبت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس فجلست ، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال : أترى هذا البيت ؟ فقلت نعم . قال : كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس ، قال : فخرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله ، فاستأذنه يوما [ ص: 122 ] فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خذ عليك سلاحك فإنني أخشى عليك قريظة " فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع ، فإذا امرأته بين البابين قائمة ، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة . فقالت له : اكفف عليك رمحك ، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني ، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش ، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به ، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه ، فما يدري أيهما كان أسرع موتا الحية أم الفتى . قال : فجئنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرنا ذلك له ، وقلنا : ادع الله يحييه لنا : فقال : " استغفروا لأخيكم ثم قال إن بالمدينة جنا قد أسلموا ، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان " . وفي طريق أخرى فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لهذه البيوت عوامر ، فإذا رأيتم شيئا منهم فحرجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر وقال لهم : اذهبوا فادفنوا صاحبكم " . ثم قال : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله الفتى كان مسلما ، وأن الجن قتلته به قصاصا . لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض ، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة إذ لم يكن عنده علم من ذلك ، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا ، فهذا قتل خطأ ، ولا قصاص فيه . فالأولى أن يقال : إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا الفتى بصاحبهم عدوا وانتقاما . وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه ، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده ، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ، ولا يرون أحدا :



قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عبادة ورميناه بسهمين
فلم نخط فؤاده


وإنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :

" إن بالمدينة جنا قد أسلموا " ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ، ويتسلط به على قتل الكافر منهم . وروي من وجوه : أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلت جانا . فأريت في المنام أن قائلا يقول لها : لقد قتلت مسلما . فقالت : لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال : ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك . فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله . وفي رواية : ما دخل عليك إلا وأنت مستترة . فتصدقت وأعتقت رقابا . وقال الربيع بن بدر : الجان من الحيات التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتلها هي التي تمشي ، ولا تلتوي . وعن علقمة نحوه . ثم ذكر صفة إنذار حيات البيوت فقال : قال مالك : أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام . وقاله عيسى بن دينار : [ ص: 123 ] وإن ظهر في اليوم مرارا ، ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرات في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام . وقيل : يكفي ثلاث مرار . لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فليؤذنه ثلاثا " ، وقوله " حرجوا عليه ثلاثا " ولأن ثلاثا للعدد المؤنث ، فظهر أن المراد ثلاث مرات . وقول مالك أولى لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاثة أيام " وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات ، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث ، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ ، فإنها تغلب فيها التأنيث . قال مالك : ويكفي في الإنذار أن يقول : أحرج عليك بالله ، واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ، ولا تؤذونا . وذكر ثابت البناني ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال : إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا : أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام ، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام ، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه . ثم قال : وقد حكى ابن حبيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يقال : " أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان عليه السلام ألا تؤذونا ، ولا تظهرن علينا " انتهى كلام القرطبي ملخصا قريبا من لفظه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة أن ما لم يكن من الحيات في البيوت فإنه يقتل كالحيات التي توجد في الفيافي ، وأن حيات البيوت لا تقتل إلا بعد الإنذار . وأظهر القولين عندي عموم الإنذار في المدينة ، وغيرها ، وأنه لا بد من الإنذار ثلاثة أيام ، ولا تكفي ثلاث مرات في يوم أو يومين ، كما تقدمت أدلة ذلك في كلام القرطبي . وأن الأبتر وذا الطفيتين يقتلان في البيوت بلا إنذار . لما ثبت في بعض روايات مسلم بلفظ : فقال أبو لبابة : إنه قد نهي عنهن ( يريد عوامر البيوت ) وأمر بقتل الأبتر وذي الطفيتين . وفي رواية في صحيح البخاري عن أبي لبابة : " لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين ، فإنه يسقط الولد ، ويذهب البصر فاقتلوه " .

والدليل على قتل الحيات وإنذار حيات البيوت ثابت في الصحيحين ، وغيرهما .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:38 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (291)
سُورَةُ طه
صـ 124 إلى صـ 130






قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا هشام بن يوسف ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب على المنبر يقول : " اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين ، والأبتر . فإنهما يطمسان البصر ، ويستسقطان الحبل " قال عبد الله : فبينا أنا أطارد حية لأقتلها فناداني أبو لبابة : لا تقتلها . فقلت إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بقتل الحيات ؟ فقال : إنه نهى بعد ذلك عن ذوات البيوت ، وهي العوامر . وقال عبد الرزاق عن معمر : فرآني أبو لبابة أو زيد بن [ ص: 124 ] الخطاب ، وتابعه يونس ، وابن عيينة وإسحاق الكلبي ، والزبيدي ، وقال صالح ، وابن أبي حفصة ، وابن مجمع ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر : فرآني أبو لبابة وزيد بن الخطاب ا ه من صحيح البخاري رحمه الله تعالى . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : وحدثني عمرو بن محمد الناقد ، حدثنا سفيان بن أبي عيينة عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " اقتلوا الحيات وذا الطفيتين ، والأبتر ، فإنهما يستسقطان الحبل ويلتمسان البصر " قال : فكان ابن عمر يقتل كل حية وجدها . فأبصره أبو لبابة بن عبد المنذر ، أو زيد بن الخطاب وهو يطارد حية فقال : إنه قد نهى عن ذوات البيوت . ثم ذكره من طرق متعددة . وفي كلها التصريح بالنهي عن قتل جنان البيوت يعني إلا بعد الإنذار ثلاثا . وعن مالك : يقتل ما وجد منها بالمساجد . وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث " وذا الطفيتين " هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء بعدها ياء . وأصل الطفية خوصة المقل وهو شجر الدوم . وقيل : المقل ثمر شجر الدوم . وجمعها طفى بضم ففتح على القياس . والمراد بالطفيتين في الحديث : خطان أبيضان . وقيل : أسودان على ظهر الحية المذكورة ، يشبهان في صورتها خوص المقل المذكور . والأبتر : قصير الذنب من الحيات : وقال النضر بن شميل : هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب ، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها . وقال الداودي : هو الأفعى التي تكون قدر شبر أو أكثر قليلا وقوله في هذا الحديث : " يستسقطان الحبل " معناه أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما وخافت أسقطت جنينها غالبا . وقد ذكر مسلم عن الزهري ما يدل على أن إسقاط الحبل المذكور خاصية فيهما من سمهما . والأظهر في معنى " يلتمسان البصر " أن الله جعل فيهما من شدة سمهما خاصية يخطفان بها البصر ، ويطمسانه بها بمجرد نظرهما إليه . والقول : بأن معناه أنهما يقصدان البصر باللسع ، والنهش ضعيف . والعلم عند الله تعالى .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق عليه : " اقتلوا الحيات " يدل على وجوب قتلها . لما قدمنا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تدل على الوجوب .

والجمهور على أن الأمر بذلك القتل المذكور للندب ، والاستحباب ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بعضكم لبعض عدو [ 20 \ 123 ] ، على ما ذكرنا أنه الأظهر . فالمعنى : أن بعض بني آدم عدو لبعضهم . كما قال تعالى : أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض [ 6 \ 65 ] ، ونحوها من الآيات . وعلى أن المراد [ ص: 125 ] بقوله اهبطا آدم وإبليس ، فالمعنى أن إبليس وذريته أعداء لآدم وذريته . كما قال تعالى : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو [ 18 \ 50 ] ، ونحوها من الآيات .

والظاهر أن ما ذكره القرطبي : من إحراق الحية بالنار لم يثبت ، وأنه لا ينبغي أن يعذب بعذاب الله ، فلا ينبغي أن تقتل بالنار ، والله أعلم .

فإن قيل : الحديث المذكور يدل على أن ذا الطفيتين غير الأبتر لعطفه عليه في الحديث ، ورواية البخاري التي قدمنا عن أبي لبابة : " لا تقتلوا الجنان إلا كل أبتر ذي طفيتين " يقتضي أنهما واحد ؟ فالجواب : أن ابن حجر في الفتح أجاب عن هذا . بأن الرواية المذكورة ظاهرها اتحادهما ، ولكنها لا تنفي المغايرة ا ه . والظاهر أن مراده بأنها لا تنفي المغايرة : أن الأبتر وإن كان ذا طفيتين فلا ينافي وجود ذي طفيتين غير الأبتر . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى

.

الظاهر أن الخطاب لبني آدم . أي : فإن يأتكم مني هدى أي : رسول أرسله إليكم ، وكتاب يأتي به رسول ، فمن اتبع منكم هداي أي : من آمن برسلي وصدق بكتبي ، وامتثل ما أمرت به ، واجتنب ما نهيت عنه على ألسنة رسلي . فإنه لا يضل في الدنيا ، أي : لا يزيغ عن طريق الحق لاستمساكه بالعروة الوثقى ، ولا يشقى في الآخرة لأنه كان في الدنيا عاملا بما يستوجب السعادة من طاعة الله تعالى وطاعة رسله . وهذا المعنى المذكور هنا ذكر في غير هذا الموضع . كقوله في " البقرة " : فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ الآية 38 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وفي هذه الآيات دليل على أن الله بعد أن أخرج أبوينا من الجنة لا يرد إليهما أحدا منا إلا بعد الابتلاء ، والامتحان بالتكاليف من الأوامر ، والنواهي ، ثم يطيع الله فيما ابتلاه به . كما تقدمت الإشارة إليه في سورة " البقرة " .
قوله تعالى : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا

.

قد قدمنا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها الآية [ 13 \ 57 ] الآيات الموضحة نتائج الإعراض عن ذكر الله تعالى الوخيمة . فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقد قدمنا هناك أن منها المعيشة الضنك . واعلم [ ص: 126 ] أن الضنك في اللغة : الضيق . ومنه قول عنترة :



إن يلحقوا أكرر وإن يستلحموا أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل



وقوله أيضا :



إن المنية لو تمثل مثلت مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل



وأصل الضنك مصدر وصف به ، فيستوي فيه المذكر ، والمؤنث ، والمفرد ، والجمع . وبه تعلم أن معنى قوله معيشة ضنكا أي : عيشا ضيقا ، والعياذ بالله تعالى .

واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة ، لا يكذب بعضها بعضا . وقد قدمنا مرارا : أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة . ومن الأقوال في ذلك : أن معنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم ، والقناعة ، والتوكل على الله ، والرضا بقسمته فصاحبه ينفق مما رزقه الله بسماح وسهولة ، فيعيش عيشا هنيئا . ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] وقوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى الآية [ 11 \ 3 ] كما تقدم إيضاح ذلك كله .

وأما المعرض عن الدين فإنه يستولي عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة . ومن الكفرة من ضرب الله عليه الذلة ، والمسكنة بسبب كفره ، كما قال تعالى : وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله الآيات [ 2 \ 61 ] . وذلك من العيش الضنك بسبب الإعراض عن ذكر الله . وبين في مواضع أخر أنهم لو تركوا الإعراض عن ذكر الله فأطاعوه تعالى أن عيشهم يصير واسعا رغدا لا ضنكا ، كقوله تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم الآية [ 5 \ 66 ] وقوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الآية [ 7 \ 96 ] وكقوله تعالى عن نوح : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى عن هود : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم الآية [ 11 \ 52 ] [ ص: 127 ] وقوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه الآية [ 72 \ 16 - 17 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وعن الحسن أن المعيشة الضنك : هي طعام الضريع ، والزقوم يوم القيامة وذلك مذكور في آيات من كتاب الله تعالى ، كقوله : ليس لهم طعام إلا من ضريع الآية [ 88 \ 6 ] وقوله : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم الآية [ 44 \ 43 - 44 ] ونحو ذلك من الآيات . وعن عكرمة ، والضحاك ومالك بن دينار : المعيشة الضنك : الكسب الحرام ، والعمل السيئ . وعن أبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة : المعيشة الضنك : عذاب القبر وضغطته . وقد أشار تعالى إلى فتنة القبر وعذابه في قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء [ 14 \ 27 ] ، .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة : أن المعيشة الضنك في الآية : عذاب القبر . وبعض طرقه بإسناد جيد كما قاله ابن كثير في تفسير هذه الآية . ولا ينافي ذلك شمول المعيشة الضنك لمعيشته في الدنيا . وطعام الضريع ، والزقوم . فتكون معيشته ضنكا في الدنيا ، والبرزخ ، والآخرة ، والعياذ بالله تعالى .
قوله تعالى : ونحشره يوم القيامة أعمى .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أعرض عن ذكره يحشره يوم القيامة في حال كونه أعمى . قال مجاهد ، وأبو صالح ، والسدي : أعمى أي : لا حجة له . وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلا جهنم . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وقد ذكرنا أمثلة متعددة لذلك . فإذا علمت ذلك فاعلم أن في هذه الآية الكريمة قرينة دالة على خلاف قول مجاهد وأبي صالح ، وعكرمة . وأن المراد بقوله أعمى أي : أعمى البصر لا يرى شيئا . والقرينة المذكورة هي قوله تعالى : قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا [ 20 \ 125 ] ، فصرح بأن عماه هو العمى المقابل للبصر وهو بصر العين ، لأن الكافر كان في الدنيا أعمى القلب كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله ، وقد زاد جل وعلا في سورة " بني إسرائيل " أنه مع ذلك العمى يحشر أصم أبكم أيضا ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 128 ] ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] .
تنبيه

في آية " طه " هذه وآية " الإسراء " المذكورتين إشكال معروف . وهو أن يقال : إنهما قد دلتا على أن الكافر يحشر يوم القيامة أعمى ، وزادت آية " الإسراء " أنه يحشر أبكم أصم أيضا ، مع أنه دلت آيات من كتاب الله على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويسمعون ويتكلمون . كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها الآية [ 18 \ 53 ] وقوله تعالى : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا الآية [ 32 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد ذكرنا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) الجواب عن هذا الإشكال من ثلاثة أوجه :

الوجه الأول : واستظهره أبو حيان أن المراد بما ذكر من العمى ، والصمم ، والبكم حقيقته . ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها ، وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع . الوجه الثاني : أنهم لا يرون شيئا يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ، ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ، ولا ينطقون بالحق ، ولا يسمعونه . وأخرج ذلك ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسي ، وغيره . وعلى هذا القول فقد نزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به . كما أوضحنا في غير هذا الموضع . ومن المعلوم أن العرب تطلق لا شيء على ما لا نفع فيه . ألا ترى أن الله يقول في المنافقين : صم بكم عمي الآية [ 2 \ 18 ] مع أنه يقول فيهم : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، ويقول فيهم : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] ، أي : لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم . ويقول فيهم : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] ، وما ذلك إلا لأن الكلام ونحوه الذي لا فائدة فيه كلا شيء : فيصدق على صاحبه أنه أعمى وأصم وأبكم ، ومن ذلك قول قعنب بن أم صاحب :



صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا


[ ص: 129 ] وقول الآخر :



أصم عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد

وقول الآخر :



قل ما بدا لك من زور ومن كذب حلمي أصم وأذني غير صماء

ونظائر هذا كثيرة في كلام العرب من إطلاق الصمم على السماع الذي لا فائدة فيه . وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه ، والرؤية التي لا فائدة فيها .

الوجه الثالث : أن الله إذا قال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] وقع بهم ذلك العمى ، والصمم ، والبكم من شدة الكرب ، واليأس من الفرج ، قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] ، وعلى هذا القول تكون الأحوال الخمسة مقدرة ، أعني قوله في " طه " : ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 125 ] ، وقوله فيها : لم حشرتني أعمى وقوله في " الإسراء : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما [ 17 \ 97 ] ، وأظهرها عندي الأول ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] من النسيان بمعنى الترك عمدا كما قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله : فنسي ولم نجد له عزما . [ 20 \ 115 ] .
قوله تعالى : وكذلك نجزي من أسرف .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يجازي المسرفين ذلك الجزاء المذكور . وقد دل مسلك الإيماء والتنبيه على أن ذلك الجزاء لعلة إسرافهم على أنفسهم في الطغيان والمعاصي ، وبين في غير هذا الموضع أن جزاء الإسراف النار ، وذلك في قوله تعالى : وأن المسرفين هم أصحاب النار [ 40 \ 43 ] ، وبين في موضع آخر أن محل ذلك إذا لم ينيبوا إلى الله ويتوبوا إليه ، وذلك في قوله : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إلى قوله : وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب الآية [ 39 \ 52 - 54 ] .
قوله تعالى : ولعذاب الآخرة أشد وأبقى .

[ ص: 130 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن عذاب الآخرة أشد وأبقى . أي : أشد ألما وأدوم من عذاب الدنيا ، ومن المعيشة الضنك التي هي عذاب القبر . وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع . كقوله تعالى : ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق [ 13 ] ، وقوله تعالى ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون [ 41 \ 16 ] ، وقوله تعالى : ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون [ 68 \ 33 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفلم يهد لهم . تقدم بعض الآيات الموضحة له في سورة " مريم " وسيأتي له بعد هذا إن شاء الله زيادة إيضاح .
قوله تعالى : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى .

أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا - على عادتهم في التعنت - آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى ، وكناقة صالح ، واقتراحهم لذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحض في طلب ذلك في قوله : لولا يأتينا [ 20 \ 138 ] ، أي : هلا يأتينا محمد بآية : كناقة صالح ، وعصا موسى ، أي : نطلب ذلك منه بحض وحث . فأجابهم الله بقوله : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى [ 20 \ 133 ] وهي هذا القرآن العظيم ؛ لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز . وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه بينة ما في الصحف الأولى ؛ لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من الله تعالى ، فهو بينة واضحة على صدقها وصحتها : كما قال تعالى : وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه [ 5 \ 48 ] وقال تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ 27 ] وقال تعالى : قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين [ 3 \ 93 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه - جل وعلا - في سورة " العنكبوت " في قوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:39 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (292)
سُورَةُ طه
صـ 131 إلى صـ 137




- 51 ] فقوله في " العنكبوت " : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم [ 29 \ 51 ] هو معنى قوله في " طه " : [ ص: 131 ] أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى كما أوضحنا . والعلم عند الله تعالى . ويزيد ذلك إيضاحا الحديث المتفق عليه : " ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله ، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " وفي الآية أقوال أخر غير ما ذكرنا .
قوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى .

قد قدمنا في سورة " النساء " أن آية " طه " هذه تشير إلى معناها آية " القصص " التي هي قوله تعالى : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] ، وأن تلك الحجة التي يحتجون بها لو لم يأتهم نذير هي المذكورة في قوله تعالى : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
قوله تعالى : قل كل متربص فتربصوا .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أن يقول للكفار الذين يقترحون عليه الآيات عنادا وتعنتا : كل منا ومنكم متربص ، أي : منتظر ما يحل بالآخر من الدوائر ، كالموت ، والغلبة . وقد أوضح في غير هذا الموضع أن ما ينتظره النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والمسلمون كله خير ، بعكس ما ينتظره ويتربص الكفار . كقوله تعالى : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون [ 9 \ 52 ] ، وقوله : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء الآية [ 9 \ 98 ] إلى غير ذلك من الآيات . والتربص : الانتظار .
قوله تعالى : فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار سيعلمون في ثاني حال من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى . أي : وفق لطريق الصواب ، والديمومة على ذلك . وأمر نبيه أن يقول ذلك للكفار . والمعنى : سيتضح لكم أنا مهتدون ، وأنا على صراط مستقيم ، وأنكم على ضلال وباطل . وهذا يظهر لهم يوم القيامة إذا عاينوا الحقيقة ، ويظهر لهم في الدنيا لما يرونه من نصر الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 132 ] وهذا المعنى الذي ذكره هنا بينه في غير هذا الموضع . كقوله : وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 25 \ 42 ] ، وقوله : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر [ 54 \ 26 ] وقوله : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] إلى غير ذلك من الآيات . والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح . والسوي : المستقيم ، وهو الذي لا اعوجاج فيه . ومنه قول جرير :

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم و " من " في قوله من أصحاب قال بعض العلماء : هي موصولة مفعول به لـ " تعلمون " . وقال بعضهم : هي استفهامية معلقة لفعل العلم ، كما قدمنا إيضاحه في " مريم " ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 133 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " النَّحْلِ " فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .
قوله تعالى : وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار أخفوا النجوى فيما بينهم ، قائلين : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما هو إلا بشر مثلهم ، فكيف يكون رسولا إليهم ؟ والنجوى : الإسرار بالكلام وإخفاؤه عن الناس . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من دعواهم أن بشرا مثلهم لا يمكن أن يكون رسولا ، وتكذيب الله لهم في ذلك جاء في آيات كثيرة ، وقد قدمنا كثيرا من ذلك ، كقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] وقوله : فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] وقوله : أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 24 ] وقوله : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] وقوله تعالى : مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق الآية [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاح ذلك .

وقد رد الله عليهم هذه الدعوى الكاذبة التي هي منع إرسال البشر ، كقوله هنا في هذه السورة الكريمة : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 21 \ 7 ] ، وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية الآية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام [ ص: 134 ] ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله هنا : وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 21 \ 8 ] إلى غير ذلك من الآيات . وجملة هل هذا إلا بشر مثلكم قيل : بدل من " النجوى " . أي : أسروا النجوى التي هي هذا الحديث الخفي الذي هو قولهم : هل هذا إلا بشر مثلكم . وصدر به الزمخشري ، وقيل : مفعول به للنجوى . لأنها بمعنى القول الخفي . أي : قالوا في خفية : هل هذا إلا بشر مثلكم . وقيل : معمول قول محذوف ، أي : قالوا هل هذا إلا بشر مثلكم ، وهو أظهرها ؛ لاطراد حذف القول مع بقاء مقوله . وفي قوله : الذين ظلموا أوجه كثيرة من الإعراب معروفة ، وأظهرها عندي أنها بدل من الواو في قوله : وأسروا بدل بعض من كل ، وقد تقرر في الأصول : أن بدل البعض من الكل من المخصصات المتصلة ، كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، . فقوله من بدل من " الناس " : بدل بعض من كل ، وهي مخصصة لوجوب الحج بأنه لا يجب إلا على من استطاع إليه سبيلا . كما قدمنا هذا في سورة " المائدة " .
قوله تعالى : أفتأتون السحر وأنتم تبصرون .

إعراب هذه الجملة جار مجرى إعراب الجملة التي قبلها ، التي هي هل هذا إلا بشر مثلكم والمعنى أنهم زعموا أن ما جاء به نبينا - صلى الله عليه وسلم - سحر ، وبناء على ذلك الزعم الباطل أنكروا على أنفسهم إتيان السحر وهم يبصرون . يعنون بذلك تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - أي : لا يمكن أن نصدقك ونتبعك ، ونحن نبصر أن ما جئت به سحر . وقد بين - جل وعلا - في غير هذا الموضع أنهم ادعوا أن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - سحر ، كقوله عن بعضهم : إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] ، وقوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [ 51 \ 52 ] . وقد رد الله عليهم دعواهم أن القرآن سحر بقوله هنا : قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم [ 21 \ 4 ] يعني أن الذي يعلم القول في السماء والأرض الذي هو السميع العليم ، المحيط علمه بكل شيء ، هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم ، وكون من أنزله هو العالم بكل شيء يدل على كمال صدقه في الأخبار وعدله في الأحكام ، وسلامته من جميع العيوب ، والنقائص ، وأنه ليس بسحر . وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ؛ كقوله تعالى : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية [ 25 \ 6 ] وقوله تعالى : [ ص: 135 ] لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا [ 4 \ 166 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقرأ هذا الحرف حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم قال ربي يعلم القول بألف بعد القاف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي ، وقرأه الباقون قل بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر .
قوله تعالى : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر .

الظاهر أن الإضراب في قوله هنا : بل قالوا أضغاث أحلام [ 21 \ 5 ] إلخ ، إضراب انتقالي لا إبطالي ، لأنهم قالوا ذلك كله ، وقال بعض العلماء :

كل هذه الأقوال المختلفة التي حكاها الله عنهم صدرت من طائفة متفقة لا يثبتون على قول ، بل تارة يقولون هو ساحر ، وتارة شاعر ، وهكذا ؛ لأن المبطل لا يثبت على قول واحد . وقال بعض أهل العلم : كل واحد من تلك الأقوال قالته طائفة ، كما قدمنا الإشارة إلى هذا في سورة " الحجر " في الكلام على قوله تعالى : الذين جعلوا القرآن عضين [ 15 \ 91 ] ، وقد رد الله عليهم هذه الدعاوى الباطلة في آيات من كتابه ، كرده دعواهم أنه شاعر أو كاهن في قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين [ 69 \ 41 - 47 ] ، وقوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 ] ، وقوله في رد دعواهم أنه افتراه : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 10 \ 37 - 38 ] وقوله تعالى : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين [ 11 \ 13 ] ، وقوله تعالى : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 12 \ 111 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وكقوله في رد دعواهم أنه كاهن أو مجنون : فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون [ 52 \ 29 ] ، وقوله تعالى : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] وقوله تعالى : قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ ص: 136 ] [ 34 \ 46 ] وقوله : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة إبطال كل ما ادعوه في النبي - صلى الله عليه وسلم - والقرآن .

وقوله أضغاث أحلام [ 21 \ 5 ] أي : أخلاط كالأحلام المختلفة التي يراها النائم ولا حقيقة لها ، كما قال الشاعر :



أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم
وعن اليزيدي : الأضغاث ما لم يكن له تأويل .
قوله تعالى : فليأتنا بآية كما أرسل الأولون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار اقترحوا على نبينا أن يأتيهم بآية كآيات الرسل قبله ؛ نحو ناقة صالح ، وعصى موسى ، وريح سليمان ، وإحياء عيسى للأموات ، وإبرائه الأكمه والأبرص ، ونحو ذلك . وإيضاح وجه التشبيه في قوله : كما أرسل الأولون هو أنه في معنى : كما أتى الأولون بالآيات ؛ لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات . فقولك أرسل محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزة . وقد بين تعالى أن الآيات التي اقترحوها لو جاءتهم ما آمنوا ، وأنها لو جاءتهم وتمادوا على كفرهم أهلكهم الله بعذاب مستأصل ، كما أهلك قوم صالح لما عقروا الناقة . كقوله تعالى : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها الآية [ 17 \ 59 ] وكقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] . وأشار إلى ذلك هنا في قوله : ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون [ 21 \ 6 ] يعني أن الأمم الذين اقترحوا الآيات من قبلهم وجاءتهم رسلهم بما اقترحوا لم يؤمنوا ، بل تمادوا فأهلكهم الله ، وأنتم أشد منهم عتوا وعنادا . فلو جاءكم ما اقترحتم ما آمنتم ، فهلكتم كما هلكوا . وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية [ 10 \ 96 - 97 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وبين أنهم جاءتهم آية هي أعظم الآيات ، فيستحق من لم يكتف بها التقريع والتوبيخ ، وذلك في قوله : وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن الآية [ 29

- 51 ] . وقد ذكرنا أن هذا المعنى يشير إليه قوله : وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في [ ص: 137 ] الصحف الأولى [ 20 \ 133 ] وقوله : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا إلى قوله : وما كانوا خالدين [ 21 \ 8 ] ، قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين .

بين - جل وعلا - في هذه الآيات أنه أرسل الرسل إلى الأمم فكذبوهم ، وأنه وعد الرسل بأن لهم النصر والعاقبة الحسنة ، وأنه صدق رسله ذلك الوعد فأنجاهم . وأنجى معهم ما شاء أن ينجيه . والمراد به من آمن بهم من أممهم ، وأهلك المسرفين وهم الكفار المكذبون الرسل ، وقد أوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى : حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين [ 12 \ 110 ] وقوله : فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام [ 14 \ 47 ] وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] وقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية [ 11 \ 58 ] وقوله تعالى : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا الآية [ 11 \ 66 ] وقوله : ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا [ 11 \ 94 ] إلى غير ذلك من الآيات . والظاهر أن " صدق " تتعدى بنفسها وبالحرف ، تقول : صدقته الوعد ، وصدقته في الوعد ، كقوله هنا : ثم صدقناهم الوعد [ 21 \ 9 ] وقوله : ولقد صدقكم الله وعده [ 3 \ 152 ] فقول الزمخشري : " صدقناهم الوعد كقوله : واختار موسى قومه سبعين رجلا " - لا حاجة إليه ، والله أعلم . والإسراف : مجاوزة الحد في المعاصي كالكفر ، ولذلك يكثر في القرآن إطلاق المسرفين على الكفار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:40 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (293)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ

صـ 138 إلى صـ 144



قوله تعالى : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين .

" وكم " هنا للإخبار بعدد كثير ، وهي في محل نصب ؛ لأنها مفعول " قصمنا " أي : قصمنا كثيرا من القرى التي كانت ظالمة ، وأنشأنا بعدها قوما آخرين . وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبينا في مواضع كثيرة من كتاب الله . كقوله تعالى : وكم أهلكنا من [ ص: 138 ] القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا [ 17 \ 17 ] وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها الآية [ 22 \ 45 ] وقوله : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا [ 65 \ 8 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : وكم قصمنا أصل القصم : أفظع الكسر ؛ لأنه الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء ، بخلاف الفصم - بالفاء - فهو كسر لا يبين تلاؤم الأجزاء بالكلية . والمراد بالقصم في الآية : الإهلاك الشديد .
قوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين .

قد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الحجر " فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وكذلك قوله : بل نقذف بالحق على الباطل الآية [ 21 \ 18 ] . قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " بني إسرائيل " ، وكذلك الآيات التي بعد هذا ، قد قدمنا في مواضع متعددة ما يبينها من كتاب الله .

قوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار - لعنهم الله - قالوا عليه : إنه اتخذ ولدا . وقد بينا ذلك فيما مضى بيانا شافيا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك . سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا . وبين هنا بطلان ما ادعوه على ربهم من اتخاذ الأولاد - وهم في زعمهم الملائكة - بحرف الإضراب الإبطالي الذي هو " بل " مبينا أنهم عباده المكرمون ، والعبد لا يمكن أن يكون ولدا لسيده . ثم أثنى على ملائكته بأنهم عباد مكرمون ، لا يسبقون ربهم بالقول ، أي : لا يقولون إلا ما أمرهم أن يقولوه لشدة طاعتهم له وهم بأمره يعملون . وما أشار إليه في هذه الآية الكريمة من أن الملائكة عبيده وملكه ، والعبد لا يمكن أن يكون ولدا لسيده ، أشار له في غير هذا الموضع ؛ كقوله في " البقرة " : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون [ 2 \ 116 ] وقوله في " النساء " : إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [ 4 \ 171 ] أي : والمالك لكل شيء لا يمكن أن يكون له ولد ؛ لأن الملك ينافي الولدية ، ولا يمكن أن يوجد شيء سواه إلا [ ص: 139 ] وهو ملك له - جل وعلا - .

وما ذكره في هذه الآية الكريمة من الثناء الحسن على ملائكته - عليهم صلوات الله وسلامه - بينه في غير هذا الموضع . كقوله تعالى . عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] وقوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] وقوله تعالى : وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ 21 \ 19 - 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .

مسألة

أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن أن الأب إذا ملك ابنه عتق عليه بالملك . ووجه ذلك واضح ؛ لأن الكفار زعموا أن الملائكة بنات الله . فنفى الله تلك الدعوى بأنهم عباده وملكه ، فدل ذلك على منافاة الملك للولدية ، وأنهما لا يصح اجتماعهما ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين .

الضمير في قوله : منهم عائد إلى الملائكة المذكورين في قوله : بل عباد مكرمون [ 21 \ 26 ] والمعنى أنهم مع كرامتهم على الله لو ادعى أحد منهم أن له الحق في صرف شيء من حقوق الله الخاصة به إليه لكان مشركا ، وكان جزاؤه جهنم . ومعلوم أن التعليق يصح فيما لا يمكن ولا يقع ، فقوله : قل إن كان للرحمن ولد الآية [ 43 \ 81 ] وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] والمراد بذلك تعظيم أمر الشرك . وهذا الفرض والتقدير الذي ذكره - جل وعلا - هنا في شأن الملائكة ذكره أيضا في شأن الرسل ، على الجميع صلوات الله وسلامه ، قال تعالى : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] ولما ذكر - جل وعلا - من ذكر من الأنبياء في سورة " الأنعام " في قوله : ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] إلى آخر من ذكر منهم ، قال بعد ذلك : ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ 6 \ 88 ] .

[ ص: 140 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم الآية [ 21 \ 29 ] دليل قاطع على أن حقوق الله الخالصة له من جميع أنواع العبادة لا يجوز أن يصرف شيء منها لأحد ولو ملكا مقربا ، أو نبيا مرسلا . ومما يوضح ذلك قوله تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 79 - 80 ] وقوله تعالى مخاطبا لسيد الخلق - صلوات الله وسلامه عليه - : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ 3 \ 64 ] .
قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا .

قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير " أولم ير " بواو بعد الهمزة ، وقرأه ابن كثير " ألم ير الذين كفروا " بدون واو ، وكذلك هو في مصحف مكة . والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم ، حيث يشاهدون غرائب صنع الله وعجائبه ، ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عبده ، ولا يضر من عصاه ، ولا يقدر على شيء .

وقوله : كانتا التثنية باعتبار النوعين اللذين هما نوع السماء ونوع الأرض ، كقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا [ 35 \ 41 ] ونظيره قول عمر بن شيبة :



ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا

والرتق مصدر رتقه رتقا : إذا سده . ومنه الرتقاء ، وهي التي انسد فرجها ، ولكن المصدر وصف به هنا ، ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين . والفتق : الفصل بين الشيئين المتصلين ، فهو ضد الرتق ، ومنه قول الشاعر :



يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها
ورتق الفتوق وفتق الرتوق ونقض الأمور وإبرامها

واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالرتق والفتق في هذه الآية على خمسة أقوال ، بعضها في غاية السقوط ، وواحد منها تدل له قرائن من القرآن العظيم :

[ ص: 141 ] الأول أن معنى كانتا رتقا أي : كانت السماوات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض ، ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض ، فرفع السماء إلى مكانها ، وأقر الأرض في مكانها ، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى .

القول الثاني : أن السماوات السبع كانت رتقا ، أي : متلاصقة بعضها ببعض ، ففتقها الله وجعلها سبع سماوات ، كل اثنتين منها بينهما فصل ، والأرضون كذلك كانت رتقا ففتقها ، وجعلها سبعا بعضها منفصل عن بعض .

القول الثالث : أن معنى كانتا رتقا أن السماء كانت لا ينزل منها مطر ، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات .

القول الرابع : كانتا رتقا أي : في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ، ففتقهما الله بالنور . وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول والثاني .

الخامس : - وهو أبعدها لظهور سقوطه - أن الرتق يراد به العدم ، والفتق يراد به الإيجاد ، أي : كانتا عدما فأوجدناهما . وهذا القول كما ترى .

فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية ، فاعلم أن القول الثالث منها - وهو كونهما كانتا رتقا بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر ، والأرض لا تنبت شيئا ، ففتق الله السماء بالمطر ، والأرض بالنبات - قد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى :

الأولى : أن قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن [ 21 ] يدل على أنهم رأوا ذلك ؛ لأن الأظهر في " رأى " أنها بصرية ، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر ، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها ، فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر وإنباته به أنواع النبات .

القرينة الثانية : أنه أتبع ذلك بقوله : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون [ 21 ] . والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله ، أي : وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء ، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض - كل شيء حي .

القرينة الثالثة : أن هذا المعنى جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ؛ كقوله تعالى : والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع [ 86 \ 12 ] لأن المراد بالرجع نزول المطر منها تارة بعد أخرى ، والمراد بالصدع انشقاق الأرض عن النبات ، وكقوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا الآية [ ص: 142 ] [ 80 \ 24 - 26 ] .

واختار هذا القول ابن جرير ، وابن عطية ، وغيرهما ؛ للقرائن التي ذكرنا . ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر ، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى ، وعظم منته على خلقه ، وقدرته على البعث . والذين قالوا : إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ، ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض - قالوا في قوله : أولم ير أنها من " رأى " العلمية لا البصرية ، وقالوا : وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن ، وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه . والعلم عند الله تعالى .

وأقرب الأقوال في ذلك هو ما ذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وقد قال فيه الفخر الرازي في تفسيره : ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ، ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا .

فإن قيل : هذا الوجه مرجوح ؛ لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا .

قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء ، كما يقال : ثوب أخلاق ، وبرمة أعشار . ا هـ منه .
قوله تعالى : وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون .

الظاهر أن " جعل " هنا بمعنى خلق ؛ لأنها متعدية لمفعول واحد . ويدل لذلك قوله تعالى في سورة " النور " : والله خلق كل دابة من ماء [ 24 \ 45 ] .

واختلف العلماء في معنى خلق كل شيء من الماء . قال بعض العلماء : الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة ؛ لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف ، وعلى هذا فهو من العام المخصوص .

وقال بعض العلماء : هو الماء المعروف ؛ لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء ، وإما غير مباشرة ؛ لأن النطف من الأغذية ، والأغذية كلها ناشئة عن الماء ، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر ، وكذلك هو في اللحوم ، والألبان ، والأسمان ونحوها ؛ لأنه كله ناشئ بسبب الماء .

وقال بعض أهل العلم : معنى خلقه كل حيوان من ماء أنه كأنما خلقه من الماء [ ص: 143 ] لفرط احتياجه إليه ، وقلة صبره عنه ، كقوله : خلق الإنسان من عجل [ 21 \ 37 ] إلى غير ذلك من الأقوال . وقد قدمنا المعاني الأربعة التي تأتي لها لفظة " جعل " وما جاء منها في القرآن وما لم يجئ فيه في سورة " النحل " .

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : لقائل أن يقول : كيف قال : وخلقنا من الماء كل حيوان ؟ وقد قال : والجان خلقناه من قبل من نار السموم [ 15 \ 27 ] وجاء في الأخبار أن الله تعالى خلق الملائكة من النور ، وقال تعالى في حق عيسى - عليه السلام - : وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني [ 5 \ 110 ] وقال في حق آدم : خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] .

والجواب : اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة المخصصة قائمة ، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهدا محسوسا ؛ ليكون أقرب إلى المقصود . وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة ، والجن ، وآدم ، وقصة عيسى عليهم السلام ؛ لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك . ا هـ منه .

ثم قال الرازي أيضا : اختلف المفسرون ، فقال بعضهم : المراد من قوله : كل شيء حي الحيوان فقط . وقال آخرون : بل يدخل فيه النبات ، والشجر ؛ لأنه من الماء صار ناميا ، وصار فيه الرطوبة ، والخضرة ، والنور ، والثمر . وهذا القول أليق بالمعنى المقصود ، كأنه تعالى قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر ، وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حيا . حجة القول الأول : أن النبات لا يسمى حيا . قلنا : لا نسلم ، والدليل عليه قوله تعالى : كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] انتهى منه أيضا .
قوله تعالى : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون .

قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " النحل " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون .

تضمنت هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

الأولى : أن الله - جل وعلا - جعل السماء سقفا ، أي : لأنها للأرض كالسقف للبيت .

الثانية : أنه جعل ذلك السقف محفوظا .

[ ص: 144 ] الثالثة : أن الكفار معرضون عما فيها - أي السماء - من الآيات ، لا يتعظون به ، ولا يتذكرون . وقد أوضح هذه المسائل الثلاث في غير هذا الموضع

أما كونه جعلها سقفا فقد ذكره في سورة " الطور " أنه مرفوع ، وذلك في قوله : والطور وكتاب مسطور في رق منشور والبيت المعمور والسقف المرفوع [ 52 - 5 ] .

وأما كون ذلك السقف محفوظا فقد بينه في مواضع من كتابه ، فبين أنه محفوظ من السقوط في قوله : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] وقوله : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره [ 30 \ 25 ] وقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا [ 35 \ 41 ] وقوله : وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [ 2 \ 255 ] وقوله : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] على قول من قال : وما كنا عن الخلق غافلين . إذ لو كنا نغفل لسقطت عليهم السماء فأهلكتهم . وبين أنه محفوظ من التشقق والتفطر ، لا يحتاج إلى ترميم ولا إصلاح كسائر السقوف إذا طال زمنها ، كقوله تعالى : فارجع البصر هل ترى من فطور [ 67 \ 3 ] وقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] أي : ليس فيها من شقوق ، ولا صدوع ، وبين أن ذلك السقف المذكور محفوظ من كل شيطان رجيم ، كقوله : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] وقد بينا الآيات الدالة على حفظها من جميع الشياطين في سورة " الحجر " . وأما كون الكفار معرضين عما فيها من الآيات فقد بينه في مواضع من كتابه ، كقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] وقوله : وإن يروا آية يعرضوا الآية [ 54 \ 2 ] وقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية [ 10 \ 96 - 97 ] وقوله : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:41 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (294)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 145 إلى صـ 151




قوله تعالى : وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت .

قال بعض أهل العلم : كان المشركون ينكرون نبوته - صلى الله عليه وسلم - ويقولون : هو شاعر يتربص به ريب المنون ، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان ، فقال الله تعالى : قد مات [ ص: 145 ] الأنبياء من قبلك ، وتولى دينه بالنصر والحياطة ، فهكذا نحفظ دينك وشرعك .

وقال بعض أهل العلم : لما نعى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه قال : " فمن لأمتي " ؟ فنزلت وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد [ 21 \ 34 ] والأول أظهر ؛ لأن السورة مكية ، ومعنى الآية أن الله لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد أي : دوام البقاء في الدنيا ، بل كلهم يموت .

وقوله : أفإن مت فهم الخالدون استفهام إنكاري معناه النفي . والمعنى : أنك إن مت فهم لن يخلدوا بعدك ، بل سيموتون ، ولذلك أتبعه بقوله : كل نفس ذائقة الموت [ 3 \ 185 ] وما أشار إليه - جل وعلا - في هذه الآية من أنه - صلى الله عليه وسلم - سيموت ، وأنهم سيموتون ، وأن الموت ستذوقه كل نفس أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : إنك ميت وإنهم ميتون [ 39 \ 3 ] وكقوله : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 52 \ 26 - 27 ] وقوله في سورة " آل عمران " : كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [ 3 \ 185 ] وقوله في سورة " العنكبوت " : ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون [ 29 \ 56 - 57 ] وقوله تعالى في سورة " النساء " : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد قدمنا في سورة " الكهف " استدلال بعض أهل العلم بهذه الآية الكريمة على موت الخضر عليه السلام . وقال بعض أهل العلم في قوله : فهم الخالدون هو استفهام حذفت أداته . أي : أفهم الخالدون . وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ، وهو قياسي عند الأخفش مع " أم " ، ودونها ذكر الجواب أم لا ، فمن أمثلته دون " أم " ودون ذكر الجواب قول الكميت :



طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
يعني : أو ذو الشيب يلعب . وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :



رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم

يعني : أهم هم على التحقيق . ومن أمثلته دون " أم " مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :



ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب



[ ص: 146 ] يعني : أتحبها على الصحيح . وهو مع " أم " كثير جدا ، وأنشد له سيبويه قول الأسود بن يعفر التميمي :



لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر



يعني : أشعيث بن سهم ، ومنه قول بن أبي ربيعة المخزومي :



بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان



فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان

يعني : أبسبع . وقول الأخطل :



كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا

يعني : أكذبتك عينك . كما نص سيبويه في كتابه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا ، وإن خالف في ذلك الخليل قائلا : إن " كذبتك " صيغة خبرية ليس فيها استفهام محذوف ، وإن " أم " بمعنى بل . ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى " الرجوع " . وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة " آل عمران " وذكرنا أن قوله تعالى في آية " الأنبياء " هذه فهم الخالدون من أمثلة ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أفإن مت قرأه نافع وحفص ، عن عاصم وحمزة ، والكسائي " مت " بكسر الميم ، والباقون بضم الميم ، وقد أوضحنا في سورة " مريم " وجه كسر الميم . وقوله في هذه الآية الكريمة : أفإن مت فهم الخالدون يفهم منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرح بموت أحد لأجل أمر دنيوي يناله بسبب موته ؛ لأنه هو ليس مخلدا بعده .

وروي عن الشافعي أنه أنشد هذين البيتين مستشهدا بهما :



تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد



فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد

ونظير هذا قول الآخر :

فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
قوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون .

[ ص: 147 ] المعنى : ونختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا ، ومما يجب فيه الشكر من النعم ، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر ، وقوله : فتنة مصدر مؤكد لـ ونبلوكم من غير لفظه .

وما ذكره - جل وعلا - من أنه يبتلي خلقه أي : يختبرهم بالشر والخير - قد بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون [ 7 \ 168 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 42 - 45 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآيات الكريمة : ونبلوكم بالشر والخير يدل على أن " بلا يبلو " تستعمل في الاختبار بالنعم وبالمصائب والبلايا . وقال بعض العلماء : أكثر ما يستعمل في الشر " بلا يبلو " ، وفي الخير " أبلى يبلي " . وقد جمع اللغتين في الخير قول زهير بن أبي سلمى :



جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : ونبلوكم بالشر والخير قال : أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة ، والرخاء ، والصحة ، والسقم ، والغنى ، والفقر ، والحلال ، والحرام ، والطاعة ، والمعصية ، والهدى ، والضلال .
قوله تعالى : وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يتخذونه إلا هزوا ، أي مستهزأ به مستخفا به . والهزؤ : السخرية ، فهو مصدر وصف به . ويقولون : أهذا الذي يذكر آلهتكم أي : يعيبها وينفي أنها تشفع لكم وتقربكم إلى الله زلفى ، [ ص: 148 ] ويقول : إنها لا تنفع من عبدها ، ولا تضر من لم يعبدها ، وهم مع هذا كله كافرون بذكر الرحمن ، فالخطاب في قوله : وإذا رآك للنبي - صلى الله عليه وسلم - و " إن " في قوله : إن يتخذونك نافية . والاستفهام في قوله أهذا الذي يذكر آلهتكم قال فيه أبو حيان في البحر : إنه للإنكار والتعجيب . والذي يظهر لي أنهم يريدون بالاستفهام المذكور التحقير بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تدل عليه قرينة قوله : إن يتخذونك إلا هزوا . وقد تقرر في فن المعاني أن من الأغراض التي تؤدى بالاستفهام التحقير . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن جواب " إذا " هو القول المحذوف ، وتقديره : وإذا رآك الذين كفروا يقولون أهذا الذي يذكر آلهتكم . وقال : إن جملة إن يتخذونك إلا هزوا جملة معترضة بين إذا وجوابها . واختار أبو حيان في البحر أن جواب " إذا " هو جملة إن يتخذونك وقال : إن جواب إذا بجملة مصدرة بـ " إن " أو " ما " النافيتين لا يحتاج إلى الاقتران بالفاء . وقوله : يذكر آلهتكم أي : يعيبها . ومن إطلاق الذكر بمعنى العيب قوله تعالى : قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم [ 21 \ 60 ] أي : يعيبهم ، وقول عنترة :



لا تذكري مهري وما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري ، قاله القرطبي .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : الذكر يكون بخير وبخلافه ، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد ، كقولك للرجل : سمعت فلانا يذكرك ، فإذا كان الذاكر صديقا فهو ثناء ، وإن كان عدوا فذم ، ومنه قوله تعالى : سمعنا فتى يذكرهم [ 21 \ 60 ] وقوله : أهذا الذي يذكر آلهتكم [ 21 \ 36 ] انتهى محل الغرض منه . والجملة في قوله : وهم بذكر الرحمن هم كافرون حالية . وقال بعض أهل العلم : معنى كفرهم بذكر الرحمن هو الموضح في قوله تعالى : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا [ 25 \ 60 ] وقولهم : ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب . وقد بين ابن جرير الطبري وغيره أن إنكارهم لمعرفتهم الرحمن تجاهل منهم ومعاندة مع أنهم يعرفون أن الرحمن من أسماء الله تعالى . قال : وقال بعض شعراء الجاهلية الجهلاء :



ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قطع الرحمن ربي يمينها

وقال سلامة بن جندل الطهوي :

[ ص: 149 ]

عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق

وفي هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على سخافة عقول الكفار ؛ لأنهم عاكفون على ذكر أصنام لا تنفع ولا تضر ، ويسوءهم أن تذكر بسوء ، أو يقال : إنها لا تشفع ، ولا تقرب إلى الله . وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية فهم به كافرون لا يصدقون به ، فهم أحق بأن يتخذوا هزؤا من النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي اتخذوه هزؤا ، فإنه محق وهم مبطلون . فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن هذا المعنى الذي دلت عليه جاء أيضا مبينا في سورة " الفرقان " في قوله تعالى : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 25 \ 41 - 42 ] فتحقيرهم - لعنهم الله - له - صلى الله عليه وسلم - المذكور في قوله في " الأنبياء " في قوله : أهذا الذي يذكر آلهتكم [ 21 \ 36 ] هو المذكور في قوله في " الفرقان " : أهذا الذي بعث الله رسولا [ 25 \ 41 ] وذكره لآلهتهم بالسوء المذكور في " الأنبياء " في قوله : يذكر آلهتكم هو المذكور في " الفرقان " في قوله : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها [ 20 \ 42 ] أي : لما يبين من معائبها ، وعدم فائدتها ، وعظم ضرر عبادتها .
قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : من عجل فيه للعلماء قولان معروفان ، وفي نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة أحدهما . أما القول الذي دلت القرينة المذكورة على عدم صحته فهو قول من قال : العجل : الطين ، وهي لغة حميرية كما قال شاعرهم :



البيع في الصخرة الصماء منبته والنخل ينبت بين الماء والعجل
يعني : بين الماء والطين . وعلى هذا القول فمعنى الآية : خلق الإنسان من طين ، كقوله تعالى : أأسجد لمن خلقت طينا [ 17 \ 61 ] وقوله : وبدأ خلق الإنسان من طين [ 32 \ 7 ] والقرينة المذكورة الدالة على أن المراد بالعجل في الآية ليس الطين قوله بعده : فلا تستعجلون وقوله : ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ ص: 150 ] [ 21 \ 38 ] فهذا يدل على أن المراد بالعجل هو العجلة التي هي خلاف التأني ، والتثبت . والعرب تقول : خلق من كذا . يعنون بذلك المبالغة في الإنصاف . كقولهم : خلق فلان من كرم ، وخلقت فلانة من الجمال . ومن هذا المعنى قوله تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف [ 30 \ 54 ] على الأظهر . ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا [ 17 \ 11 ] أي : ومن عجلته دعاؤه على نفسه أو ولده بالشر . قال بعض العلماء : كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار ، ويقولون : متى هذا الوعد . فنزل قوله : خلق الإنسان من عجل للزجر عن ذلك . كأنه يقول لهم : ليس ببدع منكم أن تستعجلوا ، فإنكم مجبولون على ذلك ، وهو طبعكم وسجيتكم . ثم وعدهم بأنه سيريهم آياته ، ونهاهم أن يستعجلوا بقوله : سأريكم آياتي فلا تستعجلون [ 21 \ 37 ] كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] وقال بعض أهل العلم : المراد بالإنسان في قوله : خلق الإنسان من عجل آدم . وعن سعيد بن جبير ، والسدي : لما دخل الروح في عيني آدم نظر في ثمار الجنة ، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام ، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه ؛ عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك قوله : خلق الإنسان من عجل . وعن مجاهد ، والكلبي ، وغيرهما : خلق آدم يوم الجمعة في آخر النهار ، فلما أحيا الله رأسه استعجل وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس .

والظاهر أن هذه الأقوال ونحوها من الإسرائيليات . وأظهر الأقوال أن معنى الآية أن جنس الإنسان من طبعه العجل وعدم التأني كما بينا ، والعلم عند الله تعالى .

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم ، واستعجلت ذلك فقال الله تعالى : خلق الإنسان من عجل لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر . ولهذا قال : سأريكم آياتي أي : نقمي وحكمي ، واقتداري على من عصاني فلا تستعجلون . انتهى منه .
قوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون .

جواب " لو " في هذه الآية محذوف ، وقد قدمنا أدلة ذلك وشواهده من العربية [ ص: 151 ] في سورة " البقرة " ، وأشرنا إليه في سورة " إبراهيم " وسورة " يوسف " . ومعنى الآية الكريمة : لو يعلم الكفار الوقت الذي يسألون عنه بقولهم : متى هذا الوعد ؟ وهو وقت صعب شديد ، تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام . فلا يقدرون على منعها ودفعها عن أنفسهم ، ولا يجدون ناصرا ينصرهم ؛ لما كانوا بتلك الصفة من الكفر ، والاستهزاء ، والاستعجال ، ولكن جهلهم بذلك هو الذي هونه عليهم . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من المعاني جاء مبينا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى .

أما إحاطة النار بهم في ذلك اليوم فقد جاءت موضحة في آيات متعددة ، كقوله تعالى : إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [ 18 \ 29 ] وقوله تعالى : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش الآية [ 7 \ 41 ] وقوله تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون [ 39 \ 16 ] وقوله تعالى : سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار [ 14 \ 50 ] وقوله تعالى : تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون [ 23 \ 104 ] إلى غير ذلك من الآيات . نرجو الله الكريم العظيم أن يعيذنا منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل ، إنه قريب مجيب . وما تضمنته من كونهم في ذلك اليوم ليس لهم ناصر ولا قوة يدفعون بها عن أنفسهم ، جاء مبينا في مواضع أخر . كقوله تعالى : فما له من قوة ولا ناصر [ 86 \ 10 ] وقوله تعالى : ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون [ 37 \ 25 - 26 ] والآيات في ذلك كثيرة .

وما أشارت إليه هذه الآية من أن الذي هون عليهم ذلك اليوم العظيم حتى استعجلوه واستهزءوا بمن يخوفهم منه إنما هو جهلهم به جاء مبينا أيضا في مواضع أخر . كقوله تعالى : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق [ 42 ] 18 ، وقوله تعالى : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون [ 10 \ 50 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لو يعلم قال بعض أهل العلم : هو فعل متعد ، والظاهر أنها عرفانية ، فهي تتعدى إلى مفعول واحد ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :



لعلم عرفان وظن تهمة تعدية لواحد ملتزمة

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (295)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 152 إلى صـ 158






وعلى هذا فالمفعول هذا قوله : حين أي : لو يعرفون حين وقوع العذاب بهم وما فيه من الفظائع لما استخفوا به واستعجلوه . وعلى هذا فالحين مفعول به لا مفعول فيه ؛ لأن العلم الذي هو بمعنى المعرفة واقع على نفس الحين المذكور . وقال بعض أهل العلم : فعل العلم في هذه الآية منزل منزلة اللازم ، فليس واقعا على مفعول . وعليه فالمعنى : لو كان لهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين . وعلى هذا فالآية كقوله تعالى : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 \ 9 ] والمعنى : لا يستوي من عنده علم ومن لا علم عنده . وقد تقرر في فن المعاني أنه إذا كان الغرض إثبات الفعل لفاعله في الكلام المثبت ، أو نفيه عنه في الكلام المنفي مع قطع النظر عن اعتبار تعلق الفعل بمن وقع عليه ، فإنه يجري مجرى اللازم ، كقوله : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ 39 \ 9 ] لأنه يراد منه أن من ثبتت له صفة العلم لا يستوي هو ومن انتفت عنه ، ولم يعتبر هنا وقوع العلم على معلومات من اتصف بذلك العلم . وعلى هذا القول فقوله : حين لا يكفون منصوب بمضمر . أي : حين لا يكفون عن وجههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل . والأول هو الأظهر . واستظهر أبو حيان أن مفعول " يعلم " محذوف ، وأنه هو العامل في الظرف الذي هو " حين " ، والتقدير : لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي استعجلوه حين لا يكفون لما كفروا واستعجلوا واستهزءوا .

واعلم أنه لا إشكال في قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل مع قوله فلا تستعجلون فلا يقال : كيف يقول : إن الإنسان خلق من العجل وجبل عليه ، ثم ينهاه عما خلق منه وجبل عليه ؛ لأنه تكليف بمحال ! ؟ لأنا نقول : نعم هو جبل على العجل ، ولكن في استطاعته أن يلزم نفسه بالتأني . كما أنه جبل على حب الشهوات مع أنه في استطاعته أن يلزم نفسه بالكف عنها . كما قال تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى . [ 79 \ 40 - 41 ] .
قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون .

في هذه الآية الكريمة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن إخوانه من الرسل الكرام - صلوات الله وسلامه عليهم - استهزأ بهم الكفار ، كما استهزءوا به - صلى الله عليه وسلم - يعني : فاصبر كما صبروا ، ولك [ ص: 153 ] العاقبة الحميدة ، والنصر النهائي كما كان لهم . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من ذلك جاء موضحا في مواضع من كتاب الله . كقوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ 41 \ 43 ] وقوله تعالى : وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك [ 11 \ 120 ] وقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ 6 ] وقوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير [ 35 \ 25 - 26 ] وقوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور [ 35 \ 4 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقوله في هذه الآية الكريمة : فحاق بالذين سخروا منهم أي : أحاط بهم . ومادة حاق يائية العين ، بدليل قوله في المضارع : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] ولا تستعمل هذه المادة إلا في إحاطة المكروه خاصة . فلا تقول : حاق به الخير بمعنى أحاط به . والأظهر في معنى الآية أن المراد : وحاق بهم العذاب الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ويستهزئون به ، وعلى هذا اقتصر ابن كثير . وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : فحاق أي : أحاط ودار بالذين كفروا و سخروا منهم وهزئوا بهم ( ما كانوا به يستهزئون ) [ 21 \ 41 ] أي جزاء استهزائهم . والأول أظهر ، والعلم عند الله تعالى . والآية تدل على أن السخرية من الاستهزاء وهو معروف .
قوله تعالى : قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يقول للمعرضين عن ذكر ربهم : من يكلؤكم أي : من هو الذي يحفظكم ويحرسكم بالليل في حال نومكم والنهار في حال تصرفكم في أموركم . والكلاءة بالكسر : الحفظ والحراسة . يقال : اذهب في كلاءة الله . أي : في حفظه ، واكتلأت منهم : احترست . ومنه قول ابن هرمة :



إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
وقول كعب بن زهير :



أنخت بعيري واكتلأت بعينه وآمرت نفسي أي أمري أفعل

[ ص: 154 ] و " من " في قوله من الرحمن فيها للعلماء وجهان معروفان : أحدهما وعليه اقتصر ابن كثير : أن " من " هي التي بمعنى بدل . وعليه فقوله من الرحمن أي : بدل الرحمن ، يعني غيره . وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز :



جارية لم تلبس المرققا


ولم تذق من البقول الفستقا
أي لم تذق بدل البقول الفستق . وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة [ 9 \ 38 ] أي : بدلها . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :



أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلما ويكتب للأمير أفيلا

يعني : أخذوا في الزكاة المخاض بدل الفصيل . والوجه الثاني : أن المعنى من يكلؤكم أي : يحفظكم من الرحمن أي : من عذابه وبأسه . وهذا هو الأظهر عندي . ونظيره من القرآن قوله تعالى : فمن ينصرني من الله إن عصيته [ 11 \ 63 ] أي : من ينصرني منه فيدفع عني عذابه . والاستفهام في قوله تعالى : من يكلؤكم قال أبو حيان في البحر : هو استفهام تقريع وتوبيخ ، وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير . فوجه كونه إنكاريا أن المعنى : لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله ألبتة إلا الله تعالى ، أي : فكيف تعبدون غيره . ووجه كونه تقريريا أنهم إذا قيل لهم : من يكلؤكم ؟ اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله ؛ لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى ، ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب ، ولا يدعون معه غيره ، كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " الإسراء " وغيرها . فإذا أقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع ، كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم بالليل والنهار إلى ما لا ينفع ، ولا يضر . وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد يمنع أحدا من عذاب الله ، ولا يحفظه ولا يحرسه من الله ، وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحده - جاء مبينا في مواضع أخر ؛ كقوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] على أظهر التفسيرات ، وقوله تعالى : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا الآية [ 48 \ 11 ] وقوله تعالى : قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [ 33 \ 17 ] وقوله تعالى : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح [ ص: 155 ] ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] وقوله تعالى : وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 33 \ 88 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون .

قوله في هذه الآية الكريمة : أم هي المنقطعة ، وهي بمعنى بل والهمزة ، فقد اشتملت على معنى الإضراب والإنكار ، والمعنى : ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز حتى لا ينالهم عذابنا . ثم بين أن آلهتهم التي يزعمون لا تستطيع نفع أنفسها ، فكيف تنفع غيرها بقوله : لا يستطيعون نصر أنفسهم [ 21 \ 43 ] وقوله : من دوننا فيه وجهان : أحدهما أنه متعلق آلهة أي : ألهم آلهة من دوننا أي : سوانا تمنعهم مما نريد أن نفعله بهم من العذاب كلا ليس الأمر كذلك . الوجه الثاني : أنه متعلق بـ تمنعهم لقول العرب : منعت دونه ، أي : كففت أذاه . والأظهر عندي الأول ، ونحوه كثير في القرآن كقوله : ومن يقل منهم إني إله من دونه الآية [ 21 \ 29 ] وقوله : واتخذوا من دونه آلهة الآية [ 25 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الآلهة التي اتخذوها لا تستطيع نصر أنفسها ، فكيف تنفع غيرها - جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون [ 7 \ 191 - 195 ] وقوله تعالى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون [ 7 \ 197 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم الآية [ 35 \ 13 - 14 ] وقوله تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة الآية [ 46 \ 5 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تلك الآلهة المعبودة من دون الله ليس فيها نفع ألبتة .

[ ص: 156 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : ولا هم منا يصحبون أي : يجارون ، أي : ليس لتلك الآلهة مجير يجيرهم منا ؛ لأن الله يجير ولا يجار عليه كما صرح بذلك في سورة قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 88 ] في قوله : قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون [ 23 \ 88 ] والعرب تقول : أنا جار لك وصاحب من فلان ، أي : مجير لك منه . ومنه قول الشاعر :



ينادي بأعلى صوته متعوذا ليصحب منا والرماح دواني
يعني : ليجار ويغاث منا . وأغلب أقوال العلماء في الآية راجعة إلى ما ذكرنا ، كقول بعضهم : يصحبون يمنعون ، وقول بعضهم : ينصرون ، وقول بعضهم : ولا هم منا يصحبون أي : لا يصحبهم الله بخير ، ولا يجعل الرحمة صاحبا لهم . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر .

الظاهر أن الإضراب بل في هذه الآية الكريمة انتقالي ، والإشارة في قوله : هؤلاء راجعة إلى المخاطبين من قبل في قوله : قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن الآية ، وهم كفار قريش ، ومن اتخذ آلهة من دون الله .

والمعنى أنه متع هؤلاء الكفار وآباءهم قبلهم بما رزقهم من نعيم الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة ، فحملهم ذلك على الطغيان ، واللجاج في الكفر .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى يمهل الكفار ويملي لهم في النعمة ، وأن ذلك يزيدهم كفرا وضلالا - جاء موضحا في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى ، كقوله : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] وقوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 182 - 183 ] وقوله تعالى : قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا [ 25 \ 18 ] وقوله تعالى : بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [ 43 \ 29 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعمر يطلق على مدة العيش .
قوله تعالى : أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون .

[ ص: 157 ] في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء ، وبعضها تدل له قرينة قرآنية :

قال بعض العلماء : نقصها من أطرافها : موت العلماء ، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هريرة ، وبعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى .

وقال بعض أهل العلم : نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها .

وقال بعض أهل العلم : نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس ، والثمرات ، إلى غير ذلك من الأقوال ، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية فهو أن معنى ننقصها من أطرافها أي : ننقص أرض الكفر ودار الحرب ، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها ، وردها دار إسلام . والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده : أفهم الغالبون [ 21 \ 44 ] والاستفهام لإنكار غلبتهم . وقيل : لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون ، فقوله : أفهم الغالبون دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار ، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور . ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله [ 13 \ 31 ] على قول من قال : إن المراد بالقارعة التي تصيبهم سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - تفتح أطراف بلادهم ، أو تحل أنت يا نبي الله قريبا من دارهم . وممن يروى عنه هذا القول : ابن عباس ، وأبو سعيد ، وعكرمة ، ومجاهد ، وغيرهم . وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر سورة " الرعد " أيضا في قوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب [ 13 \ 41 ] وقال ابن كثير في تفسير آية " الأنبياء " هذه : إن أحسن ما فسر به قوله تعالى : أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها هو قوله تعالى : ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون [ 46 \ 27 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره ابن كثير صواب ، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه ، وعليه فالمعنى : أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله والكفر بما جئت به أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي : بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط ، وهم يمرون بديارهم . وكما [ ص: 158 ] أهلكنا قوم هود ، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل ممزق ، كل ذلك بسبب تكذيب الرسل والكفر بما جاءوا به . وهذا هو معنى قوله : ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى [ 46 \ 27 ] كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم . وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده : أفهم الغالبون والمعنى أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء ، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم ، وأنتم لستم بأقوى منهم ، ولا أكثر أموالا ولا أولادا ، كما قال تعالى : أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم الآية [ 44 \ 37 ] . وقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] وقال تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 90 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وإنذار الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - بما وقع لمن كذب من قبله من الرسل كثير جدا في القرآن . وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير من تفسير آية " الأنبياء " هذه بآية " الأحقاف " المذكورة كما بينا .

وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : أي فائدة في قوله : نأتي الأرض ؟ قلت : فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين ، وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها . ا هـ منه . والله - جل وعلا - أعلم .



https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:44 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (296)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 159 إلى صـ 165




قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة ، فتوزن أعمالهم وزنا في غاية العدالة والإنصاف ، فلا يظلم الله أحدا شيئا ، وأن عمله من الخير والشر وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل ، فإن الله يأتي به ؛ لأنه لا يخفى عليه شيء ، وكفى به - جل وعلا - حاسبا ؛ لإحاطة علمه بكل شيء .

وبين في غير هذا الموضع أن الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخف ، ومنها ما يثقل ، وأن من خفت موازينه هلك ، ومن ثقلت موازينه نجا ، كقوله تعالى : والوزن يومئذ [ ص: 159 ] الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون [ 7 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ 23 \ 101 - 103 ] وقوله تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية [ 101 \ 6 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وما ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن موازين يوم القيامة موازين قسط ذكره في " الأعراف " في قوله : والوزن يومئذ الحق [ 7 \ 8 ] لأن الحق عدل وقسط ، وما ذكره فيها من أنه لا تظلم نفس شيئا بينه في مواضع أخر كثيرة ، كقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] وقوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة " الكهف " .

وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كون العمل ، وإن كان مثقال ذرة من خير أو شر أتى به - جل وعلا - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله عن لقمان مقررا له : يابني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير [ 31 \ 16 ] وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ونضع الموازين جمع ميزان . وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص ؛ لقوله : فمن ثقلت موازينه [ 23 \ 102 ] وقوله : ومن خفت موازينه [ 23 ] فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله ، كما قال الشاعر :



ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان
والقاعدة المقررة في الأصول : أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه . وقد قدمنا في آخر سورة " الكهف " [ ص: 160 ] كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله في هذه الآية : القسط أي العدل ، وهو مصدر وصف به ، ولذا لزم إفراده ، كما قال في الخلاصة :



ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

كما قدمناه مرارا . ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء : إنه المبالغة . وبعضهم يقول : هو بنية المضاف المحذوف ، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتى سماها القسط الذي هو العدل . وعلى الثاني فالمعنى : الموازين ذوات القسط .

واللام في قوله : ليوم القيامة فيها أوجه معروفة عند العلماء :

( منها ) : أنها للتوقيت ، أي الدلالة على الوقت ، كقول العرب : جئت لخمس ليال بقين من الشهر ، ومنه قول نابغة ذبيان :



توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

ومنها : أنها لام " كي " ، أي : نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة ، أي : لحساب الناس فيه حسابا في غاية العدالة ، والإنصاف .

( ومنها ) : أنها بمعنى في ، أي : نضع الموازين القسط في يوم القيامة .

والكوفيون يقولون : إن اللام تأتي بمعنى في ، ويقولون : إن من ذلك قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة [ 21 \ 47 ] أي : في يوم القيامة ، وقوله تعالى : لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] أي : في وقتها . ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين ، وابن مالك من المتأخرين ، وأنشد مستشهدا لذلك قول مسكين الدارمي :



أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم كما قد مضى من قبل عاد وتبع

يعني مضوا في سبيلهم . وقول الآخر :



وكل أب وابن وإن عمرا معا مقيمين مفقود لوقت وفاقد

أي في وقت .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فلا تظلم نفس شيئا يجوز أن يكون شيئا هو المفعول الثاني لـ تظلم ويجوز أن يكون ما ناب عن المطلق . أي : شيئا من الظلم لا قليلا ، ولا كثيرا .

ومثقال الشيء : وزنه . والخردل : حب في غاية الصغر ، [ ص: 161 ] والدقة . وبعض أهل العلم يقول : هو زريعة الجرجير . وأنث الضمير في قوله بها هو راجع إلى المضاف الذي هو مثقال وهو مذكر لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو حبة من خردل على حد قوله في الخلاصة :



وربما أكسب ثان أولا تأنيثا إن كان لحذف مؤهلا

ونظير ذلك من كلام العرب قول عنترة في معلقته :



جادت عليه كل عين ثرة فتركن كل قرارة كالدرهم

وقول الراجز :



طول الليالي أسرعت في نقضي نقضن كلي ونقضن بعضي

وقول الأعشى :



وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم



وقول الآخر :



مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم

فقد أنث في البيت الأول لفظة " كل " لإضافتها إلى " عين " . وأنث في البيت الثاني لفظة " طول " لإضافتها إلى " الليالي " وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى " القناة " وأنث في البيت الرابع " مر " لإضافته إلى " الرياح " . والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيما ، كما قال في الخلاصة : .

. . . . . . . . . إن كان لحذف مؤهلا

وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعا وإن كان مثقال حبة بنصب مثقال على أنه خبر كان أي : وإن كان العمل الذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل .

وقرأ نافع وحده وإن كان مثقال بالرفع ، فاعل كان على أنها تامة . كقوله تعالى : وإن كان ذو عسرة .
قوله تعالى : وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن العظيم ذكر مبارك أي : كثير البركات والخيرات ؛ لأن فيه خير الدنيا والآخرة . ثم وبخ من ينكرونه منكرا عليهم بقوله : أفأنتم له منكرون . وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن هذا [ ص: 162 ] القرآن مبارك بينه في مواضع متعددة من كتابه ، كقوله تعالى في " الأنعام " : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] وقوله فيها أيضا : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه [ 6 \ 92 ] وقوله تعالى في " ص " : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] إلى غير ذلك من الآيات ، فنرجو الله تعالى القريب المجيب أن تغمرنا بركات هذا الكتاب العظيم المبارك بتوفيق الله تعالى لنا لتدبر آياته ، والعمل بما فيها من الحلال والحرام ، والأوامر والنواهي ، والمكارم والآداب ، امتثالا واجتنابا ، إنه قريب مجيب .
قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل .

قد قدمنا ما يوضح هذه الآيات إلى آخر القصة من القرآن في سورة " مريم " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - لما أفحم قومه الكفرة بالبراهين والحجج القاطعة لجئوا إلى استعمال القوة ، فقالوا : حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين [ 21 \ 68 ] أي : بقتلكم عدوها إبراهيم شر قتلة ، وهي الإحراق بالنار .

ولم يذكر هنا أنهم أرادوا قتله بغير التحريق ، ولكنه تعالى ذكر في سورة " العنكبوت " أنهم قالوا اقتلوه أو حرقوه [ 29 \ 24 ] وذلك في قوله : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه [ 29 \ 24 ] .

وقد جرت العادة بأن المبطل إذا أفحم بالدليل لجأ إلى ما عنده من القوة ليستعملها ضد الحق .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن كنتم فاعلين أي : إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا ، فاختاروا له أفظع قتلة ، وهي الإحراق بالنار ، وإلا فقد فرطتم في نصرها .
قوله تعالى : قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين .

في الكلام حذف دل المقام عليه ، وتقديره : قالوا حرقوه فرموه في النار ، فلما فعلوا [ ص: 163 ] ذلك قلنا يانار كوني بردا وسلاما وقد بين في " الصافات " أنهم لما أرادوا أن يلقوه في النار بنوا له بنيانا ليلقوه فيه .

وفي القصة أنهم ألقوه من ذلك البنيان العالي بالمنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس ( يعنون الأكراد ) وأن الله خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، قال تعالى : قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم [ 37 \ 97 ] والمفسرون يذكرون من شدة هذه النار وارتفاع لهبها ، وكثرة حطبها شيئا عظيما هائلا . وذكروا عن نبي الله إبراهيم أنهم لما كتفوه مجردا ورموه إلى النار ، قال له جبريل : هل لك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، وأما الله فنعما ، قال : لم لا تسأله ؟ قال : علمه بحالي كاف عن سؤالي .

وما ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه أمر النار بأمره الكوني القدري أن تكون بردا وسلاما على إبراهيم يدل على أنه أنجاه من تلك النار ؛ لأن قوله تعالى : كوني بردا [ 21 ] يدل على سلامته من حرها ، وقوله : وسلاما يدل على سلامته من شر بردها الذي انقلبت الحرارة إليه ، وإنجاؤه إياه منها الذي دل عليه أمره الكوني القدري هنا جاء مصرحا به في " العنكبوت " في قوله تعالى : فأنجاه الله من النار [ 29 \ 24 ] وأشار إلى ذلك هنا بقوله : ونجيناه ولوطا [ 21 \ 71 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين [ 21 \ 70 ] يوضحه ما قبله . فالكيد الذي أرادوه به : إحراقه بالنار نصرا منهم لآلهتهم في زعمهم ، وجعله تعالى إياهم الأخسرين أي الذين هم أكثر خسرانا لبطلان كيدهم وسلامته من نارهم .

وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضا في سورة " الصافات " في قوله : فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين [ 37 \ 98 ] وكونهم الأسفلين واضح ؛ لعلوه عليهم وسلامته من شرهم . وكونهم الأخسرين لأنهم خسروا الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين . وفي القصة أن الله سلط عليهم خلقا من أضعف خلقه فأهلكهم وهو البعوض . وفيها أيضا أن كل الدواب تطفئ عن إبراهيم النار ، إلا الوزغ فإنه ينفخ النار عليه . وقد قدمنا الأحاديث الواردة بالأمر بقتل الأوزاغ في سورة " الأنعام " .

وعن أبي العالية : لو لم يقل الله : وسلاما لكان بردها أشد عليه من حرها ، ولو لم يقل : على إبراهيم لكان بردها باقيا إلى الأبد . وعن علي ، وابن عباس - رضي الله [ ص: 164 ] عنهم - لو لم يقل : وسلاما لمات إبراهيم من بردها . وعن السدي : لم تبق في ذلك اليوم نار إلا طفئت . وعن كعب وقتادة : لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه . وعن المنهال بن عمرو : قال إبراهيم : ما كنت أياما قط أنعم مني من الأيام التي كنت فيها في النار . وعن شعيب الحماني أنه ألقي في النار وهو ابن ست عشرة سنة . وعن ابن جريج : ألقي فيها وهو ابن ست وعشرين . وعن الكلبي : بردت نيران الأرض جميعا ، فما أنضجت ذلك اليوم كراعا . وذكروا في القصة أن نمروذ أشرف على النار من الصرح ، فرأى إبراهيم جالسا على السرير يؤنسه ملك الظل ، فقال : نعم الرب ربك ، لأقربن له أربعة آلاف بقرة ، وكف عنه . وكل هذا من الإسرائيليات . والمفسرون يذكرون كثيرا منها في هذه القصة وغيرها من قصص الأنبياء .

وقال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، أراه قال : حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل [ 3 \ 173 ] حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال : كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار : " حسبي الله ونعم الوكيل " انتهى .

قوله تعالى : ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين .

الضمير في قوله : ونجيناه عائد إلى إبراهيم ، قال أبو حيان في البحر المحيط : وضمن قوله : ونجيناه معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض . ولذلك تعدى " نجيناه " بإلى . ويحتمل أن يكون " إلى " متعلقا بمحذوف ، أي : منتهيا إلى الأرض ، فيكون في موضع الحال ، ولا تضمين في ونجيناه على هذا . والأرض التي خرجا منها : هي كوثى من أرض العراق ، والأرض التي خرجا إليها هي أرض الشام . ا هـ منه . وهذه الآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط من أرض العراق إلى الشام فرارا بدينهما .

وقد أشار تعالى إلى ذلك في غير هذا الموضع ، كقوله في " العنكبوت " : فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي [ 29 \ 26 ] وقوله في " الصافات : " وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ 37 \ 99 ] على أظهر القولين ؛ لأنه فار إلى ربه بدينه من الكفار . وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين : هذه [ ص: 165 ] الآية أصل في الهجرة والعزلة ، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام ، وذلك حين خلصه الله من النار قال : إني ذاهب إلى ربي أي : مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه سيهدين فيما نويت إلى الصواب . وما أشار إليه - جل وعلا - من أنه بارك للعالمين في الأرض المذكورة التي هي الشام على قول الجمهور في هذه الآية بقوله : إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين [ 21 \ 71 ] بينه في غير الموضع . كقوله : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها [ 21 \ 81 ] وقوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله [ 17 ] ومعنى كونه ( بارك فيها ) . هو ما جعل فيها من الخصب ، والأشجار ، والأنهار ، والثمار . كما قال تعالى : لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ 7 \ 96 ] ومن ذلك أنه بعث أكثر الأنبياء منها .

وقال بعض أهل العلم : ومن ذلك أن كل ماء عذب أصل منبعه من تحت الصخرة التي عند بيت المقدس . وجاء في ذلك حديث مرفوع ، والظاهر أنه لا يصح . وفي قوله تعالى : إلى الأرض التي باركنا فيها أقوال أخر تركناها لضعفها في نظرنا .

وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الفرار بالدين من دار الكفر إلى بلد يتمكن فيه الفار بدينه من إقامة دينه - واجب . وهذا النوع من الهجرة وجوبه باق بلا خلاف بين العلماء في ذلك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:45 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (297)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 166 إلى صـ 172



قوله تعالى : ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وهب لإبراهيم ابنه إسحاق ، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وأنه جعل الجميع صالحين . وقد أوضح البشارة بهما في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] وقوله : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] وقد أشار تعالى في سورة " مريم " إلى أنه لما هجر الوطن والأقارب عوضه الله من ذلك قرة العين بالذرية الصالحة ، وذلك في قوله : فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا [ 19 \ 49 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : نافلة قال فيه ابن كثير : قال عطاء ومجاهد : نافلة : عطية . وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحكم بن عتيبة : النافلة : ولد الولد ، يعني أن [ ص: 166 ] يعقوب ولد إسحاق .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أصل النافلة في اللغة : الزيادة على الأصل ، ومنه النوافل في العبادات ؛ لأنها زيادات على الأصل الذي هو الفرض ، وولد الولد زيادة على الأصل الذي هو ولد الصلب ، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :



فإن تك أنثى من معد كريمة علينا فقد أعطيت نافلة الفضل
أي أعطيت الفضل عليها ، والزيادة في الكرامة علينا ، كما هو التحقيق في معنى بيت أبي ذؤيب هذا ، وكما شرحه به أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري في شرحه لأشعار الهذليين . وبه تعلم أن إيراد صاحب اللسان بيت أبي ذؤيب المذكور مستشهدا به لأن النافلة الغنيمة - غير صواب ، بل هو غلط . مع أن الأنفال التي هي الغنائم راجعة في المعنى إلى معنى الزيادة ؛ لأنها زيادة تكريم أكرم الله بها هذا النبي الكريم فأحلها له ولأمته . أو لأن الأموال المغنومة أموال أخذوها زيادة على أموالهم الأصلية بلا ثمن .

وقوله : نافلة فيه وجهان من الإعراب ، فعلى قول من قال : النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من " وهبنا " أي : وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة . وعليه النافلة مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية . وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من " يعقوب " أي : وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق .
قوله تعالى : وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين .

الضمير في قوله : جعلناهم يشمل كل المذكورين إبراهيم ، ولوطا ، وإسحاق ، ويعقوب ، كما جزم به أبو حيان في البحر المحيط ، وهو الظاهر .

وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الله جعل إسحاق ويعقوب من الأئمة ، أي جعلهم رؤساء في الدين يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات . وقوله بأمرنا أي : بما أنزلنا عليهم من الوحي ، والأمر ، والنهي ، أو يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم ، بإرشاد الخلق ودعائهم إلى التوحيد .

وهذه الآية الكريمة تبين أن طلب إبراهيم الإمامة لذريته المذكور في سورة " البقرة " أجابه فيه بالنسبة إلى بعض ذريته دون بعضها ، وضابط ذلك أن الظالمين من ذريته لا ينالون الإمامة بخلاف غيرهم كإسحاق ويعقوب ، فإنهم ينالونها كما صرح به تعالى [ ص: 167 ] في قوله هنا : وجعلناهم أئمة [ 21 ] وطلب إبراهيم هو المذكور في قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] فقوله : ومن ذريتي أي : واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم في الخير . فأجابه الله بقوله : لا ينال عهدي الظالمين أي : لا ينال الظالمين عهدي بالإمامة ، على الأصوب . ومفهوم قوله : الظالمين أن غيرهم يناله عهده بالإمامة كما صرح به هنا . وهذا التفصيل المذكور في ذرية إبراهيم أشار له تعالى في " الصافات " بقوله : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأوحينا إليهم فعل الخيرات [ 21 ] أي : أن يفعلوا الطاعات ، ويأمروا الناس بفعلها . وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من جملة الخيرات ، فهو من عطف الخاص على العام . وقد قدمنا مرارا النكتة البلاغية المسوغة للإطناب في عطف الخاص على العام ، وعكسه في القرآن ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله : وكانوا لنا عابدين أي : مطيعين باجتناب النواهي وامتثال الأوامر بإخلاص ، فهم يفعلون ما يأمرون الناس به ، ويجتنبون ما ينهونهم عنه كما قال نبي الله شعيب : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ 11 \ 88 ] .

وقوله : أئمة معلوم أنه جمع إمام ، والإمام : هو المقتدى به ، ويطلق في الخير كما هنا ، وفي الشر كما في قوله : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار [ 28 \ 41 ] وما ظنه الزمخشري من الإشكال في هذه الآية ليس بواقع كما نبه عليه أبو حيان . والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإقام الصلاة لم تعوض هنا تاء عن العين الساقطة بالاعتلال على القاعدة التصريفية المشهورة ؛ لأن عدم تعويضها عنه جائز كما هنا ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :



. . . . . . . . . . وألف الإفعال واستفعال أزل لذا الإعلال ، والتا الزم عوض
وحذفها بالنقل ربما عرض
وقد أشار في أبنية المصادر إلى أن تعويض التاء المذكورة من العين هو الغالب بقوله :



واستعذ استعاذة ثم أقم إقامة وغالبا ذا التا لزم

وما ذكره من أن التاء المذكورة عوض عن العين أجود من قول من قال : إن العين [ ص: 168 ] باقية وهي الألف الباقية ، وأن التاء عوض عن ألف الإفعال .
قوله تعالى : ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين .

قوله : ولوطا [ 21 ] منصوب بفعل مضمر وجوبا يفسره آتيناه كما قال في الخلاصة :

فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا قال القرطبي في تفسير هذه الآية : الحكم : النبوة . والعلم : المعرفة بأمر الدين ، وما يقع به الحكم بين الخصوم . وقيل : علما : فهما . وقال الزمخشري : حكما : حكمة ، وهو ما يجب فعله ، أو فصلا بين الخصوم ، وقيل : هو النبوة .

قال مقيده - عفا الله عنه - : أصل الحكم في اللغة : المنع كما هو معروف . فمعنى الآيات أن الله آتاه من النبوة والعلم ما يمنع أقواله وأفعاله من أن يعتريها الخلل . والقرية التي كانت تعمل الخبائث هي سدوم وأعمالها ، والخبائث التي كانت تعملها جاءت موضحة في آيات من كتاب الله :

منها : اللواط ، وأنهم هم أول من فعله من الناس ، كما قال تعالى : أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين [ 7 \ 80 ] وقال : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ومن الخبائث المذكورة إتيانهم المنكر في ناديهم ، وقطعهم الطريق ، كما قال تعالى : أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر الآية [ 29 \ 29 ] . ومن أعظم خبائثهم : تكذيب نبي الله لوط ، وتهديدهم له بالإخراج من الوطن كما قال تعالى عنهم : قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين [ 26 \ 167 ] وقال تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون [ 27 \ 56 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقد بين الله في مواضع متعددة من كتابه أنه أهلكهم فقلب بهم بلدهم ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل ، كما قال تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 ] والآيات بنحو ذلك كثيرة . والخبائث : جمع خبيثة ، وهي الفعلة السيئة ، كالكفر واللواط ، وما جرى مجرى ذلك .

[ ص: 169 ] وقوله : قوم سوء أي : أصحاب عمل سيئ ، ولهم عند الله جزاء يسوءهم ، وقوله : فاسقين أي : خارجين عن طاعة الله . وقوله : وأدخلناه يعني لوطا في رحمتنا شامل لنجاته من عذابهم الذي أصابهم ، وشامل لإدخاله إياه في رحمته التي هي الجنة ، كما في الحديث الصحيح : " تحاجت النار والجنة " . الحديث . وفيه : " فقال للجنة : أنت رحمتي أرحم بها من أشاء من عبادي " .
قوله تعالى : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين .

قوله : ونوحا منصوب بـ " اذكر " مقدرا ، أي : واذكر نوحا حين نادى من قبل ، أي : من قبل إبراهيم ومن ذكر معه . ونداء نوح هذا المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين [ 37 - 77 ] وقد أوضح الله هذا النداء بقوله : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 26 - 27 ] وقوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر [ 54 \ 9 - 11 ] والمراد بالكرب العظيم في الآية : الغرق بالطوفان الذي تتلاطم أمواجه كأنها الجبال العظام ، كما قال تعالى : وهي تجري بهم في موج كالجبال [ 11 \ 42 ] وقال تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة الآية [ 29 \ 15 ] إلى غير ذلك من الآيات . والكرب : هو أقصى الغم ، والأخذ بالنفس .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فنجيناه وأهله يعني إلا من سبق عليه القول من أهله بالهلاك مع الكفرة الهالكين ، كما قال تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول [ 11 \ 40 ] ومن سبق عليه القول منهم : ابنه المذكور في قوله : وحال بينهما الموج فكان من المغرقين [ 11 \ 43 ] وامرأته المذكورة في قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح إلى قوله : ادخلا النار مع الداخلين . [ 66 \ 10 ] .
قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما .

[ ص: 170 ] قوله تعالى : وداود [ 21 \ 78 ] منصوب بـ " اذكر " مقدرا . وقيل : معطوف قوله : ونوحا إذ نادى من قبل [ 21 ] أي : واذكر نوحا إذا نادى من قبل وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية

وقوله : إذ بدل من " داود وسليمان " بدل اشتمال كما أوضحنا في سورة " مريم " وذكرنا بعض المناقشة فيه ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول . وذكرنا في هذا الكتاب مسائل كثيرة من ذلك . فإذا علمت ذلك فاعلم أن جماعة من العلماء قالوا : إن حكم داود وسليمان في الحرث المذكور في هذه الآية كان بوحي ، إلا أن ما أوحي إلى سليمان كان ناسخا لما أوحي إلى داود .

وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي ، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده وإصابته ، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده ، ولم يستوجب لوما ولا ذما بعدم إصابته . كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله : ففهمناها سليمان [ 21 \ 79 ] وأثنى عليهما في قوله : وكلا آتينا حكما وعلما [ 21 \ 78 ] فدل قوله : إذ يحكمان على أنهما حكما فيها معا كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر ، ولو كان وحيا لما ساغ الخلاف . ثم قال : ففهمناها سليمان فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود ، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهما إياها كما ترى . فقوله : إذ يحكمان مع قوله : ففهمناها سليمان قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد ، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك .

والقرينة الثانية هي أن قوله تعالى : ففهمناها يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع . لا أنه أنزل عليه فيها وحيا جديدا ناسخا ؛ لأن قوله تعالى : ففهمناها أليق بالأول من الثاني كما ترى .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى :

اعلم أن هذا الذي ذكرنا أن القرينة تدل عليه في هذه الآية من أنهما حكما فيها باجتهاد ، وأن سليمان أصاب في اجتهاده - جاءت السنة الصحيحة بوقوع مثله منهما في غير هذه المسألة . فدل ذلك على إمكانه في هذه المسألة ، وقد دلت القرينة القرآنية على [ ص: 171 ] وقوعه ، قال البخاري في صحيحه ( باب إذا ادعت المرأة ابنا ) حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كانت امرأتان معهما ابناهما ، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما ، فقالت لصاحبتها : إنما ذهب بابنك . فقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك . فتحاكمتا إلى داود عليه السلام ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام ، فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينهما . فقالت الصغرى : لا تفعل يرحمك الله هو ابنها . فقضى به للصغرى . قال أبو هريرة : والله إن سمعت بالسكين قط إلا يومئذ ، وما كنا نقول إلا المدية " انتهى من صحيح البخاري . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثني شبابة ، حدثني ورقاء ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما . فقالت هذه لصاحبتها : إنما ذهب بابنك أنت . وقالت الأخرى : إنما ذهب بابنك ، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى ، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه ، فقال : ائتوني بالسكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : لا ، يرحمك الله " انتهى منه فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أنهما قضيا معا بالاجتهاد في شأن الولد المذكور ، وأن سليمان أصاب في ذلك ، إذ لو كان قضاء داود بوحي لما جاز نقضه بحال . وقضاء سليمان واضح أنه ليس بوحي ؛ لأنه أوهم المرأتين أنه يشقه بالسكين ؛ ليعرف أمه بالشفقة عليه ، ويعرف الكاذبة برضاها بشقه لتشاركها أمه في المصيبة فعرف الحق بذلك . وهذا شبيه جدا بما دلت عليه الآية حسبما ذكرنا وبينا دلالة القرينة القرآنية عليه . ومما يشبه ذلك من قضائهما القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان - عليه السلام - من تاريخه ، من طريق الحسن بن سفيان ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، وعن سعيد بن بشر ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، فذكر قصة مطولة ، ملخصها أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم ، فامتنعت على كل منهم ، فاتفقوا فيما بينهم عليها . فشهدوا عند داود - عليه السلام - أنها مكنت من نفسها كلبا لها ، قد عودته ذلك منها ، فأمر برجمها ، فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله ، فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي أولئك وآخر بزي المرأة ، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا ، فقال سليمان : فرقوا بينهم . فسأل أولهم : ما كان لون الكلب ؟ فقال : أسود ، فعزله . واستدعى الآخر فسأله عن لونه ؟ فقال : أحمر . وقال [ ص: 172 ] الآخر : أغبش . وقال الآخر : أبيض ، فأمر عند ذلك بقتلهم ، فحكي ذلك لداود عليه السلام ، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب فاختلفوا عليه ، فأمر بقتلهم . انتهى بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة . وكل هذا مما يدل على صحة ما فسرنا به الآية ؛ لدلالة القرينة القرآنية عليه . وممن فسرها بذلك الحسن البصري كما ذكره البخاري وغيره عنه . قال البخاري رحمه الله في صحيحه ، باب متى يستوجب الرجل القضاء : وقال الحسن : أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ، ولا يخشوا الناس ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا [ 2 \ 41 ] إلى أن قال - وقرأ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ 21 \ 78 - 79 ] فحمد سليمان ولم يلم داود . ولولا ما ذكره الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة هلكوا ، فإنه أثنى على هذا بعلمه ، وعذر هذا باجتهاده . انتهى محل الغرض منه . وبه تعلم أن الحسن يرى أن معنى الآية الكريمة كما ذكرنا ، ويزيد هذا إيضاحا ما قدمناه في سورة " بني إسرائيل " من الحديث المتفق عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة - رضي الله عنهما - إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر كما قدمنا إيضاحه .
المسألة الثانية :

اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة ، منها هذا الذي ذكرنا هنا . وقد قدمنا في سورة بني " إسرائيل " طرفا من ذلك ، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة وسورة الحشر ، وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة . وقد علمت مما مر في سورة " بني إسرائيل " أنا ذكرنا طرفا من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل ، وهو تنقيح المناط . وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر ، وبينا الإجماع أيضا على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط ، وأنه لا ينكره إلا مكابر ، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة ، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد ، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ، ومنها حديث معاذ حين بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:47 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (298)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 173 إلى صـ 179




اعلم أن جميع روايات هذا الحديث المذكورة في المسند والسنن كلها من طريق شعبة ، عن أبي عون ، عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة ، عن أناس من أصحاب معاذ ، عن معاذ ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

أما الرواية المتصلة الصحيحة التي ذكرنا سابقا عن ابن قدامة في ( روضة الناظر ) أن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، فهذا الإسناد وإن كان متصلا ورجاله معروفون بالثقة ، فإني لم أقف على من خرج هذا الحديث من هذه الطريق ، إلا ما ذكره العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) عن أبي بكر الخطيب بلفظ : وقد قيل إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ . ا هـ منه . ولفظة " قيل " صيغة تمريض كما هو معروف ، وإلا ما ذكره ابن كثير في تاريخه ، فإنه لما ذكره فيه حديث معاذ المذكور باللفظ الذي ذكرنا بالإسناد الذي أخرجه به الإمام أحمد قال : وأخرجه أبو داود ، والترمذي من حديث شعبة به . وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وليس إسناده عندي بمتصل . ثم قال ابن كثير : وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه ، إلا أنه من طريق محمد بن سعيد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن ، عن معاذ به نحوه .

واعلم أن النسخة الموجودة بأيدينا من تاريخ ابن كثير التي هي من الطبعة الأولى سنة ( 1351 ) فيها تحريف مطبعي في الكلام الذي ذكرنا ؛ ففيها محمد بن سعد بن حسان ، والصواب محمد بن سعيد لا سعد . وفيها : عن عياذ بن بشر ، والصواب عن عبادة بن نسي .

وما ذكره ابن كثير من إخراج ابن ماجه لحديث معاذ المذكور من طريق محمد بن سعيد المصلوب ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن وهو ابن غنم ، عن معاذ - لم أره في سنن ابن ماجه ، والذي في سنن ابن ماجه بالإسناد المذكور من حديث معاذ غير المتن المذكور ، وهذا لفظه : حدثنا الحسن بن حماد سجادة ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي ، عن محمد بن سعيد بن حسان ، عن عبادة بن نسي ، عن عبد الرحمن بن غنم ، حدثنا معاذ بن جبل ، قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ، قال : " لا تقضين ، ولا تفصلن إلا بما تعلم ، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلي فيه " ا هـ منه . وما أدري أوهم الحافظ بن كثير فيما ذكر ؟ أو هو يعتقد أن معنى " تبينه " في الحديث أي : تعلمه باجتهادك في استخراجه من المنصوص ، فيرجع إلى معنى الحديث المذكور ؟ وعلى كل حال [ ص: 174 ] فالرواية المذكورة من طريق عبادة بن نسي ، عن ابن غنم ، عن معاذ ، فيها كذاب وهو محمد بن سعيد المذكور الذي قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة وصلبه . وقال أحمد بن صالح : وضع أربعة آلاف حديث . فإذا علمت بهذا انحصار طرق الحديث المذكور الذي فيه أن معاذا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنه إن لم يجد المسألة في كتاب الله ، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتهد فيها رأيه ، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك في الطريقتين المذكورتين - علمت وجه تضعيف الحديث ممن ضعفه ، وأنه يقول : طريق عبادة بن نسي ، عن ابن غنم لم تسندوها ثابتة من وجه صحيح إليه ، والطريق الأخرى التي في المسند ، والسنن فيها الحارث بن أخي المغيرة وهو مجهول ، والرواة فيها أيضا عن معاذ مجاهيل - فمن أين قلتم بصحتها ؟ وقد قدمنا أن ابن كثير قال في مقدمة تفسيره : إن الطريقة المذكورة في المسند ، والسنن بإسناد جيد . وقلنا : لعله يرى أن الحارث المذكور ثقة ، وقد وثقه ابن حبان ، وأن أصحاب معاذ لا يعرف فيهم كذاب ، ولا متهم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ويؤيد ما ذكرنا عن مراد ابن كثير بجودة الإسناد المذكور ما قاله العلامة ابن القيم في إعلام الموقعين ، قال فيه : وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصا عن الله ورسوله ، فقال شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو ، عن أناس من أصحاب معاذ : أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لما بعثه إلى اليمن قال : " كيف تصنع إن عرض لك قضاء " ؟ قال : أقضي بما في كتاب الله . قال : " فإن لم يكن في كتاب الله " ؟ قال : فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال " فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ؟ قال : أجتهد رأيي ، لا آلو . فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري ثم قال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يرضي رسول الله " . فهذا حديث إن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ ، فلا يضره ذلك ؛ لأنه يدل على شهرة الحديث ، وأن الذي حدث له الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ ، لا واحد منهم ، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم ولو سمي ، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم ، والدين ، والفضل ، والصدق بالمحل الذي لا يخفى ، ولا يعرف في أصحابه متهم ، ولا كذاب ، ولا مجروح ، بل أصحابه من أفاضل المسلمين وخيارهم ، ولا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك ، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث ؟ وقال بعض أئمة الحديث : إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به . قال أبو بكر الخطيب : وقد قيل : إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم ، عن معاذ ، وهذا إسناد متصل ، ورجاله معروفون بالثقة على أن أهل [ ص: 175 ] العلم قد نقلوه واحتجوا به . فوقفنا بذلك على صحته عندهم ، كما وقفنا بذلك على صحة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا وصية لوارث " ، وقوله في البحر : " هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " ، وقوله : " إذا اختلف المتبايعان في الثمن ، والسلعة قائمة تحالفا وترادا البيع " ، وقوله : " الدية على العاقلة " . وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها . فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعا غنوا عن طلب الإسناد له . انتهى منه . وحديث عمرو بن العاص وأبي هريرة الثابت في الصحيحين شاهد له كما قدمنا ، وله شواهد غير ذلك ستراها إن شاء الله تعالى .
المسألة الثالثة :

اعلم أن الاجتهاد الذي دلت عليه نصوص الشرع أنواع متعددة :

( منها ) : الاجتهاد في تحقيق المناط ، وقد قدمنا كثيرا من أمثلته في " الإسراء " .

( ومنها ) : الاجتهاد في تنقيح المناط ، ومن أنواعه : السبر ، والتقسيم ، والإلحاق بنفي الفارق .

واعلم أن الاجتهاد بإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به قسمان :

الأول : الإلحاق بنفي الفارق ، وهو قسم من تنقيح المناط كما ذكرناه آنفا . ويسمى عند الشافعي القياس في معنى الأصل ، وهو بعينه مفهوم الموافقة ، ويسمى أيضا القياس الجلي .

والثاني من نوعي الإلحاق : هو القياس المعروف بهذا الاسم في اصطلاح أهل الأصول .

أما القسم الأول الذي هو الإلحاق بنفي الفارق فلا يحتاج فيه إلى وصف جامع بين الأصل والفرع وهو العلة . بل يقال فيه : لم يوجد بين هذا المنطوق به وهذا المسكوت عنه فرق فيه يؤثر في الحكم ألبتة ، فهو مثله في الحكم ، وأقسامه أربعة ، لأن المسكوت عنه إما أن يكون مساويا للمنطق به في الحكم ، أو أولى به منه ، وفي كل منهما إما أن يكون نفي الفارق بينهما مقطوعا به أو مظنونا . فالمجموع أربعة :

( الأول منها ) : أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به مع القطع بنفي [ ص: 176 ] الفارق ، كقوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] فالضرب المسكوت عنه أولى بالحكم الذي هو التحريم من التأفيف المنطوق به مع القطع بنفي الفارق ، وكقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] فشهادة أربعة عدول المسكوت عنها أولى بالحكم وهو القبول من المنطوق به ، وهو شهادة العدلين مع القطع بنفي الفارق .

( والثاني منها ) : أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به أيضا ، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيا ، بل مظنونا ظنا قويا مزاحما لليقين . ومثاله نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء . فالتضحية بالعمياء المسكوت عنها أولى بالحكم وهو المنع من التضحية بالعوراء المنطوق بها ، إلا أن نفي الفارق بينهما ليس قطعيا بل مظنونا ظنا قويا ؛ لأن علة النهي عن التضحية بالعوراء كونها ناقصة ذاتا وثمنا وقيمة ، وهذا هو الظاهر ، وعليه فالعمياء أنقص منها ذاتا وقيمة . وهناك احتمال آخر : هو الذي منع من القطع بنفي الفارق ، وهو احتمال أن تكون علة النهي عن التضحية بالعوراء أن العور مظنة الهزال ؛ لأن العوراء ناقصة البصر ، وناقصة البصر تكون ناقصة الرعي ؛ لأنها لا ترى إلا ما يقابل عينا واحدة ، ونقص الرعي مظنة للهزال . وعلى هذا الوجه فالعمياء ليست كالعوراء ؛ لأن العمياء يختار لها أحسن العلف ، فيكون ذلك مظنة لسمنها .

( والثالث منها ) : أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم مع القطع بنفي الفارق ؛ كقوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية [ 4 \ 10 ] . فإحراق أموال اليتامى وإغراقها المسكوت عنه مساو للأكل المنطوق به في الحكم الذي هو التحريم ، والوعيد بعذاب النار مع القطع بنفي الفارق . ( والرابع منها ) : أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم أيضا ، إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنا قويا مزاحما لليقين ، ومثاله الحديث الصحيح " من أعتق شركا له في عبد . . " الحديث المتقدم في " الإسراء ، والكهف " ، فإن المسكوت عنه وهو عتق بعض الأمة مساو للمنطوق به وهو عتق بعض العبد في الحكم الذي هو سراية العتق المبينة في الحديث المتقدم مرارا . إلا أن نفي الفارق بينهما مظنون ظنا قويا ؛ لأن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا يناط بهما حكم من أحكام العتق . كما قدمناه مستوفى في سورة " مريم " وهناك احتمال آخر هو الذي منع من القطع بنفي الفارق ، وهو احتمال أن يكون الشارع نص على سراية العتق في خصوص العبد الذكر ، مخصصا له بذلك الحكم دون الأنثى ؛ لأن عتق الذكر يترتب عليه من الآثار الشرعية ما لا يترتب على عتق [ ص: 177 ] الأنثى ، كالجهاد ، والإمامة ، والقضاء ، ونحو ذلك من المناصب المختصة بالذكور دون الإناث . وقد أكثرنا من أمثلة هذا النوع الذي هو الإلحاق بنفي الفارق في سورة " بني إسرائيل " .

( وأما النوع الثاني من أنواع الإلحاق ) : فهو القياس المعروف في الأصول ، وهو المعروف بقياس التمثيل . وسنعرفه هنا لغة واصطلاحا ، ونذكر أقسامه ، وما ذكره بعض أهل العلم من أمثلته في القرآن :

اعلم أن القياس في اللغة : التقدير والتسوية . يقال : قاس الثوب بالذراع ، وقاس الجرح بالميل ( بالكسر ) وهو المرود ، إذا قدر عمقه به ؛ ولهذا سمي الميل مقياسا ، ومن هذا المعنى قول البعيث بن بشر يصف جراحة أو شجة :



إذا قاسها الآسي النطاسي أدبرت غثيثتها وازداد وهيا هزومها
فقوله : " قاسها " يعني قدر عمقها بالميل .

والآسي : الطبيب ، والنطاسي ( بكسر النون وفتحها ) : الماهر بالطب ، والغثيثة ( بثاءين مثلثتين ) : مدة الجرح وقيحه ، وما فيه من لحم ميت ، والوهي : التخرق والتشقق ، والهزوم : غمز الشيء باليد فيصير فيه حفرة كما يقع في الورم الشديد .

وتعريف القياس المذكور في اصطلاح أهل الأصول كثرت فيه عبارات الأصوليين مع مناقشات معروفة في تعريفاتهم له . واختار غير واحد منهم تعريفه بأنه حمل معلوم على معلوم ، أي : إلحاقه به في حكمه لمساواته له في علة الحكم . وهذا التعريف إنما يشمل القياس الصحيح دون الفاسد . والتعريف الشامل للفاسد هو أن تزيد على تعريف الصحيح لفظة عند الحامل ، فتقول : هو إلحاق معلوم في حكمه لمساواته له في علة الحكم عند الحامل ، فيدخل الفاسد في الحد مع الصحيح ، كما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله معرفا للقياس :



يحمل معلوم على ما قد علم للاستوا في علة الحكم وسم
وإن ترد شموله لما فسد فزد لدى الحامل والزيد أسد

ومعلوم أن أركان القياس المذكور أربعة : وهي الأصل المقيس عليه ، والفرع المقيس ، والعلة الجامعة بينهما ، وحكم الأصل المقيس عليه .

فلو قسنا النبيذ على الخمر ، فالأصل : الخمر ، والفرع : النبيذ ، والعلة : الإسكار ، [ ص: 178 ] وحكم الأصل الذي هو الخمر : التحريم . وشروط هذه الأركان الأربعة والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه ، فلا نطيل به الكلام هنا .

واعلم أن القياس المذكور ينقسم بالنظر إلى الجامع بين الفرع والأصل إلى ثلاثة أقسام :

الأول : قياس العلة .

والثاني : قياس الدلالة .

والثالث : قياس الشبه .

أما قياس العلة فضابطه أن يكون الجمع بين الفرع والأصل بنفس علة الحكم ، فالجمع بين النبيذ والخمر بنفس العلة التي هي الإسكار ، والقصد مطلق التمثيل ؛ لأنا قد قدمنا أن قياس النبيذ على الخمر لا يصح ؛ لوجود النص على أن كل مسكر خمر ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام " . والقياس لا يصح مع التنصيص على أن حكم الفرع المذكور كحكم الأصل ، إلا أن المثال يصح بالتقدير والفرض ، ومطلق الاحتمال كما تقدم . وكالجمع بين البر والذرة بنفس العلة التي هي الكيل مثلا عند من يقول بذلك ، وإلى هذا أشار في المراقي بقوله :



وما بذات علة قد جمعا فيه فقيس علة قد سمعا

وأما قياس الدلالة فضابطه أن يكون الجمع فيه بدليل العلة لا بنفس العلة ، كأن يجمع بين الفرع والأصل بملزوم العلة أو أثرها أو حكمها . فمثال الجمع بملزوم العلة أن يقال : النبيذ حرام كالخمر بجامع الشدة المطربة ، وهي ملزوم للإسكار ، بمعنى أنها يلزم من وجود الإسكار . ومثال الجمع بأثر العلة أن يقال : القتل بالمثقل يوجب القصاص كالقتل بمحدد ، بجامع الإثم وهو أثر العلة وهي للقتل العمد العدوان . ومثال الجمع بحكم العلة أن يقال : تقطع الجماعة بالواحد كما يقتلون به ، بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك حيث كان غير عمد ، وهو حكم العلة التي هي القطع منهم في الصورة الأولى ، والقتل منهم في الثانية . وإلى تعريف قياس الدلالة المذكور أشار في مراقي السعود بقوله :



جامع ذي الدلالة الذي لزم فأثر فحكمها كما رسم

وقوله : " الذي لزم " بالبناء للفاعل يعني اللازم ، وتعبيره هنا باللازم تبعا لغيره غلط منه وممن تبعه هو ؛ لأن وجود اللازم لا يكون دليلا على وجود الملزوم بإطباق [ ص: 179 ] العقلاء ؛ لاحتمال كون اللازم أعم من الملزوم ، ووجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص كما هو معروف . ولذا أجمع النظار على أن استثناء عين التالي في الشرط المتصل لا ينتج عين المقدم ؛ لأن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم ، والصواب ما مثلنا به من الجمع بملزوم العلة ؛ لأن الملزوم هو الذي يقتضي وجوده وجود اللازم كما هو معروف ، فالشدة المطربة والإسكار متلازمان ، ودلالة الشدة المطربة على الإسكار إنما هي من حيث إنها ملزوم له لا لازم ، لما عرفت من أن وجود اللازم لا يقتضي وجود الملزوم ، واقتضاؤه له هنا إنما هو للملازمة بين الطرفين ؛ لأن كلا منهما لازم للآخر وملزوم له للملازمة بينهما من الطرفين .

وأما قياس الشبه فقد اختلفت فيه عبارات أهل الأصول ، فعرف بعضهم الشبه بأنه منزلة بين المناسب والطرد ، وعرفه بعضهم بأنه المناسب بالتبع بالذات . ومعنى هذا كمعنى تعريف من عرفه بأنه المستلزم للمناسب .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : عبارات أهل الأصول في الشبه الذي هو المسلك السادس من مسالك العلة عند المالكية والشافعية كلها تدور حول شيء واحد ، وهو أن الوصف الجامع في قياس الشبه يشبه المناسب من وجهه ، ويشبه الوصف الطردي من جهة أخرى .

وقد قدمنا في سورة " مريم " أن المناسب هو الوصف الذي تتضمن إناطة الحكم به مصلحة من جلب نفع أو دفع ضر ، والطردي هو ما ليس كذلك ، إما في جميع الأحكام وإما في بعضها ، ولا خلاف بين أهل الأصول في أن ما يسمى بغلبة الأشباه لا يخرج عن قياس الشبه ؛ لأن بعضهم يقول : إنه داخل فيه ، وهو الظاهر ، وبعضهم يقول : هو بعينه لا شيء آخر . وغلبة الأشياء هو إلحاق فرع متردد بين أصلين بأكثرهما شبها به ، كالعبد فإنه متردد بين أصلين لشبهه بكل واحد منهما ، فهو يشبه المال لكونه يباع ويشترى ويوهب ويورث إلى غير ذلك من أحوال المال ، ويشبه الحر من حيث إنه إنسان ينكح ويطلق ويثاب ويعاقب ، وتلزمه أوامر الشرع ونواهيه . وأكثر أهل العلم يقولون : إن شبهه بالمال أكثر من شبهه بالحر ؛ لأنه يشبه المال في الحكم والصفة معا أكثر مما يشبه الحر فيهما .

فمن شبهه بالمال في الحكم : كونه يباع ويشترى ويورث ، ويوهب ويعار ، ويدفع في الصداق والخلع ، ويرهن ، إلى غير ذلك من التصرفات المالية .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (299)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 180 إلى صـ 186




ومن شبهه بالمال في الصفة : كونه تتفاوت قيمته بحسب تفاوت أوصافه جودة [ ص: 180 ] ورداءة كسائر الأموال . فلو قتل إنسان عبدا لآخر لزمته قيمته نظرا إلى أن شبهه بالمال أغلب . وقال بعض أهل العلم : تلزمه ديته كالحر زعما منه أن شبهه بالحر أغلب ، فإن قيل : بأي طريق يكون هذا النوع الذي هو غلبة الأشباه من الشبه ؛ لأنكم قررتم أنه مرتبة بين المناسب والطردي ، فما وجه كونه مرتبة بين المناسب والطردي ؟ فالجواب أن إيضاح ذلك فيه أن أوصافه المشابهة للمال ككونه يباع ويشترى . . إلخ طردية بالنسبة إلى لزوم الدية ؛ لأن كونه كالمال ليس صالحا لأن يناط به لزوم ديته إذا قتل ، وكذلك أوصافه المشابهة للحر ككونه مخاطبا يثاب ويعاقب إلخ . فهي طردية بالنسبة إلى لزوم القيمة ؛ لأن كونه كالحر ليس صالحا لأن يناط به لزوم القيمة ، فهو من هذه الحيثية يشبه الطردي كما ترى ، أما ترتب القيمة على أوصافه المشابهة لأوصاف المال فهو مناسب كما ترى ، وكذلك ترتب الدية على أوصافه المشابهة لأوصاف الحر مناسب ، وبهذين الاعتبارين يتضح كونه مرتبة بين المناسب والطردي .

ومن أمثلة أنواع الشبه غير غلبة الأشباه : الشبه الذي الوصف الجامع فيه لا يناسب لذاته ، ولكنه يستلزم المناسب لذاته ، وقد شهد الشرع بتأثير جنسه القريب في جنس الحكم القريب ، كقولك في الخل : مائع لا تبنى القنطرة على جنسه ، فلا يرفع به الحدث ولا حكم الخبث - قياسا على الدهن . فقولك : " لا تبنى القنطرة على جنسه " ليس مناسبا في ذاته ؛ لأن بناء القنطرة على المائع في حد ذاته وصف طردي إلا أنه مستلزم للمناسب ، لأن العادة المطردة أن القنطرة لا تبنى على المائع القليل ، بل على الكثير كالأنهار ، والقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من المائعات للطهارة العامة ، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون أسبابه عامة الوجود ، أما تكليف الجميع بما لا يجده إلا البعض فبعيد من القواعد ، فصار قولك : " لا تبنى القنطرة على جنسه " ليس بمناسب ، وهو مستلزم للمناسب . وقد شهد الشرع بتأثير جنس القلة ، والتعذر في عدم مشروعية الطهارة ، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه الحاجة فإنه يسقط الأمر بالطهارة به وينتقل إلى التيمم .

وأما الشبه الصوري فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ 16 \ 66 ] وقد قدمنا في أول سورة " براءة " كلام ابن العربي الذي قال فيه : ألا ترى إلى عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس النسبة عند عدم النص ، ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها ، فإذا كان القياس [ ص: 181 ] يدخل في تأليف القرآن ، فما ظنك بسائر الأحكام ؟ وإلى الشبه المذكور أشار في مراقي السعود بقوله :



والشبه المستلزم المناسبا مثل الوضو يستلزم التقربا
مع اعتبار جنسه القريب في مثله للحكم لا الغريب
صلاحه لم يدر دون الشرع ولم ينط مناسب بالسمع
وحيثما أمكن قيس العلة فتركه بالاتفاق أثبت
إلا ففي قبوله تردد غلبة الأشباه هو الأجود
في الحكم والصفة ثم الحكم فصفة فقط لدى ذي العلم
وابن علية يرى للصوري كالقيس للخيل على الحمير

واعلم أن قياس الطرد يصدق بأمرين ؛ لأن الطرد يطلق إطلاقين : يطلق على الوصف الطردي الذي لا يصلح لإناطة حكم به لخلوه من الفائدة . كما لو ظن بعض القائلين بنقض الوضوء بلحم الجزور أن علة النقض به الحرارة ، فألحق به لحم الظبي قائلا : إنه ينقض الوضوء قياسا على لحم الجزور بجامع الحرارة ، فهذا القياس باطل ; لأن الوصف الجامع فيه طردي . ومثله كل ما كان الوصف الجامع فيه طرديا وهو أحد الأمرين للذين يطلق عليهما قياس الطرد .

والأمر الثاني : منهما هو القياس الذي الوصف الجامع فيه مستنبطا بالمسلك الثامن المعروف ( بالطرد ) وهو الدوري الوجودي ، وإيضاحه أنه مقارنة الحكم للوصف في جميع صوره غير الصورة التي فيها النزاع في الوجود فقط دون العدم . والاختلاف في إفادته العلة معروف في الأصول .

واعلم أن القياس وما يتعلق به موضح في فن أصول الفقه ، والأدلة التي تدل على أن الوصف المعين علة للحكم المعين هي المعروفة بمسالك العلة ، وهي عشرة عند من يعد منها إلغاء الفارق ، وتسعة عند من لا يعده منها ، وهي : النص ، والإجماع ، والإيماء ، والسبر ، والتقسيم ، والمناسبة ، والشبه ، والدوران ، والطرد ، وتنقيح المناط ، وإلغاء الفارق . والتحقيق أنه نوع من تنقيح المناط كما قدمنا .

وقد نظمها بعضهم بقوله :



مسالك علة رتب فنص فإجماع فإيماء فسبر
مناسبة كذا مشبه فيتلو له الدوران طرد يستمر
فتنقيح المناط فألغ فرقا وتلك لمن أراد الحصر عشر

[ ص: 182 ] ومحل إيضاحها فن أصول الفقه ، وقد أوضحناها في غير هذا المحل .

وأما القوادح في الدليل من قياس وغيره فهي معروفة في فن الأصول ، وقد نظمها باختصار الشيخ عمر الفاسي بقوله :



القدح بالنقض وبالكسر معا تخلف العكس وبالقلب اسمعا
وعدم التأثير بالوصف وفي أصل وفرع ثم حكم فاقتفي
والمنع والفرق وبالتقسيم وباختلاف الضابط المعلوم
وفقد الانضباط والظهور والخدش في تناسب المذكور
وكون ذاك الحكم لا يفضي إلى مقصود ذي الشرع العزيز فاقبلا
والخدش في الوضع والاعتبار والقول بالموجب ذو اعتبار
وابدأ باستفسار في الإجمال أو الغرابة بلا إشكال

وإنما لم نوضح هنا المسالك والقوادح ؛ لأن ذلك يفضي إلى الإطالة المملة ، مع أن الجميع موضح في أصول الفقه ، وقد أوضحناه في غير هذا الموضع ، وقصدنا هنا التنبيه عليه في الجملة من غير تفصيل . فإذا علمت ذلك فاعلم أن العلامة ابن القيم تعالى شفى الغليل بما لا مزيد عليه في هذه المسائل في كتابه إعلام الموقعين عن رب العالمين ، وسنذكر هنا إن شاء الله جملا وافية مفيدة من كلامه في هذا الموضوع الذي نحن بصدده . قال في كلامه على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في رسالته المشهورة إلى أبي موسى : ( ثم الفهم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ، ولا سنة ، قايس بين الأمور عند ذلك ، واعرف الأمثال ، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله ، وأشبهها بالحق ) ما نصه :

هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة ، قالوا : هذا كتاب عمر إلى أبي موسى ولم ينكره أحد من الصحابة ، بل كانوا متفقين على القول بالقياس وهو أحد أصول الشريعة ، ولا يستغني عنه فقيه . وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه ، فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان ، وجعل النشأة الأولى أصلا والثانية فرعا عليها ، وقاس حياة الأموات على حياة الأرض بعد موتها بالنبات ، وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السماوات والأرض ، وجعله من قياس الأولى ، كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى ، وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم ، وضرب الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة ، وكلها أقيسة عقلية ينبه بها [ ص: 183 ] عباده على أن حكم الشيء حكم مثله ، فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به . وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره ، والتسوية بينهما في الحكم ، وقال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] بالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل ، وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما ، والفرق بين المختلفين وإنكار الجمع بينهما ، قالوا : ومدار الاستدلال جمعية على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين ، فإنه إما استدلال بمعين على معين ، أو بمعين على عام ، أو بعام على معين ، أو بعام على عام ، فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال . فالاستدلال بالمعين على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه بكل ملزوم دليل على لازمه ، فإن كان التلازم من الجانبين كان كل منهما دليلا على الآخر ومدلولا له . وهذا النوع ثلاثة أقسام : أحدها : الاستدلال بالمؤثر على الأثر ، والثاني : الاستدلال بالأثر على المؤثر . والثالث : الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر . فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق . والثاني : كالاستدلال بالحريق على النار . والثالث : كالاستدلال بالحريق على الدخان . ومدار ذلك كله على التلازم ، والتسوية بين المتماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر ، وقياس الفرق هو استدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر ، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه ، فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طريق الاستدلال ، وغلقت أبوابه .

قالوا : وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين ، إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلا على الأمر العام المشترك بين الأفراد . ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره ، على أن هذا الحكم عام شامل على من سلك سبيلهم ، واتصف بصفتهم ، وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال ، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم ، كما قال تعالى عقب إخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم : أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر [ 54 \ 43 ] فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة ، وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية ولا تمت الحجة . ومثل هذا قوله تعالى عقيب إخباره عن عقوبة قوم هود حين رأوا العارض في السماء : هذا عارض ممطرنا [ 46 \ 24 ] فقال تعالى : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم [ ص: 184 ] تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين [ 46 \ 24 ] ثم قال : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 46 \ 26 ] فتأمل قوله : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه تجد المعنى أن حكمكم كحكمهم ، وأنا إذا كنا قد أهلكناهم بمعصية رسولنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين ، وأن هذا محض عدل الله بين عباده . ومن ذلك قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله . وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالمسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب ، أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار ، أو كان اللفظ يعمهما ، وهو الصواب ؛ فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك ؛ ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حل بالمكذبين ، ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار ، وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم ، فقال تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون [ 68 \ 35 - 36 ] وأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول ، لا تليق نسبته إلى سبحانه . وقال تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] وقال تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] أفلا تراه كيف ذكر العقول ، ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره ، وعدم التسوية بين الشيء ومخالفه في الحكم . وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه ، وجعله قرينه ووزيره ، فقال تعالى : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان [ 42 \ 17 ] وقال : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] وقال تعالى : الرحمن علم القرآن [ 55 \ 1 - 2 ] فهذا الكتاب ، ثم قال : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] والميزان يراد به العدل ، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده . والقياس الصحيح هو الميزان ، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به ؛ فإنه [ ص: 185 ] يدل على العدل ، وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان ، بخلاف اسم القياس ، فإنه ينقسم إلى حق وباطل ، وممدوح ومذموم ؛ ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه ، ولا الأمر به ، ولا النهي عنه ، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد ، فالصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه ، والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية ، وقاس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح - هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل الله - ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس ، وأنه ليس من الدين ، وتجد في كلامهم استعماله ، والاستدلال به ، وهذا حق وهذا حق ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
والأقيسة المستعملة في الاستدلال ثلاثة : قياس علة ، وقياس دلالة ، وقياس شبه ، وقد وردت كلها في القرآن . فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع ، منها قوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [ 3 \ 59 ] فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين ، بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات ، وهو مجيئها طوعا لمشيئته وتكوينه ، فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم ووجود حواء من غير أم ، فآدم وعيسى نظيران يجمعهما الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به .

ومنها قوله تعالى : قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين [ 3 \ 137 ] أي : قد كان من قبلكم أمم أمثالكم ، فانظروا إلى عواقبهم السيئة ، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله ، وهم الأصل وأنتم الفرع ، والعلة الجامعة : التكذيب ، والحكم : الهلاك .

ومنها قوله تعالى : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين [ 6 \ 6 ] فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون ، وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم ، فهم الأصل ونحن الفرع ، والذنوب العلة الجامعة ، والحكم : الهلاك . فهذا محض قياس العلة ، وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى ، [ ص: 186 ] وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم . ومنه قوله تعالى : كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون [ 9 ] وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به ، فقيل : هو رفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : أنتم كالذين من قبلكم . وقيل : نصب بفعل محذوف تقديره : فعلتم كفعل الذين من قبلكم . والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل ، وقيل : التشبيه في العذاب . ثم قيل : العامل محذوف ، أي : لعنهم وعذبهم كما لعن [ الذين ] من قبلهم . وقيل بل العامل ما تقدم ، أي : وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ، ولعنهم كلعنهم ، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم .

والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد ، وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال ، وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا فرق غير مؤثر ، فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر ، وألغى الوصف الفارق ، ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء ، فقال : فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا [ 9 ] فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع ، وقوله : أولئك حبطت أعمالهم هو الحكم ، والذين من قبلهم الأصل ، والمخاطبون الفرع .

قال عبد الرزاق في تفسيره : أنا معمر عن الحسن في قوله : فاستمتعوا بخلاقهم قال بدينهم ، ويروى عن أبي هريرة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-05-31, 11:50 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (300)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 187 إلى صـ 193


وقال ابن عباس : استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا . وقال آخرون : بنصيبهم من الدنيا . وحقيقة الأمر أن الخلاق هو النصيب والحظ ، كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له ، كما يقال : قسمه الذي قسم له ، ونصيبه الذي نصب له أي : أثبت ، وقطه الذي قط له أي : قطع ، ومنه قوله تعالى : وما له في الآخرة من خلاق [ 2 \ 200 ] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما يلبس الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة " . والآية تتناول ما ذكره السلف كله ، فإنه سبحانه قال : كانوا أشد منهم قوة [ 9 ] فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة ، وكذلك الأموال ، والأولاد ، وتلك القوة ، [ ص: 187 ] والأموال والأولاد هي الخلاق ، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم في الدنيا ، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعوا به .

ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة ، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة ، وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها . ثم ذكر سبحانه حال الفروع ، فقال : فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم فدل هذا على أن حكمهم حكمهم ، وأنهم ينالهم ما ينالهم ؛ لأن حكم النظير حكم نظيره . ثم قال : وخضتم كالذي خاضوا . فقيل " الذي " صفة لمصدر محذوف ، أي : كالمخوض الذي خاضوا ، وقيل : لموصوف محذوف . أي : كخوض القوم الذي خاضوا وهو فاعل الخوض .

وقيل : " الذي " مصدرية كـ " ما " أي : كخوضهم . وقيل : هي موضع " الذين " . والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل ؛ لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد بالباطل والتكلم به وهو الخوض ، أو يقع بالعمل بخلاف الحق ، والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق . فالأول البدع . والثاني اتباع الهوى ، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء ، وبهما كذبت الرسل وعصي الرب ، ودخلت النار وحلت العقوبات .

فالأول من جهة الشبهات ، والثاني من جهة الشهوات ؛ ولهذا كان السلف يقولون : احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعجبته دنياه . وكانوا يقولون : احذروا فتنة العالم الفاجر ، والعابد الجاهل ؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون ، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه ، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم .

وفي صفة الإمام أحمد عن الدنيا ما كان أصبره ، وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها ، والدنيا فأباها . وهذه حال أئمة المتقين ، الذين وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ 32 \ 24 ] فبالصبر تترك الشهوات ، وباليقين تدفع الشبهات ، كما قال تعالى : وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 3 ] وقوله تعالى : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار [ 38 \ 45 ] .

[ ص: 188 ] وفي بعض المراسيل : " إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات ، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات . فقوله تعالى : فاستمتعتم بخلاقكم إشارة إلى اتباع الشهوات ، وهو داء العصاة . وقوله : وخضتم كالذي خاضوا إشارة إلى الشبهات ، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات ، وكثيرا ما يجتمعان ، فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله . والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم ، ويخوض كخوضهم ، وأن لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم ، ثم حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم ، فقال : ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 9 \ 70 ] فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لما علق عليه من الحكم ، وأن الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب ، وأكده كما تقدم بضرب من الأولى وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد ، فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه . ومنه قوله تعالى : وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133 ] فهذا قياس جلي ، يقول سبحانه : إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم ، كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم ، بذكر أركان القياس الأربعة : علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها ، والحكم وهو إذهابه إياهم وإتيانه بغيرهم ، والأصل وهو ما كان من قبل ، والفرع وهم المخاطبون . ومنه قوله تعالى : بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين [ 10 \ 39 ] فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به ، والفرع نفوسهم ، فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة . ومنه قوله تعالى : إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا [ 73 \ 15 - 16 ] فأخبر سبحانه أنه أرسل موسى إلى فرعون ، وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذا وبيلا . فهكذا من عصى منكم محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهذا في القرآن كثير جدا فقد فتح لك بابه .
فصل

وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع ، بدليل العلة وملزومها . ومنه [ ص: 189 ] قوله تعالى : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه ، على الإحياء الذي استبعدوه ، وذلك قياس إحياء على إحياء ، واعتبار الشيء فنظيره ، والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته ، وإحياء الأرض دليل العلة ، ومنه قوله تعالى : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] .

فدل بالنظير على النظير ، وقرب أحدهما من الآخر جدا بلفظ الإخراج ، أي : يخرجون من الأرض أحياء كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ومنه قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] فبين سبحانه كيفية الخلق واختلاف أحوال الماء في الرحم إلى أن صار منه الزوجان : الذكر والأنثى ، وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء ، ونبه سبحانه عباده بما أحدثه في النطفة المهينة الحقيرة من الأطوار ، وسوقها في مراتب الكمال ، من مرتبة إلى مرتبة أعلى منها ، حتى صارت بشرا سويا في أحسن خلقة وتقويم ، على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سدى مهملا معطلا . لا يأمره ، ولا ينهاه ، ولا يقيمه في عبوديته ، وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بشرا سويا ، فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقا بعد طبق ، وحالا بعد حال ، إلى أن يصير جاره في داره يتمتع بأنواع النعيم ، وينظر إلى وجهه ، ويسمع كلامه . . . إلى آخر كلام ابن القيم ، فإنه أطال في ذكر الأمثلة على النحو المذكور ، ولم نذكر جميع كلامه خوفا من الإطالة المملة ، وفيما ذكرنا من كلامه تنبيه على ما لم نذكره ، وقد تكلم على قياس الشبه ، فقال فيه :

وأما قياس الشبه فلم يحكه الله سبحانه إلا عن المبطلين . فمنه قوله تعالى إخبارا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصواع في رحل أخيهم : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل [ 12 \ 77 ] فلم يجمعوا بين الفرع والأصل بعلة ولا دليلها ، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مجرد الشبه الجامع بينه وبين يوسف ، فقالوا هذا مقيس على أخيه بينهما شبه من وجوه عديدة ، وذلك قد سرق فكذلك هذا ، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ ، والقياس بالصورة المجردة عن العلة المقتضية للتساوي ، وهو قياس فاسد ، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كان حقا ، ولا دليل على [ ص: 190 ] التساوي فيها ، فيكون الجمع لنوع شبه خال من العلة ودليلها .

ثم ذكر لقياس الشبه الفاسد أمثلة أخرى في الآيات الدالة على أن الكفار كذبوا الرسل بقياس الشبه حيث شبهوهم بالبشر ، وزعموا أن ذلك الشبه مانع من رسالتهم . كقوله تعالى عن الكفار أنهم قالوا : ما نراك إلا بشرا مثلنا [ 11 \ 27 ] وقوله تعالى عنهم : ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه الآية [ 23 \ 33 ] . إلى غير ذلك من الآيات . فالمشابهة بين الرسل وغيرهم في كون الجميع بشرا لا تقتضي المساواة بينهم في انتقاء الرسالة عنهم جميعا ، ولما قالوا للرسل : ما أنتم إلا بشر مثلنا [ 36 \ 15 ] أجابوهم بقولهم : إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] وقياس الكفار الرسل على سائر البشر في عدم الرسالة قياس ظاهر البطلان ؛ لأن الواقع من التخصيص والتفضيل ، وجعل بعض البشر شريفا وبعضه دنيا ، وبعضه مرءوسا وبعضه رئيسا ، وبعضه ملكا وبعضه سوقا - يبطل هذا القياس . كما أشار إليه جواب الرسل المذكور آنفا ، يشير إليه قوله تعالى : أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 ] وهذه الأمثلة من قياس الشبه ليس فيها وصف مناسب بالذات ولا بالتبع . فلذلك كانت باطلة .

ثم ذكر ابن القيم أن جميع الأمثال في القرآن كلها قياسات شبه صحيحة ؛ لأن حقيقة المثل تشبيه شيء بشيء في حكمه ، وتقريب المعقول من المحسوس أو أحد المحسوسين من الآخر واعتبار أحدهما بالآخر . ثم سرد الأمثال القرآنية ذلك فيها واحدا واحدا ، وأطال الكلام في ذلك فأجاد وأفاد .

وقال في آخر كلامه : قالوا فهذا بعض ما اشتمل عليه القرآن من التمثيل ، والقياس ، والجمع ، والفرق ، واعتبار العلل ، والمعاني وارتباطها بأحكامها تأثيرا واستدلالا . قالوا : وقد ضرب الله سبحانه الأمثال ، وصرفها قدرا وشرعا ، ويقظة ومناما ، ودل عباده على الاعتبار بذلك ، وعبورهم من الشيء إلى نظيره ، واستدلالهم بالنظير على النظير . بل هذا أصل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ، ونوع من أنواع الوحي ، فإنها مبنية على القياس ، والتمثيل ، واعتبار المعقول بالمحسوس .

ألا ترى أن الثياب في التأويل كالقمص تدل على الدين فما كان فيها من طول أو [ ص: 191 ] قصر ، أو نظافة أو دنس فهو في الدين . كما أول النبي - صلى الله عليه وسلم - القميص بالدين والعلم ، والقدر المشترك بينهما أن كلا منهما يستر صاحبه ويجمله بين الناس .

ومن هذا تأويل اللبن بالفطرة ؛ لما في كل منهما من التغذية الموجبة للحياة وكمال النشأة ، وأن الطفل إذا خلي وفطرته لم يعدل عن اللبن . فهو مفطور على إيثاره على ما سواه ، وكذلك فطرة الإسلام التي فطر الله عليها الناس .

ومن هذا تأويل البقر بأهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض ، كما أن البقر كذلك مع عدم شرها وكثرة خيرها ، وحاجة الأرض وأهلها إليها ؛ ولهذا لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقرا تنحر كان ذلك نحرا في أصحابه .

ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل ؛ لأن العامل زارع للخير والشر ، ولا بد أن يخرج له ما بذره كما يخرج للباذر زرع ما بذره ، فالدنيا مزرعة ، والأعمال البذر ، ويوم القيامة يوم طلوع الزرع وحصاده .

ومن ذلك تأويل الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين ، والجامع بينهما أن المنافق لا روح فيه ، ولا ظل ، ولا ثمر ، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك ؛ ولهذا شبه تعالى المنافقين بالخشب المسندة ؛ لأنهم أجسام خالية عن الإيمان والخير ، وفي كونها مسندة نكتة أخرى وهي أن الخشب إذا انتفع به جعل في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع ، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به جعل مسندا بعضه إلى بعض ، فشبه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع فيها بها . . . إلى آخر كلامه . وقد ذكر أشياء كثيرة من عبارة الرؤيا فأجاد وأفاد ، وكلها راجعة إلى اعتبار النظير بنظيره ، وذلك كله يدل دلالة واضحة على أن نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل .

ثم قال ابن القيم : فهذا شرع الله وقدره ووحيه ، وثوابه وعقابه ، كله قائم بهذا الأصل وهو إلحاق النظير بالنظير ، واعتبار المثل بالمثل ؛ ولهذا يذكر الشارع العلل والأوصاف المؤثرة ، والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية ، والشرعية ، والجزائية ؛ ليدل بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت ، واقتضائها لأحكامها ، وعدم تخلفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويوجب تخلف آثارها عنها ، كقوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله [ 59 \ 4 ] ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم [ 40 \ 12 ] ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 35 ] ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما [ ص: 192 ] كنتم تمرحون [ 40 ] ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 28 ] ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر [ 47 \ 26 ] وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم [ 41 ] .

وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة ، وباللام تارة ، وبـ " أن " تارة ، وبمجموعهما تارة ، وبـ " كي " تارة ، و " من أجل " تارة ، وترتيب الجزاء على الشرط تارة ، وبالفاء المؤذنة بالسببية تارة ، وترتيب الحكم على الوصف المقتضي له تارة ، وبـ " لما " تارة ، وبـ " أن " المشددة تارة ، وبـ " لعل " تارة ، وبالمفعول له تارة . فالأول كما تقدم ، واللام كقوله : ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض [ 5 \ 97 ] و " أن " كقوله : أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا [ 6 \ 156 ] ثم قيل : التقدير لئلا تقولوا ، وقيل : كراهة أن تقولوا . و " أن واللام " كقوله : لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] وغالب ما يكون هذا النوع في النفي ، فتأمله .

و " كي " كقوله : كي لا يكون دولة [ 59 \ 7 ] والشرط والجزاء كقوله : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا [ 3 \ 120 ] والفاء كقوله : فكذبوه فأهلكناهم [ 26 \ 139 ] فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية [ 69 \ 10 ] فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا [ 73 \ 16 ] وترتيب الحكم على الوصف كقوله : يهدي به الله من اتبع رضوانه [ 5 \ 15 ] وقوله : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات [ 58 \ 11 ] وقوله : إنا لا نضيع أجر المصلحين [ 7 \ 170 ] ولا نضيع أجر المحسنين [ 12 \ 56 ] وأن الله لا يهدي كيد الخائنين [ 12 \ 52 ] ولما كقوله : فلما آسفونا انتقمنا منهم [ 43 ] فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 7 \ 166 ] وإن المشددة كقوله : إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ 21 \ 77 ] إنهم كانوا قوم سوء فاسقين [ 21 ] ولعل كقوله : لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] لعلكم تعقلون [ 2 ] لعلكم تذكرون [ 24 ] والمفعول له كقوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [ 92 \ 19 - 21 ] أي : لم يفعل ذلك جزاء نعمة أحد من الناس ، وإنما فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى . و " من أجل " كقوله : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل [ 5 ] .

[ ص: 193 ] وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - علل الأحكام ، والأوصاف المؤثرة فيها ؛ ليدل على ارتباطها بها ، وتعديها بتعدي أوصافها وعللها ، كقوله في نبيذ التمر : " تمرة طيبة ، وماء طهور " ، وقوله : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، وقوله : " إنما نهيتكم من أجل الدافة " ، وقوله في الهرة : " ليست بنجس ، إنها من الطوافين عليكم والطوافات " ، ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقصته ناقته وتقريبه الطيب ، وقوله : " فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " ، وقوله : " إنكم إذا فعلتم ذلكم قطعتم أرحامكم " ذكره تعليلا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها . وقوله تعالى : ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ 2 \ 222 ] وقوله في الخمر والميسر : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر - : " أينقص الرطب إذا جف " ؟ قالوا نعم . فنهى عنه . وقوله : " لا يتناجى اثنان دون الثالث ؛ فإن ذلك يحزنه " . وقوله : " إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامقلوه ، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ، وإنه يتقي بالجناح الذي فيه الداء " وقوله : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ؛ فإنها رجس " وقال - وقد سئل عن مس الذكر هل ينقض الوضوء " هل هو إلا بضعة منك " ، وقوله في ابنة حمزة : " إنها لا تحل لي ؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة " ، وقوله في الصدقة : " إنها لا تحل لآل محمد ؛ إنما هي أوساخ الناس " . وقد قرب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحكام لأمته بذكر نظائرها وأسبابها ، وضرب لها الأمثال . . . إلى آخر كلامه .

وقد ذكر فيه أقيسة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - منها قياس القبلة على المضمضة في حديث عمر المتقدم ، وقياس دين الله على دين الآدمي في وجوب القضاء . وقد قدمناه مستوفى كما قبله في سورة " بني إسرائيل " .

ومنها قياس العكس في حديث : أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال : " أرأيتم وضعها في حرام ، أيكون عليه وزر " وقد قدمناه مستوفى في سورة " التوبة " .

ومنها قصة الذي ولدت امرأته غلاما أسود ، وقد قدمنا ذلك مستوفى في سورة " بني إسرائيل " .

ومنها حديث المستحاضة الذي قاس فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - دم العرق الذي هو دم الاستحاضة على غيره من دماء العروق التي لا تكون حيضا . وكل ذلك يدل على أن إلحاق [ ص: 194 ] النظير بالنظير من الشرع ، لا مخالف له كما يزعمه الظاهرية ومن تبعهم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:07 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (301)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 194 إلى صـ 200


المسألة الرابعة

اعلم أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يجتهدون في مسائل الفقه في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليهم ، وبعد وفاته من غير نكير . وسنذكر هنا إن شاء الله تعالى أمثلة كثيرة لذلك .

فمن ذلك أمره - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يصلوا العصر في بني قريظة ، فاجتهد بعضهم وصلاها في الطريق ، وقال : لم يرد منا تأخير العصر ، وإنما أراد سرعة النهوض . فنظروا إلى المعنى . واجتهد آخرون وأخروها إلى بني قريظة ، فصلوها ليلا . وقد نظروا إلى اللفظ ، وهؤلاء سلف أهل الظاهر ، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس .

ومنها : أن عليا - رضي الله عنه - لما كان باليمن أتاه ثلاثة نفر يختصمون في غلام ، فقال كل منهم : هو ابني . فأقرع بينهم ، فجعل الولد للقارع ، وجعل عليه للرجلين الآخرين ثلثي الدية . فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه من قضاء علي - رضي الله عنه . ومنها : اجتهاد سعد بن معاذ - رضي الله عنه - في حكمه في بني قريظة ، وقد صوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " .

ومنها : اجتهاد الصالحين اللذين خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء ، فصليا ثم وجدا الماء في الوقت ، فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر . فصوبهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال للذي لم يعد : " أصبت السنة وأجزأتك صلاتك " ، وقال للآخر : " لك الأجر مرتين " .

ومنها : اجتهاد مجزز المدلجي بالقيافة ، وقال : إن أقدام زيد وأسامة بعضها من بعض ، وقد سر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حتى برقت أسارير وجهه . وذلك دليل على صحة إلحاق ذلك القائف الفرع بالأصل ، مع أن زيدا أبيض وأسامة أسود ، فألحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله ، وألغى وصف السواد والبياض الذي لا تأثير له في الحكم .

ومنها : اجتهاد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في الكلالة ، قال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ( أراه ما خلا الوالد والولد ) فلما استخلف عمر قال : إني لأستحيي من الله أن أرد شيئا قاله أبو بكر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومن أغرب الأشياء عندي ما جاء عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار له إلى معنى الكلالة إشارة واضحة ظاهرة [ ص: 195 ] جدا . ولم يفهمها عنه مع كمال فهمه وعلمه ، وأن الوحي ينزل مطابقا لقوله مرارا ، وذلك أنه - رضي الله عنه - قال : ما سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري وقال : " تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " . وهذا الإرشاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - واضح كل الوضوح في أنه يريد أن الكلالة هي ما عدا الولد والوالد ؛ لأن آية الصيف المذكورة التي أخبره أنها تكفيه دلت على ذلك دلالة كافية واضحة فقوله تعالى فيها : إن امرؤ هلك ليس له ولد [ 4 \ 176 ] صريح في أن الكلالة لا يكون فيها ولد ، وقوله فيها : وله أخ أو أخت [ 4 \ 12 ] يدل بالالتزام على أنها لا أب فيها ؛ لأن الإخوة والأخوات لا يرثون مع الأب ، وذلك مما لا نزاع فيه ، فظهر أن آية الصيف المذكورة تدل بكل وضوح على أن الكلالة ما عدا الولد والوالد ، ولم يفهم عمر - رضي الله عنه - الإشارة النبوية المذكورة ، فالكمال التام له - جل وعلا - وحده ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

ومنها : اجتهاد ابن مسعود - رضي الله عنه - في المرأة التي توفي زوجها ولم يفرض لها صداقا ولم يدخل بها ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، لها كمهر نسائها لا وكس ، ولا شطط ، ولها الميراث وعليها العدة . وقد شهد لابن مسعود بعض الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بنحو ذلك في بروع بنت واشق ، ففرح بذلك .

ومنها : اجتهاد الصحابة في أن أبا بكر - رضي الله عنه - أولى من غيره بالإمامة ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدمه على غيره في إمامة الصلاة .

ومنها : اجتهاد أبي بكر في العهد بالخلافة إلى عمر ، سواء قلنا : إنه من المصالح المرسلة أو قلنا : إنه قاس العهد بالولاية على العقد لها . ومن ذلك اجتهادهم في جمع المصحف بالكتابة . ومن ذلك اجتهادهم في الجد ، والإخوة ، والمشتركة المعروفة بالحمارية ، واليمية .

ومنها : اجتهاد أبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء ، واجتهاد عمر في تفضيل بعضهم على بعض فيه .

ومنها : اجتهادهم في جلد السكران ثمانين ، قالوا : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى فحدوه حد الفرية . وأمثال هذا كثيرة جدا ، وهي تدل على أن اجتهاد الصحابة في مسائل الفقه متواتر معنى ، فإن الوقائع منهم في ذلك وإن لم تتواتر آحادها فمجموعها يفيد العلم [ ص: 196 ] اليقيني لتواترها معنى ، كما لا يخفى على من تعلم ذلك . ورسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى المتضمنة لذلك مشهورة . وقال ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) : وقال الشعبي عن شريح ، قال لي عمر : اقض بما استبان لك من كتاب الله ، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين ، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك ، واستشر أهل العلم والصلاح . . إلى أن قال : وقايس علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - زيد بن ثابت في المكاتب ، وقايسه في الجد والإخوة ، وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال : عقلها سواء ، اعتبروها بها . قال المزني : الفقهاء من عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا - وهلم جرا - استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم ، وأجمعوا بأن نظير الحق حق ، ونظير الباطل باطل ، فلا يجوز لأحد إنكار القياس ؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها .

قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه : ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا الكلب من الجوارح قياسا على الكلاب بقوله : وما علمتم من الجوارح مكلبين [ 5 \ 4 ] وقال عز وجل : والذين يرمون المحصنات [ 24 \ 4 ] فدخل في ذلك المحصنون قياسا . وكذلك قوله في الإماء : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] فدخل في ذلك العبد قياسا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافا .

وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام : ومن قتله منكم متعمدا [ 5 \ 95 ] فدخل فيه قتل الخطأ قياسا عند الجمهور إلا من شذ ، وقال : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها [ 33 \ 49 ] فدخل في ذلك الكتابيات قياسا :

وقال في الشهادة في المداينات : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] فدخل في معنى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى قياسا للمواريث ، والودائع ، والغصوب وسائر الأموال . وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسا على الأختين . وقال عمن أعسر بما عليه من الربا : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة [ 2 \ 280 ] فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال ، وثبت ذلك قياسه .

ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردا ، وإنما ورد النص في [ ص: 197 ] اجتماعهما بقوله : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] وقال : وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 176 ] .

ومن هذا الباب قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم فيم لو قال لزوجته : أنت علي كظهر بنتي . وقياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان . وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري . قال : وهذا لو تقصيته لطال به الكتاب .

قلت : بعض هذه المسائل فيها نزاع ، وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف . وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية ، فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات ، وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء . وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله : وما علمتم من الجوارح [ 5 \ 4 ] وقوله : مكلبين [ 5 \ 4 ] وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد ، قاله مجاهد والحسن ، وهو رواية عن ابن عباس . وقال أبو سليمان الدمشقي : مكلبين معناه معلمين ، وإنما قيل لهم : مكلبين لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب . وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل ، كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله : فإنه رجس وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع ، وهم يضطرون فيها ولا بد إلى القياس أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم . فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سئل عن فأرة وقعت بالسمن : " ألقوها وما حولها وكلوه " - : إن ذلك يختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات . هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا لا يفرقون فيه بين السمن والزيت والشيرج والدبس . كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك .

وكذلك نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر ، لا يفرق عالم يفهم عن الله رسوله بين ذلك وبين العنب بالزبيب . ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثا : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله [ 2 \ 230 ] أي : إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا .

والمراد به تجديد العقد ، وليس ذلك مختصا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط ، بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول قياسا على الطلاق .

[ ص: 198 ] ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تشربوا في صحافها ؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " . وقوله : " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب ، بل يعم سائر وجوه الانتفاع ، فلا يحل له أن يغتسل بها ، ولا يتوضأ بها ، ولا يكتحل منها ، وهذا أمر لا يشك فيه عالم .

ومن ذلك نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - المحرم عن لبس القميص ، والسراويل ، والعمامة ، والخفين ، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط ، بل يتعدى النهي إلى الجباب ، والأقبية ، والطيلسان ، والقلنسوة ، وما جرى مجرى ذلك من الملبوسات .

ومن هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار " فلو ذهب معه بخرقة تنظيف أكثر من الأحجار ، أو قطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز . وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة ، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز أو أولى .

ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته " . معلوم أن المفسدة التي نهي عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة ، فلا يحل له أن يؤجر على إجارته . وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام وهو بيع المنافع فحقيقتها غير حقيقة البيع ، وأحكامها غير أحكامه .

ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في آية التيمم : وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ 5 \ 6 ] فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط . والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس ، على قول من فسره بما دون الجماع . وألحقت الاحتلام بملامسة النساء ، وألحقت واجد ثمن الماء بواجده ، وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بعادم الماء ، فجوزت له التيمم وهو واجد للماء . وألحقت من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل . وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها وتعليق الحكم به ، وكونه متعلقا بمصلحة العبد - أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم [ ص: 199 ] مما لا ينكر تناول العموميين لها . فمن الناس من يتنبه لهذا ، ومنهم من يتفطن لتناول العموميين لها .

ومن ذلك قوله تعالى : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [ 2 \ 283 ] قاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه . فإن استدل على ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه في الحضر فلا عموم في ذلك ؛ فإنما رهنها على شعير استقرضه من يهودي ، فلا بد من القياس إما على الآية وإما على السنة .

ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذ ثمنها في العشور التي عليهم فبلغ ذلك عمر قال : قاتل الله سمرة ؟ أما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لعن الله اليهود ؛ حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " وهذا محض القياس من عمر - رضي الله عنه .

فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين . وكما يحرم ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام .

ومن ذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح ، والطلاق ، والعدة ؛ قياسا على ما نص الله عليه من قوله : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ثم ذكر آثارا دالة على أن الصحابة جعلوا العبد على النصف من الحر فيما ذكر قياسا على ما نص الله عليه من تنصيف الحد على الأمة .

ومن ذلك توريث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المبتوتة في مرض الموت برأيه ، ووافقه الصحابة على ذلك .

ومن ذلك قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام قبل قبضه ، قال : أحسب كل شيء بمنزلة الطعام .

ومن ذلك أن عمر وزيدا - رضي الله عنهما - لما قالا : إن الأم ترث ما بقي بعد أحد الزوجين في مسألة زوج أو زوجة مع الأبوين ، قاسا وجود أحد الزوجين مع الأبوين على ما إذا لم يكن هناك زوج ولا زوجة ، فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم ، فقدرا أن الباقي بعد الزوج أو الزوجة كل المال . وهذا من أحسن القياس ؛ فإن قاعدة الفرائض أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة ، فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى [ ص: 200 ] كالأولاد وبني الأب ، وإما أن تساويه كولد الأم ، وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ مع مساواته لها في درجته ، فلا عهد به في الشريعة . فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله .

ومن ذلك أخذ الصحابة - رضي الله عنهم - في الفرائض بالعول ، وإدخال النقص على جميع ذوي الفرائض قياسا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم . ولا شك أن العول الذي أخذ به الصحابة - رضي الله عنهم - أعدل من توفية بعض المستحقين حقه كاملا ونقص بعضهم بعض حقه ، فهذا ظلم لا شك فيه ، وأمثال هذا كثيرة ، فلو تقصيناها لطال الكلام جدا . وهذه الوقائع التي ذكرنا وأمثالها مما لم نذكر تدل دلالة قطعية على أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يستعملون القياس في الأحكام ، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر ، ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من أسانيدها ، فإنها في كثرة طرقها واختلاف مخارجها وأنواعها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا شك فيه وإن لم يثبت كل فرد من الإخبار بها كما هو معروف في أصول الفقه وعلم الحديث .
المسألة الخامسة

اعلم أن القياس جاءت على منعه في الجملة أدلة كثيرة ، وبها تمسك الظاهرية ومن تبعهم ، وسنذكر هنا إن شاء الله جملا وافية من ذلك ثم نبين الصواب فيه إن شاء الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:10 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (302)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 201 إلى صـ 207




قالوا : فمن ذلك قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه - هو الرد إليه في حضوره وحياته ، وإلى سنته في غيبته وبعد مماته ، والقياس ليس بهذا ولا هذا ، ولا يقال : الرد إلى القياس هو من الرد إلى الله ورسوله ؛ لدلالة كتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - كما تقدم تقريره ؛ لأن الله سبحانه إنما ردنا إلى كتابه وسنة رسوله ، ولم يردنا إلى قياس عقولنا وآرائنا فقط ، بل قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : وأن احكم بينهم بما أنزل الله [ 5 \ 49 ] وقال : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [ 4 \ 105 ] ولم يقل بما رأيت أنت . وقال : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون [ 5 \ 45 ] [ ص: 201 ] ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون [ 5 \ 47 ] وقال تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم [ 7 \ 3 ] وقال تعالى : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء [ 16 \ 89 ] وقال : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29 \ 51 ] وقال : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي [ 34 \ 50 ] فلو كان القياس هدى لم ينحصر الهدى في الوحي . وقال : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم [ 4 \ 65 ] فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده ، وهو تحكيمه في حال حياته وتحكيم سنته فقط بعد وفاته ، وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله [ 49 ] أي : لا تقولوا حتى يقول . قال نفاة القياس : والإخبار عنه بأنه حرم ما سكت عنه ، أو أوجبه قياسا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدم بين يديه ، فإنه إذا قال : حرمت عليكم الربا في البر ، فقلنا : ونحن نقيس على قولك البلوط ، فهذا محض التقدم ، قالوا : وقد حرم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم ، فإذا قلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينا ، فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمه في القديد من اللحوم ، وهذا قفو منا ما ليس لنا به علم ، وتعد لما حد لنا ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه والواجب أن نقف عند حدوده ، ولا نتجاوزها ، ولا نقصر بها . ولا يقال : فإبطال القياس وتحريمه والنهي عنه تقدم بين يدي الله ورسوله ، وتحريم لما لم ينص على تحريمه ، وقفو منكم لما ليس لكم به علم ؛ لأنا نقول : الله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئا ، وأنزل علينا كتابه ، وأرسل إلينا رسوله يعلمنا الكتاب والحكمة . فما علمناه وبينه لنا فهو من الدين ، وما لم يعلمناه ولا بين لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورة ، وكل ما ليس من الدين فهو باطل ، فليس بعد الحق إلا الضلال . وقال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم [ 5 \ 3 ] فالذي أكمله الله سبحانه وبينه هو ديننا لا دين لنا سواه ، فأين فيما أكمله لنا ، قيسوا ما سكت عنه على ما تكلمت بإيجابه أو تحريمه أو إباحته ، سواء كان الجامع بينهما علة أو دليل علة ، أو وصفا شبيها ، فاستعملوا ذلك كله ، وانسبوه إلي وإلى رسولي وإلى ديني ، وأحكموا به علي .

قالوا : وقد أخبر سبحانه أن الظن لا يغني من الحق شيئا ، وأخبر رسوله أن " الظن أكذب الحديث " ونهى عنه ، ومن أعظم الظن ظن القياسيين ؛ فإنهم ليسوا على يقين أن الله سبحانه وتعالى حرم بيع السمسم بالشيرج ، والحلوى بالعنب ، والنشا بالبر ، وإنما هي [ ص: 202 ] ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئا .

قالوا : وإن لم يكن قياس الضراط على " السلام عليكم " من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه ، وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئا فليس في الدنيا ظن باطل . فأين الضراط من " السلام عليكم " . وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعضاء الطاهرة الطيبة عند الله في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخبث العذرات ، والميتات ، والنجاسات ظنا . فلا ندري ما الظن الذي حرم الله سبحانه القول به ، وذمه في كتابه ، وسلخه من الحق ، وإن لم يكن قياس أعداء الله ورسوله من عباد الصلبان واليهود الذين هم أشد الناس عداوة للمؤمنين على أوليائه وخيار خلقه ، وسادات الأمة وعلمائها وصلحائها في تكاثر دمائهم وجريان القصاص بينهم ظنا ، فليس في الدنيا ظن يذم اتباعه .

قالوا : من العجب أنكم قستم أعداء الله على أوليائه في جريان القصاص بينهم ، فقتلتم ألف ولي لله تعالى قتلوا نصرانيا واحدا ، ولم تقيسوا من ضرب رجلا بدبوس فنثر دماغه بين يديه على من طعنه بمسلة فقتله .

قالوا : وسنبين لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يبين أنها من عند غير الله . قالوا : والله تعالى لم يكل بيان شريعته إلى آرائنا وأقيستنا واستنباطنا ، وإنما وكلها إلى رسوله المبين عنه ، فما بينه عنه وجب اتباعه ، وما لم يبينه فليس من الدين ، ونحن نناشدكم الله هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشبيهة والأوصاف الحدسية التخمينية على بيان الرسول ، أو على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم ، قال الله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] فأين بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أني إذا حرمت شيئا أو أوجبته أو أبحته فاستخرجوا وصفا ما شبيها جامعا بين ذلك وبين جميع ما سكت عنه فألحقوه به وقيسوه عليه .

قالوا : والله تعالى قد نهى عن ضرب الأمثال له ، فكما لا تضرب له الأمثال لا تضرب لدينه ، وتمثيل ما لم ينص على حكمه بما نص عليه لشبه ما ضرب الأمثال لدينه .

قالوا : وما ضربه الله ورسوله من الأمثال فهو حق خارج عما نحن بصدده من إثباتكم الأحكام بالرأي والقياس من غير دليل من كتاب ولا سنة . وذكروا شيئا كثيرا من الأمثال التي ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معترفين بأنها حق . قالوا : ولا تفيدكم في محل النزاع ، قالوا : فالأمثال التي ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هي لتقريب المراد ، وتفهيم المعنى وإيصاله إلى ذهن السامع ، وإحضاره في نفسه بصورة المثال الذي مثل به ، فإنه قد يكون أقرب إلى [ ص: 203 ] تعقله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره . فإن النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام ، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير . ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد ولا ينكره . وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهورا ووضوحا . فالأمثال شواهد المعنى المراد وتزكية له ، وهي : كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه [ 48 \ 29 ] ، وهي خاصة العقل ولبه وثمرته ، ولكن أين في الأمثال التي ضربها الله ورسوله على هذا الوجه ؟ فهمنا أن الصداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة ، قياسا وتمثيلا على أقل ما يقطع فيه السارق . هذا بالألغاز والأحاجي أشبه منه بالأمثال المضروبة للفهم . كما قال إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري في جامعه الصحيح : ( باب من شبه أصلا معلوما بأصل مبين قد بين الله حكمهما ليفهم السامع ) .

قالوا : فنحن لا ننكر هذه الأمثال التي ضربها الله ورسوله ، ولا نجهل ما أريد بها ، وإنما ننكر أن يستفاد وجوب الدم على من قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربعا من قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] وأن الآية تدل على ذلك ، وأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في صدقة الفطر : " صاع من تمر أو صاع من شعير أو صاع من أقط أو صاع من بر أو صاع من زبيب " يفهم منه أنه لو أعطى صاعا من إهليج جاز ، وأنه يدل على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار ، وأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الولد للفراش " يستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال الولي بحضرة الحاكم : زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب ، فقال : قبلت هذا التزويج وهي طالق ثلاثا ، ثم جاءت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه ، وقد صارت فراشا بمجرد قوله : قبلت هذا التزويج ، ومع هذا لو كانت له سرية يطؤها ليلا ونهارا لم تكن فراشا له ، ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إلا أن يدعيه ويستلحقه ، فإن لم يستلحقه فليس بولده ؟ .

وأين يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل " أنه لو ضربه بحجر المنجنيق أو بكور الحداد أو بمرازب الحديد العظام ، حتى خلط دماغه بلحمه وعظمه - أن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب قودا .

وأين يفهم من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن لم يكن له مخرج فخلوا سبيله ، فإن الإمام إن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة " [ ص: 204 ] - أن من عقد على أمه أو ابنته أو أخته ووطئها فلا حد عليه . وأن هذا المفهوم من قوله : " ادرءوا الحدود بالشبهات " فهذا في معنى الشبهة التي تدرأ بها الحدود ، وهي الشبهة في المحل أو في الفاعل أو في الاعتقاد . ولو عرض هذا على فهم من فرض من العالمين لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه . وأن من يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حد عليه مع علمه بأنها خالته أو عمته وتحريم الله لذلك ، ويفهم هذا من " ادرءوا الحدود بالشبهات " ، وأضعاف أضعاف هذا مما لا يكاد ينحصر .

قالوا : فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره ، وننكر أن يكون في كلام الله ورسوله دلالة على فهمه بوجه ما .

قالوا : ومن أين يفهم من قوله : وإن لكم في الأنعام لعبرة [ 16 \ 66 ] ومن قوله : فاعتبروا تحريم بيع الكشك باللبن ، وبيع الخل بالعنب ، ونحو ذلك . قالوا : وقد قال تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ولم يقل إلى قياساتكم وآرائكم . ولم يجعل الله آراء الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدا .

قالوا : وقد قال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فإنما منعهم من الخيرة عند حكمه وحكم رسوله ، لا عند آراء الرجال وأقيستهم وظنونهم .

وقد أمر سبحانه رسوله باتباع ما أوحاه إليه خاصة ، وقال : إن أتبع إلا ما يوحى إلي وقال : وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقال تعالى : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله قالوا : فدل هذا النص على أن ما لم يأذن به الله من الدين فهو شرع غيره بالباطل .

قالوا : وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه تبارك وتعالى : أن كل ما سكت عن إيجابه أو تحريمه فهو عفو عفا عنه لعباده ، مباح إباحة العفو ، فلا يجوز تحريمه ولا إيجابه قياسا على ما أوجبه أو حرمه بجامع بينهما ، فإن ذلك يستلزم رفع هذا القسم بالكلية وإلغاءه ، إذ المسكوت عنه لا بد أن يكون بينه وبين المحرم شبه ووصف جامع ، وبينه وبين الواجب . فلو جاز إلحاقه به لم يكن هناك قسم قد عفا عنه . ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه بل يكون ما سكت عنه قد حرمه قياسا على ما حرمه ، وهذا لا سبيل إلى دفعه ، وحينئذ فيكون [ ص: 205 ] تحريم ما سكت عنه تبديلا لحكمه . وقد ذم الله تعالى من بدل غير القول الذي أمر به ، فمن بدل غير الحكم الذي شرع له فهو أولى بالذم ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن من أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم على الناس من أجل مسألته " فإذا كان هذا فيمن تسبب إلى تحريم الشارع صريحا بمسألته عن حكم ما سكت عنه ، فكيف بمن حرم المسكوت عنه بقياسه ورأيه ! يوضحه أن المسكوت عنه لما كان عفوا عفا الله لعباده عنه ، وكان البحث عنه سببا لتحريم الله إياه لما فيه من مقتضى التحريم لا لمجرد السؤال عن حكمه ، وكان الله قد عفا عن ذلك وسامح به عباده كما يعفو عما فيه مفسدة من أعمالهم وأقوالهم . فمن المعلوم أن سكوته عن ذكر لفظ عام يحرمه يدل على أنه عفو منه ، فمن حرمه بسؤاله عن علة التحريم وقياسه على المحرم بالنص كان أدخل في الذم ممن سأله عن حكمه لحاجته إليه ، فحرم من أجل مسألته ، بل كان الواجب عليه ألا يبحث عنه ، ولا يسأل عن حكمه اكتفاء بسكوت الله عن عفوه عنه . فهكذا الواجب عليه ألا يحرم المسكوت عنه بغير النص الذي حرم أصله الذي يلحق به .

قالوا : وقد دل على هذا كتاب الله حيث يقول : ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين [ 5 \ 101 - 102 ] وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح " ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " فأمرهم أن يتركوه من السؤال ما تركهم . ولا فرق في هذا بين حياته وبين مماته ، فنحن مأمورون أن نتركه - صلى الله عليه وسلم - وما نص عليه ، فلا نقول له : لم حرمت كذا لنلحق به ما سكت عنه ، بل هذا أبلغ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكم فيه فتأمله فإنه واضح ، ويدل عليه قوله في نفس الحديث : " وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " فجعل الأمور ثلاثة لا رابع لها : ( مأمور به ) فالفرض عليهم فعله بحسب الاستطاعة ( ومنهي عنه ) فالفرض عليهم اجتنابه بالكلية ( ومسكوت عنه ) فلا يتعرض للسؤال والتفتيش عليه .

وهذا حكم لا يختص بحياته فقط ، ولا يخص الصحابة دون من بعدهم ، بل فرض علينا نحن امتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه . وليس ذلك الترك جهلا وتجهيلا لحكمه ، بل إثبات لحكم العفو وهي الإباحة العامة ، ورفع الحرج عن فاعله .

[ ص: 206 ] فقد استوعب الحديث أقسام الدين كلها ، فإنها : إما واجب ، وإما حرام ، وإما مباح . والمكروه والمستحب فرعان على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح ، وقد قال تعالى : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 18 - 19 ] فوكل بيانه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين .

وقال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] فقسم الحكم إلى قسمين : قسم أذن فيه وهو الحق ، وقسم افتري عليه وهو ما لم يأذن فيه ، فأين إذا لنا أن نقيس البلوط على التمر في جريان الربا فيه ، وأن نقيس القزدير على الذهب والفضة ، والخردل على البر ، فإن كان الله ورسوله وصانا بهذا فسمعا وطاعة لله ورسوله ، وإلا فإنا قائلون لمنازعينا أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 144 ] فما لم تأتونا به وصية من عند الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو عين الباطل ، وقد أمرنا الله برد ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلم يبح لنا قط أن نرد ذلك إلى رأي ، ولا قياس ، ولا تقليد إمام ، ولا منام ، ولا كشوف ، ولا إلهام ، ولا حديث قلب ، ولا استحسان ، ولا معقول ، ولا شريعة الديوان ، ولا سياسة الملوك ، ولا عوائد الناس التي ليس على شرائع المرسلين أضر منها . فكل هذه طواغيت ! من تحاكم إليها أو دعا منازعه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت ! وقال تعالى : فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون [ 16 ] .

قالوا : ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبين له أنها نص على إبطال القياس وتحريمه ؛ لأن القياس كله ضرب الأمثال للدين ، وتمثيل ما لا نص فيه بما فيه نص . ومن مثل ما لم ينص الله سبحانه على تحريمه أو إيجابه بما حرمه أو أوجبه فقد ضرب لله الأمثال ، ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نص عليه لأعلمنا بذلك ، ولما أغفله سبحانه ، وما كان ربك نسيا وليبين لنا ما نتقي كما أخبر عن نفسه بذلك إذ يقول سبحانه : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] ولما وكله إلى آرائنا ومقاييسنا التي ينقض بعضها بعضا ، فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره ، فيجيء منازعه فيقيس ضد قياسه من كل وجه ، ويبدي من الوصف الجامع مثل ما أبداه منازعه أو أظهر منه ، ومحال أن يكون القياسان معا من عند الله ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فليسا من عنده ، وهذا وحده كاف في إبطال القياس ، وقد قال [ ص: 207 ] تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [ 14 \ 4 ] وقال : لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] فكل ما بينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعن ربه سبحانه ، بينه بأمره وإذنه . وقد علمنا يقينا وقوع كل اسم في اللغة على مسماه فيها ، وأن اسم البر لا يتناول الخردل ، واسم التمر لا يتناول البلوط ، واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير ، وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المهر ، وأن تحريم أكل الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند الله حيا وميتا إذا مات صار نجسا خبيثا . وأن هذا عن البيان الذي ولاه الله رسوله وبعثه به أبعد شيء وأشده منافاة له . فليس هو مما بعث به الرسول قطعا ، فليس إذا من الدين . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم " ولو كان الرأي والقياس خيرا لهم لدلهم عليه ، وأرشدهم إليه " ولقال لهم : إذا أوجبت عليكم شيئا أو حرمته فقيسوا عليه ما كان بينه وصف جامع أو ما أشبهه . أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه ، ولما حذرهم من ذلك أشد الحذر . وقد أحكم اللسان كل اسم على مسماه لا على غيره . وإنما بعث الله سبحانه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بالعربية التي يفهمها العرب من لسانها ، فإذا نص سبحانه في كتابه أو نص رسوله على اسم من الأسماء ، وعلق عليه حكما من الأحكام - وجب ألا يوقع ذلك الحكم إلا على ما اقتضاه ذلك الاسم ، ولا يتعدى به الوضع الذي وضعه الله ورسوله فيه ، ولا يخرج عن ذلك الحكم شيء مما يقتضيه الاسم ، فالزيادة عليه زيادة في الدين ، والنقص منه نقص في الدين . فالأول القياس ، والثاني التخصيص الباطل ، وكلاهما ليس من الدين ، ومن لم يقف مع النصوص فإنه تارة يزيد في النص ما ليس منه ، ويقول هذا قياس . ومرة ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه ويقول هذا تخصيص . ومرة يترك النص جملة ويقول : ليس العمل عليه . أو يقول : هذا خلاف القياس ، أو خلاف الأصول .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:12 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (303)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 208 إلى صـ 214




قالوا : ولو كان القياس من الدين لكان أهله أتبع الناس للأحاديث ، وكان كلما توغل فيه الرجل كان أشد اتباعا للأحاديث والآثار . قالوا : ونحن نرى أن كلما اشتد توغل الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن ، ولا ترى خلاف السنن والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس . فلله كم من سنة صحيحة صريحة قد عطلت به ، وكم من أثر درس حكمه بسببه ، فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها ، معطلة أحكامها ، معزولة عن سلطانها وولايتها ، لها الاسم ولغيرها الحكم ، لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي . وإلا فلماذا ترك حديث العرايا ، وحديث قسم الابتداء ، وأن للزوجة حق العقد سبع ليال إن [ ص: 208 ] كانت بكرا ، أو ثلاثا إن كانت ثيبا ، ثم يقسم بالسوية ، وحديث تغريب الزاني غير المحصن ، وحديث الاشتراط في الحج وجواز التحلل بالشرط ، وحديث المسح على الجوربين ، وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أن كلام الناس والجاهل لا يبطل الصلاة ، وحديث دفع اللقطة إلى من جاء فوصف وعاءها ووكاءها وعفاصها ، وحديث المصراة ، وحديث القرعة بين العبيد إذا أعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث . وحديث خيار المجلس ، وحديث إتمام الصوم لمن أكل ناسيا ، وحديث إتمام الصبح لمن طلعت عليه الشمس وقد صلى منها ركعة ، وحديث الصوم عن الميت ، وحديث الحج عن المريض الميئوس من برئه ، وحديث الحكم بالقافة ، وحديث " من وجد متاعه عند رجل قد أفلس " ، وحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر ، وحديث بيع المدبر ، وحديث القضاء بالشاهد مع اليمين ، وحديث " الولد للفراش إذا كان من أمة " وهو سبب الحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا ، وحديث قطع السارق في ربع دينار ، وحديث رجم الكتابيين في الزنى ، وحديث " من تزوج امرأة أبيه أمر بضرب عنقه وأخذ ماله " ، وحديث " لا يقتل مؤمن بكافر " ، وحديث " لعن الله المحلل والمحلل له " ، وحديث " لا نكاح إلا بولي " ، وحديث " المطلقة ثلاثا لا سكنى لها ولا نفقة " ، وحديث عتق صفية وجعل عتقها صداقها ، وحديث " اصدقوا ولو خاتما من حديد " ، وحديث " إباحة لحوم الخيل " ، وحديث " كل مسكر حرام " ، وحديث " ليس فيها دون خمسة أوسق صدقة " ، وحديث المزارعة والمساقاة ، وحديث " ذكاة الجنين ذكاة أمه " وحديث " الرهن مركوب ومحلوب " ، وحديث النهي عن تخليل الخمر ، وحديث قسمة الغنيمة " للراجل سهم وللفارس ثلاثة " ، وحديث " لا تحرم المصة والمصتان " ، وأحاديث حرمة المدينة ، وحديث إشعار الهدي ، وحديث " إذا لم يجد المحرم الإزار فليلبس السراويل " ، وحديث الوضوء من لحوم الإبل ، وأحاديث المسح على العمامة ، وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صلى خلف الصف وحده ، وحديث السراويل ، وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده على بعض ، وأنه جور لا تجوز الشهادة عليه ، وحديث " أنت ومالك لأبيك " وحديث " من دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد " ، وحديث الصلاة على الغائب ، وحديث الجهر بـ " آمين " في الصلاة ، وحديث جواز رجوع الأب فيما وهبه لولده ، ولا يرجع غيره ، وحديث " الكلب الأسود يقطع الصلاة " وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال ، وحديث نضح بول الغلام الذي لم يأكل الطعام ، وحديث الصلاة على [ ص: 209 ] القبر ، وحديث " من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته " ، وحديث بيع جابر بعيره واشتراط ظهره ، وحديث النهي عن جلود السباع ، وحديث " لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة في جداره " ، وحديث " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " ، وحديث " من باع عبدا وله مال فماله للبائع " وحديث " إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء " ، وحديث الوتر على الراحلة ، وحديث " كل ذي ناب من السباع حرام " ، وحديث " من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة ، وحديث " لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه من ركوعه وسجوده " ، وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه ، وأحاديث الاستفتاح ، وحديث : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - سكتتان في الصلاة ، وحديث " تحريمها التكبير وتحليلها التسليم " ، وحديث حمل الصبية في الصلاة ، وأحاديث القرعة ، وأحاديث العقيقة ، وحديث " لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذنك " ، وحديث " أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل " ، وحديث " إن بلالا يؤذن بليل " ، وحديث النهي عن صوم يوم الجمعة ، وحديث النهي عن الذبح بالسن والظفر ، وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء ، وحديث النهي عن عسيب الفحل ، وحديث " المحرم إذا مات لم يخمر رأسه ، ولم يقرب طيبا " إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من أجل القول بالقياس والرأي .

فلو كان القياس حقا لكان أهله أتبع الأمة للأحاديث ، ولا حفظ لهم ترك حديث واحد إلا لنص ناسخ له ، فحيث رأينا كل من كان أشد توغلا في القياس والرأي كان أشد مخالفة للأحاديث الصحيحة الصريحة علمنا أن القياس ليس من الدين ، وأن شيئا تترك له السنن لأبين شيء منافاة للدين ; فلو كان القياس من عند الله لطابق السنة أعظم مطابقة ، ولم يخالف أصحابه حديثا واحدا منها ، ولكانوا أسعد بها من أهل الحديث ، فليروا أهل الحديث والأثر حديثا واحدا صحيحا قد خالفوه ، كما أريناهم آنفا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس .

قالوا : وقد أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب وعلينا بعدهم ألا نقول على الله إلا بالحق ، فلو كانت هذه الأقيسة المتعارضة المتناقضة التي ينقض بعضها بعضا بحيث لا يدري الناظر فيها أيها الصواب حقا لكانت متفقة يصدق بعضها بعضا كالسنة التي يصدق بعضها بعضا ، وقال تعالى : ويحق الله الحق بكلماته [ 10 \ 82 ] لا بآرائنا ، ولا مقاييسنا ، وقال : والله يقول الحق وهو يهدي السبيل [ 33 \ 4 ] فما لم يقله سبحانه [ ص: 210 ] ولا هدى إليه فليس من الحق ، وقال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم [ 28 \ 50 ] فقسم الأمور إلى قسمين لا ثالث لهما : اتباع لما دعا إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع الهوى .

قالوا : والرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يدع أمته إلى القياس قط ، بل قد صح عنه بأنه أنكر على عمر وأسامة محض القياس في شأن الحلتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسا للبس على التملك والانتفاع والبيع وكسوتها لغيره ، وردها عمر قياسا لتملكها على لبسها ، فأسامة أباح ، وعمر حرم قياسا . فأبطل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل واحد من القياسين ، وقال لعمر : " إنما بعثت بها إليك لتستمتع بها " ، وقال لأسامة : " إني لم أبعث إليك بها لتلبسها ، ولكن بعثتها إليك لتشقها خمرا لنسائك " ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تقدم إليهم في الحرير بالنص على تحريم لبسه فقط ، فقاسا قياسا أخطآ فيه ، فأحدهما قاس اللبس على الملك ، وعمر قاس التملك على اللبس ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أن ما حرمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره ، وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس .

قالوا : وهذا عين إبطال القياس ، وقالوا : وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي ثعلبة الخشني ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " ، قالوا : وهذا الخطاب عام لجميع الأمة أولها وآخرها .

قالوا : وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد جيد من حديث سلمان - رضي الله عنه - قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أشياء فقال : " الحلال ما أحله الله ، والحرام ما حرم الله ، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه " . قالوا : وكل ذلك يدل على أن المسكوت عنه معفو عنه . فلا يجوز تحريمه ، ولا إيجابه بإلحاقه بالمنطوق به .

قالوا : وقال عبد الله بن المبارك : ثنا عيسى بن يونس ، عن جرير بن عثمان ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه ، عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم . فيحلون الحرام ويحرمون الحلال " . قال قاسم بن أصبغ : حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي ، ثنا نعيم بن حماد ، حدثنا عبد الله . . فذكره ، وهؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ ، إلا جرير بن عثمان ؛ فإنه كان منحرفا عن علي - رضي الله عنه - ومع ذلك فقد احتج به البخاري في صحيحه ، وقد روي عنه أنه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف [ ص: 211 ] عن علي ، ونعيم بن حماد إمام جليل ، وكان سيفا على الجهمية ، روى عنه البخاري في صحيحه .

قالوا : وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحة تقرب من التواتر أنه قال : " ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " . وقد قدمنا إيضاح مرادهم بالاستدلال بالحديث .

وقد ذكروا عن الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذم الرأي والقياس والتحذير من ذلك . وذلك كثير معروف عن الصحابة فمن بعدهم . وذكروا كثيرا من أقيسة الفقهاء التي يزعمون أنها باطلة ، وعارضوها بأقيسة تماثلها في زعمهم . وذكروا أشياء كثيرة يزعمون أن الفقهاء فرقوا فيها بين المجتمع وجمعوا فيها بين المفترق ، إلى غير ذلك من أدلتهم الكثيرة على إبطال الرأي والقياس .

وقد ذكرنا في هذا الكلام جملا وافية من أدلتهم على ذلك بواسطة نقل العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) ولم نتتبع جميع أدلتهم لئلا يؤدي ذلك إلى الإطالة المملة . وقد رأيت فيما ذكرنا حجج القائلين بالقياس والاجتهاد فيما لا نص فيه ، وحجج المانعين لذلك .
المسألة السادسة

اعلم أن تحقيق المقام في هذه المسألة التي وقع فيها من الاختلاف ما رأيت أن القياس قسمان : قياس صحيح ، وقياس فاسد .

أما القياس الفاسد فهو الذي ترد عليه الأدلة التي ذكرها الظاهرية وتدل على بطلانه ، ولا شك أنه باطل ، وأنه ليس من الدين كما قالوا وكما هو الحق .

وأما القياس الصحيح فلا يرد عليه شيء من تلك الأدلة ، ولا يناقض بعضه بعضا ، ولا يناقض ألبتة نصا صحيحا من كتاب أو سنة . فكما لا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ، فإنه لا تتناقض دلالة الأقيسة الصحيحة ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة ، يصدق بعضها بعضا ، ويشهد بعضها لبعض . فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا .

وضابط القياس الصحيح هو أن تكون العلة التي علق الشارع بها الحكم وشرعه [ ص: 212 ] من أجلها موجودة بتمامها في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها فيه . وكذلك القياس المعروف بـ " القياس في معنى الأصل " الذي هو الإلحاق بنفي الفارق المؤثر في الحكم .

فمثل ذلك لا تأتي الشريعة بخلافه ، ولا يعارض نصا ، ولا يتعارض هو في نفسه ، وسنضرب لك أمثلة من ذلك تستدل بها على جهل الظاهرية القادح الفاضح ، وقولهم على الله وعلى رسوله وعلى دينه أبطل الباطل الذي لا يشك عاقل في بطلانه وعظم ضرره على الدين بدعوى أنهم واقفون مع النصوص ، وأن كل ما لم يصرح بلفظه في كتاب أو سنة فهو معفو عنه ، ولو صرح بعلة الحكم المشتملة على مقصود الشارع من حكمة التشريع ، فأهدروا المصالح المقصودة من التشريع .

وقالوا على الله ما يقتضي أنه يشرع المضار الظاهرة لخلقه . فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان " فالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح نهى عن الحكم في وقت الغضب ، ولا يشك عاقل أنه خص وقت الغضب بالنهي دون وقت الرضا ؛ لأن الغضب يشوش الفكر فيمنع من استيفاء النظر في الحكم . فيكون ذلك سببا لضياع حقوق المسلمين ، فيلزم على قول الظاهرية كما قدمنا إيضاحه أن النهي يختص بحالة الغضب ، ولا يتعداها إلى غيرها من حالات تشويش الفكر المانعة من استيفاء النظر في الحكم . فلو كان القاضي في حزن مفرط يؤثر عليه تأثيرا أشد من تأثير الغضب بأضعاف ، أو كان في جوع أو عطش مفرط يؤثر عليه أعظم من تأثير الغضب ، فعلى قول الظاهرية فحكمه بين الناس في تلك الحالات المانعة من استيفاء النظر في الحكم عفو جائز ؛ لأن الله سكت عنه في زعمهم ، فيكون الله قد عفا للقاضي عن التسبب في إضاعة حقوق المسلمين التي نصبه الإمام من أجل صيانتها وحفظها من الضياع ، مع أن تنصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - على النهي عن الحكم في حالة الغضب دليل واضح على المنع من الحكم في حالة تشويش الفكر تشويشا كتشويش الغضب أو أشد منه كما لا يخفى على عاقل ، فانظر عقول الظاهرية وقولهم على الله ما يقتضي أنه أباح للقضاة الحكم في حقوق المسلمين في الأحوال المانعة من القدرة على استيفاء النظر في الأحكام ، مع نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الصريح عن ذلك في صورة من صوره وهي الغضب - بزعمهم أنهم واقفون مع النصوص . ومن ذلك قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ ص: 213 ] [ 24 \ 4 - 5 ] فالله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة نص على أن الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة ، وترد شهادتهم ويحكم بفسقهم . ثم استثنى من ذلك من تاب من القاذفين من بعد ذلك وأصلح . ولم يتعرض في هذا النص لحكم الذين يرمون المحصنين الذكور .

فيلزم على قول الظاهرية أن من قذف محصنا ذكرا ليس على أئمة المسلمين جلده ولا رد شهادته ولا الحكم بفسقه ؛ لأن الله سكت عن ذلك في زعمهم ، وما سكت عنه فهو عفو !

فانظر عقول الظاهرية وما يقولون على الله ورسوله من عظائم الأمور ، بدعوى الوقوف مع النص ! ودعوى بعض الظاهرية أن آية والذين يرمون المحصنات شاملة للذكور بلفظها ، بدعوى أن المعنى : يرمون الفروج المحصنات من فروج الإناث والذكور - من تلاعبهم وجهلهم بنصوص الشرع ؟ وهل تمكن تلك الدعوى في قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات الآية [ 24 \ 23 ] فهل يمكنهم أن يقولوا إن الفروج هي الغافلات المؤمنات .

وكذلك قوله تعالى : والمحصنات من النساء الآية [ 4 \ 24 ] وقوله تعالى : محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] كما هو واضح ؟

ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن البول في الماء الراكد ، فإنه لا يشك عاقل أن علة نهيه عنه أن البول يستقر فيه لركوده فيقذره ، فيلزم على قول الظاهرية أنه لو ملأ آنية كثيرة من البول ثم صبها في الماء الراكد أو تغوط فيه أن كل ذلك عفو ؛ لأنه مسكوت عنه . فيكون الله على قولهم ينهى عن جعل قليل من البول فيه إذا باشر البول فيه ، ويأذن في جعل أضعاف ذلك من البول فيه بصبه فيه من الآنية ، وكذلك يأذن في التغوط فيه ! .

وهذا لو صدر من أدنى عاقل لكان تناقضا معيبا عند جميع العقلاء ، فكيف بمن ينسب ذلك إلى الله ورسوله عياذا بالله تعالى بدعوى الوقوف مع النصوص ! وربما ظن الإنسان الأجر والقربة فيما هو إلى الإثم والمعصية أقرب . كما قيل :



أمنفقة الأيتام من كد فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي ومن ذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التضحية بالعوراء مع سكوته عن حكم التضحية بالعمياء ، فإنه يلزم على قول الظاهرية أن يناط ذلك الحكم بخصوص لفظ العور خاصة ، فتكون [ ص: 214 ] العمياء مما سكت الله عن حكم التضحية به فيكون ذلك عفوا . وإدخال العمياء في اسم العوراء لغة غير صحيح ؛ لأن المفهوم من العور غير المفهوم من العمى ؛ لأن العور لا يطلق إلا في صورة فيها عين تبصر ، بخلاف العمى فلا يطلق في ذلك . وتفسير العور بأنه عمى إحدى العينين لا ينافي المغايرة ؛ لأن العمى المقيد بإحدى العينين غير العمى الشامل للعينين معا . وبالجملة فالمعنى المفهوم من لفظ العور غير المعنى المفهوم من لفظ العمى ، فوقوف الظاهرية مع لفظ النص يلزمه جواز التضحية بالعمياء ؛ لأنها مسكوت عنها ، وأمثال هذا منهم كثيرة جدا . وقصدنا التنبيه على بطلان أساس دعواهم ، وهو الوقوف مع اللفظ من غير نظر إلى معاني التشريع والحكم والمصالح التي هي مناط الأحكام ، وإلحاق النظير بنظيره الذي لا فرق بينه وبينه يؤثر في الحكم .

واعلم أن التحقيق الذي لا شك فيه أن الله تعالى يشرع الأحكام لمصالح الخلق ، فأفعاله وتشريعاته كلها مشتملة على الحكم والمصالح من جلب المنافع ودفع المضار . فما يزعمه كثير من متأخري المتكلمين - تقليدا لمن تقدمهم - من أن أفعاله - جل وعلا - لا تعلل بالعلل الغائية ، زاعمين أن التعليل بالأغراض يستلزم الكمال بحصول الغرض المعلل به ، وأن الله - جل وعلا - منزه من ذلك لاستلزامه النقص - كله كلام باطل ، ولا حاجة إليه ألبتة ; لأنه من المعلوم بالضرورة من الدين أن الله - جل وعلا - غني لذاته الغنى المطلق ، وجميع الخلق فقراء إليه غاية الفقر والفاقة والحاجة : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] ولكنه - جل وعلا - يشرع ويفعل لأجل مصالح الخلق المحتاجين الفقراء إليه ، لا لأجل مصلحة تعود إليه هو سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وادعاء كثير من أهل الأصول أن العلل الشرعية مطلق أمارات وعلامات للأحكام ناشئ عن ذلك الظن الباطل . فالله - جل وعلا - يشرع الأحكام لأجل العلل المشتملة على المصالح التي يعود نفعها إلى خلقه الفقراء إليه لا إلى الله - جل وعلا - إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] وقد صرح تعالى وصرح رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يشرع الأحكام من أجل الحكم المنوطة بذلك التشريع .

وأصرح لفظ في ذلك لفظة ( من أجل ) وقد قال تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " .

وقد قدمنا أمثلة متعددة لحروف التعليل في الآيات القرآنية الدالة على العلل الغائية المشتملة على مصالح العباد ، وهو أمر معلوم عند من له علم بحكم التشريع الإسلامي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:15 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (304)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 215 إلى صـ 221


وقال العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين عن رب العالمين ) بعد أن ذكر قول من منع القياس مطلقا وقول من غلا فيه ، وذكر أدلة الفريقين ما نصه :

وقال المتوسطون بين الفريقين : قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان ، فكلاهما في الإنزال أخوان ، وفي معرفة الأحكام شقيقان ، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه ، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ، ولا يتناقض الكتاب والميزان ، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة ، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة ، يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ، فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدا .

ونصوص الشارع نوعان : أخبار ، وأوامر ، فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح ، بل هي نوعان : نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة ، أو جملة وتفصيلا ، ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة ، فهكذا أوامره سبحانه نوعان : نوع يشهد به القياس والميزان ، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه ، وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح ، فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح . وهذه الجملة إنما تنفصل بتمهيد قاعدتين عظيمتين :

إحداهما : أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرا ونهيا ، وإذنا وعفوا . كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علما وكتابة وقدرا ، فعلمه وكتابته وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها ، وأمره نهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية . فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين : إما الكوني ، وإما الشرعي الأمري ، فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به ، وجميع ما نهى عنه ، وجميع ما أحله ، وجميع ما حرمه ، وجميع ما عفا عنه . وبهذا يكون دينه كاملا كما قال تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي [ 5 \ 3 ] ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص ، وعن وجه الدلالة وموقعها ، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله - جل وعلا - . ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقسام العلماء في العلم ، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث ، وقد أثنى عليه وعلى داود بالحكم والعلم . وقد قال عمر لأبي [ ص: 216 ] موسى في كتابه إليه : الفهم الفهم فيما أدلي إليك . وقال علي - رضي الله عنه - : إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه . وقال أبو سعيد : كان أبو بكر - رضي الله عنه - أعلمنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عباس أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل " ، والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهم المعنى المراد ، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيته وأصله ، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل ؛ فمعرفة التأويل يختص بها الراسخون في العلم ، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى ، فإن الراسخين في العلم يعلمون بطلانه ، والله يعلم بطلانه إلى أن قال :

وكل فرقة من هؤلاء الفرق الثلاث : يعني نفاة القياس بالكلية والغالين فيه ، والقائلين بأن العلل الشرعية أمارات وعلامات فقط لا مصالح أنيطت بها الأحكام وشرعت من أجلها - سدوا على أنفسهم طريقا من طرق الحق ، فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله . فنفاة القياس لما سدوا على نفوسهم باب التمثيل والتعليل ، واعتبار الحكم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله الله - احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب ، فحملوهما فوق الحاجة ، ووسعوهما أكثر مما يسعانه . فحيث فهموا من النص حكما أثبتوه ولم يبالوا مما وراءه ، وحيث لم يفهموه منه نفوه وحملوا الاستصحاب ، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها والمحافظة عليها ، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد ، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة ، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له ، وأخذوا بقياس تركهم وما هو أولى منه . ولكن أخطئوا من أربعة أوجه :

أحدها رد القياس الصحيح ، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما لعن عبد الله خمارا على كثرة شربه للخمر : " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " بمنزلة قوله : لا تلعنوا كل من يحب الله ورسوله . وفي قوله : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر ؛ فإنها رجس " بمنزلة قوله : ينهيانكم عن كل رجس . وفي أن قوله تعالى : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس [ 6 \ 145 ] : نهي عن كل رجس . وفي أن قوله في الهرة : " ليست بنجس ؛ لأنها من الطوافين عليكم والطوافات " ، بمنزلة قوله : كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس ، ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره : لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم نهي له عن كل طعام كذلك ، وإذا [ ص: 217 ] قال : لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر فهو نهي له عن كل مسكر . ولا تتزوج هذه المرأة فإنها فاجرة ، وأمثال ذلك الخطأ .

الثاني : تقصيرهم في فهم النصوص ، فكم من حكم دل عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه . وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعرفه عند المخاطبين ، فلم يفهموا من قوله تعالى : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ضربا ، ولا سبا ، ولا إهانة غير لفظة : " أف " فقصروا في فهم الكتاب كما قصروا في اعتبار الميزان الخطأ .

الثالث : تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه ، وجزمهم بموجبه لعدم علمهم بالناقل ، وليس عدم العلم علما بالعدم .
وقد تنازع الناس في الاستصحاب ، ونحن نذكر أقسامه . ثم شرع يبين أقسام الاستصحاب ، وقد ذكرنا بعضها في سورة " براءة " وجعلها هو ثلاثة أقسام وأطال فيها الكلام .

والمعروف في الأصول أن الاستصحاب أربعة أقسام :

الأول : استصحاب العدم الأصلي حتى يرد النافل عنه وهو البراءة الأصلية والإباحة العقلية . كقولنا : الأصل براءة الذمة من الدين فلا تغمز بدين إلا بدليل نافل عن الأصل يثبت ذلك . والأصل براءة الذمة من وجوب صوم شهر آخر غير رمضان ، فيلزم استصحاب هذا العدم حتى يرد نافل عنه ، وهكذا .

النوع الثاني : استصحاب الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه ، كاستصحاب بقاء النكاح وبقاء الملك وبقاء شغل الذمة حتى يثبت خلافه .

الثالث : استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع ، والأكثر على أن هذا الأخير ليس بحجة . وهو يرى أنه حجة ، وكلا الأولين حجة بلا خلاف في الجملة .

الرابع : الاستصحاب المقلوب ، وقد قدمنا إيضاحه وأمثلته في سورة " التوبة " .

الخطأ الرابع لهم : هو اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على الباطل حتى يقوم دليل على الصحة ، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه ، فأفسدوا بذلك كثيرا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل ، وجمهور الفقهاء على خلافه ، وأن [ ص: 218 ] الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه . وهذا القول هو الصحيح ؛ فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم ، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله ، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله ، كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله ، ولا حرام إلا ما حرمه الله ، ولا دين إلا ما شرعه الله ، فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر ، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم . والفرق بينهما : أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله ؛ فإن العبادة حقه على عباده وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه . وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها ، ولذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين : وهو تحريم ما لم يحرمه ، والتقرب إليه بما لم يشرعه ، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله ؛ فإن الحلال ما أحل الله ، والحرام ما حرمه الله ، وما سكت عنه فهو عفو ، فكل شرط وعقد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القول بتحريمها ؛ فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال . فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما عدا ما حرمه ؟ ! وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والعهود كلها ، فقال : وأوفوا بالعهد [ 17 \ 34 ] وقال : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ 5 \ 1 ] وقال : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [ 23 \ 8 ] وقال تعالى : والموفون بعهدهم إذا عاهدوا [ 2 \ 177 ] وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ - 2 - 3 ] وقال : بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين [ 3 \ 76 ] وقال : إن الله لا يحب الخائنين [ 8 \ 58 ] وهذا كثير في القرآن .

وفي صحيح مسلم من حديث الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربع ، من كن فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر " . وفيه عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من علامات المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان " .

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة [ ص: 219 ] بقدر غدرته ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان " وفيهما من حديث عقبة بن عامر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج " . وفي سنن أبي داود ، عن أبي رافع ، قال : بعثتني قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأيته ألقي في قلبي الإسلام ، فقلت : يا رسول الله ، والله إني لا أرجع إليهم أبدا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني لا أخيس بالعهد ، ولا أحبس البرد ، ولكن ارجع ، فإن كان في نفسك الذي في نفسك الآن فارجع " قال : فذهبت ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وفي صحيح مسلم ، عن حذيفة ، قال : ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل ، وقال : فأخذنا كفار قريش قالوا : إنكم تريدون محمدا ؟ فقلنا : ما نريده ، ما نريد إلا المدينة ، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه . فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر ، فقال : " انصرفا ، نفي لهم بعهدهم ، ونستعين الله عليهم " إلى آخر كلامه في هذا المبحث . والمقصود عنده دلالة النصوص على الوفاء بالعهود والشروط ، ومنع الإخلاف في ذلك ، إلا ما دل عليه دليل خاص ، وذلك واضح من النصوص التي ساقها كما ترى .

ثم بين أن المخالفين في ذلك يجيبون عن الحجج المذكورة تارة بنسخها ، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط ، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه ، وتارة بمعارضتها بنصوص أخر كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط ، كتاب الله أحق ، وشرط الله أوثق " . وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .

وكقوله تعالى : ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون [ 2 \ 229 ] وأمثال ذلك في الكتاب والسنة . قال : وأجاب الجمهور عن ذلك بأن دعوى النسخ والتخصيص تحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل عليها ، وبأن القدح في بعضها لا يقدح في سائرها ، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة لاعتضاده بالصحيح ، وبأنها لا تعارض بينها وبين ما عارضوها به من النصوص .

ثم بين أن معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وما كان من شرط ليس في كتاب الله " أي : في حكمه وشرعه ، كقوله تعالى : كتاب الله عليكم [ 4 \ 24 ] وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " كتاب الله القصاص في كسر السن " . قال : فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - . ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم الله فهو مخالف له ، فيكون [ ص: 220 ] باطلا . فإذا كان الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - حكم بأن الولاء للمعتق ، فشرط خلاف ذلك يكون شرطا مخالفا لحكم الله . ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه من العقود والشروط يكون باطلا حراما ، وتعدي حدود الله هو تحريم ما أحله ، أو إباحة ما حرمه ، أو إسقاط ما أوجبه ، لا إباحة ما سكت عنه ، وعفا عنه ، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده . إلى آخر كلامه .

ثم بين أن دلالة النصوص عامة في جميع الأحكام ، إلا أن الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتا كثيرا . وبين مسائل كثيرة مما فهم فيه بعض الصحابة من النصوص خلاف المراد .

قال : وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على عمر فهمه إتيان البيت الحرام عام الحديبية من إطلاق قوله : " فإنك آتيه ومطوف به " فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه .

وأنكر على عدي بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفس العقالين .

وأنكر على من فهم من قوله : " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة خردلة من كبر " شمول لفظه لحسن الثوب وحسن النعل ، وأخبرهم أنه " بطر الحق وغمط الناس " . وأنكر على من فهم من قوله : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " أنه كراهة الموت ، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احتضر وبشر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء الله ، والله يكره لقاءه . وأن المؤمن إذا احتضر وبشر بكرامة الله أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه .

وأنكر على عائشة إذ فهمت من قوله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا [ 84 \ 8 ] معارضته لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نوقش الحساب عذب " . وبين لها أن الحساب اليسير هو العرض ، أي : حساب العرض لا حساب المناقشة .

وأنكر على من فهم من قوله تعالى : من يعمل سوءا يجز به [ 4 \ 123 ] أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة ، وأنه لا يسلم أحد من عمل السوء . وبين أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بالهم ، والحزن ، والمرض ، والنصب ، وغير ذلك من مصائبها ، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة .

وأنكر على من فهم من قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] أنه ظلم النفس بالمعاصي ، وبين أنه الشرك ، وذكر [ ص: 221 ] قول لقمان لابنه : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] وأوضح وجه ذلك بسياق القرآن .

قال : ثم سأله عمر بن الخطاب عن الكلالة وراجعه فيها مرارا ، فقال : " يكفيك آية الصيف " واعترف عمر - رضي الله عنه - بأنه خفي عليه فهمها ، وفهمها الصديق .

وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية ، ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تخمس . وفهم بعضهم أن النهي لكونها كانت حمولة القوم وظهرهم . وفهم بعضهم أنه لكونها كانت جوال القرية . وفهم علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وكبار الصحابة ما قصده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنهي وصرح بعلته لكونها رجسا .

وفهمت المرأة من قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا [ 4 \ 20 ] جواز المغالاة في الصداق ، فذكرته لعمر فاعترف به .

وفهم ابن عباس من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] أن المرأة قد تلد لستة أشهر ، ولم يفهمه عثمان ، فهم برجم امرأة ولدت لها ، حتى ذكره ابن عباس فأقر به .

ولم يفهم عمر من قوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقهم " قتال مانعي الزكاة ، حتى بين له الصديق فأقر به .

وفهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا [ 5 \ 93 ] رفع الجناح عن الخمر ، حتى بين له عمر أنه لا يتناول الخمر ، ولو تأمل سياق الآية لفهم المراد منها ، فإنه إنما رفع الجناح عنهم فيما طعموه متقين له فيه ، وذلك إنما يكون باجتناب ما حرمه من المطاعم . فالآية لا تتناول المحرم بوجه .

وقد فهم من فهم من قوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ 2 \ 195 ] انغماس الرجل في العدو ، حتى بين له أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التهلكة ، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضاة الله ، وأن الإلقاء بيده إلى التهلكة هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:17 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (305)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 222 إلى صـ 228




وقال الصديق - رضي الله عنه - : أيها الناس ، إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها على [ ص: 222 ] غير مواضعها : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بالعقاب من عنده " فأخبرهم أنهم يضعونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلاف ما أريد بها .

وأشكل على ابن عباس أمر الفرقة الساكتة التي لم ترتكب ما نهيت عنه من اليهود ، هل عذبوا أو نجوا حتى بين له مولاه عكرمة دخولهم في الناجين دون المعذبين ، وهذا هو الحق ؛ لأنه سبحانه قال عن الساكتين : وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا [ 7 \ 164 ] فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم ، وإن لم يواجهوهم بالنهي ، فقد واجههم به من أدى الواجب عنهم ، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية ، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم .

وأيضا فإنه سبحانه إنما عذب الذين نسوا ما ذكروا به ، وعتوا عما نهوا عنه ، وهذا لا يتناول الساكتين قطعا ، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كساه برده وفرح به .

وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة : ما تقولون في إذا جاء نصر الله والفتح [ 110 \ 1 ] السورة ؟ قالوا : أمر الله نبيه إذا فتح عليه أن يستغفر . فقال لابن عباس : ما تقول أنت ؟ قال : هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه إياه . فقال : ما أعلم منها غير ما تعلم .

إلى أن قال : والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص ، وأن منهم من يفهم في الآية حكما أو حكمين ، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره . وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به ، فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده .

وهذا باب عجيب من فهم القرآن ، لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم ، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به ، كما فهم ابن عباس من قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] أن المرأة قد تلد لستة أشهر . . إلى آخر كلامه .

وإنما أكثرنا في هذه المباحث من نقل كلام ابن القيم كما رأيت ؛ لأنه جاء فيها بما [ ص: 223 ] لم يأت به من تقدمه ولا من تأخر . وقد تركنا كثيرا من نفائس كلامه في هذه المواضيع خشية الإطالة الكثيرة .
المسألة السابعة

اعلم أن استهزاء الظاهرية وسخريتهم بالأئمة المجتهدين - رحمهم الله - ودعواهم أن قياساتهم متناقضة ينقض بعضها بعضا ، وأن ذلك دليل على أنها كلها باطلة وليست من الدين في شيء - إذا تأمل فيه المنصف العارف وجد الأئمة - رحمهم الله - أقرب في أغلب ذلك إلى الصواب والعمل بما دلت عليه النصوص من الظاهرية الساخرين المستهزئين . وسنضرب لك بعض الأمثلة لذلك لتستدل به على غيره .

اعلم أن من أعظم المسائل التي قال فيها الظاهرية بتناقض أقيسة الأئمة وتكذيب بعضها لبعض ، وأن ذلك يدل على بطلان كل قياس من أقيستهم - هي مسألة الربا التي قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى " .

قال الظاهرية : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حرم الربا في الستة المذكورة ، فتحريمه في شيء غيرها قول على الله وعلى رسوله ، وتشريع زائد على ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا : والذين زادوا على النص أشياء يحرم فيها الربا اختلفت أقوالهم ، وتناقضت أقيستهم ، فبعضهم يقول : التمر والبلوط ثمر شجر يؤكل ويدبغ بقشره . وبعضهم يقول هي الكيل . وبعضهم يقول هي الاقتيات والادخار . . . إلخ .

فهذه أقيسة متضاربة متناقضة فليست من عند الله ، وإذا تأملت في هذه المسألة التي سخروا بسببها من الأئمة ، وادعوا عليهم أنهم حرموا الربا في أشياء لا دليل على تحريمه فيها كالتفاح عند من يقول : العلة الطعم كالشافعي ، وكالأشنان عند من يقول : العلة الكيل - علمت أن الأئمة أقرب إلى العمل بالنص في ذلك من الظاهرية المدعين الوقوف مع ظاهر النص . أما الشافعي الذي قال : العلة في تحريم الربا الطعم فقد استدل لذلك بما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو ( ح ) وحدثني أبو الطاهر ، أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، أن أبا النضر حدثه ، أن بسر بن سعيد حدثه عن معمر بن عبد الله ، أنه أرسل غلامه بصاع قمح . الحديث ، وفيه : فإني كنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " وكان طعامنا [ ص: 224 ] يومئذ الشعير . فهذا حديث صحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الطعام إذا بيع بالطعام بيع مثلا بمثل . والطعام في اللغة العربية : اسم لكل ما يؤكل ، قال تعالى : كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل الآية [ 3 \ 93 ] وقال : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا [ 80 \ 24 - 28 ] وقال تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم [ 5 \ 5 ] ولا خلاف في ذبائحهم في ذلك . وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في زمزم : " إنها طعام طعم " وقال لبيد في معلقته :



لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب لا يمن طعامها يعني بطعامها : فريستها ، كما قدمنا هذا مستوفى في سورة " البقرة " .

فالشافعي وإن سخر الظاهرية منه في تحريمه الربا في التفاح فهو متمسك في ذلك بظاهر حديث صحيح ، يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " . فما المانع للظاهرية من القول بظاهر هذا الحديث الصحيح على عادتهم التي يزعمون فيحكمون على الطعام بأنه مثل بمثل ؟ وما مستندهم في مخالفة ظاهر هذا الحديث الصحيح ، وحكمهم بالربا في البر والشعير والتمر والملح دون غيرها من سائر المطعومات ؟ مع أن لفظ الطعام في الحديث المذكور عام للأربعة المذكورة وغيرها كما ترى ، فهل الشافعي في تحريم الربا في التفاح أقرب إلى ظاهر النص أو الظاهرية ؟ وكذلك سخريتهم من الإمام أبي حنيفة وأحمد - رحمهما الله - في قولهما بدخول الربا في كل مكيل وموزون ، مستهزئين بمن يقول بالربا في الأشنان قياسا على التمر - إذا تأملت فيه وجدت الإمامين - رحمهما الله - أقرب في ذلك إلى ظاهر النص من الظاهرية .

قال الحاكم في ( المستدرك ) : حدثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ، ثنا الحسن بن مكرم ، ثنا روح بن عبادة ، ثنا حيان بن عبيد الله العدوي ، قال : سألت أبا مجلز عن الصرف ، فقال : كان ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يرى به بأسا زمانا من عمره ما كان منه عينا ، يعني يدا بيد ، فكان يقول : إنما الربا في النسيئة . فلقيه أبو سعيد الخدري ، فقال : يا ابن عباس ، ألا تتقي الله إلى متى تؤكل الناس الربا ؟ أما بلغك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم وهو عند زوجته أم سلمة : " إني لأشتهي تمر عجوة " فبعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار ، فجاء بدل صاعين صاع من تمر عجوة ، فقامت فقدمته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رآه أعجبه ، فتناول تمرة ، ثم أمسك فقال : " من أين لكم هذا ؟ " [ ص: 225 ] فقالت أم سلمة : بعثت صاعين من تمر إلى رجل من الأنصار ، فأتانا بدل صاعين هذا الصاع الواحد ، وها هو ، كل ، فألقى التمرة بين يديه فقال : " ردوه لا حاجة لي فيه ، التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، يدا بيد ، عينا بعين ، مثلا بمثل ، فمن زاد فهو ربا " ثم قال " كذلك ما يكال ويوزن أيضا " إلى آخره .

ثم قال الحاكم - رحمه الله - : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه بهذه السياقة . وهذا الحديث الذي قال الحاكم : إنه صحيح الإسناد ، فيه التصريح بأن ما يكال ويوزن يباع مثلا بمثل ، يدا بيد ، وقد قدمنا مرارا أن الموصولات من صيغ العموم لعمومها في كل ما تشمله صلاتها . فأبو حنيفة مثلا القائل بالربا في الأشنان متمسك بظاهر هذا الحديث ، فهو أقرب إلى ظاهر النص من الظاهرية المستهزئين به ، الزاعمين أنه بعيد في ذلك عن النص .

فإن قيل : هذا الحدث لا يحتج به لضعفه ، وقد قال الذهبي متعقبا على الحاكم تصحيحه للحديث المذكور ما نصه : قلت : حيان فيه ضعف وليس بالحجة ، وقد أشار البيهقي إلى تضعيف هذا الحديث ، وأعله ابن حزم من ثلاثة أوجه : الأول : زعمه أنه منقطع ؛ لأن أبا مجلز لم يسمع من أبي سعيد ولا من ابن عباس . الثاني : أن في الحديث أن ابن عباس رجع عن القول بإباحة ربا الفضل . واعتقاد ابن حزم أن ذلك باطل لقول سعيد بن جبير : إن ابن عباس لم يرجع عن ذلك . والثالث : أن حيان بن عبيد الله المذكور في سند هذا الحديث مجهول .

فالجواب عن ذلك كله هو ما ستراه الآن إن شاء الله ، وهو راجع إلى شيئين : الأول : مناقشة من ضعف الحديث ، وبيان أنه ليس بضعيف . والثاني : أنا لو سلمنا ضعفه تسليما جدليا فهو معتضد بما يثبت الاحتجاج به من الشواهد .

أما المناقشة في تضعيفه ، فقول الذهبي : إن حيان فيه ضعف وليس بالحجة - معارض بقول أبي حاتم فيما ذكره عن ابنه في كتاب " الجرح والتعديل " : إنه صدوق ، ومعلوم أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل إلا مبينا مفصلا كما هو مقرر في علوم الحديث . وقد ترجم له البخاري في تاريخه الكبير ولم يذكر فيه جرحا . وإعلال ابن حزم له بأنه منقطع وأن حيان مجهول قد قدمنا مناقشته فيه في سورة " البقرة " ؛ لأن أبا مجلز أدرك ابن عباس ، وسمع عنه .

قال ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " في أبي مجلز المذكور : وهو لاحق بن حميد [ ص: 226 ] السدوسي البصري ، توفي أيام عمر بن عبد العزيز ، وروى عن ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس وجندب . . . إلخ ، وتصريحه بروايته عن ابن عباس يدل على عدم صحة قول ابن حزم : إنه لم يسمع من ابن عباس . وقال البخاري في تاريخه الكبير في لاحق بن حميد المذكور : أبو مجلز السدوسي البصري ، مات قبل الحسن بقليل ، ومات الحسن سنة عشر ومائة ، سمع ابن عمر ، وابن عباس ، وأنس بن مالك . . . إلخ . وفيه تصريح البخاري بسماع أبي مجلز من ابن عباس ، ومع هذا فابن حزم يقول : هو منقطع لعدم سماعه منه . وأما أبو سعيد فلا شك أنه أدركه أبو مجلز المذكور ، والمعاصرة تكفي ، ولا يشترط ثبوت اللقي على التحقيق ، كما أوضحه مسلم بن الحجاج في مقدمة صحيحه .

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب في أبي مجلز المذكور : روى عن أبي موسى الأشعري ، والحسن بن علي ، ومعاوية ، وعمران بن حصين ، وسمرة بن جندب ، وابن عباس ، والمغيرة بن شعبة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وأنس ، وجندب بن عبد الله ، وسلمة بن كهيل ، وقيس بن عباد ، وغيرهم . وأرسل عن عمر بن الخطاب ، وحذيفة . . . إلخ . ومما يوضح معاصرة أبي مجلز لأبي سعيد أن جماعة من هؤلاء الصحابة الذين ذكر ابن حجر أنه روى عنهم ماتوا قبل أبي سعيد - رضي الله عنهم . فأبو سعيد - رضي الله عنه - توفي سنة ثلاث أو أربع أو خمس بعد الستين ، وقد مات قبله الحسن بن علي ، وأبو موسى الأشعري ، وعمران بن حصين ، ومعاوية ، وسمرة بن جندب كما هو معلوم .

وأما قول ابن حزم : إنه مجهول فقد قدمنا مناقشة السبكي له في تكملة المجموع ، وأنه قال : فإن أراد ابن حزم أنه مجهول العين فليس بصحيح ، بل هو رجل مشهور ، روى عنه حديث الصرف هذا روح بن عبادة ، ومن جهته أخرجه الحاكم ، وذكره ابن حزم ، وإبراهيم بن الحجاج الشامي ، ومن جهته رواه ابن عدي ويونس بن محمد ، ومن جهته رواه البيهقي ' وهو حيان بن عبيد الله بن حيان بن بشر بن عدي بصري ، سمع أبا مجلز لاحق بن حميد ، والضحاك وعن أبيه ، وروى عن عطاء ، وابن بريدة ، روى عنه موسى بن إسماعيل ومسلم بن إبراهيم ، وأبو داود ، وعبيد الله بن موسى ، عقد له البخاري ، وابن أبي حاتم ترجمة فذكر كل منهما بعض ما ذكرته . وله ترجمة في كتاب ابن عدي كما أشرت إليه ، فزال عنه جهالة العين . وإن أراد جهالة الحال فهو قد رواه من طريق إسحاق بن راهويه ، فقال في إسناده : أخبرنا روح ، قال : حدثنا حيان بن عبيد الله ، وكان رجل صدق . فإن كانت هذه الشهادة له بالصدق من روح بن عبادة ، فروح محدث نشأ في الحديث ، عارف به ، مصنف [ ص: 227 ] متفق على الاحتجاج به ، بصري بلدي للمشهود له فتقبل شهادته له . وإن كان هذا القول من إسحاق بن راهويه فناهيك به ، ومن يثني عليه إسحاق ! وقد ذكر ابن أبي حاتم حيان بن عبيد الله هذا ، وذكر جماعة من المشاهير ممن رووا عنه وممن روي عنهم ، قال : إنه سأل أباه عنه ، فقال : صدوق . ا هـ من تكملة المجموع كما قدمناه في سورة " البقرة " . والذي رأيت في سنن البيهقي الكبرى أن الراوي عن حيان المذكور في إسناده له إبراهيم بن الحجاج ، وقال صاحب " الجوهر النقي " : وحيان هذا ذكره ابن حبان في الثقات من أتباع التابعين . وقال الذهبي في الضعفاء : جائز الحديث . وقال عبد الحق في أحكامه : قال أبو بكر البزار : حيان رجل من أهل البصرة مشهور وليس به بأس . وقال فيه أبو حاتم : صدوق . وقال بعض المتأخرين فيه : مجهول . ولعله اختلط عليه بحيان بن عبيد الله المروي ، وبما ذكر تعلم أن دعوى ابن حزم أن الحديث منقطع ، وأن حيان المذكور مجهول ليست بصحيحة .

وأما دعواه عدم رجوع ابن عباس لقول سعيد بن جبير : إنه لم يرجع عن القول بإباحة ربا الفضل ، فقد قدمنا الروايات الواردة برجوعه مستوفاة في سورة " البقرة " عن جماعة من أصحابه ، ولا شك أنها أولى من قول سعيد بن جبير ؛ لأنهم جماعة وهو واحد ؛ ولأنهم مثبتون رجوعه وهو نافيه ، والمثبت مقدم على النافي . وأما شواهد حديث حيان المذكور الدال على أن الربا في كل ما يكال ويوزن ؛ فمنها ما قدمنا في سورة " البقرة " من حديث أنس ، وعبادة بن الصامت عند الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعا واحدا ، وما كيل فمثل ذلك . فإذا اختلف النوعان فلا بأس به " وقد قدمنا في سورة " البقرة " قول الشوكاني : إن حديث أنس وعبادة هذا أشار إليه ابن حجر في " التلخيص " ولم يتكلم عليه ، وفي إسناده الربيع بن صبيح ، وثقه أبو زرعة ، وغيره ، وضعفه جماعة ، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضا . ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولا ، وغيره من الأحاديث . انتهى منه كما تقدم . وفي هذا الحديث المذكور دليل واضح على أن كل ما يكال أو يوزن فيه الربا وإن سخر الظاهرية ممن يقول بذلك ، ومن شواهد حديث حيان المذكور الحديث المتفق عليه . قال البخاري في صحيحه في ( كتاب الوكالة ) : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلا على خيبر ، فجاءهم بتمر جنيب ، فقال : " أكل تمر خيبر هكذا " ؟ فقال : إنا [ ص: 228 ] لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة . فقال : " لا تفعل ، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا " ، وقال في الميزان مثل ذلك . انتهى منه .

ومحل الشاهد منه قوله : وقال في الميزان مثل ذلك ، ومعناه ظاهر جدا في أن ما يوزن بالميزان مثل ذلك في منع الربا . وقد قدمنا أقوال من أول هذا الحديث وصرفه عن المعنى المذكور في سورة " البقرة " . وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، حدثنا سليمان - يعني ابن بلال - عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا هريرة وأبا سعيد حدثاه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر ، فقدم بتمر جنيب ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أكل تمر خيبر هكذا ؟ " . قال : لا ، والله يا رسول الله إنا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تفعلوا ، ولكن مثلا بمثل ، أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان " انتهى منه . وقوله في هذا الحديث المتفق عليه " وكذلك الميزان " ظاهر جدا في أن ما يوزن كما يكال ، وأن في ذلك كله الربا . ولا شك أن هذه الأحاديث التي عمل بها بعض الأئمة وإن استهزأ بهم الظاهرية في ذلك أقرب إلى ظاهر النص من قول الظاهرية : إنه لا ربا إلا في الستة المذكورة قبل . والمقصود التمثيل لأحوالهم مع الأئمة المجتهدين رحمهم الله .

تنبيه

اعلم أنا نقول بموجب الأحاديث التي استدل بها الظاهرية على أن ما سكت عنه الشارع فهو عفو ، ونقول مثلا : إن صوم شهر آخر غير رمضان لم يوجب علينا فهو عفو . ولكن لا نسلم أن آية : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ساكتة عن تحريم ضرب الوالدين ، بل نقول هي دالة عليه ، وادعاء أنها لم تتعرض لذلك باطل كما ترى . ولا نقول : إن آية فمن يعمل مثقال ذرة الآية [ 99 \ 7 ] ساكتة عن مؤاخذة من عمل مثقال جبل ، بل هي دالة على المؤاخذة بذلك . وهكذا إلى آخر ما ذكرنا من أمثلة ذلك في هذه المباحث وفي سورة " بني إسرائيل " . وما ذكرنا سابقا من أن الصواب في مسألة القياس أنه قسمان ؛ صحيح وفاسد ، كما بينا وكما أوضحه ابن القيم في كلامه الذي نقلنا - اعتمده صاحب " مراقي السعود " في قوله في القياس :


وما روي من ذمة فقد عني به الذي على الفساد قد بني
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:21 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (306)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 229 إلى صـ 235




المسألة الثامنة

اعلم أن جماهير القائلين بالقياس يقولون : إنه إن خالف النص فهو باطل ، ويسمون القدح فيه بمخالفته للنص فساد الاعتبار . كما أشار إليه صاحب " مراقي السعود " بقوله :



والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى كما قدمناه في سورة " البقرة " .

واعلم أن ما يذكره بعض علماء الأصول من المالكية وغيرهم عن الإمام مالك من أنه يقدم القياس على أخبار الآحاد خلاف التحقيق . والتحقيق : أنه يقدم أخبار الآحاد على القياس ، واستقراء مذهبه يدل على ذلك دلالة واضحة ، ولذلك أخذ بحديث المصراة في دفع صاع التمر عوض اللبن . ومن أصرح الأدلة التي لا نزاع بعدها في ذلك أنه يقول : إن في ثلاثة أصابع من أصابع المرأة ثلاثين من الإبل ، وفي أربعة أصابع من أصابعها عشرين من الإبل . كما قدمناه مستوفى في سورة " بني إسرائيل " . ولا شيء أشد مخالفة للقياس من هذا كما قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن لسعيد بن المسيب حين عظم جرحها ، واشتدت مصيبتها : نقص عقلها . ومالك خالف القياس في هذا القول ، سعيد بن المسيب : إنه السنة ، كما تقدم . وبعد هذا فلا يمكن لأحد أن يقول : إن مالكا يقدم القياس على النص ، ومسائل الاجتهاد والتقليد مدونة في أصول الفقه ، ولأجل ذلك نكتفي بما ذكرنا من ذلك هنا .
المسألة التاسعة

اعلم أن أكثر أهل العلم قالوا : إن الحرث الذي حكم فيه سليمان وداود إذ نفشت فيه غنم القوم بستان عنب ، والنفش : رعي الغنم ليلا خاصة ، ومنه قول الراجز :



بدلن بعد النفش الوجيفا وبعد طول الجرة الصريفا وقيل : كان الحرث المذكور زرعا ، وذكروا أن داود حكم بدفع الغنم لأهل الحرث عوضا من حرثهم الذي نفشت فيه فأكلته . وقال بعض أهل العلم : اعتبر قيمة الحرث فوجد الغنم بقدر القيمة فدفعها إلى أصحاب الحرث ، إما لأنه لم يكن لهم دراهم أو تعذر بيعها ، ورضوا بدفعها ورضي أولئك بأخذها بدلا من القيمة . وأما سليمان فحكم بالضمان على [ ص: 230 ] أصحاب الغنم ، وأن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يعمروا البستان حتى يعود كما كان حين نفشت فيه غنمهم . ولم يضيع عليهم غلته من حين الإتلاف إلى حين العود ، بل أعطى أصحاب البستان ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نماء حرثهم . وقد اعتبر النماءين فوجدهما سواء ، قالوا : وهذا هو العلم الذي خصه الله به ، وأثنى عليه بإدراكه . هكذا يقولون ، والله تعالى أعلم .
المسألة العاشرة

اعلم أن العلماء اختلفوا في مثل هذه القصة . فلو نفشت غنم قوم في حرث آخرين فتحاكموا إلى حاكم من حكام المسلمين فماذا يفعل ؟ اختلف العلماء في ذلك ، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن ما أفسدته البهائم ليلا يضمنه أرباب الماشية بقيمته ، وهو المشهور من مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله . وقيل : يضمنونه بمثله كقضية سليمان . قال ابن القيم : وهذا هو الحق ، وهو أحد القولين في مذهب أحمد ، ووجه للشافعية والمالكية ، والمشهور عنهم خلافه . والآية تشير إلى اختصاص الضمان بالليل ؛ لأن النفش لا يطلق لغة إلا على الرعي بالليل كما تقدم . واحتج الجمهور لضمان أصحاب البهائم ما أفسدته ليلا بحديث حرام بن محيصة ، أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه ، فقضى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار ، وأن ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها " رواه الأئمة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والدارقطني ، وابن حبان ، وصححه الحاكم ، فقال بعد أن ساق الحديث المذكور : هذا حديث صحيح الإسناد على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي ، فإن معمرا قال : عن الزهري ، عن حرام بن محيصة ، عن أبيه ، وأقره الذهبي على تصحيحه ولم يتعقبه .

وقال الشوكاني - رحمه الله - في ( نيل الأوطار ) في الحديث المذكور : صححه الحاكم ، والبيهقي . قال الشافعي : أخذنا به لثبوته واتصاله ومعرفة رجاله . ا هـ منه . والاختلاف على الزهري في رواية هذا الحديث كثير معروف .

وقال ابن عبد البر : وهذا الحديث وإن كان مرسلا فهو حديث مشهور ، أرسله الأئمة ، وحدث به الثقات ، واستعمله فقهاء الحجاز وتلقوه بالقبول ، وجرى في المدينة العمل به ، وحسبك باستعمال أهل المدينة وسائر أهل الحجاز لهذا الحديث ، وعلى كل حال فالحديث المذكور احتج به جمهور العلماء ، منهم الأئمة الثلاثة المذكورون على أن [ ص: 231 ] ما أفسدته البهائم بالليل على أربابها ، وفي النهار على أهل الحوائط حفظها . ومشهور مذهب مالك وأحمد والشافعي أنه يضمن بقيمته كما تقدم . وأبو حنيفة يقول : لا ضمان مطلقا في جناية البهائم ، ويستدل بالحديث الصحيح : " العجماء جبار " أي : جرحها هدر . والجمهور يقولون : إن الحديث المذكور عام ، وضمان ما أفسدته ليلا مخصص له . وذهب داود ومن وافقه إلى أن ما أتلفته البهائم بغير علم مالكها ولو ليلا ضمان فيه ، وأما إذا رعاها صاحبها باختياره في حرث غيره فهو ضامن بالمثل .

واعلم أن القائلين بلزوم قيمة ما أفسدته البهائم ليلا يقولون : يضمنه أصحابها ولو زاد على قيمتها ، خلافا لليث القائل : لا يضمنون ما زاد على قيمتها ، وفي المسألة تفاصيل مذكورة في كتب الفروع ، وصيغة الجمع في الضمير في قوله : لحكمهم [ 21 \ 78 ] الظاهر أنها مراد بها سليمان ، وداود ، وأصحاب الحرث ، وأصحاب الغنم ، وأضاف الحكم إليهم لأن منهم حاكما ومحكوما له ومحكوما عليه .

وقوله : ففهمناها أي : القضية أو الحكومة المفهومة من قوله : إذ يحكمان في الحرث [ 21 \ 78 ] وقوله : وكلا آتينا [ 21 \ 79 ] أي : أعطينا كلا من داود وسليمان حكما وعلما . والتنوين في قوله : وكلا عوض عن كلمة ، أي : كل واحد منهما .
قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه سخر الجبال ، أي : ذللها ، وسخر الطير تسبح مع داود . وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من تسخيره الطير والجبال تسبح مع نبيه داود بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : ولقد آتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير الآية [ 34 \ 10 ] . وقوله : أوبي معه أي : رجعي معه التسبيح . والطير أي : ونادينا الطير بمثل ذلك من ترجيع التسبيح معه . وقول من قال أوبي معه : أي : سيري معه ، وأن التأويب سير النهار - ساقط كما ترى . وكقوله تعالى : واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب [ 38 \ 17 - 18 ] .

والتحقيق : أن تسبيح الجبال والطير مع داود المذكور تسبيح حقيقي ؛ لأن الله - جل وعلا - يجعل لها إدراكات تسبح بها ، يعلمها هو - جل وعلا - ونحن لا نعلمها . كما قال : [ ص: 232 ] وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 7 \ 44 ] وقال تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله الآية [ 2 \ 74 ] وقال تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها الآية [ 33 \ 72 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري أن الجذع الذي كان يخطب عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما انتقل عنه بالخطبة إلى المنبر سمع له حنين . وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن " وأمثال هذا كثيرة . والقاعدة المقررة عند العلماء أن نصوص الكتاب ، والسنة لا يجوز صرفها عن ظاهرها المتبادر منها إلا بدليل يجب الرجوع إليه . والتسبيح في اللغة : الإبعاد عن السوء ، وفي اصطلاح الشرع : تنزيه الله - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية وسخرنا مع داود الجبال [ 21 \ 79 ] أي : جعلناها بحيث تطيعه إذا أمرها بالتسبيح ، والظاهر أن قوله : وكنا فاعلين مؤكد لقوله : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير [ 21 \ 79 ] والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة ، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة .

وقال الزمخشري وكنا فاعلين أي : قادرين على أن نفعل هذا . وقيل : كنا نفعل بالأنبياء مثل ذلك . وكلا القولين اللذين قال ظاهر السقوط ؛ لأن تأويل وكنا فاعلين بمعنى كنا قادرين بعيد ، ولا دليل عليه كما لا دليل على الآخر كما ترى .

وقال أبو حيان وكنا فاعلين أي : فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا . ا هـ . وأظهرها عندي هو ما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون .

الضمير في قوله : وعلمناه راجع إلى داود ، والمراد بصيغة اللبوس : صنعة الدروع ونسجها . والدليل على أن المراد باللبوس في الآية الدروع أنه أتبعه بقوله : لتحصنكم من بأسكم [ 21 \ 80 ] أي : لتحرز وتقي بعضكم من بأس بعض ؛ لأن الدرع تقيه ضرر الضرب بالسيف ، والرمي بالرمح والسهم كما هو معروف . وقد أوضح [ ص: 233 ] هذا المعنى بقوله : وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد [ 34 \ 10 - 11 ] فقوله : أن اعمل سابغات أي : أن اصنع دروعا سابغات من الحديد الذي ألناه لك .

والسرد : نسج الدرع . ويقال فيه : الزرد ، ومن الأول قول أبي ذؤيب الهذلي :



وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع ومن الثاني قول الآخر :



نقريهم لهذميات نقد بها ما كان خاط عليهم كل زراد
ومراده بالزراد : ناسج الدرع . وقوله : وقدر في السرد أي : اجعل الحلق والمسامير في نسجك الدرع بأقدار متناسبة ، فلا تجعل المسمار دقيقا لئلا ينكسر ولا يشد بعض الحلق ببعض ، ولا تجعله غليظا غلظا زائدا فيفصم الحلقة . وإذا عرفت أن اللبوس في الآية الدروع فاعلم أن العرب تطلق اللبوس على الدروع كما في الآية . ومنه قول الشاعر :



عليها أسود ضاويات لبوسهم سوابغ بيض لا يخرقها النبل
فقوله : " سوابغ " أي : دروع سوابغ ، وقول كعب بن زهير :



شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
ومراده باللبوس التي عبر عنها بالسرابيل : الدروع . والعرب تطلق اللبوس أيضا على جميع السلاح ، درعا كان أو جوشنا أو سيفا أو رمحا . ومن إطلاقه على الرمح قول أبي كبير الهذلي يصف رمحا :



ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة ذي نعاج مجفل
وتطلق اللبوس أيضا على كل ما يلبس ، ومنه قول بيهس :



البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
وما ذكره هنا من الامتنان على الخلق بتعليمه صنعة الدروع ليقيهم بها من بأس السلاح تقدم إيضاحه في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهل أنتم شاكرون [ 21 \ 80 ] الظاهر فيه أن صيغة الاستفهام هنا يراد بها الأمر ، ومن إطلاق الاستفهام بمعنى الأمر في القرآن قوله [ ص: 234 ] تعالى : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون [ 5 \ 91 ] أي : انتهوا . ولذا قال عمر - رضي الله عنه - : انتهينا يا رب . وقوله تعالى : وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم الآية [ 3 \ 20 ] أي : أسلموا . وقد تقرر في فن المعاني أن في المعاني التي تؤدى بصيغة الاستفهام : الأمر ، كما ذكرنا .

وقوله : شاكرون شكر العبد لربه : هو أن يستعين بنعمه على طاعته ، وشكر الرب لعبده : هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل . ومادة " شكر " لا تتعدى غالبا إلا باللام ، وتعديتها بنفسها دون اللام قليلة ، ومنه قول أبي نخيلة :



شكرتك إن الشكر حبل من التقى وما كل من أوليته نعمة يقضي
وفي قوله : لتحصنكم ثلاث قراءات سبعية : قرأه عامة السبعة ما عدا ابن عامر وعاصما ليحصنكم بالياء المثناة التحتية ، وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل عائد إلى داود أو إلى اللبوس ؛ لأن تذكيرها باعتبار معنى ما يلبس من الدروع جائز . وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم لتحصنكم بالتاء المثناة الفوقية ، وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل راجع إلى اللبوس وهي مؤنثة ، أو إلى الصنعة المذكورة في قوله : صنعة لبوس وقرأه شعبة عن عاصم لنحصنكم بالنون الدالة على العظمة وعلى هذه القراءة فالأمر واضح .
قوله تعالى : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين .

قوله : ولسليمان الريح [ 21 \ 81 ] معطوف على معمول " وسخرنا " ، في قوله : وسخرنا مع داود الجبال [ 21 \ 79 ] أي : وسخرنا لسليمان الريح في حال كونها عاصفة ، أي : شديدة الهبوب . يقال : عصفت الريح أي : اشتدت ، فهي ريح عاصف وعصوف ، وفي لغة بني أسد ( أعصفت ) فهي معصف ومعصفة ، وقد قدمنا بعض شواهده العربية في سورة ( الإسراء ) .

وقوله : تجري بأمره أي : تطيعه وتجري إلى المحل الذي يأمرها به ، وما ذكره في هذه الآية من تسخير الريح لسليمان ، وأنها تجري بأمره بينه في غير هذا الموضع ، وزاد بيان قدر سرعتها ، وذلك في قوله : ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر [ ص: 235 ] [ 34 \ 12 ] وقوله : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب [ 38 \ 36 ] .

تنبيه

اعلم أن في هذه الآيات التي ذكرنا سؤالين معروفين :

الأول : أن يقال : إن الله وصف الريح المذكورة هنا في سورة " الأنبياء " بأنها عاصفة ، أي : شديدة الهبوب ، ووصفها في سورة " ص " بأنها تجري بأمره رخاء ، والعاصفة غير التي تجري رخاء .

والسؤال الثاني : هو أنه هنا في سورة " الأنبياء " خص جريها به بكونه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين ، وفي سورة " ص " قال : تجري بأمره رخاء حيث أصاب [ 38 \ 36 ] وقوله : حيث أصاب يدل على التعميم في الأمكنة التي يريد الذهاب إليها على الريح . فقوله : حيث أصاب أي : حيث أراد ، قاله مجاهد . وقال ابن الأعرابي : العرب تقول : أصاب الصواب ، وأخطأ الجواب ، أي : أراد الصواب وأخطأ الجواب . ومنه قول الشاعر :



أصاب الكلام فلم يستطع فأخطأ الجواب لدى المفصل قاله القرطبي . وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن معنى " أصاب " ، فخرج إليهما فقال : أين تصيبان ؟ فقالا : هذه طلبتنا ، ورجعا .

أما الجواب عن السؤال الأول فمن وجهين : الأول : أنها عاصفة في بعض الأوقات ، ولينة رخاء في بعضها بحسب الحاجة ، كأن تعصف ويشتد هبوبها في أول الأمر حتى ترفع البساط الذي عليه سليمان وجنوده ، فإذا ارتفع سارت به رخاء حيث أصاب .

الجواب الثاني : هو ما ذكره الزمخشري قال : فإن قلت : وصفت هذه الريح بالعصف تارة وبالرخاء أخرى ، فما التوفيق بينهما ؟ قلت : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم ، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة ، على ما قال : غدوها شهر ورواحها شهر ، فكان جمعها بين الأمرين : أن تكون رخاء في نفسها ، وعاصفة في عملها ، مع طاعتها لسليمان ، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم . ا هـ محل الغرض منه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:25 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (307)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 236 إلى صـ 242


وأما الجواب عن السؤال الثاني : فهو أن قوله : حيث أصاب يدل على أنها تجري بأمره حيث أراد من أقطار الأرض . وقوله : تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها [ ص: 236 ] [ 38 \ 36 ] لأن مسكنه فيها وهي الشام ، فترده إلى الشام . وعليه فقوله : حيث أصاب في حالة الذهاب . وقوله : إلى الأرض التي باركنا فيها في حالة الإياب إلى محل السكنى . فانفكت الجهة فزال الإشكال . وقد قال نابغة ذبيان :



إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وتدمر : بلد بالشام . وذلك مما يدل على أن الشام هو محل سكناه كما هو معروف .
قوله تعالى : ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين أنه في محل نصب عطفا على معمول سخرنا أي : وسخرنا له من يغوصون له من الشياطين . وقيل : " من " مبتدأ ، والجار والمجرور قبله خبره .

وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه سخر لسليمان من يغوصون له من الشياطين ، أي : يغوصون له في البحار فيستخرجون له منها الجواهر النفيسة ، كاللؤلؤ والمرجان . والغوص : النزول تحت الماء ، والغواص : الذي يغوص البحر ليستخرج منه اللؤلؤ ونحوه . ومنه قول نابغة ذبيان :



أو درة صدفية غواصها بهج متى يرها يهل ويسجد وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أيضا أن الشياطين المسخرين له يعملون له عملا دون ذلك ، أي : سوى ذلك الغوص المذكور ، أي : كبناء المدائن ، والقصور ، وعمل المحاريب ، والتماثيل ، والجفان ، والقدور الراسيات ، وغير ذلك من اختراع الصنائع العجيبة .

وقوله في هذه الآية الكريمة : وكنا لهم حافظين أي : من أن يزيغوا عن أمره ، أو يبدلوا أو يغيروا ، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه . وهذه المسائل الثلاث التي تضمنتها هذه الآية الكريمة جاءت مبينة في غير هذا الموضع ، كقوله في الغوص والعمل سواء : والشياطين كل بناء وغواص الآية [ 38 \ 37 ] وقوله في العمل غير الغوص : ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه [ 34 \ 12 ] وقوله : يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات [ 34 \ 13 ] وكقوله في حفظهم من أن يزيغوا عن أمره : ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير [ 34 \ 12 ] [ ص: 237 ] وقوله : وآخرين مقرنين في الأصفاد [ 38 \ 38 ] .

وصفة البساط ، وصفة حمل الريح له ، وصفة جنود سليمان من الجن والإنس والطير كل ذلك مذكور بكثرة في كتب التفسير ، ونحن لم نطل به الكلام في هذا الكلام المبارك .
قوله تعالى : وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين .

الظاهر أن قوله : وأيوب منصوب بـ " اذكر " مقدرا ، ويدل على ذلك قوله تعالى في " ص " : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب [ 38 \ 41 ] .

وقد أمر - جل وعلا - في هاتين الآيتين الكريمتين نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يذكر أيوب حين نادى ربه قائلا : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين [ 21 \ 83 ] وأن ربه استجاب له فكشف عنه جميع ما به من الضر ، وأنه آتاه أهله ، وآتاه مثلهم معهم رحمة منه - جل وعلا - به وتذكيرا للعابدين ، أي الذين يعبدون الله ؛ لأنهم هم المنتفعون بالذكرى .

وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة " ص " في قوله : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب إلى قوله : لأولي الألباب [ 38 \ 41 - 43 ] والضر الذي مس أيوب ، ونادى ربه ليكشفه عنه كان بلاء أصابه في بدنه وأهله وماله . ولما أراد الله إذهاب الضر عنه أمره أن يركض برجله ففعل ، فنبعت له عين ماء ، فاغتسل منها ، فزال كل ما بظاهر بدنه من الضر ، وشرب منها فزال كل ما بباطنه . كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب [ 38 \ 42 ] .

وما ذكره في " الأنبياء " من أنه آتاه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لمن يعبده بينه في " ص " في قوله : ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب [ 38 \ 43 ] وقوله في " الأنبياء " : وذكرى للعابدين [ 21 \ 84 ] مع قوله في " ص " ، وذكرى لأولي الألباب [ 38 \ 43 ] فيه الدلالة الواضحة على أن أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال هم الذين يعبدون الله وحده ويطيعونه . وهذا يؤيد قول من قال من أهل العلم : إن من أوصى بشيء من ماله لأعقل الناس أن تلك الوصية تصرف لأتقى الناس وأشدهم طاعة لله تعالى ؛ لأنهم هم أولو الألباب ، أي العقول [ ص: 238 ] الصحيحة السالمة من الاختلال .
تنبيه

في هذه الآيات المذكورة سؤال معروف ، وهو أن يقال : إن قول أيوب المذكور في " الأنبياء " في قوله : إذ نادى ربه أني مسني الضر وفي " ص " في قوله : إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب يدل على أنه ضجر من المرض فشكا منه ، مع أن قوله تعالى عنه : إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب [ 38 \ 44 ] يدل على كمال صبره

والجواب أن ما صدر من أيوب دعاء وإظهار فقر وحاجة إلى ربه ، لا شكوى ولا جزع .

قال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ولم يكن قوله : مسني الضر جزعا ؛ لأن الله تعالى قال : إنا وجدناه صابرا بل كان ذلك دعاء منه . والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى ، والدعاء لا ينافي الرضا . قال الثعلبي : سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلسا غاصا بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ، فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى : إنا وجدناه صابرا فقلت : ليس هذا شكاية ، وإنما كان دعاء ، بيانه فاستجبنا له والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء . فاستحسنوه وارتضوه . وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال . انتهى منه .

ودعاء أيوب المذكور ذكره الله في سورة " الأنبياء " من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله : أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وذكره في سورة " ص " وأسند ذلك إلى الشيطان في قوله : أني مسني الشيطان بنصب وعذاب والنصب على جميع القراءات معناه : التعب والمشقة ، والعذاب : الألم . وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة " ص " هذه إشكال قوي معروف ؛ لأن الله ذكر في آيات من كتابه أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام ، كقوله : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله تعالى : وما كان له [ ص: 239 ] عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 21 ] وقوله تعالى مقررا له : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 \ 22 ] وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] .

وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة ، منها ما ذكره الزمخشري قال :

فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان ، ولا يجوز أن يسلطه على أنبيائه ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه ، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟

قلت : لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه ، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ، ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع ، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل .

وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ، فارتد أحدهم فسأل عنه ، فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين . وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه . وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه . وقيل . أعجب بكثرة ماله . انتهى منه .

ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب ، فأهلك الشيطان ماله وولده ، ثم سلطه على بدنه ابتلاء له ، فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها ، فصار في جسده ثآليل ، فحكها بأظافره حتى دميت ، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه ، وعصم الله قلبه ولسانه ( وغالب ذلك من الإسرائيليات ) وتسليطه للابتلاء على جسده وماله وأهله ممكن ، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي ، كمداهنة الملك المذكور ، وعدم إغاثة الملهوف ، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون . وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه ، وقدر مدته ( وكل ذلك من الإسرائيليات ) وقد ذكرنا هنا قليلا .

وغاية ما دل عليه القرآن أن الله ابتلى نبيه أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر ، ووهبه أهله ومثلهم معهم ، وأن أيوب نسب [ ص: 240 ] ذلك في " ص " إلى الشيطان . ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله ابتلاء ليظهر صبره الجميل ، وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة ، ويرجع له كل ما أصيب فيه ، والعلم عند الله تعالى ، وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب ؛ لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض ، وذلك يقع للأنبياء ، فإنهم يصيبهم المرض ، وموت الأهل ، وهلاك المال لأسباب متنوعة . ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء ، وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض ، والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة " طه " وقول الله لنبيه أيوب في سورة " ص " : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث [ 38 \ 44 ] قال المفسرون فيه : إنه حلف في مرضه ليضربن زوجه مائة سوط ، فأمره الله أن يأخذ ضغثا فيضربها به ليخرج من يمينه ، والضغث : الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو نحو ذلك . والمعنى : أنه يأخذ حزمة فيها مائة عود ، فيضربها بها ضربة واحدة ، فيخرج بذلك من يمينه . وقد قدمنا في سورة " الكهف " الاستدلال بآية ولا تحنث [ 38 \ 44 ] على أن الاستثناء المتأخر لا يفيد ؛ إذ لو كان يفيد لقال الله لأيوب : قل إن شاء الله ليكون ذلك استثناء في يمينك .
قوله تعالى : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين .

أي : واذكر ذا النون . والنون : الحوت . " وذا " بمعنى صاحب . فقوله : وذا النون معناه : صاحب الحوت . كما صرح الله بذلك في " القلم " في قوله : ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] . وإنما أضافه إلى الحوت لأنه التقمه كما قال تعالى : فالتقمه الحوت وهو مليم [ 37 \ 142 ] .

وقوله : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] فيه وجهان من التفسير لا يكذب أحدهما الآخر :

الأول : أن المعنى لن نقدر عليه أي : لن نضيق عليه في بطن الحوت . ومن إطلاق " قدر " بمعنى " ضيق " في القرآن قوله تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 13 \ 26 ] أي : ويضيق الرزق على من يشاء ، وقوله تعالى : لينفق ذو سعة من سعته [ ص: 241 ] ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله الآية [ 65 \ 7 ] . فقوله : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] أي : ومن ضيق عليه رزقه .

الوجه الثاني : أن معنى لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] لن نقضي عليه ذلك . وعليه فهو من القدر والقضاء . " وقدر " بالتخفيف تأتي بمعنى " قدر " المضعفة : ومنه قوله تعالى : فالتقى الماء على أمر قد قدر [ 54 \ 12 ] أي : قدره الله . ومنه قول الشاعر - وأنشده ثعلب شاهدا لذلك - :



فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
تباركت ما تقدر يقع لك الشكر والعرب تقول : قدر الله لك الخير يقدره قدرا ، كضرب يضرب ، ونصر ينصر ، بمعنى قدره لك تقديرا . ومنه على أصح القولين " ليلة القدر " ؛ لأن الله يقدر فيها الأشياء . كما قال تعالى : فيها يفرق كل أمر حكيم [ 44 \ 4 ] والقدر بالفتح ، والقدر بالسكون : ما يقدره الله من القضاء . ومنه قول هدبة بن الخشرم :



ألا يا لقومي للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
أما قول من قال : إن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] من القدرة فهو قول باطل بلا شك ؛ لأن نبي الله يونس لا يشك في قدرة الله على كل شيء ، كما لا يخفى .

وقوله في هذه الآية الكريمة : مغاضبا أي : في حال كونه مغاضبا لقومه . ومعنى المفاعلة فيه : أنه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب بهم ، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه ، فأوعدهم بالعذاب . ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج . قاله أبو حيان في البحر . وقال أيضا : وقيل معنى " مغاضبا " غضبان ، وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا نحو عاقبت اللص ، وسافرت . اهـ .

واعلم أن قول من قال مغاضبا أي : مغاضبا لربه كما روي عن ابن مسعود ، وبه قال الحسن ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، واختاره الطبري ، والقتبي ، واستحسنه المهدوي - يجب حمله على معنى القول الأول ، أي : مغاضبا من أجل ربه . قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول عمن ذكرنا : وقال النحاس : وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة ، وهو قول صحيح ، والمعنى : مغاضبا من أجل ربه كما تقول : غضبت لك أي : من [ ص: 242 ] أجلك ، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصي . انتهى منه . والمعنى على ما ذكر : مغاضبا قومه من أجل ربه ، أي : من أجل كفرهم به وعصيانهم له . وغير هذا لا يصح في الآية .

وقوله تعالى : فنادى في الظلمات . أي : ظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وظلمة بطن الحوت . " وأن " في قوله : أن لا إله إلا أنت [ 21 \ 87 ] مفسرة ، وقد أوضحنا فيما تقدم معنى " أن لا إله " ، ومعنى " سبحانك " ، ومعنى الظلم ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله : فاستجبنا له أي : أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت ، وإطلاق " استجاب " بمعنى أجاب معروف في اللغة ، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :



وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وما ذكره الله - جل وعلا - في هذه الآية من نداء نبيه يونس في تلك الظلمات هذا النداء العظيم ، وأن الله استجاب له ونجاه من الغم - أوضحه في غير هذا الموضع .

وبين في بعض المواضع أنه لو لم يسبح هذا التسبيح العظيم للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث ولم يخرج منه . وبين في بعضها أنه طرحه بالعراء وهو سقيم .

وبين في بعضها أنه خرج بغير إذن كخروج العبد الآبق ، وأنهم اقترعوا على من يلقى في البحر فوقعت القرعة على يونس أنه هو الذي يلقى فيه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:28 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (308)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 243 إلى صـ 249



وبين في بعضها أن الله تداركه برحمته . ولو لم يتداركه بها لنبذ بالعراء في حال كونه مذموما ، ولكنه تداركه بها فنبذ غير مذموم ، قال تعالى في " الصافات " : وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون فساهم فكان من المدحضين فالتقمه الحوت وهو مليم فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين الآية [ 37 \ 139 - 148 ] . فقوله في آيات " الصافات " المذكورة : إذ أبق [ 37 \ 140 ] أي : حين أبق ، وهو من قول العرب : عبد آبق ؛ لأن يونس خرج قبل أن يأذن له ربه ، ولذلك أطلق عليه اسم الإباق واستحقاق الملامة في قوله : وهو مليم [ 37 \ 142 ] لأن المليم اسم فاعل " ألام " إذا فعل ما يستوجب [ ص: 243 ] الملام . وقوله : فساهم أي : قارع ، بمعنى أنه وضع مع أصحاب السفينة سهام القرعة ليخرج سهم من يلقى في البحر . وقوله : فكان من المدحضين أي المغلوبين في القرعة ؛ لأنه خرج له السهم الذي يلقى صاحبه في البحر ، ومن ذلك قول الشاعر :



قتلنا المدحضين بكل فج فقد قرت بقتلهم العيون
وقوله : فنبذناه أي : طرحناه ، بأن أمرنا الحوت أن يلقيه بالساحل . والعراء : الصحراء . وقول من قال : العراء : الفضاء أو المتسع من الأرض ، أو المكان الخالي ، أو وجه الأرض - راجع إلى ذلك ، ومنه قول الشاعر وهو رجل من خزاعة :



ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وشجرة اليقطين : هي الدباء . وقوله : وهو سقيم أي : مريض لما أصابه من التقام الحوت إياه ، وقال تعالى في " القلم " : ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم فاجتباه ربه فجعله من الصالحين [ 68 \ 48 - 50 ] فقوله في آية " القلم " هذه : إذ نادى [ 68 \ 48 ] أي : نادى أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، وقوله :وهو مكظوم [ 6 \ 48 ] أي : مملوء غما ، كما قال تعالى : ونجيناه من الغم [ 21 \ 88 ] وهو قول ابن عباس ومجاهد . وعن عطاء وأبي مالك مكظوم : مملوء كربا ، قال الماوردي : والفرق بين الغم والكرب أن الغم في القلب ، والكرب في الأنفاس . وقيل مكظوم محبوس . والكظم : الحبس . ومنه قولهم : كظم غيظه ، أي : حبس غضبه ، قاله ابن بحر . وقيل : المكظوم المأخوذ بكظمه ، وهو مجرى النفس ، قاله المبرد . انتهى من القرطبي .

وآية " القلم " المذكورة تدل على أن نبي الله يونس - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - عجل بالذهاب ومغاضبة قومه ، ولم يصبر الصبر اللازم بدليل قوله مخاطبا نبينا - صلى الله عليه وسلم - فيها : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] . فإن أمره لنبينا - صلى الله عليه وسلم - بالصبر ونهيه إياه أن يكون كصاحب الحوت دليل على أن صاحب الحوت لم يصبر كما ينبغي . وقصة يونس وسبب ذهابه ومغاضبته قومه مشهورة مذكورة في كتب التفسير . وقد بين تعالى في سورة " يونس " أن قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم دون غيرهم من سائر القرى التي بعثت إليهم الرسل ، وذلك في قوله : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا [ ص: 244 ] قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكذلك ننجي المؤمنين يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم فيبتهل إلى الله داعيا بإخلاص إلا نجاه الله من ذلك الغم ، ولا سيما إذا دعا بدعاء يونس هذا . وقد جاء في حديث مرفوع عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في دعاء يونس المذكور : " لم يدع به مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له " رواه أحمد ، والترمذي ، وابن أبي حاتم ، وابن جرير ، وغيرهم . والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى ؛ لأنه لما ذكر أنه أنجى يونس شبه بذلك إنجاءه المؤمنين . وقوله ننجي المؤمنين صيغة عامة في كل مؤمن كما ترى . وقرأ عامة القراء السبعة غير ابن عامر وشعبة عن عاصم وكذلك ننجي المؤمنين بنونين أولاهما مضمومة ، والثانية ساكنة بعدها جيم مكسورة مخففة فياء ساكنة ، وهو مضارع " أنجى " الرباعي على صيغة أفعل ، والنون الأولى دالة على العظمة ، وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم " وكذلك نجي المؤمنين " بنون واحدة مضمومة بعدها جيم مكسورة مشددة فياء ساكنة . وهو على هذه القراءة بصيغة فعل ماض مبني للمفعول من نجى المضعفة على وزن " فعل " بالتضعيف . وفي كلتا القراءتين إشكال معروف . أما قراءة الجمهور فهي من جهة القواعد العربية واضحة لا إشكال فيها ، ولكن فيها إشكال من جهة أخرى ، وهي : أن هذا الحرف إنما كتبه الصحابة في المصاحف العثمانية بنون واحدة ، فيقال : كيف تقرأ بنونين وهي في المصاحف بنون واحدة ؟ وأما على قراءة ابن عامر وشعبة بالإشكال من جهة القواعد العربية ؛ لأن نجى على قراءتهما بصيغة ماض مبني للمفعول ، فالقياس رفع المؤمنين بعده على أنه نائب الفاعل ، وكذلك القياس فتح ياء " نجى " لا إسكانها .

وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة ، منها ما ذكره بعض الأئمة ، وأشار إليه ابن هشام في باب الإدغام من توضيحه أن الأصل في قراءة ابن عامر وشعبة " ننجي " بفتح النون الثانية مضارع نجى مضعفا ، فحذفت النون الثانية تخفيفا . أو ننجي بسكونها مضارع " أنجى " وأدغمت النون في الجيم لاشتراكهما في الجهر ، والانفتاح ، والتوسط بين القوة والضعف ، كما أدغمت في " إجاصة وإجانة " بتشديد الجيم فيهما ، والأصل " إنجاصة وإنجانة " فأدغمت النون فيهما . والإجاصة : واحدة الإجاص ، قال في القاموس : الإجاص بالكسر مشددا : ثمر معروف ، دخيل لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة ، الواحدة بهاء . ولا [ ص: 245 ] تقل إنجاص ، أو لغية . ا هـ . والإجانة واحدة الأجاجين . قال في التصريح : وهي بفتح الهمزة وكسرها . قال صاحب الفصيح : قصرية يعجن فيها ويغسل فيها . ويقال : إنجانة كما يقال إنجاصة ، وهي لغة يمانية فيهما أنكرها الأكثرون . ا هـ . فهذان وجهان في توجيه قراءة ابن عامر وشعبة ، وعليهما فلفظة " المؤمنين " مفعول به لـ " ننجي " .

ومن أجوبة العلماء عن قراءة ابن عامر وشعبة : أن " نجي " على قراءتهما فعل ماض مبني للمفعول ، والنائب عن الفاعل ضمير المصدر ، أي : نجى هو ، أي الإنجاء ، وعلى هذا الوجه فالآية كقراءة من قرأ ليجزى قوما الآية [ 45 \ 14 ] ببناء " يجزى " للمفعول ، والنائب ضمير المصدر ، أي : ليجزي هو ، أي الجزاء ونيابة المصدر عن الفاعل في حال كون الفعل متعديا للمفعول ترد بقلة ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :



وقابل من ظروف أو من مصدر أو حرف جر بنيابة حري
ولا ينوب بعض هذا إن وجد في اللفظ مفعول به وقد يرد
ومحل الشاهد منه قوله : " وقد يرد " وممن قال بجواز ذلك الأخفش والكوفيون وأبو عبيد . ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قول جرير يهجو أم الفرزدق :



ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
69 يعني لسب هو ، أي : السب . وقول الراجز :



لم يعن بالعلياء إلا سيدا ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى
وأما إسكان ياء " نجي " على هذا القول فهو على لغة من يقول من العرب : رضي ، وبقي بإسكان الياء تخفيفا . ومنه قراءة الحسن وذروا ما بقي من الربا [ 2 \ 278 ] بإسكان ياء " بقي " ومن شواهد تلك اللغة قول الشاعر :



خمر الشيب لمتي تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذ القيامة قامت ودعي بالحساب أين المصيرا
وأما الجواب عن قراءة الجمهور فالظاهر فيه أن الصحابة حذفوا النون في المصاحف ؛ لتمكن موافقة قراءة ابن عامر وشعبة للمصاحف لخفائها ، أما قراءة الجمهور فوجهها ظاهر ولا إشكال فيها ، فغاية الأمر أنهم حذفوا حرفا من الكلمة لمصلحة مع تواتر الرواية لفظا بذكر الحرف المحذوف ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون .

[ ص: 246 ] قد قدمنا معاني " الأمة " في القرآن في سورة " هود " . والمراد بالأمة هنا : الشريعة والملة ، والمعنى : وأن هذه شريعتكم شريعة واحدة ، وهي توحيد الله على الوجه الأكمل من جميع الجهات ، وامتثال أمره ، واجتناب نهيه بإخلاص في ذلك ، على حسب ما شرعه لخلقه وأنا ربكم فاعبدون [ 21 \ 92 ] أي : وحدي ، والمعنى دينكم واحد وربكم واحد ، فلم تختلفون وتقطعوا أمرهم بينهم [ 21 \ 93 ] أي : تفرقوا في الدين وكانوا شيعا ؛ فمنهم يهودي ، ومنهم نصراني ، ومنهم عابد وثن إلى غير ذلك من الفرق المختلفة .

ثم بين بقوله : كل إلينا راجعون أنهم جميعهم راجعون إليه يوم القيامة ، وسيجازيهم بما فعلوا . وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة وتقطعوا أمرهم بينهم المعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه ، فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب ؛ تمثيلا لاختلافهم فيه ، وصيرورتهم فرقا شتى . ا هـ .

وظاهر الآية أن " تقطع " متعدية إلى المفعول ومفعولها " أمرهم " ومعنى تقطعوه أنهم جعلوه قطعا كما ذكرنا . وقال القرطبي : قال الأزهري : وتقطعوا أمرهم أي : تفرقوا في أمرهم ، فنصب " أمرهم " بحذف " في " ومن إطلاق الأمة بمعنى الشريعة والدين كما في هذه الآية : قوله تعالى عن الكفار : إنا وجدنا آباءنا على أمة [ 43 \ 23 ] أي : على شريعة وملة ودين . ومن ذلك قول نابغة ذبيان :



حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع ومعنى قوله : " وهل يأثمن ذو أمة . . إلخ " أن صاحب الدين لا يرتكب الإثم طائعا .

وما ذكره - جل وعلا - في هاتين الآيتين الكريمتين : من أن الدين واحد ، والرب واحد فلا داعي للاختلاف . وأنهم مع ذلك اختلفوا أو صاروا فرقا أوضحه في سورة " قد أفلح المؤمنون " وزاد أن كل حزب من الأحزاب المختلفة فرحون بما عندهم . وذلك في قوله تعالى : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين [ 23 \ 51 - 54 ] [ ص: 247 ] وقوله في هذه الآية : زبرا أي : قطعا كزبر الحديد والفضة أي : قطعها . وقوله كل حزب بما لديهم فرحون أي : كل فرقة من هؤلاء الفرق الضالين المختلفين المتقطعين دينهم قطعا فرحون بباطلهم ، مطمئنون إليه ، معتقدون أنه هو الحق .

وقد بين - جل وعلا - في غير هذا الموضع : أن ما فرحوا به واطمأنوا إليه باطل ، كما قال تعالى في سورة " المؤمن " : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين [ 40 \ 83 - 84 ] وقال : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [ 6 \ 159 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن هذه " هذه " اسم " إن " وخبرها أمتكم . وقوله أمة واحدة حال كما هو ظاهر .
قوله تعالى : لهم فيها زفير .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أهل النار لهم فيها زفير ، والعياذ بالله تعالى . وأظهر الأقوال في الزفير أنه كأول صوت الحمار ، وأن الشهيق كآخره وقد بين تعالى أن أهل النار لهم فيها زفير في غير هذا الموضع وزاد على ذلك الشهيق ، والخلود ، كقوله في " هود " : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها . [ الآية 106 ] .
قوله تعالى : وهم فيها لا يسمعون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أهل النار لا يسمعون فيها ، وبين في غير هذا الموضع أنهم لا يتكلمون ، ولا يبصرون ، كقوله في " الإسراء " : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما [ 17 \ 97 ] وقوله : ونحشره يوم القيامة أعمى [ 20 \ 124 ] وقوله : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] مع أنه - جل وعلا - ذكر في آيات أخر ما يدل على أنهم يسمعون ويبصرون ويتكلمون ، كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] وقوله : ربنا أبصرنا وسمعنا الآية [ 32 \ 12 ] وقوله : ورأى المجرمون النار الآية [ 18 \ 53 ] . وقد بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في " طه " فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
[ ص: 248 ] قوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين سبقت لهم منه في علمه الحسنى وهي تأنيث الأحسن ، وهي الجنة أو السعادة - مبعدون يوم القيامة عن النار . وقد أشار إلى نحو ذلك في غير هذا الموضع كقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] وقوله : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [ 55 \ 60 ] ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن عباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحسنى وتتلقاهم الملائكة [ 21 ] أي : تستقبلهم بالبشارة ، وتقول لهم : هذا يومكم الذي كنتم توعدون أي : توعدون فيه أنواع الكرامة والنعيم . قيل : تستقبلهم على أبواب الجنة بذلك . وقيل : عند الخروج من القبور كما تقدم .

وما ذكره - جل وعلا - من استقبال الملائكة لهم بذلك بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في " فصلت " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم [ 41 - 33 ] وقوله في " النحل " : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب .

قوله : يوم نطوي السماء [ 21 \ 104 ] منصوب بقوله : لا يحزنهم الفزع [ 21 ] أو بقوله تتلقاهم . وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يطوي السماء كطي السجل الكتب . وصرح في " الزمر " بأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ، وأن السماوات مطويات بيمينه ، وذلك في قوله : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] وما ذكره من كون السماوات مطويات بيمينه في هذه الآية جاء في الصحيح أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قدمنا مرارا أن الواجب في ذلك إمراره كما جاء ، والتصديق به مع اعتقاد أن صفة الخالق أعظم من أن تماثل صفة المخلوق .

وأقوال العلماء في معنى قوله : [ ص: 249 ] كطي السجل للكتب راجعة إلى أمرين :

الأول : أن السجل : الصحيفة ، والمراد بالكتب : ما كتب فيها ، واللام بمعنى على ، أي : كطي السجل على الكتب ، أي : كطي الصحيفة على ما كتب فيها ، وعلى هذا فطي السجل مصدر مضاف إلى مفعوله ؛ لأن السجل على هذا المعنى مفعول الطي .

الثاني : أن السجل ملك من الملائكة ، وهو الذي يطوي كتب أعمال بني آدم إذا رفعت إليه ، ويقال : إنه في السماء الثالثة ، ترفع إليه الحفظة الموكلون بالخلق أعمال بني آدم في كل خميس واثنين ، وكان من أعوانه ( فيما ذكروا ) هاروت وماروت ، وقيل : إنه لا يطوي الصحيفة حتى يموت صاحبها ، فيرفعها ويطويها إلى يوم القيامة ، وقول من قال : إن السجل صحابي كاتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ظاهر السقوط كما ترى .

وقوله في هذه الآية الكريمة " للكتاب " قرأه عامة السبعة غير حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " للكتاب " بكسر الكاف وفتح التاء بعدها ألف بصيغة الإفراد . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم " للكتب " بضم الكاف والتاء بصيغة الجمع . ومعنى القراءتين واحد ؛ لأن المراد بالكتاب على قراءة الإفراد جنس الكتاب ، فيشمل كل الكتب .
قوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب فيشمل الكتب المنزلة ، كالتوراة ، والإنجيل ، وزبور داود ، وغير ذلك . وأن المراد بالذكر : أم الكتاب ، وعليه فالمعنى : ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب . وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه . وقيل : الزبور في الآية زبور داود ، والذكر : التوراة . وقيل غير ذلك . وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:32 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (309)
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
صـ 250 إلى صـ 256



واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء ، وكلاهما حق ويشهد له قرآن فنذكر الجميع ؛ لأنه كله حق داخل في الآية ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة ؛ لأن المراد بالأرض في قوله هنا : أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [ 21 \ 105 ] فيه للعلماء وجهان :

[ ص: 250 ] الأول : أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة عباده الصالحين . وهذا القول يدل له قوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين [ 39 ] وقد قدمنا معنى إيراثهم الجنة مستوفى في سورة " مريم " .

الثاني : أن المراد بالأرض أرض العدو ، يورثها الله المؤمنين في الدنيا ، ويدل لهذا قوله تعالى : وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 27 ] وقوله : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها الآية [ 7 \ 137 ] وقوله تعالى : قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين [ 7 \ 128 ] وقوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم الآية [ 24 ] وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير حمزة في الزبور بفتح الزاي ومعناه الكتاب . وقرأ حمزة وحده ( في الزبور ) بضم الزاي . قال القرطبي : وعلى قراءة حمزة فهو جمع زبر . والظاهر أنه يريد الزبر - بالكسر - بمعنى الزبور أي : المكتوب . وعليه فمعنى قراءة حمزة : ولقد كتبنا في الكتب ، وهي تؤيد أن المراد بالزبور على قراءة الفتح جنس الكتب لا خصوص زبور داود كما بينا . وقرأ حمزة " يرثها عبادي " بإسكان الياء ، والباقون بفتحها .
قوله تعالى : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين .

الإشارة في قوله : هذا [ 21 \ 106 ] للقرآن العظيم الذي منه هذه السورة الكريمة . والبلاغ : الكفاية ، وما تبلغ به البغية . وما ذكره هنا من أن هذا القرآن فيه الكفاية للعابدين ، وما يبلغون به بغيتهم ، أي : من خير الدنيا والآخرة ذكره في غير هذا الموضع ، كقوله : هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] وخص القوم العابدين بذلك لأنهم هم المنتفعون به .
قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل هذا النبي الكريم - صلوات الله [ ص: 251 ] وسلامه عليه - إلى الخلائق إلا رحمة لهم ؛ لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه . ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى . وضرب بعض أهل العلم لهذا مثلا ، قال : لو فجر الله عينا للخلق غزيرة الماء ، سهلة التناول ، فسقى الناس زروعهم ومواشيهم بمائها ، فتتابعت عليهم النعم بذلك ، وبقي أناس مفرطون كسالى عن العمل ، فضيعوا نصيبهم من تلك العين - فالعين المفجرة في نفسها رحمة من الله ، ونعمة للفريقين . ولكن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها . ويوضح ذلك قوله تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار [ 14 \ 28 ] وقيل : كونه رحمة للكفار من حيث إن عقوبتهم أخرت بسببه ، وأمنوا به عذاب الاستئصال . والأول أظهر .

وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه ما أرسله إلا رحمة للعالمين يدل على أنه جاء بالرحمة للخلق فيما تضمنه هذا القرآن العظيم . وهذا المعنى جاء موضحا في مواضع من كتاب الله ، كقوله تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون [ 29 \ 51 ] وقوله : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] .

وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة " الكهف " في موضعين منها . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قيل : يا رسول الله ، ادع على المشركين . قال : " إني لم أبعث لعانا ، وإنما بعثت رحمة " .
قوله تعالى : فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء .

قوله فإن تولوا [ 21 \ 109 ] أي : أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه فقل آذنتكم على سواء أي : أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي ، بريء منكم كما أنتم براء مني . وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية أشارت إليه آيات أخر ، كقوله : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء [ 8 \ 58 ] أي : ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء . وقوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] وقوله : آذنتكم الأذان : الإعلام . ومنه الأذان للصلاة . وقوله تعالى : وأذان من الله الآية [ 9 \ 3 ] أي : إعلام منه ، قوله : فأذنوا بحرب من الله الآية [ 2 \ 279 ] أي : اعلموا . ومنه قول [ ص: 252 ] الحارث بن حلزة :



آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء يعني أعلمتنا ببينها .
قوله تعالى : إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه علم ما يجهر به خلقه من القول ، ويعلم ما يكتمونه . وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] وقوله : والله يعلم ما تبدون وما تكتمون [ 24 \ 29 ] في الموضعين ، وقوله : قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون [ 2 \ 33 ] وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] وقوله : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : قال رب احكم ‎بالحق .

قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حفص عن عاصم قل رب بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر . وقرأه حفص وحده قال بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الماضي . وقراءة الجمهور تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يقول ذلك . وقراءة حفص تدل على أنه امتثل الأمر بالفعل . وما أمره أن يقوله هنا قاله نبي الله شعيب كما ذكره الله عنه في قوله : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [ 7 \ 89 ] وقوله : افتح أي : احكم كما تقدم .
قوله : وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون [ 21 \ 112 ] أي : تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب بادعاء الشركاء والأولاد ، وغير ذلك . كما قال تعالى : وتصف ألسنتهم الكذب الآية [ 16 \ 62 ] وقال : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب الآية [ 16 \ 116 ] . وما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية قاله يعقوب لما علم أن أولاده فعلوا بأخيهم يوسف شيئا غير ما أخبروه به ، وذلك في قوله : قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون [ 12 \ 18 ] والمستعان : المطلوب منه العون . والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 253 ] وهذا آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب المبارك ، ويليه الجزء الخامس إن شاء الله ، وأوله سورة الحج ، وبالله التوفيق ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْحَجِّ

قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ أَمَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ النَّاسَ بِتَقْوَاهُ جَلَّ وَعَلَا ; بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ، تَذْهَلُ بِسَبَبِهِ الْمَرَاضِعُ عَنْ أَوْلَادِهَا ، وَتَضَعُ بِسَبَبِهِ الْحَوَامِلُ أَحْمَالَهَا ، مِنْ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ ، وَأَنَّ النَّاسَ يُرَوْنَ فِيهِ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ ، وَلَكِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ .

وَمَا ذَكَرَهُ تَعَالَى هُنَا مِنَ الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى ، وَذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ جِدًّا مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى قَوْلِهِ : وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ [ 4 ] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا .

وَمَا بَيَّنَهُ هُنَا مِنْ شَدَّةِ أَهْوَالِ السَّاعَةِ ، وَعِظَمِ زَلْزَلَتِهَا ، بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [ 99 - 4 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [ 69 \ 14 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا [ 56 \ 4 - 5 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ وَقَوْلِهِ تَعَالَى : ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [ 7 \ 187 ] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِظَمِ هَوْلِ السَّاعَةِ .

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : اتَّقُوا رَبَّكُمْ [ 22 ] قَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا مَضَى مَعْنَى التَّقْوَى بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا . وَالزَّلْزَلَةُ : شِدَّةُ التَّحْرِيكِ وَالْإِزْعَاجِ ، وَمُضَاعَفَةُ زَلِيلِ الشَّيْءِ عَنْ مَقَرِّهِ وَمَرْكَزِهِ ؛ أَيْ تَكْرِيرُ انْحِرَافِهِ وَتَزَحْزُحِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ ; لِأَنَّ [ ص: 255 ] الْأَرْضَ إِذَا حُرِّكَتْ حَرَكَةً شَدِيدَةً تَزَلْزَلَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَيْهَا زَلْزَلَةً قَوِيَّةً .

وَقَوْلُهُ : يَوْمَ تَرَوْنَهَا مَنْصُوبٌ بِـ ( تَذْهَلُ ) وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الزَّلْزَلَةِ . وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ ; لِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ زَلْزَلَةَ الْأَشْيَاءِ بِأَبْصَارِهِمْ ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَقِيلَ : إِنَّهَا مِنْ : رَأَى الْعِلْمِيَّةِ .

وَقَوْلُهُ : تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ [ 22 كُلُّ مُرْضِعَةٍ أَيْ : كُلُّ أُنْثَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ : مُرْضِعَةٍ ، وَلَمْ يَقُلْ : مُرْضِعٍ : هُوَ مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ ، مِنْ أَنَّ الْأَوْصَافَ الْمُخْتَصَّةَ بِالْإِنَاثِ إِنْ أُرِيدَ بِهَا الْفِعْلُ لَحِقَهَا التَّاءُ ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا النَّسَبُ جُرِّدَتْ مِنَ التَّاءِ ، فَإِنْ قُلْتَ : هِيَ مُرْضِعٌ ، تُرِيدُ أَنَّهَا ذَاتُ رَضَاعٍ ، جَرَّدْتَهُ مِنَ التَّاءِ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ :



فَمِثْلُكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ فأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُغْيَلِ

وَإِنْ قُلْتَ : هِيَ مُرْضِعَةٌ بِمَعْنَى أَنَّهَا تَفْعَلُ الرَّضَاعَ ؛ أَيْ : تُلْقِمُ الْوَلَدَ الثَّدْيَ ، قُلْتَ : هِيَ مُرْضِعَةٌ بِالتَّاءِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ :



كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى وَضَيَّعَتْ بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلَالُ عَنِ الْقَصْدِ


كَمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ :



وَمَا مِنَ الصِّفَاتِ بِالْأُنْثَى يَخُصُّ عَنْ تَاءٍ اسْتَغْنَى لِأَنَّ اللَّفْظَ نَصٌّ
وَحَيْثُ مَعْنَى الْفِعْلِ يَعْنِي التَّاءَ زِدْ كَذِي غَدَتْ مُرْضِعَةً طِفْلًا وُلِدْ


وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النُّحَاةِ الْكُوفِيِّينَ : مِنْ أَنَّ أُمَّ الصَّبِيِّ مُرْضِعَةٌ بِالتَّاءِ ، وَالْمُسْتَأْجَ رَةَ لِلْإِرْضَاعِ : مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ - بَاطِلٌ ، قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ . وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ :

كَمُرْضِعَةٍ أَوْلَادَ أُخْرَى - الْبَيْتَ ، فَقَدْ أَثْبَتَ التَّاءَ لِغَيْرِ الْأُمِّ ، وَقَوْلُ الْكُوفِيِّينَ أَيْضًا : إِنَّ الْوَصْفَ الْمُخْتَصَّ بِالْأُنْثَى لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّاءِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، وَالْوَصْفُ الْمُخْتَصُّ بِالْأُنْثَى لَا يَحْتَاجُ إِلَى فَرْقٍ ; لِعَدَمِ مُشَارَكَةِ الذَّكَرِ لَهَا فِيهِ - مَرْدُودٌ أَيْضًا ، قَالَهُ [ ص: 256 ] أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ أَيْضًا مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِ الْعَرَبِ : مُرْضِعَةٌ ، وَحَائِضَةٌ ، وَطَالِقَةٌ . وَالْأَظْهَرُ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا ، مِنْ أَنَّهُ إِنْ أُرِيدَ الْفِعْلُ جِيءَ بِالتَّاءِ ، وَإِنْ أُرِيدَ النِّسْبَةُ جُرِّدَ مِنَ التَّاءِ ، وَمِنْ مَجِيءِ التَّاءِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ قَوْلُ الْأَعْشَى :



أَجَارَتَنَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ غَادٍ وَطَارِقَهْ


وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَإِنْ قُلْتَ : لِمَ قِيلَ : ( مُرْضِعَةٍ ) دُونَ ( مُرْضِعٍ ) ؟

قُلْتُ : الْمُرْضِعَةُ الَّتِي هِيَ فِي حَالِ الْإِرْضَاعِ مُلْقِمَةٌ ثَدْيَهَا الصَّبِيَّ . وَالْمُرْضِعُ : الَّتِي شَأْنُهَا أَنْ تُرْضِعَ ، وَإِنْ لَمْ تُبَاشِرِ الْإِرْضَاعَ فِي حَالِ وَصْفِهَا بِهِ ، فَقِيلَ : ( مُرْضِعَةٍ ) ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْهَوْلَ إِذَا فُوجِئَتْ بِهِ هَذِهِ وَقَدْ أَلْقَمَتِ الرَّضِيعَ ثَدْيَهَا : نَزَعَتْهُ عَنْ فِيهِ ; لِمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الدَّهْشَةِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : عَمَّا أَرْضَعَتْ الظَّاهِرُ أَنَّ " مَا " مَوْصُولَةٌ ، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ ؛ أَيْ : أَرْضَعَتْهُ ، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ :

وَالْحَذْفُ عِنْدَهُمْ كَثِيرٌ مُنْجَلِي

فِي عَائِدٍ مُتَّصِلٍ إِنِ انْتَصَبْ بِفِعْلٍ أَوْ وَصْفٍ كَمَنْ نَرْجُو يَهَبْ

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ مَصْدَرِيَّةٌ ؛ أَيْ : تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَنْ إِرْضَاعِهَا .

قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ : وَيُقَوِّي كَوْنَهَا مَوْصُولَةً تَعَدِّي " وَضَعَ " إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي قَوْلِهِ : حَمْلَهَا لَا إِلَى الْمَصْدَرِ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-06-15, 10:35 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (310)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 257 إلى صـ 263



وَقَوْلُهُ : وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ؛ أَيْ : كُلُّ صَاحِبَةِ حَمْلٍ تَضَعُ جَنِينَهَا مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَالْهَوْلِ ، وَالْـ ( حَمْلُ ) بِالْفَتْحِ : مَا كَانَ فِي بَطْنٍ مِنْ جَنِينٍ ، أَوْ عَلَى رَأْسِ شَجَرَةٍ مِنْ ثَمَرٍ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى جَمْعُ سَكْرَانَ ؛ أَيْ : يُشَبِّهُهُمْ مَنْ رَآهُمْ بِالسُّكَارَى مِنْ شِدَّةِ الْفَزَعِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَالْخَوْفُ مِنْهُ هُوَ الَّذِي صَيَّرَ مَنْ رَآهُمْ يُشَبِّهُهُمْ بِالسُّكَارَى ، لِذَهَابِ عُقُولِهِمْ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، كَمَا يَذْهَبُ عَقْلُ السَّكْرَانِ مِنَ الشَّرَابِ . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ : ( وَتَرَى النَّاسَ سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى ( بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الْكَافِ فِي الْحَرْفَيْنِ عَلَى وَزْنِ فَعْلَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ . وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ سُكَارَى بِضَمِّ السِّينِ وَفَتْحِ الْكَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِي الْحَرْفَيْنِ أَيْضًا ، وَكِلَاهُمَا جَمْعُ سَكْرَانَ عَلَى التَّحْقِيقِ . وَقِيلَ : إِنَّ سَكْرَى بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ جَمَعُ سَكِرٍ بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ بِمَعْنَى : [ ص: 257 ] السَّكْرَانِ ، كَمَا يُجْمَعُ الزَّمِنُ عَلَى الزَّمْنَى ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ . وَقِيلَ : إِنَّ سَكْرَى مُفْرَدٌ ، وَهُوَ غَيْرُ صَوَابٍ .

وَاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْدُومَ يُسَمَّى شَيْئًا ; لِأَنَّهُ وَصَفَ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ بِأَنَّهَا شَيْءٌ فِي حَالِ عَدَمِهَا قَبْلَ وُجُودِهَا . قَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ رَدِّهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ ، فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .
مسألة

اختلف العلماء في وقت هذه الزلزلة المذكورة هنا ، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة ، أو هي عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من القبور ؟

فقالت جماعة من أهل العلم : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا ، وأول أحوال الساعة ، وممن قال بهذا القول : علقمة ، والشعبي ، وإبراهيم ، وعبيد بن عمير ، وابن جريج . وهذا القول من حيث المعنى له وجه من النظر ، ولكنه لم يثبت ما يؤيده من النقل ، بل الثابت من النقل يؤيد خلافه . وهو القول الآخر .

وحجة من قال بهذا القول حديث مرفوع جاء بذلك ، إلا أنه ضعيف لا يجوز الاحتجاج به .

قال ابن جرير الطبري في تفسيره مبينا دليل من قال : إن الزلزلة المذكورة في آخر الدنيا قبل يوم القيامة : حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع المدني ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما فرغ الله من خلق السموات والأرض خلق الصور ، فأعطي إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخص ببصره إلى السماء ، ينظر متى يؤمر " قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الصور ؟ قال : " قرن " ، قال : وكيف هو ؟ قال : " قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات ، الأولى : نفخة الفزع ، والثانية : نفخة الصعق ، والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين " يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى : انفخ نفخة الفزع ، فتفزع أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ، ويأمره الله فيديمها ويطولها فلا يفتر ، وهي التي يقول الله : وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق [ 38 \ 15 ] فيسير الله الجبال فتكون سرابا ، وترج الأرض بأهلها رجا ، وهي التي يقول الله : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة [ 79 \ 6 [ ص: 258 ] - 8 ] فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر ، تضربها الأمواج تكفأ بأهلها ، أو كالقنديل المعلق بالعرش ، ترججه الأرواح ، فتميد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار ، فتلقاها الملائكة ، فتضرب وجوهها ، ويولي الناس مدبرين ، ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله : يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد [ 40 - 33 ] فبينما هم على ذلك ، إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمرا عظيما ، وأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ، ثم نظروا إلى السماء ، فإذا هي كالمهل ، ثم خسفت شمسها ، وخسف قمرها ، وانتثرت نجومها ، ثم كشطت عنهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك " فقال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول : ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله [ 27 \ 87 ] قال : " أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم ، وأمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه ، وهو الذي يقول : ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم إلى قوله : ولكن عذاب الله شديد [ 22 ] " . انتهى منه . ولا يخفى ضعف الإسناد المذكور كما ترى . وابن جرير رحمه الله قبل أن يسوق الإسناد المذكور ، قال ما نصه : وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ما قال هؤلاء خبر في إسناده نظر ، وذلك ما حدثنا أبو كريب . . . إلى آخر الإسناد ، كما سقناه عنه آنفا .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور ، من رواية إسماعيل بن رافع ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن رجل من الأنصار ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم ساق الحديث نحو ما ذكرناه بطوله ، ثم قال : هذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وغير واحد مطولا جدا .

والغرض منه : أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم القيامة أضيفت إلى الساعة لقربها منها ، كما يقال : أشراط الساعة ، ونحو ذلك ، والله أعلم . انتهى منه . وقد علمت ضعف الإسناد المذكور .

وأما حجة أهل القول الآخر القائلين بأن الزلزلة المذكورة كائنة يوم القيامة بعد البعث من القبور ، فهي ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من تصريحه بذلك . وبذلك تعلم [ ص: 259 ] أن هذا القول هو الصواب كما لا يخفى .

قال البخاري رحمه الله في صحيحه في التفسير في باب قوله : وترى الناس سكارى : حدثنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم . فيقول : لبيك ربنا وسعديك . فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار . قال : يا رب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعين ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد . فشق ذلك على الناس ، حتى تغيرت وجوههم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ، ومنكم واحد ، وأنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة . فكبرنا ، ثم قال : ثلث أهل الجنة . فكبرنا ، ثم قال : شطر أهل الجنة . فكبرنا " .

وقال أبو أسامة ، عن الأعمش : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى [ 22 سكارى وما هم بسكارى . انتهى من صحيح البخاري .

وفيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه الحامل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى : هو يوم القيامة لا آخر الدنيا .

وقال البخاري في صحيحه أيضا في كتاب : الرقاق في باب : إن زلزلة الساعة شيء عظيم : حدثني يوسف بن موسى ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : " يقول الله : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك . قال : يقول : أخرج بعث النار . قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، فذلك حين يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ; ولكن عذاب الله شديد . فاشتد ذلك عليهم فقالوا : يا رسول الله ، أينا ذلك الرجل ؟ قال : " أبشروا ، فإن من يأجوج ومأجوج ألفا ، ومنكم رجل ، ثم قال : والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فحمدنا الله وكبرنا . ثم قال : والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل الجنة ، إن مثلكم في الأمم كمثل الشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالرقمة في ذراع الحمار " . انتهى منه . ودلالته على المقصود ظاهرة .

[ ص: 260 ] وقال البخاري أيضا في صحيحه في كتاب بدء الخلق ، في أحاديث الأنبياء ، في باب قول الله تعالى : ويسألونك عن ذي القرنين إلى قوله : سببا [ 18 \ 83 - 84 ] حدثنا إسحاق بن نصر ، حدثنا أبو أسامة ، عن الأعمش ، حدثنا أبو صالح ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك . فيقول : أخرج بعث النار . قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين . فعنده يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ; ولكن عذاب الله شديد " إلى آخر الحديث نحو ما تقدم .

وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : في آخر كتاب الإيمان - بكسر الهمزة - في باب بيان كون هذه الأمة نصف أهل الجنة : حدثنا عثمان بن أبي شيبة العبسي ، حدثنا جرير عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عز وجل : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، قال : يقول : أخرج بعث النار ، قال : وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، قال : فذلك حين يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " إلى آخر الحديث نحو ما تقدم .

فحديث أبي سعيد هذا الذي اتفق عليه الشيخان كما رأيت فيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوقت الذي تضع فيه كل ذات حمل حملها ، وترى الناس سكارى ، وما هم بسكارى ، بعد القيام من القبور كما ترى ، وذلك نص صحيح صريح في محل النزاع .

فإن قيل : هذا النص فيه إشكال ، لأنه بعد القيام من القبور لا تحمل الإناث حتى تضع حملها من الفزع ، ولا ترضع حتى تذهل عما أرضعت .

فالجواب عن ذلك من وجهين :

الأول : هو ما ذكره بعض أهل العلم ، من أن من ماتت حاملا تبعث حاملا ، فتضع حملها من شدة الهول والفزع ، ومن ماتت مرضعة بعثت كذلك ، ولكن هذا يحتاج إلى دليل .

الوجه الثاني : أن ذلك كناية عن شدة الهول ; كقوله تعالى : يوما يجعل الولدان شيبا [ 73 \ 17 ] ومثل ذلك من أساليب اللغة العربية المعروفة .

[ ص: 261 ] تنبيه

اعلم أن هذا الذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا بعضها يرد عليه سؤال ، وهو أن يقال : إذا كانت الزلزلة المذكورة بعد القيام من القبور ، فما معناها ؟

والجواب : أن معناها : شدة الخوف والهول والفزع ; لأن ذلك يسمى زلزالا ، بدليل قوله تعالى فيما وقع بالمسلمين يوم الأحزاب من الخوف : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ 33 \ 10 - 11 ] ؛ أي : وهو زلزال فزع وخوف ، لا زلزال حركة الأرض ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يدل على أن عظم الهول يوم القيامة موجب واضح للاستعداد لذلك الهول بالعمل الصالح في دار الدنيا قبل تعذر الإمكان ; لما قدمنا مرارا من أن إن المشددة المكسورة تدل على التعليل ، كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه ، ومسلك النص الظاهر ؛ أي : اتقوا الله ; لأن أمامكم أهوالا عظيمة ، لا نجاة منها إلا بتقواه جل وعلا .
قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من الناس بعضا يجادل في الله بغير علم ؛ أي : يخاصم في الله بأن ينسب إليه ما لا يليق بجلاله وكماله ، كالذي يدعي له الأولاد والشركاء ، ويقول : إن القرآن أساطير الأولين ، ويقول : لا يمكن أن يحيي الله العظام الرميم ، كالنضر بن الحارث ، والعاص بن وائل ، وأبي جهل بن هشام ، وأمثالهم من كفار مكة الذين جادلوا في الله ذلك الجدال الباطل بغير مستند ، من علم عقلي ، ولا نقلي ، ومع جدالهم في الله ذلك الجدال الباطل يتبعون كل شيطان مريد ؛ أي : عات طاغ من شياطين الإنس والجن كتب عليه [ 22 \ 3 ] ؛ أي : كتب الله عليه كتابة قدر وقضاء أنه من تولاه [ 22 \ 3 ] ؛ أي : كل من صار وليا له ؛ أي : للشيطان المريد المذكور ، فإنه يضله عن طريق الجنة إلى النار ، وعن طريق الإيمان إلى الكفر ، ويهديه إلى عذاب السعير ؛ أي : النار الشديدة الوقود .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن بعض الجهال كالكفار يجادل في [ ص: 262 ] الله بغير علم ؛ أي : يخاصم فيه بغير مستند من علم بينه في غير هذا الموضع ; كقوله في هذه السورة الكريمة : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله [ 22 \ 8 - 9 ] الآية ، وقوله تعالى في لقمان : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 20 - 21 ] فقوله في آية لقمان هذه : أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير كقوله في الحج : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] وهذه الآية الكريمة التي هي قوله : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم [ 22 \ 3 ] الآية ، يدخل فيما تضمنته من الوعيد والذم : أهل البدع والضلال ، المعرضين عن الحق ، المتبعين للباطل ، يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين ، ويتبعون أقوال رؤساء الضلالة الدعاة إلى البدع والأهواء والآراء ، بقدر ما فعلوا من ذلك ؛ لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .

ومن الآيات الدالة على مجادلة الكفار في الله بغير علم ، قوله تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 77 - 78 ] ، وقوله في أول النحل : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وقوله تعالى : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق [ 18 \ 56 ] .

وقوله تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد [ 42 \ 16 ] ، وقوله تعالى : أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون [ 43 \ 58 ] ، وقوله تعالى : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين [ 6 \ 25 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من أنه قدر وقضى أن من تولى الشيطان فإن الشيطان يضله ويهديه إلى عذاب السعير ، بينه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [ 35 \ 6 ] ، وقوله تعالى : أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 21 ] ، وقوله تعالى عن نبيه وخليله إبراهيم : ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا [ 19 \ 45 ] ، وقوله [ ص: 263 ] تعالى : ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر [ 24 \ 21 ] إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم أنه يفهم من دليل خطاب هذه الآية الكريمة ، أعني مفهوم مخالفتها : أنه من يجادل بعلم على ضوء هدى كتاب منير ، كهذا القرآن العظيم ; ليحق الحق ويبطل الباطل بتلك المجادلة الحسنة - أن ذلك سائغ محمود ; لأن مفهوم قوله : بغير علم [ 22 \ 3 ] أنه إن كان بعلم فالأمر بخلاف ذلك ، وليس في ذلك اتباع للشيطان ، ويدل لهذا المفهوم المذكور قوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] ، وقوله تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن .

وقال الفخر الرازي في تفسيره : هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة ; لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة ، فالمجادلة الباطلة : هي المراد من قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا [ 43 \ 58 ] والمجادلة الحقة هي المراد من قوله : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] ا هـ منه .

وقوله تعالى في هذه الآية : عذاب السعير [ 22 \ 4 ] يعني عذاب النار ، فالسعير النار ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها . والظاهر أن أصل السعير فعيل ، بمعنى مفعول ، من قول العرب : سعر النار يسعرها ، كمنع يمنع : إذا أوقدها ، وكذلك سعرها بالتضعيف ، وعلى لغة التضعيف والتخفيف القراءتان السبعيتان في قوله : وإذا الجحيم سعرت [ 81 \ 12 ] فقد قرأه من السبعة نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وعاصم في رواية حفص : سعرت بتشديد العين ، وقرأه الباقون بتخفيف العين ، ومما جرى من كلام العرب على نحو قراءة نافع وابن ذكوان وحفص ، قول بعض شعراء الحماسة :



قالت له عرسه يوما لتسمعني مهلا فإن لنا في أمنا أربا ولو رأتني في نار مسعرة
ثم استطاعت لزادت فوقها حطبا

إذ لا يخفى أن قوله : مسعرة : اسم مفعول سعرت بالتضعيف ، وبما ذكرنا يظهر أن أصل السعير : فعيل بمعنى اسم المفعول ؛ أي : النار المسعرة ؛ أي : الموقدة إيقادا شديدا ; لأنها بشدة الإيقاد يزداد حرها عياذا بالله منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل .

وفي ذلك لغة ثالثة ، إلا أنها ليست في القرآن ، وهي أسعر النار . بصيغة أفعل ، بمعنى : أوقدها .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:36 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (311)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 264 إلى صـ 270




[ ص: 264 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] يدل على أن الهدى كما أنه يستعمل في الإرشاد والدلالة على الخير ، يستعمل أيضا في الدلالة على الشر ، لأنه قال : ويهديه إلى عذاب السعير ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ 37 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] لأن الإمام هو من يقتدى به في هديه وإرشاده .

وإطلاق الهدى في الضلال كما ذكرنا أسلوب عربي معروف وكلام البلاغيين في مثل ذلك ، بأن فيه استعارة عنادية ، وتقسيمهم العنادية إلى تهكمية وتمليحية معروف ، كما أشرنا إليه سابقا ، وقوله تعالى : كل شيطان مريد [ 22 \ 3 ] قد أوضحنا معنى الشيطان في سورة الحجر ، والمريد والمارد في اللغة العربية : العاتي ، تقول : مرد الرجل - بالضم - يمرد ، فهو مارد ومريد : إذا كان عاتيا . والظاهر أن الشيطان في هذه الآية ، يشمل كل عات يدعو إلى عذاب السعير ويضل عن الهدى ، سواء كان من شياطين الجن أو الإنس ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا .

هذه الآية الكريمة والآيات التي بعدها ، تدل على أن جدال الكفار المذكور في قوله : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم يدخل فيه جدالهم في إنكار البعث ، زاعمين أنه جل وعلا لا يقدر أن يحيي العظام الرميم ، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ، كما قال تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] وكقوله تعالى عنهم : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وقوله : وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] ونحو ذلك من الآيات ، كما قدمنا الإشارة إليه قريبا .

ولأجل ذلك أقام تعالى البراهين العظيمة على بعث الناس من قبورهم أحياء إلى عرصات القيامة للحساب ، والجزاء فقال جل وعلا : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] فمن أوجدكم الإيجاد الأول ، وخلقكم من التراب لا شك أنه قادر على إيجادكم ، وخلقكم مرة ثانية ، بعد أن بليت عظامكم ، [ ص: 265 ] واختلطت بالتراب ; لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من ابتداء الفعل ، وهذا البرهان القاطع على القدرة على البعث - الذي هو خلقه تعالى للخلائق المرة الأولى - المذكور هنا ، جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، وقوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، وقوله تعالى : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] ، وقوله تعالى : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] ، وقوله : ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 40 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وقد أوضحنا ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة ، وسورة النحل وغيرهما ، ولأجل قوة دلالة هذا البرهان المذكور على البعث بين جل وعلا أن من أنكر البعث فهو ناس للإيجاد الأول كقوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه [ 36 \ 78 ] ، إذ لو تذكر الإيجاد الأول على الحقيقة ، لما أمكنه إنكار الإيجاد الثاني ، وكقوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] إذ لو تذكر ذلك تذكرا حقيقيا لما أنكر الخلق الثاني ، وقوله في هذه الآية الكريمة : إن كنتم في ريب من البعث [ 22 \ 5 ] ؛ أي في شك من أن الله يبعث الأموات ، فالريب في القرآن يراد به الشك ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فإنا خلقناكم من تراب قد قدمنا في سورة طه : أن التحقيق في معنى خلقه للناس من تراب ، أنه خلق أباهم آدم منها ، ثم خلق منه زوجه ، ثم خلقهم منهما عن طريق التناسل ، كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] فلما كان أصلهم الأول من تراب ، أطلق عليهم أنه خلقهم من تراب ; لأن الفروع تبع للأصل .

وقد بينا في طه أيضا أن قول من زعم أن معنى خلقه إياهم من تراب : أنه خلقهم من النطف ، والنطف من الأغذية ، والأغذية راجعة إلى التراب - غير صحيح ، وقد بينا هناك الآيات الدالة على بطلان هذا القول .

وقد ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أطوار خلق الإنسان ، فبين أن ابتداء خلقه من [ ص: 266 ] تراب كما أوضحنا آنفا ، فالتراب هو الطور الأول .

والطور الثاني هو النطفة ، والنطفة في اللغة : الماء القليل ، ومنه قول الشاعر وهو رجل من بني كلاب :



وما عليك إذا أخبرتني دنفا وغاب بعلك يوما أن تعوديني

وتجعلي نطفة في القعب باردة
وتغمسي فاك فيها ثم تسقيني


فقوله : وتجعلي نطفة ؛ أي : ماء قليلا في القعب ، والمراد بالنطفة في هذه الآية الكريمة : نطفة المني ، وقد قدمنا في سورة النحل : أن النطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة ، خلافا لمن زعم أنها من ماء الرجل وحده .

الطور الثالث : العلقة ، وهي القطعة من العلق ، وهو الدم الجامد ، فقوله : ثم من علقة [ 22 \ 5 ] ؛ أي قطعة دم جامدة ، ومن إطلاق العلق على الدم المذكور قول زهير :



إليك أعملتها فتلا مرافقها شهرين يجهض من أرحامها العلق



الطور الرابع : المضغة : وهي القطعة الصغيرة من اللحم ، على قدر ما يمضغه الآكل ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله " الحديث .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : مخلقة وغير مخلقة في معناه أوجه معروفة عند العلماء ، سنذكرها هنا إن شاء الله ، ونبين ما يقتضي الدليل رجحانه .

منها أن قوله : مخلقة وغير مخلقة صفة للنطفة ، وأن المخلقة هي ما كان خلقا سويا ، وغير المخلقة هي ما دفعته الأرحام من النطف ، وألقته قبل أن يكون خلقا ، وممن روي عنه هذا القول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، نقله عنه ابن جرير وغيره ، ولا يخفى بعد هذا القول ; لأن المخلقة وغير المخلقة من صفة المضغة ، كما هو ظاهر .

ومنها : أن معنى ( مخلقة ) تامة ، و ( غير مخلقة ) أي : غير تامة ، والمراد بهذا القول عند قائله : أن الله جل وعلا يخلق المضغ متفاوتة ، منها ما هو كامل الخلقة ، سالم من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم ، وصورهم ، وطولهم ، وقصرهم ، وتمامهم ، ونقصانهم .

وممن روي عنه هذا القول : قتادة كما نقله عنه ابن جرير وغيره ، وعزاه الرازي لقتادة والضحاك . ومنها : أن معنى مخلقة مصورة إنسانا ، وغير مخلقة ؛ أي : غير مصورة إنسانا كالسقط الذي هو مضغة ، ولم يجعل له تخطيط وتشكيل ، وممن نقل عنه هذا القول : مجاهد ، والشعبي ، وأبو العالية ، كما نقله

[ ص: 267 ] عنهم ابن جرير الطبري .

ومنها : أن المخلقة : هي ما ولد حيا ، وغير المخلقة : هي ما كان من سقط .

وممن روي عنه هذا القول : ابن عباس رضي الله عنهما . وقال صاحب الدر المنثور : إنه أخرجه عنه ابن أبي حاتم وصححه ونقله عنه القرطبي ، وأنشد لذلك قول الشاعر :



أفي غير المخلقة البكاء فأين الحزم ويحك والحياء



وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : المخلقة : المصورة خلقا تاما . وغير المخلقة : السقط قبل تمام خلقه ; لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة ، والنطفة بعد مصيرها مضغة لم يبق لها حتى تصير خلقا سويا إلا التصوير . وذلك هو المراد بقوله : مخلقة وغير مخلقة [ 22 \ 5 ] خلقا سويا ، وغير مخلقة : بأن تلقيه الأم مضغة بلا تصوير ، ولا ينفخ الروح . انتهى منه .

وهذا القول الذي اختاره ابن جرير ، اختاره أيضا غير واحد من أهل العلم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا القول الذي اختاره الإمام الجليل الطبري رحمه الله تعالى ، لا يظهر صوابه ، وفي نفس الآية الكريمة قرينة تدل على ذلك ، وهي قوله جل وعلا في أول الآية : فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] لأنه على القول المذكور الذي اختاره الطبري يصير المعنى : ثم خلقناكم من مضغة مخلقة ، وخلقناكم من مضغة غير مخلقة . وخطاب الناس بأن الله خلق بعضهم من مضغة غير مصورة ، فيه من التناقض كما ترى ; فافهم .

فإن قيل : في نفس الآية الكريمة قرينة تدل على أن المراد بغير المخلقة : السقط ; لأن قوله : ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى [ 22 \ 5 ] يفهم منه أن هناك قسما آخر لا يقره الله في الأرحام ، إلى ذلك الأجل المسمى ، وهو السقط .

فالجواب : أنه لا يتعين فهم السقط من الآية ; لأن الله يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره إلى أجل مسمى ، فقد يقره ستة أشهر ، وقد يقره تسعة ، وقد يقره أكثر من ذلك كيف شاء .

أما السقط : فقد دلت الآية على أنه غير مراد بدليل قوله : فإنا خلقناكم ; لأن السقط الذي تلقيه أمه ميتا ، ولو بعد التشكيل والتخطيط ، لم يخلق الله منه إنسانا واحدا من المخاطبين بقوله : فإنا خلقناكم من تراب الآية . فظاهر القرآن يقتضي أن كلا من [ ص: 268 ] المخلقة وغير المخلقة : يخلق منه بعض المخاطبين في قوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية .

وبذلك تعلم أن أولى الأقوال في الآية هو القول الذي لا تناقض فيه ; لأن القرآن أنزل ليصدق بعضه بعضا ، لا ليتناقض بعضه مع بعض ، وذلك هو القول الذي قدمنا عن قتادة والضحاك ، وقد اقتصر عليه الزمخشري في الكشاف ، ولم يحك غيره .

وهو أن المخلقة هي التامة ، وغير المخلقة هي غير التامة .

قال الزمخشري في الكشاف : والمخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب ، يقال : خلق السواك والعود : إذا سواه وملسه . من قولهم : صخرة خلقاء : إذا كانت ملساء ، كأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة ; منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك ، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم . انتهى منه .

وهذا المعنى الذي ذكره الزمخشري معروف في كلام العرب ، تقول العرب : حجر أخلق ؛ أي : أملس مصمت لا يؤثر فيه شيء ، وصخرة خلقاء بينة الخلق ؛ أي : ليس فيها وصم ، ولا كسر ، ومنه قول الأعشى :



قد يترك الدهر في خلقاء راسية وهيا وينزل منها الأعصم الصدعا



و " الدهر " في البيت فاعل " يترك " والمفعول به : وهيا . يعني : أن صرف الدهر قد يؤثر في الحجارة الصم السالمة من الكسر والوصم ، فيكسرها ويوهيها ، ويؤثر في العصم من الأوعال برءوس الجبال ، فينزلها من معاقلها ، ومن ذلك أيضا قول ابن أحمر يصف فرسا ، وقد أنشده صاحب اللسان للمعنى المذكور :



بمقلص درك الطريدة متنه كصفا الخليقة بالفضاء الملبد



فقوله : كصفا الخليقة ، يعني : أن متن الفرس المذكور كالصخرة الملساء التي لا كسر فيها ولا وصم ، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته . والسهم المخلق : هو الأملس المستوي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا القول هو أولى الأقوال بالصواب - فيما يظهر لي - لجريانه على اللغة التي نزل بها القرآن ، وسلامته من التناقض ، والله جل وعلا أعلم .

[ ص: 269 ] وقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : لنبين لكم ؛ أي : لنبين لكم بهذا النقل من طور إلى طور ، كمال قدرتنا على البعث بعد الموت ، وعلى كل شيء ، لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولا ، ثم من نطفة ثانيا ، مع ما بين النطفة والتراب من المنافاة والمغايرة ، وقدر على أن يجعل النطفة علقة ، مع ما بينهما من التباين والتغاير ، وقدر على أن يجعل العلقة مضغة ، والمضغة عظاما ، فهو قادر بلا شك على إعادة ما بدأه من الخلق ، كما هو واضح .

وقوله : لنبين الظاهر أنه متعلق بـ " خلقناكم " في قوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ؛ أي : خلقناكم خلقا من بعد خلق على التدريج المذكور لنبين لكم قدرتنا على البعث وغيره .

وقال الزمخشري مبينا نكتة حذف مفعول " لنبين لكم " ما نصه : وورود الفعل غير معدى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الذكر ، ولا يحيط به الوصف . انتهى منه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى [ 22 \ 5 ] ؛ أي : نقر في أرحام الأمهات ما نشاء إقراره فيها من الأحمال والأجنة إلى أجل مسمى ؛ أي : معلوم معين في علمنا ، وهو الوقت الذي قدره الله لوضع الجنين ، والأجنة تختلف في ذلك حسبما يشاؤه الله جل وعلا ، فتارة تضعه أمه لستة أشهر ، وتارة لتسعة ، وتارة لأكثر من ذلك . وما لم يشأ الله إقراره من الحمل مجته الأرحام وأسقطته ، ووجه رفع " ونقر " أن المعنى : ونحن نقر في الأرحام ، ولم يعطف على قوله : لنبين لكم لأنه ليس علة لما قبله ، فليس المراد : خلقناكم من تراب ، ثم من نطفة ، لنقر في الأرحام ما نشاء ، وبذلك يظهر لك رفعه ، وعدم نصبه ، وقراءة من قرأ : ونقر بالنصب عطفا على : لنبين ، على المعنى الذي نفيناه على قراءة الرفع ، ويؤيد معنى قراءة النصب قوله بعده ثم لتبلغوا أشدكم وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم نخرجكم طفلا ؛ أي : وذلك بعد أن يخلق الله المضغة عظاما ، ثم يكسو العظام لحما ، ثم ينشئ ذلك الجنين خلقا آخر ، فيخرجه من بطن أمه في الوقت المعين لوضعه في حال كونه طفلا ؛ أي : ولدا بشرا سويا .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم لتبلغوا أشدكم ؛ أي : لتبلغوا كمال قوتكم وعقلكم وتمييزكم بعد إخراجكم من بطون أمهاتكم في غاية الضعف وعدم علم شيء .

[ ص: 270 ] وقد قدمنا أقوال العلماء في المراد بالأشد ، وهل هو جمع أو مفرد مع بعض الشواهد العربية في سورة الأنعام ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله تعالى في هذه الآية : ومنكم من يتوفى [ 22 \ 5 ] ؛ أي : ومنكم أيها الناس من يتوفى من قبل ؛ أي : من قبل بلوغه أشده ، ومنكم من ينسأ له في أجله ، فيعمر حتى يهرم فيرد من بعد شبابه وبلوغه غاية أشده إلى أرذل العمر ، وهو الهرم ، حتى يعود كهيئته في حال صباه من الضعف ، وعدم العلم .

وقد أوضحنا كلام العلماء في أرذل العمر ومعنى : لكيلا يعلم من بعد علم شيئا في سورة النحل ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من الاستدلال على كمال قدرته على بعث الناس بعد الموت وعلى كل شيء ، بنقله الإنسان من طور إلى طور ، من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة إلى آخر الأطوار المذكورة ، ذكره جل وعلا في مواضع من كتابه مبينا أنه من البراهين القطعية على قدرته ، على البعث وغيره .

فمن الآيات التي ذكر فيها ذلك من غير تفصيل لتلك الأطوار قوله تعالى : كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 39 ] ، وقوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا [ 71 \ 13 - 14 ] ؛ أي : طورا بعد طور كما بينا . وقوله تعالى : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ 39 \ 6 ] ، وقوله في آية الزمر هذه في ظلمات ثلاث ؛ أي : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة . فقد ركب تعالى عظام الإنسان بعضها ببعض ، وكساها اللحم ، وجعل فيها العروق والعصب ، وفتح مجاري البول والغائط ، وفتح العيون والآذان والأفواه وفرق الأصابع وشد رءوسها بالأظفار إلى غير ذلك من غرائب صنعه وعجائبه ، وكل هذا في تلك الظلمات الثلاث ، لم يحتج إلى شق بطن أمه وإزالة تلك الظلمات .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:37 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (312)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 271 إلى صـ 277



سبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم ، ولأجل هذه الغرائب والعجائب من صنعه تعالى قال بعد التنبيه عليها ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ 39 \ 6 ] ومن [ ص: 271 ] الآيات التي أوضح فيها تلك الأطوار على التفصيل قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 23 \ 12 - 16 ] وقد ذكر تعالى تلك الأطوار مع حذف بعضها في قوله في سورة المؤمن : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون [ 67 ] ، وقوله تعالى في الكهف : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا [ 37 \ ] ، وقوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقوله : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] ، وقوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، وقوله تعالى : خلق الإنسان من علق [ 96 \ 2 ] ، وقوله تعالى : منها خلقناكم [ 20 \ 55 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد بينت السنة الصحيحة القدر الذي تمكثه النطفة قبل أن تصير علقة ، والقدر الذي تمكثه العلقة قبل أن تصير مضغة ، والقدر الذي تمكثه المضغة مضغة .

قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية ووكيع ( ح ) ، وحدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني واللفظ له ، حدثنا أبي وأبو معاوية ، ووكيع قالوا : حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الله قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح ، ويؤمر بأربع كلمات : بكتب رزقه وأجله وعمله ، وشقي أو سعيد " ، الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح تصريحه صلى الله عليه وسلم بأن الجنين يمكث أربعين يوما نطفة ، ثم يصير علقة ، ويمكث كذلك أربعين يوما ، ثم يصير مضغة ، ويمكث كذلك أربعين يوما ، ثم ينفخ فيه الروح ، فنفخ الروح إذا في أول الشهر الخامس من أشهر الحمل .

وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ، حدثنا شعبة ، أنبأني سليمان الأعمش ، قال : سمعت زيد بن وهب ، عن عبد الله قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : " إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما [ ص: 272 ] ثم علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع : برزقه وأجله وشقي أو سعيد " الحديث ، وهذه الرواية في البخاري ينقص منها ذكر العمل ، وهو مذكور في روايات أخر صحيحة معروفة . وقد قدمنا وجه الدلالة المقصودة من الحديث المذكور ، والله أعلم .

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف : وهو أن يقال : ما وجه الإفراد في قوله : يخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] مع أن المعنى نخرجكم أطفالا . وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة .

منها ما ذكره ابن جرير الطبري قال : ووحد الطفل وهو صفة للجمع ، لأنه مصدر مثل عدل وزور ، وتبعه غيره في ذلك .

ومنها قول من قال : نخرجكم طفلا ؛ أي : نخرج كل واحد منكم طفلا ، ولا يخفى عدم اتجاه هذين الجوابين . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، هو أن من أساليبها أن المفرد إذا كان اسم جنس يكثر إطلاقه مرادا به الجمع مع تنكيره - كما في هذه الآية - وتعريفه بالألف واللام وبالإضافة ; فمن أمثلته في القرآن مع التنكير قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] ؛ أي : وأنهار ، بدليل قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن وقوله : واجعلنا للمتقين إماما الآية [ 25 \ 74 ] ؛ أي : أئمة ، وقوله تعالى : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا الآية [ 4 \ 4 ] ؛ أي : أنفسا ، وقوله تعالى : مستكبرين به سامرا تهجرون [ 23 \ 67 ] ؛ أي : سامرين ، وقوله تعالى : لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] ؛ أي : بينهم ، وقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا [ 4 \ 69 ] ؛ أي : رفقاء ، وقوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ 5 \ 6 ] ؛ أي : جنبين أو أجنابا ، وقوله تعالى : والملائكة بعد ذلك ظهير [ 66 \ 4 ] ؛ أي : مظاهرون ، ومن أمثلة ذلك مع التنكير في كلام العرب قول عقيل بن علفة المري :



وكان بنو فزارة شر عم وكنت لهم كشر بني الأخينا



يعني : شر أعمام .

وقول قعنب ابن أم صاحب :



ما بال قوم صديق ثم ليس لهم دين وليس لهم عقل إذا ائتمنوا



[ ص: 273 ] يعني : ما بال قوم أصدقاء .

وقول جرير :



نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا بأعين أعداء وهن صديق



يعني : صديقات .

وقول الآخر :



لعمري لئن كنتم على النأي والنوى بكم مثل ما بي إنكم لصديق



وقول الآخر :



يا عاذلاتي لا تزدن ملامة إن العواذل ليس لي بأمير



؛ أي : لسن بأمراء .

ومن أمثلته في القرآن واللفظ مضاف ، قوله تعالى : أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم [ 24 \ 61 ] ؛ أي : أصدقائكم . وقوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره [ 24 \ 63 ] ؛ أي : أوامره . وقوله : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ 14 \ 34 ] أي : نعم الله . وقوله : إن هؤلاء ضيفي [ 15 \ 68 ] ؛ أي : أضيافي . ونظير ذلك من كلام العرب قول علقمة بن عبدة التميمي :



بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب



؛ أي : وأما جلودها فصليبة .

وقول الآخر :



كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص



؛ أي : بطونكم . وهذا البيت والذي قبله أنشدهما سيبويه في كتابه مستشهدا بهما لما ذكرنا .

ومن أمثلة ذلك قول العباس بن مرداس السلمي :



فقلنا أسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور



؛ أي : إنا إخوانكم .

وقول جرير :



إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب



؛ أي : إذا آباؤنا وآباؤك عدوا ، وهذا البيت والذي قبله يحتمل أن يراد بهما جمع التصحيح للأب وللأخ ، فيكون الأصل : أبون وأخون ، فحذفت النون للإضافة ، فصار كلفظ المفرد .

[ ص: 274 ] ومن أمثلة جمع التصحيح في جمع الأخ : بيت عقيل بن علفة المذكور آنفا ، حيث قال فيه : كشر بني الأخينا . ومن أمثلة تصحيح جمع الأب : قول الآخر :



فلما تبين أصواتنا بكين وفديننا بالأبينا



ومن أمثلة ذلك في القرآن - واللفظ معرف بالألف واللام - قوله تعالى : وتؤمنون بالكتاب كله [ 3 \ 119 ] ؛ أي : بالكتب كلها ، بدليل قوله : كل آمن بالله وملائكته وكتبه الآية [ 2 \ 285 ] ، وقوله : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] ، وقوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا [ 25 \ 75 ] ؛ أي : الغرف ، بدليل قوله : لهم غرف من فوقها غرف مبنية [ 39 \ 20 ] ، وقوله : وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] ، وقوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا [ 89 \ 22 ] ؛ أي : الملائكة ، بدليل قوله : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة [ 2 \ 210 ] ، وقوله تعالى : سيهزم الجمع ويولون الدبر [ 54 \ 45 ] ؛ أي : الأدبار ، بدليل قوله تعالى : فلا تولوهم الأدبار [ 8 \ 15 ] ، وقوله تعالى : أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء [ 24 \ 31 ] ؛ أي : الأطفال ، وقوله تعالى : هم العدو فاحذرهم [ 63 \ 4 ] ؛ أي : الأعداء ، ونحو هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وهو في النعت بالمصدر مطرد ، كما تقدم مرارا .

ومن أمثلة ذلك قول زهير :



متى يشتجر قوم تقل سراواتهم هم بيننا هم رضا وهم عدل



؛ أي : عدول مرضيون .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : إذا مجت الرحم النطفة في طورها الأول قبل أن تكون علقة ، فلا يترتب على ذلك حكم من أحكام إسقاط الحمل ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء .
المسألة الثانية : إذا سقطت النطفة في طورها الثاني ، أعني في حال كونها علقة ؛ أي : قطعة جامدة من الدم ، فلا خلاف بين العلماء في أن تلك العلقة لا يصلى عليها ، ولا تغسل ، ولا تكفن ، ولا تورث .

ولكن اختلف في أحكام أخر متعددة من أحكامها .

[ ص: 275 ] منها : ما إذا كان سقوطها بسبب ضرب إنسان بطن المرأة التي ألقتها ، هل تجب فيها غرة أو لا ؟

فذهب مالك رحمه الله إلى أن من ضرب بطن حامل ، فألقت حملها علقة فهو ضامن دية العلقة ضمان الجنين ، فتلزمه غرة ، أو عشر دية الأم .

وفي المدونة : ما علم أنه حمل ، وإن كان مضغة أو علقة أو مصورا .

وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الجنين لا ضمان فيه حتى تظهر فيه صورة الآدمي ، وممن قال به الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد رحمهم الله . وظهور بعض الصورة كظهور كلها في الأظهر ، واحتجوا بأنه لا يتحقق أنه حمل حتى يصور ، والمالكية قالوا : الحمل تمكن معرفته في حال العلقة فما بعدها ، فاختلافهم هذا من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط .

ومنها : ما إذا كانت المرأة معتدة من طلاق أو وفاة ، وكانت حاملا ، فألقت حملها علقة ، هل تنقضي بذلك عدتها أو لا ؟

فمذهب مالك رحمه الله : أنها تنقضي عدتها بإسقاط العلقة المذكورة . واحتج المالكية : بأن العلقة المذكورة يصدق عليها أنها حمل ، فتدخل في عموم قوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] وقال ابن العربي المالكي : لا يرتبط بالجنين شيء من هذه الأحكام إلا أن يكون مخلقا - يعني مصورا - وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة وغيرهم : إلى أن وضع العلقة لا تنقضي به العدة ، قالوا : لأنها دم جامد ، ولا يتحقق كونه جنينا .

ومنها : ما إذا ألقت العلقة المذكورة أمة هي سرية لسيدها ، هل تكون أم ولد بوضع تلك العلقة أو لا ؟

فذهب مالك رحمه الله وأصحابه : إلى أنها تصير أم ولد بوضع تلك العلقة ; لأن العلقة مبدأ جنين ، ولأن النطفة لما صارت علقة صدق عليها أنها خلقت علقة ، بعد أن كانت نطفة ، فدخلت في قوله تعالى : خلقا من بعد خلق [ 39 \ 6 ] فيصدق عليها أنها وضعت جنينا من سيدها ، فتكون به أم ولد ، وهذا رواية عن أحمد ، وبه قال إبراهيم النخعي .

وذهب جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة : إلى أنها لا تكون أم ولد بوضعها العلقة المذكورة . وقد قدمنا توجيههم لذلك .
[ ص: 276 ] المسألة الثالثة : إذا أسقطت المرأة النطفة في طورها الثالث - أعني كونها مضغة ؛ أي قطعة من لحم - فلذلك أربع حالات :

الأولى : أن يكون ظهر في تلك المضغة شيء من صورة الإنسان ، كاليد والرجل والرأس ونحو ذلك ، فهذا تنقضي به العدة ، وتلزم فيه الغرة ، وتصير به أم ولد ، وهذا لا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم .

الحالة الثانية : أن تكون المضغة المذكورة لم يتبين فيها شيء من خلق الإنسان ، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنهن اطلعن فيها على تخطيط وتصوير خفي ، والأظهر في هذه الحالة : أن حكمها كحكم التي قبلها ; لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة أن تلك المضغة جنين لما اطلعوا عليه فيها من الصورة الخفية .

الحالة الثالثة : هي أن تكون تلك المضغة المذكورة ليس فيها تخطيط ولا تصوير ظاهر ولا خفي ، ولكن شهدت ثقات من القوابل أنها مبدأ خلق آدمي .

وهذه الصورة فيها للعلماء خلاف ; فقال بعض أهل العلم : لا تنقضي عدتها بها ، ولا تصير أم ولد ، ولا يجب على الضارب المسقط لها الغرة .

قال ابن قدامة في المغني : وهذا ظاهر كلام الخرقي والشافعي ، وظاهر ما نقله الأثرم عن الإمام أحمد رحمه الله ، وظاهر كلام الحسن والشعبي ، وسائر من اشترط أن يتبين فيه شيء من خلق الإنسان ; لأنه لم يتبين فيه شيء من خلق الآدمي ، فأشبه النطفة والعلقة .

وقال بعض أهل العلم : تنقضي عدتها بوضع المضغة المذكورة ، وتصير به أم ولد ، وتجب فيها الغرة ، وهو رواية عن الإمام أحمد .

وقال بعض أهل العلم : لا تنقضي بها العدة ، وتصير به أم ولد .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أنه إذا شهد ثقات من القوابل العارفات ، بأن تلك المضغة مبدأ جنين ، وأنها لو بقيت لتخلقت إنسانا - أنها تنقضي بها العدة ، وتصير بها الأمة أم ولد ، وتجب بها الغرة على الجاني . والله تعالى أعلم .

الحالة الرابعة : أن تكون تلك المضغة ليس فيها تصوير ظاهر ولا خفي ، ولم تشهد القوابل بأنها مبدأ إنسان ، فحكم هذه كحكم العلقة : وقد قدمناه قريبا مستوفى .
المسألة الرابعة : إذا أسقطت المرأة جنينها ميتا بعد أن كملت فيه صورة الآدمي ، فلا [ ص: 277 ] خلاف بين أهل العلم في انقضاء العدة بوضعه ، وكونها أم ولد ، ووجوب الغرة فيه ، ولكن العلماء اختلفوا في الصلاة عليه ، وغسله وتكفينه . فذهب مالك رحمه الله : إلى أنه لا يصلى عليه ، ولا يغسل ، ولا يحنط ، ولا يسمى ، ولا يورث ، ولا يرث حتى يستهل صارخا ، ولا عبرة بعطاسه ، ورضاعه وبوله ، فلو عطس أو رضع أو بال لم يكن ذلك موجبا للصلاة عليه في قول مالك ، وعليه جمهور أصحابه . وقال المازري : رضاعه تتحقق به حياته فتجب به الصلاة عليه ، وغيرها من الأحكام .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر أن الصواب في هذه المسألة أنه إن علمت حياته ، ولو بسبب آخر غير أن يستهل صارخا ، فإنه يصلى عليه . وقد علمت أن مشهور مذهب الإمام مالك أن المدار على أن يستهل صارخا ، فإن لم يستهل صارخا غسل دمه ، ولف بخرقة ، وووري ، ومذهب الشافعي : أنه إن استهل صارخا أو تحرك حركة تدل على الحياة ثم مات صلي عليه ، وورث وإن لم يستهل ولم يتحرك ، فإن لم يكن له أربعة أشهر ، لم يصل عليه ، ولكنه يلف بخرقة ويدفن ، وإن كان له أربعة أشهر فقولان : قال في القديم : يصلى عليه ، وقال في الأم : لا يصلى عليه ، وهو الأصح ، وحكى ابن المنذر عن أبي حنيفة وأصحابه ، وجابر بن زيد التابعي ، والحكم وحماد ، والأوزاعي ومالك : أنه إذا لم يستهل صارخا لا يصلى عليه . وعن ابن عمر : أنه يصلى عليه ، وإن لم يستهل . وبه قال ابن سيرين وابن المسيب وإسحاق . انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب ، ومذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه إذا لم يستهل صارخا ، ولم يتحرك ، فإن كان له أربعة أشهر غسل ، وصلي عليه ، وإلا فلا ، أما إذا استهل صارخا ، فلا خلاف بينهم في الصلاة عليه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:38 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (313)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 278 إلى صـ 284


قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : اعلم أن اختلاف الأئمة في هذه المسألة من قبيل الاختلاف في تحقيق المناط ; لأن مناط الأمر بالصلاة عليه هو أن يعلم أنه تقدمت له حياة . ومناط عدم الصلاة عليه هو أن يعلم أنه لم تتقدم له حياة ، فمالك ومن وافقه رأوا أنه إن استهل صارخا ، أو طالت مدته حيا ، علم بذلك أنه مات بعد حياة ، فيغسل ويصلى عليه ، وقالوا : إن مطلق الحركة لا يدل على الحياة ; لأن المذبوح قد يتحرك حركة قوية ، وقالوا : إنه إن رضع لم يدل ذلك على حياته . قالوا : قد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعنه عدو الله معدودا في الأموات لو مات له مورث في ذلك الوقت ما ورثه ، وهو قول ابن القاسم . ولو قتل رجل عمر في ذلك الوقت لما قتل به ; لأنه في حكم الميت ، وإن كان [ ص: 278 ] عمر في ذلك الوقت يتكلم ويعهد .

والذين خالفوا هؤلاء قالوا : لا نسلم ذلك فكل حركة قوية تدل على الحياة ، وعمر ما دام قادرا على الحركة القوية الدالة على الحياة ، فهو حي تجري عليه أحكام الحياة .

والذين قالوا : يغسل إن سقط بعد أربعة أشهر ، استندوا في ذلك إلى حديث ابن مسعود المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث نحو ما ساقه البخاري ومسلم ، فإنه يدل على أنه بعد الأربعين الثالثة ينفخ فيه الروح ، وانتهاء الأربعين الثالثة هو انتهاء أربعة أشهر ، فقد دل الحديث على نفخ الروح فيه بعد انتهاء الأشهر الأربعة ، ونفخ الروح فيه في ذلك الحين مشعر بأنه مات بعد حياة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج . هذا برهان قاطع آخر على البعث : وقوله : وترى [ 22 \ 5 ] ؛ أي : يا نبي الله . وقيل : وترى أيها الإنسان المخاطب ، وهي رؤية بصرية تتعدى إلى مفعول واحد . فقوله : هامدة حال من الأرض ، لا مفعول ثان لـ " ترى " وقوله : " هامدة " أي : يابسة قاحلة لا نبات فيها .

وقال بعض أهل العلم : " هامدة " أي : دارسة الآثار من النبات والزرع . قالوا : وأصل الهمود الدروس والدثور . ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :



قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا وأرى ثيابك باليات همدا


؛ أي : وأرى ثيابك باليات دارسات .

فإذا أنزلنا عليها الماء [ 22 \ 5 ] ؛ أي : سواء كان من المطر ، أو الأنهار أو العيون أو السواني : اهتزت ؛ أي : تحركت بالنبات . ولما كان النبات نابتا فيها متصلا بها ، كان اهتزازه كأنه اهتزازها ، فأطلق عليها بهذا الاعتبار أنها اهتزت بالنبات . وهذا أسلوب عربي معروف .

وقال أبو حيان في البحر المحيط : واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات ، وقوله : وربت ؛ أي : زادت وارتفعت : وقال بعض أهل العلم : وربت : انتفخت لأجل خروج النبات ، وقال ابن جرير الطبري : وربت ؛ أي : أضعفت النبات بمجيء الغيث .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أصل المادة التي منها ربت : الزيادة ، والظاهر [ ص: 279 ] أن معنى الزيادة الحاصلة في الأرض هي أن النبات لما كان نابتا فيها متصلا بها صار كأنه زيادة حصلت في نفس الأرض .

وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة : والاهتزاز : الحركة على سرور ، فلا يكاد يقال : اهتز فلان لكيت وكيت ، إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع . اهـ منه .

والاهتزاز أصله : شدة الحركة ، ومنه قوله :

تثنى إذا قامت وتهتز إن مشت كما اهتز غصن البان في ورق خضر

وقوله : وأنبتت ؛ أي : أنبت الله فيها من كل زوج ؛ أي : صنف من أصناف النبات والزرع ، والثمار : بهيج ؛ أي : حسن ، والبهجة : الحسن . ومنه قوله تعالى : فأنبتنا به حدائق ذات بهجة تقول : بهج بالضم بهاجة فهو بهيج : إذا كان حسنا ، وقرأ عامة السبعة : وربت ، وهو من قولهم : ربا يربو : إذا نما وزاد ، وقرأ من الثلاثة أبو جعفر يزيد بن القعقاع : وربأت بهمزة مفتوحة بعد الباء ؛ أي ارتفعت ، كأنه من الربيئة أو الربيئي ، وهو الرقيب الذي يعلو على شيء مشرف يحرس القوم ويحفظهم .

ومنه قول امرئ القيس :



بعثنا ربيئا قبل ذاك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي



وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن إحياء الأرض بعد موتها برهان قاطع على قدرة من فعل ذلك على إحياء الناس بعد موتهم ; لأن الجميع إحياء بعد موت ، وإيجاد بعد عدم بينه في آيات كثيرة ، وقد قدمنا في سورة البقرة والنحل كثرة الاستدلال بهذا البرهان في القرآن على البعث ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله تعالى : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] ، وقوله تعالى : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] ؛ أي : من قبوركم أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] ؛ أي : خروجكم من القبور أحياء بعد الموت ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] ، وقوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] ، وقوله تعالى : فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور [ ص: 280 ] [ 35 \ 9 ] ، وقوله تعالى : فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون [ 43 \ 11 ] ومن ذلك قوله هنا : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت [ 22 \ 5 ] بدليل قوله بعده : ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى إلى قوله : وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 6 - 7 ] .
قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق . قال بعض أهل العلم : الآية الأولى التي هي ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد [ 22 \ 3 ] نازلة في الأتباع الجهلة الذين يجادلون بغير علم ، اتباعا لرؤسائهم ، من شياطين الإنس والجن ، وهذه الآية الأخيرة في الرؤساء الدعاة إلى الضلال المتبوعين في ذلك ، ويدل لهذا أنه قال في الأولى : ويتبع كل شيطان [ 22 \ 3 ] وقال في هذه : ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله [ 22 \ 9 ] فتبين بذلك أنه مضل لغيره ، متبوع في الكفر والضلال ، على قراءة الجمهور بضم ياء " يضل " وأما على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو بفتح الياء ، فليس في الآية دليل على ذلك ، وقد قدمنا معنى جدال الكفرة في الله بغير علم ، فأغنى عن إعادته هنا .

وقال بعض العلماء في قوله في هذه الآية الكريمة : بغير علم [ 22 \ 8 ] ؛ أي : بدون علم ضروري ، حاصل لهم بما يجادلون به ولا هدى ؛ أي استدلال ونظر عقلي ، يهتدي به العقل للصواب ولا كتاب منير ؛ أي : وحي نير واضح ، يعلم به ما يجادل به ، فليس عنده علم ضروري ولا علم مكتسب بالنظر الصحيح العقلي ، ولا علم من وحي ، فهو جاهل محض من جميع الجهات ، وقوله : ثاني عطفه [ 22 \ 9 ] حال من ضمير الفاعل المستكن في : يجادل ؛ أي : يخاصم بالباطل في حال كونه ثاني عطفه ؛ أي : لاوي عنقه عن قبول الحق استكبارا وإعراضا . فقوله : ( ثاني ) اسم فاعل ثنى الشيء : إذا لواه ، وأصل العطف : الجانب ، وعطفا الرجل : جانباه من لدن رأسه إلى وركيه ، تقول العرب : ثنى فلان عنك عطفه ، تعني أعرض عنك . وإنما عبر العلماء هنا بالعنق فقالوا : ثاني عطفه : لاوي عنقه ، مع أن العطف يشمل العنق وغيرها ; لأن أول ما يظهر فيه الصدود عنق الإنسان ، يلويها ويصرف وجهه عن الشيء بليها . والمفسرون يقولون : إن اللام في قوله : ليضل عن سبيل الله [ 22 \ 9 ] ونحوها من الآيات مما لم تظهر فيه [ ص: 281 ] العلة الغائية ، كقوله : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . ونحو ذلك - لام العاقبة ، والبلاغيون يزعمون أن في ذلك استعارة تبعية ، في معنى الحرف . وقد وعدنا بإيضاح ذلك في سورة القصص .

ونقول هنا : إن الظاهر في ذلك أن الصواب فيه غير ما ذكروا ، وأن اللام في الجميع لام التعليل ، والمعنى واضح لا إشكال فيه كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله في مواضع من تفسيره .

وإيضاح ذلك : أن الله هو الذي قدر على الكافر في أزله أن يجادل في الله بغير علم في حال كونه لاوي عنقه إعراضا عن الحق ، واستكبارا . وقد قدر عليه ذلك ليجعله ضالا مضلا . وله الحكمة البالغة في ذلك ، كقوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ؛ أي : لئلا يفقهوه . وكذلك فالتقطه آل فرعون الآية [ 28 \ 8 ] ؛ أي : قدر الله عليهم أن يلتقطوه ; لأجل أن يجعله لهم عدوا وحزنا . وهذا واضح لا إشكال فيه كما ترى . وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من إعراض بعض الكفار عن الحق واستكبارهم أوضحه في آيات أخر من كتاب الله ، كقوله تعالى : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها [ 31 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون [ 63 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [ 4 \ 61 ] ، وقوله تعالى عن لقمان في وصيته لابنه ولا تصعر خدك للناس الآية [ 31 \ 18 ] ؛ أي : لا تمل وجهك عنهم استكبارا عليهم . وقوله تعالى عن فرعون وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه [ 51 \ 38 - 39 ] فقوله : فتولى بركنه بمعنى : ثنى عطفه . وقوله تعالى : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه الآية [ 17 \ 83 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : له في الدنيا خزي [ 22 \ 9 ] ؛ أي : ذل وإهانة . وقد أذل الله الذين جادلوا في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ; كأبي جهل بن هشام ، والنضر بن الحارث بالقتل يوم بدر .

ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من ثنى عطفه استكبارا عن الحق وإعراضا عنه عامله [ ص: 282 ] الله بنقيض قصده فأذله وأهانه . وذلك الذل والإهانة نقيض ما كان يؤمله من الكبر والعظمة .

وهذا المفهوم من هذه الآية دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه [ 40 \ 56 ] ، وقوله في إبليس لما استكبر فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] والصغار : الذل والهوان ، عياذا بالله من ذلك ، كما قدمنا إيضاحه . وقوله : ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق [ 22 \ 9 ] ؛ أي : نحرقه بالنار ، ونذيقه ألم حرها يوم القيامة . وسمي يوم القيامة ; لأن الناس يقومون فيه له جل وعلا ، كما قال تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 4 - 6 ] .
قوله تعالى : ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد المعنى : أن الكافر إذا أذيق يوم القيامة عذاب الحريق ، يقال له ذلك ؛ أي : هذا العذاب الذي نذيقكه بسبب ما قدمت يداك ؛ أي : قدمته في الدنيا من الكفر والمعاصي وأن الله ليس بظلام للعبيد [ 22 \ 10 ] فلا يظلم أحدا مثقال ذرة . وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 30 ] والظاهر أن المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : وأن الله ليس بظلام للعبيد [ 22 \ 10 ] في محل خفض عطفا على ( ما ) المجرورة بالباء .

والمعنى : هذا العذاب الذي يذيقكه الله حصل لك بسببين ، وهما : ما قدمته يداك من عمل السوء من الكفر والمعاصي ، وعدالة من جازاك ذلك الجزاء الوفاق ، وعدم ظلمه . وقد أوضحنا فيما مضى إزالة الإشكال المعروف في نفي صيغة المبالغة ، في قوله : ليس بظلام فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وفي هذه الآية الكريمة ثلاثة أسئلة :

الأول : هو ما ذكرنا آنفا أنا أوضحنا الجواب عنه سابقا ، وهو : أن المعروف في علم العربية أن النفي إذا دخل على صيغة المبالغة ، لم يقتض نفي أصل الفعل .

فلو قلت : ليس زيد بظلام للناس ، فمعناه المعروف : أنه غير مبالغ في الظلم ، ولا ينافي ذلك حصول مطلق الظلم منه . وقد قدمنا إيضاح هذا .

[ ص: 283 ] والسؤال الثاني : أنه أسند كل ما قدم إلى يديه في قوله : بما قدمت يداك وكفره الذي هو أعظم ذنوبه ليس من فعل اليد ، وإنما هو من فعل القلب واللسان ، وإن كان بعض أنواع البطش باليد يدل على الكفر ، فهو في اللسان والقلب أظهر منه في اليد . وزناه لم يفعله بيده ، بل بفرجه ، ونحو ذلك من المعاصي التي تزاول بغير اليد .

والجواب عن هذا ظاهر : وهو أن من أساليب اللغة العربية ، التي نزل بها القرآن إسناد جميع الأعمال إلى اليد ، نظرا إلى أنها الجارحة التي يزاول بها أكثر الأعمال فغلبت على غيرها ، ولا إشكال في ذلك .

والسؤال الثالث : هو أن يقال : ما وجه إشارة البعد في قوله : ذلك بما قدمت يداك مع أن العذاب المشار إليه قريب منه حاضر ؟

والجواب عن هذا : أن من أساليب اللغة العربية : وضع إشارة البعد موضع إشارة القرب . وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على قوله تعالى في أول سورة البقرة : الم ذلك الكتاب الآية [ 2 \ 1 - 2 ] ؛ أي : هذا الكتاب .

ومن شواهد ذلك في اللغة العربية قول خفاف بن ندبة السلمي :



فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا

أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا


يعني : أنا هذا .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكافر يقال له يوم القيامة : ذلك بما قدمت يداك الآية ، لا يخفى أنه توبيخ وتقريع وإهانة له ، وأمثال ذلك القول في القرآن كثيرة : كقوله تعالى : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم إن هذا ما كنتم به تمترون [ 44 \ 47 - 50 ] ، وقوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون [ 52 \ 13 - 16 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
قوله تعالى : يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد .

[ ص: 284 ] ضمير الفاعل في قوله : يدعو من دون الله ما لا يضره [ 22 \ 12 ] راجع إلى الكافر المشار إليه في قوله : وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] ؛ أي : يدعو ذلك الكافر المذكور من دون الله ، ما لا يضره ، إن ترك عبادته وكفر به ، وما لا ينفعه إن عبده وزعم أنه يشفع له .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الأوثان لا تضر من كفر بها ، ولا تنفع من عبدها بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] ، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون [ 26 \ 72 - 74 ] .

إذ المعنى : أنهم اعترفوا بأنهم لا يسمعون ولا ينفعون ولا يضرون ، ولكنهم عبدوهم تقليدا لآبائهم . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
تنبيه

فإن قيل : ما وجه الجمع بين نفيه تعالى النفع والضر معا عن ذلك المعبود من دون الله في قوله : ما لا يضره وما لا ينفعه [ 22 \ 12 ] مع إثباتهما في قوله : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه ; لأن صيغة التفضيل في قوله : " أقرب " دلت على أن هناك نفعا وضرا ، ولكن الضر أقرب من النفع .

فالجواب : أن للعلماء أجوبة عن ذلك :

منها : ما ذكره الزمخشري : قال : فإن قلت : الضر والنفع منفيان عن الأصنام ، مثبتان لها في الآيتين ، وهذا تناقض .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:39 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (314)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 285 إلى صـ 291




قلت : إذا حصل المعنى ذهب هذا الوهم . وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جمادا لا يملك ضرا ، ولا نفعا ، وهو يعتقد فيه بجهله وضلاله أنه يستنفع به حين يستشفع به ، ثم قال يوم القيامة : يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله النار بعبادتها ، ولا يرى أثر الشفاعة التي ادعاها لها : لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير [ 22 \ 13 ] [ ص: 285 ] وكرر يدعو كأنه قال : يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه . ثم قال لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا : لبئس المولى ، ولبئس العشير . ا هـ منه .

ولا يخفى أن جواب الزمخشري هذا غير مقنع ; لأن المعبود من دون الله ليس فيه نفع البتة ، حتى يقال فيه : إن ضره أقرب من نفعه ، وقد بين أبو حيان عدم اتجاه جوابه المذكور .

ومنها : ما أجاب به أبو حيان في البحر .

وحاصله : أن الآية الأولى في الذين يعبدون الأصنام ، فالأصنام لا تنفع من عبدها ، ولا تضر من كفر بها ؛ ولذا قال فيها : ما لا يضره وما لا ينفعه والقرينة على أن المراد بذلك الأصنام ، هي التعبير بلفظة " ما " في قوله : ما لا يضره وما لا ينفعه [ 22 \ 12 ] لأن لفظة " ما " تأتي لما لا يعقل ، والأصنام لا تعقل .

أما الآية الأخرى فهي في من عبد بعض الطغاة المعبودين من دون الله ، كفرعون القائل : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 \ 38 ] ، لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 \ 29 ] ، أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] ، فإن فرعون ونحوه من الطغاة المعبودين قد يغدقون نعم الدنيا على عابديهم ؛ ولذا قال له القوم الذين كانوا سحرة أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين [ 26 \ 41 - 42 ] فهذا النفع الدنيوي بالنسبة إلى ما سيلاقونه من العذاب والخلود في النار كلا شيء ، فضر هذا المعبود بخلود عابده في النار أقرب من نفعه بعرض قليل زائل من حطام الدنيا ، والقرينة على أن المعبود في هذه الآية الأخيرة بعض الطغاة الذين هم من جنس العقلاء هي التعبير بـ " من " التي تأتي لمن يعقل في قوله : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه [ 22 \ 13 ] هذا هو خلاصة جواب أبي حيان ، وله اتجاه ، والله تعالى أعلم .

واعلم أن اللام في : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه [ 22 \ 13 ] فيها إشكال معروف . وللعلماء عن ذلك أجوبة .

ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله منها ثلاثة :

أحدها : أن اللام متزحلقة عن محلها الأصلي ، وأن ذلك من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، والأصل : يدعو من لضره أقرب من نفعه ، وعلى هذا فـ " من " الموصولة [ ص: 286 ] في محل نصب مفعول به لـ " يدعو " واللام موطئة للقسم ، داخلة على المبتدإ ، الذي هو وخبره صلة الموصول ، وتأكيد المبتدإ في جملة الصلة باللام وغيرها لا إشكال فيه .

قال ابن جرير وحكي عن العرب سماعا : منها عندي لما غيره خير منه ؛ أي : عندي ما لغيره خير منه ، وأعطيتك لما غيره خير منه ؛ أي : ما لغيره خير منه .

والثاني منها : أن قوله : يدعو تأكيد لـ " يدعو " في الآية التي قبلها ، وعليه فقوله : لمن ضره في محل رفع بالابتداء ، وجملة ضره أقرب من نفعه [ 22 \ 13 ] صلة الموصول الذي هو " من " والخبر هو جملة : لبئس المولى . وهذا المعنى كقول العرب : لما فعلت لهو خير لك .

قال ابن جرير لما ذكر هذا الوجه : واللام الثانية في : لبئس المولى جواب اللام الأولى : قال : وهذا القول على مذهب أهل العربية أصح ، والأول إلى مذهب أهل التأويل أقرب . اهـ .

والثالث منها أن من في موضع نصب بـ " يدعو " وأن اللام دخلت على المفعول به ، وقد عزا هذا لبعض البصريين مع نقله عمن عزاه إليه أنه شاذ . وأقربها عندي الأول .

وقال القرطبي رحمه الله : ولم ير منه نفعا أصلا ، ولكنه قال ضره أقرب من نفعه [ 22 \ 13 ] ترفيعا للكلام : كقوله : وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ 34 \ 24 ] وباقي الأقوال في اللام المذكورة تركناه ، لعدم اتجاهه في نظرنا ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى : لبئس المولى المولى : هو كل ما انعقد بينك وبينه سبب ، يواليك وتواليه به . والعشير : هو المعاشر ، وهو الصاحب والخليل .

والتحقيق : أن المراد بالمولى والعشير المذموم في هذه الآية الكريمة ، هو المعبود الذي كانوا يدعونه من دون الله ، كما هو الظاهر المتبادر من السياق .

وقوله : ذلك هو الضلال البعيد [ 22 \ 12 ] ؛ أي : البعيد عن الحق والصواب .
قوله تعالى : من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ . في هذه الآية الكريمة أوجه من التفسير معروفة عند العلماء ، وبعضها يشهد لمعناه قرآن .

[ ص: 287 ] الأول : أن المعنى : من كان من الكفرة الحسدة له صلى الله عليه وسلم يظن أن لن ينصره الله ؛ أي : أن لن ينصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم فليمدد بسبب [ 22 \ 15 ] ؛ أي : بحبل إلى السماء ؛ أي سماء بيته ، والمراد به السقف : لأن العرب تسمي كل ما علاك سماء كما قال :



وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر


كما أوضحناه في سورة الحجر .

والمعنى : فليعقد رأس الحبل في خشبة السقف ثم ليقطع [ 22 \ 15 ] ؛ أي : ليختنق بالحبل ، فيشده في عنقه ، ويتدلى مع الحبل المعلق في السقف حتى يموت ، وإنما أطلق القطع على الاختناق ; لأن الاختناق يقطع النفس بسبب حبس مجاريه ، ولذا قيل للبهر وهو تتابع النفس : قطع ، فلينظر إذا اختنق هل يذهبن كيده ؛ أي : هل يذهب فعله ذلك ما يغيظه من نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة .

والمعنى : لا يذهب ذلك الذي فعله ذلك الكافر الحاسد ما يغيظه ويغضبه من نصر الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم .

قال الزمخشري : وسمي فعله كيدا ; لأنه وضعه موضع الكيد ؛ حيث لم يقدر على غيره ، أو على سبيل الاستهزاء ; لأنه لم يكد به محسوده ، إنما كاد به نفسه ، والمراد : ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظه . اهـ منه .

وحاصل هذا القول : أن الله يقول لحاسديه صلى الله عليه وسلم الذين يتربصون به الدوائر ، ويظنون أن ربه لن ينصره : موتوا بغيظكم ، فهو ناصره لا محالة على رغم أنوفكم ، وممن قال بهذا القول : مجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، وعطاء ، وأبو الجوزاء ، وغيرهم . كما نقله عنهم ابن كثير ، وهو أظهرها عندي .

ومما يشهد لهذا المعنى من القرآن : قوله تعالى . وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم .

الوجه الثاني : أن المعنى : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، والحال أن النصر يأتيه صلى الله عليه وسلم من السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء فيرتقي بذلك السبب ، حتى يصعد إلى السماء فيقطع نزول الوحي من السماء ، فيمنع النصر عنه صلى الله عليه وسلم .

والمعنى : أنه وإن غاظه نصر الله لنبيه . فليس له حيلة ، ولا قدرة على منع النصر ; [ ص: 288 ] لأنه لا يستطيع الارتقاء إلى السماء ومنع نزول النصر منها عليه صلى الله عليه وسلم : وعلى هذا القول : فصيغة الأمر في قوله : فليمدد [ 22 \ 15 ] ، وقوله : ثم ليقطع للتعجيز فلينظر ذلك الحاسد العاجز عن قطع النصر عنه صلى الله عليه وسلم : هل يذهب كيده إذا بلغ غاية جهده في كيد النبي صلى الله عليه وسلم ، ما يغيظه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم .

والمعنى : أنه إن أعمل كل ما في وسعه من كيد النبي صلى الله عليه وسلم ، ليمنع عنه نصر الله ، فإنه لا يقدر على ذلك ، ولا يذهب كيده ما يغيظه من نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم .

ومما يشهد لهذا القول من القرآن قوله تعالى : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ 38 \ 10 - 11 ] وقد أوضحنا معنى هذه الآية في سورة الحجر .

ولبعض أهل العلم قول ثالث في معنى الآية الكريمة : وهو أن الضمير في لن ينصره عائد إلى " من " في قوله تعالى : من كان يظن [ 22 \ 15 ] وأن النصر هنا بمعنى الرزق ، وأن المعنى : من كان يظن أن لن ينصره الله ؛ أي : لن يرزقه ، فليختنق ، وليقتل نفسه ؛ إذ لا خير في حياة ليس فيها رزق الله وعونه ، أو فليختنق وليمت غيظا وغما ، فإن ذلك لا يغير شيئا مما قضاه الله وقدره ، والذين قالوا هذا القول قالوا : إن العرب تسمي الرزق نصرا ، وعن أبي عبيدة قال : وقف علينا سائل من بني بكر ، فقال : من ينصرني نصره الله . يعني : من يعطيني أعطاه الله ، قالوا : ومن ذلك قول العرب : أرض منصورة ؛ أي : ممطورة ، ومنه قول رجل من بني فقعس :



وإنك لا تعطي امرءا فوق حقه ولا تملك الشق الذي الغيث ناصره



؛ أي : معطيه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا القول الأخير ظاهر السقوط ، كما ترى ، والذين قالوا : إن الضمير في قوله : أن لن ينصره الله راجع إلى الدين أو الكتاب ، لا يخالف قولهم قول من قال : إن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم ، لأن نصر الدين والكتاب هو نصره صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى ، ونصر الله له صلى الله عليه وسلم في الدنيا بإعلائه كلمته ، وقهره أعداءه ، وإظهار دينه ، وفي الآخرة بإعلاء درجته ، والانتقام ممن كذبه ، ونحو ذلك ، كما قال تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [ 40 \ 51 ] فإن قيل : قررتم أن الضمير في " ينصره " عائد إليه صلى الله عليه وسلم ، وهو لم يجر له ذكر ، فكيف قررتم رجوع [ ص: 289 ] الضمير إلى غير مذكور ؟

فالجواب هو ما قاله غير واحد ، من أنه صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يجر له ذكر ، فالكلام دال عليه ; لأن الإيمان في قوله في الآية التي قبلها : إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات الآية [ 22 \ 14 ] . هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ، والانقلاب عن الدين المذكور في قوله : انقلب على وجهه [ 22 \ 11 ] انقلاب عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ثم ليقطع قرأه أبو عمرو ، وابن عامر ، وورش عن نافع بكسر اللام على الأصل في لام الأمر ، وقرأه الباقون بإسكان اللام تخفيفا .
قوله تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض إلى قوله : إن الله يفعل ما يشاء . قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد .

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنواع عذاب أهل النار - أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل - جاء مبينا في آيات أخر من كتاب الله ، فقوله هنا : قطعت لهم ثياب من نار [ 22 \ 19 ] ؛ أي : قطع الله لهم من النار ثيابا ، وألبسهم إياها تنقد عليهم كقوله فيهم : سرابيلهم من قطران [ 14 \ 50 ] والسرابيل : هي الثياب التي هي القمص ، كما قدمنا إيضاحه ، وكقوله : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش [ 7 \ 41 ] والغواشي : جمع غاشية ، وهي غطاء كاللحاف ، وذلك هو معنى قوله هنا : قطعت لهم ثياب من نار [ 22 \ 19 ] ، وقوله تعالى هنا : يصب من فوق رءوسهم الحميم ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله : ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 48 - 49 ] والحميم : الماء البالغ شدة الحرارة ، وكقوله تعالى : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه الآية [ 18 \ 29 ] . وقوله هنا يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 20 ] ؛ أي : يذاب [ ص: 290 ] بذلك الحميم إذا سقوه فوصل إلى بطونهم كل ما في بطونهم من الشحم والأمعاء وغير ذلك ، كقوله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم [ 47 \ 15 ] والعرب تقول : صهرت الشيء فانصهر ، فهو صهير ؛ أي : أذبته فذاب ، ومنه قول ابن أحمر يصف تغذية قطاة لفرخها في فلاة من الأرض :



تروى لقى ألقي في صفصف تصهره الشمس فما ينصهر


؛ أي : تذيبه الشمس ، فيصبر على ذلك ، ولا يذوب .

وقوله : والجلود الظاهر أنه معطوف على " ما " من قوله : يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 20 ] التي هي نائب فاعل " يصهر " وعلى هذا الظاهر المتبادر من الآية فذلك الحميم يذيب جلودهم ، كما يذيب ما في بطونهم لشدة حرارته .

إذ المعنى : يصهر به ما في بطونهم ، وتصهر به الجلود ؛ أي : جلودهم ، فالألف واللام قامتا مقام الإضافة ، وقال بعض أهل العلم : والجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على تصهر ، وتقديره : وتحرق به الجلود ، ونظير ذلك في تقدير العامل المحذوف الرافع الباقي معموله مرفوعا بعد الواو ، قول لبيد في معلقته :

فعلا فروع الأيهقان وأطفلت بالجلهتين ظباؤها ونعامها

يعني : وباض نعامها ; لأن النعامة لا تلد الطفل ، وإنما تبيض ، بخلاف الظبية فهي تلد الطفل ، ومثاله في المنصوب قول الآخر :



إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا


ترى منا الأيور إذا رأوها قياما راكعين وساجدينا



يعني زججن الحواجب ، وأكحلن العيون .

وقوله :



ورأيت زوجك في الوغى متقلدا سيفا ورمحا



؛ أي : وحاملا رمحا ; لأن الرمح لا يتقلد .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:40 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (315)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 292 إلى صـ 298


وقول الآخر :

[ ص: 291 ]

تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه إن مولاه ثاب له وفر



يعني : ويفقأ عينيه .

ومن شواهده المشهورة قول الراجز :



علفتها تبنا وماء باردا حتى شتت همالة عيناها



يعني : وسقيتها ماء باردا ، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية [ 59 \ 9 ] ؛ أي : وأخلصوا الإيمان ، أو ألفوا الإيمان ، ومثال ذلك في المخفوض قولهم : ما كل بيضاء شحمة ، ولا سوداء تمرة ؛ أي : ولا كل سوداء تمرة ، وإلى هذه المسألة أشار في الخلاصة بقوله :

وهي انفردت

بعطف عامل مزال قد بقي معموله دفعا لوهم اتقي

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولهم مقامع من حديد [ 22 \ 21 ] المقامع : جمع مقمعة بكسر الميم الأولى ، وفتح الميم الأخيرة ، ويقال : مقمع بلا هاء ، وهو في اللغة : حديدة كالمحجن يضرب بها على رأس الفيل : وهي في الآية مرازب عظيمة من حديد تضرب بها خزنة النار رءوس أهل النار ، وقال بعض أهل العلم : المقامع : سياط من نار ، ولا شك أن المقامع المذكورة في الآية من الحديد لتصريحه تعالى بذلك .

وقوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار الآية [ 22 \ 19 ] نزل في المبارزين يوم بدر ، وهم : حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب ، وفي أقرانهم المبارزين من الكفار ، وهم : عتبة بن ربيعة ، وابنه الوليد بن عتبة ، وأخوه شيبة بن ربيعة ، كما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما .
قوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق .

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن أهل النار كلما أرادوا الخروج منها ، لما يصيبهم من الغم فيها عياذا بالله منها ، أعيدوا فيها ، ومنعوا من الخروج منها بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في المائدة : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 36 - 37 ] ، وقوله في السجدة : [ ص: 292 ] كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 \ 20 ] ، وقوله في آية الحج هذه : وذوقوا عذاب الحريق [ 22 \ 22 ] حذف فيه القول .

والمعنى : أعيدوا فيها ، وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق ، وهذا القول المحذوف في الحج صرح به في السجدة في قوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ 32 \ 20 ] والمفسرون يقولون : إن لهب النار يرفعهم ، حتى يكاد يرميهم خارجها ، فتضربهم خزنة النار بمقامع الحديد ، فتردهم في قعرها ، نعوذ بالله منها ، ومن كل ما يقرب إليها من قول وعمل .
قوله تعالى : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم . اعلم أن خبر " إن " في قوله هنا : إن الذين كفروا [ 22 \ 25 ] محذوف كما ترى .

والذي تدل عليه الآية أن التقدير : إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ، نذيقهم من عذاب أليم . كما دل على هذا قوله في آخر الآية : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

فإن قيل : ما وجه عطف الفعل المضارع على الفعل الماضي ، في قوله : إن الذين كفروا ويصدون .

فالجواب من أربعة أوجه ، واحد منها ظاهر السقوط :

الأول : هو ما ذكره بعض علماء العربية من أن المضارع قد لا يلاحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال ، فيدل إذ ذاك على الاستمرار ، ومنه : ويصدون عن سبيل الله [ 22 \ 25 ] ، وقوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله [ 13 \ 28 ] قاله أبو حيان وغيره .

الثاني : أن يصدون خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : إن الذين كفروا ، وهم يصدون ، وعليه فالجملة المعطوفة اسمية لا فعلية ، وهذا القول استحسنه القرطبي .

الثالث : أن يصدون مضارع أريد به الماضي ؛ أي : كفروا وصدوا . وليس بظاهر .

الرابع : أن الواو زائدة ، وجملة " يصدون " خبر " إن " أي : إن الذين كفروا يصدون [ ص: 293 ] الآية . وهذا هو الذي قدمنا أنه ظاهر السقوط ، وهو كما ترى ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن من أعمال الكفار الصد عن سبيل الله ، وعن المسجد الحرام بينه في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله الآية [ 2 \ 217 ] ، وقوله تعالى : هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله [ 48 \ 25 ] ، وقوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا الآية [ 5 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : سواء العاكف فيه والبادي [ 22 \ 25 ] قرأه عامة السبعة غير حفص عن عاصم : سواء ، بضم الهمزة ، وفي إعرابه على قراءة الجمهور هذه برفع " سواء " وجهان :

الأول : أن قوله : العاكف : مبتدأ ، والباد : معطوف عليه ، و : " سواء " خبر مقدم ، وهو مصدر أطلق وأريد به الوصف .

فالمعنى : العاكف والبادي سواء ؛ أي : مستويان فيه ، وهذا الإعراب أظهر الوجهين .

الثاني : أن " سواء " مبتدأ و " العاكف " فاعل سد مسد الخبر ، والظاهر أن مسوغ الابتداء بالنكرة التي هي " سواء " على هذا الوجه : هو عملها في المجرور الذي هو فيه ؛ إذ المعنى : سواء فيه العاكف والبادي ، وجملة المبتدأ وخبره في محل المفعول الثاني لـ " جعلنا " وقرأ حفص عن عاصم : " سواء " بالنصب ، وهو المفعول الثاني لـ " جعلنا " التي بمعنى صيرنا . والعاكف فاعل " سواء " أي : مستويا فيه العاكف والبادي ، ومن كلام العرب : مررت برجل سواء هو والعدم ، ومن قال : إن " جعل " في الآية تتعدى إلى مفعول واحد قال : إن " سواء " حال من الهاء في : جعلناه ؛ أي : وضعناه للناس في حال كونه سواء العاكف فيه والبادي كقوله : إن أول بيت وضع للناس الآية [ 3 \ 96 ] وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالمسجد الحرام في هذه الآية الكريمة يشمل جميع الحرم ; ولذلك أخذ بعض العلماء من هذه الآية أن رباع مكة لا تملك ، وقد قدمنا الكلام مستوفى في هذه المسألة وأقوال أهل العلم فيها ، ومناقشة أدلتهم في سورة الأنفال ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، والعاكف : هو المقيم في الحرم ، والبادي : الطارئ عليه من البادية ، وكذلك غيرها من أقطار الدنيا .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : " والبادي " قرأه أبو عمرو وورش عن نافع بإثبات الياء بعد الدال في الوصل ، وإسقاطها في الوقف ، وقرأه ابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا ، [ ص: 294 ] وقرأه باقي السبعة بإسقاطها ، وصلا ووقفا .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] قد أوضحنا إزالة الإشكال عن دخول الباء على المفعول في قوله : بإلحاد ، ونظائره في القرآن ، وأكثرنا على ذلك من الشواهد العربية في الكلام على قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

والإلحاد في اللغة أصله : الميل ، والمراد بالإلحاد في الآية : أن يميل ويحيد عن دين الله الذي شرعه ، ويعم ذلك كل ميل وحيدة عن الدين ، ويدخل في ذلك دخولا أوليا الكفر بالله ، والشرك به في الحرم ، وفعل شيء مما حرمه ، وترك شيء مما أوجبه . ومن أعظم ذلك : انتهاك حرمات الحرم . وقال بعض أهل العلم : يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة ، وقال بعض أهل العلم : يدخل في ذلك قول الرجل : لا والله ، و : بلى والله . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له فسطاطان : أحدهما في طرف الحرم ، والآخر في طرف الحل ، فإذا أراد أن يعاتب أهله أو غلامه فعل ذلك في الفسطاط الذي ليس في الحرم ، يرى أن مثل ذلك يدخل في الإلحاد فيه بظلم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر في هذه المسألة أن كل مخالفة بترك واجب ، أو فعل محرم تدخل في الظلم المذكور ، وأما الجائزات كعتاب الرجل امرأته ، أو عبده ، فليس من الإلحاد ، ولا من الظلم .
مسألة

قال بعض أهل العلم : من هم أن يعمل سيئة في مكة ، أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همه بذلك وإن لم يفعلها ، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع ، فلا يعاقب فيه بالهم . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لو أن رجلا أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم ، وهذا ثابت عن ابن مسعود ، ووقفه عليه أصح من رفعه ، والذين قالوا هذا القول استدلوا له بظاهر قوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] لأنه تعالى رتب إذاقة العذاب الأليم على إرادة الإلحاد بالظلم فيه ترتيب الجزاء على شرطه ، ويؤيد هذا قول بعض أهل العلم : إن الباء في قوله : " بإلحاد " لأجل أن الإرادة مضمنة معنى الهم ؛ أي : ومن يهمم فيه بإلحاد ، وعلى هذا الذي قاله ابن مسعود وغيره .

[ ص: 295 ] فهذه الآية الكريمة مخصصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة " الحديث ، وعليه فهذا التخصيص لشدة التغليظ في المخالفة في الحرم المكي ، ووجه هذا ظاهر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ويحتمل أن يكون معنى الإرادة في قوله : ومن يرد فيه بإلحاد [ 22 \ 25 ] العزم المصمم على ارتكاب الذنب فيه ، والعزم المصمم على الذنب ذنب يعاقب عليه في جميع بقاع الله ؛ مكة وغيرها .

والدليل على أن إرادة الذنب إذا كانت عزما مصمما عليه أنها كارتكابه حديث أبي بكرة الثابت في الصحيح : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار . قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " . فقولهم : ما بال المقتول : سؤال عن تشخيص عين الذنب الذي دخل بسببه النار مع أنه لم يفعل القتل ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " أن ذنبه الذي أدخله النار هو عزمه المصمم وحرصه على قتل صاحبه المسلم . وقد قدمنا مرارا أن " إن " المكسورة المشددة تدل على التعليل كما تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه .

ومثال المعاقبة على العزم المصمم على ارتكاب المحظور فيه ، ما وقع بأصحاب الفيل من الإهلاك المستأصل ، بسبب طير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل [ 105 \ 4 ] لعزمهم على ارتكاب المناكر في الحرم ، فأهلكهم الله بذلك العزم قبل أن يفعلوا ما عزموا عليه ، والعلم عند الله تعالى . والظاهر أن الضمير في قوله : فيه راجع إلى المسجد الحرام ، ولكن حكم الحرم كله في تغليظ الذنب المذكور كذلك . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ؛ أي اذكر حين بوأنا ، تقول العرب : بوأت له منزلا ، وبوأته منزلا ، وبوأته في منزل ، بمعنى واحد ، كلها بمعنى : هيأته له ومكنت له فيه وأنزلته فيه ، فتبوأه ؛ أي : نزله ، وتبوأت له منزلا أيضا : هيأته له وأنزلته فيه . فـ " بوأه " المتعدي بنفسه ، كقوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا الآية [ 29 \ 58 ] ، وقوله : والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة الآية [ 16 \ 42 ] ومنه قول عمرو بن معديكرب الزبيدي :

[ ص: 296 ]

كم من أخ لي ماجد بوأته بيدي لحدا


؛ أي : هيأته له وأنزلته فيه .

وبوأت له . كقوله هنا : وإذ بوأنا لإبراهيم الآية [ 22 \ 26 ] .

وبوأته فيه . كقول الشاعر :



وبوئت في صميم معشرها وتم في قومها مبوؤها



؛ أي : نزلت من الكرم في صميم النسب ، وتبوأت له منزلا كقوله تعالى : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا [ 10 \ 78 ] .

وتبوأه . كقوله : وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء الآية [ 39 \ 74 ] ، وقوله تعالى : وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء [ 12 \ 56 ] ، وقوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان الآية [ 59 \ 9 ] .

وأصل التبوء من المباءة : وهي منزل القوم في كل موضع ، فقوله : بوأنا لإبراهيم مكان البيت [ 22 \ 26 ] ؛ أي : هيأناه له وعرفناه إياه ; ليبنيه بأمرنا على قواعده الأصلية المندرسة ، حين أمرناه ببنائه ، كما يهيأ المكان لمن يريد النزول فيه .

والمفسرون يقولون : بوأه له وأراه إياه بسبب ريح تسمى الخجوج كنست ما فوق الأساس ، حتى ظهر الأساس الأول الذي كان مندرسا ، فبناه إبراهيم وإسماعيل عليه . وقيل : أرسل له مزنة فاستقرت فوقه ، فكان ظلها على قدر مساحة البيت ، فحفرا عن الأساس فظهر لهما فبنياه عليه . وهم يقولون أيضا : إنه كان مندرسا من زمن طوفان نوح ، وأن محله كان مربض غنم لرجل من جرهم ، والله تعالى أعلم .

وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله بوأ مكانه لإبراهيم ، فهيأه له وعرفه إياه ليبنيه في محله ، وذهبت جماعة من أهل العلم إلى أن أول من بناه إبراهيم ولم يبن قبله . وظاهر قوله حين ترك إسماعيل وهاجر في مكة ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم [ 14 \ 37 ] يدل على أنه كان مبنيا واندرس ، كما يدل عليه قوله هنا مكان البيت [ 22 \ 26 ] لأنه يدل على أن له مكانا سابقا ، كان معروفا . والله أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين الآية ، متعلق بمحذوف ، وقد دلت على تقدير المحذوف المذكور آية البقرة ; وهي قوله تعالى : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين [ 2 \ 125 ] فدلت آية البقرة المذكورة على أن معنى آية الحج هذه وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت [ 22 \ 26 ] وعهدنا إليه ؛ أي : أوصيناه ، أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين ، وزادت آية [ ص: 297 ] البقرة : أن إسماعيل مأمور بذلك أيضا مع أبيه إبراهيم ، وإذا عرفت أن المعنى : وعهدنا إلى إبراهيم ألا تشرك بي شيئا ، وطهر بيتي الآية .

فاعلم أن في " أن " وجهين :

أحدهما : أنها هي المفسرة ، وعليه فتطهير البيت من الشرك وغيره هو تفسير العهد إلى إبراهيم ؛ أي : والعهد هو إيصاؤه بالتطهير المذكور .

والثاني : أنها مصدرية بناء على دخول " أن " المصدرية على الأفعال الطلبية .

وإن قيل : كيف تكون مفسرة للعهد إلى إبراهيم ، وهو غير مذكور هنا ؟

فالجواب : أنه مذكور في سورة البقرة في المسألة بعينها ، والقرآن يفسر بعضه بعضا ، فالمذكور هناك كأنه مذكور هنا ; لأن كلام الله يصدق بعضه بعضا ، والتطهير هنا في قوله : وطهر بيتي يشمل التطهير المعنوي والحسي ، فيطهره الطهارة الحسية من الأقذار ، والمعنوية من الشرك والمعاصي ؛ ولذا قال لا تشرك بي شيئا [ 22 \ 26 ] وكانت قبيلة جرهم تضع عنده الأصنام تعبدها من دون الله ، وقد قدمنا في سورة الإسراء الكلام مستوفى فيما كان عند الكعبة من الأصنام عام الفتح ، وطهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنجاس الأوثان وأقذارها . كما أمر الله بذلك إبراهيم هنا ، وقال لنبينا صلى الله عليه وسلم : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم الآية [ 16 \ 123 ] والمراد بالطائفين في هذه الآية : الذين يطوفون حول البيت ، والمراد بالقائمين والركع السجود : المصلون ؛ أي : طهر بيتي للمتعبدين بطواف أو صلاة ، والركع : جمع راكع ، والسجود : جمع ساجد .

وقوله تعالى في هذه الآية : لا تشرك بي شيئا لفظة " شيئا " مفعول به : لـ " لا تشرك " ؛ أي : لا تشرك بي من الشركاء كائنا ما كان ، ويحتمل أن تكون ما ناب عن المطلق من : لا تشرك ؛ أي : لا تشرك بي شيئا من الشرك ، لا قليلا ، ولا كثيرا .

فالمعنى على هذا : لا تشرك بي شركا قليلا ، ولا كثيرا ، وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص ، وابن عامر في رواية هشام : بيتي بفتح الياء ، وقرأ باقي السبعة بإسكانها .

واعلم أن المؤرخين لهم كلام كثير في قصة بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت ، ومن جملة ما يزعمون ، أن البيت الحرام رفعه الله إلى السماء أيام الطوفان ، وأنه كان من ياقوتة حمراء ، ودرج على ذلك ناظم عمود النسب فقال :



ودلت إبراهيم مزنة عليه فهي على قدر المساحة تريه


[ ص: 298 ] وقيل دلته خجوج كنست ما حوله حتى بدا ما أسست
قبل الملائك من البناء قبل ارتفاعه إلى السماء



ومعلوم أن هذا ونحوه شبيه بالإسرائيليات لا يصدق منه إلا ما قام دليل من كتاب أو سنة على صدقه ، ولذلك نقلل من ذكر مثل ذلك في الغالب .
مسألة

يؤخذ من هذه الآية الكريمة : أنه لا يجوز أن يترك عند بيت الله الحرام قذر من الأقذار ، ولا نجس من الأنجاس المعنوية ولا الحسية ، فلا يترك فيه أحد يرتكب ما لا يرضي الله ، ولا أحد يلوثه بقذر من النجاسات .

ولا شك أن دخول المصورين في المسجد الحرام حول بيت الله الحرام بآلات التصوير يصورون بها الطائفين والقائمين والركع السجود - أن ذلك مناف لما أمر الله به من تطهير بيته الحرام للطائفين والقائمين والركع السجود ، فانتهاك حرمة بيت الله بارتكاب حرمة التصوير عنده لا يجوز ; لأن تصوير الإنسان دلت الأحاديث الصحيحة على أنه حرام ، وظاهرها العموم في كل أنواع التصوير ، ولا شك أن ارتكاب أي شيء حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من الأقذار والأنجاس المعنوية التي يلزم تطهير بيت الله منها . وكذلك ما يقع في المسجد من الكلام المخل بالدين والتوحيد لا يجوز إقرار شيء منه ولا تركه .

ونرجو الله لنا ولمن ولاه الله أمرنا ، ولإخواننا المسلمين التوفيق إلى ما يرضيه في حرمه ، وسائر بلاده ، إنه قريب مجيب .
قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق

الأذان في اللغة : الإعلام : ومنه قوله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر وقول الحارث بن حلزة :


آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:41 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (316)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 299 إلى صـ 305






والحج في اللغة : القصد وكثرة الاختلاف والتردد ، تقول العرب : حج بنو فلان فلانا : إذا قصدوه وأطالوا الاختلاف إليه والتردد عليه . ومنه قول المخبل السعدي :



ألم تعلمي يا أم أسعد أنما تخاطأني ريب المنون لأكبرا


[ ص: 299 ] وأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا



قوله : يحجون ، يعني : يكثرون قصده والاختلاف إليه والتردد عليه . والسب بالكسر : العمامة . وعنى بكونهم يحجون عمامته : أنهم يحجونه ، فكنى عنه بالعمامة .

والرجال في الآية : جمع راجل ، وهو الماشي على رجليه ، والضامر : البعير ونحوه ، المهزول الذي أتعبه السفر . وقوله " يأتين " يعني : الضوامر المعبر عنها بلفظ : كل ضامر ; لأنه في معنى : وعلى ضوامر يأتين من كل فج عميق ; لأن لفظة " كل " صيغة عموم ، يشمل ضوامر كثيرة ، والفج : الطريق ، وجمعه : فجاج . ومنه قوله تعالى : وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] والعميق : البعيد ، ومنه قول الشاعر :



إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة يمد بها في السير أشعث شاحب



وأكثر ما يستعمل العمق في البعد سفلا ، تقول : بئر عميقة ؛ أي : بعيدة القعر ، والخطاب في قوله : وأذن في الناس بالحج [ 22 \ 27 ] لإبراهيم كما هو ظاهر من السياق . وهو قول الجمهور ، خلافا لمن زعم أن الخطاب لنبينا صلى الله عليه وعلى إبراهيم وسلم ، وممن قال بذلك الحسن ، ومال إليه القرطبي ، فقوله تعالى : وأذن في الناس بالحج ؛ أي : وأمرنا إبراهيم أن أذن في الناس بالحج ؛ أي : أعلمهم ، وناد فيهم بالحج ؛ أي : بأن الله أوجب عليهم حج بيته الحرام .

وذكر المفسرون أنه لما أمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج قال : يا رب ، كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم ، فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه . وقيل : على الحجر . وقيل : على الصفا . وقيل : على أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس ، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه ، فيقال : إن الجبال تواضعت ، حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم لبيك .

قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر هذا الكلام : هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد من السلف والله أعلم ، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة . انتهى منه .

وقوله تعالى : يأتوك رجالا مجزوم في جواب الطلب ، وهو عند علماء العربية [ ص: 300 ] مجزوم بشرط مقدر ، دل عليه الطلب على الأصح ؛ أي : إن تؤذن في الناس بالحج يأتوك . وإنما قال " يأتوك " لأن المدعو يتوجه نحو الداعي ، وإن كان إتيانهم في الحقيقة للحج ; لأن نداء إبراهيم للحج ؛ أي : يأتوك ملبين دعوتك ، حاجين بيت الله الحرام ، كما ناديتهم لذلك .

وعلى قول الحسن الذي ذكر عنه أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، ففي هذه الآية دليل على وجوب الحج ، وعلى قول الجمهور ، فوجوب الحج بها على هذه الأمة مبني على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، كما أوضحناه في سورة المائدة ، مع أنه دلت آيات أخر على أن الإيجاب المذكور على لسان إبراهيم وقع مثله أيضا على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] ، وقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، وقوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية . وقوله : يأتوك رجالا وعلى كل ضامر الآية . قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا ; لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم . وقال وكيع ، عن أبي العميس ، عن أبي حلحلة ، عن محمد بن كعب ، عن ابن عباس قال : ما آسى على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا ; لأن الله يقول يأتوك رجالا .

والذي عليه الأكثرون : أن الحج راكبا أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكبا مع كمال قوته صلى الله عليه وسلم . انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : اعلم أنه قد تقرر في الأصول : أن منشأ الخلاف في هذه المسألة التي هي : هل الركوب في الحج أفضل أو المشي ، ونظائرها - كون أفعال النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر إلى الجبلة والتشريع ثلاثة أقسام :

القسم الأول : هو الفعل الجبلي المحض : أعني الفعل الذي تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها ؛ كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، فإن هذا لم يفعل للتشريع والتأسي ، فلا يقول أحد : أنا أجلس وأقوم تقربا لله واقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم لأنه كان يقوم ويجلس ؛ لأنه لم يفعل ذلك للتشريع والتأسي . وبعضهم يقول : فعله الجبلي يقتضي الجواز ، وبعضهم [ ص: 301 ] يقول : يقتضي الندب . والظاهر ما ذكرنا من أنه لم يفعل للتشريع ، ولكنه يدل على الجواز .

القسم الثاني : هو الفعل التشريعي المحض . وهو الذي فعل لأجل التأسي والتشريع ، كأفعال الصلاة وأفعال الحج مع قوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقوله : " خذوا عني مناسككم " .

القسم الثالث : وهو المقصود هنا هو الفعل المحتمل للجبلي والتشريعي . وضابطه : أن تكون الجبلة البشرية تقضيه بطبيعتها ، ولكنه وقع متعلقا بعبادة بأن وقع فيها أو في وسيلتها ، كالركوب في الحج ، فإن ركوبه صلى الله عليه وسلم في حجه محتمل للجبلة ; لأن الجبلة البشرية تقتضي الركوب ، كما كان يركب صلى الله عليه وسلم في أسفاره غير متعبد بذلك الركوب ، بل لاقتضاء الجبلة إياه ، ومحتمل للشرعي ; لأنه صلى الله عليه وسلم فعله في حال تلبسه بالحج ، وقال : " خذوا عني مناسككم " . ومن فروع هذه المسألة : جلسة الاستراحة في الصلاة ، والرجوع من صلاة العيد في طريق أخرى غير التي ذهب فيها إلى صلاة العيد ، والضجعة على الشق الأيمن ، بين ركعتي الفجر وصلاة الصبح ، ودخول مكة من كداء - بالفتح والمد - والخروج من كدى - بالضم والقصر - والنزول بالمحصب بعد النفر من منى ، ونحو ذلك .

ففي كل هذه المسائل خلاف بين أهل العلم ; لاحتمالها للجبلي والتشريعي ، وإلى هذه المسألة أشار في مراقي السعود بقوله :



وفعله المركوز في الجبله كالأكل والشرب فليس مله


من غير لمح الوصف والذي احتمل شرعا ففيه قل تردد حصل
فالحج راكبا عليه يجري كضجعة بعد صلاة الفجر



ومشهور مذهب مالك : أن الركوب في الحج أفضل ، إلا في الطواف والسعي ، فالمشي فيهما واجب .

وقال سند واللخمي من المالكية : إن المشي أفضل للمشقة ، وركوبه صلى الله عليه وسلم جبلي لا تشريعي .

وما ذكرنا عن مالك من أن الركوب في الحج أفضل من المشي ، هو قول أكثر أهل العلم ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما .

قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أن الركوب أفضل . [ ص: 302 ] قال العبدري : وبه قال أكثر الفقهاء ، وقال داود : ماشيا أفضل ، واحتج بحديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " ولكنها على قدر نفقتك ، أو : نصبك " رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية صحيحة : " على قدر عنائك ونصبك " وروى البيهقي بإسناده ، عن ابن عباس قال : ما آسي على شيء ما آسي أني لم أحج ماشيا ، وعن عبيد بن عمير قال ابن عباس : ما ندمت على شيء فاتني في شبابي ، إلا أني لم أحج ماشيا ، ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا . وإن النجائب لتقاد معه ، ولقد قاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات ، حتى كان يعطي الخف ، ويمسك النعل . انتهى محل الغرض منه ، والحديث المرفوع عن ابن عباس في فضل الحج ماشيا : ضعيف ، وحديث عائشة المتفق عليه الذي أشار إليه النووي يقوي حجة من قال بأن المشي في الحج أفضل من الركوب ; لأنه أكثر نصبا وعناء . ولفظ البخاري : " ولكنها على قدر نفقتك أو نصبك " ، ولفظ مسلم : " ولكنها على قدر نصبك " ، أو قال : " نفقتك " والنصب : التعب والمشقة .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : قد دل الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على وجوب الحج مرة واحدة في العمر ، وهو إحدى الدعائم الخمس ، التي بني عليها الإسلام إجماعا .

أما دليل وجوبه من كتاب الله فقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .

وأما السنة فالأحاديث في ذلك كثيرة ، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ : قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو قلت : نعم ، لوجبت ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه " . انتهى منه .

ومحل الشاهد من هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا " ، ونحوه أخرجه الإمام أحمد والنسائي ، واستدل بهذا الحديث على أن الأمر المجرد من القرائن لا يقتضي التكرار كما هو مقرر في الأصول .

[ ص: 303 ] والدليل على أنه إحدى الدعائم الخمس التي بني عليها الإسلام حديث ابن عمر المتفق عليه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والحج ، وصوم رمضان " هذا لفظ البخاري .

وقد وردت في فضل الحج والترغيب فيه أحاديث كثيرة : فمن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أي الأعمال أفضل ؟ قال " إيمان بالله ورسوله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ، قيل : ثم ماذا ؟ قال : حج مبرور " متفق عليه . وعنه رضي الله عنه أيضا قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " متفق عليه أيضا ، وعنه أيضا رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " متفق عليه أيضا ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل ، أفلا نجاهد ؟ قال : " لكن أفضل الجهاد حج مبرور " رواه البخاري ، وعنها أيضا رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة ، فيقول : ما أراد هؤلاء " أخرجه مسلم بهذا اللفظ . والأحاديث في الباب كثيرة . وفضل الحج وكونه من الدعائم الخمس معروف .
واعلم : أن وجوب الحج المذكور تشترط له شروط ، وهي : العقل ، والبلوغ ، والإسلام ، والحرية ، والاستطاعة . ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، أما العقل فكونه شرطا في وجوب كل تكليف ، واضح لأن غير العاقل لا يصح تكليفه بحال . وأما اشتراط البلوغ فواضح ; لأن الصبي مرفوع عنه القلم حتى يحتلم ، فالبلوغ والعقل كلاهما شرط وجوب ، وأما الإسلام : فالظاهر أنه على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ، فهو شرط صحة لا شرط وجوب ، وعلى أنهم غير مخاطبين بها ، فهو شرط وجوب ، والأصح خطاب الكفار بفروع الشريعة كما أوضحنا أدلته في غير هذا الموضع ، فيكون الإسلام شرط صحة في حقهم ، ومعلوم أنه على أنه شرط وجوب ، فهو شرط صحة أيضا ؛ لأن بعض شروط الوجوب يكون شرطا في الصحة أيضا ؛ كالوقت للصلاة ، فإنه شرط لوجوبها وصحتها أيضا ، وقد يكون شرط الوجوب ليس شرطا في الصحة ؛ كالبلوغ ، والحرية ، فإن الصبي لا يجب عليه الحج ، مع أنه يصح منه لو فعله ، وكذلك العبد ، إلا أنه لا يجزئ عن [ ص: 304 ] حجة الإسلام ، إلا إذا كان بعد البلوغ وبعد الحرية . وأما الحرية : فهي شرط وجوب ، فلا يجب الحج على العبد ، واستدل العلماء على عدم وجوب الحج على العبد بأمرين :

الأول : إجماع أهل العلم على ذلك . ولكنه إذا حج صح حجه ، ولم يجزئه عن حجة الإسلام ، فإن عتق بعد ذلك فعليه حجة الإسلام .

قال النووي في شرح المهذب : أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج ; لأن منافعه مستحقة لسيده ، فليس هو مستطيعا . ويصح منه الحج بإذن سيده وبغير إذنه بلا خلاف عندنا . قال القاضي أبو الطيب : وبه قال الفقهاء كافة ، وقال داود : لا يصح بغير إذنه . انتهى محل الغرض منه .

الأمر الثاني : حديث جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على ذلك ؛ وهو أنه صلى الله عليه وسلم جاء عنه من حديث ابن عباس أنه قال : " أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام " قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث : رواه ابن خزيمة والإسماعيلي في مسند الأعمش ، والحاكم والبيهقي وابن حزم وصححه ، والخطيب في التاريخ من حديث محمد بن المنهال ، عن يزيد بن زريع ، عن شعبة ، عن الأعمش عن أبي ظبيان عنه . قال ابن خزيمة : الصحيح موقوف ، بل خرجه كذلك من رواية ابن أبي عدي عن شعبة ، وقال البيهقي : تفرد برفعه محمد بن المنهال ، ورواه الثوري عن شعبة موقوفا .

قلت : لكن هو عند الإسماعيلي والخطيب عن الحارث بن سريج عن يزيد بن زريع متابعة لمحمد بن المنهال . ويؤيد صحة رفعه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه : أنا أبو معاوية ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : احفظوا عني ولا تقولوا قال ابن عباس فذكره ، وهذا ظاهر أنه أراد أنه مرفوع ; فلذا نهاهم عن نسبته إليه . وفي الباب عن جابر أخرجه ابن عدي بلفظ : " لو حج صغير حجة لكانت عليه حجة إذا بلغ " الحديث ، وسنده ضعيف ، وأخرجه أبو داود في المراسيل عن محمد بن كعب القرظي نحو حديث ابن عباس مرسلا ، وفيه راو مبهم . انتهى من التلخيص .

وقال البيهقي في سننه : وأخبرنا أبو الحسن المقري : ثنا الحسن بن محمد بن إسحاق : ثنا يوسف بن يعقوب : ثنا محمد بن المنهال : ثنا يزيد بن زريع ، ثنا شعبة عن سليمان الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى ، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى ، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى " ، ثم ساق الحديث بسند آخر موقوفا على [ ص: 305 ] ابن عباس ، وسكت ولم يبين هل الموقوف أصح أو المرفوع ؟ وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث :

رواه البيهقي في الباب الأول من كتاب الحج بإسناد جيد ؟ ورواه أيضا موقوفا ، ولا يقدح ذلك فيه . ورواية المرفوع قوية ، ولا يضر تفرد محمد بن المنهال بها ، فإنه ثقة مقبول ضابط . روى عنه البخاري ومسلم في صحيحيهما . اهـ .

وقد علمت من كلام ابن حجر : أن ابن المنهال تابعه على رفع الحديث المذكور الحارث بن سريج ، فقد زال التفرد . والظاهر أن الحارث المذكور هو ابن سريج النقال ، ولا يحتج به لضعفه . وبما ذكرنا تعلم أن الحديث المذكور لا يقل عن درجة الاحتجاج ، ووجه الدلالة منه على أن الحرية شرط في وجوب الحج أنه لو حج وهو مملوك ، ثم أعتق بعد ذلك لزمته حجة الإسلام ، فلو كان واجبا عليه في حال كونه مملوكا أجزأه حجه عن حجة الإسلام كما هو ظاهر ، والعلم عند الله تعالى .

وقال أبو عيسى الترمذي رحمه الله ما نصه :

وقد أجمع أهل العلم : أن الصبي إذا حج قبل أن يدرك فعليه الحج إذا أدرك لا تجزئ عنه تلك الحجة عن حجة الإسلام ، وكذلك المملوك إذا حج في رقه ثم أعتق فعليه الحج إذا وجد إلى ذلك سبيلا ، ولا يجزئ عنه ما حج في حال رقه ، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق .
وأما الاستطاعة : فقد نص تعالى على اشتراطها في قوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، ومعنى الاستطاعة في اللغة العربية معروف ، وتفسير الاستطاعة في الآية اختلف فيه العلماء .

فالاستطاعة في مشهور مذهب مالك الذي به الفتوى : هي إمكان الوصول بلا مشقة عظيمة زائدة على مشقة السفر العادية مع الأمن على النفس والمال ، ولا يشترط عندهم الزاد والراحلة ، بل يجب الحج عندهم على القادر على المشي ، إن كانت له صنعة يحصل منها قوته في الطريق ؛ كالجمال ، والخراز ، والنجار ، ومن أشبههم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:41 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (317)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 306 إلى صـ 312





وقال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : ووجب باستطاعة بإمكان الوصول بلا مشقة عظمت ، وأمن على نفس ومال ما نصه : وقال مالك في كتاب محمد ، وفي سماع أشهب لما سئل عن قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] أذلك الزاد والراحلة ؟ قال : لا والله ، ما ذلك إلا طاقة الناس ، الرجل يجد [ ص: 306 ] الزاد والراحلة ، ولا يقدر على المسير ، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه ، ولا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، وزاد في كتاب محمد : ورب صغير أجلد من كبير ، ونقل في المقدمات كلام مالك ثم قال بعده : فمن قدر على الوصول إلى مكة ، إما راجلا بغير كبير مشقة ، أو راكبا بشراء أو كراء ، فقد وجب عليه الحج ، ونقله في التوضيح . انتهى من الحطاب .

واعلم أن بعض المالكية يشترطون في الصنعة المذكورة ألا تكون مزرية به .

واعلم أن المالكية اختلفوا في الفقير الذي عادته سؤال الناس في بلده ، وعادة الناس إعطاؤه ، وذلك السؤال هو الذي منه عيشته ، إذا علم أنه إن خرج حاجا وسأل ، أعطاه الناس ما يعيش به كما كانوا يعطونه في بلده ، هل سؤاله الناس وإعطاؤهم إياه يكون بسببه مستطيعا لقدرته على الزاد بذلك ، فيجب عليه الحج بذلك ، أو لا يجب عليه بذلك ؟

فذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجب عليه به الحج ، ولا يعد استطاعة ، وبهذا القول جزم خليل بن إسحاق رحمه الله في مختصره الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى ، وذلك في قوله فيما لا تحصل به الاستطاعة : لا بدين أو عطية أو سؤال مطلقا .

ومعنى كلامه أن من لم يمكنه الوصول إلى مكة إلا بتحمل دين في ذلك ، أو قبول عطية ممن أعطاه مالا أو سؤال الناس مطلقا ، أنه لا يعد بذلك مستطيعا ، ولا يجب عليه الحج ، وقوله : أو سؤال مطلقا يعني بالإطلاق ، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا ، وسواء كانت عادة الناس إعطاءه أو لا ، أما إذا كانت عادة الناس عدم إعطائه ، فالحج حرام عليه ; لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة ، سواء كان السؤال عادته في بلده أو لا ، وأما إن كانت عادة الناس إعطاءه ، ولم يكن السؤال عادته في بلده ، فلا خلاف في أنه لا يعد مستطيعا ولا يجب عليه الحج ، وأما إن كانت عادته السؤال في بلده ، ومنه عيشته ، وعادة الناس إعطاؤه ، فهو محل الخلاف ، وقد ذكرنا آنفا قول خليل في مختصره أنه لا يجب عليه الحج ، ولا يعد مستطيعا بسؤال الناس ، وذلك في قوله : أو بسؤال مطلقا ، وقال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل : وسؤال مطلقا ، وقال خليل في منسكه : وظاهر المذهب أنه لا يجب على من عادته السؤال ، إذا كانت العادة إعطاءه ، ويكره له المسير ، فإن لم تكن عادته السؤال ، أو لم تكن العادة إعطاءه سقط الحج بالاتفاق ، وقال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل : أو سؤال مطلقا ما نصه : وأما الصورة الرابعة : وهي ما إذا كانت عادته في بلده السؤال ، ومنه عيشه ، والعادة إعطاؤه ، فقال المصنف في توضيحه ومنسكه : إن [ ص: 307 ] ظاهر المذهب أنه لا يجب عليه الحج ، ويكره له الخروج ، وجزم به هنا ، وقال في الشامل : إنه المشهور ، وأقر في شروحه كلام المؤلف على إطلاقه ، وكذلك البساطي والشيخ زروق ، ولم ينبه عليه ابن غازي . انتهى محل الغرض منه . وقال الحطاب أيضا : وذكر ابن الحاجب القولين من غير ترجيح ، وقبلهما ابن عبد السلام ، والمصنف في التوضيح وابن فرجون ، وصاحب الشامل ، ومن بعدهم ، ورجحوا القول بالسقوط ، وصرح بعضهم بتشهيره ، وكذلك شراح المختصر . اهـ محل الغرض منه .

ومعنى قوله : ورجحوا القول بالسقوط ، يعني : سقوط وجوب الحج عمن عادته السؤال والإعطاء .

القول الثاني من قولي المالكية : أن الفقير الذي عادته السؤال في بلده وعادة الناس إعطاؤه ، إذا كانت عادتهم إعطاءه في سفر الحج كما كانوا يعطونه في بلده ، أنه يعد بذلك مستطيعا ، وأن تحصيله زاده بذلك السؤال يعد استطاعة ، وعلى هذا القول أكثر المالكية .

وقال الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : أو سؤال مطلقا ، بعد أن ذكر القول بأن ذلك السؤال والإعطاء لا يعد استطاعة ، ولا يجب به الحج ، بل يكره الخروج في تلك الحال ، ما نصه :

قلت : ونصوص أهل المذهب التي وقفت عليها مصرحة بخلاف ذلك ، وأن الحج واجب على من عادته السؤال ، إذا كانت العادة إعطاءه ، ثم سرد كثيرا من نقول علماء المالكية مصرحة بوجوب الحج عليه ، وأهل هذا القول من علماء المالكية ، وهم الأكثرون ، وجهوه بأنه محمول على الفقير الذي يباح له السؤال لعدم قدرته على كسب ما يعيش به ، وأن ذلك السؤال لما كان جائزا له ، وصار عيشه منه في الحضر ، فهو بذلك السؤال والإعطاء قادر على الوصول إلى مكة . قالوا : ومن قدر على ذلك بوجه جائز لزمه الحج .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل من قولي المالكية في هذه المسألة : هو القول الأول ؛ وهو أن الحج لا يجب على من يعيش في طريقه بتكفف الناس ، وأن سؤال الناس لا يعد استطاعة .

ومن الأدلة الدالة على ذلك عموم قوله جل وعلا : ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج الآية [ 9 \ 91 ] ، وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مرارا أن العبرة بعموم [ ص: 308 ] الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، وبينا أدلة ذلك من السنة الصحيحة ، فقد صرح تعالى في هذه الآية الكريمة برفع الحرج عن الذين لا يجدون ما ينفقون . ولا شك أن الذي يتكفف الناس لشدة فقره داخل في عموم الذين لا يجدون ما ينفقون ، وقد صرح تعالى بنفي الحرج عنهم ، فيلزم من ذلك نفي الحرج عنه في وجوب الحج ، وهو واضح ، وقد استدل الشيخ ابن القاسم رحمه الله بهذه الآية المذكورة على ما ذكرنا .

ولكن كثيرا من متأخري علماء المالكية حملوا قول ابن القاسم الذي احتج عليه بالآية المذكورة ، على من ليس عادته السؤال في بلده ، قالوا : فلم يتناول قوله محل النزاع .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ظاهر الآية الكريمة العموم في جميع الذين لا يجدون ما ينفقون ، فتخصيصها بمن ليس عادته السؤال بدون دليل من كتاب أو سنة ، لا يصح ولا يعول عليه . وقد تقرر في الأصول أنه لا يمكن تخصيص العام إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، سواء كان من المخصصات المتصلة ، أو المنفصلة .

ومما يؤيد هذا في الجملة ما ثبت في صحيح البخاري : حدثنا يحيى بن بشر ، حدثنا شبابة ، عن ورقاء ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل اليمن يحجون ، ولا يتزودون ، ويقولون : نحن المتوكلون ، فإذا قدموا المدينة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : وتزودوا فإن خير الزاد التقوى [ 2 \ 197 ] ورواه ابن عيينة ، عن عكرمة مرسلا . انتهى من صحيح البخاري .

وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث : قال المهلب : في هذا الحديث من الفقه أن ترك السؤال من التقوى ، ويؤيده أن الله مدح من لم يسأل الناس إلحافا ، فإن قوله : فإن خير الزاد التقوى [ 2 \ 197 ] ؛ أي : تزودوا ، واتقوا أذى الناس بسؤالكم إياهم والإثم في ذلك . انتهى محل الغرض منه .

وفيه دليل ظاهر على حرمة خروج الإنسان حاجا بلا زاد ليسأل الناس ، وظاهرها العموم في كل حاج يسأل الناس ، فقيرا كان أو غنيا ، كانت عادته السؤال في بلده أو لا ، وحمل النصوص على ظواهرها واجب إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، ومما يؤيد هذا أن الذين مدحهم الله في كتابه ، بتركهم سؤال الناس ، كانوا من أفقر الفقراء كما هو معلوم ، وقد صرح تعالى بأنهم فقراء ، وأشار لشدة فقرهم ، وذلك في قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا [ ص: 309 ] الآية [ 2 \ 273 ] فصرح بأنهم فقراء ، وأثنى عليهم بالتعفف وعدم السؤال .

ووجه إشارة الآية إلى شدة فقرهم هو ما فسرها به بعض أهل العلم من أن معنى قوله : تعرفهم بسيماهم [ 2 \ 273 ] ؛ أي : بظهور آثار الفقر والحاجة عليهم .

وقال ابن جرير في تفسيره ، بعد أن ذكر القول بأن المراد بسيماهم : علامة فقرهم من ظهور آثار الجوع ، والفاقة عليهم ، والقول الآخر : أن المراد بسيماهم : علامتهم التي هي التخشع والتواضع ، ما نصه .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم . انتهى محل الغرض منه .

وقال صاحب الدر المنثور في التفسير بالمأثور : وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن الربيع : تعرفهم بسيماهم [ 2 \ 273 ] يقول : تعرف في وجوههم الجهد من الحاجة . وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد : تعرفهم بسيماهم قال : رثاثة ثيابهم . انتهى . ومثل هذا كثير في كلام المفسرين .

فالآية الكريمة : تدل بمنطوقها على الثناء على الفقير الصابر المتعفف عن مسألة الناس ، وتدل بمفهومها على ذم سؤال الناس ، والأحاديث الواردة في ذم السؤال مطلقا كثيرة جدا . وبذلك كله تعلم أن سؤال الناس ليس استطاعة على ركن من أركان الإسلام ، وأن قول بعض المالكية : إنه لا يعد استطاعة ، هو الصواب وهو قول جمهور أهل العلم . وممن ذهب إليه : الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري ومجاهد ، وسعيد بن جبير وأحمد ، وإسحاق . وبه قال بعض أصحاب مالك . قال البغوي : وهو قول العلماء ا هـ .

قاله النووي .

والاستطاعة عند أبي حنيفة : الزاد والراحلة . فلو كان يقدر على المشي وعادته سؤال الناس ، لم يجب عليه الحج عنده كما قدمناه قريبا .

والاستطاعة في مذهب الشافعي : الزاد والراحلة ، بشرط أن يجدهما بثمن المثل ، فإن لم يجدهما إلا بأكثر من المثل سقط عنه وجوب الحج . ويشترط عند الشافعية أيضا : وجود الماء في أماكن النزول ، وهذا شرط لا ينبغي أن يختلف فيه ; لأنه إن لم يجد الماء [ ص: 310 ] هلك ، ويشترط عند الشافعية أيضا : أن يكون صحيحا لا مريضا ، ولا ينبغي أن يختلف في أن المرض القوي الذي يشق معه السفر مشقة فادحة مسقط لوجوب الحج .

ويشترط عند الشافعي أيضا : أن يكون الطريق آمنا من غير خفارة . والخفارة مثلثة الخاء : هي المال الذي يؤخذ على الحاج . ويشترط عند الشافعي أيضا : أن يكون عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء . وهذه الشروط في المستطيع بنفسه لا فيما يسمونه المستطيع بغيره ، فإن كان بينه وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة ، وكان قادرا على المشي على رجليه ، ولم يجد راحلة ، أو وجدها بأكثر من ثمن المثل ، أو أجرة المثل ، لم يجب عليه الحج عندهم ، ولا تعد قدرته على المشي استطاعة عندهم ، لحديث الزاد والراحلة في تفسير الاستطاعة ، وإن لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء ، ولكنه كسوب ذو صنعة يكتسب بصنعته ما يكفيه ، ففي ذلك عند الشافعي تفصيل حكاه إمام الحرمين عن العراقيين من الشافعية ، وهو : أنه إن كان لا يكتسب في اليوم إلا كفاية يوم واحد ، لم يجب عليه الحج ; لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج ، وإن كان يكتسب في اليوم كفاية أيام لزمه الحج . قال الإمام : وفيه احتمال ، فإن القدرة على الكسب يوم العيد لا تجعل كملك الصاع في وجوب الفطرة ، هكذا ذكره الإمام وحكاه الرافعي وسكت عليه ، انتهى من النووي ، ومراده بالإمام : إمام الحرمين .

وقوله : وفيه احتمال ، يعني أنه يحتمل عدم وجوب الحج بذلك مطلقا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا الذي ذكره مبني على القاعدة المعروفة المختلف فيها ، وهي هل القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل أو لا ، والأظهر أن القدرة على التحصيل بمنزلة التحصيل بالفعل . والعلم عند الله تعالى .

والاستطاعة عند أحمد وأصحابه : هي الزاد والراحلة . قال ابن قدامة في المغني : والاستطاعة المشترطة : ملك الزاد والراحلة ، وبه قال الحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والشافعي ، وإسحاق . قال الترمذي : والعمل عليه عند أهل العلم . وقال عكرمة : هي الصحة . انتهى محل الغرض منه .
وإذا علمت أقوال أهل العلم في معنى الاستطاعة المذكورة في قوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] فهذه أدلتهم .

أما الأكثرون الذين فسروا الاستطاعة بالزاد والراحلة ، فحجتهم الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بتفسير الاستطاعة في الآية بالزاد والراحلة . وقد روي عنه ذلك من حديث ابن عمر ، ومن حديث ابن عباس ، ومن حديث أنس ، ومن حديث عائشة ، ومن حديث [ ص: 311 ] جابر ، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن حديث ابن مسعود ا هـ .

أما حديث ابن عمر فقد أخرجه الترمذي ، وابن ماجه من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزومي ، عن ابن عمر . وقال الترمذي بعد أن ساقه : هذا حديث حسن والعمل عليه عند أهل العلم : أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج . وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . انتهى من الترمذي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : تحسين الترمذي رحمه الله لهذا الحديث لا وجه له ; لأن إبراهيم الخوزي المذكور متروك لا يحتج بحديثه ، كما جزم به غير واحد . وقد نقل الزيلعي في نصب الراية عن الترمذي : أنه لما ساق الحديث المذكور ، قال فيه : حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي . وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه . ا هـ .

ومقتضى ما نقل الزيلعي عنه أنه لم يحسنه ، وإنما وصفه بالغرابة ، وهذا الذي ذكره الزيلعي ذكره الترمذي في موضع آخر ، وقد علمت أن إبراهيم الخوزي لا يحتج به . فلا يكون حديث هو في إسناده حسنا .

قال صاحب نصب الراية : وله طريق آخر عند الدارقطني في سننه أخرجه محمد بن الحجاج المصفر ، ثنا جرير بن حازم ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن ابن عمر مرفوعا ، ومحمد بن الحجاج المصفر ضعيف . اهـ . وهو كما قال الزيلعي ضعيف . قال في الميزان فيه : روى عباس عن يحيى ليس بثقة . وقال أحمد : قد تركنا حديثه . وقال البخاري عن شعبة : سكتوا عنه ، وقال النسائي : متروك . ثم ذكر بعض عجائبه ، وعلى كل حال فهو لا يحتج به .

واعلم أن إبراهيم بن يزيد الخوزي كما تابعه في هذه الرواية جرير بن حازم من طريق محمد بن الحجاج المصفر الذي ذكرنا آنفا ، أنه لا يحتج به ، فقد تابعه أيضا فيها غيره من الضعفاء .

قال الزيلعي في نصب الراية بعد أن ذكر حديث إبراهيم الخوزي المذكور ، عند الترمذي ، وابن ماجه : ورواه الدارقطني ، ثم البيهقي في سننهما .

قال الدارقطني : وقد تابع إبراهيم بن يزيد عليه محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي ، [ ص: 312 ] فرواه عن محمد بن عباد ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك . انتهى . وهذا الذي أشار إليه رواه ابن عدي في الكامل وأعله بمحمد بن عبد الله الليثي ، وأسند تضعيفه عن النسائي وابن معين ثم قال : والحديث معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي ، وهو من هذه الطريق غريب . ثم ذكر عن البيهقي تضعيف إبراهيم المذكور . قال : وروي من أوجه أخر كلها ضعيفة . وروي عن ابن عباس من قوله : ورويناه من أوجه صحيحة ، عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وفيه قوة لهذا السند . انتهى . ثم قال الزيلعي بعد هذا الكلام الذي نقلناه عنه : قال الشيخ في الإمام قوله : فيه قوة ، فيه نظر . لأن المعروف عندهم : أن الطريق إذا كان واحدا ، ورواه الثقات مرسلا ، وانفرد ضعيف برفعه ، أن يعللوا المسند بالمرسل ، ويحملوا الغلط على رواية الضعيف . فإذا كان ذلك موجبا لضعف المسند ، فكيف يكون تقوية له . اهـ . وهو كما قال ، كما هو معروف في الأصول وعلم الحديث . ثم قال الزيلعي : قال - يعني الشيخ - في الإمام : والذي أشار إليه من قول ابن عباس ، رواه أبو بكر بن المنذر ، حدثنا علان بن المغيرة ، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله . والمرسل رواه سعيد بن منصور في سننه ، حدثنا هشام ، ثنا يونس عن الحسن قال : لما نزلت ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] قال رجل : يا رسول الله ، وما السبيل ؟ قال صلى الله عليه وسلم " زاد وراحلة " . انتهى .

حدثنا الهيثم ، ثنا منصور ، عن الحسن مثله .

حدثنا خالد بن عبد الله ، عن يونس ، عن الحسن مثله . قال : وهذه أسانيد صحيحة إلا أنها مرسلة . وقال ابن المنذر : لا يثبت الحديث الذي فيه ذكر الزاد والراحلة مسندا ، والصحيح رواية الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وأما المسند فإنما رواه إبراهيم بن يزيد ، وهو متروك ، ضعفه ابن معين وغيره . اهـ . من نصب الراية .

وبهذا تعلم أن حديث ابن عمر المذكور لم يسند من وجه صحيح ، ولم يثبت ; لأن إبراهيم الخوزي متروك ، ومحمد بن الحجاج المصفر الذي ذكرنا أن إبراهيم تابعه عليه جرير بن حازم من طريقه لا يحتج به كما بيناه ، وقد بينا أن متابعة محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي لا تقويه ; لأنه ضعيف ، ضعفه النسائي ، وأعل الحديث به ابن عدي في الكامل . وقال الذهبي في الميزان : ضعفه ابن معين ، وقال البخاري : منكر الحديث . وقال النسائي : متروك . . اهـ منه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:42 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (318)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 313 إلى صـ 318





[ ص: 313 ] وأما مرسل الحسن البصري المذكور ، وإن كان إسناده صحيحا إلى الحسن ، فلا يحتج به ; لأن مراسيل الحسن رحمه الله لا يحتج بها .

قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : وقال الدارقطني : مراسيل الحسن فيها ضعف . وقال في تهذيب التهذيب أيضا : وقال محمد بن سعد : كان الحسن جامعا عالما رفيعا فقيها ثقة ، مأمونا ، عابدا ، ناسكا ، كثير العلم ، فصيحا ، جميلا ، وسيما ، وكان ما أسند من حديثه وروى عمن سمع منه ، فهو حجة ، وما أرسل فليس بحجة .

وقال صاحب تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي : وقال أحمد بن حنبل : مرسلات سعيد بن المسيب أصح المرسلات ، ومرسلات إبراهيم النخعي لا بأس بها ، وليس في المرسلات أضعف من مرسلات الحسن وعطاء ; فإنهما كانا يأخذان عن كل واحد . انتهى . ثم قال بعد هذا الكلام : وقال العراقي : مراسيل الحسن عندهم شبه الريح ، وعدم الاحتجاج بمراسيل الحسن هو المشهور عند المحدثين . وقال بعض أهل العلم : هي صحاح إذا رواها عنه الثقات . قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : وقال ابن المديني : مرسلات الحسن إذا رواها عنه الثقات صحاح ، ما أقل ما يسقط منها . وقال أبو زرعة : كل شيء يقول الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث . اهـ .

فهذا هو جملة الكلام في حديث ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم أنه فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة ، وقد علمت أنه لم يثبت من وجه صحيح ، بحسب صناعة علم الحديث ، وأما حديث ابن عباس ، فرواه ابن ماجه في سننه : حدثنا سويد بن سعيد ، ثنا هشام بن سليمان القرشي ، عن ابن جريج قال ، وأخبرنيه أيضا ، عن ابن عطاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الزاد والراحلة " يعني قوله : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] وهذا الإسناد فيه هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد بن العاص القرشي المخزومي قال فيه أبو حاتم : مضطرب الحديث ، ومحله الصدق ، ما أرى به بأسا . وقال العقيلي : في حديثه عن غير ابن جريج وهم ، وقال فيه ابن حجر في التقريب : مقبول . اهـ .

وقد أخرج له مسلم ، وقال البخاري في صحيحه في البيوع : وقال لي إبراهيم بن المنذر : أنبأنا هشام ، أخبرنا ابن جريج ، سمعت ابن أبي مليكة ، عن نافع مولى ابن عمر [ ص: 314 ] قال : " أيما ثمرة بيعت ، ثم أبرت " وذكر الحديث من قوله . وهذا يدل على أنه أيضا من رجال البخاري . وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب بعد أن ذكر هذا الكلام الذي ذكرنا : وأما كون المتقدمين لم يذكروه في رجال البخاري ; فلأن البخاري لم يخرج له سوى هذا الموضع في المتابعات ، وأورده بألفاظ الشواهد . انتهى منه .

وبما ذكرنا تعلم أن حديث ابن عباس هذا عند ابن ماجه لا يقل عن درجة الحسن ، مع أنه معتضد بما تقدم ، وبما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وقال الزيلعي في نصب الراية : وأخرج حديث ابن عباس المذكور الدارقطني في سننه ، عن داود بن الزبرقان ، عن عبد الملك ، عن عطاء عن ابن عباس ، وأخرج أيضا عن حصين بن المخارق ، عن محمد بن خالد ، عن سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قيل يا رسول الله ، الحج كل عام ؟ قال " لا بل حجة " ، قيل : " فما السبيل إليه ؟ قال : الزاد والراحلة " . انتهى .

ثم قال : وداود وحصين كلاهما ضعيفان . اهـ . وداود بن الزبرقان المذكور قال فيه ابن حجر في التقريب : متروك ، وكذبه الأزدي ، وحصين بن مخارق المذكور قال فيه الذهبي في الميزان : قال الدارقطني : يضع الحديث ، ونقل ابن الجوزي أن ابن حبان قال : لا يجوز الاحتجاج به . اهـ .

وهذا حاصل ما في حديث ابن عباس المذكور . وأما حديث أنس فقد أخرجه الحاكم في المستدرك : حدثنا أبو بكر محمد بن حازم الحافظ بالكوفة ، وأبو سعيد إسماعيل بن أحمد التاجر ، قالا : ثنا علي بن عباس بن الوليد البجلي ، ثنا علي بن سعيد بن مسروق الكندي ، ثنا ابن أبي زائدة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تبارك وتعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] قال : قيل : يا رسول الله ، ما السبيل ؟ قال " الزاد والراحلة " ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه . وقد تابع حماد بن سلمة سعيدا على روايته عن قتادة ، حدثناه أبو نصر أحمد بن سهل بن حمدويه الفقيه ببخارى ، ثنا صالح بن محمد بن حبيب الحافظ ، ثنا أبو أمية عمرو بن هشام الحراني ، ثنا أبو قتادة ، ثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] فقيل : ما السبيل ؟ قال : " الزاد والراحلة " ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم . ولم يخرجاه . انتهى من المستدرك . وأقره على [ ص: 315 ] تصحيح الطريقين المذكورتين الحافظ الذهبي ، فحديث أنس هذا صحيح كما ترى ، وقال صاحب نصب الراية : ورواه الدارقطني في سننه بالإسنادين . اهـ .

وأما حديث عائشة فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه الدارقطني في سننه عن عتاب بن أعين ، عن سفيان الثوري ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن أمه عن عائشة قالت : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال " السبيل : الزاد والراحلة " . انتهى . رواه العقيلي في كتاب الضعفاء ، وأعله بعتاب وقال : إن في حديثه وهما . انتهى .

وقال البيهقي في كتاب المعرفة : وليس بمحفوظ ، ثم أخرجه البيهقي ، عن أبي داود الحفري ، عن سفيان ، عن يونس ، عن الحسن ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السبيل ؟ فقال " الزاد والراحلة " . اهـ .

وقد علمت مما ذكرنا : أن حديث عائشة المذكور أعله العقيلي بعتاب بن أعين ، وقال : إن في حديثه وهما ، وأن البيهقي قال : ليس بمحفوظ . وقد قال الذهبي في الميزان في عتاب المذكور ، قال العقيلي : في حديثه وهم . روى عنه هشام بن عبيد الله حديثا خولف في سنده . انتهى منه .

وأما مرسل الحسن الذي أشار له ، فقد قدمنا الكلام عليه مستوفى قريبا .

وأما حديث جابر ، فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه الدارقطني ، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير ، عن أبي الزبير أو عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ حديث عائشة ، ومحمد بن عبد الله بن عبيد الله الليثي تركوه ، وأجمعوا على ضعفه ، وقد تقدم ، وقد قدمنا أن محمدا المذكور لا يحتج به . وبهذا تعلم أن حديث جابر المذكور لا يصلح للاحتجاج .

وأما حديث ابن مسعود فقد قال صاحب نصب الراية : أخرجه الدارقطني ، عن بهلول بن عبيد ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة عن عبد الله بن مسعود بنحوه . وبهلول بن عبيد ، قال أبو حاتم : ذاهب الحديث . اهـ .

وقال الذهبي في الميزان في بهلول المذكور : قال أبو حاتم : ضعيف الحديث ذاهب . وقال أبو زرعة : ليس بشيء ، وقال ابن حبان : يسرق الحديث . انتهى منه .

وبما ذكر تعلم أن حديث ابن مسعود المذكور ليس بصالح للاحتجاج ، وأما حديث [ ص: 316 ] عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقد قال صاحب نصب الراية أيضا : أخرجه الدارقطني أيضا عن ابن لهيعة ، ومحمد بن عبيد الله العرزمي عن أبيه عن جده بنحوه . وابن لهيعة والعرزمي ضعيفان . قال الشيخ في الإمام : وقد أخرج الدارقطني هذا الحديث عن جابر ، وأنس ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، وعائشة ، وليس فيها إسناد يحتج به . انتهى منه .

هذا هو حاصل روايات الأحاديث الواردة بتفسير السبيل في الآية بالزاد والراحلة . وقال غير واحد : إن هذا الحديث لا يثبت مسندا ، وأنه ليس له طريق صحيحة ، إلا الطريق التي أرسلها الحسن .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن حديث الزاد والراحلة المذكور ثابت لا يقل عن درجة الاحتجاج ; لأن الطريقين اللتين أخرجهما به الحاكم في المستدرك عن أنس قال : كلتاهما صحيحة الإسناد ، وأقر تصحيحهما الحافظ الذهبي ، ولم يتعقبه بشيء ، والدعوى على سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة في روايتهما الحديث ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها غلط ، وأن الصحيح عن قتادة عن الحسن مرسلا - دعوى لا مستند لها ، بل هي تغليط وتوهيم للعدول المشهورين من غير استناد إلى دليل .

والصحيح عند المحققين من الأصوليين والمحدثين : أن الحديث إذا جاء من طريق صحيحة ، وجاء من طرق أخرى غير صحيحة ، فلا تكون تلك الطرق علة في الصحيحة ، إذا كان رواتها لم يخالفوا جميع الحفاظ ، بل انفراد الثقة العدل بما لم يخالف فيه غيره مقبول عند المحققين .

فرواية سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة الحديث المذكور عن قتادة عن أنس مرفوعا لم يخالفوا فيها غيرهم ، بل حفظوا ما لم يحفظه غيرهم ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ، فادعاء الغلط عليهما بلا دليل غلط ، وقول النووي في شرح المهذب : وروى الحاكم حديث أنس ، وقال : وهو صحيح ، ولكن الحاكم متساهل كما سبق بيانه مرات . والله أعلم .

يجاب عنه بأنا لو سلمنا أن الحاكم متساهل في التصحيح ، لا يلزم من ذلك أنه لا يقبل له تصحيح مطلقا . ورب تصحيح للحاكم مطابق للواقع في نفس الأمر ، وتصحيحه لحديث أنس المذكور لم يتساهل فيه ؛ ولذا لم يبد النووي وجها لتساهله فيه ، ولم يتكلم [ ص: 317 ] في أحد من رواته بل هو تصحيح مطابق .

فإن قيل : متابعة حماد بن سلمة لسعيد بن أبي عروبة المذكورة ، راويها عن حماد هو أبو قتادة عبد الله بن واقد الحراني ، وهو متروك ، لا يحتج بحديثه ، كما جزم به غير واحد من العلماء بالرجال . وقال فيه ابن حجر في التقريب : متروك ، فقد تساهل الحاكم في قوله : إن هذه الطريق على شرط مسلم ، مع أن في إسنادها أبا قتادة المذكور .

فالجواب : أن أبا قتادة المذكور ، وإن ضعفه الأكثرون ، فقد وثقه الإمام أحمد وأثنى عليه ، وناهيك بتوثيق الإمام أحمد وثنائه ، وذكر ابن حجر والذهبي : أن عبد الله بن أحمد قال لأبيه : إن يعقوب بن إسماعيل بن صبيح ذكر أن أبا قتادة المذكور كان يكذب ، فعظم ذلك عنده جدا ، وأثنى عليه وقال : إنه يتحرى الصدق . قال : ولقد رأيته يشبه أصحاب الحديث . وقال أحمد في موضع آخر : ما به بأس ، رجل صالح ، يشبه أهل النسك ربما أخطأ . وفي إحدى الروايتين عن ابن معين أنه قال : أبو قتادة الحراني ثقة . ذكرها عنه ابن حجر والذهبي ، وقول من قال : لعله كبر فاختلط ، تخمين وظن لا يثبت به اختلاطه ، ومعلوم أن المقرر في الأصول وعلوم الحديث : أن الصحيح أن التعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل إلا مفصلا ، مع أن رواية سعيد بن أبي عروبة ، عن أنس ليس في أحد من رواتها كلام .

ومما يؤيد ذلك موافقة الحافظ النقادة الذهبي للحاكم على تصحيح متابعة حماد ، مع أن حديث أنس الصحيح المذكور معتضد بمرسل الحسن ، ولا سيما على قول من يقول : إن مراسيله صحاح ، إذا روتها عنه الثقات كابن المديني وغيره ، كما قدمناه .

ويؤيد ذلك أن مشهور مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مرارا ، ويؤيده أيضا الأحاديث المتعددة التي ذكرنا ، وإن كانت ضعافا ؛ لأنها تقوي غيرها ، ولا سيما حديث ابن عباس ، فإنا قد ذكرنا سنده ، وبينا أنه لا يقل عن درجة الاحتجاج .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : ولا يخفى أن هذه الطرق يقوي بعضها بعضا ، فتصلح للاحتجاج .

ومما يؤيد الحديث المذكور أن أكثر أهل العلم على العمل به ، كما قدمنا عن أبي عيسى الترمذي أنه قال في حديث : الزاد والراحلة ، والعمل عليه عند أهل العلم ، وقد بينا أنه [ ص: 318 ] قول الأكثرين ، منهم الأئمة الثلاثة .

أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد .

فالحاصل : أن حديث الزاد والراحلة ، لا يقل بمجموع طرقه عن درجة القبول والاحتجاج .

وأظهر قولي أهل العلم عندي أن المعتبر في ذلك ما يبلغه ذهابا وإيابا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن حديث الزاد والراحلة ، وإن كان صالحا للاحتجاج لا يلزم منه أن القادر على المشي على رجليه بدون مشقة فادحة لا يلزمه الحج ، إن كان عاجزا عن تحصيل الراحلة ، بل يلزمه الحج ; لأنه يستطيع إليه سبيلا ، كما أن صاحب الصنعة التي يحصل منها قوته في سفر الحج ، يجب عليه الحج ; لأن قدرته على تحصيل الزاد في طريقه كتحصيله بالفعل .
فإن قيل : كيف قلتم بوجوبه على القادر على المشي على رجليه ، دون الراحلة مع اعترافكم بقبول تفسير النبي صلى الله عليه وسلم السبيل بالزاد والراحلة ، وذلك يدل على أن المشي على الرجلين ليس من السبيل المذكور في الآية .

فالجواب من وجهين :

الأول : أن الظاهر المتبادر أنه صلى الله عليه وسلم فسر الآية بأغلب حالات الاستطاعة ; لأن الغالب أن أكثر الحجاج أفاقيون ، قادمون من بلاد بعيدة ، والغالب عجز الإنسان عن المشي على رجليه في المسافات الطويلة ، وعدم إمكان سفره بلا زاد ، ففسر صلى الله عليه وسلم الآية بالأغلب ، والقاعدة المقررة في الأصول : أن النص إذا كان جاريا على الأمر الغالب ، لا يكون له مفهوم مخالفة ، ولأجل هذا منع جماهير العلماء تزويج الرجل ربيبته التي لم تكن في حجره قائلين : إن قوله تعالى : اللاتي في حجوركم [ 4 \ 23 ] جرى على الغالب ، فلا مفهوم مخالفة له كما قدمناه مرارا ، وإذا كان أغلب حالات الاستطاعة الزاد والراحلة ، وجرى الحديث على ذلك فلا مفهوم مخالفة له ، فيجب الحج على القادر على المشي على رجليه ، إما لعدم طول المسافة ، وإما لقوة ذلك الشخص على المشي ، وكذلك يجب على ذي الصنعة التي يحصل منها قوته في سفره ، لأنه في حكم واجد الزاد في المعنى ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (319)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 319 إلى صـ 325


الوجه الثاني : أن الله جل وعلا سوى في كتابه بين الحاج الراكب والحاج الماشي على رجليه . وقدم الماشي على الراكب ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 319 ] وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [ 22 \ 27 ] .

وقد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة مستوفى ، هذا هو حاصل ما يتعلق بالمستطيع بنفسه .
وأما ما يسمونه المستطيع بغيره فهو نوعان :

الأول منهما : هو من لا يقدر على الحج بنفسه ، لكونه زمنا ، أو هرما ونحو ذلك ، ولكنه له مال يدفعه إلى من يحج عنه ، فهل يلزمه الحج نظرا إلى أنه مستطيع بغيره ، فيدخل في عموم : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ؟ أو لا يجب عليه الحج ; لأنه عاجز غير مستطيع بالنظر إلى نفسه ، فلا يدخل في عموم الآية ؟

وبالقول الأول قال الشافعي وأصحابه ; فيلزمه عندهم أجرة أجير يحج عنه بشرط أن يجد ذلك بأجرة المثل . قال النووي : وبه قال جمهور العلماء ، منهم علي بن أبي طالب ، والحسن البصري ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ، وداود . وقال مالك : لا يجب عليه ذلك ، ولا يجب إلا أن يقدر على الحج بنفسه ، واحتج مالك بقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] وبقوله تعالى : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، وهذا لا يستطيع بنفسه ، فيصدق عليه اسم غير المستطيع ، وبأنها عبادة لا تصح فيها النيابة مع القدرة ، فكذلك مع العجز كالصلاة ، واحتج الأكثرون القائلون بوجوب الحج عليه بأحاديث رواها الجماعة .

منها : ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا أبو عاصم ، عن ابن جريح ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس ، عن الفضل بن عباس رضي الله عنهم : أن امرأة ( ح ) حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، حدثنا ابن شهاب عن سليمان بن يسار ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاءت امرأة من خثعم عام حجة الوداع قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة ، فهل يقضي عنه أن أحج عنه ؟ قال : " نعم " . وفي رواية في صحيح البخاري عن ابن عباس فقالت : إن فريضة الله أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " ، وذلك في حجة الوداع .

وفي لفظ في صحيح البخاري ، عن ابن عباس : إن فريضة الله على عباده في الحج [ ص: 320 ] أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة ; أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " وذلك في حجة الوداع . اهـ .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن يسار ، عن عبد الله بن عباس : " أنه كان الفضل رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءت امرأة من خثعم تستفتيه ، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر ، قالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحج عنه ؟ قال : " نعم " . وذلك في حجة الوداع .

وفي لفظ لمسلم قالت : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج ، وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فحجي عنه " . اهـ .

وهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان أخرجه باقي الجماعة ، إلا أن بعضهم يرويه عن ابن عباس ; وهو عبد الله ، وبعضهم يرويه عن أخيه الفضل بن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال أبو داود في سننه : حدثنا حفص بن عمر ، ومسلم بن إبراهيم بمعناه قالا : حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين - قال حفص في حديثه : رجل من بني عامر - أنه قال : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ، ولا الظعن . قال : " احجج عن أبيك واعتمر " وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا يوسف بن عيسى ، نا وكيع عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، عن عمرو بن أوس ، عن أبي رزين العقيلي أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن أبي شيخ كبير . إلى آخر الحديث كلفظ أبي داود الذي ذكرنا ، ثم قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح ، وإنما ذكرت العمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : أن يعتمر الرجل عن غيره ، وأبو رزين العقيلي اسمه لقيط بن عامر . انتهى منه .

وحديث أبي رزين هذا أخرجه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وعن علي بن محمد ، قال : حدثنا وكيع ، عن شعبة به نحو ما تقدم . وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

وقال الترمذي بعد ذكره الحديث المتفق عليه في قصة استفتاء الخثعمية ما نصه : وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب غير حديث . والعمل على هذا عند أهل العلم من [ ص: 321 ] أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم ، وبه يقول الثوري ، وابن المبارك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، يرون أن يحج عن الميت .

وقال مالك : إذا أوصى أن يحج عنه حج عنه ، وقد رخص بعضهم أن يحج عن الحي ، إذا كان كبيرا أو بحال لا يقدر أن يحج ، وهو قول ابن المبارك والشافعي . انتهى من سنن الترمذي .

وقال النسائي في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا وكيع ، قال : حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم إلى آخر السند والمتن ، كما ذكرناه آنفا عند الترمذي . اهـ .

وعن علي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة شابة من خثعم فقالت : إن أبي كبير ، وقد أفند وأدركته فريضة الله في الحج ، ولا يستطيع أداءها فيجزئ عنه أن أؤديها عنه ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم " رواه أحمد والترمذي ، وصححه . انتهى منهما بواسطة نقل المجد في المنتقى والنووي في شرح المهذب .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وحديث علي أخرجه أيضا البيهقي . اهـ . وقوله في هذا الحديث : وقد أفند ؛ أي : خرف وضعف عقله من الهرم .

وقال النسائي في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن يوسف بن الزبير ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الركوب ، وأدركته فريضة الله في الحج فهل يجزئ أن أحج عنه ؟ قال " أنت أكبر ولده ؟ قال : نعم ، قال : أرأيت لو كان عليه دين أكنت تقضيه ؟ قال : نعم . قال : فحج عنه " وفي لفظ للنسائي ، عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن أبي مات ولم يحج ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم ، قال : فدين الله أحق " وفي لفظ عند النسائي ، عن ابن عباس : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم : إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته ، فإن شددته خشيت أن يموت ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان عليه دين فقضيته ، أكان مجزئا ؟ قال : نعم . قال : فحج عن أبيك " . اهـ من سنن النسائي .

وحديث ابن الزبير الذي ذكرناه آنفا عند النسائي قال المجد في المنتقى : رواه الإمام أحمد والنسائي بمعناه .

وقال الشوكاني : قال الحافظ : إن إسناده صالح . انتهى . والأحاديث بمثل هذا كثيرة .

[ ص: 322 ] وأما النوع الثاني من نوعي المستطيع بغيره ، فهو من لا يقدر على الحج بنفسه ، وليس له مال يدفعه لمن يحج عنه ، ولكن له ولد يطيعه إذا أمره بالحج والولد مستطيع ، فهل يجب الحج على الوالد ، ويلزمه أمر الولد بالحج عنه لأنه مستطيع بغيره ؟ فيه خلاف بين أهل العلم .

قال النووي في شرح المهذب : فرع في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد ما لا يحج به غيره ، فوجد من يطيعه ; قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الحج عليه . وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد : لا يجب عليه ، وقد علمت أن مالكا احتج في مسألة العاجز الذي له مال بقوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] وبأنه عاجز بنفسه فهو غير مستطيع إلى الحج سبيلا ، إلى آخر ما تقدم ، وبأن سعيد بن منصور وغيره رووا عن ابن عمر بإسناد صحيح : أنه لا يحج أحد عن أحد ، ونحوه عن الليث ومالك ، وأن الذين خالفوه احتجوا بالأحاديث التي ذكرنا ، وفيها ألفاظ ظاهرها الوجوب ، كتشبيهه بدين الآدمي ، وكقول السائل : يجزئ عنه أن أحج عنه ؟ والإجزاء دليل المطالبة ، وفي بعض رواياتها أن السائل يقول : إن عليه فريضة الحج ، ويستأذن النبي في الحج عنه ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يبين له أن الحج سقط عنه بزمانته وعجزه عن الثبوت على الراحلة ، وبقوله للولد " أنت أكبر ولده " وأمره بالحج عنه .

وأما الذين فرقوا بين وجود المعضوب مالا فأوجبوا عليه الحج ، وبين وجوده ولدا يطيعه فلم يوجبوه عليه ; فلأن المال ملكه ، فعليه أن يستأجر به ، والولد مكلف آخر ليس ملزما بفرض على شخص آخر ، ولأنه وإن كان له ولد فليس بمستطيع ببدن ، ولا بزاد وراحلة ، ولو وجد إنسانا غير الولد يطيعه في الحج عنه ، فهل يكون حكمه حكم الولد ؟ فيه خلاف معروف . وفي فروع الشافعية توجيه كل قول منها ، فانظره في النووي في شرح المهذب ، وأظهرها أنه كالولد .
تنبيه

إذا مات الشخص ، ولم يحج ، وكان الحج قد وجب عليه لاستطاعته بنفسه أو بغيره عند من يقول بذلك ، وكان قد ترك مالا ، فهل يجب أن يحج ويعتمر عنه من ماله ؟ في ذلك خلاف بين أهل العلم ، فقال بعضهم : يجب أن يحج عنه ، ويعتمر عنه من تركته ، سواء مات مفرطا أو غير مفرط ; لكون الموت عاجله عن الحج فورا . وبهذا قال الشافعي وأحمد .

[ ص: 323 ] قال ابن قدامة في المغني : وبهذا قال الحسن وطاوس والشافعي . وقال أبو حنيفة ومالك : يسقط بالموت ، فإن أوصى بذلك ، فهو في الثلث ، وبهذا قال الشعبي والنخعي لأنه عبادة بدنية ، فتسقط بالموت كالصلاة ، واحتجوا أيضا بأن ظاهر القرآن كقوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] مقدم على ظاهر الأحاديث ، بل على صريحها ؛ لأنه أصح منها . وأجاب المخالفون بأن الأحاديث مخصصة لعموم القرآن ، وبأن المعضوب وجب عليه الحج بسعيه ، بتقديم المال وأجرة من يحج عنه . فهذا من سعيه ، وأجابوا عن قياسه على الصلاة بأنها لا تدخلها النيابة ، بخلاف الحج ، والذين قالوا : يجب أن يحج عنه من رأس ماله استدلوا بأحاديث جاءت في ذلك ، تقتضي أن من مات وقد وجب عليه الحج قبل موته ، أنه يحج عنه .

منها : ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : " نعم ، حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء " . اهـ .

والحج في هذا الحديث وإن كان منذورا فإيجاب الله له على عباده في كتابه أقوى من إيجابه بالنذر . واستدل بالحديث المذكور بعض أهل العلم على صحة نذر الحج ممن لم يحج .

قال ابن حجر في الفتح : فإذا حج أجزأه عن حجة الإسلام ، عند الجمهور ، وعليه الحج عن النذر . وقيل : يجزئ عن النذر ، ثم يحج حجة الإسلام . وقيل : يجزئ عنهما .

وقال البخاري أيضا في كتاب الأيمان والنذور : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن أختي نذرت أن تحج ، وإنها ماتت ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم ، قال : " فاقض الله فهو أحق بالقضاء " . اهـ .

وقال المجد في المنتقى بعد أن أشار لحديث البخاري هذا : وهو يدل على صحة الحج عن الميت من الوارث وغيره ، حيث لم يستفصله أوارث هو أو لا ؟ وشبهه بالدين . انتهى .

[ ص: 324 ] وقد تقرر في الأصول : أن عدم الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي : طلب التفصيل في أحوال الواقعة ، ينزل منزلة العموم القولي ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :



ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال


وخالف في هذا الأصل أبو حنيفة رحمه الله كما هو مقرر في الأصول ، مع بيان الخلاف في المسائل الفقهية ، تبعا للخلاف في هذا الأصل المذكور .

ومنها : ما رواه النسائي في سننه ، أخبرنا محمد بن بشار قال : حدثنا محمد قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس : أن امرأة نذرت أن تحج فماتت ، فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ؟ فقال " أرأيت لو كان على أختك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : " فاقضوا الله ، فهو أحق بالوفاء " . انتهى .

وهذه الأحاديث التي ذكرنا في نذر الحج ، وقد بينا أن إيجاب الله فريضة الحج أعظم من إيجابها بالنذر ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقضائها وشبهها بدين الآدمي ، وسنذكر أيضا إن شاء الله أحاديث ليس فيها نذر الحج .

قال النسائي في سننه : أخبرنا أبو عاصم خشيش بن أصرم النسائي ، عن عبد الرزاق ، قال : أنبأنا معمر عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رجل : يا رسول الله ، إن أبي مات ولم يحج ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه ؟ " قال : نعم . قال : " فدين الله أحق " . اهـ .

ورجال هذا الإسناد ثقات معروفون ، لا كلام في أحد منهم ، إلا الحكم بن أبان العدني . وقد قال فيه ابن معين ، والنسائي : ثقة . وقال أبو زرعة : صالح . وقال العجلي : ثقة صاحب سنة . قال ابن عيينة : أتيت عدن ، فلم أر مثل الحكم بن أبان ، وعده ابن حبان في الثقات . وقال : ربما أخطأ . وإنما وقع المناكير في روايته ، من رواية ابنه إبراهيم عنه ، وإبراهيم ضعيف . وحكى ابن خلفون توثيقه عن ابن نمير وابن المديني وأحمد بن حنبل . اهـ . وقال ابن عدي : فيه ضعف . وقال ابن خزيمة في صحيحه : تكلم أهل المعرفة بالحديث في الاحتجاج بخبره . وبما ذكر تعلم صحة الاحتجاج بالحديث المذكور ، وليس فيه نذر الحج .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-02, 11:44 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (320)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 326 إلى صـ 332



وقال النسائي في سننه أيضا : أخبرنا عمران بن موسى قال : حدثنا عبد الوارث قال : حدثنا أبو التياح ، قال : حدثني موسى بن سلمة الهذلي ، أن ابن عباس قال : أمرت [ ص: 325 ] امرأة سنان بن سلمة الجهني ، أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أمها ماتت ولم تحج ، أفيجزئ عن أمها أن تحج عنها ؟ قال : " نعم ، لو كان على أمها دين فقضته عنها ألم يكن يجزئ عنها ؟ فلتحج عن أمها " ، وهذا الإسناد صحيح . وفي لفظ عند النسائي أيضا ، عن ابن عباس ، بإسناد آخر : أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أبيها ، مات ولم يحج . قال : " حجي عن أبيك " وإسناده صحيح أيضا . وأخرج ابن ماجه نحوه من حديث ابن عباس بإسناد آخر صحيح .

وقال المجد في المنتقى : وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فقال : إن أبي مات وعليه حجة الإسلام ، أفأحج عنه ؟ قال " أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه ؟ " قال : نعم ، قال : " فاحجج عن أبيك " رواه الدارقطني . انتهى من المنتقى .

وقال الترمذي في سننه : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، نا عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن عطاء عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أمي ماتت ولم تحج ، أفأحج عنها ؟ قال " نعم ، حجي عنها " . اهـ . ثم قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . اهـ . وأخرج البيهقي نحوه بإسناد صحيح .

وقال الشافعي في مسنده : أخبرنا سعيد بن سالم ، عن حنظلة ، سمعت طاوسا يقول : أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ، فقالت : إن أمي ماتت ، وعليها حج ، قال : " حجي عن أمك " ولا يخفى أن حديث الشافعي هذا مرسل ، ولكنه معتضد بما تقدم من الأحاديث ، وبما سيأتي إن شاء الله .

وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثني علي بن حجر السعدي ، حدثنا علي بن مسهر أبو الحسن ، عن عبد الله بن عطاء ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه رضي الله عنه ، قال : بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ أتته امرأة فقالت : إني تصدقت على أمي بجارية ، وإنها ماتت قال : فقال " وجب أجرك وردها عليك الميراث ، قالت : يا رسول الله ، إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال : صومي عنها ، قالت : إنها لم تحج قط ، أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها " . انتهى من صحيح مسلم .

فهذه الأحاديث وأمثالها : هي حجة من قال : إن من وجب عليه الحج في الحياة ، وترك مالا وجب أن يحج عنه ، وليست كلها ظاهرة في ذلك . ولكن بعضها ظاهر فيه [ ص: 326 ] كتشبيهه بدين الآدمي ونحو ذلك مما تقدم . وأجاب المخالفون بأن الحج أعمال بدنية ، وإن كانت تحتاج إلى مال . والأعمال البدنية تسقط بالموت ، فلا وجوب لعمل بعد الموت ، والذي يحج عنه متطوع ، وفاعل خيرا . قالوا : ووجه تشبيهه بالدين انتفاع كل منهما بذلك الفعل ، فالمدين ينتفع بقضاء الدين عنه ، والميت ينتفع بالحج عنه ، ولا يلزم من قضاء الدين عن أحد ، أن القضاء عنه واجب ، بل يجوز أن يكون قضاؤه عنه غير واجب عليه .

واحتجوا أيضا بأن جميع الأحاديث الواردة بالحج عن الميت : واردة بعد الاستئذان في الحج عنه ، قالوا : والأمر بعد الاستئذان كالأمر بعد الحظر ، فهو للإباحة ; لأن الاستئذان والحظر الأول كلاهما قرينة على صرف الأمر عن الوجوب إلى الإباحة .

قال ابن السبكي في جمع الجوامع في مبحث الأمر : فإن ورد بعد حظر - قال الإمام : أو استئذان - فللإباحة . وقال أبو الطيب ، والشيرازي ، والسمعاني والإمام : للوجوب ، وتوقف إمام الحرمين . انتهى منه . فتراه صدر بأن الأمر بعد الاستئذان للإباحة ، والخلاف في المسألة معروف ، وقد ذكرنا فيه أقوال أهل العلم ، في أبيات مراقي السعود في أول سورة المائدة .

ومن أمثلة كون الأمر بعد الاستئذان للإباحة : أن الصحابة رضي الله عنهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عما اصطادوه بالجوارح ، واستأذنوه في أكله ، نزل في ذلك قوله تعالى : فكلوا مما أمسكن عليكم [ 5 \ 4 ] فصار هذا الأمر بالأكل للإباحة ; لأنه وارد بعد سؤال واستئذان .

ومن أمثلته من السنة : حديث مسلم : أأصلي في مرابض الغنم ؟ قال " نعم " الحديث ، فإن معنى " نعم " هنا : صل فيها . وهذا الأمر بالصلاة فيها للإباحة ; لأنه بعد الاستئذان ، وخلاف أهل الأصول في مسألة الأمر بعد الحظر أو الاستئذان معروف .

هذا هو حاصل كلامهم في المستطيع بغيره ، ووجوب الحج عمن وجب عليه في الحياة ، ومات قبل أن يحج وترك مالا ، وقد علمت أدلتهم ومناقشتها .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأحاديث التي ذكرنا تدل قطعا على مشروعية الحج عن المعضوب والميت .

وقد قدمنا أن الأظهر عندنا وجوب الحج فورا ، وعليه فلو فرط ، وهو قادر على [ ص: 327 ] الحج حتى مات مفرطا مع القدرة ، أنه يحج عنه من رأس ماله ، إن ترك مالا ; لأن فريضة الحج ترتبت في ذمته ، فكانت دينا عليه ، وقضاء دين الله صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المذكورة بأحقيته حيث قال : " فدين الله أحق أن يقضى " .

أما من عاجله الموت قبل التمكن ، فمات غير مفرط ، فالظاهر لنا أنه لا إثم عليه ، ولا دين لله عليه ; لأنه لم يتمكن من أداء الفعل حتى يترتب في ذمته ، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وقد دلت الأحاديث المذكورة على جواز حج الرجل عن المرأة وعكسه ، وعليه عامة العلماء ، ولم يخالف فيه إلا الحسن بن صالح بن حي .

والأحاديث المذكورة حجة عليه ، وقد قدمنا أن مالكا رحمه الله ومن وافقوه ، لم يعملوا بظاهر هذه الأحاديث التي ذكرنا مع كثرتها وصحتها ; لأنها مخالفة عندهم لظاهر القرآن في قوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [ 53 \ 39 ] . وقوله : من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] والمعضوب والميت ليس واحد منهما بمستطيع ; لصدق قولك : إنه غير مستطيع بنفسه .

واعلم أن ما اشتهر عن مالك من أنه يقول : لا يحج أحد عن أحد ; معناه عنده : أن الصحيح القادر لا يصح الحج عنه في الفرض .

والمعضوب عنده ليس بقادر ، وأحرى الميت ، فالحج عنهما من مالهما لا يلزم عنده إلا بوصية ، فإن أوصى به صح من الثلث ، وتطوع وليه بالحج عنه ، خلاف الأولى عنده ، بل مكروه .

والأفضل عنده أن يجعل ذلك المال الذي يحج به عنه في غير الحج ، كأن يتصدق به عنه أو يعتق به عنه ونحو ذلك ، فإن أحرم بالحج عنه انعقد إحرامه وصح حجه عنه .

والحاصل : أن النيابة عن الصحيح في الفرض عنده ممنوعة ، وفي غير الفرض مكروهة ، والعاجز عنده لا فرض عليه أصلا للحج .

قال خليل بن إسحاق في مختصره : ومنع استنابة صحيح في فرض ، وإلا كره . اهـ .

وقال شارحه الخطاب : ويدخل في قول المصنف : وإلا كره ، بحسب الظاهر ثلاث صور : استنابة الصحيح في النفل ، واستنابة العاجز في الفرض وفي النفل ، لكن في التحقيق ليس هنا إلا صورتان ; لأن العاجز لا فريضة عليه . اهـ .

واعلم أن بعض المالكية حمل الكراهة المذكورة على التحريم ، والأحاديث التي ذكرنا حجة على مالك ومن وافقه ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 328 ] تنبيه

اعلم أن ما عليه جمهور العلماء من جواز الحج عن المعضوب والميت محله فيما إذا كان الذي يحج عنهما قد حج عن نفسه حجة الإسلام ، خلافا لمن لم يشترط ذلك ، واحتج الجمهور القائلون بأن النائب عن غيره في الحج لا بد أن يكون حج عن نفسه حجة الإسلام بحديث جاء في ذلك .

قال أبو داود في سننه : حدثنا إسحاق بن إسماعيل الطالقاني ، وهناد بن السري - المعنى واحد - قال إسحاق : ثنا عبدة بن سليمان ، عن ابن أبي عروبة ، عن قتادة عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . قال " من شبرمة ؟ قال : أخ لي - أو : قريب لي - قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : حج عن نفسك ، ثم عن شبرمة " وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، ثنا عبدة بن سليمان ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شبرمة ؟ قال : قريب لي . قال : هل حججت قط ؟ قال : لا ، قال : فاجعل هذه عن نفسك ، ثم حج عن شبرمة " ، وإسناد هذا الحديث عند أبي داود وابن ماجه ، رجاله كلهم ثقات ، معروفون ، إلا عزرة الذي رواه عنه قتادة ، وقتادة روى عن ثلاثة كلهم اسمه : عزرة ، وعزرة المذكور في إسناد هذا الحديث ، عند أبي داود وابن ماجه ذكراه غير منسوب ، وجزم البيهقي بأنه عزرة بن يحيى ، وعزرة بن يحيى لم يذكره البخاري في التاريخ ، ولا ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ، ولم يخصه ابن حجر في تهذيب التهذيب بترجمة ، ولم يذكره الذهبي في الميزان ، وقد ذكره ابن حجر في التقريب ، وقال فيه : مقبول ، وقد روى هذا الحديث أيضا الدارقطني ، وابن حبان في صحيحه وروى البيهقي من طريق عبدة بن سليمان الكلابي ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن عزرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : هذا إسناد صحيح ، ليس في هذا الباب أصح منه ، أخرجه أبو داود في السنن عن إسحاق بن إسماعيل ، وهناد بن السري ، عن عبدة ، وقال : يحيى بن معين : أثبت الناس سماعا ، عن سعيد عبدة بن سليمان ، ثم قال : قال الشيخ : وكذلك رواه أبو يوسف القاضي ، عن سعيد ، ثم ساق بإسناده رواية أبي يوسف ، وأورد متن الحديث كما سبق ، ثم قال : وكذلك روي عن محمد بن عبد الله الأنصاري ومحمد بن بشر ، عن ابن أبي عروبة ، ورواه غندر عن سعيد بن أبي عروبة موقوفا على ابن عباس ، ومن رواه مرفوعا حافظ ثقة ، فلا يضره خلاف من خالفه ، وعزرة هذا هو عزرة بن [ ص: 329 ] يحيى ، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال : سمعت أبا علي الحافظ يقول ذلك ، وقد روى قتادة أيضا عن عزرة بن تميم ، وعن عزرة بن عبد الرحمن . اهـ من البيهقي ، وقد أورد روايات أخر عن ابن عباس تؤيد الحديث المذكور ، وذكره ابن حجر في التلخيص وأطال فيه الكلام ، وذكر كلام البيهقي في تصحيحه ، وكلام من لم يصححه وذكر طرقه ثم قال ما نصه : فيجتمع من هذا صحة الحديث . اهـ محل الغرض منه .

وقال النووي في شرح المهذب : وأما حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود ، والدارقطني ، والبيهقي ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ثم ذكر لفظ أبي داود كما قدمنا ، ثم قال : وإسناده على شرط مسلم ، والظاهر أن النووي يظن أن عزرة المذكور في إسناده هو ابن عبد الرحمن ، وذلك من رجال مسلم ، والواقع خلاف ذلك ، وهو عزرة بن يحيى كما جزم به البيهقي ، ثم قال النووي : ورواه البيهقي بإسناد صحيح ، عن ابن عباس ، ثم ذكر بعض ما ذكرنا سابقا من تصحيح البيهقي للحديث ، وأن رفعه أصح من وقفه .

فتحصل من هذا كله : أن الحديث صالح للاحتجاج ، وفيه دليل على أن النائب في الحج لا بد أن يكون قد حج عن نفسه . وقاس العلماء العمرة على الحج في ذلك ، وهو قياس ظاهر ، والعلم عند الله تعالى .

وخالف في ذلك بعض العلماء كأبي حنيفة ومن وافقه ، فقالوا : يصح حج النائب عن غيره وإن لم يحج عن نفسه ، واستدلوا بظواهر الأحاديث التي ذكرناها في الحج عن المعضوب والميت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيها : " حج عن أبيك ، حج عن أمك " ، ونحو ذلك من العبارات ، ولم يسأل أحدا منهم هل حج عن نفسه أو لا . وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر تقديم الحديث الخاص الذي فيه قصة شبرمة ; لأنه لا يتعارض عام وخاص ، فلا يحج أحد عن أحد حتى يحج عن نفسه حجة الإسلام ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

قد علمت مما مر أن الحج واجب مرة في العمر ، وهل ذلك الوجوب على سبيل الفور أو التراخي ؟

اختلف أهل العلم في ذلك ، وسنبين هنا إن شاء الله أقوالهم وحججهم ، وما [ ص: 330 ] يرجحه الدليل عندنا من ذلك ، فممن قال : إن وجوبه على التراخي ; الشافعي وأصحابه . قال النووي : وبه قال الأوزاعي ، والثوري ، ومحمد بن الحسن ، ونقله الماوردي عن ابن عباس ، وأنس ، وجابر ، وعطاء ، وطاوس ، وممن قال إنه على الفور الإمام أحمد ، وأبو يوسف ، وجمهور أصحاب أبي حنيفة والمزني . قال النووي : ولا نص في ذلك لأبي حنيفة ، وقال صاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي : إن القول بأنه على الفور قول أبي يوسف ، وعن أبي حنيفة ما يدل عليه فإن ابن شجاع روى عنه أن الرجل إذا وجد ما يحج به وقد قصد التزوج ، قال : يحج ولا يتزوج ; لأن الحج فريضة أوجبها الله على عبده ، وهذا يدل على أنه على الفور . انتهى .

وأما مذهب مالك فعنه في المسألة قولان مشهوران ، كلاهما شهره بعض علماء المالكية .

أحدهما : أنه على الفور ، والثاني : أنه على التراخي ، ومحل الخلاف المذكور ما لم يحسن الفوات بسبب من أسباب الفوات ، فإن خشيه وجب عندهم فورا اتفاقا .

قال خليل بن إسحاق في مختصره في الفقه المالكي : وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف . اهـ .

وقد ذكر في ترجمته أنه إن قال في مختصره : خلاف ، فهو يعني بذلك اختلافهم في تشهير القول .

وقال الشيخ المواق في كلامه على قول خليل المذكور ما نصه الجلاب : من لزمه فرض الحج لم يجز له تأخيره إلا من عذر ، وفرضه على الفور دون التراخي والتسويف ، وعن ابن عرفة هذا للعراقيين ، وعزا لابن محرز والمغاربة وابن العربي ، وابن رشد : أنه على التراخي ما لم يخف فواته . وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه حججهم :

أما الذين قالوا : إنه على التراخي فاحتجوا بأدلة ، منها : أنهم قالوا : إن الحج فرض عام ست من الهجرة ، ولا خلاف أن آية : وأتموا الحج والعمرة لله الآية [ 2 \ 196 ] نزلت عام ست من الهجرة في شأن ما وقع في الحديبية من إحصار المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وهم محرمون بعمرة ، وذلك في ذي القعدة من عام ست بلا خلاف ، ويدل عليه ما تقدم في حديث كعب بن عجرة الذي نزل فيه : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ ص: 331 ] [ 2 \ 196 ] ، وذلك متصل بقوله : وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا الآية [ 2 \ 196 ] ، ولذا جزم الشافعي وغيره بأن الحج فرض عام ست . قالوا : وإذا كان الحج فرض عام ست ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا عام عشر ، فذلك دليل على أنه على التراخي ؛ إذ لو كان على الفور لما أخره عن أول وقت للحج بعد نزول الآية . قالوا : ولا سيما أنه عام ثمان من الهجرة فتح مكة في رمضان ، واعتمر عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يحج ، قالوا : واستخلف عتاب بن أسيد ، فأقام للناس الحج سنة ثمان ، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه ، ولم يحجوا ، قالوا : ثم غزا غزوة تبوك في عام تسع ، وانصرف عنها قبل الحج ، فبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، فأقام للناس الحج سنة تسع ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرون على الحج ، غير مشتغلين بقتال ولا غيره ، ولم يحجوا ، ثم حج صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر حجة الوداع ، قالوا : فتأخيره الحج المذكور إلى سنة عشر دليل على أن الحج ليس وجوبه على الفور ، بل على التراخي .

واستدلوا لذلك أيضا بما جاء في صحيح مسلم في قصة ضمام بن ثعلبة السعدي رضي الله عنه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا هاشم بن القاسم أبو النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاءه رجل من أهل البادية فقال : يا محمد صلى الله عليه وسلم ، أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك . قال : صدق . قال : فمن خلق السماء ؟ قال : الله . قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : الله . قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : الله . قال : فبالذي خلق السماء ، وخلق الأرض ، ونصب هذه الجبال آلله أرسلك ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا . قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم ، قال : وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا ، قال : صدق . قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا . قال : صدق . ثم ولى قال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لئن [ ص: 332 ] صدق ليدخلن الجنة " . انتهى من صحيح مسلم ، قالوا : هذا الحديث الصحيح جاء فيه وجوب الحج ، وقد زعم الواقدي وغيره : أن قدوم الرجل المذكور وهو ضمام بن ثعلبة كان عام خمس ، قالوا : وقد رواه شريك بن أبي نمر عن كريب فقال فيه : بعث بنو سعد ضماما في رجب سنة خمس ، فدل ذلك على أن الحج كان مفروضا عام خمس ، فتأخيره صلى الله عليه وسلم الحج إلى عام عشر دليل على أنه على التراخي ، لا على الفور .

ومن أدلتهم على أنه على التراخي : " أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أمر المحرمين بالحج أن يفسخوه في عمرة " فدل ذلك على جواز تأخير الحج ، وهو دليل على أنه على التراخي .

ومن أدلتهم أيضا : أنه إن أخر الحج من سنة إلى أخرى ، أو إلى سنين ، ثم فعله ; فإنه يسمى مؤديا للحج لا قاضيا له بالإجماع ، قالوا : ولو حرم تأخيره لكان قضاء لا أداء .

ومن أدلتهم على أنه على التراخي : ما هو مقرر في أصول الشافعية ، وهو أن المختار عندهم أن الأمر المجرد عن القرائن ، لا يقتضي الفور ، وإنما المقصود منه الامتثال المجرد . فوجوب الفور يحتاج إلى دليل خاص زائد على مطلق الأمر .

ومن أدلتهم : أنهم قاسوا الحج على الصلاة الفائتة . قالوا : فهي على التراخي ، ويقاس الحج عليها ، بجامع أن كلا منهما واجب ليس له وقت معين .

ومنها : أنهم قاسوه على قضاء رمضان في كونهما على التراخي ، بجامع أن كليهما واجب ، ليس له وقت معين : قالوا : ولكن ثبتت آثار : أن قضاء رمضان غاية زمنه مدة السنة . هذا هو حاصل أدلة القائلين بأن وجوب الحج على التراخي لا على الفور . وأما الذين قالوا إنه على الفور فاحتجوا أيضا بأدلة ، ومنعوا أدلة المخالفين .

فمن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور آيات من كتاب الله تعالى يفهم منها ذلك ، وهي على قسمين :

قسم منها فيه الدلالة على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامره جل وعلا ، والثناء على من فعل ذلك .

والقسم الثاني : يدل على توبيخ من لم يبادر ، وتخويفه من أن يدركه الموت قبل أن يمتثل ; لأنه قد يكون اقترب أجله ، وهو لا يدري .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 10:22 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (321)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 333 إلى صـ 339

أما آيات القسم الأول فكقوله : [ ص: 333 ] وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين [ 3 \ 133 ] وقوله تعالى : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض الآية [ 57 \ 21 ] ، فقوله : وسارعوا وقوله : سابقوا إلى مغفرة فيه الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته ، وجنته جل وعلا ، وذلك بالمبادرة والمسابقة إلى امتثال أوامره ، ولا شك أن المسارعة والمسابقة كلتاهما على الفور لا التراخي ، وكقوله : فاستبقوا الخيرات الآية [ 2 \ 148 ] ، ويدخل فيه الاستباق إلى الامتثال . وصيغ الأمر في قوله : وسارعوا وقوله : سابقوا ، وقوله : فاستبقوا تدل على الوجوب ; لأن الصحيح المقرر في الأصول : أن صيغة افعل ، إذا تجردت عن القرائن اقتضت الوجوب ، وإليه أشار في المراقي بقوله :

وافعل لدى الأكثر للوجوب . . إلخ

وذلك لأن الله تعالى يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] وقال جل وعلا : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فصرح جل وعلا ، بأن أمره قاطع للاختيار ، موجب للامتثال ، وقد سمى نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية ، وذلك في قوله : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] يعني قوله له : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] وإنما قال موسى لأخيه هارون قبل أن يعلم حقيقة الحال ، فلما علمها قال : رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين [ 7 \ 151 ] ومما يدل على اقتضاء الأمر الوجوب : أن الله جل وعلا عنف إبليس لما خالف الأمر بالسجود ، وذلك في قوله : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] والنصوص بمثل هذا كثيرة ، وقد أجمع أهل اللسان العربي : أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء ، مثلا ، فلم يمتثل أمره فأدبه على ذلك ، أن ذلك التأديب واقع موقعه ; لأنه عصاه بمخالفة أمره ، فلو قال العبد : ليس لك أن تؤدبني ، لأن أمرك لي بقولك : اسقني ماء ، لا يقتضي الوجوب - لقال له أهل اللسان : كذبت ، بل الصيغة ألزمتك ، ولكنك عصيت سيدك ، فدل ما ذكر على أن الشرع واللغة دلا على اقتضاء الأمر المجرد الوجوب ، وذلك يدل على أن قوله : سابقوا وقوله : وسارعوا يدل على وجوب المبادرة إلى امتثال أوامر الله فورا .

ومن الآيات التي فيها الثناء على المبادرين إلى امتثال أوامر ربهم قوله تعالى : [ ص: 334 ] إنهم كانوا يسارعون في الخيرات الآية [ 21 ] . وقوله تعالى : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 23 \ 61 ] .

وأما القسم الدال على التخويف من الموت قبل الامتثال المتضمن الحث على الامتثال : فهو أن الله جل وعلا أمر خلقه أن ينظروا في غرائب صنعه وعجائبه ، كخلقه للسماوات والأرض ، ونحو ذلك من الآيات من كتابه كقوله : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض الآية [ 10 \ 101 ] ، وقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] ، وقوله : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [ 88 \ 17 - 20 ] . ثم ذكر في آية أخرى ما يدل على أن ذلك النظر مع لزومه يجب معه النظر في اقتراب الأجل ، فقد يقترب أجله ويضيع عليه أجر الامتثال بمعالجة الموت ، وذلك في قوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [ 7 \ 185 ] إذ المعنى : أولم ينظروا في أنه عسى أن يكون أجلهم قد اقترب ، فيضيع عليهم الأجر بعدم المبادرة قبل الموت ، وفي الآية دليل واضح ، على أن الإنسان يجب عليه أن يبادر إلى امتثال الأمر ؛ خشية أن يعالجه الموت قبل ذلك .

ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور ، أحاديث جاءت دالة على ذلك ، ولا يخلو شيء منها من مقال ، إلا أنها تعتضد بالآيات المذكورة ، وبما سنذكره إن شاء الله بعدها .

منها ما أخرجه أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا الثوري ، عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل الملائي ، عن فضيل ، يعني ابن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعجلوا إلى الحج " يعني الفريضة . فقوله في هذا الحديث : تعجلوا ، يدل على الفور ، وقد نقل حديث أحمد هذا المجد في المنتقى بحذف الإسناد على عادته ، فقال : عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تعجلوا إلى الحج " - يعني الفريضة - " فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " . رواه أحمد . انتهى منه .

وقد سكت على هذا الحديث ، وسكت عليه أيضا شارحه الشوكاني في نيل الأوطار ، وظاهر سكوتهما عليه : أنه صالح للاحتجاج عندهما ، والظاهر عدم صلاحية هذا الحديث بانفراده [ ص: 335 ] للاحتجاج ; ففي سنده إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي ، وهو لا يحتج بحديثه ; لأنه ضعفه أكثر أهل العلم بالحديث ، وكان شيعيا من غلاتهم ، وكان ممن يكفر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وقال فيه ابن حجر في التقريب : صدوق ، سيئ الحفظ ، نسب إلى الغلو في التشيع .

والحاصل : أن أكثر أهل العلم لا يحتجون بحديثه ، وانظر إن شئت أقوال أهل العلم في تهذيب التهذيب ، والميزان وغيرهما .

ومن أدلتهم أيضا على ذلك : ما رواه الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن مهران أبي صفوان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل " . اهـ . ورواه أبو داود : حدثنا مسدد ، ثنا [ أبو ] معاوية محمد بن خازم ، عن الأعمش ، عن الحسن بن عمرو ، عن مهران أبي صفوان ، عن ابن عباس قال : " من أراد الحج فليتعجل " . اهـ . وقال الحاكم في المستدرك : حدثنا أبو بكر بن إسحاق ، أنبأنا أبو المثنى ، ثنا أبو معاوية محمد بن خازم ، عن الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن أبي صفوان ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل " ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . وأبو صفوان هذا سماه غيره مهران ، مولى لقريش ، ولا يعرف بالجرح . انتهى منه . وأقره الحافظ الذهبي على تصحيحه لهذا الإسناد ، ولا يخلو هذا السند من مقال ; لأن فيه مهران أبا صفوان ، قال فيه ابن حجر في التقريب : كوفي مجهول ، وقال صاحب الميزان : لا يدرى من هو . وقال فيه في تهذيب التهذيب : روى عن ابن عباس : " من أراد الحج فليتعجل " ، وعنه الحسن بن عمرو الفقيمي ، قال أبو زرعة : لا أعرفه إلا في هذا الحديث ، وذكره ابن حبان في الثقات . قلت : وقال الحاكم لما أخرج حديثه هذا في المستدرك : لا يعرف بجرح . انتهى منه ، وهو دليل على أن حديث مهران المذكور معتبر به ، فيعتضد بما قبله ، وبما بعده ، مع أن ابن حبان عده في الثقات ، وصحح حديثه الحاكم ، وأقره الذهبي على ذلك . اهـ .

وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا علي بن محمد ، وعمرو بن عبد الله ، قالا : ثنا وكيع ، ثنا إسماعيل أبو إسرائيل ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن الفضل - أو أحدهما عن الآخر - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد الحج فليتعجل ; فإنه قد يمرض المريض ، وتضل الضالة ، وتعرض الحاجة " . اهـ . وفي سنده : إسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي ، وقد قدمنا قريبا أن الأكثرين ضعفوه .

[ ص: 336 ] ومن أدلتهم على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من لم يحبسه مرض ، أو مشقة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا " قال ابن حجر في التلخيص : هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في الموضوعات . وقال العقيلي والدارقطني : لا يصح فيه شيء .

قلت : وله طرق .

أحدها : أخرجه سعيد بن منصور في السنن وأحمد وأبو يعلى والبيهقي من طرق عن شريك عن ليث بن أبي سليم ، عن ابن سابط ، عن أبي أمامة بلفظ : " من لم يحبسه مرض أو حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا " . لفظ البيهقي ، ولفظ أحمد : " من كان ذا يسار فمات ولم يحج " الحديث . وليث ضعيف ، وشريك سيئ الحفظ ، وقد خالفه سفيان الثوري فأرسله ، ورواه أحمد في كتاب الإيمان له عن وكيع ، عن سفيان ، عن ليث ، عن ابن سابط قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج ولم يمنعه من ذلك مرض حابس أو سلطان ظالم أو حاجة ظاهرة " فذكره مرسلا .

وكذا ذكره ابن أبي شيبة ، عن أبي الأحوص ، عن ليث مرسلا ، وأورده أبو يعلى من طريق أخرى ، عن شريك مخالفة للإسناد الأول ، وراويها عن شريك عمار بن مطر ضعيف . وقال الذهبي في الميزان ، بعد أن ذكر طريق أبي يعلى هذه في ترجمة عمار بن مطر الرهاوي المذكور الراوي ، عن شريك : هذا منكر عن شريك .

الثاني : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مرفوعا : " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ; وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] " رواه الترمذي ، وقال : غريب ، وفي إسناده مقال ، والحارث يضعف ، وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحاق مجهول ، وسئل إبراهيم الحربي عنه ؟ فقال : من هلال . وقال ابن عدي : يعرف بهذا الحديث ، وليس الحديث بمحفوظ . وقال العقيلي : لا يتابع عليه ، وذكر في الميزان حديث علي هذا في ترجمة هلال بن عبد الله المذكور ، وقال : قال البخاري : منكر الحديث . وقال الترمذي : مجهول ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه . اهـ . وقال فيه في التقريب : متروك . وقد روي عن علي موقوفا ، ولم يرو مرفوعا من طريق أحسن من هذا ، وقال المنذري : طريق أبي أمامة على ما فيها أصلح من هذه .

الثالث : عن أبي هريرة رفعه : " من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس ، [ ص: 337 ] أو حاجة ظاهرة ، أو سلطان جائر ; فليمت أي الميتتين شاء : إما يهوديا أو نصرانيا " رواه ابن عدي ، من طريق عبد الرحمن الغطفاني ، عن أبي المهزم - وهما متروكان - عن أبي هريرة ، وله طريق صحيحة ; إلا أنها موقوفة ، رواها سعيد بن منصور والبيهقي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فتنظر كل من كانت له جدة ولم يحج فيضربوا عليه الجزية ; ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين " لفظ سعيد ، ولفظ البيهقي أن عمر قال : ليمت يهوديا أو نصرانيا - يقولها ثلاث مرات - رجل مات ولم يحج وجد لذلك سعة ، وخليت سبيله .

قلت : وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط ، علم أن لهذا الحديث أصلا ، ومحمله على من استحل الترك ، وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع والله أعلم . اهـ من التلخيص الحبير بلفظه .

وقول ابن حجر : ومحمله على من استحل الترك ، هو قول من قال من المفسرين : إن الكفر في قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] يحمل على مستحل الترك ، ولا دليل عليه ، ووجه الدلالة من الأحاديث المذكورة على ما فيها من المقال أنها تصرح أنه لا يمنعه من الإثم إلا مانع يمنعه من المبادرة إلى الحج ؛ كالمرض ، أو الحاجة الظاهرة ، أو السلطان الجائر . فلو كان تراخيه لغير العذر المذكور لكان قد مات ، وهو آثم بالتأخير . فدل على أن وجوب الحج على الفور ، وأنه لا يجوز التراخي فيه إلا لعذر ، وقال الشوكاني في نيل الأوطار ، بعد أن ساق الطرق التي ذكرناها عن صاحب التلخيص : وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا . وبذلك تتبين مجازفة ابن الجوزي في عده لهذا الحديث من الموضوعات ، فإن مجموع تلك الطرق لا يقصر عن كون الحديث حسنا لغيره ، وهو محتج به عند الجمهور ، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني : لا يصح في الباب شيء ; لأن نفي الصحة لا يستلزم نفي الحسن . اهـ . محل الغرض منه .

ومن أدلتهم أيضا على أن وجوب الحج على الفور ، ما قدمناه في سورة البقرة ، من حديث الحجاج بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من كسر أو عرج فقد حل ، وعليه الحج من قابل " قال عكرمة : سألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك - يعني حديث الحجاج بن عمرو المذكور فقالا : صدق . وقد قدمنا أن هذا الحديث ثابت من رواية الحجاج بن عمرو الأنصاري وابن عباس وأبي هريرة ، وقد قدمنا أنه رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن خزيمة والحاكم ، والبيهقي ، وقد [ ص: 338 ] قدمنا أنه سكت عليه أبو داود والمنذري ، وحسنه الترمذي ، وأن النووي قال فيه : رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه والبيهقي ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ومحل الشاهد من الحديث المذكور قوله صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث ، عند أبي داود ، وابن ماجه : " فقد حل ، وعليه الحج من قابل " ; لأن قوله : " من قابل " دليل على أن الوجوب على الفور ، وقد قدمنا هناك ما يدل على أن ذلك القضاء الواجب على المحصر بمرض أو نحوه إنما هو في حجة الإسلام ، وأنه لا قضاء على المحصر في غيرها ، وبينا أدلة ذلك هناك في الكلام على قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] والرواية التي ذكرنا هناك : " فقد حل ، وعليه حجة أخرى " ، وهذه الرواية قد بينتها رواية : " وعليه الحج من قابل " وهي ثابتة ، وهي دالة على الفور ، مفسرة للرواية التي ذكرنا هناك .

فهذه الأحاديث - مع تعددها واختلاف طرقها - تدل على أن وجوب الحج على الفور ، وتعتضد بالآيات القرآنية التي قدمناها ، وتعتضد بما سنذكره - إن شاء الله - من كلام أهل الأصول .

واعلم أن المخالفين قالوا : إن هذه الأحاديث لم يثبت منها شيء ، وأن حديث : " من أراد أن يحج فليتعجل " - مع ضعفه - حجة لهم لا عليهم ; لأنه وكل الأمر إلى إرادته ، فدل على أنه ليس على الفور ، ولا يخفى أن الأحاديث التي ذكرنا لا يقل مجموعها عن درجة الاحتجاج ، على أن وجوب الحج على الفور .

ومن أدلتهم على أن وجوب الحج على الفور ، هو أن الله أمر به ، وأن جماعة من أهل الأصول قالوا : إن الشرع واللغة والعقل كلها دال على اقتضاء الأمر الفور . أما الشرع فقد قدمنا الآيات القرآنية الدالة على المبادرة فورا لامتثال أوامر الله كقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم [ 3 \ 133 ] ، وكقوله : سابقوا إلى مغفرة من ربكم الآية [ 57 \ 21 ] ، وبينا دلالة تلك الآيات وأمثالها على اقتضاء الأمر الفور ، وأوضحنا ذلك .

وأما اللغة : فإن أهل اللسان العربي ، مطبقون على أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء ، فلم يفعل ، فأدبه ، فليس للعبد أن يقول له : صيغة افعل في قولك : اسقني ماء ، تدل على التراخي ، وكنت سأمتثل بعد زمن متراخ عن الأمر ، بل يقولون : إن الصيغة ألزمتك فورا ، ولكنك عصيت أمر سيدك بالتواني والتراخي .

[ ص: 339 ] وأما العقل : فإنا لو قلنا : إن وجوب الحج على التراخي ، فلا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون ذلك التراخي له غاية معينة ينتهي عندها ، وإما لا ، والقسم الأول ممنوع ; لأن الحج لم يعين له زمن يتحتم فيه دون غيره من الأزمنة ، بل العمر كله تستوي أجزاؤه بالنسبة إليه إن قلنا : إنه ليس على الفور .

والحاصل : أنه ليس لأحد تعيين غاية له لم يعينها الشرع .

والقسم الثاني الذي هو : أن تراخيه ليس له غاية يقتضي عدم وجوبه ; لأن ما جاز تركه جوازا لم تعين له غاية ينتهي إليها ، فإن تركه جائز إلى غير غاية ، وهذا يقتضي عدم وجوبه ، والمفروض وجوبه .

فإن قيل : غايته الوقت الذي يغلب على الظن بقاؤه إليه .

فالجواب : أن البقاء إلى زمن متأخر ، ليس لأحد أن يظنه ؛ لأن الموت يأتي بغتة ، فكم من إنسان يظن أنه يبقى سنين فيخترمه الموت فجأة ، وقد قدمنا قوله تعالى في ذلك : وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [ 7 \ 185 ] ولا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات ، ولا سيما العبادات الشاقة كالحج . والإنسان طويل الأمل ، يهرم ، ويشب أمله ، وتحديد وجوبه بستين سنة تحديد لا دليل عليه .

فهذه جملة أدلة القائلين بأن وجوب الحج على الفور ، ومنعوا أدلة المخالفين ، قالوا إن قولكم : إن الحج فرض سنة خمس بدليل قصة ضمام بن ثعلبة المتقدمة ، فإن قدومه سنة خمس ، وقد ذكر له النبي صلى الله عليه وسلم وجوب الحج ، وأن قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية [ 2 \ 196 ] نزلت عام ست في عمرة الحديبية ، فدلت على أن الحج مفروض عام ست ، وأنه صلى الله عليه وسلم أخره بعد فرضه إلى عام عشر ، كل ذلك مردود ، بل الحج إنما فرض عام تسع ، قالوا : والصحيح أن قدوم ضمام بن ثعلبة السعدي كان سنة تسع .

وقال ابن حجر في الإصابة في ترجمة ضمام المذكور ما نصه : وزعم الواقدي أن قدومه كان في سنة خمس ، وفيه نظر . وذكر ابن هشام عن أبي عبيد أن قدومه كان سنة تسع ، وهذا عندي أرجح . اهـ منه ، وانظر ترجيح ابن حجر لكون قدومه عام تسع .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 10:25 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (322)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 340 إلى صـ 346



وذكر ابن كثير قدوم ضمام المذكور في حوادث سنة تسع ، مع أنه ذكر قول من قال : إن قدومه كان قبل عام خمس ، هذا وجه ردهم للاحتجاج بقصة ضمام ، وأما وجه ردهم للاحتجاج بآية : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] فهو أنها لم يذكر فيها إلا [ ص: 340 ] وجوب الإتمام بعد الشروع ، فلا دليل فيها على ابتداء الوجوب ، وقد أجمع أهل العلم على أن من أحرم بحج أو عمرة ، وجب عليه الإتمام ، ووجوب الإتمام بعد الشروع لا يستلزم ابتداء الوجوب .

قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه : وأما قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] فإنها وإن نزلت سنة ست عام الحديبية فليس فيها فرضية الحج ، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما ، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء .

فإن قيل : فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة ؟

قيل : لأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود ، وفيه : قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصالحهم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع ، وفيها نزل صدر سورة آل عمران ، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة ، ويدل عليه أن أهل مكة ، وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين ، لما أنزل الله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [ 9 \ 28 ] فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية ، ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان عام تسع ، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج ، وأردفه بعلي رضي الله عنه ، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف ، والله أعلم . انتهى من زاد المعاد .

فتحصل أن آية : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، لم تدل على وجوب الحج ابتداء ، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة ، والخلاف في وجوبها معروف ، وسيأتي إن شاء الله إيضاحه .

بل الذي أجمعوا عليه : هو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها ، كما هو ظاهر الآية ، وأن قصة ضمام بن ثعلبة ، كانت عام تسع كما رجحه ابن حجر وغيره ، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة ، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفا ; لأن آية : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] هي الآية التي فرض بها الحج .

وهي من صدر سورة آل عمران ، وقد نزل عام الوفود ، وفيه قدم وفد نجران ، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية ، والجزية إنما نزلت عام [ ص: 341 ] تبوك سنة تسع كما تقدم قريبا ، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة ; لأنه انصرف من مكة والحج قريب ، ولم يحج لأنه لم يفرض .

فإن قيل : سلمنا تسليما جدليا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة مع تمكنه منه وقدرته عليه ، أن الحج لم يكن مفروضا في ذلك الوقت ، وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج عام تسع ، بل أخر حجه إلى عام عشر ، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي ؛ إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر .

فالجواب والله تعالى أعلم : أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي ، وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت وهم عراة ، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام ، إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا [ 9 \ 28 ] ، و ( عامهم هذا ) هو عام تسع ، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع ، ولذا أرسل عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي بـ " براءة " وأن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا عريان ، فلو بادر صلى الله عليه وسلم إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت وهم عراة وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك ، ولا سيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم ، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافيا من الموانع والعوائق بعد وجوبه : عام عشر ، وقد بادر بالحج فيه ، والعلم عند الله تعالى ، وأجابوا عن قولهم : كونه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي ، أن يفسخوا حجهم في عمرة ، دليل على تأخير الحج ; لأنهم بعد ما أحرموا فيه فسخوه في عمرة ، وحلوا منه - بأن هذا ليس فيه تأخير الحج لعزمهم على أن يحجوا في تلك السنة بعينها ، وتأخير الحج إنما هو بتأخيره من سنة إلى أخرى ، وذلك ليس بواقع هنا ، فلا تأخير للحج في الحقيقة ; لأنهم حجوا في عين الوقت الذي حج فيه من لم يفسخ حجه في عمرة ، فلا تأخير كما ترى ، وأجابوا عن قولهم : إنه لو أخره من سنة إلى أخرى ، أو سنين ، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤديا لا قاضيا بالإجماع ، ولو حرم التأخير لكان قضاء - بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة الموقتة بوقت معين ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول ، والحج لم يوقت بزمن معين ، والعمر كله وقت له ، وذلك لا ينافي وجوب المبادرة خوفا من طرو العوائق ، أو نزول الموت قبل [ ص: 342 ] الأداء ، كما تقدم إيضاحه .

وأجابوا عن قولهم : إن من تمكن من أداء الحج ثم أخره ثم فعله ، لا ترد شهادته فيما بين فعله وتأخيره . ولو كان التأخير حراما لردت شهادته لارتكابه ما لا يجوز - بأنه ما كل من ارتكب ما لا يجوز ترد شهادته ، بل لا ترد إلا بما يؤدي إلى الفسق ، وهنا قد يمنع من الحكم بتفسيقه مراعاة الخلاف وقول من قال : إنه لم يرتكب حراما ، وشبهة الأدلة التي أقاموها على ذلك ، هذا هو حاصل أدلة الفريقين .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي وأليقهما بعظمة خالق السموات والأرض هو أن وجوب أوامره جل وعلا - كالحج - على الفور لا على التراخي ، لما قدمنا من النصوص الدالة على الأمر بالمبادرة ، وللخوف من مباغتة الموت كقوله : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم الآية [ 3 \ 133 ] وما قدمنا معها من الآيات ، وكقوله : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [ 7 \ 185 ] ولما قدمنا من أن الشرع واللغة والعقل كلها يدل على أن أوامر الله تجب على الفور ، وقد بينا أوجه الجواب عن كونه صلى الله عليه وسلم لم يحج حجة الإسلام إلا سنة عشر ، والعلم عند الله تعالى ، وأشار في مراقي السعود إلى أن مذهب مالك أن وجوب الأمر على الفور بقوله :

وكونه للفور أصل المذهب وهو لدى القيد بتأخير أبي
المسألة الثانية

اعلم أن من أراد الحج له أن يحرم مفردا الحج ، وله أن يحرم متمتعا بالعمرة إلى الحج ، وله أن يحرم قارنا بين الحج والعمرة ، وإنما الخلاف بين العلماء فيما هو الأفضل من الثلاثة المذكورة .

والدليل على التخيير بين الثلاثة ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع . فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحجة وعمرة ، ومنا من أهل بالحج . الحديث . وهو نص صريح متفق عليه في جواز الثلاثة المذكورة . وقال النووي في شرح المهذب : وجواز الثلاثة قال به العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما أنهما كانا ينهيان عن التمتع . انتهى محل الغرض من كلامه .

[ ص: 343 ] وقال أيضا في شرح مسلم : وقد أجمع العلماء على جواز الأنواع الثلاثة .

وقال ابن قدامة في المغني : وأجمع أهل العلم على جواز الإحرام ، بأي الأنساك الثلاثة شاء ، واختلفوا في أفضلها .

وفي رواية في الصحيح عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل . قالت عائشة رضي الله عنها : فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت في من أهل بالعمرة " . هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وهو صريح في جواز الثلاثة المذكورة .

وبه تعلم أن ادعاء بعض المعاصرين أن إفراد الحج ممنوع ، مخالف لما صح باتفاق مسلم والبخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأطبق عليه جماهير أهل العلم . وحكى غير واحد عليه الإجماع ، وسنذكر إن شاء الله كلام أهل العلم في التفضيل بينها مع مناقشة الأدلة .
المسألة الثالثة

اعلم أن ممن قال : إن الإفراد أفضل من التمتع والقران : مالك ، وأصحابه ، والشافعي - في الصحيح من مذهبه - وأصحابه .

قال النووي في شرح المهذب : وبه قال عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وجابر ، وعائشة ، ومالك ، والأوزاعي ، وأبو ثور ، وداود . واحتج من قال بتفضيل إفراد الحج على غيره بأدلة متعددة .

الأول : أحاديث صحيحة جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بأنه أفرد في حجة الوداع من رواية جابر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم . أما حديث عائشة فقد ذكرناه آنفا .

قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحجة وعمرة ، ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . الحديث . هذا لفظ البخاري ومسلم ، وهو صريح في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج . ولا يحتمل لفظ عائشة هذا غير إفراد الحج ; لأنها ذكرت معه التمتع والقران ، وأن بعض الناس تمتع وبعضهم قرن ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فهو الحج المفرد ، ولا يحتمل غيره .

وفي رواية في الصحيح عنها رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 344 ] فقال : " من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل ، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل " . قالت عائشة رضي الله عنها : " فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت في من أهل بالعمرة " . هذا لفظ مسلم في صحيحه . وهو لا يحتمل غير الإفراد بحال ; لأنها ذكرت القران والتمتع والإفراد ، وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم أهل بالحج ، فدل على أنها لا تريد القران ولا غيره . وفي رواية عنها في الصحيح قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلا الحج ، وفي رواية عنها في الصحيح أيضا : ولا نذكر إلا الحج . وفي رواية عنها في الصحيح أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج . وفي رواية عنها رضي الله عنها في الصحيح : ولا نرى إلا أنه الحج . كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم . وبعضها في البخاري .

وأما حديث جابر فقد روى عنه عطاء قال : حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه ، وقد أهلوا بالحج مفردا ، الحديث . هذا لفظ البخاري ومسلم ، وفي رواية عنه رضي الله عنه في الصحيح : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول : لبيك اللهم لبيك بالحج . هذا لفظ البخاري ومسلم أيضا ، وفي رواية في الصحيح عن عطاء : حدثني جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل وأصحابه بالحج ، الحديث . هذا لفظ البخاري في صحيحه . وفي حديثه - أعني جابرا رضي الله عنه - الطويل المشهور في صحيح مسلم الذي بين فيه حجة النبي صلى الله عليه وسلم أكمل بيان ، وساقها أحسن سياقة من أولها إلى آخرها . وقد دل ذلك على ضبطه لها وحفظه وإتقانه ما نصه : قال جابر رضي الله عنه : لسنا ننوي إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، الحديث . وهو تصريح منه رضي الله عنه بالإفراد دون التمتع والقران لقوله : لسنا نعرف العمرة .

وفي رواية عنه في الصحيح قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج ، الحديث .

وفي رواية عنه في الصحيح أيضا قال : أهللنا - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - بالحج خالصا وحده . وكلا الروايتين عنه بلفظ مسلم في الصحيح . وفي صحيح مسلم أيضا عنه : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج . الحديث . وفي رواية في صحيح مسلم عنه أيضا : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج .

وأما حديث ابن عمر : فقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن أيوب ، وعبد الله بن عون الهلالي ، قالا : حدثنا عباد بن عباد المهلبي ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، [ ص: 245 ] عن نافع عن ابن عمر في رواية يحيى قال : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردا . وفي رواية ابن عون : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا ، وحدثنا سريج بن يونس ، حدثنا هشيم ، حدثنا حميد ، عن بكر ، عن أنس رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا : قال بكر : فحدثت بذلك ابن عمر ، فقال : لبى بالحج وحده ، فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر فقال أنس : ما تعدوننا إلا صبيانا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لبيك عمرة وحجا " وحدثني أمية بن بسطام العيشي ، حدثنا يزيد ، يعني ابن زريع ، حدثنا حبيب بن الشهيد ، عن بكر بن عبد الله ، حدثنا أنس رضي الله عنه : أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما - بين الحج والعمرة - قال : فسألت ابن عمر ؟ فقال : أهللنا بالحج . فرجعت إلى أنس فأخبرته ما قال ابن عمر ، فقال : كأنما كنا صبيانا . انتهى منه .

وحديث ابن عمر هذا لا يحتمل غير إفراد الحج ، فلا يحتمل القران ولا التمتع بحال ; لأن فيه أن بكرا قال لابن عمر : إن أنسا يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج والعمرة ، فرد ابن عمر على أنس دعواه القران قائلا : إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج وحده ، وهذا صريح في الإفراد كما ترى . وحديث ابن عمر المذكور أخرجه البخاري أيضا . اهـ .

وفي رواية : أن رجلا أتى ابن عمر رضي الله عنهما فقال : بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال ابن عمر : أهل بالحج . فانصرف ثم أتاه من العام المقبل ، فقال : بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : ألم تأتني عام أول ؟ قال : بلى ، ولكن أنس بن مالك يزعم أنه قرن . قال ابن عمر رضي الله عنهما : إن أنس بن مالك كان يدخل على النساء وهن منكشفات الرءوس ، وإني كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج . رواه البيهقي بإسناده . وقال النووي في شرح المهذب : إن إسناده صحيح .

وأما حديث ابن عباس ، فهو ما رواه عنه البخاري ومسلم قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر . فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج . الحديث . هذا لفظ البخاري ومسلم .

وفي رواية في الصحيح عنه رضي الله عنه : أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، لفظ مسلم . وفي رواية عنه في الصحيح : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نهل بالحج . وفي رواية عنه رضي الله عنه في الصحيح : ثم ركب راحلته ، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج . كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم ، رحمه الله تعالى .

[ ص: 246 ] وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج . الحديث .

قالوا : فهذه الأحاديث الصحاح دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم مفردا ، ورواتها من أضبط الصحابة وأتقنهم ، قالوا : فمنهم جابر الذي عرف ضبطه وحفظه ، وخصوصا ضبطه لحجته صلى الله عليه وسلم . ومنهم ابن عمر الذي رد على أنس ، وذكر أن لعاب ناقة النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسه . ومنهم : عائشة رضي الله عنها ، وحفظها وضبطها واطلاعها على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك معروف . ومنهم : ابن عباس رضي الله عنهما ، ومكانته في العلم والحفظ معروفة .

الأمر الثاني من الأمور التي احتج بها القائلون بأفضلية الإفراد على التمتع والقران - هو إجماع أهل العلم على أن المفرد إذا لم يفعل شيئا من محظورات الإحرام ، ولم يخل بشيء من النسك ، أنه لا دم عليه ، وانتفاء الدم عنه مع لزومه في التمتع والقران يدل على أنه أفضل منهما ; لأن الكامل بنفسه الذي لا يحتاج إلى الجبر بالدم أفضل من المحتاج إلى الجبر بالدم .

وأجاب المخالفون عن هذا بأن دم التمتع والقران ليس دم جبر لنقص فيهما ، وإنما هو دم نسك محض لزم في ذلك النسك . واحتجوا على أنه دم نسك بجواز أكل القارن والمتمتع من دم قرانه وتمتعه ، قالوا : لو كان جبرا لما جاز الأكل منه كالكفارات ، وبأن الجبر في فعل ما لا يجوز ، والتمتع والقران جائزان ، فلا جبر في مباح .

ورد هذا من يخالف في ذلك قائلا : إنه دم جبر لا دم نسك ، بدليل أن الصوم يقوم مقامه عند العجز عنه . قالوا : والنسك المحض كالأضاحي والهدايا لا يكون الصوم بدلا منه عند العجز عنه ، فلا يكون الصوم بدلا من دم إلا إذا كان دم جبر . قالوا : ولا مانع من الأمر بعبادة مع ما يجبرها ويكملها ، ولا مانع من أن يرد دليل خاص على جواز الأكل من بعض دماء الجبر .

قالوا : والدليل على وقوع الجبر في المباح : لزوم فدية الأذى المنصوص في آية : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية الآية [ 2 \ 196 ] ، ولا شك أنه جبر في فعل مباح . وكذلك من لبس لمرض ، أو حر أو برد شديدين ، أو أكل صيدا للضرورة المبيحة للميتة ، أو احتاج للتداوي بطيب .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 10:29 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (323)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 347 إلى صـ 353
قالوا : ومن الأدلة على أنه دم جبر لا نسك سقوطه عن أهل مكة المنصوص عليه في [ ص: 347 ] قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ 2 \ 196 ] فلو كان دم نسك محض لكان على الجميع من حاضري المسجد الحرام وغيرهم لاستوائهم جميعا في حكم النسك المحض . وهذا على قول الجمهور : إن الإشارة في قوله : " ذلك " راجعة إلى لزوم دم التمتع ؛ أي : وأما من كان أهله حاضري المسجد الحرام ، فلا دم عليه إن تمتع بالعمرة إلى الحج . خلافا لابن عباس ومن وافقه من الحنفية وغيرهم في قولهم : إن الإشارة في قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ 2 \ 196 ] راجعة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج ، وإن أهل مكة لا تمتع لهم ; لأنه على قول الجمهور لا فرق بين الآفاقي ، وحاضري المسجد الحرام موجبا لوجوب دم التمتع على الأول وسقوطه عن الثاني ، إلا أن الأول تمتع بالترفه بسقوط أحد السفرين لأحد النسكين ؛ ولذلك قال مالك وأصحابه ، والشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وأبو حنيفة وأصحابه : إنه إن سافر بعد إحلاله من العمرة وأحرم للحج في سفر جديد ، أنه لا دم تمتع عليه لزوال العلة . مع اختلافهم في قدر السفر المسقط للدم المذكور ؛ فبعضهم يكتفي بسفر مسافة القصر ، وهو مذهب أحمد ، وهو مروي عن عطاء وإسحاق والمغيرة ، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني . وبعضهم يكتفي بالرجوع إلى الميقات ، وهو مذهب الشافعي ، وبعضهم يشترط الرجوع إلى محله الذي جاء منه ، وعزاه في المغني لأبي حنيفة وأصحابه . وبعضهم يشترط ذلك أو سفر مسافة بقدره ، أعني قدر مسافة المحل الذي جاء منه ، وهو مذهب مالك وأصحابه . وهذا يدل على أن دم التمتع دم جبر لنقص السفر المذكور ، بدليل أن السفر إن حصل عندهم سقط الدم لزوال علة وجوبه .

الأمر الثالث من الأمور التي استدل بها القائلون بأفضلية الإفراد : بعض الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن التمتع والقران .

قال البيهقي في السنن الكبرى : أخبرنا أبو علي الروذباري ، أنبأنا أبو بكر بن داسة ، ثنا أبو داود ، ثنا أحمد بن صالح ، ثنا ابن وهب ، أخبرني حيوة ، أخبرني أبو عيسى الخراساني ، عن عبد الله بن القاسم الخراساني ، عن سعيد بن المسيب : أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب ، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج .

أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك ، أنبأ عبد الله بن جعفر ، ثنا يونس بن حبيب ، ثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أبي شيخ الهنائي واسمه [ ص: 248 ] خيوان بن [ خلدة ] أن معاوية قال لنفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صفف النمور ؟ قالوا : اللهم نعم . قال : وأنا أشهد ، قال : أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس الذهب إلا مقطعا ؟ قالوا : اللهم نعم ، قال : أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقرن بين الحج والعمرة ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : والله إنها لمعهن . وكذلك رواه حماد بن سلمة والأشعث بن بزاز عن قتادة ، وقال : حماد بن سلمة في حديثه : ولكنكم نسيتم . ورواه مطر الوراق ، عن أبي شيخ في متعة الحج . انتهى من البيهقي .

وقد ذكر النووي في شرح المهذب عن البيهقي أنه ذكر بإسناده الحديثين اللذين سقناهما عنه آنفا ، ثم قال في الأول منهما : ورواه أبو داود في سننه . وقد اختلفوا في سماع سعيد بن المسيب عن عمر ، لكنه لم يرو هنا عن عمر ، بل عن صحابي غير مسمى ، والصحابة كلهم عدول .

ثم قال في الثاني منهما : رواه البيهقي بإسناد حسن . انتهى .

وقال أبو داود رحمه الله في سننه : حدثنا أحمد بن صالح ، ثنا عبد الله بن وهب ، أخبرنا حيوة ، أخبرني أبو عيسى الخراساني ، عن عبد الله بن القاسم ، عن سعيد بن المسيب : أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب ، فشهد عنده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه ينهى عن العمرة قبل الحج .

حدثنا موسى أبو سلمة ثنا حماد ، عن قتادة عن أبي شيخ الهنائي خيوان بن خلدة ممن قرأ على أبي موسى الأشعري من أهل البصرة أن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كذا وكذا ، وعن ركوب جلود النمور ؟ قالوا : نعم ، قال : فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة ؟ فقالوا : أما هذا فلا ، فقال : أما إنها معهن ، ولكنكم نسيتم . انتهى منه .

الأمر الرابع من الأمور التي استدل بها القائلون بأفضلية الإفراد على غيره ، أنه هو الذي كان الخلفاء الراشدون يفعلونه بعده صلى الله عليه وسلم ، وهم أفضل الناس وأتقاهم ، وأشدهم اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس مفردا ، وحج عمر بن الخطاب عشر سنين بالناس مفردا ، وحج عثمان رضي الله عنه بهم مدة خلافته مفردا . قالوا : فمدة هؤلاء الخلفاء الراشدين الثلاثة حول أربع وعشرين سنة وهم يحجون بالناس مفردين ، ولو لم يكن الإفراد أفضل من غيره لما واظبوا عليه هذه المدة الطويلة .

[ ص: 349 ] قال النووي في شرح المهذب ، وشرح مسلم في أدلة من فضل الإفراد : ومنها أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج ، وواظبوا عليه ، كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان . واختلف فعل علي رضي الله عنهم أجمعين . وقد حج عمر بالناس عشر حجج مدة خلافته كلها مفردا ، ولو لم يكن هذا هو الأفضل عندهم ، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا على الإفراد مع أنهم الأئمة الأعلام ، وقادة الإسلام ، ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم ، وكيف يظن بهم المواظبة على خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أنهم خفي عليهم جميعهم فعله صلى الله عليه وسلم . وأما الخلاف عن علي وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز ، وقد قدمنا عنهم ما يوضح هذا . انتهى منه .

الأمر الخامس من الأمور التي استدل بها القائلون بأفضلية الإفراد : هو ما ذكره النووي في شرح المهذب قال : ومنها أن الأمة أجمعت على جواز الإفراد من غير كراهة ، وكره عمر وعثمان وغيرهما ممن ذكرناه قبل هذا التمتع ، وبعضهم كره التمتع والقران ، وإن كانوا يجوزونه على ما سبق تأويله ، فكان ما أجمعوا على أنه لا كراهة فيه أفضل . انتهى منه .

وقال البيهقي في السنن الكبرى : فثبت بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز التمتع والقران والإفراد ، وثبت بمضي النبي صلى الله عليه وسلم في حج مفرد ، ثم باختلاف الصدر الأول في كراهية التمتع والقران دون الإفراد ، كون إفراد الحج عن العمرة أفضل . والله أعلم . انتهى منه .

وقال البيهقي في السنن الكبرى أيضا : أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا : ثنا علي بن عمر الحافظ ، ثنا الحسين بن إسماعيل ، ثنا أبو هشام ، ثنا أبو بكر بن عياش ، ثنا أبو حصين عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه قال : حججت مع أبي بكر رضي الله عنه فجرد ، ومع عمر رضي الله عنه فجرد ، ومع عثمان رضي الله عنه فجرد .

أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنبأ إسماعيل بن محمد الصفار ، ثنا عبد الكريم بن الهيثم ، ثنا أبو اليمان ، أخبرني شعيب ، أنبأ نافع : أن ابن عمر كان يقول : إن عمر رضي الله عنه كان يقول : أن تفصلوا بين الحج والعمرة ، وتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج ، أتمم لحج أحدكم وأتم لعمرته . انتهى منه .

ثم ساق البيهقي بسنده عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب رضي [ ص: 350 ] الله عنهم عن أبيهما عن علي أنه قال : يا بني أفرد الحج ، فإنه أفضل . اهـ . وساق بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : جردوا الحج . وفي رواية له عنه ، أنه أمر بإفراد الحج قال فكان أحب أن يكون لكل واحد منهما شعث وسفر . انتهى من البيهقي .

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه : قال الحافظ أبو الحسن الدارقطني ، ثنا الحسين بن إسماعيل ، ثنا أبو هشام ، ثنا أبو بكر بن عياش ، ثنا أبو حصين ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن أبيه قال : حججت مع أبي بكر فجرد ، ومع عمر فجرد ، ومع عثمان فجرد . تابعه الثوري ، عن أبي حصين ، وهذا إنما ذكرناه ها ههنا ; لأن الظاهر أن هؤلاء الأئمة رضي الله عنهم : إنما يفعلون هذا عن توقيف . والمراد بالتجريد هاهنا : الإفراد ، والله أعلم .

وقال الدارقطني : ثنا أبو عبيد الله القاسم بن إسماعيل ، ومحمد بن مخلد قالا : ثنا علي بن محمد بن معاوية الرزاز ، ثنا عبد الله بن نافع ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل عتاب بن أسيد على الحج فأفرد ، ثم استعمل أبا بكر سنة تسع فأفرد الحج ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر فأفرد الحج ، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر ، فبعث عمر فأفرد الحج ، ثم حج أبو بكر فأفرد الحج ، ثم توفي أبو بكر واستخلف عمر ، فبعث عبد الرحمن بن عوف فأفرد الحج . ثم حج فأفرد الحج ثم حج عمر سنيه كلها فأفرد الحج ، في إسناده عبد الله بن عمر العمري ، وهو ضعيف . لكن قال الحافظ البيهقي : له شاهد بإسناد صحيح . انتهى من البداية والنهاية لابن كثير .

وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثني هارون بن سعيد الإبلي ، حدثنا أبو وهب ، أخبرني عمرو وهو ابن الحارث ، عن محمد بن عبد الرحمن أن رجلا من أهل العراق قال له : سل لي عروة بن الزبير ، عن رجل يهل بالحج ، فإذا طاف بالبيت أيحل أم لا ؟ فإن قال لك : لا يحل ، فقل له : إن رجلا يقول ذلك ، قال : فسألته فقال : لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج ، قلت : فإن رجلا كان يقول ذلك . قال : بئسما قال . فتصداني الرجل فسألني فحدثته فقال : فقل له فإن رجلا كان يخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير فعلا ذلك ؟ قال : فجئته ، فذكرت له ذلك فقال : من هذا ؟ فقلت : لا أدري ، قال : فما باله لا يأتيني بنفسه يسألني ، أظنه عراقيا ؟ فقلت : لا أدري . قال : فإنه قد كذب ، قد حج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها : أن [ ص: 351 ] أول شيء بدأ به حين قدم مكة ، أنه توضأ ثم طاف بالبيت ، ثم حج أبو بكر ، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم يكن غيره ، ثم عمر مثل ذلك ، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم يكن غيره ، ثم معاوية ، وعبد الله بن عمر ، ثم حججت مع أبي - الزبير بن العوام - فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره ، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ، ثم لم يكن غيره ، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ، ثم لم ينقضها بعمرة ، وهذا ابن عمر عندهم أفلا يسألونه ؟ ولا أحد ممن مضى كانوا يبدءون بشيء حين يضعون أقدامهم أول من الطواف بالبيت ثم لا يحلون ، وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان ، وقد أخبرتني أمي أنها أقبلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة قط ، فلما مسحوا الركن حلوا ، وقد كذب فيما ذكر من ذلك . انتهى من صحيح مسلم ، وفيه التصريح من عروة بن الزبير رضي الله عنهما بأن الخلفاء الراشدين والمهاجرين والأنصار كانت عادتهم أن يأتوا مفردين بالحج ، ثم يتمونه كما رأيت .

وقال النووي في شرح الحديث المذكور : وقوله : " ثم لم يكن غيره " ، وكذا قال فيما بعده : ولم يكن غيره ، هكذا هو في جميع النسخ ( غيره ) بالغين المعجمة والياء ، قال القاضي عياض : كذا هو في جميع النسخ ، قال : وهو تصحيف وصوابه : ثم لم تكن عمرة . بضم العين المهملة وبالميم ، وكان السائل لعروة إنما سأله عن فسخ الحج إلى العمرة على مذهب من رأى ذلك ، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك في حجة الوداع ، فأعلمه عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بنفسه ، ولا من جاء بعده . هذا كلام القاضي .

قلت : هذا الذي قاله من أن قول ( غيره ) تصحيف ، ليس كما قال ، بل هو صحيح في الرواية وصحيح في المعنى ; لأن قوله ( غيره ) يتناول العمرة وغيرها .

ويكون تقدير الكلام : ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن غيره ؛ أي : لم يغير الحج ، ولم ينقله ويفسخه إلى غيره ؛ لا عمرة ولا قران ، والله أعلم . انتهى كلام النووي ، وهو صواب .

وقال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي : أنه سأل عروة بن الزبير ، فقال : قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ، ثم طاف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ، ثم حج أبو بكر رضي الله عنه ، فكان أول [ ص: 352 ] شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ، ثم عمر رضي الله عنه مثل ذلك ، ثم حج عثمان رضي الله عنه ، فرأيته أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ، ثم معاوية وعبد الله بن عمر ، ثم حججت مع أبي - الزبير بن العوام - فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ، ثم لم تكن عمرة ، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ، ثم لم تكن عمرة ، ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ، ثم لم ينقضها عمرة ، وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه ، ولا أحد ممن مضى ما كانوا يبدءون بشيء حتى يضعوا أقدامهم من الطواف بالبيت ، ثم لا يحلون . وقد رأيت أمي وخالتي حين تقدمان لا تبتدئان بشيء أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان ، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة ، فلما مسحوا الركن حلوا . انتهى منه .

وقال البخاري رحمه الله في صحيحه أيضا : حدثنا أصبغ ، عن ابن وهب ، أخبرني عمرو ، عن محمد بن عبد الرحمن ، ذكرت لعروة قال : فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أن أول شيء بدأ به حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ، ثم طاف ، ثم لم تكن عمرة ، ثم حج أبو بكر وعمر رضي الله عنهما مثله ، ثم حججت مع أبي - الزبير رضي الله عنه - فأول شيء بدأ به الطواف ، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه ، وقد أخبرتني أمي أنها أهلت هي وأختها والزبير وفلان وفلان بعمرة ، فلما مسحوا الركن حلوا . انتهى منه .

قالوا : وجواب ابن عباس رضي الله عنهما عن حديث عروة المذكور لا يدفع احتجاج عروة بما ذكر ، وكذلك جواب ابن حزم ، وقد أجاب عروة ابن عباس فأسكته .

أما جواب ابن عباس الذي ذكروه ، فهو ما رواه الأعمش ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عروة : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس : أراكم ستهلكون ، أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول قال أبو بكر وعمر . وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر ، عن أيوب قال : قال عروة لابن عباس : ألا تتقي الله ، ترخص في المتعة ، فقال ابن عباس : سل أمك يا عرية ، فقال عروة : أما أبو بكر وعمر فلم يفعلا . فقال ابن عباس : والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله ، أحدثكم عن رسول الله ، وتحدثوننا عن أبي بكر وعمر ، فقال عروة : لهما أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبع لها منك . اهـ . قالوا : فترى عروة أجاب ابن عباس بجواب أسكته به .

ولا شك أن الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كانوا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتبع لها ، لا يمكن ابن عباس أن ينكر ذلك .

[ ص: 353 ] وأما جواب ابن حزم فهو قوله : إن ابن عباس أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر من عروة ، وأنه - يعني ابن عباس - خير من عروة وأولى منه بالنبي والخلفاء الراشدين ، ثم ساق آثارا من طريق البزار وغيره عن ابن عباس ، يذكر فيها التمتع ، عن أبي بكر وعمر ، وأن أول من نهى عنه معاوية ، ولا يخفى سقوط كلام ابن حزم المذكور رده على عروة بن الزبير رضي الله عنهما . أما قوله : إن ابن عباس أعلم من عروة وأفضل ، فلا يرد رواية عروة بسند صحيح عن الخلفاء الراشدين أنهم كانوا يفردون كما ثبت في صحيح مسلم . وابن عباس لم يعارض عروة بأن فعلهما كان مخالفا لما ذكره عروة من الإفراد ، وإنما احتج بأن أمر النبي أولى بالاتباع من أمرهما ، وقد أجابه عروة بأنهما ما فعلا إلا ما علما من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكمل وأتبع لسنته صلى الله عليه وسلم ، وأما الآثار التي رواها من طريق ليث وغيره فلا يخفى أنها لا تعد شيئا مع ما ثبت في الصحيحين عنهم من الروايات التي لا مطعن فيها أنهم كانوا يفضلون الإفراد .

ومن فهم كلامهم حق الفهم - أعني الخلفاء الراشدين - علم أنهم رضي الله عنهم يعلمون جواز التمتع والقران علما لا يخالجه شك ، ولكنهم يرون أنه أتم للحج والعمرة أن يفصل بينهما كما لا يخفى ، والمعنى غير خاف ، بل هو ظاهر من سياق السؤال والجواب لمن تأمل ذلك ، ومما يدل على صحة ما ذكره عروة بن الزبير في حديث مسلم المذكور من أن الخلفاء كانوا يفردون ما ثبت في الصحيحين من نحو ذلك ، عن عمر وعثمان رضي الله عنهما .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى رضي الله عنه قال : بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوم باليمن ، فجئت وهو بالبطحاء ، فقال : بما أهللت ؟ قلت : أهللت كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : هل معك من هدي ؟ قلت : لا ، فأمرني فطفت بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم أمرني فأحللت فأتيت امرأة من قومي فمشطتني - أو : غسلت رأسي - فقدم عمر رضي الله عنه فقال : إن نأخذ بكتاب الله ، فإنه يأمر بالتمام ، قال الله : وأتموا الحج والعمرة [ 2 \ 196 ] وإن نأخذ بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لم يحل حتى نحر الهدي . انتهى منه ، ونحوه أخرجه مسلم أيضا .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 10:32 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (324)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 354 إلى صـ 360

وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور : محصل جواب عمر في منعه الناس من التحلل بالعمرة ، أن كتاب الله دال على منع التحلل لأمره بالإتمام ، [ ص: 354 ] فيقتضي استمرار الإحرام إلى فراغ الحج ، وأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا دالة على ذلك ; لأنه لم يحل حتى بلغ الهدي محله ، لكن الجواب عن ذلك هو ما أجاب به هو صلى الله عليه وسلم حيث قال : " ولولا أن معي الهدي لأحللت " فدل على جواز الإحلال لمن لم يكن معه هدي ، وتبين من مجموع ما جاء عن عمر أنه منع منه سدا للذريعة ، وقال المازري : قيل إن المتعة التي نهى عنها عمر فسخ الحج إلى العمرة ، وقيل : العمرة في أشهر الحج ، ثم الحج من عامه . وعلى الثاني : إنما نهى عنها ترغيبا في الإفراد الذي هو أفضل ، لا أنه يعتقد بطلانها وتحريمها . وقال عياض : الظاهر أنه نهى عن الفسخ ، ولهذا كان يضرب الناس عليه ، كما رواه مسلم بناء على معتقده : أن الفسخ كان خاصا بتلك السنة .

قال النووي : والمختار أنه نهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ، ثم الحج من عامه ، وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد ، كما يظهر من كلامه ، ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة ، وبقي الاختلاف في الأفضل . انتهى الغرض من كلام ابن حجر في الفتح ، وهو واضح في أن عمر رضي الله عنه ما كان يرى إلا تفضيل الإفراد على غيره ، وشاهد لصحة قول من قال : إنه حج بالناس عشر حجج مفردا ، وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى ، وابن بشار ، قال ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة قال : سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة قال : كان ابن عباس يأمر بالمتعة ، وكان ابن الزبير ينهى عنها ، قال : فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال : على يدي دار الحديث : تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال : إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء ، وإن القرآن قد نزل منازله ، فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله ، وأبتوا نكاح هذه النساء ، فإن أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة . وحدثنيه زهير بن حرب ، حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة بهذا الإسناد وقال في الحديث : فافصلوا حجكم من عمرتكم ، فإنه أتم لحجكم ، وأتم لعمرتكم . اهـ منه .

وهو دليل على ما ذكرنا من أن عمر رضي الله عنه يرى أن الإفراد أفضل ، ويدل على صدق من قال : إنه حج عشر حجج بالناس مفردا كما تقدم .

وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن علي بن حسين ، عن مروان بن الحكم قال : شهدت عثمان وعليا رضي الله عنهما ، وعثمان ينهى عن المتعة ، وأن يجمع بينهما ، الحديث . وفيه [ ص: 355 ] التصريح بأن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يرى أفضلية الإفراد على غيره لنهيه عن التمتع والقران الثابت في الصحيح كما رأيت .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قال ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة قال : قال عبد الله بن شقيق : كان عثمان ينهى عن المتعة ، وكان علي يأمر بها ، الحديث . وفيه التصريح بنهي عثمان رضي الله عنه ، عن التمتع ، وبما ذكرنا كله تعلم أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كلهم كانوا يرون الإفراد أفضل ، وكان هو الذي يفعلونه كما رأيت الروايات الصحيحة بذلك ، وهو المعروف عنهم رضي الله عنهم فما ورد مما يخالف ذلك فهو مردود بما رأيت .
تنبيه

فإن قيل : هؤلاء الذين يفضلون الإفراد ، كمالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وكأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ومن ذكرنا سابقا ممن يقول بأفضلية الإفراد على غيره من أنواع النسك بأي جواب يجيبون عن الأحاديث الصحيحة الواردة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه كان متمتعا والأحاديث الصحيحة الواردة بأنه أمر كل من لم يسق هديا من أصحابه ، بأن يتحلل من إحرامه بعمرة ، فالذين أحرموا بالإفراد أمرهم بفسخ الحج في عمرة ، والتحلل التام من تلك العمرة ، وتأسف هو صلى الله عليه وسلم على أنه ساق الهدي الذي صار سببا لمنعه من التحلل بعمرة ، وقال " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " مع أنه صلى الله عليه وسلم لا يتأسف على فوات العمرة ، إلا وهي أفضل من غيرها ، والقران الذي اختاره الله له لا يكون غيره أفضل منه ، لأن الله لا يختار لنبيه في نسكه إلا ما هو الأفضل .

فالجواب : أن المالكية والشافعية يقولون : إن التمتع الذي أمر به صلى الله عليه وسلم من كان مفردا وذلك بفسخ الحج في العمرة ، لا شك أنه في ذلك الوقت وفي تلك السنة أفضل من غيره ، ولكن لا يلزم من أفضليته في ذلك الوقت أن يكون أفضل فيما سواه .

وإيضاح ذلك : أنه دلت أدلة سيأتي قريبا تفصيلها إن شاء الله ، على أن تحتم فسخ الحج المذكور في العمرة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه به خاص بذلك الركب وبتلك السنة ، وأنه ما أمر بذلك لأفضلية ذلك في حد ذاته ، ولكن لحكمة أخرى خارجة عن ذاته ؛ وهي أن يبين للناس أن العمرة في أشهر الحج جائزة ، وما فعله صلى الله عليه وسلم أو أمر به للبيان والتشريع ، [ ص: 356 ] فهو قربة في حقه ، وإن كان مكروها أو مفضولا ، فقد يكون الفعل بالنظر إلى ذاته مفضولا أو مكروها ، ويفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يأمر به لبيان الجواز ، فيصير قربة في حقه ، وأفضل مما هو دونه بالنظر إلى ذاته كما هو مقرر في الأصول ، وإليه أشار صاحب مراقي السعود بقوله :



وربما يفعل للمكروه مبينا أنه للتنزيه فصار في جانبه من القرب
كالنهي أن يشرب من فم القرب

وقال في نشر البنود في شرحه للبيتين المذكورين : يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل المكروه المنهي عنه ، مبينا بذلك الفعل أن النهي للتنزيه لا للتحريم ، فصار ذلك الفعل في حقه قربة يثاب عليها لما فيه من البيان ، كنهيه عن الشرب من أفواه القرب ، وقد شرب منها . انتهى منه .

وليس قصدنا أن التمتع والقران مكروهان ، بل لا كراهة في واحد منهما يقينا ، ولكن المقصود بيان أن الفعل الذي فعله صلى الله عليه وسلم لبيان الجواز ، يكون بهذا الاعتبار أفضل من غيره ، وإن كان غيره أفضل منه ، بالنظر إلى ذاته ، وهذه هي الأدلة الدالة على أنه فعل ذلك لبيان الجواز ، ولذلك يختص بذلك الركب وتلك السنة .

الأول منها : حديث ابن عباس المتفق عليه ، الذي قدمناه قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، ويجعلون المحرم صفرا ، ويقولون : إذا برئ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم ، فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ قال " الحل كله " قالوا : فقوله في هذا الحديث المتفق عليه : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، وترتيبه بالفاء على ذلك قوله : فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، ظاهر كل الظهور في أن السبب الحامل له صلى الله عليه وسلم على أمرهم أن يجعلوا حجهم عمرة ، هو أن يزيل من نفوسهم بذلك اعتقادهم أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، فالفسخ لبيان الجواز كما دل عليه هذا الحديث المتفق عليه ، لا لأن الفسخ في حد ذاته أفضل ، وقد تقرر في مسلك النص ومسلك الإيماء والتنبيه أن الفاء من حروف التعليل ، كما قدمناه مرارا ، قالوا : فقول من زعم أن قوله في الحديث المذكور كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور ، لا ارتباط بينه وبين قوله : فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، ظاهر السقوط كما ترى ؛ لأنه لو لم يقصد به ذلك ، لكان ذكره قليل الفائدة .

[ ص: 357 ] ومما يدل على ذلك ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا هناد بن السري ، عن ابن أبي زائدة ، ثنا ابن جرير ، ومحمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، فإن هذا الحي من قريش ، ومن دان دينهم ، كانوا يقولون : إذا عفا الوبر وبرأ الدبر ودخل صفر ، فقد حلت العمرة لمن اعتمر . فكانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم . اهـ .

وقد بين الحافظ البيهقي رحمه الله تعالى في السنن الكبرى أن حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور ، دال على ذلك ، ولا ينافي ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما يرى فسخ الحج في العمرة لازما ؛ لأنه لا مانع من أن يكون يعلم أن الفسخ لبيان الجواز المذكور ، كما دل عليه حديثه ، وهو يرى بقاء حكمه ، ولو كان سببه الأول بيان الجواز ، ولكن غيره من الخلفاء الراشدين وغيرهم من المهاجرين والأنصار خالفوه في رأيه ذلك .

الدليل الثاني من أدلتهم على أن فسخ الحج في العمرة المذكور لبيان الجواز ، وأنه خاص بذلك الركب وتلك السنة ، هو ما جاء من الأحاديث دالا على ذلك ، قال أبو داود في سننه : حدثنا النفيلي ، ثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - أخبرني ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال بن الحارث ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أو لمن بعدنا ؟ قال : " بل لكم خاصة " . اهـ .

وقال النسائي في سننه : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم ، قال : أنبأنا عبد العزيز ، وهو الدراوردي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : " بل لنا خاصة " . اهـ .

وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا أبو مصعب ، ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن الحارث بن بلال بن الحارث ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أرأيت فسخ الحج في العمرة لنا خاصة أم للناس عامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل لنا خاصة " .

وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : وحدثنا سعيد بن منصور ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو كريب قالوا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة .

[ ص: 358 ] وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن عياش العامري ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كانت لنا رخصة . يعني المتعة في الحج . وحدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جرير ، عن فضيل ، عن زبيد ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه قال : قال أبو ذر رضي الله عنه : لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ، يعني متعة النساء ومتعة الحج ، حدثنا قتيبة ، حدثنا جرير ، عن بيان ، عن عبد الرحمن بن أبي الشعثاء ، قال : أتيت إبراهيم النخعي ، وإبراهيم التيمي فقلت : إني أهم أن أجمع العمرة والحج العام ، فقال إبراهيم النخعي : لكن أبوك لم يكن ليهم بذلك ، قال قتيبة : حدثنا جرير ، عن بيان ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه أنه مر بأبي ذر رضي الله عنه بالربذة فذكر ذلك له فقال : إنما كانت لنا خاصة دونكم . وقال البيهقي وغيره من الأئمة : مراد أبي ذر بالمتعة المذكورة المتعة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أصحابه رضي الله عنهم وهي فسخ الحج في العمرة . واستدلوا على أن الفسخ المذكور هو مراد أبي ذر رضي الله عنه بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا هناد ، يعني ابن السري ، عن ابن أبي زائدة ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن سلم بن الأسود أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة : لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالوا : فهذه الرواية التي في سنن أبي داود فيها التصريح من أبي ذر رضي الله عنه بفسخ الحج في العمرة وهي تفسر مراده بالمتعة في رواية مسلم ، وضعفت رواية أبي داود هذه ، بأن ابن إسحاق المذكور فيها مدلس . وقد قال : عن عبد الرحمن بن الأسود . وعنعنة المدلس لا تقبل عند أهل الحديث ، حتى يصح السماع من طريق أخرى . ويجاب عن تضعيف هذه الرواية من جهتين :

الأولى : أن مشهور مذهب مالك ، وأحمد ، وأبي حنيفة رحمهم الله صحة الاحتجاج بالمرسل ، ومعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى ، كما قدمناه مرارا .

والثانية : أن المقصود من رواية أبي داود المذكورة بيان المراد برواية مسلم ، والبيان يقع بكل ما يزيل الإبهام ولو قرينة أو غيرها ، كما هو مقرر في الأصول . وقد قدمناه مرارا أيضا .

وما ذكره عن أبي ذر من الخصوصية المذكورة قاله عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ورد المخالفون الاستدلال بالحديثين المذكورين من جهتين :

[ ص: 359 ] الأولى منهما : تضعيف الحديثين المذكورين ، قالوا : حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه المذكور عند أبي داود والنسائي وابن ماجه فيه ابنه الحارث بن بلال ، وهو مجهول ، قالوا : وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله في حديث بلال المذكور : هذا الحديث لا يثبت عندي ، ولا أقول به ، قال : وقد روى فسخ الحج في العمرة أحد عشر صحابيا ، أين يقع الحارث بن بلال منهم ؟ قالوا : وحديث أبي ذر عند مسلم موقوف عليه ، وليس بمرفوع ، وإذا كان الأول في سنده مجهول ، والثاني موقوفا ، تبين عدم صلاحيتهما للاحتجاج .

الجهة الثانية من جهتي رد الحديثين المذكورين : هي أنهما معارضان بأقوى منهما ، وهو حديث جابر المتفق عليه : أن سراقة بن مالك بن جعشم ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال في تمتعهم المذكور : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم للأبد ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بل للأبد " وفي رواية في الصحيح : فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى ، وقال : " دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد " ورد المانعون تضعيف الحديثين المذكورين ، قالوا : حديث بلال المذكور سكت عليه أبو داود ، ومعلوم من عادته أنه لا يسكت إلا عن حديث صالح للاحتجاج ، قالوا : ولم يثبت في الحارث بن بلال جرح . وقد قال ابن حجر في التقريب فيه : هو مقبول ، قالوا : واعتضد حديثه بما رواه مسلم عن أبي ذر ، كما رأيته آنفا قالوا : إن قلنا إن الخصوصية التي ذكرها أبو ذر بذلك الركب مما لا مجال للرأي فيه ، فهو حديث صحيح له حكم الرفع ، وقائله اطلع على زيادة علم خفيت على غيره ، وإن قلنا إنه مما للرأي فيه مجال ، كما يدل عليه كلام عمران بن حصين الآتي ، وحكمنا بأنه موقوف على أبي ذر ، فصدق لهجة أبي ذر المعروف وتقاه ، وبعده من الكذب ، يدلنا على أنه ما جزم بالخصوصية المذكورة إلا وهو عارف صحة ذلك ، وقد تابعه في ذلك عثمان رضي الله عنه ، قالوا : ويعتضد حديث الحارث بن بلال المذكور أيضا بمواظبة الخلفاء الراشدين في زمن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان على الإفراد ، ولو لم يعلموا أن فسخ الحج في العمرة خاص بذلك الركب لما عدلوا عنه إلى غيره ، لما هو معلوم من تقاهم وورعهم ، وحرصهم على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، فمواظبتهم على إفراد الحج نحو أربع وعشرين سنة يقوي حديث الحارث بن بلال المذكور . وقد رأيت الرواية عنهم بذلك في صحيح البخاري ومسلم ، وكذلك غيرهم من المهاجرين والأنصار ، كما أوضحه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في حديثه المتقدم عند مسلم . قالوا : ورد حديث الحارث بن بلال بأنه مخالف [ ص: 360 ] لحديث جابر المتفق عليه في سؤال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي النبي صلى الله عليه وسلم ، وإجابته له بقوله : بل للأبد - لا يستقيم ; لأنه لا معارضة بين الحديثين لإمكان الجمع بينهما ، والمقرر في علم الأصول وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا ، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى ; لأنهما صادقان ، وليسا بمتعارضين ، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن ؛ لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما كما لا يخفى ، ووجه الجمع بين الحديثين المذكورين : أن حديث بلال بن الحارث المزني ، وأبي ذر رضي الله عنهما محمولان على أن معنى الخصوصية المذكورة : التحتم والوجوب ، فتحتم فسخ الحج في العمرة ووجوبه ، خاص بذلك الركب ، لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بذلك ، ولا ينافي ذلك بقاء جوازه ومشروعيته إلى أبد الأبد . وقوله في حديث جابر : بل للأبد ، محمول على الجواز وبقاء المشروعية إلى الأبد . فاتفق الحديثان .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا صوابه في حديث : " بل للأبد " وحديث الخصوصية بذلك الركب المذكورين ، هو ما اختاره العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ؛ وهو الجمع المذكور بين الأحاديث بحمل الخصوصية المذكورة على الوجوب والتحتم ، وحمل التأبيد المذكور على المشروعية والجواز أو السنة ، ولا شك أن هذا هو مقتضى الصناعة الأصولية والمصطلحية ، كما لا يخفى .

واعلم : أن الشافعية والمالكية ، ومن وافقهم يقولون : إن قوله صلى الله عليه وسلم " بل للأبد " لا يراد به فسخ الحج في العمرة ، بل يراد به جواز العمرة في أشهر الحج ، وقال بعضهم : المراد به دخول أفعالها في أفعال الحج في حالة القران .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا المعنى الذي حملت عليه المالكية والشافعية قول النبي لسراقة : " بل للأبد " ليس هو معناه ، بل معناه : بقاء مشروعية فسخ الحج في العمرة ، وبعض روايات الحديث ظاهرة في ذلك ظهورا بينا لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، بل صريح في ذلك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 10:35 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (325)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 361 إلى صـ 367


وسنمثل هنا لبعض تلك الروايات فنقول : ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه ما لفظه : فقال صلى الله عليه وسلم : " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل ، وليجعلها عمرة . " فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه [ ص: 361 ] واحدة في الأخرى وقال : " دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد " . انتهى المراد منه . وهو صريح في أن سؤال سراقة عن الفسخ المذكور وجواب النبي له يدل على تأبيد مشروعيته كما ترى ؛ لأن الجواب مطابق للسؤال ، فقول المالكية والشافعية ومن وافقهم بأن الفسخ ممنوع لغير أهل حجة الوداع ، لا يستقيم مع هذا الحديث الصحيح المصرح بخلافه كما ترى .

ودعواهم أن المراد بقوله : " بل لأبد أبد " جواز العمرة في أشهر الحج ، أو اندراج أعمالها فيه في حال القران - بعيد من ظاهر اللفظ المذكور كما ترى ، وأبعد من ذلك دعوى من ادعى أن المعنى : أن العمرة اندرجت في الحج ؛ أي اندرج وجوبها في وجوبه ، فلا تجب العمرة ؛ وإنما تجب على المكلف حجة الإسلام دون العمرة ، وبعد هذا القول وظهور سقوطه كما ترى .

والصواب إن شاء الله : هو ما ذكرنا من الجمع بين الأدلة ، ووجهه ظاهر لا إشكال فيه .

وقال النووي في شرح المهذب في الجواب عن قول الإمام أحمد : أين يقع الحارث بن بلال من أحد عشر صحابيا رووا الفسخ عنه صلى الله عليه وسلم ، ما نصه : قلت : لا معارضة بينهم وبينه حتى يقدموا عليه ؛ لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ، ولم يذكروا حكم غيرهم ، وقد وافقهم الحارث في إثبات الفسخ للصحابة ، ولكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص الفسخ بهم . اهـ .

وإذا عرفت مما ذكرنا أدلة الذين ذهبوا إلى تفضيل الإفراد على غيره من أنواع النسك ، وعلمت أن جوابهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أنه لإزالة ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، وأن الفعل المفعول لبيان الجواز ، قد يكون أفضل بذلك الاعتبار من غيره ، وإن كان غيره أفضل منه بالنظر إلى ذاته .

فاعلم أنهم ادعوا الجمع بين الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، والأحاديث الصحيحة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا ، وكلها ثابتة في الصحيحين وغيرهما في حجة الوداع مع الأحاديث المصرحة بأنه كان مفردا التي هي معتمدهم في تفضيل الإفراد بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا مفردا ، ثم بعد ذلك أدخل العمرة على الحج ، فصار قارنا ، فأحاديث الإفراد يراد بها عندهم أنه هو الذي أحرم به أول إحرامه ، وأحاديث القران [ ص: 362 ] عندهم حق ، إلا أنه عندهم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا ، وصيرورته قارنا في آخر الأمر هي معنى أحاديث القران ، فلا منافاة . أما الأحاديث الدالة على أنه كان متمتعا فلا إشكال فيها ; لأن السلف يطلقون اسم التمتع على القران من حيث إن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج ، وكذلك أمره لأصحابه بالتمتع وتمنيه له ، وتأسفه على فواته بسبب سوق الهدي في قوله : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة " كفعله له . قالوا : وبهذا تتفق الأحاديث ، ويكون التمتع المذكور بفسخ الحج في العمرة لبيان الجواز ، وهو بهذا الاعتبار أفضل من غيره ، فلا ينافي أن الإفراد أفضل منه بالنظر إلى ذاته ، كما سار عليه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، قالوا : ولما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أسفوا ، لأنهم أحلوا وهو باق على إحرامه ، فأدخل العمرة على الحج لتطيب نفوسهم ، بأنه صار معتمرا مع حجه لما أمرهم بالعمرة ، والمانع له من أن يحل كما أحلوا هو سوق الهدي ، قالوا فعمرتهم لبيان الجواز ، وعمرته التي بها صار قارنا لمواساتهم لما شق عليهم أنه خالفهم ، فصار تمتعهم وقرانه بهذا الاعتبار أولى من غيرهما ، ولا يلزم من ذلك أفضليتهما في كل الأحوال ، بعد زوال الموجب الحامل على ذلك .

قالوا : وهذا هو الذي لاحظه الخلفاء الراشدون : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان رضي الله عنهم ، فواظبوا على الإفراد نحو أربع وعشرين سنة ، كلهم يأخذ بسنة الخليفة الذي قبله في ذلك .

قالوا : وما قاله جماعة من أجلاء العلماء ، من أن بيان جواز العمرة في أشهر الحج عام حجة الوداع - لا داعي له ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك بيانا متكررا في سنين متعددة : وذلك لأنه اعتمر عمرة الحديبية عام ست ، وعمرة القضاء عام سبع ، وعمرة الجعرانة عام ثمان ، وكل هذه العمر الثلاث في ذي القعدة من أشهر الحج .

قالوا : وهذا البيان المتكرر سنة بعد سنة كاف غاية الكفاية ، فلا حاجة إلى بيان ذلك بأمر الصحابة بفسخ الحج في العمرة . وكذلك قوله : " ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل " المتقدم في حديث عائشة .

وإذا كان بيان ذلك لا حاجة إليه ، تعين أن الأمر بالفسخ المذكور لأفضلية التمتع على غيره لا بشيء آخر - لا شك في أنه ليس بصحيح ، وأن بيان ذلك محتاج إليه غاية الاحتياج في حجة الوداع ، ولشدة الاحتياج إلى ذلك البيان أمرهم صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة ، والدليل على ذلك هو ما ثبت في حديث ابن عباس المتفق عليه ، وقد ذكرناه في أول هذا المبحث .

[ ص: 363 ] قال : كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، الحديث . وفيه : فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله ؛ أي الحل ؟ قال " الحل كله " : وفي البخاري قال " حله كله " فقول ابن عباس في هذا الحديث الصحيح : فتعاظم ذلك عندهم ، دليل على أنه في ذلك الوقت لم يزل عظيما عندهم . ولو كانت العمر الثلاث المذكورة أزالت من نفوسهم ذلك إزالة كلية ، لما تعاظم الأمر عندهم ، فتعاظم ذلك الأمر عندهم المصرح به في حديث متفق عليه ، بعد صبح رابعة من ذي الحجة عام عشر - دليل على أن العمرة عام ست وعام سبع وعام ثمان ما أزالت ما كان في نفوسهم لشدة استحكامه فيها . وكذلك إذنه لمن شاء أن يهل بعمرة ، السابق في حديث عائشة . والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مودع حريص على إتمام البيان ، وحجة الوداع اجتمع فيها جمع من المسلمين لم يجتمع مثله في موطن من المواطن في حياته صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على الحديث المذكور : فتعاظم عندهم ؛ أي : لما كانوا يعتقدونه أولا ، وفي رواية إبراهيم بن الحجاج : فكبر ذلك عندهم . انتهى منه .

قالوا : ولشدة عظمه عندهم ، لم يمتثلوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفسخ الحج في العمرة أولا ، حتى غضب عليهم بسبب ذلك . وبذلك كله يتضح لك أن ما كان مستحكما في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، لم يزل بالكلية إلى صبح رابعة ذي الحجة سنة عشر .

قالوا : وبه تعلم أن بيان جواز ذلك في حجة الوداع بعمل كل الصحابة الذين لم يسوقوا هديا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم واعتماره هو مع حجته - أعني قرانه بينهما - أمر محتاج إليه جدا للبيان المذكور .

ومما يدل من الأحاديث الصحيحة على أن ما كان في نفوسهم من ذلك لم يزل بالكلية : ما ثبت في الصحيح من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ : " وأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه أن يجعلوها عمرة : يطوفوا بالبيت ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي ، فقالوا : ننطلق إلى منى ، وذكر أحدنا يقطر ؟ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت " الحديث . هذا لفظ البخاري رحمه الله ، فقولهم في هذا الحديث الصحيح بعد أن أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يحلوا : ننطلق إلى [ ص: 364 ] منى ، وذكر أحدنا يقطر ؟ يدل على شدة نفرتهم من الإحلال بعمرة في زمن الحج كما ترى . وذلك يؤكد الاحتياج إلى تأكيد بيان الجواز . وهذا الحديث الصحيح يدفع الاحتمال الذي في حديث ابن عباس المتقدم ؛ لأن قوله " فتعاظم ذلك عندهم " يحتمل أن يكون موجب التعاظم أنهم كانوا أولا محرمين بحج ، ويدل لهذا الاحتمال حديث جابر الثابت في الصحيح أنه حج مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ساق البدن معه ، وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم : " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت " ، الحديث . وفيه : فقالوا : كيف نجعلها متعة ، وقد سمينا الحج ؟ إلى آخر الحديث ، فهذا الحديث يدل على أنهم إنما صعب عليهم الإحلال بالعمرة ; لأنهم قد سموا الحج ، لا لأن ما كان في نفوسهم من أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ، لم يزل باقيا إلى ذلك الوقت ; لأن حديث جابر المذكور - أعني قوله : فقالوا ننطلق إلى منى وذكر أحدنا يقطر - لا يحتمل هذا الاحتمال ، بل معناه : أن تعاظم الإحلال بعمرة عندهم ، لأنه في وقت الحج كما بينا ، وهو يدل على أن ذلك هو المراد من هذا الحديث الأخير ، وأنه ليس المراد الاحتمال المذكور ، كما جزم به ابن حجر في الفتح في كلامه على الحديث الذي ذكرناه عنه آنفا .

ويبين أيضا أن ذلك هو معنى حديث جابر عند مسلم ؛ حيث قال رحمه الله في صحيحه : حدثنا ابن نمير ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج ، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة ، فكبر ذلك علينا ، وضاقت به صدورنا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فما ندري أشيء بلغه من السماء ، أم شيء من قبل الناس ؟ فقال " أيها الناس أحلوا فلولا أن معي الهدي فعلت كما فعلتم " ، الحديث .

فقول جابر رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح : فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا ، يدل على أن ما كان في نفوسهم من كراهة العمرة في أشهر الحج لم يزل ، ولولا ذلك لما كبر عليهم ، ولا ضاقت صدورهم بالإحلال بعمرة في أشهر الحج ، كما أوضحه حديثه المذكور أيضا . وعلى هذا الذي ذكروه ، فالذي استدبره من أمره ، ولو استقبله لم يسق الهدي : هو ملاحظة البيان المذكور ، وإن كان قد بين ذلك سابقا لاحتياجه إلى تأكيد البيان في مثل ذلك الجمع ، وهو مودع ، ولا ينافي ذلك أنه أمر القارنين بالفسخ المذكور مع أن العمرة المقرونة مع الحج فيها البيان المذكور ; لأن العمرة المفردة عن الحج أبلغ في البيان ; لأنها ليست مع الحج ، فهي مستقلة عنه ، فلا يحتمل أنها إنما جازت تبعا له . وقد [ ص: 365 ] أوضحنا في هذا الكلام حجة من قال من أهل العلم بتفضيل الإفراد على غيره ، من أنواع النسك ، وجوابهم عما جاء من الأحاديث دالا على أفضلية القران أو التمتع ، ووجه جمعهم بين الأحاديث الصحيحة التي ظاهرها الاختلاف في حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
المسألة الرابعة

ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن القران هو أفضل أنواع النسك ، وممن قال بهذا أبو حنيفة ، وأصحابه ، وسفيان الثوري ، وإسحاق بن راهويه ، والمزني ، وابن المنذر ، وأبو إسحاق المروزي ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب ، واحتج أهل هذا القول بأحاديث كثيرة ، دالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا في حجته .

منها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج " الحديث ، أخرجاه بهذا اللفظ .

ومنها : ما أخرجه الشيخان متصلا بحديث ابن عمر هذا من طريق عروة بن الزبير ، عن عائشة : أنها أخبرته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث ابن عمر المذكور سواء .

ومنها : ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما من حديث قتيبة ، عن الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر " أنه قرن الحج إلى العمرة ، وطاف لهما طوافا واحدا " ثم قال : هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومنها : ما رواه الشيخان ، عن عمران بن حصين الخزاعي رضي الله عنهما ، قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، قال رجل برأيه ما شاء . الحديث ، هكذا لفظ مسلم في صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث ، ولفظ البخاري قريب منه بمعناه في التفسير ، وفي الحج . ومراد عمران بن حصين رضي الله عنهما بالتمتع المذكور : القران ، بدليل الروايات الصحيحة الثابتة في صحيح مسلم وغيره المصرحة بذلك .

قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : وحدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن حميد بن هلال ، عن مطرف قال : قال لي عمران بن حصين : [ ص: 366 ] أحدثك حديثا عسى الله أن ينفعك به : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة ، ثم لم ينه عنه حتى مات ، ولم ينزل فيه قرآن يحرمه ، وقد كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت ، ثم تركت الكي فعاد .

حدثناه محمد بن المثنى وابن بشار ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن حميد بن هلال ، قال : سمعت مطرفا قال : قال لي عمران بن حصين بمثل حديث معاذ .

وحدثنا محمد بن المثنى وابن بشار . قال ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن مطرف : قال : بعث إلي عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه ، فقال : إني كنت محدثك بأحاديث لعل الله أن ينفعك بها بعدي ، فإن عشت فاكتم عني ، وإن مت فحدث بها إن شئت : إنه قد سلم علي ، واعلم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حج وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب الله ، ولم ينه عنها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، قال رجل برأيه ما شاء .

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة ، ثم لم ينزل فيها كتاب ، ولم ينهنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فيها رجل برأيه ما شاء . انتهى منه .

وهذه الروايات تبين أن مراده بالتمتع : القران ، ومعروف عن الصحابة رضي الله عنهم ، أنهم يطلقون اسم التمتع على القران ; لأن فيه عمرة في أشهر الحج مع الحج .

ومنها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين حج وعمرة " ففي بعض روايات حديثه ، قال : " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به على البيداء حمد الله وسبح وكبر ، ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما " الحديث ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، وقد قدمنا بعض ألفاظ مسلم في حديث أنس في القران ، ومخالفة ابن عمر له في ذلك ، قائلا : إنه أفرد ، وفي بعض روايات حديث أنس عند مسلم عن يحيى بن أبي إسحاق ، وعبد العزيز بن صهيب ، وحميد ، أنهم سمعوا أنسا رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهل بهما جميعا : " لبيك عمرة وحجا ، لبيك عمرة وحجا " وقد روى عن أنس رضي الله عنه حديث قران النبي هذا ستة عشر رجلا ، كما بينه العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ، وهم الحسن البصري وأبو قلابة ، وحميد بن هلال ، وحميد بن عبد الرحمن الطويل ، وقتادة ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وثابت [ ص: 367 ] البناني ، وبكر بن عبد الله المزني ، وعبد العزيز بن صهيب ، وسليمان التيمي ، ويحيى بن أبي إسحاق ، وزيد بن أسلم ، ومصعب بن سليم ، وأبو أسماء وأبو قدامة عاصم بن حسين ، وأبو قزعة ، وهو سويد بن حجر الباهلي .

ومنها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها وعن أبيها ، قالت : يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا بعمرة ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " . انتهى منهما بلفظه . وهذه العمرة المذكورة في هذا الحديث المتفق عليه عمرة مقرونة مع الحج بلا شك في ذلك ، كما جزم به النووي في شرح مسلم .

ومنها : ما رواه البخاري في صحيحه ، عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق ، يقول : " أتاني الليلة آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك ، وقل : عمرة في حجة " . اهـ . وقوله في هذا الحديث وقل عمرة في حجة ، يدل على القران ، والمحتملات الأخر التي حمله عليها بعض المالكية والشافعية وغيرهم لا تظهر كل الظهور . بل معناه القران كما ذكرنا وجزم به غير واحد ، والله تعالى أعلم ، والأحاديث بمثل ما ذكرنا كثيرة .

وقد ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد منها بضعة وعشرين حديثا ، عن سبعة عشر صحابيا ، وهم جابر ، وعائشة ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس وعمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعمران بن حصين ، والبراء بن عازب ، وحفصة أم المؤمنين ، وأبو قتادة ، وابن أبي أوفى وأبو طلحة ، والهرماس بن زياد ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وسعد بن أبي وقاص ، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا ، وعده لعثمان رضي الله عنه في جملة من روى القران ، مع ما ثبت عنه من النهي عنه ، يعني به تقريره لعلي رضي الله عنه على القران .

وبالجملة : فثبوت كون النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا طرفا منها - لا مطعن فيه ، وقد قدمنا أن القائلين بأفضلية الإفراد معترفون بقرانه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، إلا أنهم جمعوا بين الأحاديث بأنه أحرم أولا مفردا ، ثم أدخل العمرة على الحج فصار قارنا . والذين قالوا بأفضلية القران جزموا بأنه صلى الله عليه وسلم أحرم قارنا في ابتداء إحرامه ، واستدلوا لذلك بأحاديث صحيحة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 10:54 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (326)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 368 إلى صـ 374


منها : حديث ابن عمر المتفق عليه ، وقد قدمناه في هذا المبحث ، وفيه : وبدأ [ ص: 368 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج ؛ وهو تصريح منه رضي الله عنه بأنه أهل بالعمرة قبل الحج . ومنها : حديث عمر رضي الله عنه عند البخاري ، وقد قدمناه أيضا وفيه : " وقل عمرة في حجة " ، وكان ذلك بالعقيق قبل إحرامه ، وأهل هذا القول جمعوا بين الأحاديث الواردة بالإفراد والأحاديث الواردة بالقران والأحاديث الواردة بالتمتع ، بغير الجمع الذي ذكرناه عن القائلين بأفضلية الإفراد ، وهو أن وجه الجمع أن المراد بالإفراد : إفراد أعمال الحج ؛ لأن القارن يفعل في أعمال الحج كما يفعله الحاج المفرد ، فيطوف لهما طوافا واحدا ، ويسعى لهما سعيا واحدا ، على أصح الأقوال وأقواها دليلا .

وأما جوابهم عن أحاديث التمتع فواضح ؛ لأن الصحابة يطلقون التمتع على القران كما قدمنا في حديث عمران بن حصين ، وكما يدل له ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، عن سعيد بن المسيب قال : اجتمع عثمان وعلي رضي الله عنهما ، وكان عثمان ينهى عن المتعة فقال علي : ما تريد إلى أمر فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم تنهى عنه ، فقال عثمان : دعنا منك ، فقال : إني لا أستطيع أن أدعك ، فلما رأى ذلك علي أهلهما جميعا . فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم ، وأن هذا هو الذي فعله صلى الله عليه وسلم ، وأقره عثمان ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، لكن الخلاف بينهما في الأفضل من ذلك .

ومما يدل على أن القارن متمتع عندهم حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه في هذا المبحث ، فإن في لفظه عند الشيخين : " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى ، فساق الهدي من ذي الحليفة ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ، ثم أهل بالحج " فتراه صرح بأن مراده بالتمتع القران .
المسألة الخامسة

اعلم : أن حجة من قال بأن التمتع أفضل مطلقا ، ومن قال بأنه أفضل لمن لم يسق الهدي ، وكلاهما مروي عن الإمام أحمد ، هي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر جميع أصحابه الذين لم يسوقوا هديا أن يفسخوا حجهم في عمرة ، كما هو ثابت عن جماعة من الصحابة بروايات صحيحة لا مطعن فيها ، وتأسف هو صلوات الله وسلامه عليه على سوقه للهدي الذي كان سببا لعدم تحلله بالعمرة معهم . قالوا : لو لم يكن التمتع هو أفضل الأنساك لما أمر به أصحابه ، ولما تأسف على أنه لم يفعله في قوله : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " .

[ ص: 369 ] تنبيهات

التنبيه الأول :

اعلم أن دعوى من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعا التمتع المعروف ، وأنه حل من عمرته ثم أحرم للحج - باطلة بلا شك . وقد ثبت بالروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه كان قارنا ، وأنه لم يحل حتى نحر هديه ، كما قدمناه في هذا المبحث في حديث أم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها ، وعن أبيها .

فإن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم في حديثها المتفق عليه قال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر " والأحاديث بمثله كثيرة . وسبب غلط من ادعى الدعوى الباطلة المذكورة هو ما أخرجه مسلم في صحيحه :

حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حجير ، عن طاوس قال : قال ابن عباس : قال معاوية : أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة بمشقص ؟ قلت له : لا أعلم هذا إلا حجة عليك . وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، حدثني الحسن بن مسلم ، عن طاوس ، عن ابن عباس : أن معاوية بن أبي سفيان أخبره قال : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص وهو على المروة - أو : رأيته يقصر عنه بمشقص - وهو على المروة . انتهى منه وأخرج البخاري هذا الحديث عن معاوية بلفظ : قال : قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص ، فالاستدلال بهذا الحديث على أن النبي أحل بعمرة في حجة الوداع غلط فاحش مردود من وجهين : الأول : أنه ليس في الحديث المتفق عليه ذكر حجة الوداع ، ولا شيء يدل على أن ذلك التقصير كان فيها .

التنبيه الثاني

ورود الرواية الصحيحة التي لا مطعن فيها أنه لم يحل إلا بعد الرجوع من عرفات ، بعد أن نحر هديه . وقال النووي في كلامه على حديث معاوية هذا ، وهذا الحديث محمول على أنه قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنا كما سبق إيضاحه ، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق بمنى ، وفرق أبو طلحة رضي الله عنه شعره بين الناس . فلا يجوز حمل تقصير معاوية على حجة الوداع ، ولا يصح حمله أيضا على عمرة القضاء [ ص: 370 ] الواقعة سنة سبع من الهجرة ; لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلما ، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان ، هذا هو الصحيح المشهور ، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع ، وزعم أنه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا ; لأن هذا غلط فاحش ، فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة السابقة في مسلم وغيره ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : ما شأن الناس حلوا ولم تحل أنت ؟ قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر الهدي " وفي رواية : " حتى أحل من الحج " والله تعالى أعلم . انتهى كلام النووي ، ولا شك أن حمل حديث معاوية على حجة الوداع لا يصح بحال ، والعلم عند الله تعالى .

التنبيه الثالث

اعلم أن دعوى من ادعى أنه لم يحل بعمرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلا من أحرم بالعمرة وحدها ، وأن من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة ، لم يحل أحد منهم حتى كان يوم النحر - دعوى باطلة أيضا ; لأن الروايات الصحيحة التي لا مطعن فيها عن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة بكل الوضوح والصراحة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر كل من لم يكن معه هدي أن يحل بعمرة ، سواء كان مفردا أو قارنا ، ومستند من ادعى تلك الدعوى الباطلة هو ما أخرجه مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج . فأما من أهل بعمرة فحل ، وأما من أهل بحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتى كان يوم النحر . انتهى منه ; لأن الذين لم يحلوا من القارنين والمفردين في هذا الحديث ونحوه من الأحاديث يجب حملهم على أن معهم الهدي لأجل الروايات الصحيحة المصرحة بذلك وبأن من لم يكن معهم هدي فسخوا حجهم في عمرة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم .

التنبيه الرابع

اعلم أن دعوى من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أحرم إحراما مطلقا ، ولم يعين نسكا ، وأنه لم يزل ينتظر القضاء ، حتى جاءه القضاء بين الصفا والمروة - أنها دعوى غير صحيحة ، وإن قال الإمام الشافعي في اختلاف الحديث : إن ذلك ثابت عن [ ص: 371 ] النبي صلى الله عليه وسلم ; لأن الروايات المتواترة المصرحة بأنه صلى الله عليه وسلم عين ما أحرم به من ذي الحليفة ، من إفراد أو قران أو تمتع ، لا تمكن معارضتها لقوتها وتواترها ، واتفاق جميعها على تعيين الإحرام من ذي الحليفة ، وإن اختلف في نوعه ، ومستند من ادعى تلك الدعوى أحاديث جاءت يفهم من ظاهرها ذلك ، منها حديث عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا نذكر حجا ولا عمرة . وفي لفظ : يلبي ولا يذكر حجا ولا عمرة ، ونحو ذلك من الأحاديث ، وهذا لا تعارض به تلك الروايات الصحيحة المتواترة . وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد عن الأحاديث التي استدل بها من ادعى الدعوى المذكورة ، فأفاد وأجاد ، والعلم عند الله تعالى .

التنبيه الخامس

اعلم أن الأحاديث الواردة بأنه كان مفردا والواردة بأنه كان قارنا والواردة بأنه كان متمتعا لا يمكن الجمع البتة بينها ، إلا الواردة منها بالتمتع والواردة بالقران ، فالجمع بينهما واضح ; لأن الصحابة كانوا يطلقون اسم التمتع على القران ، كما هو معروف عنهم ، ولا يمكن النزاع فيه ، مع أن أمره صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتمتع قد يطلق عليه أنه تمتع ; لأن أمره بالشيء كفعله إياه . أما الواردة بالإفراد فلا يمكن الجمع بينها بحال مع الأحاديث الواردة بالتمتع والقران ، فادعاء إمكان الجمع بينها غلط ، وإن قال به خلق لا يحصى من أجلاء العلماء .

واختلفوا في وجه الجمع على قولين كما أوضحناه ، فمنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد يراد بها أنه أحرم أولا مفردا ، وأحاديث القران يراد بها أنه بعد إحرامه مفردا أدخل العمرة على الحج ، فصار قارنا فصدق هؤلاء باعتبار أول الأمر ، وصدق هؤلاء باعتبار آخره ، مع أن أكثرهم يقولون : إن إدخال العمرة على الحج خاص به صلى الله عليه وسلم ، ولا يجوز لغيره ، وهذا الجمع قال به أكثر المالكية والشافعية . وقال النووي : لا يجوز العدول عنه . ومنهم من جمع بأن أحاديث الإفراد يراد بها : إفراد أعمال الحج ، والقارن يعمل في سعيه وطوافه كعمل المفرد على أصح الأقوال وأقواها دليلا . وكلا الجمعين غلط مع كثرة وجلالة من قال به من العلماء . وإنما قلنا : إنهما كليهما غلط ؛ لأن المعروف في أصول الفقه وعلم الحديث أن الجمع لا يمكن بين نصين متناقضين تناقضا صريحا ، بل الواجب بينهما الترجيح ، وإنما يكون الجمع بين نصين ، لم يتناقضا تناقضا صريحا ، فيحمل كل منهما على محمل ، ليس في الآخر التصريح بنقيضه ، فيكونان صادقين ، ولأجل هذا [ ص: 372 ] فجميع العلماء يقولون : يجب الجمع إن أمكن ، ومفهوم قولهم : إن أمكن ، أنهما إن كانا متناقضين تناقضا صريحا ، لا يمكن الجمع بينهما ، بل يجب المصير إلى الترجيح . فإذا علمت هذا فاعلم أن أحاديث الإفراد صريحة في نفي القران والتمتع ، لا يمكن الجمع بينهما أبدا وبين أحاديثهما ، فابن عمر رضي الله عنهما في حديثه الصحيح المتقدم يكذب أنسا في دعواه القران تكذيبا صريحا المرة بعد المرة ، كما رأيته سابقا ، فكيف يمكن الجمع بين خبرين والمخبران بهما كل منهما يكذب الآخر تكذيبا صريحا ، فالجمع في مثل هذا محال ، ومن ادعى إمكانه فقد غلط كائنا من كان ، بالغا ما بلغ من العلم والجلالة . وعائشة رضي الله عنها في حديثها الصحيح المتقدم تقول : فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ، ومنا من أهل بحج ، وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، فذكرها الأقسام الثلاثة وتصريحها بأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بواحد معين منها ، لا يمكن الجمع بينه وبين خبر من قال : إنه أحرم بقسم من القسمين الآخرين ، كما ترى ، وفي بعض الروايات : أحرم بالحج خالصا ، وفي بعضها : أحرم بالحج وحده ، وفي بعضها : لا نعرف العمرة إلخ . وأحاديث القران فيها التصريح بأنه يقول : لبيك حجا وعمرة ، فالجمع بينها لا يمكن بحال إلا على قول من قال : إنه كان قارنا يلبي بهما معا ، وسمع بعضهم الحج والعمرة معا وسمع بعضهم الحج دون العمرة ، وبعضهم العمرة دون الحج ، فروى كل ما سمع ، وعلى أن الجمع غير ممكن ، فالمصير إلى الترجيح واجب ، ولا شك عند من جمع بين العلم والإنصاف أن أحاديث القران أرجح من جهات متعددة ، منها كثرة من رواها من الصحابة ، وقد قدمنا عن ابن القيم أنها رواها سبعة عشر صحابيا ، وأحاديث الإفراد لم يروها إلا عدد قليل ، وهم : عائشة ، وابن عمر ، وجابر ، وابن عباس ، وأسماء ، وكثرة الرواة من المرجحات ، قال في مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي :



وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية

كما قدمناه في " البقرة " .

ومنها : أن من روي عنهم الإفراد ، روي عنهم القران أيضا ، ويكفي في أرجحية أحاديث القران أن الذين قالوا بأفضلية الإفراد معترفون بأن من رووا القران صادقون في ذلك ، وأنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا باتفاق الطائفتين ، إلا أن بعضهم يقولون : إنه لم يكن قارنا في أول الأمر ، وإنما صار قارنا في آخره ، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد أن أحاديث القران أرجح من خمسة عشر وجها ، فلينظره من أراد الوقوف عليها .

وقد علمت مما تقدم أن القائلين بأفضلية الإفراد يقدحون في دلالة أحاديث القران [ ص: 373 ] على أفضليته على الإفراد بالقادح المعروف في الأصول بالقول بالموجب ، فيقولون : سلمنا أنه كان قارنا مع بقاء نزاعنا في أفضلية القران على الإفراد ; لأن قرانه وأمره أصحابه بالتمتع ، لم يكن لأفضلية القران والتمتع في حد ذاتيهما على الإفراد ، بل هما في ذلك الوقت أفضل لسبب منفصل ، وإن كان الإفراد أفضل منهما في حد ذاته لما قدمنا من أن الفعل المفضول أو المكروه إذا كان لبيان الجواز كان أفضل بهذا الاعتبار من الفعل الذي هو أفضل منه في حد ذاته ، كما قدمنا إيضاحه .

وقد قدمنا أدلة من قال بهذا كحديث بلال بن الحارث المزني في السنن ، وحديث أبي ذر في مسلم أن ذلك كان خاصا بذلك الركب في حجة الوداع ، وعمل الخلفاء الراشدين نحو أربع وعشرين سنة ، وغيرهم من المهاجرين والأنصار من أفاضل الصحابة ، كما ثبت في الصحيحين عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما ، وثبت عن الخلفاء الراشدين : أبي بكر ، وعمر ، وعثمان في الصحيحين وغيرهما ذلك ، وقد قدمنا أن الآثار والأحاديث التي ذكرها ابن حزم عنهم مخالفة لذلك ، لا يلتفت إليها مع الروايات الثابتة في الصحيحين ، القاضية بخلافها ، فإن قيل سلمنا تسليما جدليا أن القران من النبي صلى الله عليه وسلم والتمتع الواقع من الصحابة بأمره في حجة الوداع كانا لأجل بيان الجواز ، فاللازم أن تكون مشروعية أفضليتهما باقية كالرمل في الطواف في الأشواط الثلاثة الأولى ، فإنه صلى الله عليه وسلم فعله وأمر به لسبب خاص ، وهو أن يري المشركين قوة الصحابة ، وأنهم لم يضعفهم مرض ، ومع كون ذلك لهذا السبب فمشروعية سنيته باقية ، فليكن قرانه وتمتع أصحابه بأمره لذلك السبب كذلك .

فالجواب : أن الرمل المذكور لم يرد فيه دليل يدل على خصوصه بذلك الوقت ، بل ثبت ما يدل على بقاء مشروعيته ، وهو رمله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بعد زوال السبب ، والتمتع والقران المذكوران وردت فيهما أدلة تدل على خصوصهما بذلك الركب كحديث بلال بن الحارث المزني ، وحديث أبي ذر ، إلى آخر ما تقدم . وقد قدمنا مناقشة من ضعف الأول بأن الحارث بن بلال راوي الحديث عن أبيه مجهول ، وأن حديث أبي ذر موقوف .

وبالجملة : فإنه يبعد كل البعد أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم يتواطئون واحدا بعد واحد في نحو أربع وعشرين سنة على إفراد الحج متعمدين لمخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وجميع الصحابة حاضرون ولم ينكر منهم أحد ، فهذه دعوى باطلة ومقتضاها : [ ص: 374 ] أن الأمة جميعها وخلفاءها الراشدين مكثت هذا الزمن الطويل وهي على باطل ، فهذا باطل بلا شك .

واعلم أن قول عمران بن حصين رضي الله عنه في حديثه المتقدم معرضا بعمر رضي الله عنه : قال رجل برأيه ما شاء ، يعني به نهي عمر عن التمتع ، أما إفراده الحج في زمن خلافته فلم ينكره هو ولا غيره . ومذهب ابن عباس رضي الله عنهما في أن من طاف حل بعمرة شاء أو أبى ، مذهب مهجور خالفه فيه الصحابة والتابعون فمن بعدهم ، فهو كقوله بنفي العول وبأن الأم لا يحجبها من الثلث إلى السدس ، أقل من ثلاثة .

فإن قيل : مذهبه هذا ليس كذلك ; لأنه دلت عليه نصوص .

فالجواب هو ما ذكرنا من حجج من خالفوه وهم عامة علماء الأمة ، والعلم عند الله تعالى .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي في هذه المسألة هو ما اختاره العلامة أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في منسكه ، وهو إفراد الحج بسفر ينشأ له مستقلا ، وإنشاء سفر آخر مستقل للعمرة .

فقد قال رحمه الله في منسكه :

إن عمر رضي الله عنه لم ينه عن المتعة البتة ، وإنما قال : إن أتم لحجكم وعمرتكم أن تفصلوا بينهما ، فاختار عمر لهم أفضل الأمور ، وهو إفراد كل واحد منهما بسفر ينشئه له من بلده ، وهذا أفضل من القران والتمتع الخاص بدون سفرة أخرى . وقد نص على ذلك أحمد ، وأبو حنيفة ، ومالك والشافعي وغيرهم ، وهذا هو الإفراد الذي فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكان عمر يختاره للناس ، وكذلك علي ، وقال عمر وعلي في قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم لعائشة في عمرتها : " أجرك على قدر نصبك " فإذا رجع الحاج إلى دويرة أهله ، فأنشأ العمرة منها ، واعتمر قبل أشهر الحج ، وأقام حتى يحج ، أو اعتمر في أشهره ورجع إلى أهله ثم حج ، فهاهنا قد أتى بكل واحد من النسكين من دويرة أهله . وهذا إتيان بهما على الكمال ، فهو أفضل من غيره . انتهى منه بواسطة نقل تلميذه ابن القيم في الزاد . فترى هذا المحقق صرح بأن إفراد كل منهما بسفر أفضل من التمتع والقران ، وأن الأئمة الأربعة متفقون على ذلك ، وأن عمر وعليا يريان ذلك عملا بنص القرآن العظيم ، وبذلك تعلم أن قول بعض المتأخرين بمنع الإفراد مطلقا مخالف للصواب كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 10:57 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (327)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 375 إلى صـ 381


المسألة السادسة

اعلم أن العلماء اختلفوا في طواف القارن والمتمتع إلى ثلاثة مذاهب :

الأول : أن على القارن طوافا واحدا وسعيا واحدا ، وأن ذلك يكفيه لحجه وعمرته ، وأن على المتمتع طوافين وسعيين ، وهذا مذهب جمهور العلماء ; منهم مالك والشافعي ، وأحمد في أصح الروايات .

الثاني : أن على كل واحد منهما سعيين وطوافين ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه .

الثالث : أنهما معا يكفيهما طواف واحد وسعي واحد ، وهو مروي عن الإمام أحمد . أما الجمهور المفرقون بين القارن والمتمتع القائلون بأن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف زيارة واحد ، وهو طواف الإفاضة ، وسعي واحد ، فاحتجوا بأحاديث صحيحة ليس مع مخالفيهم ما يقاومها .

منها : ما ثبت في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله : حدثني محمد بن حاتم ، حدثنا بهز ، حدثنا وهب ، حدثنا عبد الله بن طاوس ، عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها أهلت بعمرة ، فقدمت ولم تطف بالبيت حتى حاضت ، فنسكت المناسك كلها ، وقد أهلت بالحج ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " يسعك طوافك لحجك وعمرتك " الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنها كانت محرمة أولا ، ومنعها الحيض من الطواف فلم يمكنها أن تحل بعمرة فأهلت بالحج مع عمرتها الأولى فصارت قارنة ، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح بأنها قارنة حيث قال : " لحجك وعمرتك " ، ومع ذلك صرح بأنها يكفيها لهما طواف واحد .

وقال مسلم رحمه الله أيضا في صحيحه : وحدثني حسن بن علي الحلواني ، حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني إبراهيم بن نافع ، حدثني عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها حاضت بسرف ، فتطهرت بعرفة ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك " . اهـ منه .

فهذا الحديث الصحيح صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد .

ومنها : حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه ، قال البخاري رحمه الله في [ ص: 376 ] صحيحه في بعض رواياته لهذا الحديث : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، عن أيوب عن نافع : أن ابن عمر رضي الله عنهما دخل ابنه عبيد الله بن عبد الله وظهره في الدار فقال : إني لا آمن أن يكون العام بين الناس قتال . فقال : فيصدوك عن البيت ، فلو أقمت ؟ فقال : قد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فإن حيل بيني وبينه أفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، ثم قال : أشهدكم أني أوجبت مع عمرتي حجا ، قال : ثم قدم فطاف لهما طوافا واحدا .

حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل له : إن الناس كائن بينهم قتال ، وإنا نخاف أن يصدوك ؟ فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة ، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال : ما شأن الحج والعمرة إلا واحد ، أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ولم يزد على ذلك ، فلم ينحر ، ولم يحل من شيء حرم منه ، ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى منه ، وفي هذا الحديث الصحيح التصريح من ابن عمر باكتفاء القارن بطواف واحد وأن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل . وبعض العلماء حمل الطواف المذكور ، على طواف الإفاضة ، وبعضهم حمله على الطواف بين الصفا والمروة . أما حمله على طواف القدوم فباطل بلا شك ; لأن النبي لم يكتف بطواف القدوم ، بل طاف طواف الإفاضة الذي هو ركن الحج بإجماع المسلمين .

وقال الكرماني في شرح الحديث المذكور ، فإن قلت : ما المقصود من الطواف الأول إذ لا يجوز أن يراد به طواف القدوم ؟

قلت : يعني أنه لم يكرر الطواف للقران ، بل اكتفى بطواف واحد ، وقد أخرج حديث ابن عمر هذا مسلم في صحيحه من طرق متعددة ، وفي لفظ منها : أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرة ، فانطلق حتى ابتاع بقديد هديا ، ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة يوم النحر . اهـ .

وقال النووي : معناه : حتى حل منهما يوم النحر بعمل حجة مفردة . وفي بعض روايات مسلم لحديث ابن عمر هذا : أشهدكم أني أوجبت حجا مع عمرتي ، وأهدى هديا اشتراه بقديد ، ثم انطلق يهل بهما جميعا حتى قدم مكة ، فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ولم [ ص: 377 ] يزد على ذلك ، ولم ينحر ، ولم يحلق ، ولم يقصر ، ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ، ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول . وقال ابن عمر : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم . انتهى منه ، وهو صريح في أن القارن يكفيه لحجه وعمرته طواف واحد .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن مراد ابن عمر في قوله : ورأى أنه قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول ، في مسلم والبخاري ، هو الطواف بين الصفا والمروة ، ويدل على ذلك أمران :

الأول منهما : هو ما قدمنا في بعض روايات مسلم في صحيحه مما لفظه : ثم طاف لهما طوافا واحدا بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم لم يحل منهما حتى حل منهما بحجة ، ومعلوم أن الحل بحجة لا يمكن بدون طواف الإفاضة . أما السعي في الحجة ، فيكفي فيه السعي الأول بعد طواف القدوم ، فيتعين أن الطواف الأول الذي رأى إجزاءه عن حجه وعمرته هو الطواف بين الصفا والمروة ، بدليل الرواية الصحيحة بأنه لم يحل منهما إلا بحجة يوم النحر ، وحجة يوم النحر أعظم أركانها طواف الإفاضة ، فبدونه لا تسمى حجة ; لأنه ركنها الأكبر المنصوص على الأمر به في كتاب الله في قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] .

الأمر الثاني الدال على ذلك هو : أن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه في الروايات الصحيحة أنه اكتفى بسعيه بين الصفا والمروة بعد طواف القدوم لحجه وعمرته ، وأنه بعد إفاضته من عرفات طاف طواف الإفاضة يوم النحر على التحقيق ، فحديث ابن عمر هذا نص صحيح متفق عليه ، على أن القارن يعمل كعمل المفرد ، وعلى هذا يحمل الطواف الواحد في حديث عائشة الآتي ، فيفسر بأنه الطواف بين الصفا والمروة ؛ لأن القارن لا يسعى لحجه وعمرته إلا مرة واحدة .

وقال ابن حجر في الفتح في كلامه على الروايتين اللتين أخرج بهما البخاري حديث ابن عمر المذكور - أعني اللتين سقناهما آنفا - ما نصه : والحديثان ظاهران في أن القارن لا يجب عليه إلا طواف واحد كالمفرد ، وقد رواه سعيد بن منصور من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر أصرح من سياق حديثي الباب في الرفع ، ولفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد " وأعله الطحاوي بأن [ ص: 378 ] الدراوردي أخطأ فيه ، وأن الصواب أنه موقوف ، وتمسك في تخطئته بما رواه أيوب ، والليث ، وموسى بن عقبة وغير واحد عن نافع نحو سياق ما في الباب ، من أن ذلك وقع لابن عمر ، وأنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ، لا أنه روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو إعلال مردود ، فالدراوردي صدوق ، وليس ما رواه مخالفا لما رواه غيره ، فلا مانع من أن يكون الحديث عند نافع على الوجهين . انتهى كلام ابن حجر في الفتح .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا الحديث الذي نحن بصدده ليس بموقوف على كلا التقديرين ; لأن ابن عمر لما طاف لهما طوافا واحدا ، أخبر بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، وهذا عين الرفع ، فلا وقف البتة كما ترى ، وحديث ابن عمر هذا الذي ذكر ابن حجر في الفتح ، أن سعيد بن منصور أخرجه - أصرح من حديثي الباب عند البخاري ، قال فيه المجد في المنتقى : رواه أحمد وابن ماجه ، وفي لفظ : من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا . رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب . وفيه دليل على وجوب السعي ، ووقوف التحلل عليه .

ومنها : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل منهما جميعا " الحديث ، وفيه : وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا . انتهى . وهو نص صريح متفق عليه دال على اكتفاء القارن بطواف واحد لحجه وعمرته .

وقال بعض أهل العلم : إن المراد بالطواف في حديث عائشة هذا هو الطواف بين الصفا والمروة ، وله وجه من النظر ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .

ومنها : حديث جابر الذي قدمناه عند مسلم ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دخلت العمرة في الحج . مرتين " وتصريحه صلى الله عليه وسلم بدخولها فيه يدل على دخول أعمالها في أعماله حالة القران ، وإن أوله جماعات من أهل العلم بتأويلات أخر متعددة .

والأحاديث الدالة على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد كفعل المفرد كثيرة ، وفيما ذكرنا هنا من الأحاديث الصحيحة كفاية لمن يريد الحق ، وهذا الذي ذكرناه بعض أدلة القائلين بالفرق بين القران والتمتع ، وأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لعمرته وحجه . وقد رأيت ما ذكر من أدلتهم على أن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد .

[ ص: 379 ] أما أدلة هذه الطائفة على أن المتمتع لا بد له من طوافين وسعيين ، طواف وسعي لعمرته ، وطواف وسعي لحجه . فمنها : ما رواه البخاري في صحيحه قال : وقال أبو كامل فضيل بن حسين البصري : حدثنا أبو معشر ، حدثنا عثمان بن غياث ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه سئل عن متعة الحج ؟ فقال : أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا ، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدي " ، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، وأتينا النساء ، ولبسنا الثياب ، وقال : " من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله " ، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج ، فإذا فرغنا من المناسك ، جئنا فطفنا بالبيت ، وبالصفا والمروة ، وقد تم حجنا وعلينا الهدي . الحديث .

فهذا الحديث الثابت في صحيح البخاري فيه الدلالة الواضحة على أن الذين تمتعوا وأحلوا من عمرتهم طافوا وسعوا لعمرتهم ، وطافوا وسعوا مرة أخرى لحجهم ، وهو نص في محل النزاع .

واعلم أن دعوى من ادعى من العلماء أن رواية البخاري في هذا الإسناد ، عن أبي كامل فضيل بن حسين البصري بلفظ : " وقال أبو كامل " لها حكم التعليق - غير مسلمة ، بل الذي عليه الجمهور من المتأخرين أن الراوي إذا قال : قال فلان ، فحكم ذلك كحكم ( عن فلان ) ونحو ذلك ، فالرواية بذلك متصلة ، لا معلقة إن كان الراوي غير مدلس ، وكان معاصرا لمن روى عنه بـ " قال " ونحوها ؛ ولذا غلطوا ابن حزم في حديث المعازف حيث قال : إن قول البخاري في أول الإسناد : وقال هشام بن عمار ، تعليق وليس الحديث بمتصل ، فغلطوه وحكموا للحديث بالاتصال ; لأن هشام بن عمار من شيوخ البخاري ، والبخاري غير مدلس ، فقوله عن شيخه : قال فلان ، كقوله : عن فلان ، وكل ذلك موصول لا معلق .

واعلم أن قول ابن حجر في تهذيب التهذيب : إن البخاري روى عن فضيل المذكور تعليقا ، مخالف لمذهب الجمهور من المتأخرين ; لأن قوله : وقال أبو كامل في حكم ما لو قال : عن أبي كامل ، وكل ذلك يحكم بوصله عند المحققين ، فقول ابن حجر في الفتح أقرب إلى الصواب من قوله في التهذيب . وقد قال في فتح الباري في كلامه على الحديث المذكور : ويحتمل أن يكون البخاري أخذه عن أبي كامل نفسه ، فإنه أدركه وهو من الطبقة الوسطى من شيوخه ، ولم نجد له ذكرا في كتابه غير هذا الموضع . انتهى منه .

[ ص: 380 ] ومعلوم أن أبا كامل مات سنة سبع وثلاثين ومائتين . وله أكثر من ثمانين سنة والبخاري مات سنة ست وخمسين ومائتين ، وله اثنان وستون سنة ، وبذلك تعلم معاصرتهما زمنا طويلا ، وقد قال العراقي في ألفيته :



وإن يكن أول الإسناد حذف مع صيغة الجزم فتعليقا ألف ولو إلى آخره أما الذي
لشيخه عزا بـ " قال " فكذي عنعنة كخبر المعازف
لا تصغ لابن حزم المخالف


وإذا علمت أنه في هذه الأبيات صرح بأن قوله : قال فلان ، كقوله : عن فلان ، تبين لك أن كل ذلك من قبيل المتصل ، لا من قبيل المعلق ، وقد قال العراقي في ألفيته أيضا :



وصححوا وصل معنعن سلم من دلسه راويه واللقا علم
وبعضهم حكى بذا إجماعا ومسلم لم يشرط اجتماعا
لكن تعاصرا وقيل يشترط طول صحابة وبعضهم شرط
معرفة الراوي بالأخذ عنه وقيل كل ما أتانا منه
منقطع حتى يبين الوصل وحكم أن حكم عن فالجل
سووا وللقطع نحا البرديجي حتى يبين الوصل في التخريج
قال ومثله رأى ابن شيبة كذا له ولم يصوب صوبه
قلت الصواب أن من أدرك ما رواه بالشرط الذي تقدما
يحكم له بالوصل كيفما روى بقال أو عن أو بأن فوا
وما حكى عن أحمد بن حنبل وقول يعقوب على ذا نزل
وكثر استعمال عن في ذا الزمن إجازة وهو بوصل ما قمن



انتهى منه .

فترى العراقي رحمه الله جزم في الأبيات المذكورة باستواء : قال فلان ، و : عن فلان ، وأن فلانا قال كذا ، وأن الجميع من قبيل الوصل ، لا من قبيل المعلق بالشروط المذكورة . وحكى مقابله بصيغة التمريض في قوله :

وقيل كل ما أتانا عنه منقطع . . . إلخ

وبه تعلم أن قول البخاري : وقال أبو كامل فضيل بن حسين . . . إلخ من قبيل المتصل لا من قبيل المعلق .

[ ص: 381 ] وقال صاحب تدريب الراوي : أما ما عزاه البخاري لبعض شيوخه بصيغة : قال فلان ، و : زاد فلان ، ونحو ذلك ، فليس حكمه حكم التعليق عن شيوخ شيوخه ومن فوقهم ، بل حكمه حكم العنعنة من الاتصال بشرط اللقاء والسلامة من التدليس ، كذا جزم به ابن الصلاح ، قال : وبلغني عن بعض المتأخرين من المغاربة أنه جعله قسما من التعليق ثانيا ، وأضاف إليه قول البخاري : وقال فلان ، وزاد فلان ، فوسم كل ذلك بالتعليق ، قال العراقي : وما جزم به ابن الصلاح هاهنا هو الصواب ، وقد خالف ذلك في نوع الصحيح فجعل من أمثلة التعليق : قال عفان كذا ، وقال القعنبي كذا ، وهما من شيوخ البخاري . والذي عليه عمل غير واحد من المتأخرين كابن دقيق العيد ، والمزي ، أن لذلك حكم العنعنة ، قال ابن الصلاح هنا : وقد قال أبو جعفر بن حمدان النيسابوري ، وهو أعرف بالبخاري : كل ما قال البخاري : قال لي فلان أو قال لنا فلان ، فهو عرض ومناولة . انتهى محل الغرض منه . والنيسابوري المذكور هو المراد بالحيري في قول العراقي في ألفيته .

ناولة

واعلم أن البخاري رحمه الله تعالى قد يقول : قال فلان مع سماعه منه لغرض غير التعليق .

قال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث المعازف المذكور ناقلا عن ابن الصلاح ، ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر ، أو أبي مالك الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف " من جهة أن البخاري أورده قائلا : قال هشام بن عمار ، وساقه بإسناده ، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام ، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف ، وأخطأ في ذلك في وجوه . والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح ، والبخاري قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر ذلك الحديث في موضع آخر من كتابه مسندا متصلا ، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب التي لا يصحبها خلل الانقطاع . انتهى منه .

وكون البخاري رحمه الله يعبر بـ " قال فلان " لأسباب كثيرة غير التعليق يدل دلالة واضحة على أن الجزم في مثل ذلك بالتعليق بلا مستند ، دعوى لم يعضدها دليل .

وقال ابن حجر في الفتح أيضا في شرح الحديث المذكور : وحكى ابن الصلاح في [ ص: 382 ] موضع آخر : أن الذي يقول البخاري فيه : قال فلان ، ويسمي شيخا من شيوخه ، يكون من قبيل الإسناد المعنعن . وحكي عن بعض الحفاظ أنه يفعل ذلك فيما تحمله عن شيخه مذاكرة . وعن بعضهم أنه فيما يرويه مناولة . اهـ . وهو صريح في أن قوله : قال فلان لا يستلزم التعليق .

فإن قيل : توجد في صحيح البخاري أحاديث يرويها عن بعض شيوخه بصيغة : قال فلان ، ثم يوردها في موضع آخر بواسطة بينه وبين ذلك الشيخ .

فالجواب من وجهين :

الأول : أنه لا مانع عقلا ولا عادة ، ولا شرعا من أن يكون روى ذلك الحديث عن الشيخ مباشرة ورواه عنه أيضا بواسطة مع كون روايته عنه مباشرة تشتمل على سبب من الأسباب المؤدية للتعبير بلفظة : قال ، المشار إليها آنفا ، والرواية عن الواسطة سالمة من ذلك .

الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن الصيغة المذكورة تقتضي التعليق ولا تقتضي الاتصال ، فتعليق البخاري بصيغة الجزم حكمه عند علماء الحديث حكم الصحيح ، كما هو معروف .

وقد قال ابن حجر في الفتح في الكلام على حديث المعازف ما نصه : وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم ، يكون صحيحا إلى من علق عنه ، ولو لم يكن من شيوخه . انتهى محل الغرض منه .

فتبين بما ذكرنا أن حديث ابن عباس المذكور الدال على أن المتمتع يسعى ويطوف لحجه بعد الوقوف بعرفة ، ولا يكتفي بطواف العمرة السابق وسعيها - نص صحيح على كل تقدير في محل النزاع .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 11:04 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (328)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 382 إلى صـ 388




ومنها : ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها مما يدل على أن المتمتع يطوف لحجه بعد رجوعه من منى ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، حدثنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " الحديث ، وفيه قالت : فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا [ ص: 383 ] آخر بعد أن رجعوا من منى ، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا . اهـ منه .

وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، قال : قرأت على مالك عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع . الحديث ، وفيه : فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت ، وبالصفا والمروة ، ثم حلوا ، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم : وأما الذين كانوا جمعوا الحج والعمرة ، فإنما طافوا طوافا واحدا . انتهى منه .

فهذا نص صريح متفق عليه ، يدل على الفرق بين القارن والمتمتع ، وأن القارن يفعل كفعل المفرد ، والمتمتع يطوف لعمرته ويطوف لحجه ، فلا وجه للنزاع في هذه المسألة بعد هذا الحديث ، وحديث ابن عباس المذكور قبله عند البخاري ، وقول من قال : إن المراد بالطواف الواحد في حديث عائشة هذا : السعي له وجه من النظر ، واختاره ابن القيم ، وهو وجيه عندي .

فهذه النصوص تدل على صحة هذا القول المفرق بين القارن والمتمتع ، وهو قول جمهور أهل العلم ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

أما من قال : إن المتمتع كالقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، فقد استدل بما رواه مسلم في صحيحه ، قال : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، ( ح ) ، وحدثنا عبد بن حميد ، أخبرنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول : لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا . زاد في حديث محمد بن بكر : طوافه الأول . انتهى منه .

قال من تمسك بهذا الحديث : هذا نص صحيح ، صرح فيه جابر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطف هو ولا أصحابه إلا طوافا واحدا ، ومعلوم أن أصحابه فيهم القارن ، وهو من كان معه الهدي ، وفيهم المتمتع ، وهو من لم يكن معه هدي ، وإذا ففي هذا الحديث الصحيح الدليل على استواء القارن والمتمتع في لزوم طواف واحد وسعي واحد .

وأجاب المخالفون عن هذا بأجوبة :

الأول : هو أن الجمع واجب إن أمكن ، قالوا : وهو هنا ممكن بحمل حديث جابر [ ص: 384 ] هذا على أن المراد بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يطوفوا إلا طوافا واحدا للعمرة والحج ، خصوص القارنين منهم ، كالنبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه كان قارنا بلا شك ، وإن حمل حديث جابر على هذا كان موافقا لحديث عائشة وحديث ابن عباس المتقدمين ، وهذا واضح كما ترى . قال في مراقي السعود :



والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا



وإنما كان قول العلماء كافة : أن الجمع إن أمكن وجب المصير إليه ; لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، كما هو معروف في الأصول .

الجواب الثاني : أنا لو سلمنا أن الجمع غير ممكن هنا في حديث جابر المذكور مع حديث عائشة وحديث ابن عباس كما جاء في بعض الروايات عن جابر عند مسلم بلفظ لا يمكن فيه الجمع المذكور ، وذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج معنا النساء والولدان ، فلما قدمنا مكة طفنا بالبيت وبالصفا والمروة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يكن معه هدي فليحلل ، قال : قلنا : أي الحل ؟ قال : الحل كله . قال : فأتينا النساء ولبسنا الثياب ومسسنا الطيب ، فلما كان يوم التروية أهللنا بالحج ، وكفانا الطواف الأول بين الصفا والمروة ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر ; كل سبعة منا في بدنة " . انتهى .

ولفظ جابر في حديث مسلم هذا في هذه الرواية لا يمكن حمله على القارنين بحال ; لأنه صرح بأنهم حلوا الحل كله ، وأتوا النساء ولبسوا الثياب ومسوا الطيب ، وأنهم أهلوا يوم التروية بحج ، ومع هذا كله صرح بأنهم كفاهم طوافهم الأول بين الصفا والمروة ، فإن حديث جابر ينفي طواف المتمتع بعد رجوعه من منى ، وحديث عائشة وحديث ابن عباس يثبتانه .

وقد تقرر في الأصول وعلوم الحديث أن المثبت مقدم على النافي ، فيجب تقديم حديث ابن عباس وعائشة - لأنهما مثبتان - على حديث جابر النافي .

الجواب الثالث : أن عدم طواف المتمتع بعد رجوعه من منى الثابت في الصحيح رواه جابر وحده ، وطوافه بعد رجوعه من منى رواه في الصحيح ابن عباس وعائشة ، وما رواه اثنان أرجح مما رواه واحد . [ ص: 385 ] قال في مراقي السعود ، في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي :



وكثرة الدليل والروايه مرجح لدى ذوي الدرايه



وأما من قالوا : إن القارن والمتمتع يلزم كل واحد منهما طوافان وسعيان ، طواف وسعي للعمرة ، وطواف وسعي للحج كأبي حنيفة ، ومن وافقه ، فقد استدلوا لذلك بأحاديث ، ونحن نذكرها إن شاء الله هنا ، ونبين وجه رد المخالفين لها من وجهين .

فمن الأدلة التي استدلوا بها على أن القارن يسعى سعيين ويطوف طوافين لحجه وعمرته ، ما أخرجه النسائي في سننه الكبرى ، ومسند علي ، عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري ، عن إبراهيم بن محمد ابن الحنفية قال : طفت مع أبي ، وقد جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وحدثني أن عليا فعل ذلك ، وحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . انتهى بواسطة نقل صاحب نصب الراية ، ثم قال بعد أن ساق الحديث كما ذكرنا : قال صاحب التنقيح : وحماد هذا ضعفه الأزدي ، وذكره ابن حبان في الثقات . قال بعض الحفاظ : هو مجهول ، والحديث من أجله لا يصح . انتهى .

ومن أدلتهم على الطوافين والسعيين للمتمتع والقارن معا : ما أخرجه الدارقطني ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر : أنه جمع بين حجته وعمرته معا ، وقال سبيلهما واحد ، قال : فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين . وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت . انتهى ، وأخرجه عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن علي قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قرن وطاف طوافين ، وسعى سعيين . انتهى منه بواسطة نقل صاحب نصب الراية . ثم قال بعد أن ساقهما كما ذكرنا .

قال الدارقطني : لم يروهما غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك ، ثم هو قد روى عن ابن عباس ضد هذا ، ثم أخرجه ، عن الحسن بن عمارة ، عن سلمة بن كهيل ، عن طاوس قال : سمعت ابن عباس يقول : لا والله ما طاف لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طوافا واحدا ، فهاتوا من هذا الذي يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف لهما طوافين . انتهى .

وبالسند الثاني رواه العقيلي في كتاب الضعفاء فقال : حدثنا عبد الله بن محمد بن صالح السمرقندي ، ثنا يحيى بن حكيم المقوم قال : قلت لأبي داود الطيالسي : إن محمد بن الحسن صاحب الرأي ، حدثنا عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم عن ابن أبي [ ص: 386 ] ليلى ، عن علي قال : فذكره . فقال أبو داود : من هذا كان شعبة يشق بطنه من الحسن بن عمارة ، وأطال العقيلي في تضعيف الحسن بن عمارة ، وأخرجه الدارقطني أيضا ، عن حفص بن أبي داود ، عن ابن أبي ليلى ، عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن علي بنحوه ، قال : وحفص هذا ضعيف ، وابن أبي ليلى رديء الحفظ كثير الوهم . وأخرجه أيضا عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، فطاف طوافين ، وسعى سعيين . انتهى . قال : وعيسى بن عبد الله ، يقال له : مبارك ، وهو متروك الحديث . انتهى من نصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي رحمه الله .

ومن أدلتهم على ذلك : ما أخرجه الدارقطني ، عن أبي بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرته . وحجه طوافين وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود . قال الدارقطني : وأبو بردة متروك ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء .

ومن أدلتهم أيضا : ما أخرجه الدارقطني أيضا ، عن محمد بن يحيى الأزدي ، ثنا عبد الله بن داود ، عن شعبة ، عن حميد بن هلال ، عن مطرف ، عن عمران بن الحصين : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين وسعى سعيين . انتهى . قال الدارقطني : يقال إن محمد بن يحيى الأزدي حدث بهذا من حفظه ، فوهم في متنه ، والصواب بهذا الإسناد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج ، والعمرة ، وليس فيه ذكر الطواف ولا السعي ، ويقال : إنه رجع عن ذكر الطواف والسعي ، وحدث به على الصواب . كما حدثنا به محمد بن إبراهيم بن نيروز ، ثنا محمد بن يحيى الأزدي به : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن . انتهى قال : وقد خالفه غيره فلم يذكر فيه الطواف ، ولا السعي ، كما حدثنا به أحمد بن عبد الله بن محمد بن الوكيل ، ومحمد بن مخلد قالا : ثنا القاسم بن محمد بن عباد المهلبي ، ثنا عبد الله بن داود ، عن شعبة بهذا الإسناد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن ا هـ . انتهى كله من نصب الراية .

وقد علمت منه أن جميع هذه الأحاديث الدالة على طوافين وسعيين للقارن ، ليس فيها حديث قائم كما رأيت .

وقال ابن حجر في فتح الباري واحتج الحنفية بما روي عن علي : أنه جمع بين الحج والعمرة ، فطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ، وطرقه عن علي عند عبد الرزاق ، والدارقطني ، وغيرهما ضعيفة ، [ ص: 387 ] وكذا أخرج من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف نحوه ، وأخرج من حديث ابن عمر نحو ذلك ، وفيه الحسن بن عمارة ، وهو متروك ، والمخرج في الصحيحين ، وفي السنن عنه من طرق كثيرة الاكتفاء بطواف واحد . وقال البيهقي : إن ثبتت الرواية أنه طاف طوافين ، فيحمل على طواف القدوم ، وطواف الإفاضة . وأما السعي مرتين فلم يثبت ، وقال ابن حزم : لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه شيء في ذلك أصلا . انتهى محل الغرض منه .

وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد : وأما من قال : إنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى سعيين ، كما قاله كثير من فقهاء الكوفة ، فعذره ما رواه الدارقطني من حديث مجاهد ، عن ابن عمر : أنه جمع بين حج ، وعمرة معا ، وقال : سبيلهما واحد . قال : وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع ، كما صنعت . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أنه جمع بينهما ، وطاف لهما طوافين ، وسعى لهما سعيين ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت . وعن علي رضي الله عنه أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قارنا ، فطاف طوافين ، وسعى سعيين ، وعن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحجته وعمرته طوافين ، وسعى سعيين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وابن مسعود . وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طوافين ، وسعى سعيين ، وما أحسن هذا العذر لو كانت هذه الأحاديث صحيحة ، بل لا يصح منها حرف واحد . أما حديث ابن عمر ففيه الحسن بن عمارة ، وقال الدارقطني : لم يروه عن الحكم غير الحسن بن عمارة ، وهو متروك الحديث . وأما حديث علي الأول ففيه حفص بن أبي داود ، وقال أحمد ، ومسلم : حفص متروك الحديث . وقال ابن خراش : هو كذاب يضع الحديث ، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ضعيف . وأما حديثه الثاني : فيرويه عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده قال الدارقطني : عيسى بن عبد الله يقال له مبارك ، وهو متروك الحديث . وأما حديث علقمة ، عن عبد الله فيرويه أبو بردة عمرو بن يزيد ، عن حماد ، عن إبراهيم ، عن علقمة . قال الدارقطني : وأبو بردة ضعيف ، ومن دونه في الإسناد ضعفاء . انتهى . وفيه عبد العزيز بن أبان . قال يحيى : هو كذاب خبيث ، وقال الرازي ، والنسائي : متروك الحديث . وأما حديث عمران بن حصين : فهو مما غلط فيه محمد بن يحيى الأزدي وحدث به من حفظه فوهم فيه ، وقد حدث به على الصواب مرارا ، ويقال : إنه رجع عن ذكر [ ص: 388 ] الطواف والسعي . انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم .

فإذا عرفت أن أحاديث السعيين ، والطوافين ليس فيها شيء قائم كما رأيت ، فاعلم أن الذين قالوا : بأن القارن يطوف طوافا ، ويسعى سعيا كفعل المفرد ، أجابوا عن الأحاديث المذكورة من وجهين .

الأول : هو ما بيناه الآن بواسطة نقل الزيلعي ، وابن حجر ، وابن القيم ، عن الدارقطني ، وغيره من أوجه ضعفها .

والثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن بعضها يصلح للاحتجاج وضعافها يقوي بعضها بعضا ، فلا يقل مجموع طرقها عن درجة القبول فهي معارضة بما هو أقوى منها ، وأصح ، وأرجح ، وأولى بالقبول من الأحاديث الثابتة في الصحيح ، الدالة على أن النبي لم يفعل في قرانه . إلا كما يفعل المفرد كحديث عائشة المتفق عليه ، وحديث ابن عباس عند البخاري ، وكالحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " يكفيك طوافك بالبيت ، وبالصفا ، والمروة لحجك وعمرتك " كما قدمناه واضحا ، وقد اتضح من جميع ما كتبناه في هذه المسألة : أن التحقيق فيها أن القارن يفعل كفعل المفرد لاندراج أعمال العمرة في أعمال الحج ، وأن المتمتع يطوف ، ويسعى لعمرته ، ثم يطوف ويسعى لحجته ، ومما يوضح من جهة المعنى : أنه يطوف ويسعى لحجه بعد رجوعه من منى أنه يهل بالحج بالإجماع .

والحج يدخل في معناه دخولا مجزوما به الطواف والسعي ، فلو كان يكفيه طواف العمرة التي حل منها وسعيها ، لكان إهلاله بالحج إهلالا بحج ، لا طواف فيه ولا سعي ، وهذا ليس بحج في العرف ولا في الشرع ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 11:07 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (329)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 389 إلى صـ 395




فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن صفة الطواف بالبيت هي أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود ، فيستقبله ، ويستلمه ، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة ، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحجر فيمر جميع بدنه على جميع الحجر ، وذلك بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ، ويتحقق أنه لم يبق وراءه جزء من الحجر ، ثم يبتدئ طوافه مارا بجميع بدنه على جميع الحجر ، جاعلا يساره إلى جهة البيت ، ثم يمشي طائفا بالبيت ، ثم يمر وراء الحجر بكسر الحاء ، ويدور بالبيت . فيمر على الركن اليماني ، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود ، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه ، فتتم له بهذا طوافة واحدة ، ثم [ ص: 389 ] يفعل كذلك ، حتى يتمم سبعا .

وأصح أقوال أهل العلم فيما يظهر لنا والله أعلم : أنه لا بد من أن يكون خارجا جميع بدنه ، حال طوافه عن شاذروان الكعبة ; لأنه منها ، وكذلك لا بد أن يكون خارجا جميع بدنه حال طوافه عن جدار الحجر ; لأن أصله من البيت ، ولكن لم تبنه قريش على قواعد إبراهيم ، ولأجل ذلك لم يشرع استلام الركنين الشاميين ; لأن أصلهما من وسط البيت ; لأن قريشا لم تبن ما كان عن شمالهما من البيت ، وهو الحجر الذي عليه الجدار ، وأصله من البيت كما بينا ، ومما يدل على ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما ، عن عائشة رضي الله عنها .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر ، عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها : " ألم تري قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ فقلت : يا رسول الله ، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال : لولا حدثان قومك بالكفر ، لفعلت " . قال عبد الله رضي الله عنه : لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم . وفي رواية عنها في صحيح البخاري قالت : " سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدر ، أمن البيت هو ؟ قال : نعم ، قلت : فما لهم لم يدخلوه في البيت ؟ قال : ألم تري قومك قصرت بهم النفقة ، قلت : فما شأن بابه مرتفعا ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا ، ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية ، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت ، وأن ألصق بابه بالأرض " اهـ . والمراد بالجدر بفتح الجيم ، وسكون الدال المهملة هنا : الحجر . وفي رواية عنها رضي الله عنها في صحيح البخاري أيضا قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حداثة قومك بالكفر ، لنقضت البيت ، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام ، فإن قريشا استقصرت بناءه ، وجعلت له خلفا " قال أبو معاوية : حدثنا هشام خلفا يعني : بابا . وفي رواية عنها فيه أيضا : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : " يا عائشة ، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم ، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض ، وجعلت له بابين ، بابا شرقيا ، وبابا غربيا فبلغت به أساس إبراهيم " فذلك الذي حمل ابن الزبير رضي الله عنهما على هدمه قال يزيد : وشهدت ابن الزبير حين هدمه وبناه ، وأدخل فيه من الحجر ، وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل قال جرير : فقلت له : أين [ ص: 390 ] موضعه ؟ قال : أريكه الآن . فدخلت معه الحجر ، فأشار إلى مكان ، فقال : ههنا ، قال جرير : فحزرت من الحجر ستة أذرع أو نحوها . انتهى من صحيح البخاري ، وزيد المذكور هو ابن رومان ، وجرير هو ابن حازم ، وهما مذكوران في سند الحديث المذكور . وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة . عن أبيه ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا حداثة عهد قومك بالكفر ، لنقضت الكعبة ، ولجعلتها على أساس إبراهيم ، فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا " . ا هـ وقال النووي خلفا ؛ أي : بابا من خلفها ، وفي رواية عنها فيه أيضا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم ؟ " قالت : فقلت : يا رسول الله ، أفلا تردها على قواعد إبراهيم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت " فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر ، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم . وفي رواية عنها فيه أيضا قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية ، أو قال : بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها من الحجر " . وفي رواية عنها فيه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين ، بابا شرقيا ، وبابا غربيا وستة فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة " انتهى من صحيح مسلم . وحديثها هذا المتفق عليه الذي ذكرنا بعض رواياته في الصحيحين ، نص صريح فيما ذكرنا وبه تعلم أن قول من زعم من أهل العلم أن من سلك نفس الحجر في طوافه ، ثم رجع إلى بلده ، لزمه دم مع صحة طوافه غير صحيح لما رأيت من أن الحجر من البيت ، وأن الطواف فيه ليس طوافا بالبيت . والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : يسن الرمل في الأشواط الثلاثة الأول من أول طواف يطوفه القادم ، إلى مكة ، سواء كان طواف عمرة ، أو طواف قدوم في حج ، وأما الأشواط الأربعة الأخيرة فإنه يمشي فيها ، ولا يرمل ، وذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما .

قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد هو ابن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه فقال المشركون : إنه يقدم عليكم وقد وهنتهم حمى يثرب ، [ ص: 391 ] فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، وأن يمشوا ما بين الركنين ، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . ثم قال البخاري رحمه الله : حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرني ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود ، أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع . ثم قال البخاري رحمه الله : حدثني محمد ، حدثنا سريج بن النعمان ، حدثنا فليح ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : سعى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أشواط ، ومشى أربعة في الحج والعمرة ، تابعه الليث . قال : حدثني كثير بن فرقد ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للركن : أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم استلمك ما استلمتك ، فاستلمه ، ثم قال : فما لنا وللرمل إنما كنا رأينا المشركين ، وقد أهلكهم الله ثم قال شيء صنعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا نحب أن نتركه . انتهى منه ، وفي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، عند مسلم : حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن ، فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، الحديث . وفي صحيح البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول ، يخب ثلاثة أطواف ، ويمشي أربعة ، وأنه كان يسعى بطن المسيل ، إذا طاف بين الصفا والمروة " وفي لفظ عند البخاري ، ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف الطواف الأول ، خب ثلاثا ومشى أربعا ، وكان يسعى بطن المسيل إذا طاف بين الصفا والمروة " زاد مسلم : وكان ابن عمر يفعل ذلك .

وبهذه النصوص الصحيحة يتبين أن الرمل في الأشواط الثلاثة في طواف العمرة وطواف القدوم مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى ذلك عامة أهل العلم إلا من شذ ، وإن ترك الرمل في الأشواط الأول لم يقضه في الأشواط الأخيرة على الصواب . ولا يلزم بتركه دم على الأظهر لعدم الدليل ، خلافا لمن أوجب فيه الدم .

تنبيهان

الأول : إن قيل ما الحكمة في الرمل بعد زوال علته التي شرع من أجلها ، والغالب اطراد العلة وانعكاسها ، بحيث يدور معها المعلل بها ، وجودا وعدما ؟

[ ص: 392 ] فالجواب : أن بقاء حكم الرمل مع زوال علته ، لا ينافي أن لبقائه علة أخرى ، وهي أن يتذكر به المسلمون نعمة الله عليهم حيث كثرهم وقواهم بعد القلة والضعف ، كما قال تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره الآية [ 8 \ 26 ] وقال تعالى عن نبيه شعيب : واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم الآية [ 7 \ 86 ] .

وصيغة الأمر في قوله : اذكروا في الآيتين المذكورتين تدل على تحتم ذكر النعمة بذلك ، وإذا فلا مانع من كون الحكمة في بقاء حكم الرمل ، هي تذكر نعمة الله بالقوة بعد الضعف . والكثرة بعد القلة ، وقد أشار إلى هذا ابن حجر في الفتح ، ومما يؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع بعد زوال العلة المذكورة ، فلم يمكن بعد ذلك تركه لزوالها ، والعلم عند الله تعالى .

التنبيه الثاني : اعلم أن الروايات الثابتة في الصحيح في الرمل ظاهرها الاختلاف ; لأن في بعضها أن الرمل ليس في الشوط كله بل ما بين الركنين اليمانيين لا رمل فيه ، وقد قدمنا في حديث ابن عباس عند البخاري ما لفظه : فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة ، وأن يمشوا ما بين الركنين ، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . ولفظه عند مسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب . قال المشركون : إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة ، فجلسوا مما يلي الحجر ، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم ، فقال المشركون : هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم ، هؤلاء أجلد من كذا وكذا .

قال ابن عباس : ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم . فحديث ابن عباس هذا الذي أخرجه الشيخان : فيه التصريح بأنهم لم يرملوا فيما بين الركنين ، وقد بين ابن عباس علة ذلك وهي قوله : فجلسوا مما يلي الحجر ، يعني : أن المشركين جلسوا في جهة البيت الشمالية مما يلي الحجر بكسر الحاء ، وإذا فالذي بين الركنين اليمانيين لا يرونه لأن الكعبة تحول بينهم وبينه ، وإذا كانوا لا يرونهم مشوا فإذا ظهروا لهم عند ركن الحجر رملوا ، مع أن في بعض الروايات الثابتة في الصحيح : أنه صلى الله عليه وسلم رمل الأشواط الثلاثة كلها ، من الحجر إلى الحجر .

ففي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ما لفظه : قال : " رمل [ ص: 393 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ، ومشى أربعا " وفي لفظ في صحيح مسلم أيضا ، عن نافع : أن ابن عمر رمل من الحجر إلى الحجر ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله . وفي لفظ عند مسلم أيضا من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود ، حتى انتهى إليه ثلاثة أطواف ، وفيه عن جابر أيضا بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أطواف من الحجر إلى الحجر .

والجواب عن هذا الذي ذكرنا من اختلاف الروايات : أن حديث ابن عباس الذي فيه أنهم مشوا ما بين الركنين كان في عمرة القضاء في ذي القعدة عام سبع ، وما في الروايات الأخرى من الرمل في كل شوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع ، كما أجاب بهذا غير واحد .

وقال النووي في شرح مسلم : إن رمله صلى الله عليه وسلم في كل الشوط من الحجر إلى الحجر في حجة الوداع ناسخ للمشي بين الركنين الثابت في حديث ابن عباس لأنه متأخر عنه ، والمتأخر ينسخ المتقدم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يتعين النسخ الذي ذكره النووي ، لما تقرر في الأصول عن جماعة من العلماء ، أن الأفعال لا تعارض بينها ، فلا يلزم نسخ الآخر منها للأول ، بناء على أن الفعل لا عموم له ، فلا يقع في الخارج إلا شخصيا لا كليا ، حتى ينافي فعلا آخر ، فجائز أن يقع الفعل واجبا في وقت ، وفي وقت آخر بخلافه .

قال ابن الحاجب في مختصره الأصولي : مسألة : الفعلان لا يتعارضان كصوم وأكل لجواز تحريم الأكل في وقت ، وإباحته في آخر . إلخ ، ومحل عدم تعارض الفعلين المذكور ما لم يقترن بالفعلين قول يدل على ثبوت الحكم ، وإلا كان آخر الفعلين ناسخا للأول عند قوم ، وعند آخرين لا يكون ناسخا ، كما لو لم يقترن بهما قول ، وعن مالك ، والشافعي يصار إلى الترجيح بين الفعلين ، إن اقترن بهما القول وإن لم يترجح أحدهما ، فالتخيير بينهما . مثال الفعلين اللذين لم يقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم مشيه صلى الله عليه وسلم بين الركنين اليمانيين ورمله في غير ذلك من الأشواط الثلاثة الأول في عمرة القضاء ، مع رمله في الجميع في حجة الوداع ، ومثال الفعلين اللذين اقترن بهما قول يدل على ثبوت الحكم صلاته صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على صفات متعددة ، مختلفة كما أوضحناه في سورة النساء ، مع أن تلك الأفعال المختلفة اقترنت بقول يدل على ثبوت الحكم ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " فالجاري على الأصول حسبما ذكرنا عن جماعة منهم : ابن [ ص: 394 ] الحاجب ، والعضد ، والرهوني ، وغيرهم أن طواف الأشواط كلها ليس ناسخا للمشي بين الركنين ، وأن صيغة صلاة الخوف فيها الأقوال المارة قيل : كل صورة بعد أخرى ، فهي ناسخة لها ، وقيل : كلها صحيحة لم ينسخ منها شيء ، وقيل : بالترجيح بين صورها ، وإن لم يترجح واحد ، فالتخيير .

وإلى هذه المسألة أشار صاحب مراقي السعود بقوله :



ولم يكن تعارض الأفعال في كل حالة من الأحوال

وإن يك القول بحكم لامعا
فآخر الفعلين كان رافعا

والكل عند بعضهم صحيح
ومالك عنه روي الترجيح

وحيثما قد عدم المصير
إليه فالأولى هو التخيير


وقال صاحب الضياء اللامع شرح جمع الجوامع :

تنبيه : لم يتعرض المصنف للتعارض بين الفعلين ، وصرح الرهوني وغيره بأنه لا تعارض بينهما في الحقيقة سواء تماثل الفعلان ، أو اختلفا ، وسواء أمكن الجمع بينهما ، أو لم يمكن لأن الفعل لا عموم له من حيث هو إذ لا يقع في الأعيان ، إلا مشخصا فلا يكون كليا حتى ينافي فعلا آخر ، فجاز أن يكون واجبا في وقت مباحا في آخر ، وهذا ما لم يقترن بالفعل قول : يدل على ثبوت الحكم كقوله عليه الصلاة والسلام " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، ورأوه صلى صلاة الخوف على صفات متعددة فقال الأبياري : هذا كاختلاف القولين على الصحيح ، والمتأخر ناسخ ، وقيل : يصح إيقاعها على كل وجه من تلك الوجوه ، وبه قال القاضي : وللشافعي ميل إليه ، وقيل : يطلب الترجيح ، كما قال مالك ، والشافعي . انتهى محل الغرض منه .

والرمل : مصدر رمل بفتح الميم يرمل بضمها رملا بفتح الميم ورملانا : إذا أسرع في مشيته وهز منكبيه وهو في ذلك لا ينزو ؛ أي : لا يثب ، وأنشد المبرد :



ناقته ترمل في النقال متلف مال ومفيد مال

الفرع الثالث : التحقيق أن الاضطباع يسن في الطواف ، لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم .

قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن كثير : أخبرنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن [ ص: 395 ] يعلى ، عن يعلى ، قال : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم مضطبعا ببرد أخضر " ، حدثنا أبو سلمة موسى ، ثنا حماد ، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة ، فرملوا بالبيت ، وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ، قد قذفوها على عواتقهم اليسرى " انتهى منه .

وقال الترمذي في جامعه : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد ، عن ابن يعلى ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " طاف بالبيت مضطبعا ، وعليه برد " ، قال أبو عيسى : هذا حديث الثوري ، عن ابن جريج لا نعرفه ، إلا من حديثه ، وهو حديث حسن صحيح ، وعبد الحميد هو ابن جبير بن شيبة ، عن ابن يعلى ، عن أبيه ، وهو يعلى بن أمية . ا هـ .

وقال ابن ماجه في سننه : حدثنا محمد بن يحيى ، ثنا محمد بن يوسف وقبيصة ، قالا : ثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد ، عن ابن يعلى بن أمية ، عن أبيه يعلى : " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف مضطبعا " ، قال قبيصة : وعليه برد . انتهى منه . وقال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس الذي ذكرناه آنفا في الاضطباع عند أبي داود ، وحديث ابن عباس هذا صحيح ، رواه أبو داود بإسناد صحيح ، ولفظه : عن ابن عباس ثم ساقه كما سقناه آنفا ، ثم قال : ورواه البيهقي بإسناد صحيح ، قال عن ابن عباس .

قال : " اضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ، ورملوا ثلاثة أشواط ، ومشوا أربعا " ، وعن يعلى بن أمية رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعا ببرد " ، رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه بأسانيد صحيحة . وقال الترمذي : هو حديث حسن صحيح . وفي رواية البيهقي : " رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت مضطبعا " إسناده صحيح ، وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : فيم الرملان الآن ، والكشف عن المناكب ، وقد وطد الله الإسلام ، ونفى الكفر ، وأهله ، ومع ذلك لا نترك شيئا كنا نصنعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . رواه البيهقي بإسناد صحيح . انتهى كلام النووي .

وبذلك تعلم سنية الاضطباع في الطواف ، خلافا لمالك ، ومن قال بقوله : إن الاضطباع ليس بسنة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-07-29, 11:10 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (330)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 396 إلى صـ 403


وصفة الاضطباع : أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ، ويرد طرفيه على كتفه اليسرى ، وتبقى كتفه اليمنى مكشوفة ، وهو افتعال من الضبع بفتح الضاد ، وسكون الباء بمعنى : العضد سمي بذلك لإبداء أحد الضبعين ، والعرب تسمي العضد : ضبعا . ومنه قول [ ص: 396 ] طرفة في معلقته .



وإن شئت سامى واسط الكور رأسها وعامت بضبعيها نجاء الخفيدد

تقول العرب : ضبعه إذا مد إليه ضبعه ، ليضربه . ومنه قول عمرو بن شاس :



نذود الملوك عنكم وتذودنا ولا صلح حتى تضبعونا ونضبعا


؛ أي تمدون أضباعكم إلينا بالسيوف ، ونمد أضباعنا إليكم ، وقيل : تضبعون ؛ أي : تمدون أضباعكم للصلح والمصافحة . والطاء في الإضباع مبدلة من تاء الافتعال ; لأن الضاد من حروف الإطباق على القاعدة المشار لها بقوله في الخلاصة :



طاتا افتعال رد إثر مطبق في ادان وازدد وادكر دالا بقي
الفرع الرابع : في كلام العلماء في الطواف هل يشترط له ما يشترط للصلاة من طهارة الحدث ، والخبث وستر العورة أو لا يشترط ذلك ؟

اعلم أن اشتراط الطهارة من الحدث ، والخبث ، وستر العورة في الطواف هو قول أكثر أهل العلم ، منهم مالك ، وأصحابه ، والشافعي ، وأصحابه ، وهو مشهور مذهب الإمام أحمد .

قال النووي في شرح المهذب : وحكاه الماوردي عن جمهور العلماء ، وحكاه ابن المنذر في طهارة الحدث ، عن عامة العلماء .

وخالف الإمام أبو حنيفة رحمه الله الجمهور في هذه المسألة ، فقال : لا تشترط للطواف طهارة ، ولا ستر عورة ، فلو طاف جنبا ، أو محدثا ، أو عليه نجاسة ، أو عريانا صح طوافه عنده .

واختلف أصحابه في وجوب الطهارة للطواف ، مع اتفاقهم على أنها ليست بشرط فيه . ومن أشهر الأقوال عندهم أنه إذا طاف طواف الإفاضة جنبا ، فعليه بدنة ، وإن طافه محدثا : فعليه شاة ، وأنه يعيد الطواف بطهارة ما دام بمكة ، فإن رجع إلى بلده ، فالدم على التفصيل المذكور ، واحتج الجمهور لاشتراط الطهارة للطواف ، بأدلة .

منها : حديث عائشة المتفق عليه الذي ذكرناه سابقا بسنده ، ومتنه عند البخاري ومسلم : أن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم : " أنه توضأ ، ثم طاف بالبيت " الحديث ، قالوا : فهذا الحديث الصحيح صرحت فيه عائشة رضي الله عنها ، بأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالوضوء قبل الطواف لطوافه ، فدل على أنه لا بد للطواف من الطهارة .

[ ص: 397 ] فإن قيل : وضوءه صلى الله عليه وسلم المذكور في هذا الحديث فعل مطلق ، وهو لا يدل على الوجوب : فضلا عن كونه شرطا في الطواف .

فالجواب : أن وضوءه لطوافه المذكور في هذا الحديث ، قد دل دليلان على أنه لازم لا بد منه .

أحدهما : أنه صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : " خذوا عني مناسككم " ، وهذا الأمر للوجوب ، والتحتم ، فلما توضأ للطواف لزمنا أن نأخذ عنه الوضوء للطواف امتثالا لأمره في قوله : " خذوا عني مناسككم " .

والدليل الثاني : أن فعله في الطواف من الوضوء له ، ومن هيئته التي أتى به عليها كلها بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد تقرر في الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لبيان نص من كتاب الله ، فهو على اللزوم والتحتم . ولذا أجمع العلماء على قطع يد السارق من الكوع ; لأن قطع النبي صلى الله عليه وسلم للسارق من الكوع بيان وتفصيل لما أجمل في قوله تعالى : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] لأن اليد تطلق على العضو إلى المرفق ، وإلى المنكب .

قال صاحب الضياء اللامع في شرح قول صاحب جمع الجوامع : ووقوعه بيانا ما نصه : الثاني : أن يكون فعله صلى الله عليه وسلم لبيان مجمل ، إما بقرينة حال ، مثل القطع من الكوع ، فإنه بيان لقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] وإما بقول كقوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، فإن الصلاة فرضت على الجملة ، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله وأخبر بقوله : أن ذلك الفعل بيان ، وكذا قوله : " خذوا عني مناسككم " ، وحكم هذا القسم وجوب الاتباع انتهى . محل الغرض منه .

وأشار في مراقي السعود : إلى أن فعله صلى الله عليه وسلم الواقع لبيان مجمل من كتاب الله إن كان المبين بصيغة اسم المفعول واجبا فالفعل المبين له بصيغة اسم الفاعل واجب بقوله :



من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا

ومحل الشاهد منه قوله : وبالبيان يعني : أنه يعرف حكم فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الوجوب أو غيره بالبيان ، فإذا بين أمرا واجبا : كالصلاة والحج ، وقطع السارق بالفعل ، فهذا الفعل واجب إجماعا لوقوعه بيانا لواجب ، إلا ما أخرجه دليل خاص ، وبهذا تعلم أن الله تعالى أوجب طواف الركن بقوله : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد بينه صلى الله عليه وسلم بفعله [ ص: 398 ] وقال : " خذوا عني مناسككم " ومن فعله الذي بينه به : الوضوء له كما ثبت في الصحيحين ، فعلينا أن نأخذه عنه إلا بدليل ، ولم يرد دليل يخالف ما ذكرنا .

ومن أدلتهم على اشتراط الطهارة من الحدث للطواف : ما أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ، قال البخاري رحمه الله في كتاب الحيض : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، قالت : " خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، لا نذكر إلا الحج ، فلما جئنا سرف طمثت " الحديث . وفيه : " فافعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " ، انتهى منه .

وأخرج مسلم في صحيحه حديث عائشة هذا بإسنادين عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عنها بلفظ : " افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري " وفي لفظ مسلم عنها : " فاقضي ما يقضي الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي " قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه صرح فيه النبي صلى الله عليه وسلم بنهي عائشة رضي الله عنها عن الطواف إلى غاية هي الطهارة لقوله : " حتى تطهري " ، عند الشيخين ، و " حتى تغتسلي " ، عند مسلم ومنع الطواف في حالة الحدث ، الذي هو الحيض إلى غاية الطهارة من جنابته : يدل مسلك الإيماء ، والتنبيه على أن علة منعها من الطواف ، هو الحدث الذي هو الحيض ، فيفهم منه اشتراط الطهارة من الجنابة للطواف كما ترى .

فإن قيل : يجوز أن تكون علة النهي عن طوافها ، وهي حائض ، أن الحائض لا تدخل المسجد .

فالجواب : أن نص الحديث يأبى هذا التعليل ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " حتى تطهري حتى تغتسلي " ، ولو كان المراد ما ذكر لقال : حتى ينقطع عنك الدم .

قال النووي في شرح المهذب : فإن قيل : إنما نهاها لأن الحائض لا تدخل المسجد .

قلنا : هذا فاسد ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " حتى تغتسلي " ، ولم يقل حتى ينقطع دمك ، وهو ظاهر .

ومن أدلة الجمهور على اشتراط الطهارة في الطواف : ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الطواف بالبيت صلاة " الحديث . قال الزيلعي في نصب الراية : رواه ابن حبان في [ ص: 399 ] صحيحه في النوع السادس والستين من القسم الثالث من حديث فضيل بن عياض ، والحاكم في المستدرك من حديث سفيان كلاهما عن عطاء بن السائب ، عن طاوس ، عن ابن عباس . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطواف بالبيت صلاة ; إلا أن الله قد أحل فيه الكلام فمن يتكلم فلا يتكلم إلا بخير " ، انتهى . وسكت الحاكم عنه ، وأخرجه الترمذي في كتابه عن جرير ، عن عطاء بن السائب به بلفظ : " الطواف حول البيت مثل الصلاة " ، قال : وقد روي هذا الحديث عن ابن طاوس وغيره ، عن طاوس موقوفا ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن السائب . وعن الحاكم رواه البيهقي في المعرفة بسنده ثم قال : وهذا حديث قد رفعه عطاء بن السائب في رواية جماعة عنه وروي عنه موقوفا ، وهو أصح انتهى . وقال الشيخ تقي الدين في الإمام : هذا الحديث روي مرفوعا ، أما المرفوع فله ثلاثة أوجه :

أحدهما : رواية عطاء بن السائب رواها عنه جرير ، وفضيل بن عياض ، وموسى بن أعين ، وسفيان أخرجها كلها البيهقي .

الوجه الثاني : رواية ليث بن أبي سليم رواها عنه موسى بن أعين ، عن ليث ، عن طاوس ، عن ابن عباس مرفوعا باللفظ المذكور ، أخرجها البيهقي في سننه ، والطبراني في معجمه .

الوجه الثالث : رواية الباغندي ، عن أبيه ، عن ابن عيينة ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس مرفوعا نحوه رواه البيهقي أيضا . فأما طريق عطاء فإن عطاء من الثقات ، لكنه اختلط بأخرة قال ابن معين : من سمع منه قديما فهو صحيح ، ومن سمع منه حديثا ، فليس بشيء ، وجميع من روى عنه روى عنه في الاختلاط إلاشعبة ، وسفيان ، وما سمع منه جرير وغيره فليس من صحيح حديثه . وأما طريق ليث ، فليث رجل صالح صدوق يستضعف . قال ابن معين : ليث بن أبي سليم ضعيف مثل عطاء بن السائب ، وقد أخرج له مسلم في المتابعات ، وقد يقال : لعل اجتماعه مع عطاء يقوي رفع الحديث ، وأما طريق الباغندي ، فإن البيهقي لما ذكرها قال ولم يضع الباغندي شيئا في رفعه لهذه الرواية . فقد رواه ابن جريج ، وأبو عوانة ، عن إبراهيم بن ميسرة موقوفا انتهى من نصب الراية للزيلعي . ثم قال أيضا : حديث آخر رواه الطبراني في معجمه الأوسط : حدثنا محمد بن أبان ، ثنا أحمد بن ثابت الجحدري ، ثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود ، ثنا سفيان ، عن حنظلة ، عن طاوس : عن ابن عمر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الطواف صلاة فأقلوا فيه الكلام " انتهى منه .

[ ص: 400 ] واعلم : أن علماء الحديث قالوا : إن وقف هذا الحديث على ابن عباس أصح من رفعه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وقد علمت مما مر قريبا أن حديث ابن عباس المذكور رفعه عطاء بن السائب ، وليث بن أبي سليم ، والظاهر أن اجتماعهما معا لا يقل عن درجة الحسن ، ومما يؤيد ذلك أن ممن روى رفعه عن عطاء سفيان الثوري ، وقد ذكروا أن رواية سفيان عنه صحيحة ; لأنه روى عنه قبل اختلاطه ، وعلى ذلك فهو دليل على اشتراط الطهارة ، وستر العورة ; لأن قوله : " الطواف صلاة " يدل على أنه يشترط فيه ما يشترط في الصلاة ، إلا ما أخرجه دليل خاص كالمشي فيه ، والانحراف عن القبلة ، والكلام ، ونحو ذلك .

فإن قيل : المحققون من علماء الحديث ، يرون أن الصحيح أن حديث ( الطواف صلاة ) موقوف لا مرفوع ، لأن من وقفوه أضبط ، وأوثق ممن رفعه ؟

فالجواب : أنا لو سلمنا أنه موقوف ، فهو قول صحابي اشتهر ولم يعلم له مخالف من الصحابة ، فيكون حجة ، لا سيما وقد اعتضد بما ذكرنا قبله من الأحاديث الصحيحة ، وبينا وجه دلالتها على اشتراط الطهارة للطواف .

وقال النووي في شرح المهذب في الكلام على حديث : " الطواف صلاة " ما نصه : وقد سبق أن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس ، وتحصل منه الدلالة أيضا ، لأنه قول صحابي اشتهر ، ولم يخالفه أحد من الصحابة ، فكان حجة كما سبق بيانه في مقدمة هذا الشرح ، وقول الصحابي حجة أيضا ، عند أبي حنيفة انتهى منه .

فهذا الذي ذكرنا هو حاصل أدلة من قال : باشتراط الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر للطواف ، وأما اشتراط ستر العورة للطواف فقد استدلوا له بحديث متفق عليه دال على ذلك .

قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث قال يونس : قال ابن شهاب : حدثني حميد بن عبد الرحمن : أن أبا هريرة أخبره أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذن في الناس : ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . وقال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا هارون بن سعيد الأبلي ، حدثنا ابن وهب ، [ ص: 401 ] أخبرني عمرو ، عن ابن شهاب ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ح ، حدثني حرملة بن يحيى التجيبي ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس : أن ابن شهاب أخبره عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط ، يؤذنون في الناس يوم النحر : " لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان " قال ابن شهاب : فكان حميد بن عبد الرحمن يقول : يوم النحر يوم الحج الأكبر ، من أجل حديث أبي هريرة ، فهذا الحديث المتفق عليه بلفظ : " ولا يطوف بالبيت عريان " يدل فيه مسلك الإيماء والتنبيه على أن علة المنع من الطواف كونه عريانا ، وهو دليل على اشتراط ستر العورة للطواف كما ترى .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وجوب ستر العورة للطواف يدل عليه كتاب الله في قوله تعالى في سورة الأعراف : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] . وإيضاح دلالة هذه الآية الكريمة على ستر العورة للطواف يتوقف أولا على مقدمتين .

الأولى منهما : أن تعلم أن المقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي إذا كان له تعلق بسبب النزول ، أن له حكم الرفع كما أوضحناه في سورة البقرة .

قال العلوي الشنقيطي في طلعة الأنوار :



تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق


وقال العراقي في ألفيته :



وعد ما فسره الصحابي رفعا فمحمول على الأسباب


المقدمة الثانية : هي أن تعلم أن صورة سبب النزول قطعية الدخول عند جماهير الأصوليين ، وهو الصواب إن شاء الله تعالى .

فإذا علمت ذلك : فاعلم أن سبب نزول قوله تعالى : خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ، فكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة ، فتقول : من يعيرني ثوبا تجعله على فرجها ، وتقول :



اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله


فنزلت هذه الآية في هذا السبب : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] . [ ص: 402 ] ومن زينتهم التي أمروا بأخذها عند كل مسجد : لبسهم الثياب عند المسجد الحرام للطواف ; لأنه هو صورة سبب النزول . فدخولها في حكم الآية قطعي عند الجمهور ، كما ذكرناه الآن وأوضحناه سابقا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك . فالأمر في : خذوا شامل لستر العورة للطواف ، وهو أمر حتم أوجبه الله مخاطبا به بني آدم ، وهو السبب الذي نزل فيه الأمر .

واعلم أيضا : أنه ثبت عن ابن عباس ما يدل على أنه فسر : خذوا زينتكم بلبس الثياب للطواف استنادا لسبب النزول .

قال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ح ، وحدثني أبو بكر بن نافع واللفظ له ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن مسلمة بن كهيل ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة فتقول : من يعيرني تطوافا تجعله على فرجها وتقول :



اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله


فنزلت هذه الآية : خذوا زينتكم عند كل مسجد انتهى منه . ولأجل هذا كان ابن عباس يفسر الزينة المذكورة في هذه الآية : باللباس ، ولتعلق هذا التفسير بسبب النزول ، فله حكم الرفع كما بينا والبيت المذكور بعده :



جهم من الجهم عظيم ظله كم من لبيب عقله يضله




وناظر ينظر ما يمله

قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : خذوا زينتكم عند كل مسجد قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينة : اللباس ، وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع ا هـ منه . وجماهير علماء التفسير مطبقون على هذا التفسير المتعلق بسبب النزول ، فتبين بما ذكرنا أن القرآن والسنة الصحيحة دلا معا على ستر العورة للطواف ، وقد قدمنا مرارا كلام العلماء في اقتضاء النهي الفساد فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وقد رأيت فيما كتبنا أدلة الجمهور على طهارة الحدث وستر العورة للطواف .

أما طهارة الخبث : فقد استدلوا لها بما تقدم من أن الطواف صلاة ، وقد بينا وجه الدلالة منه على ذلك ، سواء قلنا : إنه موقوف ، أو مرفوع ، وقد يقال : إنه لا مجال للرأي [ ص: 403 ] فيه ، فله حكم الرفع ، واستأنس بعضهم لطهارة الخبث للطواف بقوله تعالى : وطهر بيتي للطائفين الآية [ 22 \ 26 ] ; لأنه يدل في الجملة على الأمر بالطهارة للطائفين ، والعلم عند الله تعالى . وإذا علمت مما ذكرنا أن جماهير العلماء منهم الأئمة الثلاثة قالوا : باشتراط الطهارة وستر العورة للطواف ، وأن أبا حنيفة خالف الجمهور في هذه المسألة ، فلم يشترط الطهارة ، ولا ستر العورة للطواف .

فاعلم أن حجته في ذلك هي قاعدة مقررة في أصوله ترك من أجلها العمل بأحاديث صحيحة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وتلك القاعدة التي ترك من أجلها العمل ببعض الأحاديث الصحيحة ، متركبة من مقدمتين :

إحداهما : أن الزيادة على النص نسخ .

والثانية : أن الأخبار المتواترة لا تنسخ بأخبار الآحاد ، فقال في المسألة التي نحن بصددها : قال الله تعالى في كتابه وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وهو نص متواتر ، فلو زدنا على الطواف اشتراط الطهارة ، والستر ، فإن هذه الزيادة نسخ ، وأخبارها أخبار آحاد فلا تنسخ المتواتر الذي هو الآية ، ولأجل هذا لم يقل بتغريب الزاني البكر ، لأن الأحاديث الصحيحة الدالة عليه عنده أخبار آحاد ، وزيادة التغريب على قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما الآية [ 24 ] نسخ له ، وهو متواتر ، فلا ينسخ بأخبار الآحاد . ولأجل ذلك أيضا لم يقل بثبوت المال بالشاهد واليمين ، لأنه يرى ذلك زيادة على قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء الآية [ 2 \ 282 ] والزيادة نسخ ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد ا هـ . والتحقيق في مسألة الزيادة على النص هو التفصيل . فإن كانت الزيادة أثبتت شيئا نفاه المتواتر ، أو نفت شيئا أثبته ، فهي نسخ له ، وإن كانت الزيادة زيد فيها شيء ، لم يتعرض له النص المتواتر ، فهي زيادة شيء مسكوت عنه لم ترفع حكما شرعيا ، وإنما رفعت البراءة الأصلية التي هي الإباحة العقلية ، ورفعها ليس بنسخ .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:12 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (331)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 404 إلى صـ 411





مثال الزيادة التي هي نسخ على التحقيق : زيادة تحريم الخمر بالقرآن ، وتحريم الحمر الأهلية بالسنة الصحيحة ، على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] فإن هذه الآية الكريمة لم تسكت عن إباحة الخمر والحمر الأهلية وقت [ ص: 404 ] نزولها ، بل صرحت بإباحتهما بمقتضى الحصر الصريح بالنفي في لا أجد في ما أوحي إلي والإثبات في قوله : إلا أن يكون ميتة فتحريم شيء زائد على الأربعة المذكورة في الآية زيادة ناسخة ; لأنها أثبتت تحريما دلت الآية على نفيه .

ومثال الزيادة التي لم يتعرض لها النص بنفي ولا إثبات ، زيادة تغريب الزاني البكر عاما بالسنة الصحيحة على آية الجلد ، وزيادة الحكم بالشاهد واليمين على آية : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية . وزيادة الطهارة ، والستر التي بينا أدلتها على آية : وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى مسألة الزيادة على النص بقوله :



وليس نسخا كل ما أفادا فيما رسا بالنص الازديادا


وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي [ 6 \ 145 ] ، وبينا أن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد إذا علم تأخرها عنه ، وبيناها أيضا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية الآية [ 16 \ 101 ] . ولذلك اختصرناها هنا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : اعلم أن الطواف في الحج المفرد والقران ثلاثة أنواع : طواف القدوم ، وطواف الإفاضة : وهو طواف الزيارة ، وطواف الوداع .

أما طواف الإفاضة فهو ركن من أركان الحج بإجماع العلماء ، وأما طواف الوداع ، وطواف القدوم : فقد اختلف فيهما العلماء ، فذهب مالك وأصحابه ، إلى أن طواف القدوم : واجب يجبر بدم ، وأن طواف الوداع : سنة ، ولا يلزم بتركه شيء ، واستدل لوجوب القدوم بحديث عائشة ، وعروة المتفق عليه الذي قدمنا بسنده ومتنه عند الشيخين ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم أول ما يبدأ به الطواف ، وكذلك الخلفاء الراشدون ، والمهاجرون ، والأنصار مع قوله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني مناسككم " واستدل لعدم وجوب طواف الوداع ، بترخيص النبي صلى الله عليه وسلم للحائض في تركه ولم يأمرها بدم ولا شيء ، قالوا : فلو كان واجبا لأمر بجبره ، وأكثر أهل العلم : على أن طواف القدوم لا يلزم بتركه شيء . وقال ابن حجر في الفتح : وذهب الجمهور إلى أن من ترك طواف القدوم لا شيء عليه ، وعن مالك وأبي ثور : عليه دم ، ومن حججهم على أن طواف القدوم لا شيء في تركه أنه تحية ، فلم يجب كتحية المسجد . وأكثر أهل العلم على أن طواف الوداع واجب ، يجب بتركه الدم [ ص: 405 ] إلا أنه يرخص في تركه للحائض خاصة ، إذا نفرت رفقتها قبل أن تطهر . قال النووي في شرح مسلم : الصحيح في مذهبنا وجوب طواف الوداع ، وأنه إذا تركه لزمه دم ، ثم قال : وبه قال أكثر العلماء ، منهم الحسن البصري ، والحكم ، وحماد ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . وقال مالك ، وداود ، وابن المنذر : هو سنة لا شيء في تركه . وعن مجاهد روايتان كالمذهبين انتهى منه . وقد نقل ابن حجر كلامه هذا ، ثم تعقب عزوه سنيته لابن المنذر فقال : والذي رأيته في الأوسط لابن المنذر : أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين في طواف الوداع دليلا : أنه واجب .

قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا سعيد بن منصور ، وزهير بن حرب ، قالا : حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان الناس ينصرفون في كل وجه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت " قال زهير : ينصرفون كل وجه ، ولم يقل ( في ) . انتهى منه . فقوله صلى الله عليه وسلم فيه هذا الحديث الصحيح بصيغة النهي الصريح : " لا ينفرن أحد " إلخ . دليل على منع النفر بدون وداع ، وهو واضح في وجوب طواف الوداع ، ثم قال مسلم رحمه الله : حدثنا سعيد بن منصور ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، واللفظ لسعيد قالا : حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض . ا هـ منه . وقال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت ، إلا أنه خفف عن الحائض انتهى . منه وقوله أمر بصيغة المبني للمفعول ، ومعلوم في علوم الحديث ، وأصول الفقه أن مثل ذلك له حكم الرفع . فهو حديث صحيح متفق عليه ، يدل على أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطواف الوداع ، مع الترخيص لخصوص الحائض والله يقول : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] . وهو صلى الله عليه وسلم يقول " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، وقد نهى في حديث مسلم السابق ، عن النفر بدون طواف وداع ، وأمر في الحديث المتفق عليه بالوداع . فدل ذلك الأمر وذلك النهي على وجوبه . أما لزوم الدم في تركه ، فيتوقف على دليل صالح لإثبات ذلك ، وسنذكر إن شاء الله ما تيسر من أدلة الدماء التي يوجبها الفقهاء ، [ ص: 406 ] وحديث ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم لصفية أن تنفر وهي حائض من غير وداع معروف .
الفرع السادس : في أول وقت طواف الإفاضة وآخره .

الظاهر أن أول وقته أول يوم النحر بعد الإفاضة من عرفة ومزدلفة ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه طاف طواف الإفاضة يوم النحر ، بعد رمي جمرة العقبة ، والنحر ، والحلق ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، والشافعية ، ومن وافقهم يقولون : إن أول وقته يدخل بنصف ليلة النحر ، ولا أعلم لذلك دليلا مقنعا . وأما آخر وقت طواف الإفاضة ، فلم يرد فيه نص ، وجمهور العلماء على أنه لا آخر لوقته ، بل يبقى وقته ما دام صاحب النسك حيا ، ولكن العلماء اختلفوا في لزوم الدم بالتأخر . قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن مذهبنا أن طواف الإفاضة لا آخر لوقته ، بل يبقى ما دام حيا ، ولا يلزمه بتأخيره دم ، قال ابن المنذر : ولا أعلم خلافا بينهم في أن من أخره وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا دم عليه ، فإن أخره عن أيام التشريق . فقد قال جمهور العلماء كمذهبنا : لا دم . وممن قال به : عطاء ، وعمرو بن دينار ، وابن عيينة : وأبو ثور ، وأبو يوسف ومحمد ، وابن المنذر ، وهو رواية عن مالك . وقال أبو حنيفة : إن رجع إلى وطنه قبل الطواف : لزمه العود للطواف ، فيطوف ، وعليه دم للتأخير ، وهو الرواية المشهورة عن مالك . دليلنا أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به . والله أعلم انتهى الغرض من كلام النووي .

ولزوم الدم بالتأخير فيه خلاف معروف عند المالكية ، مع اتفاقهم على أن من أخره إلى انسلاخ شهر ذي الحجة عليه الدم .
الفرع السابع : لا خلاف بين العلماء في استحباب استلام الحجر الأسود للطائف ، وجماهيرهم على تقبيله ، وإن عجز وضع يده عليه ، وقبلها خلافا لمالك قائلا : إنه يضعها على فيه من غير تقبيل . وقال النووي في شرح المهذب : أجمع المسلمون على استحباب استلام الحجر الأسود ، ويستحب عندنا مع ذلك تقبيله والسجود عليه ، بوضع الجبهة كما سبق بيانه ، فإن عجز عن تقبيله قبل اليد بعده ، وممن قال بتقبيل اليد : ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد الخدري ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وعروة ، وأيوب السختياني ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق . حكاه عنهم ابن المنذر قال : وقال القاسم بن محمد ومالك : يضع يده على فيه من غير تقبيل .

قال ابن المنذر : وبالأول أقول ; لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعلوه ، وتبعهم جملة الناس عليه ، ورويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما السجود على الحجر الأسود ، فحكاه ابن المنذر عن [ ص: 407 ] عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وطاوس ، والشافعي ، وأحمد .

قال ابن المنذر : وبه أقول : قال وقد روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال مالك : هو بدعة ، واعترف القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك عن الجمهور في المسألتين ، فقال جمهور العلماء : على أنه يستحب تقبيل اليد ، إلا مالكا في أحد قوليه ، والقاسم بن محمد قالا : لا يقبلها . قال : وقال جميعهم : يسجد عليه ، إلا مالكا وحده فقال : بدعة .

وأما الركن اليماني ففيه للعلماء ثلاثة أقوال :

الأول : أنه يستحب استلامه باليد ، ولا يقبل ، بل تقبل اليد بعد استلامه ، وهذا هو مذهب الشافعي ، قال النووي : وروي عن جابر ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة .

القول الثاني : أنه يستلمه ، ولا يقبل يده بعده بل يضعها على فيه من غير تقبيل ، وهو مشهور مذهب مالك ، وأحمد ، وعن مالك رواية : أنه يقبل يده بعد استلامه كمذهب الشافعي .

القول الثالث : أنه يقبله ، وهو مروي عن أحمد .

تنبيهان

الأول : قد جاءت روايات متعارضة في الوقت الذي طاف فيه النبي صلى الله عليه وسلم طواف الإفاضة ، وفي الموضع الذي صلى فيه ظهر يوم النحر ، فقد جاء في بعض الروايات : أنه طاف يوم النحر ، وصلى ظهر ذلك اليوم بمنى ، وجاء في بعض الروايات : أنه صلى ظهر ذلك اليوم في مكة ، وفي بعض الروايات : أنه طاف ليلا لا نهارا . ففي حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم ما لفظه : " ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر " ، ففي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه أفاض نهارا ، وهو نهار يوم النحر ، وأنه صلى ظهر يوم النحر بمكة ، وكذلك قالت عائشة : أنه طاف يوم النحر ، وصلى الظهر بمكة . وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثني محمد بن رافع ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر ، ثم رجع فصلى الظهر بمنى " قال نافع : فكان ابن عمر يفيض يوم النحر ، ثم يرجع ، فيصلي الظهر بمنى ، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله انتهى منه . فترى حديث جابر وحديث ابن عمر الثابتين في صحيح مسلم اتفقا على أنه طاف طواف الإفاضة نهارا ، واختلفا في موضع صلاته لظهر ذلك اليوم ، ففي حديث جابر : أنه صلاها بمكة وكذلك قالت عائشة . وفي حديث ابن [ ص: 408 ] عمر : أنه صلاها بمنى بعد ما رجع من مكة . ووجه الجمع بين الحديثين : أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمكة ، كما قال جابر وعائشة ، ثم رجع إلى منى ، فصلى بأصحابه الظهر مرة أخرى ، كما صلى بهم صلاة الخوف مرتين : مرة بطائفة ، ومرة بطائفة أخرى في بطن نخل ، كما أوضحناه سابقا في سورة النساء ، فرأى جابر وعائشة صلاته في مكة فأخبرا بما رأيا وقد صدقا . ورأى ابن عمر صلاته بهم في منى فأخبر بما رأى ، وقد صدق وهذا واضح ، وبهذا الجمع جزم النووي ، وغير واحد . وقال البخاري في صحيحه : وقال أبو الزبير ، عن عائشة ، وابن عباس رضي الله عنهم : أخر النبي صلى الله عليه وسلم الزيارة إلى الليل انتهى محل الغرض منه . وقد قدمنا أن كل ما علقه البخاري بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علق عنه ، مع أنه وصله أبو داود ، والترمذي ، وأحمد ، وغيرهم من طريق سفيان ، وهو الثوري ، عن أبي الزبير به وزيارته ليلا في هذا الحديث المروي عن عائشة ، وابن عباس مخالفة لما قدمنا في حديث جابر ، وابن عمر ، وللجمع بينهما أوجه من أظهرها عندي اثنان .

الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف الزيارة في النهار يوم النحر ، كما أخبر به جابر ، وعائشة ، وابن عمر ، ثم بعد ذلك صار يأتي البيت ليلا ، ثم يرجع إلى منى فيبيت بها ، وإتيانه البيت في ليالي منى ، هو مراد عائشة ، وابن عباس .

وقال البخاري في صحيحه بعد أن ذكر هذا الحديث الذي علقه بصيغة الجزم ما نصه : ويذكر عن أبي حسان ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي كان يزور البيت أيام منى . ا هـ .

وقال ابن حجر في الفتح : فكأن البخاري عقب هذا بطريق أبي حسان ، ليجمع بين الأحاديث بذلك ، فيحمل حديث جابر ، وابن عمر : على اليوم الأول ، وحديث ابن عباس هذا : على بقية الأيام ، وهذا الجمع مال إليه النووي . وهذا ظاهر .

الوجه الثاني : في الجمع بين الأحاديث المذكورة أن الطواف الذي طافه النبي صلى الله عليه وسلم ليلا : طواف الوداع ، فنشأ الغلط من بعض الرواة في تسميته بالزيارة ، ومعلوم أن طواف الوداع كان ليلا .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرنا ابن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن قتادة : أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم رقد رقدة بالمحصب ، ثم ركب إلى البيت ، فطاف به " . تابعه الليث .

[ ص: 409 ] حدثني خالد ، عن سعيد ، عن قتادة ، أن أنس بن مالك رضي الله عنه : حدثه " أن النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من البخاري ، وهو واضح في أنه طاف طواف الوداع ليلا ا هـ . وحديث عائشة المتفق عليه يدل لذلك ، وإلى هذا الجمع مال ابن القيم في زاد المعاد ، ولو فرضنا أن أوجه الجمع غير مقنعة فحديث جابر ، وعائشة ، وابن عمر : أنه طاف طواف الزيارة نهارا أصح مما عارضها ، فيجب تقديمها عليه ، والعلم عند الله تعالى .

التنبيه الثاني : اعلم أنه جاء في بعض الروايات الصحيحة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف ماشيا ، ومما يدل على ذلك الأحاديث الصحيحة التي سقناها سابقا ، في أنه رمل ثلاثة أشواط ، ومشى أربعا ، فإن ذلك يدل على أنه ماش على رجليه لا راكب ، مع أنه جاءت روايات أخر صحيحة تدل على أنه طاف راكبا .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن صالح ، ويحيى بن سليمان قالا : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن " تابعه الدراوردي ، عن ابن أخ الزهري ، عن عمه .

وقال مسلم في صحيحه : حدثني أبو الطاهر ، وحرملة بن يحيى ، قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن " .

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدثنا علي بن مسهر ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : " طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ; لأن يراه الناس وليشرف وليسألوه ، فإن الناس قد غشوه " .

وفي لفظ عن جابر عند مسلم : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه ، فإن الناس قد غشوه " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثني الحكم بن موسى القنطري ، حدثنا شعيب بن إسحاق ، عن هشام بن عروة ، عن عروة ، عن عائشة قالت : " طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن ، كراهية أن يضرب عنه الناس " ، انتهى منه .

فهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة عن ابن عباس ، وجابر ، وعائشة - رضي الله عنهم - صريحة في أنه طاف راكبا .

[ ص: 410 ] ووجه الجمع بين هذه الأحاديث الدالة على طوافه راكبا مع الأحاديث الدالة على أنه طاف ماشيا : كأحاديث الرمل في الأشواط الثلاثة الأول ، والمشي في الأربعة الأخيرة : هو " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف طواف القدوم ماشيا ، ورمل في أشواطه الثلاثة الأول ، وطاف طواف الإفاضة في حجة الوداع راكبا " ، هو نص صريح صحيح ، يبين أن من طاف ، وسعى راكبا ، فطوافه وسعيه كلاهما صحيح ، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع قوله : " خذوا عني مناسككم " وقد قدمنا البحث مستوفى في المشي ، والركوب في الحج مع مناقشة أدلة الفريقين . والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن : أجمع العلماء على مشروعية صلاة ركعتين بعد الطواف ، ولكنهم اختلفوا في ركعتي الطواف ، هل حكمهما الوجوب أو السنية ؟ فقال بعض أهل العلم : إن ركعتي الطواف واجبتان ، واستدلوا لوجوبهما بصيغة الأمر في قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ 2 \ 125 ] على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، قالوا : والنبي صلى الله عليه وسلم لما طاف : قرأ هذه الآية الكريمة ، وصلى ركعتين خلف المقام ، ممتثلا بذلك الأمر في قوله : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني مناسككم " ، والأمر في قوله : واتخذوا على القراءة المذكورة يقتضي الوجوب كما بيناه مرارا في هذا الكتاب المبارك . وقال جمهور العلماء : إن ركعتي الطواف من السنن ، لا من الواجبات ، واستدلوا لعدم وجوبهما بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه الثابت في الصحيح . قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل نجد ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ، ولا يفقه ما يقول ، فإذا هو يسأل عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خمس صلوات في اليوم والليلة ، فقال : هل علي غيرها ؟ قال : لا ، إلا أن تطوع " الحديث . قالوا : وفي هذا الحديث الصحيح التصريح بأنه لا يجب شيء من الصلاة غير الخمس المكتوبة ، وقد يجاب عن هذا الاستدلال : بأن الأمر بصلاة ركعتي الطواف خلف المقام وارد بعد قوله صلى الله عليه وسلم : " لا ، إلا أن تطوع " ، والعلم عند الله تعالى .

والمستحب أن يقرأ في الأولى من ركعتي الطواف : قل ياأيها الكافرون [ 109 ] وفي الثانية : قل هو الله أحد [ 112 ] كما هو ثابت في حديث جابر . وجمهور أهل العلم على أن ركعتي الطواف لا يشترط في صحة صلاتهما أن تكون خلف المقام ، بل لو صلاهما في أي موضع غيره صح ذلك . ولو طاف في وقت نهي ، فأحد قولي أهل العلم : إنه يؤخر صلاتهما إلى وقت لا نهي عن النافلة فيه ، ومما يدل على هذين [ ص: 411 ] الأمرين أعني صحة صلاتهما في موضع آخر ، وتأخير صلاتهما إلى وقت غير وقت النهي الذي طاف فيه ما ذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، قال : باب الطواف بعد الصبح والعصر ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما : يصلي ركعتي الطواف ما لم تطلع الشمس ، وطاف عمر بعد الصبح ، فركب حتى صلى الركعتين بذي طوى . وفعل عمر رضي الله عنه هذا الذي ذكره البخاري يدل على عدم اشتراط كون الركعتين خلف المقام ، بل تصح صلاتهما في أي موضع صلاهما فيه ، وأن تأخيرهما عن وقت النهي هو الصواب ، وممن قال به : أبو سعيد الخدري ، ومعاذ بن عفراء ، ومالك ، وأصحابه : وعزاه بعضهم إلى الجمهور ، وقد قدمنا مرارا قول من يقول من أهل العلم : إن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي في أوقات النهي ، إلا أن القاعدة المقررة في الأصول : أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح .

وقال الشافعي ، وأصحابه : إن صلاة ركعتي الطواف جائزة في أوقات النهي بلا كراهة ، واستدلوا لذلك بدليلين :

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:14 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (332)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 412 إلى صـ 419






أحدهما : عام وهو أن ذوات الأسباب الخاصة من الصلوات لا تدخل في عموم النهي ; لأن سببها الخاص ، يخرجها من عموم النهي ، كركعتي الطواف فإنهما لسبب خاص هو الطواف . وكتحية المسجد في وقت النهي ، ونحو ذلك ، وأحدهما خاص : وهو ما ورد في خصوص البيت الحرام ، كحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار " ، رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي ، ورواه أيضا ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، قال ابن حجر في التلخيص في هذا الحديث : رواه الشافعي ، وأحمد ، وأصحاب السنن ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، والحاكم من حديث أبي الزبير ، عن عبد الله بن باباه ، عن جبير بن مطعم ، وصححه الترمذي ، ورواه الدارقطني من وجهين آخرين ، عن نافع بن جبير ، عن أبيه ، ومن طريقين آخرين عن جابر ، وهو معلول ، فإن المحفوظ عن أبي الزبير ، عن عبد الله بن باباه ، عن جبير ، لا عن جابر . وأخرجه الدارقطني أيضا ، عن ابن عباس من رواية مجاهد عنه ، ورواه الطبراني من رواية عطاء ، عن ابن عباس ، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان ، والخطيب في التلخيص من طريق ثمامة بن عبيدة ، عن أبي الزبير ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، وهو معلول . وروى ابن عدي من طريق سعيد بن أبي راشد ، عن عطاء ، عن أبي هريرة [ ص: 412 ] حديث : " لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس " ، الحديث ، وزاد في آخره : " من طاف فليصل " ؛ أي : حين طاف ، وقال : لا يتابع عليه ، وكذا قال البخاري . وروى البيهقي من طريق عبد الله بن باباه ، عن أبي الدرداء : أنه طاف بعد العصر عند مغارب الشمس ، فصلى الركعتين ، وقال : إن هذه البلدة ليست كغيرها .

تنبيه

عزا المجد ابن تيمية حديث جبير لمسلم ، فإنه قال : رواه الجماعة إلا البخاري . وهذا وهم منه تبعه عليه المحب الطبري ، فقال : رواه السبعة إلا البخاري ، وابن الرفعة ، فقال : رواه مسلم ، ولفظه : " لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ، " وكأنه والله أعلم : لما رأى ابن تيمية عزاه إلى الجماعة ، دون البخاري اقتطع مسلما من بينهم ، واكتفى به عنهم ، ثم ساقه باللفظ الذي أورده ابن تيمية ، فأخطأ مكررا .

فائدة

قال البيهقي : يحتمل أن يكون المراد بهذه الصلاة صلاة الطواف خاصة : وهو الأشبه بالآثار ، ويحتمل جميع الصلوات . انتهى كلام ابن حجر في التلخيص الحبير .

وهذا الذي ذكرنا عن الشافعي ، وأصحابه من جواز صلاة ركعتي الطواف في أوقات النهي بلا كراهة ، حكاه ابن المنذر ، عن ابن عمر ، وابن عباس ، والحسن ، والحسين بن علي ، وابن الزبير ، وطاوس ، وعطاء ، والقاسم بن محمد ، وعروة ، ومجاهد ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور . انتهى بواسطة نقل النووي في شرح المهذب .

ومما استدلوا به على ذلك ما رواه مجاهد عن أبي ذر مرفوعا : " لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة " ، قال ابن حجر في التلخيص : في هذا الحديث رواه الشافعي أخبرنا عبد الله بن المؤمل ، عن حميد مولى غفرة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد ، وفيه قصة وكرر الاستثناء ثلاثا . ورواه أحمد ، عن يزيد ، عن عبد الله بن المؤمل إلا أنه لم يذكر حميدا في سنده . ورواه ابن عدي من حديث سعيد بن سالم ، عن عبد الله بن المؤمل ، فلم يذكر قيسا ، ورواه ابن عدي من طريق اليسع بن طلحة ، وسمعت مجاهدا يقول : بلغنا أن أبا ذر فذكره ، وعبد الله ضعيف ، وذكر ابن عدي هذا الحديث من جملة ما أنكر عليه . وقال البيهقي : فقال تفرد به عبد الله ولكن تابعه إبراهيم بن طهمان ، [ ص: 413 ] ثم ساقه بسنده إلى خلاد بن يحيى قال : ثنا إبراهيم بن طهمان ، ثنا حميد مولى غفرة ، عن قيس بن سعد ، عن مجاهد قال : جاءنا أبو ذر فأخذ بحلقة الباب ، الحديث . وقال أبو حاتم الرازي : لم يسمع مجاهد من أبي ذر ، وكذا أطلق ذلك ابن عبد البر ، والبيهقي ، والمنذري ، وغير واحد . قال البيهقي : قوله في رواية إبراهيم بن طهمان : جاءنا أبو ذر ؛ أي : جاء بلدنا .

قلت : ورواه ابن خزيمة في صحيحه ، من حديث سعيد بن سالم كما رواه ابن عدي ، وقال : أنا أشك في سماع مجاهد ، من أبي ذر ، انتهى كلام ابن حجر في التلخيص الحبير .

هذا هو حاصل ما احتج به الشافعي ، وأصحابه ، ومن وافقهم على جواز صلاة ركعتي الطواف ، في أوقات النهي وحجة مخالفيهم هي عموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في تلك الأوقات وظاهرها العموم .

وقد قال الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار : وأنت خبير بأن حديث جبير بن مطعم لا يصلح لتخصيص أحاديث النهي المتقدمة ; لأنه أعم منها من وجه وأخص من وجه ، وليس أحد العمومين أولى بالتخصيص من الآخر ، لما عرفت غير مرة انتهى منه ، وهو كما قال رحمه الله .

والقاعدة المقررة في الأصول : أن النصين إذا كان بينهما عموم ، وخصوص من وجه ، فإنهما يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها ، فيجب الترجيح بينهما . كما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :



وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر

وإيضاح كون حديث جبير المذكور بينه ، وبين أحاديث النهي المذكورة عموم وخصوص من وجه ، كما ذكره الشوكاني رحمه الله : هو أن أحاديث النهي عامة في مكة وغيرها ، خاصة في أوقات النهي . وحديث جبير بن مطعم عام في أوقات النهي وغيرها ، خاص بمكة حرسها الله ، فتختص أحاديث النهي بأوقات النهي في غير مكة ، ويختص حديث جبير بالأوقات التي لا ينهى عن الصلاة فيها بمكة ، ويجتمعان في أوقات النهي في مكة ، فعموم أحاديث النهي يشمل مكة وغيرها ، وعموم إباحة الصلاة في جميع الزمن في حديث جبير ، يشمل أوقات النهي وغيرها في مكة فيظهر التعارض في أوقات النهي في مكة ، فيجب الترجيح . وأحاديث النهي أرجح من حديث جبير من وجهين :

أحدهما : أنها أصح منه لثبوتها في الصحيح .

[ ص: 414 ] والثاني : هو ما تقرر في الأصول ، أن النص الدال على النهي يقدم على النص الدال على الإباحة ; لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، كما قدمناه مرارا . والعلم عند الله تعالى .
الفرع التاسع : اعلم أن أظهر أقوال العلماء ، وأصحها إن شاء الله : أن الطواف لا يفتقر إلى نية تخصه ; لأن نية الحج تكفي فيه ، وكذلك سائر أعمال الحج كالوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ، والسعي ، والرمي كلها لا تفتقر إلى نية ، لأن نية النسك بالحج تشمل جميعها ، وعلى هذا أكثر أهل العلم . ودليله واضح ; لأن نية العبادة تشمل جميع أجزائها فكما لا يحتاج كل ركوع وسجود من الصلاة إلى نية خاصة لشمول نية الصلاة لجميع ذلك ، فكذلك لا تحتاج أفعال الحج لنية تخص كل واحد منها ، لشمول نية الحج لجميعها .

ومما استدلوا به لذلك ، أنه لو وقف بعرفة ناسيا أجزأه ذلك بالإجماع ، قاله النووي . ومقابل القول الذي هو الصواب إن شاء الله قولان آخران لأهل العلم :

أحدهما : وبه قال أبو علي بن أبي هريرة من الشافعية ، أن ما كان منها مختصا بفعل كالطواف ، والسعي ، والرمي ، فهو مفتقر إلى نية ، وما كان منها غير مختص بفعل بل هو لبث مجرد كالوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة فهو لا يفتقر إلى نية .

والثاني منهما : وبه قال أبو إسحاق المروزي : أنه لا يفتقر شيء من أعمال الحج إلى نية إلا الطواف ، لأنه صلاة ، والصلاة تفتقر إلى النية ، وأظهرها وأصحها إن شاء الله الأول ، وهو قول الجمهور .
الفرع العاشر : أظهر قولي العلماء عندي أنه إن أقيمت الصلاة وهو في أثناء الطواف أنه يصلي مع الناس ولا يستمر في طوافه مقدما إتمام الطواف على الصلاة ، وممن قال بذلك : ابن عمر ، وسالم ، وعطاء ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم ، وأبو ثور . وروي ذلك عنهم في السعي أيضا ولكن عند المالكية لا يجوز قطع الطواف إلا للصلاة المكتوبة خاصة ، إذا أقيمت ، وهو في أثناء الطواف ، ويبني عندهم إن قطعه للصلاة خاصة ، ويندب عندهم إكمال الشوط إن قطعه في أثناء شوط ، وإن قطعه لغيرها كصلاة الجنازة ، أو تحصيل نفقة لا بد منها لم يبن على ما مضى منه ، بل يستأنف الطواف عندهم ; لأنه لا يجوز عندهم قطعه لذلك ابتداء ، كما ذكرناه قريبا . وقيل : يمضي في طوافه ، ولا [ ص: 415 ] يقطعه للصلاة واحتج من قال بهذا ، بأن الطواف صلاة ، فلا تقطع لصلاة . ورد عليه بحديث : " إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة " ، ومن قال من أهل العلم : إن الطواف يجوز قطعه للصلاة على الجنازة والحاجة الضرورية : كالشافعية والحنابلة ، قالوا : يبني على ما أتى به من أشواط الطواف ، فإن كان قطعه للطواف عند انتهاء شوط من أشواطه ، بنى على الأشواط المتقدمة ، وجاء ببقية الأشواط ، وإن كان قطعه له في أثناء الشوط ، فأظهر قولي أهل العلم عندي : أنه يبتدئ من الموضع الذي وصل إليه ، ويعتد ببعض الشوط الذي فعله قبل قطع الطواف ، خلافا لمن قال : إنه يبتدئ الشوط الذي قطع الطواف في أثنائه ، ولا يعتد ببعضه الذي فعله : وهو قول الحسن ، وأحد وجهين عند بعض الشافعية ، وهو مندوب عند المالكية إن قطعه للفريضة كما تقدم وكذلك لو أحدث في أثناء الطواف عند من يقول : إنه يتوضأ ، ويبني على ما مضى من طوافه ، وهو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد .
الفرع الحادي عشر : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن من طاف قبل التحلل ، وهو لابس مخيطا أن الطواف صحيح كمن صلى في ثوب حرير ، ولكنه يلزمه الدم والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني عشر : لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم : أن الطواف جائز في أوقات النهي عن الصلاة ، وفي صلاة الركعتين ، إذا طاف وقت نهي الخلاف الذي تكلمنا عليه قريبا .
الفرع الثالث عشر : اختلف العلماء في صلاة النافلة في المسجد الحرام . والطواف بالبيت أيهما أفضل ؟ فقال بعض أهل العلم : الطواف أفضل . وبه قال بعض علماء الشافعية ، واستدلوا بأن الله قدم الطواف على الصلاة في قوله : وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود [ 2 \ 125 ] وقوله : وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود [ 11 \ 26 ] وقال بعض أهل العلم : الصلاة أفضل لأهل مكة والطواف أفضل للغرباء . وممن قال به : ابن عباس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب .
المسألة السابعة

اختلف العلماء في السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة ، هل هو ركن من [ ص: 416 ] أركان الحج والعمرة ؟ لا يصح واحد منهما بدونه ، ولا يجبر بدم ، أو هو واجب يجبر بدم ، أو سنة لا يلزم بتركه دم ؟ وممن قال : إنه ركن من أركان الحج ، والعمرة مالك ، والشافعي ، وأصحابهما ، وأم المؤمنين عائشة ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وداود ، وهو رواية عن الإمام أحمد كما نقله النووي في شرح المهذب ، وقال في شرح مسلم : مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ، ومن بعدهم : أن السعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج ، لا يصح إلا به ، ولا يجبر بدم ، وممن قال بهذا : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور . انتهى محل الغرض منه ، وعزوه إياه لأحمد ، قد قدمنا فيه أنه إحدى الروايات عن أحمد .

وقال ابن قدامة في المغني : وروي عن أحمد أنه ركن لا يتم الحج إلا به ، وهو قول عائشة ، وعروة ، ومالك ، والشافعي .

وممن قال إنه واجب يجبر بدم : أبو حنيفة وأصحابه ، والحسن ، وقتادة ، والثوري ، وبه قال القاضي من الحنابلة ، وذكره النووي رواية عن أحمد ، وقد رواه ابن القصار من المالكية ، عن القاضي إسماعيل ، عن مالك ، وقال ابن قدامة في المغني : إنه أولى . وذكر النووي عن طاوس أنه قال : من ترك من السعي أربعة أشواط لزمه دم ، وإن ترك دونها لزمه لكل شوط نصف صاع . وليس هو بركن ، ثم قال : وهو مذهب أبي حنيفة . انتهى .

وما قال النووي : إنه مذهب أبي حنيفة من أن ترك أقل السعي فيه الصدقة بنصف صاع عن كل شوط ، عزاه شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للحاكم الشهيد في مختصره المسمى بالكافي ا هـ .

ومعلوم أن مذهب أبي حنيفة في طواف الإفاضة ، أن من ترك منه ثلاثة أشواط فأقل ، فعليه دم ، وحجه صحيح ، وتفريقه بين الأقل والأكثر في الطواف الذي هو ركن يدل على التفريق بينهما في السعي ، وممن روي عنه أن السعي بين الصفا والمروة سنة لا يلزم بتركه دم : ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وأنس ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وابن سيرين .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في السعي : فاعلم أنا نريد هنا أن نبين أدلة كل منهم على ما ذهب إليه مع مناقشتها .

فأما الذين قالوا : إنه ركن من أركان الحج والعمرة ، فقد استدلوا لذلك بأدلة :

منها قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ 2 \ 158 ] . قالوا : [ ص: 417 ] فتصريحه تعالى بأن الصفا والمروة من شعائر الله يدل على أن السعي بينهما أمر حتم لا بد منه ، لأن شعائر الله عظيمة ، لا يجوز التهاون بها . وقد أشار البخاري رحمه الله في صحيحه إلى أن كونهما من شعائر الله .

يدل على ذلك . قال : باب وجوب الصفا والمروة ، وجعل من شعائر الله .

وقال ابن حجر في الفتح في شرح قول البخاري : وجعل من شعائر الله ؛ أي : وجوب السعي بينهما ، مستفاد من كونهما جعلا من شعائر الله ، قاله ابن المنير في الحاشية . انتهى الغرض من كلامه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومما يدل على أن شعائر الله لا يجوز التهاون بها ، وعدم إقامتها قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله الآية [ 2 \ 5 ] . وقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب الآية [ 22 ] ، ومن أدلتهم على ذلك : " أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجه وعمرته بين الصفا والمروة سبعا " ، وقد دل على أن ذلك لا بد منه دليلان :

الأول : هو ما قدمنا من أنه تقرر في الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، إذا كان لبيان نص مجمل من كتاب الله ، أن ذلك الفعل يكون لازما ، وسعيه بين الصفا والمروة فعل بين المراد من قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله والدليل على أنه فعله بيانا للآية هو قوله صلى الله عليه وسلم : " نبدأ بما بدأ الله به " ، يعني الصفا ; لأن الله بدأ بها في قوله : إن الصفا والمروة . وفي رواية " أبدأ " بهمزة المتكلم ، والفعل مضارع . وفي رواية عند النسائي : " ابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر .

الدليل الثاني : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وقد طاف بين الصفا والمروة سبعا ، فيلزمنا أن نأخذ عنه ذلك من مناسكنا ، ولو تركناه لكنا مخالفين أمره بأخذه عنه ، والله تعالى يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] فاجتماع هذه الأمور الثلاثة التي ذكرنا يدل على اللزوم : وهي كونه سعى بين الصفا والمروة سبعا ، وأن ذلك بيان منه لآية من كتاب الله وأنه قال : " لتأخذوا عني مناسككم " .

أما طوافه بينهما سبعا فهو ثابت بالروايات الصحيحة .

منها : حديث ابن عمر الثابت في الصحيح ولفظه في صحيح البخاري . قال : " قدم [ ص: 418 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ، وصلى خلف المقام ركعتين ، وطاف بين الصفا والمروة سبعا . لقد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة " ، وفي لفظ في صحيح مسلم ، من حديث ابن عمر : " فأتى الصفا ، فطاف بالصفا ، والمروة سبعة أطواف " ، والروايات بسعيه صلى الله عليه وسلم سبعا بين الصفا والمروة كثيرة معروفة . وقد مثلنا لها بحديث ابن عمر المتفق عليه . وأما كون ذلك السعي بيانا لآية : إن الصفا والمروة من شعائر الله . فهو أمر لا شك فيه ، ويدل عليه أمران :

أحدهما : سبب نزول الآية ; لأنه ثبت في الصحيحين أنها نزلت في سؤالهم عن السعي بين الصفا والمروة ، وإذا كانت نازلة جوابا عن سؤالهم عن حكم السعي ، بين الصفا والمروة ، فسعي النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزولها بيان لها .

والأمر الثاني : هو ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم : " أبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا كما تقدم قريبا ، وأما حديث " لتأخذوا عني مناسككم " ، فقد قال مسلم في صحيحه في باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا ، وبيان قوله صلى الله عليه وسلم : " لتأخذوا عني مناسككم " .

حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، وعلي بن خشرم جميعا ، عن عيسى بن يونس ، قال ابن خشرم : أخبرنا عيسى ، عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ، ويقول : " لتأخذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه " ، وقال البيهقي في السنن الكبرى : في باب الإيضاع في وادي محسر : وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان ، أنبأنا سليمان بن أحمد بن أيوب ، ثنا علي بن عبد العزيز ، ثنا أبو نعيم قال : وحدثنا حفص ، ثنا قبيصة قال : وحدثنا يوسف القاضي ، ومعاذ بن المثنى قالا : ثنا ابن كثير ، قالوا : ثنا سفيان ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه السكينة ، وأمرهم بالسكينة ، وأوضع في وادي محسر ، وأمرهم أن يرموا الجمار مثل حصى الخذف ، وقال : " خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا " ، انتهى منه . وقال النووي في شرح المهذب : إن هذا الإسناد الذي رواه به البيهقي صحيح على شرط البخاري ، ومسلم .

واعلم أن رواية مسلم ورواية البيهقي المذكورتين معناهما واحد ; لأن : " خذوا عني مناسككم " بصيغة فعل الأمر يؤدي معنى قوله : " لتأخذوا عني " ، بالفعل المضارع [ ص: 419 ] المجزوم بلام الأمر ، فكلتا الصيغتين صيغة أمر ، ومن المعلوم أن الصيغ الدالة على الأمر أربع الأولى فعل الأمر نحو : أقم الصلاة لدلوك الشمس [ 17 \ 78 ] وقوله : " خذوا عني مناسككم " .

الثانية : الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق [ 22 \ 29 ] وقوله : " لتأخذوا عني مناسككم " في رواية مسلم .

الثالثة : اسم فعل الأمر نحو قوله تعالى : عليكم أنفسكم الآية [ 5 \ 105 ] .

الرابعة : المصدر النائب عن فعله كقوله تعالى : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب [ 47 \ 4 ] ؛ أي : فاضربوا رقابهم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:17 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (333)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 420 إلى صـ 427





ومن أدلتهم على أن السعي فرض لا بد منه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ، عن عائشة رضي الله عنها قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال عروة : سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها : أرأيت قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] فوالله ما على أحد جناح ألا يطوف بالصفا والمروة . قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي ، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه ، ألا يطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية ، التي كانوا يعبدونها ، عند المشلل فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا ، والمروة ، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله قالت عائشة رضي الله عنها : وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إن هذا العلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة ، ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة ، قالوا : يا رسول الله ، كنا نطوف بالصفا والمروة ، وإن الله أنزل الطواف بالبيت ، فلم يذكر الصفا ، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا ، والمروة ؟ فأنزل الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] . قال أبو بكر : فأسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما ، [ ص: 420 ] في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا بالجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام ، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا ، حتى ذكر ذلك بعد ما ذكر الطواف بالبيت . انتهى من صحيح البخاري .

وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بين الصفا والمروة ؛ أي : فرضه بالسنة ، وقد أجابت عائشة عما يقال : إن رفع الجناح في قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] ينافي كونه فرضا بأن ذلك نزل في قوم تحرجوا من السعي بين الصفا والمروة ، وظنوا أن ذلك لا يجوز لهم ، فنزلت الآية مبينة أن ما ظنوه من الحرج في ذلك منفي .

وقد تقرر في الأصول أن النص الوارد في جواب سؤال لا مفهوم مخالفة له ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذه المسألة . وقال ابن حجر في : فتح الباري في الكلام على هذا الحديث : .
تنبيه

قول عائشة رضي الله عنها : سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بين الصفا والمروة ؛ أي : فرضه بالسنة ، وليس مرادها نفي فرضيته ، ويؤيده قولها : لم يتم الله حج أحدكم ، ولا عمرته ما لم يطف بينهما .

وقال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة قال : قلت لها : إني لا أظن رجلا لو لم يطف بين الصفا والمروة ما ضره . قالت لم ؟ قلت : لأن الله تعالى يقول : إن الصفا والمروة من شعائر الله [ 2 \ 158 ] إلى آخر الآية فقالت : ما أتم الله حج امرئ ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ، ولو كان كما تقول ، لكان : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ; الحديث ، وفي رواية في صحيح مسلم ، عن عروة قال : قلت لعائشة : " ما أرى علي جناحا أن لا أتطوف بين الصفا والمروة ، قالت لم ؟ قلت : لأن الله عز وجل يقول إن الصفا والمروة من شعائر الله فقالت : لو كان كما تقول ، لكان فلا جناح عليه ألا يطوف بهما إنما أنزل هذا في أناس من الأنصار ، كانوا إذا أهلوا لمناة في الجاهلية فلا يحل لهم أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم للحج ذكروا ذلك له ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، " فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة " ، وفي رواية ، عن عروة أيضا في [ ص: 421 ] صحيح مسلم قال : قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ما أرى على أحد ، لم يطف بين الصفا والمروة شيئا ، وما أبالي ، أن لا أطوف بينهما . قالت : بئس ما قلت يا ابن أختي : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون ، فكان سنة ، وإنما كان من أهل لمناة الطاغية ، التي بالمشلل ، لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فلما كان الإسلام سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فأنزل الله عز وجل : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ولو كانت كما تقول ، لكانت فلا جناح عليه ، ألا يطوف بينهما . قال الزهري : فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك ، وقال : إن هذا العلم ، ولقد سمعت رجالا من أهل العلم يقولون : إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب ، يقولون : إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية ، وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ، ولم نؤمر به بين الصفا والمروة ، فأنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله [ 2 \ 158 ] قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء ، وفي رواية في صحيح مسلم ، عن عروة بن الزبير أيضا قال : سألت عائشة . وساق الحديث بنحوه ، وقال في الحديث : فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن ذلك فقالوا : يا رسول الله ، إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة ، فأنزل الله عز وجل إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما قالت عائشة : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما فليس لأحد أن يترك الطواف بهما .

فهذه الروايات الثابتة في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها فيها الدلالة الواضحة ، على أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا بد منه ، لأنك رأيت في بعض هذه الروايات الثابتة عنها في الصحيح ، أنها قالت : ما أتم الله حج امرئ ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة ، وفي بعضها قالت : فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة . وفي رواية متفق عليها عنها رضي الله عنها : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما إلى آخر ما تقدم من الروايات وفيها النص الصريح الصحيح ، على أن السعي لا بد منه وأن من لم يسع ، لم يتم له حج ولا عمرة .
تنبيه

اعلم أن ما يظنه كثير من أهل العلم ، من أن حديث عائشة هذا الدال على أن [ ص: 422 ] السعي لا بد منه ، وأنه لا يتم بدونه حج ، ولا عمرة أنه موقوف عليها غير صواب ، بل هو مرفوع ، ومن أصرح الأدلة في ذلك أنها رتبت بالفاء في الرواية المتفق عليها قولها : فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، على قولها : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، وهو صريح في أن قولها : ليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، لأجل أنه صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما ، ودل هذا الترتيب بالفاء على أن مرادها بأنه سنه أنه فرضه بسنته كما جزم به ابن حجر في الفتح ، مقتصرا عليه ، مستدلا له بأنها قالت : ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته ، لم يطف بين الصفا والمروة ، فقولها : إن النبي صلى الله عليه وسلم سن الطواف بينهما ، وترتيبها على ذلك بالفاء ، قولها : فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما ، وجزمها بأنه لا يتم حج ولا عمرة إلا بذلك دليل واضح على أنها إنما أخذت ذلك مما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا برأي منها ، كما ترى .

وقد تقرر في الأصول في مبحث النص الظاهر من مسالك العلة أن الفاء في الكتاب ، والسنة تفيد التعليل ، وكذلك هي في كلام الراوي الفقيه ، فهو المرتبة الثانية بعد الوحي من كتاب ، أو سنة ، ثم يلي ذلك الفاء من الراوي غير الفقيه .

ومثاله في الوحي قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ؛ أي : لعلة سرقتهما . وقوله تعالى : قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ 2 \ 222 ] ؛ أي : لعلة كون الحيض أذى .

ومثاله في كلام الراوي . حديث أنس المتفق عليه : أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين ، فقيل لها : من فعل بك هذا فلان أو فلان ؟ حتى سمي اليهودي ، فأومأت برأسها فجيء به فلم يزل حتى اعترف ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بالحجارة . فقول أنس في هذا الحديث الصحيح .

فأمر به فرض رأسه بحجرين ؛ أي : لعلة رضه رأس الجارية المذكورة بين حجرين .

ومن أمثلة ذلك ما رواه أبو داود في سننه ، عن عمران بن حصين : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم فسها فسجد سجدتين ، ثم تشهد ثم سلم " ا هـ ؛ أي : سجد لعلة سهوه ، وكذلك قول عائشة رضي الله عنها : قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بهما ؛ أي : لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم سن ذلك ؛ أي : فرضه بسنته كما تقدم إيضاحه ، وإلى إفادة الفاء التعليل في كلام الشارع ، ثم الراوي الفقيه ، ثم الراوي غير الفقيه أشار في مراقي السعود بقوله في مراتب النص الظاهر :

فالفاء للشارع فالفقيه فغيره يتبع بالشبيه

[ ص: 324 ] ومن أدلتهم على أن السعي ركن لا بد منه : حديث : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس ، ومن حديث حبيبة بنت أبي تجراة ، ومن حديث تملك العبدرية ، ومن حديث صفية بنت شيبة .

قال الزيلعي في نصب الراية : أما حديث ابن عباس ، فرواه الطبراني في معجمه ، ثنا محمد بن النضر الأزدي ، عن معاوية بن عمرو ، عن المفضل بن صدقة ، عن ابن جريج ، وإسماعيل بن مسلم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حج عن الرمل ؟ فقال : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " انتهى .

وأما حديث حبيبة بنت أبي تجراة فرواه الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه ، والحاكم في المستدرك ، وسكت عليه ، وأعله ابن عدي في الكامل بابن المؤمل ، وأسند تضعيفه عن أحمد ، والنسائي ، ووافقهم . ومن طريق أحمد الطبراني في معجمه ، ومن طريق الشافعي رواه الدارقطني ، ثم البيهقي في سننهما ، قال الشافعي : أخبرنا عبد الله بن المؤمل العائذي ، عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن صفية بنت شيبة ، عن حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه ، وهو وراءهم ، وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي ، وهو يقول : " اسعوا فإن الله تعالى كتب عليكم السعي " انتهى . وأخرجه الحاكم في المستدرك أيضا في الفضائل ، عن عبد الله بن نبيه ، عن جدته صفية ، عن حبيبة بنت أبي تجراة بنحوه . وسكت عنه أيضا ، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا محمد عن عبد الله بن المؤمل ، حدثنا عبد الله بن أبي حسين ، عن عطاء ، عن حبيبة بنت أبي تجراة ، فذكره ، قال أبو عمر بن عبد البر : أخطأ ابن أبي شيبة ، أو شيخه في موضعين منه .

أحدهما : أنه جعل موضع ابن محيصن عبد الله بن أبي حسين ، والآخر أنه أسقط صفية بنت شيبة . قال ابن القطان في كتابه : وعندي أن الوهم من عبد الله بن المؤمل فإن ابن أبي شيبة إمام كبير ، وشيخه محمد بن بشر ثقة ، وابن المؤمل سيئ الحفظ ، وقد اضطرب في هذا الحديث اضطرابا كثيرا فأسقط عطاء مرة ، وابن محيصن أخرى ، وصفية بنت شيبة أخرى ، وأبدل ابن محيصن بابن أبي حسين أخرى ، وجعل المرأة عبدرية تارة ويمنية أخرى . وفي الطواف تارة ، وفي السعي بين الصفا والمروة أخرى ، وكل ذلك دليل على سوء حفظه ، وقلة ضبطه . والله أعلم انتهى .

[ ص: 424 ] طريق آخر أخرجه الدارقطني في سننه ، عن ابن المبارك ، أخبرني معروف بن مشكان ، قال : أخبرني منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه صفية قالت : أخبرتني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن : دخلنا دار ابن أبي حسين فاطلعنا من باب مقطع فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى إلى آخره .

قال صاحب التنقيح : إسناده صحيح ، ومعروف بن مشكان باني كعبة الرحمن صدوق ، لا نعلم من تكلم فيه ، ومنصور هذا ثقة مخرج له في الصحيحين . انتهى .

وأما حديث تملك العبدرية ; فأخرجه البيهقي في سننه ، والطبراني في معجمه عن مهران بن أبي عمر ، ثنا سفيان ، ثنا المثنى بن الصباح ، عن المغيرة بن حكيم ، عن صفية بنت شيبة ، عن تملك العبدرية . قالت : نظرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا في غرفة لي بين الصفا والمروة ، وهو يقول : " أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " انتهى . تفرد به مهران بن أبي عمر ، قال البخاري : في حديثه اضطراب . وأما حديث صفية بنت شيبة فرواه الطبراني في معجمه ، حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، ثنا علي بن الحكم الأودي ، ثنا حميد بن عبد الرحمن ، عن المثنى بن الصباح ، عن المغيرة بن حكيم ، عن صفية بنت شيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ، انتهى .

وذكر الدارقطني في علله في هذا الحديث اضطرابا كثيرا . ثم قال : والصحيح قول من قال عن عمر بن محيصن ، عن عطاء ، عن صفية ، عن حبيبة بنت أبي تجراة وهو الصواب انتهى .

وقال الحازمي في كتابه : ( الناسخ والمنسوخ ) : الوجه السادس والعشرون من وجوه الترجيحات : هو أن يكون أحد الحديثين من قول النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مقارن فعله ، والآخر مجرد قوله لا غير ، فيكون الأول أولى بالترجيح نحو ما روته حبيبة بنت أبي تجراة ، قالت : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في بطن المسيل يسعى وهو يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ، فهو أولى من حديث : " الحج عرفة " لأنه مجرد قول . والأول قول وفعل ، وفيه أيضا إخباره عن الله أنه أوجبه علينا ، فكان أولى . انتهى كلامه .

ورواه الواقدي في كتاب المغازي : حدثنا علي بن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه ، عن برة بنت أبي تجراة قالت : لما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم إلى السعي قال : " أيها الناس إن الله كتب عليكم السعي [ ص: 425 ] فاسعوا " قالت : فسعى حتى رأيت إزاره انكشف عن فخذه . انتهى كله من نصب الراية للزيلعي .

وقد رأيته عزا لصاحب التنقيح : أن حديث صفية بنت شيبة ، عن نسوة من بني عبد الدار أدركن النبي صلى الله عليه وسلم أنهن رأينه يطوف بين الصفا والمروة وهو يقول : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " ، أن إسناده صحيح ، وهو نص في محل النزاع . والظاهر أن الإسناد المذكور صحيح كما قال . لأن معروف بن مشكان المذكور صدوق ، ومنصور بن عبد الرحمن بن طلحة بن الحارث العبدري الحجبي ثقة ، وهو ابن صفية بنت شيبة المذكورة .

وقال النووي في شرح المهذب : واحتج أصحابنا بحديث صفية بنت شيبة ، عن نسوة من بني عبد الدار أنهن سمعن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد استقبل الناس في المسعى ، وقال : " يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم " رواه الدارقطني ، والبيهقي بإسناد حسن . انتهى منه .

وهو نص صالح للاحتجاج في أن السعي مما كتب على الناس ، ولفظة : كتب : تدل على اللزوم .

فإن قيل : حديث حبيبة المذكور في إسناده عبد الله بن المؤمل ، وهو وإن كان وثقه ابن حبان وقال : يخطئ ، فقد ضعفه غيره ، وحديث صفية في إسناده موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف ، وحديث : تملك المذكور فيه المثنى بن الصباح ، وهو وإن وثقه ابن معين في رواية ، فقد ضعفه جماعة . وحديث ابن عباس المذكور فيه المفضل بن صدقة ، وهو متروك .

فالجواب : أن رواية صفية بنت شيبة ، عن نسوة من بني عبد الدار عند الدارقطني ، والبيهقي ، ليس في إسنادها شيء مما ذكر ، وقد صحح إسنادها ابن الهمام في التنقيح ، كما ذكره الزيلعي وحسنها النووي في شرح المهذب ، والبيهقي روى حديثها المذكور من طريق الدارقطني ، قال في سننه الكبرى : أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي ، وأبو بكر بن الحارث الفقيه قالا : ثنا علي بن عمر الحافظ ، ثنا يحيى بن صاعد ، ثنا الحسن بن عيسى النيسابوري ، ثنا ابن المبارك ، أخبرني معروف ابن مشكان ، أخبرني منصور بن عبد الرحمن ، عن أمه صفية ، أخبرتني عن نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن : دخلنا دار ابن أبي حسين ، فاطلعنا من باب مقطع ، ورأينا [ ص: 426 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد في المسعى ، حتى إذا بلغ زقاق بني فلان ، موضعا قد سماه من المسعى ، استقبل الناس فقال : " يا أيها الناس ، اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم " انتهى منه .

فهذا الإسناد هو الذي صححه صاحب التنقيح ، وحسنه النووي .

واعلم أن اختلاف الروايات في المرأة التي روت عنها صفية المذكورة هذا الحديث لا يضر لتصريحها في رواية الدارقطني والبيهقي هذه بأنها روت ذلك عن نسوة أدركن النبي صلى الله عليه وسلم . وإذن فلا مانع من أن تسمى واحدة منهن في رواية ، وتسمى غيرها منهن في رواية أخرى كما لا يخفى وقال ابن حجر في فتح الباري : واحتج ابن المنذر للوجوب بحديث صفية بنت شيبة ، عن حبيبة بنت أبي تجراة بكسر المثناة ، وسكون الجيم بعدها راء ، ثم ألف ساكنة ، ثم هاء ، وهي إحدى نساء بني عبد الدار ، قالت : دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي ، وسمعته يقول : " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " أخرجه الشافعي ، وأحمد ، وغيرهما . وفي إسناد هذا الحديث : عبد الله بن المؤمل ، وفيه ضعف ، ومن ثم قال ابن المنذر : إن ثبت فهو حجة في الوجوب .

قلت : له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة مختصرة ، وعند الطبراني ، عن ابن عباس كالأولى ، وإذا انضمت إلى الأولى قويت .

واختلف على صفية بنت شيبة في اسم الصحابية التي أخبرتها ، ويجوز أن تكون أخذته عن جماعة ، فقد وقع عند الدارقطني عنها : أخبرتني نسوة من بني عبد الدار ، فلا يضره الاختلاف . انتهى الغرض من كلام ابن حجر .

وقد علمت مما ذكرنا أن بعض طرق حديث : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " ، لا تقل عن درجة القبول . وهو نص في محل النزاع مع أنه معتضد بما ذكرناه من حديث عائشة ، عند الشيخين . وبظاهر الآية كما بينا ، وبما سيأتي أيضا إن شاء الله تعالى .

ومن أدلتهم على لزوم السعي ما جاء في بعض روايات حديث أبي موسى المتفق عليه ، من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، قال مسلم رحمه الله في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى ، وابن بشار ، قال ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا شعبة ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي موسى قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو منيخ [ ص: 427 ] بالبطحاء ، فقال لي " أحججت ؟ فقلت : نعم . فقال : بم أهللت ؟ قال : قلت : لبيك بإهلال كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم . قال : فقد أحسنت . طف بالبيت وبالصفا والمروة " . الحديث قالوا : فقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري " طف بالبيت وبالصفا والمروة " أمر صريح منه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وصيغة الأمر تقتضي الوجوب ما لم يقم دليل صارف عن ذلك ، وقد دل على اقتضائها الوجوب : الشرع واللغة .

وقال بعضهم : إن العقل يفيد ذلك ، وليس بسديد عندي ، أما دلالة الشرع على ذلك ففي نصوص كثيرة كقوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] وهذا الوعيد العظيم على مخالفة أمره ، يدل على وجوب امتثال أمره ، وكقوله تعالى : لإبليس لما لم يمتثل الأمر المدلول عليه بصيغة افعل التي هي قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 20 \ 116 ] ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك الآية [ 7 \ 12 ] فتوبيخه وتقريعه له في هذه الآية لمخالفته الأمر ، وقد سمى نبي الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مخالفة الأمر معصية وذلك يدل على وجوب الامتثال في قوله تعالى عنه : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] وكقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فجعل أمر الله ورسوله مانعا من الاختيار موجبا للامتثال ، منبها على عدم الامتثال معصية في قوله بعده : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا [ 33 \ 36 ] وكقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " إلى غير ذلك من الأدلة .

وأما دلالة اللغة على اقتضاء صيغة افعل الوجوب . فإيضاحها أن أهل اللسان العربي مجمعون على أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء مثلا ، ثم لم يمتثل العبد وعاقبه سيده على عدم الامتثال كان ذلك العقاب واقعا موقعه ، لأن صيغة افعل ألزمته الامتثال ، وليس للعبد أن يقول : صيغة افعل لم توجب علي الامتثال ، ولم تلزمني إياه ؟ فعقابك لي غلط لأني لم أترك شيئا لازما ، حتى تعاقبني عليه . وإجماعهم على أنه ليس له ذلك وأن عقابه له صواب لعصيانه دليل على أن صيغة افعل تقتضي الوجوب ، ما لم يصرف عنه صارف ، وهو قول جمهور الأصوليين . ومقابله أقوال أخر ، أشار لها في مراقي السعود بقوله في مبحث الأمر :

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:19 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (334)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 428 إلى صـ 435






وافعل لدى الأكثر للوجوب وقيل للندب أو المطلوب

[ ص: 428 ] وقيل للوجوب أمر الرب وأمر من أرسله للندب

ومفهم الوجوب يدري الشرع أو الحجا أو المفيد الوضع

وقال بعض أهل العلم : إن دلالة اللغة على اقتضاء الأمر الوجوب راجعة إلى دلالة الشرع ; لأن الشرع هو الذي دل على وجوب طاعة العبد لسيده .

ومن أدلتهم على أن السعي بين الصفا والمروة لا بد منه : ما قدمنا من حديث ابن عمر عند الترمذي ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا " قال المجد في المنتقى : رواه الترمذي ، وقال : هذا حديث حسن غريب ، وفيه دليل على وجوب السعي ، ووقوف التحلل عليه . انتهى منه .

والذي رأيته في الترمذي لما ساق الحديث بلفظه المذكور : هو أنه قال : قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح ، تفرد به الدراوردي على ذلك اللفظ ، وقد رواه غير واحد عن عبيد الله بن عمر ، ولم يرفعوه . وهو أصح . انتهى منه .

ومن أدلتهم على ذلك : ما جاء في بعض الروايات الثابتة في الصحيح ، من أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها : " يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك " وهذا اللفظ في صحيح مسلم ، قالوا : ويفهم من قوله : " يجزئ عنك طوافك بين الصفا والمروة عن حجك وعمرتك " أنها لو لم تطف بينهما لم يحصل لها إجزاء عن حجها وعمرتها ، هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بأنه ركن من أركان الحج والعمرة .

وأما حجة الذين قالوا : إنه سنة لا يجب بتركه شيء ، فهي قوله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] قالوا : فرفع الجناح في قوله : فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] دليل قرآني على عدم الوجوب ، كما قاله عروة بن الزبير ، لخالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها .

والجواب عن الاستدلال بهذه الآية على عدم وجوب السعي : هو ما أجابت به عائشة عروة ، فإنها أولا ذمت هذا التفسير لهذه الآية بقولها : بئس ما قلت يا ابن أختي ، ومعلوم أن لفظة بئس فعل جامد لإنشاء الذم ، وما ذمت تفسير الآية بما ذكر ، إلا لأنه تفسير غير صحيح ، وقد بينت له أن الآية نزلت جوابا لسؤال من ظن أن في السعي بين الصفا والمروة جناحا ، وإذا فذكر رفع الجناح لمطابقة الجواب للسؤال ، لا لإخراج المفهوم عن حكم [ ص: 429 ] المنطوق ، فلو سألك سائل مثلا قائلا : هل علي جناح في أن أصلي الخمس المكتوبة ؟ وقلت له : لا جناح عليك في ذلك ، لم يلزم من ذلك أنك تقول : بأنها غير واجبة ، وإنما قلت : لا جناح في ذلك ، ليطابق جوابك السؤال ، وقد دلت قرينتان على أنه ليس المراد رفع الجناح عمن لم يسع بين الصفا والمروة .

الأولى منهما : أن الله قال في أول الآية : إن الصفا والمروة من شعائر الله وكونهما من شعائر الله ، لا يناسبه تخفيف أمرهما برفع الجناح عمن لم يطف بينهما ، بل المناسب لذلك تعظيم أمرهما ، وعدم التهاون بهما ، كما أوضحناه في أول هذا المبحث .

والقرينة الثانية : هي أنه لو أراد ذلك المعنى لقال : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما ، كما قالت عائشة لعروة ، وقد تقرر في الأصول : أن اللفظ الوارد جوابا لسؤال لا مفهوم مخالفة له ; لأن المقصود به مطابقة الجواب للسؤال ، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، وقد أوضحنا هذا في سورة البقرة في الكلام على آية الطلاق ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما يمنع اعتبار دليل الخطاب ، أعني مفهوم المخالفة :

أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

ومحل الشاهد منه قوله : أو النطق انجلب ، للسؤل .

ومعنى ذلك : أن المنطوق إذا كان جوابا لسؤال فلا مفهوم مخالفة له ; لأن المقصود بلفظ المنطوق مطابقة الجواب للسؤال ، لا إخراج المفهوم عن حكم المنطوق .

فإن قيل : جاء في بعض قراءات الصحابة : فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما كما ذكره الطبري ، وابن المنذر وغيرهما ، عن أبي بن كعب ، وابن مسعود ، وابن عباس رضي الله عنهم .

فالجواب من وجهين :

الأول : أن هذه القراءة لم تثبت قرآنا لإجماع الصحابة على عدم كتبها في المصاحف العثمانية ، وما ذكره الصحابي على أنه قرآن ، ولم يثبت كونه قرآنا . ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه لا يستدل به على شيء ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، ووجهه أنه لما لم يذكره إلا لكونه قرآنا ، فبطل كونه قرآنا بطل من أصله ، فلا يحتج به على شيء ، وقال بعض أهل العلم : إذا بطل كونه قرآنا لم يمنع ذلك من الاحتجاج به كأخبار الآحاد ، التي ليست بقرآن ، فعلى القول الأول : فلا إشكال ، وعلى الثاني : فيجاب عنه بأن القراءة [ ص: 430 ] المذكورة تخالف القراءة المجمع عليها المتواترة ، وما خالف المتواتر المجمع عليه إن لم يمكن الجمع بينهما فهو باطل ، والنفي والإثبات لا يمكن الجمع بينهما لأنهما نقيضان .

الوجه الثاني : هو ما ذكره ابن حجر في الفتح عن الطبري ، والطحاوي ، من أن قراءة : أن لا يطوف بهما محمولة على القراءة المشهورة ، ولا زائدة . انتهى . ولا يخلو من تكلف كما ترى .

واعلم أن قوله تعالى : ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] لا دليل فيه ، على أن السعي تطوع ، وليس بفرض ; لأن التطوع المذكور في الآية راجع إلى نفس الحج والعمرة ، لا إلى السعي ; لإجماع المسلمين على أن التطوع بالسعي لغير الحاج والمعتمر غير مشروع ، والعلم عند الله تعالى .

وأما حجة من قال : السعي واجب يجبر بدم ، فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بينهما فدل ذلك على أن الطواف بينهما نسك ، وفي الأثر المروي عن ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم . وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن جمهور العلماء على أن السعي لا تشترط له طهارة الحدث ، ولا الخبث ، ولا ستر العورة ، فلو سعى ، وهو محدث أو جنب ، أو سعت امرأة وهي حائض ، فالسعي صحيح ، ولا يبطله ذلك ، وممن قال به الأئمة الأربعة ، وجماهير أهل العلم ، وقال الحسن : إن كان قبل التحلل تطهر وأعاد السعي ، وإن كان بعده ، فلا شيء عليه ، وذكر بعض الحنابلة رواية عن الإمام أحمد : أن الطهارة في السعي ، كالطهارة في الطواف . قال ابن قدامة في المغني : ولا يعول عليه ، والطهارة في السعي مستحبة عند كثير من أهل العلم ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم . وحجة الجمهور على أن السعي لا تشترط له الطهارة : هي ما تقدم من حديث عائشة المتفق عليه ، وقد أمرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور : أن تفعل كل ما يفعله الحاج ، وهي حائض إلا الطواف بالبيت خاصة . وهو دليل على أن السعي لا تشترط له الطهارة خلافا لمن قال : لا دليل في الحديث ، لأن السعي لا يصح إلا بعد طواف ، والحيض مانع من الطواف ، وهو مردود بأن النفي والإثبات نص في أن غير الطواف يصح من الحائض ويدخل فيه السعي .

وقال ابن قدامة في المغني : قال أبو داود : سمعت أحمد ، يقول : إذا طافت المرأة [ ص: 431 ] بالبيت ، ثم حاضت سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت . وروي عن عائشة ، وأم سلمة أنهما قالتا : إذا طافت المرأة بالبيت ، وصلت ركعتين ، ثم حاضت فلتطف بالصفا والمروة ، رواه الأثرم . وقال ابن قدامة أيضا : ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت ، فأشبهت الوقوف . انتهى منه .

وقال أيضا في المغني : ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة ولا الستارة للسعي ; لأنه إذا لم تشترط له الطهارة من الحدث وهي آكد فغيرها أولى .

الفرع الثاني : اعلم أن جمهور أهل العلم يشترطون في السعي الترتيب ، وهو أن يبدأ بالصفا ، ويختم بالمروة ، فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط ، وممن قال باشتراط الترتيب : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحابهم ، والحسن البصري ، والأوزاعي ، وداود ، وجمهور العلماء ، وعن أبي حنيفة خلاف في ذلك .

قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ، في فقه الإمام أبي حنيفة رحمه الله : ولو بدأ من المروة لا يعتد بالأولى لمخالفته الأمر . انتهى منه .

وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق المذكور : قوله : ولو بدأ بالمروة لا يعتد بالأولى . وفي مناسك الكرماني : إن الترتيب فيه ليس بشرط عندنا ، حتى لو بدأ بالمروة ، وأتى الصفا جاز ويعتد به ، ولكنه مكروه لترك السنة . فتستحب إعادة ذلك الشوط .

قال السروجي رحمه الله في الغاية : ولا أصل لما ذكره الكرماني .

وقال الرازي في أحكام القرآن : فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يعتد بذلك في الرواية المشهورة عن أصحابنا ، وروي عن أبي حنيفة أنه ينبغي له أن يعيد ذلك الشوط ، فإن لم يفعل فلا شيء عليه ، وجعله بمنزلة ترك الترتيب في أعضاء الطهارة ا هـ . فقول السروجي : لا أصل لما قاله الكرماني ; فيه نظر . انتهى منه .

وحجة الجمهور في اشتراط الترتيب : أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك وقال : " أبدأ بما بدأ الله به " ، وفي رواية عند النسائي : " فابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر ، ومع ذلك فقد قال : " خذوا عني مناسككم " ، فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الابتداء بما بدأ الله به ، وفعله صلى الله عليه وسلم عملا بالقرآن العظيم .

الفرع الثالث : اعلم أن جمهور أهل العلم على أن السعي لا يصح ، إلا بعد طواف ، [ ص: 432 ] فلو سعى قبل الطواف لم يصح سعيه ، عند الجمهور ، منهم الأئمة الأربعة ، ونقل الماوردي وغيره الإجماع عليه . قال النووي في شرح المهذب : وحكى ابن المنذر ، عن عطاء ، وبعض أهل الحديث : أنه يصح ، وحكاه أصحابنا عن عطاء ، وداود وحجة الجمهور : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسع في حج ، ولا عمرة إلا بعد الطواف ، وقد قال " لتأخذوا عني مناسككم " فعلينا أن نأخذ ذلك عنه ، واحتج من قال بصحة السعي قبل الطواف بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير عن الشيباني ، عن زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك قال : خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه ، فمن قال : يا رسول الله سعيت ، قبل أن أطوف ، أو قدمت شيئا ، أو أخرت شيئا ، فكان يقول : لا حرج لا حرج إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم ، وهو ظالم له ، فذلك الذي حرج وهلك . انتهى منه . وهذا الإسناد صحيح ، ورجاله كلهم ثقات معروفون . وجرير المذكور فيه هو ابن عبد الحميد بن قرط الضبي ، أبو عبد الله الرازي القاضي ، والشيباني المذكور فيه : هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان الكوفي ، ورجال هذا الإسناد كلهم مخرج لهم في الصحيحين إلا الصحابي ، الذي هو أسامة بن شريك . وقد أخرج عنه أصحاب السنن ، وروى عنه زياد بن علاقة المذكور ، وعلي بن الأقمر ، خلافا لمن قال : لم يرو عنه إلا زياد المذكور ، كما ذكره في تهذيب التهذيب عن الأزدي ، وسعيد بن السكن ، والحاكم ، وغيرهم ، وهذا الحديث الصحيح يقتضي صحة السعي قبل الطواف ، وجماهير أهل العلم على خلافه ، وأنه لا يصح السعي ، إلا مسبوقا بالطواف .

قال النووي في شرح المهذب : في حديث أسامة بن شريك هذا بعد أن ذكر صحة الإسناد المذكور ، وهذا الحديث محمول على ما حمله عليه الخطابي وغيره ، وهو أن قوله : سعيت قبل أن أطوف ؛ أي : سعيت بعد طواف القدوم ، وقبل طواف الإفاضة والله تعالى أعلم انتهى منه .

فقوله : قبل أن أطوف يعني : طواف الإفاضة الذي هو ركن ، ولا ينافي ذلك أنه سعى بعد طواف القدوم الذي هو ليس بركن .

الفرع الرابع : اعلم أن جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة : مالك ، وأحمد ، والشافعي ، وأصحابهم ، على أنه يشترط في صحة السعي ، أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة في كل شوط ، فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه ، وقد قدمنا مذهب أبي حنيفة في السعي ، وأنه لو تركه كله أو ترك أربعة أشواط منه فأكثر لصح حجه ، وعليه [ ص: 433 ] دم وأنه إن ترك منه ثلاثة أشواط فأقل لزمه عن كل شوط نصف صاع ، وحجة الجمهور أن المسافة للسعي محددة من الشارع ، فالنقص عن الحد مبطل كما هو ظاهر ، وحجة أبي حنيفة ، ومن وافقه كطاوس هي تغليب الأكثر على الأقل ، مع جبر الأقل بالصدقة ، ولا أعلم مستندا من النقل للتفريق بين الأربعة والثلاثة ، ولا لجعل نصف الصاع مقابل الشوط . والعلم عند الله تعالى .

الفرع الخامس : اعلم أنه لا يجوز السعي في غير موضع السعي ، فلو كان يمر من وراء المسعى ، حتى يصل إلى الصفا والمروة من جهة أخرى لم يصح سعيه ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه . وعن الشافعي في القديم : أنه لو انحرف عن موضع السعي انحرافا يسيرا أنه يجزئه . والظاهر أن التحقيق خلافه وأنه لا يصح السعي إلا في موضعه .

الفرع السادس : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم دليلا : أنه لو سعى راكبا أو طاف راكبا أجزأه ذلك ، لما قدمنا في الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم طاف في حجة الوداع بالبيت ، وبين الصفا والمروة ، وهو على راحلته ، ومعلوم أن من أهل العلم من يقول : لا يجزئه السعي ، ولا الطواف راكبا إلا لضرورة ومنهم : من منع الركوب في الطواف ، وكرهه في السعي إلا لضرورة ، ومنهم من يقول : إن ركب ولم يعد سعيه ماشيا ، حتى رجع إلى وطنه فعليه الدم . والأظهر هو ما قدمنا . لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ، وسعى راكبا ، وهو صلوات الله وسلامه عليه لا يفعل إلا ما يسوغ فعله ، وقد قال لنا : " خذوا عني مناسككم " والذين قالوا : إن الطواف والسعي يلزم فيهما المشي . قالوا : إن ركوبه لعلة وبعضهم يقول : هي كونه مريضا كما جاء في بعض الروايات ، وبعضهم يقول : هي أن يرتفع ، ويشرف حتى يراه الناس ويسألوه ، وبعضهم يقول : هي كراهيته أن يضرب عنه الناس ، وقد قدمنا الروايات بذلك في صحيح مسلم ، ففي حديث جابر عند مسلم : طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه ، لأن يراه الناس وليشرف ، وليسألوه فإن الناس قد غشوه . وفي رواية في صحيح مسلم عن جابر رضي الله ، طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس ، وليشرف ، وليسألوه فإن الناس قد غشوه . وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها : طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة على بعير يستلم الركن ، كراهية أن يضرب عنه الناس .
[ ص: 434 ] المسألة الثامنة

اعلم أن العلماء أجمعوا على أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج لا يصح الحج بدونه ، وأنهم أجمعوا على أن الوقوف ينتهي وقته بطلوع فجر يوم النحر ، فمن طلع فجر يوم النحر وهو لم يأت عرفة فقد فاته الحج إجماعا ، ومن جمع في وقوف عرفة بين الليل والنهار وكان جزء النهار الذي وقف فيه من بعد الزوال فوقوفه تام ، ومن اقتصر على جزء من الليل دون النهار صح حجه ، ولزمه دم عند المالكية ، خلافا لجماهير أهل العلم القائلين : بأنه لا دم عليه ، وما ذكره النووي عن بعض الخراسانيين : من أن الوقوف بالليل لا يجزئ ولا يصح به الحج ، حتى يقف معه بعض النهار ظاهر السقوط لمخالفته للنص ، وعامة أهل العلم ، ومن اقتصر على جزء من النهار دون الليل لم يصح حجه عند مالك ، وهو رواية عن أحمد ، وعند الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد في الرواية الأخرى : حجه صحيح ، وعليه دم ، ولا خلاف بين العلماء : أن عرفة كلها موقف .

والدليل على أن الوقوف بعرفة ركن ، وأن وقته ينتهي بطلوع الفجر ليلة النحر : ما رواه الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، وغيرهم من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الحج عرفة ، فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج " ، قال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث : رواه أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر ، قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة ، وأتاه ناس من أهل نجد فقالوا : يا رسول الله ، كيف الحج ؟ فقال : " الحج عرفة من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه " لفظ أحمد وفي رواية لأبي داود " من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " ، وألفاظ الباقين نحوه .

وفي رواية للدارقطني والبيهقي : " الحج عرفة الحج عرفة " . انتهى من التلخيص .

وفي سنن أبي داود : الحج الحج يوم عرفة ، بتكرير لفظة الحج . وفي سنن النسائي : فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه . وقال ابن ماجه في سننه ، بعد أن ساق الحديث باللفظ الذي ذكره صاحب التلخيص : قال محمد بن يحيى : ما أرى للثوري حديثا أشرف منه . وقال النووي في شرح المهذب : حديث عبد الرحمن الديلي صحيح رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، وآخرون بأسانيد صحيحة .

[ ص: 435 ] وهذا لفظ الترمذي ، عن عبد الرحمن بن يعمر : أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسألوه عن الحج ؟ فأمر مناديا ينادي : الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج . وفي رواية أبي داود : " فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فنادى : الحج الحج يوم عرفة ، من جاء قبل الصبح من ليلة جمع فتم حجه " وفي رواية البيهقي ، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الحج عرفات الحج عرفات ، من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج " ، وإسناد هذه الرواية صحيح ، وهو من رواية سفيان بن عيينة .

قلت : عن سفيان الثوري ، قال ابن عيينة : ليس عندكم بالكوفة حديث أشرف ولا أحسن من هذا . انتهى كلام النووي .

ودليل الإجماع على أن من جمع في وقوفه بعرفة بين جزء من الليل ، وجزء من النهار ، من بعد الزوال : أن وقوفه تام ، هو ما ثبت في الروايات الصحيحة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل وقال : لتأخذوا عني مناسككم " .

فمن الروايات الصحيحة الدالة على ذلك ، ما رواه مسلم في صحيحه في حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن فيه : " فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة ، فنزل حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادي فخطب الناس إلى أن قال : ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء ، إلى الصخرات ، وجعل حبل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلا ، حتى غاب القرص " الحديث . ففي هذا الحديث الصحيح : أنه جمع في وقوفه بين النهار من بعد الزوال ، وبين جزء قليل من الليل مع قوله : " لتأخذوا عني مناسككم " ، ودليل القائلين بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على جزء من الليل ، دون النهار فقد تم حجه : حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور ، فإن فيه تصريح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه . وجمع : هي المزدلفة ، وليلتها : هي الليلة التي صبيحتها يوم النحر .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:21 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (335)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 436 إلى صـ 443




ودليل من ألزموه دما مع وقوفه بعرفة في جزء من الليل : وهم المالكية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالليل ، بل وقف معه جزءا من النهار ، فتارك الوقوف بالنهار تارك نسكا . وفي الأثر المروي عن ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم ، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الديلي : " فقد تم حجه " لا يساعد على لزوم الدم ، لأن لفظ التمام يدل على عدم الحاجة [ ص: 436 ] إلى الجبر بدم ، فهو يؤيد مذهب الجمهور ، والعلم عند الله تعالى .

ودليل من قال : بأن من اقتصر في وقوفه بعرفة على النهار دون الليل : أن وقوفه صحيح ، وحجه تام حديث عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله ، إني جئت من جبلي طيئ . أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي . والله ما تركت من جبل ، إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه " ا هـ .

قال المجد في المنتقى ، بعد أن ساق هذا الحديث : رواه الخمسة ، وصححه الترمذي ، وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف ، وقال ابن حجر في التلخيص الحبير في هذا الحديث : رواه أحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم ، والدارقطني ، ثم قال : وصحح هذا الحديث الدارقطني ، والحاكم ، والقاضي أبو بكر بن العربي على شرطهما .

وقال النووي في شرح المهذب في حديث عروة بن مضرس : هذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه وغيرهم ، بأسانيد صحيحة . قال الترمذي : هو حديث حسن صحيح .

ودليل أن عرفة كلها موقف ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، عن جعفر ، حدثني أبي ، عن جابر في حديثه ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " نحرت ههنا ، ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ، ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ، ووقفت ههنا وجمع كلها موقف " ، انتهى من صحيح مسلم .

وقال المجد في المنتقى : بعد أن ساق هذا الحديث بلفظ مسلم الذي سقناه به : رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، ولابن ماجه وأحمد أيضا نحوه وفيه : " وكل فجاج مكة طريق ، ومنحر " ، وقد قدمنا إجماع أهل العلم على أن وقت الوقوف ينتهي بطلوع الفجر ليلة جمع . وإجماعهم على أن ما بعد الزوال من يوم عرفة وقت للوقوف . وأما ما قبل الزوال من يوم عرفة ، فجمهور أهل العلم على أنه ليس وقتا للوقوف ، وخالف الإمام أحمد رحمه الله الجمهور في ذلك قائلا : إن يوم عرفة كله من طلوع فجره إلى غروبه وقت للوقوف ، واحتج لذلك بحديث عروة بن المضرس المذكور آنفا فإن فيه : " وقد وقف بعرفة ليلا أو [ ص: 437 ] نهارا ، فقد تم حجه ، " فقوله صلى الله عليه وسلم : " ليلا أو نهارا " يدل على شمول الحكم لجميع الليل والنهار .

وقد قدمنا قول المجد في المنتقى ، بعد أن ساق هذا الحديث : وهو حجة في أن نهار عرفة كله وقت للوقوف ، وحجة الجمهور هي : أن المراد بالنهار في حديث عروة المذكور خصوص ما بعد الزوال ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم يقفوا إلا بعد الزوال ، ولم ينقل عن أحد أنه وقف قبله . قالوا : ففعله صلى الله عليه وسلم ، وفعل خلفائه من بعده مبين للمراد من قوله : أو نهارا .

والحاصل : أن الوقوف بعرفة ركن من أركان الحج إجماعا ، وأن من جمع بين الليل والنهار من بعد الزوال فوقوفه تام إجماعا ، وأن من اقتصر على الليل دون النهار ، فوقوفه تام ولا دم عليه عند الجمهور ، خلافا للمالكية القائلين بلزوم الدم ، وأن من اقتصر على النهار دون الليل ، لم يصح وقوفه عند المالكية . وعند جمهور العلماء : حجه صحيح . منهم الشافعي ، وأبو حنيفة ، وعطاء ، والثوري ، وأبو ثور ، وهو الصحيح من مذهب أحمد .

ولكن اختلفوا في وجوب الدم ، فقال أحمد وأبو حنيفة : يلزمه دم ، وعن الشافعية قولان : أحدهما : لا دم عليه . وصححه النووي وغيره . والثاني : عليه دم . قيل وجوبا ، وقيل : استنانا ، وقيل : ندبا . والأصح أنه سنة على القول به ، كما جزم به النووي . وأنما قيل : الزوال من يوم عرفة ليس وقتا للوقوف عند جماهير العلماء ، خلافا للإمام أحمد رحمه الله ، وقد رأيت أدلة الجميع .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما من اقتصر في وقوفه على الليل دون النهار ، أو النهار من بعد الزوال دون الليل ، فأظهر الأقوال فيه دليلا : عدم لزوم الدم . أما المقتصر على الليل فلحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه الذي قدمناه قريبا ، وبينا أنه صحيح . وفيه عند أحمد ، والنسائي : فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه . هذا لفظ النسائي ، ولفظ أحمد : من جاء عرفة قبل صلاة الفجر من ليلة جمع ، فقد تم حجه ، ا هـ . ولفظ أحمد المذكور بواسطة نقل ابن حجر في التلخيص فقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الثابت : " فقد تم حجه " مرتبا ذلك على إتيانه عرفة ، قبل طلوع فجر يوم النحر نص صريح في أن المقتصر على الوقوف ليلا : أن حجه تام ، وظاهر التعبير بلفظ التمام ، عدم لزوم الدم ، ولم يثبت ما يعارضه من صريح الكتاب أو [ ص: 438 ] السنة ، وعلى هذا جمهور أهل العلم ، خلافا للمالكية . وأما المقتصر على النهار دون الليل ، فلحديث عروة بن مضرس الطائي ، وقد قدمناه قريبا ، وبينا أنه صحيح ، وبينا أن فيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه : وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، فقوله صلى الله عليه وسلم : فقد تم حجه مرتبا له بالفاء على وقوفه بعرفة ليلا أو نهارا ، يدل على أن الواقف نهارا يتم حجه بذلك ، والتعبير بلفظ التمام ظاهر ، في عدم لزوم الجبر بالدم ، كما بيناه فيما قبله ، ولم يثبت نقل صريح في معارضة ظاهر هذا الحديث ، وعدم لزوم الدم للمقتصر على النهار ، هو الصحيح من مذهب الشافعي لدلالة هذا الحديث على ذلك ، كما ترى . والعلم عند الله تعالى .

وأما الاكتفاء بالوقوف يوم عرفة قبل الزوال ، فقد قدمنا : أن ظاهر حديث ابن مضرس المذكور يدل عليه ; لأن قوله صلى الله عليه وسلم : أو نهارا صادق بأول النهار وآخره . كما ذهب إليه الإمام أحمد . ولكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وخلفائه من بعده ، كالتفسير للمراد بالنهار في الحديث المذكور ، وأنه بعد الزوال ، وكلاهما له وجه من النظر ، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط ، والعلم عند الله تعالى .

وحجة مالك : في أن الوقوف نهارا لا يجزئ إلا إذا وقف معه جزءا من الليل : هي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " فيلزمنا أن نأخذ عنه من مناسكنا الجمع في الوقوف بين الليل والنهار ، ولا يخفى أن هذا لا ينبغي أن يعارض به الحديث الصريح في محل النزاع الذي فيه ، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه كما ترى .

واعلم : أنه إن وقف بعد الزوال بعرفة ثم أفاض منها قبل الغروب ثم رجع إلى عرفة في ليلة جمع : أن وقوفه تام ولا دم عليه في أظهر القولين ، لأنه جمع في وقوفه بين الليل والنهار ، خلافا لأبي حنيفة ، وأبي ثور القائلين : بأن الدم لزمه بإفاضته ، قبل الليل وأن رجوعه بعد ذلك ليلا لا يسقط عنه ذلك الدم بعد لزومه . والله تعالى أعلم .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في صحة الوقوف دون الطهارة ، فيصح وقوف الجنب والحائض ، وقد قدمنا دليل ذلك في حديث عائشة المتفق عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها فيه بأن تفعل كل ما يفعله الحاج ، غير أن لا تطوف بالبيت .

[ ص: 439 ] الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا في صحة وقوف المغمى عليه بعرفة . قال النووي في شرح المهذب : ذكرنا أن الأصح عندنا أنه لا يصح وقوف المغمى عليه ، وحكاه ابن المنذر ، عن الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، قال : وبه أقول ، وقال مالك ، وأبو حنيفة : يصح .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ليس في وقوف المغمى عليه نص من كتاب ولا سنة يدل على صحته أو عدمها .

وأظهر القولين عندي قول من قال بصحته لما قدمنا من أنه لا يشترط له نية تخصه ، وإذا سلمنا صحته بدون النية ، كما قدمنا أنه هو الصواب فلا مانع من صحته من المغمى عليه ، كما يصح من النائم ، واحتج من خالف في ذلك بأن المغمى عليه ليس من أهل العبادة حتى يصح وقوفه ، وممن قال بعدم صحته : الحسن ، وممن قال بصحته : عطاء ، والله تعالى أعلم .

الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وقف بعرفات ، وهو لا يعلم أنها عرفات ، قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن مذهبنا صحة وقوفه ، وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، وحكى ابن المنذر عن بعض العلماء أنه لا يجزئه . انتهى منه .

الفرع الرابع : اعلم أنه لا خلاف بين العلماء في مشروعية جمع الظهر والعصر جمع تقديم يوم عرفة ، والمغرب والعشاء جمع تأخير بمزدلفة ، وقد ثبت ذلك في صحيح مسلم وغيره من حديث جابر رضي الله عنه .

وأظهر الأقوال دليلا : أنه يؤذن للظهر فقط ، ويقيم لكل واحدة منهما .

وأظهر قولي أهل العلم عندي : أن جميع الحجاج يجمعون الظهر والعصر ، ويقصرون ، وكذلك في جمع التأخير في مزدلفة يقصرون العشاء ، وأن أهل مكة وغيرهم في ذلك سواء ، وأن حديث : " أتموا فإنا قوم سفر " ، إنما قاله لهم النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لا في عرفة ولا في مزدلفة ، وروى مالك بإسناده الصحيح في الموطإ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أنه لما قدم مكة صلى بهم ركعتين ، ثم انصرف فقال : يا أهل مكة ، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر . ثم صلى عمر بن الخطاب ركعتين بمنى ، ولم يبلغنا أنه قال لهم شيئا ، وممن قال بأن أهل مكة يقصرون بعرفة ومزدلفة ومنى : مالك ، وأصحابه ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، والأوزاعي . وممن قال بأن أهل مكة يتمون صلاتهم في عرفة ، ومزدلفة ، ومنى : الأئمة [ ص: 440 ] الثلاثة : أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وعطاء ، ومجاهد ، والزهري ، وابن جريج ، والثوري ، ويحيى القطان ، وابن المنذر ، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني ، وعزا النووي هذا القول للجمهور .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يخفى أن ظاهر الروايات : أن النبي صلى الله عليه وسلم وجميع من معه جمعوا وقصروا ، ولم يثبت شيء يدل على أنهم أتموا صلاتهم بعد سلامه في منى ، ولا مزدلفة ، ولا عرفة ، بل ذلك الإتمام في مكة ، وقد قدمنا أن تحديد مسافة القصر لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .

وأن أقوى الأقوال دليلا : هو أن كل ما يطلق عليه اسم السفر لغة تقصر فيه الصلاة كما أوضحنا ذلك بأدلته في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة [ 4 \ 101 ] .

قال ابن القيم في زاد المعاد ما نصه : فلما أتمها - يعني الخطبة - يوم عرفة ، أمر بلالا فأذن ، ثم أقام فصلى الظهر ركعتين أسر فيهما بالقراءة وكان يوم الجمعة . فدل على أن المسافر لا يصلي جمعة ، ثم أقام ، فصلى العصر ركعتين أيضا ، ومعه أهل مكة وصلوا بصلاته قصرا وجمعا بلا ريب ، ولم يأمرهم بالإتمام ، ولا بترك الجمع ، ومن قال إنه قال لهم : " أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر " ، فقد غلط عليه غلطا بينا ، ووهم وهما قبيحا ، وإنما قال لهم ذلك في غزاة الفتح بجوف مكة ، حيث كانوا في ديارهم مقيمين ، ولهذا كان أصح أقوال العلماء أن أهل مكة يقصرون ، ويجمعون بعرفة ، كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي هذا أوضح دليل على أن سفر القصر لا يتحدد بمسافة معلومة ، ولا بأيام معلومة ، ولا تأثير للنسك في قصر الصلاة ألبتة ، وإنما التأثير لما جعله الله سببا ، وهو السفر . هذا مقتضى السنة ولا وجه لما ذهب إليه الملحدون . انتهى كلام ابن القيم .

وقد قدمنا قول من قال : إن القصر والجمع المذكور لأهل مكة من أجل النسك ، والعلم عند الله تعالى .

ولا يخفى أن حجة من قالوا بإتمام أهل مكة صلاتهم في عرفة ومزدلفة ومنى ، هو ما قدمنا من تحديدهم للمسافة بأربعة برد ، أو ثلاثة أيام .

وعرفة ، ومزدلفة ، ومنى أقل مسافة من ذلك ، قالوا : ومن سافر دون مسافة القصر أتم صلاته ، هذا هو دليلهم .

الفرع الخامس : اعلم أن الصعود على جبل الرحمة الذي يفعله كثير من العوام [ ص: 441 ] لا أصل له ، ولا فضيلة فيه ; لأنه لم يرد في خصوصه شيء بل هو كسائر أرض عرفة ، وعرفة كلها موقف ، وكل أرضها سواء إلا موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالوقوف فيه أفضل من غيره ، كما قاله غير واحد ، وبذلك تعلم أن ما قاله أبو جعفر بن جرير الطبري ، والماوردي من استحباب صعود جبل الرحمة لا يعول عليه . والعلم عند الله تعالى .

والتحقيق : أن عرنة ليست من عرفة ، فمن وقف بعرنة لم يجزئه ذلك وما يذكر عن مالك من أن وقوفه بعرنة يجزئ وعليه دم خلاف التحقيق الذي لا شك فيه ، والظاهر أنه لم يصح عن مالك .
المسألة التاسعة

لا خلاف بين العلماء أنه إن غربت الشمس واستحكم غروبها وهو واقف بعرفة أفاض منها إلى المزدلفة ، وذلك هو معنى قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس الآية [ 2 \ 199 ] . كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة .

وقد بينت الأحاديث الصحيحة كيفية إفاضته من عرفات ، ففي حديث جابر الطويل عند مسلم : " فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة خلفه ، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " ، كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء " ، الحديث ، وقول جابر في هذا الحديث : وقد شنق للقصواء الزمام ، يعني أنه يكفها بزمامها عن شدة المشي ، والمورك بفتح الميم وكسر الراء : هو الموضع الذي يثني الراكب رجله عليه قدام واسطة الرحل إذا مل من الركوب . وضبطه القاضي عياض بفتح الراء قال : وهو قطعة أدم يتورك عليها الراكب تجعل في مقدمة الرحل شبه المخدة الصغيرة ، وقوله : ويقول بيده السكينة السكينة ؛ أي : يأمرهم بالسكينة مشيرا بيده ، والسكينة : الرفق والطمأنينة ، وقول جابر في هذا الحديث : كلما أتى حبلا من الحبال : هو بالحاء المهملة ، والباء الموحدة ، والمراد بالحبل في حديثه : الرمل المستطيل المرتفع ، ومنه قول ذي الرمة :



ويوما بذي الأرطى إلى جنب مشرف بوعسائه حيث اسبطرت حبالها

[ ص: 442 ] وقول عمر بن أبي ربيعة :



يا ليتني قد أجزت الحبل نحوكم حبل المعرف أو جاوزت ذا عشر


وحديث جابر هذا الدال على الرفق ، وعدم الإسراع ، وما جاء في معناه من الأحاديث يفسره حديث أسامة الثابت في الصحيحين : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة نص " ، والعنق بفتحتين : ضرب من السير دون النص ، ومنه قول الراجز :



يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا


والنص : أعلى غاية الإسراع ، ومنه قول كثير :



حلفت برب الراقصات إلى منى يجوب الفيافي نصها وذميلها


والفجوة تقدم تفسيرها بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : وهم في فجوة منه [ 18 \ 17 ] .

وإذا علمت وقت إفاضته صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى المزدلفة ، وكيفية إفاضته ، فاعلم " أنه صلى الله عليه وسلم نزل في الطريق ، فبال ، وتوضأ وضوءا خفيفا ، وأخبرهم بأن الصلاة أمامهم . ثم أتى المزدلفة ، فأسبغ وضوءه ، وصلى المغرب ، والعشاء بأذان واحد ، وإقامتين ، ولم يصل بينهما شيئا ثم اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى طلع الفجر ، وصلى الفجر ، حين تبين له الصبح بأذان ، وإقامة ، ثم ركب القصواء ، حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، فدعاه ، وكبره ، وهلله فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس " ، ومن فعل كفعله صلى الله عليه وسلم فقد أصاب السنة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وأما من خالف في ذلك ، فلم يبت بالمزدلفة ، فقد اختلف العلماء في حكمه إلى ثلاثة مذاهب .

الأول : أن المبيت بمزدلفة واجب يجبر بدم .

الثاني : أنه ركن لا يتم الحج بدونه .

الثالث : أنه سنة وليس بواجب ، والقول : بأنه واجب يجبر بدم : هو قول أكثر أهل العلم منهم : مالك ، وأحمد ، وأبو حنيفة ، والشافعي في المشهور عنه ، وعطاء ، والزهري ، وقتادة ، والثوري ، وإسحاق ، وأبو ثور .

قال النووي في شرح المهذب : قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا : أنه ليس بركن ، [ ص: 443 ] فلو تركه صح حجه . قال القاضي أبو الطيب ، وأصحابنا : وبهذا قال جماهير العلماء من السلف والخلف . انتهى منه .

وممن قال : بأنه ركن لا يصح الحج إلا به خمسة من أئمة التابعين ، وبعض الشافعية ، وأما الخمسة المذكورون : فهم علقمة ، والأسود ، والشعبي ، والنخعي ، والحسن البصري ، وممن قال به من الشافعية : أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي ، وأبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب ، ونقله القرطبي أيضا عن عكرمة ، والأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، قال : وروي عن ابن الزبير . وقال ابن القيم في زاد المعاد : وهو مذهب اثنين من الصحابة : ابن عباس ، وابن الزبير ، وإليه ذهب إبراهيم النخعي ، والشعبي ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وهو مذهب الأوزاعي ، وحماد بن أبي سليمان ، وداود بن علي الظاهري ، وأبي عبيد القاسم بن سلام . واختاره المحمدان ابن جرير ، وابن خزيمة ، وهو أحد الوجوه للشافعية ، وهؤلاء القائلون بأن المبيت بمزدلفة ركن من أركان الحج يقولون : إن فاته المبيت بها تحلل من إحرامه بعمرة ، ثم حج من قابل .

وممن قال بأن المبيت بمزدلفة سنة لا يجب بتركه دم : بعض الشافعية ، وذكر النووي أن هذا القول مشهور أيضا ، لكن الأول أصح منه ، وعن عطاء ، والأوزاعي : أنها منزل من شاء نزل به ، ومن شاء لم ينزل به ، وروى نحوه الطبري بسند فيه ضعف ، عن ابن عمر مرفوعا ، قاله الحافظ في الفتح .

فإذا علمت أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة ، فهذه تفاصيل أدلتهم ، أما الذين قالوا : بأنه واجب ، وليس بركن : فقد استدلوا على أنه ليس بركن بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ، وقد قدمنا ألفاظ رواياته ، وأنه صحيح ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فيه : " أن من أدرك عرفة ولو في آخر جزء من ليلة النحر قبل الصبح أنه تم حجه وقضى تفثه " ، ومعلوم أن هذا الواقف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر ، قد فاته المبيت بمزدلفة قطعا بلا شك ، ومع ذلك فقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بأن حجه تام .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:24 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (336)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 444 إلى صـ 451






قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر أن الاستدلال بهذا الحديث على هذا الحكم صحيح ، ودلالته عليه هي المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإشارة ، ومعلوم في الأصول أن دلالة الإشارة ، ودلالة الاقتضاء ، ودلالة الإيماء ، والتنبيه كلها من دلالة الالتزام ، ومعلوم أن هذه الأنواع من دلالة الالتزام اختلف فيها هل هي من قبيل المنطوق غير [ ص: 444 ] الصريح ، أو من قبيل المفهوم ؟ وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله :



وفي كلام الوحي والمنطوق هل ما ليس بالصريح فيه قد دخل


وهو دلالة اقتضاء أن يدل لفظ ما دونه لا يستقل

دلالة اللزوم مثل ذات إشارة كذاك الايماءات

إلخ .

وقصدنا هنا إيضاح دلالة الإشارة دون غيرها ، وضابط دلالة الإشارة هي : أن يساق النص لمعنى مقصود : فيلزم ذلك المعنى المقصود أمر آخر غير مقصود باللفظ لزوما لا ينفك ، كما أشار له في المراقي بقوله :



فأول إشارة اللفظ لما لم يكن القصد له قد علما


فإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم ، لم يذكر حديث عبد الرحمن بن يعمر المذكور لقصد بيان حكم المبيت بمزدلفة ، ولكنه ذكره قاصدا بيان أن من أدرك الوقوف بعرفة في آخر جزء من ليلة النحر أن حجه تام ، وهذا المعنى المقصود يلزمه حكم آخر غير مقصود باللفظ وهو عدم ركنية المبيت بمزدلفة ، لأنه إذا لم يدرك عرفة إلا في الجزء الأخير من الليل ، فقد فاته المبيت بمزدلفة قطعا ، ومع ذلك فقد صرح صلى الله عليه وسلم بأن حجه تام .

ومن أمثلة دلالة الإشارة في القرآن قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] فإنه يدل بدلالة الإشارة المذكورة على صحة صوم من أصبح جنبا ، لأن الآية الكريمة سيقت لبيان جواز الجماع في ليلة الصيام ، وذلك صادق بآخر جزء منها ، بحيث لا يبقى بعده من الليل قدر ما يسع الاغتسال ، فيلزم من جواز الجماع في آخر جزء من الليل الذي دلت عليه الآية أنه لا بد أن يصبح جنبا ، ولفظ الآية : لم يقصد به صحة صوم من أصبح جنبا ، ولكن المعنى الذي قصد به يلزمه ذلك كما بينا .

ومن أمثلتها أيضا في القرآن قوله تعالى : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] مع قوله : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] فإن الآيتين لم يقصد بلفظهما بيان قدر أقل أمد الحمل ، ولكن المعنى الذي قصد بهما يلزمه أن أقل أمد الحمل ستة أشهر ; لأنه جمع الحمل والفصال في ثلاثين شهرا ، ثم بين أن الفصال في عامين ، فيطرح من الثلاثين شهرا أربعة وعشرون التي هي عاما الفصال ، فيبقى ستة أشهر ، فدلت الآيتان دلالة الإشارة على أن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم كما أوضحناه في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] .

[ ص: 445 ] ومراد الأصوليين أن المدلول عليه بالإشارة لم يقصد باللفظ ، أن اللفظ لا يتناوله بحسب الوضع اللغوي ، مع علمهم بأن علم الله محيط بكل شيء ، سواء دل عليه اللفظ المذكور بمنطوقه أو لم يدل عليه ، وحجتهم في أنه واجب يجبر بدم أنه نسك ، وفي أثر ابن عباس : من ترك نسكا فعليه دم ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .

وأما حجة من قال : إنه ركن فهي من كتاب وسنة :

أما الكتاب ، فقوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام [ 2 \ 198 ] قالوا : فهذا الأمر القرآني الصريح يدل على أنه لا بد من ذكر الله عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفة .

وأما السنة ، فمنها حديث عروة بن مضرس ، الذي سقناه سابقا ، فإن فيه : " من أدرك معنا هذه الصلاة ، وكان قد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه " ، قالوا : فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مضرس هذا : " من أدرك معنا هذه الصلاة " الحديث . يفهم منه أن من لم يدركها معهم لم يتم حجه ، ولم يقض تفثه ، والمراد بها صلاة الصبح بمزدلفة كما هو واضح ، قالوا : وفي رواية عند النسائي ، عن عروة بن مضرس : من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيض منها فقد أدرك الحج ، ومن لم يدرك مع الناس الإمام فلم يدرك، قالوا : ولأبي يعلى ومن لم يدرك جمعا فلا حج له . وأجاب الجمهور القائلون : بأن المبيت بمزدلفة ليس بركن عن أدلة هؤلاء القائلين : إنه ركن لا يتم الحج إلا به .

قالوا : أما الآية التي استدلوا بها على وجوب الوقوف بمزدلفة التي هي قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام الآية [ 2 \ 198 ] ، فإنها لم تتعرض للوقوف بمزدلفة أصلا ، وإنما أمر فيها بذكر الله عند المشعر الحرام .

قالوا : وقد أجمعوا كلهم على أن من وقف بمزدلفة ، ولم يذكر الله أن حجه تام ، فإذا كان الذكر المذكور في الكتاب ليس من صلب الحج بإجماعهم فالموطن الذي يكون الذكر فيه أحرى أن لا يكون فرضا ، وأجابوا عن استدلالهم بمفهوم الشرط في حديث عروة بن مضرس المذكور " من أدرك معنا هذه الصلاة " الحديث . بأنهم أجمعوا كلهم ، على أنه لو بات بمزدلفة ووقف قبل ذلك بعرفة ، ونام عن صلاة الصبح ، فلم يصلها مع الإمام ، حتى [ ص: 446 ] فاتته أنه حجه تام ، وقد قدمنا دلالة حديث عبد الرحمن بن يعمر على ذلك .

وأجابوا عن رواية النسائي التي أشرنا إليها التي قال فيها : أخبرنا محمد بن قدامة ، قال : حدثني جرير ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عروة بن مضرس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيض منها فقد أدرك ، ومن لم يدرك مع الناس والإمام فلم يدرك " ا هـ بأن هذه الزيادة في هذه الرواية ، لم تثبت .

قال ابن حجر في فتح الباري في بيان تضعيف الزيادة المذكورة : وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءا في إنكار هذه الزيادة ، وبين أنها من رواية مطرف ، عن الشعبي ، عن عروة ، وأن مطرفا كان يهم في المتون ، قال : وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم أن من لم يصل صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام : أن الحج يفوته ، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه ، فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه الطحاوي . انتهى كلام ابن حجر مع حذف يسير .

وأجابوا عن الرواية المذكورة عند أبي يعلى ، وغيره : بأنها ضعيفة .

قال النووي في شرح المهذب في كلامه على قول القائلين : بأنه ركن ، واحتج لهم بالحديث المروي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من فاته المبيت بمزدلفة فقد فاته الحج " ، ثم قال : وأما الحديث فالجواب عنه من وجهين :

أحدهما : أنه ليس بثابت ولا معروف .

والثاني : أنه لو صح لحمل على فوات كمال الحج لا فوات أصله . انتهى منه .

وما ذكرنا عن ابن حجر من تضعيف الزيادة المذكورة يعني به ما عند النسائي ، وأبي يعلى منها في حديث عروة المذكور .

ومن أدلتهم على أن المبيت بمزدلفة ركن : أن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك فعل ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وأجاب الجمهور عن هذا : بأنهم لم يخالفوا في أنه نسك ، ينبغي أن يؤخذ عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكن صحة الحج بدونه علمت بدليل آخر : وهو حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي المذكور سابقا ، الدال على عدم اشتراط المبيت بمزدلفة ، كما أوضحنا وجه دلالته على ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

وأما حجة من قال : إن المبيت بمزدلفة : سنة ، وليس بركن ، ولا واجب هي : أنه مبيت ، فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة . أعني : الليلة التاسعة التي صبيحتها يوم عرفة ، هذا هو حاصل أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في المبيت بمزدلفة .

[ ص: 447 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد قدمنا أن الاستدلال بحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله عنه ، على عدم ركنية المبيت بمزدلفة صحيح ، وأن دلالته على ذلك دلالة إشارة كما هو معروف في الأصول ، ولا شك أنه ينبغي للحاج أن يحرص على أن يفعل كفعل النبي صلى الله عليه وسلم فيبيت بمزدلفة كما قدمنا إيضاحه ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : قد قدمنا أن المزدلفة كلها موقف ، فحيث وقف منها أجزأه ، وهذا لا خلاف فيه بين العلماء ، وقد قدمناه من حديث جابر عند مسلم .

الفرع الثاني : اعلم أنه ينبغي التعجيل بصلاة الصبح يوم النحر بمزدلفة في أول وقتها ، كما فعل صلى الله عليه وسلم .

واعلم أن ما رواه البخاري ، ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى صلاة إلا بميقاتها إلا صلاتين : صلاة المغرب والعشاء بجمع ، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها . ليس المراد به أنه صلى الصبح قبل طلوع الفجر ، لأن ذلك ممنوع إجماعا ، ولكن مراده به أنه صلاها قبل ميقاتها المعتاد الذي كان يصليها فيه ، ولكن بعد تحقق طلوع الفجر .

ومما يدل على هذا ما رواه البخاري في صحيحه ، عن عبد الله بن مسعود نفسه رضي الله عنه ، حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق قال : سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : حج عبد الله رضي الله عنه ، فأتينا المزدلفة . الحديث ، وفيه : فلما طلع الفجر قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم . قال عبد الله : هما صلاتان يحولان عن وقتهما ، صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة ، والفجر حين يبزغ الفجر ، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله انتهى من صحيح البخاري .

فقول ابن مسعود في هذا الحديث الصحيح : فلما طلع الفجر ، وقوله : والفجر حين يبزغ الفجر ، وإتباعه ذلك بقوله : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ، صريح فيما ذكرنا من أن مراده بقوله : قبل ميقاتها يعني به : وقتها الذي يصليها فيه عادة ، وليس مراده أنه صلاها قبل طلوع الفجر كما ترى .

[ ص: 448 ] الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي يكفي في النزول بالمزدلفة ، فذهب مالك ، وأصحابه ، إلى أن النزول بمزدلفة بقدر ما يصلي المغرب والعشاء ، ويتعشى يكفيه في نزول مزدلفة ولو أفاض منها قبل نصف الليل ، وبعضهم يقول : لا بد في ذلك من حط الرحال ، وذهب الشافعي ، وأحمد إلى أنه إن دفع منها بعد نصف الليل أجزأه ، وإن دفع منها قبل نصف الليل لزمه دم . وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن دفع منها قبل الفجر لزمه دم ; لأن وقت الوقوف عنده بعد صلاة الصبح ، ومن حضر المزدلفة في ذلك الوقت فقد أتى بالوقوف ، ومن تركه ودفع ليلا فعليه دم إلا إن كان لعذر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي في هذه المسألة : هو أنه ينبغي أن يبيت إلى الصبح ; لأنه لا دليل مقنعا يجب الرجوع إليه مع من حدد بالنصف الأخير ، ولا مع من اكتفى بالنزول ، وقياسهم الأقوياء على الضعفاء قائلين : إنه لو كان الدفع بعد النصف ممنوعا لما رخص فيه صلى الله عليه وسلم لضعفة أهله ; لأنه لا يرخص لأحد في حرام ، قياس مع وجود الفارق ، ولا يخفى ما في قياس القوي على الضعيف الذي رخص له لأجل ضعفه كما ترى ، ولا خلاف بين العلماء أن السنة أنه يبقى بجمع حتى يطلع الفجر كما تقدم ومن المعلوم أن جمعا ، والمزدلفة ، والمشعر الحرام أسماء مترادفة يراد بها شيء واحد خلافا لمن خصص المشعر الحرام بقزح دون باقي المزدلفة .

الفرع الرابع : اعلم أنه لا بأس بتقديم الضعفة إلى منى قبل طلوع الفجر . قال ابن قدامة في المغني : ولا نعلم فيه مخالفا اهـ ومن المعلوم أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال البخاري رحمه الله في صحيحه : باب من قدم ضعفة أهله بليل فيقفون بالمزدلفة ويدعون ، ويقدم إذا غاب القمر : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال سالم : وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله ، فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل ما بدا لهم ، ثم يرجعون قبل أن يقف الإمام ، وقبل أن يدفع ، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم .

حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جمع بليل .

[ ص: 449 ] حدثنا علي ، حدثنا سفيان قال : أخبرني عبيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول : أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضعفة أهله . حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن ابن جريج ، قال : حدثني عبد الله مولى أسماء ، عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة ، فقامت تصلي ، فصلت ساعة ، ثم قالت : يا بني ، هل غاب القمر ؟ قلت : لا فصلت ساعة ، ثم قالت : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا حتى رمت الجمرة ، فصلت الصبح في منزلها ، فقلت لها : يا هنتاه : ما أرانا إلا قد غلسنا ، قالت : يا بني ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن .

حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان ، حدثنا عبد الرحمن هو ابن القاسم ، عن القاسم ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : استأذنت سودة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة جمع ، وكانت ثقيلة ثبطة ، فأذن لها .

حدثنا أبو نعيم ، حدثنا أفلح بن حميد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : نزلنا المزدلفة ، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم سودة أن تدفع قبل حطمة الناس ، وكانت امرأة بطيئة ، فأذن لها فدفعت قبل حطمة الناس ، وأقمنا حتى أصبحنا نحن . ثم دفعنا بدفعه فلأن أكون استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به . انتهى من صحيح البخاري .

وهذه الأحاديث التي رواها البخاري عن ابن عمر ، وابن عباس ، وأسماء ، وعائشة رضي الله عنهم رواها كلها مسلم في صحيحه أيضا ، مع بعض اختلاف في الألفاظ والمعنى .

وروى مسلم في صحيحه : عن أم حبيبة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل ، وفي لفظ لها عند مسلم : كنا نفعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم نغلس من جمع إلى منى ، وفي رواية الناقد : نغلس من مزدلفة اهـ وهذه النصوص الصحيحة تدل على جواز تقديم الضعفة ، والنساء من المزدلفة ليلا كما ترى .

الفرع الخامس : اعلم أن العلماء اختلفوا في الوقت الذي يجوز فيه رمي جمرة العقبة من الضعفة وغيرهم ، مع إجماعهم على أن من رماها بعد طلوع الشمس أجزأه ذلك ، فذهبت جماعة من أهل العلم ، إلى أن أول الوقت الذي يجزئ فيه رمي جمرة العقبة هو ابتداء النصف الأخير من ليلة النحر ، وممن قال بهذا : الشافعي ، وأحمد ، وعطاء ، وابن أبي [ ص: 450 ] ليلى ، وعكرمة بن خالد كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني ، وقال النووي في شرح المهذب : وبه قال عطاء ، وأحمد ، وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر ، وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد ، وذهبت جماعة من أهل العلم : إلى أن أول وقته يبتدئ من بعد طلوع الشمس ، وهو مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن أول وقته للضعفة من طلوع الفجر ولغيرهم من بعد طلوع الشمس ، وهو اختيار ابن القيم ، وإذا علمت أقوال أهل العلم في المسألة ، فهذه تفاصيل أدلتهم .

أما الذين قالوا : إن رمي جمرة العقبة يجوز في النصف الأخير من ليلة النحر فقد استدلوا بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا هارون بن عبد الله ، ثنا ابن أبي فديك ، عن الضحاك - يعني ابن عثمان - ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة ليلة النحر ، فرمت الجمرة قبل الفجر ، ثم مضت ، فأفاضت وكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عندها انتهى منه .

قال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : وأما حديث عائشة في إرسال أم سلمة فصحيح . رواه أبو داود بلفظه بإسناد صحيح على شرط مسلم ، وقال الزيلعي في نصب الراية ، بعد أن ساق حديث أبي داود : هذا عن عائشة ، ورواه البيهقي في سننه ، وقال : إسناده صحيح لا غبار عليه ، وما ذكره الزيلعي من أنه قال : إسناده صحيح لا غبار عليه لم أره في سننه الكبرى ، وقد ذكر الحديث فيها بدون التصحيح المذكور .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره النووي من كون إسناد أبي داود المذكور صحيحا ، على شرط مسلم صحيح ; لأن طبقته الأولى هارون الحمال وهو ثقة من رجال مسلم ، وطبقته الثانية محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك ، وهو صدوق . أخرج له الشيخان وغيرهما ، وطبقته الثالثة الضحاك بن عثمان الحزامي الكبير ، وهو صدوق يهم ، وهو من رجال مسلم ، وباقي الإسناد هشام ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة وصحته ظاهرة ، فالاحتجاج بهذا الإسناد ظاهر ، لأن جميع رجاله من رجال مسلم ، وبعض رجاله أخرج له الجميع فظاهره الصحة مع أن بعض أهل العلم ضعفه قائلا : إنه مضطرب متنا وسندا ، وممن ذكر أنه ضعفه الإمام أحمد ، وغيره ، ولا يخفى أن رواية أبي داود المذكورة ظاهرها الصحة .

وتعتضد بما رواه الخلال : أنبأنا علي بن حرب ، حدثنا هارون بن عمران ، عن سليمان بن أبي داود ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه قال : أخبرتني أم سلمة قالت : قدمني [ ص: 451 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن قدم من أهله ليلة المزدلفة ، قالت : فرميت بليل ، ثم مضيت إلى مكة ، فصليت بها الصبح ، ثم رجعت إلى منى ، انتهى منه بواسطة نقل ابن القيم في زاد المعاد ، ولا شك أن هذه الرواية عن أم سلمة تقوي الرواية الأولى عن عائشة . ولما ساق ابن القيم هذه الرواية التي ذكرها الخلال قال : قلت : سليمان بن أبي داود هذا هو الدمشقي الخولاني ، ويقال : ابن داود قال أبو زرعة : عن أحمد : رجل من أهل الجزيرة ليس بشيء ، وقال عثمان بن سعيد : ضعيف .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : رواية سليمان بن داود المذكورة لا تقل عن أن تعضد الرواية المذكورة قبلها ، وسليمان المذكور وثقه وأثنى عليه غير واحد ، قال فيه ابن حبان : سليمان بن داود الخولاني من أهل دمشق ثقة مأمون ، وقال البيهقي : وقد أثنى على سليمان بن داود أبو زرعة ، وأبو حاتم ، وعثمان بن سعيد ، وجماعة من الحفاظ انتهى بواسطة نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب .

وقال ابن حجر فيه أيضا : قلت : أما سليمان بن داود الخولاني ، فلا ريب في أنه صدوق ، وقال فيه في التقريب : سليمان بن داود الخولاني أبو داود الدمشقي : سكن داريا صدوق من السابعة . وبذلك كله يعلم أن روايته لا تقل عن أن تكون عاضدا لغيرها .

هذا هو حاصل حجة من أجاز رمي الجمرة قبل الصبح .

وأما حجة من قال : لا يجوز رميها ، إلا بعد طلوع الشمس ، فمنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم رماها وقت الضحى . وقال : " خذوا عني مناسككم " .

ومنها ما رواه أصحاب السنن ، وغيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بضعفة أهله ، فأمرهم أن لا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس " . وفي لفظ عن ابن عباس ، قال : " قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة - أغيلمة بني عبد المطلب - على حمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول : أي بني ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " ، قال أبو داود : اللطح الضرب اللين ، وهذا الحديث صحيح ، وقال الترمذي رحمه الله في هذا الحديث : قال أبو عيسى : حديث ابن عباس حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم ، وقال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس المذكور ، أما حديث ابن عباس ، فصحيح رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم بأسانيد صحيحة ، قال الترمذي : حديث حسن صحيح انتهى كلام النووي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:26 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (337)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 452 إلى صـ 459







[ ص: 452 ] وقال ابن القيم في زاد المعاد في حديث ابن عباس المذكور : حديث صحيح ; صححه الترمذي وغيره .

وأما حجة من قال : بجواز رمي جمرة العقبة للضعفة بعد الصبح قبل طلوع الشمس دون غيرهم ، وأن غيرهم لا يجوز له رميها إلا بعد طلوع الشمس ، فمنها حديث أسماء المتفق عليه الذي قدمناه .

قال فيه : قالت : يا بني : هل غاب القمر ؟ قلت : نعم ، قالت : فارتحلوا ، فارتحلنا ، ومضينا ، حتى رمت الجمرة ، ثم رجعت ، فصلت الصبح في منزلها فقلت لها : يا هنتاه : ما أرانا إلا قد غلسنا قالت : يا بني إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن " اهـ . فهذا الحديث المتفق عليه صريح أن أسماء رمت الجمرة قبل طلوع الشمس ، بل بغلس ، وهو بقية الظلام ، ومنه قول الأخطل :



كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا

وصرحت بأنه صلى الله عليه وسلم : أذن في ذلك للظعن ، ومفهومه أنه لم يأذن للأقوياء الذكور كما ترى .

ومنها حديث ابن عمر المتفق عليه الذي قدمناه أيضا ، فإن فيه : أنه كان يقدم ضعفة أهله ، وأن منهم من يقدم منى لصلاة الفجر ، ومنهم من يقدم بعد ذلك ، فإذا قدموا رموا الجمرة ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول : أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحديث ابن عمر هذا المتفق عليه يدل دلالة واضحة على الترخيص للضعفة في رمي جمرة العقبة بعد الصبح قبل طلوع الشمس كما ترى ، ومفهومه أنه لم يرخص لغيرهم في ذلك .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : إن الذي يقتضي الدليل رجحانه في هذه المسألة : أن الذكور الأقوياء لا يجوز لهم رمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس ، وأن الضعفة والنساء لا ينبغي التوقف في جواز رميهم بعد الصبح قبل طلوع الشمس لحديث أسماء ، وابن عمر المتفق عليهما الصريحين في الترخيص لهم في ذلك ، وأما رميهم أعني الضعفة والنساء ، قبل طلوع الفجر ، فهو محل نظر ، فحديث عائشة عند أبي داود يقتضي جوازه ، وحديث ابن عباس عند أصحاب السنن : يقتضي منعه .

والقاعدة المقررة في الأصول : هي أن يجمع بين النصين إن أمكن الجمع وإلا فالترجيح بينهما ، وقد جمعت بينهما جماعة من أهل العلم ، فجعلوا لرمي جمرة العقبة [ ص: 453 ] وقتين : وقت فضيلة ، ووقت جواز ، وحملوا حديث ابن عباس : على وقت الفضيلة ، وحديث عائشة : على وقت الجواز ، وله وجه من النظر . والعلم عند الله تعالى .

أما الذكور الأقوياء فلم يرد في الكتاب ، ولا السنة دليل يدل على جواز رميهم جمرة العقبة قبل طلوع الشمس ، لأن جميع الأحاديث الواردة في الترخيص في ذلك كلها في الضعفة ، وليس شيء منها في الأقوياء الذكور ، وقد قدمنا أن قياس القوي على الضعيف الذي رخص له من أجل ضعفه قياس مع وجود الفارق ، وهو مردود كما هو مقرر في الأصول وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :



والفرق بين الأصل والفرع قدح إبداء مختص بالأصل قد صلح
أو مانع في الفرع . . . إلخ

ومحل الشاهد منه قوله : إبداء مختص بالأصل قد صلح ; لأن معترض قياس القوي على الضعيف في هذه المسألة يبدي وصفا مختصا بالأصل دون الفرع صالحا للتعليل ، وهو الضعف ; لأن الضعف الموجود في الأصل المقيس عليه الذي هو علة الترخيص المذكور ، ليس موجودا في الفرع المقيس الذي هو الذكر القوي كما ترى والعلم عند الله تعالى .

الفرع السادس : اعلم أن وقت رمي جمرة العقبة يمتد إلى آخر نهار يوم النحر ، فمن رماها قبل الغروب من يوم النحر فقد رماها في وقت لها .

قال ابن عبد البر : أجمع أهل العلم على أن من رماها يوم النحر قبل المغيب فقد رماها في وقت لها وإن لم يكن مستحبا لها انتهى منه بواسطة نقل ابن قدامة في المغني فإن فات يوم النحر ولم يرمها فقال بعض أهل العلم : يرميها ليلا والذين قالوا : يرميها ليلا : منهم من قال : رميها ليلا أداء لا قضاء ، وهو أحد وجهين مشهورين للشافعية حكاهما صاحب التقريب ، والشيخ أبو محمد الجويني ، وولده إمام الحرمين ، وآخرون .

قال النووي : وروى مالك في الموطإ عن أبي بكر بن نافع مولى ابن عمر ، عن أبيه نافع : أن ابنة أخ لصفية بنت أبي عبيد نفست بالمزدلفة ، فتخلفت هي وصفية ، حتى أتتا من بعد أن غربت الشمس من يوم النحر ، فأمرهما عبد الله بن عمر : أن ترميا ، ولم ير عليهما شيئا . انتهى منه . وهو دليل على أن ابن عمر يرى أن رميها في الليل أداء لمن كان له عذر [ ص: 454 ] كصفية ، وابنة أخيها . وممن قال يرميها ليلا : مالك ، وأصحابه ; لأن مذهبه قضاء الرمي الفائت في الليل وغيره .

وفي الموطإ قال يحيى : سئل مالك عمن نسي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي ؟ قال : ليرم أية ساعة ذكر من ليل أو نهار ، كما يصلي الصلاة ، إذا نسيها ، ثم ذكرها ليلا أو نهارا ، فإن كان ذلك بعد ما صدر ، وهو بمكة ، أو بعد ما يخرج منها فعليه الهدي انتهى من الموطإ .

وقال الشيخ المواق في شرحه : لمختصر خليل بن إسحاق المالكي في الكلام على قوله : والليل قضاء ، قال ابن شاس . للرمي وقت أداء ، ووقت قضاء ، ووقت فوات ، فوقت الأداء : في يوم النحر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال : وتردد الباجي في الليلة التي تلي يوم النحر هل هي وقت أداء ، أو وقت قضاء ؟ ووقت الأداء في كل يوم من الأيام الثلاثة من بعد الزوال إلى مغيب الشمس ، وتردد في الليل كما تقدم انتهى منه .

وقال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي : ولو أخر الرمي إلى الليل رماها ولا شيء عليه ; لأن الليل تبع لليوم في مثل هذا ، كما في الوقوف بعرفة ، فإن أخره إلى الغد رماه وعليه دم ، انتهى كرماني ، انتهى منه .

وقال بعض أهل العلم : إن غربت الشمس من يوم النحر ، وهو لم يرم جمرة العقبة ، لم يرمها في الليل ، ولكن يؤخر رميها حتى تزول الشمس من الغد ، قال ابن قدامة في المغني : فإن أخرها إلى الليل ، لم يرمها ، حتى تزول الشمس من الغد وبهذا قال أبو حنيفة ، وإسحاق ، وقال الشافعي ، ومحمد بن المنذر ، ويعقوب : يرميها ليلا لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ارم ولا حرج " ، انتهى من المغني .

فإذا عرفت أقوال أهل العلم في الرمي ليلا هل يجوز أو لا ؟ وعلى جوازه هل هو أداء أو قضاء ؟

فاعلم أن من قال بجواز الرمي ليلا ، استدل بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : من أنه لا حرج على من رمى بعد ما أمسى ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول : " لا حرج ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال : [ ص: 455 ] اذبح ولا حرج ، وقال : رميت بعد ما أمسيت ؟ فقال : لا حرج " ، قالوا : قد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأن من رمى بعد ما أمسى لا حرج عليه ، واسم المساء يصدق بجزء من الليل .

واعلم أن من قالوا : لا يجوز الرمي ليلا ردوا الاستدلال بهذا الحديث قائلين : إن مراد السائل بقوله بعد ما أمسيت يعني به بعد زوال الشمس في آخر النهار قبل الليل قالوا : والدليل الواضح على ذلك : أن حديث ابن عباس المذكور فيه : كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يسأل يوم النحر بمنى ، الحديث ، فتصريحه بقوله يوم النحر يدل على أن السؤال وقع في النهار والرمي بعد الإمساء وقع في النهار ; لأن المساء يطلق لغة على ما بعد وقت الظهر إلى الليل .

قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث المذكور : قال : رميت بعد ما أمسيت ؛ أي : بعد دخول المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتد الظلام ، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل انتهى منه .

وقال ابن منظور في لسان العرب : المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب ، وقال بعضهم : إلى نصف الليل ا هـ .

قالوا : فالحديث صريح في أن المراد بالإمساء فيه آخر النهار بعد الزوال لا الليل ، وإذا فلا حجة فيه للرمي ليلا ، وأجاب القائلون : بجواز الرمي ليلا عن هذا بأجوبة .

الأول منها : أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا حرج " بعد قول السائل : رميت بعد ما أمسيت يشمل لفظه نفي الحرج ، عمن رمى بعد ما أمسى وخصوص سببه بالنهار لا عبرة به لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، ولفظ المساء عام لجزء من النهار وجزء من الليل ، وسبب ورود الحديث المذكور خاص بالنهار ، وقد قدمنا الأدلة الصحيحة على أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .

الجواب الثاني : أنه ثبت في بعض روايات حديث ابن عباس المذكور ما هو أعم من يوم النحر ، وهو صادق قطعا ، بحسب الوضع اللغوي ببعض أيام التشريق ، ومعلوم أن الرمي فيها لا يكون إلا بعد الزوال فقول السائل في بعض أيام التشريق : رميت بعد ما أمسيت لا ينصرف إلا إلى الليل ; لأن الرمي فيها بعد الزوال معلوم فلا يسأل عنه صحابي .

قال أبو عبد الرحمن النسائي في سننه أخبرنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : [ ص: 456 ] حدثنا يزيد ، هو ابن زريع قال : حدثنا خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول : " لا حرج " ، فسأله رجل فقال : حلقت قبل أن أذبح ؟ قال : " لا حرج " ، فقال رجل : رميت بعد ما أمسيت ؟ قال : " لا حرج " انتهى منه ، وهذا الحديث صحيح الإسناد كما ترى ; لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن بزيع ، وهو ثقة معروف ، وهو من رجال مسلم في صحيحه ، وبقية إسناده هي بعينها إسناد البخاري الذي ذكرناه آنفا ، وقوله في هذا الحديث الصحيح : " أيام منى " بصيغة الجمع صادق بأكثر من يوم واحد ، فهو صادق بحسب وضع اللغة ببعض أيام التشريق ، والسؤال عن الرمي بعد المساء فيها لا ينصرف إلا إلى الليل كما بينا .

فإن قيل : صيغة الجمع في رواية النسائي تخصص بيوم النحر الوارد في رواية البخاري ، فيحمل ذلك الجمع على المفرد نظرا لتخصيصه به ، ويؤيد ذلك : أن في رواية أبي داود ، وابن ماجه لحديث ابن عباس المذكور يوم منى بالإفراد .

فالجواب : أن المقرر في الأصول أن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه على مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور . سواء كان العام ، وبعض أفراده المذكور بحكمه في نص واحد أو نصين .

فمثال كونهما في نص واحد قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] فلا يخصص عموم الأمر بالمحافظة على جميع الصلوات بالصلاة الوسطى بل المحافظة على جميعها واجبة .

ومثال كونهما في نصين : حديث ابن عباس العام في جلود الميتة : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " مع حديثه الآخر أنه تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به " الحديث ، فذكر جلد الشاة في هذا الحديث الأخير لا يخصص عموم الجلود المذكورة : " أيما إهاب دبغ " الحديث ، فجواز الانتفاع عام في جلد الشاة ، وفي غيرها من الأهب إلا ما أخرجه دليل خاص ; لأن ذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه ، وإلى ذلك أشار في مراقي السعود بقوله عاطفا على ما لا يخصص به العموم :



وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد


وللمخالفين القائلين : لا يجوز الرمي ليلا أن يردوا هذا الاستدلال فيقولوا رواية [ ص: 457 ] النسائي العامة في أيام منى فيها أنه كان يسأل فيها فيقول : " لا حرج " وأنه سأله رجل فقال : رميت بعد ما أمسيت فقال " لا حرج " ، ولم يعين اليوم الذي قال فيه : رميت بعد ما أمسيت وعموم أيام منى صادق بيوم النحر وقد بينت رواية البخاري أن ذلك السؤال وقع في خصوص يوم النحر من أيام منى ، ولا ينافي ذلك أنه قال : لا حرج في أشياء أخر في بقية أيام منى ، وغاية ذلك أن أيام منى عام ورواية البخاري عينت اليوم الذي قال فيه رميت بعد ما أمسيت .

الجواب الثالث : هو ما قدمنا في الموطأ عن ابن عمر من : أنه أمر زوجته صفية بنت أبي عبيد ، وابنة أخيها ، برمي الجمرة بعد الغروب ، ورأى أنهما لا شيء عليهما في ذلك ، وذلك يدل على أنه علم من النبي صلى الله عليه وسلم أن الرمي ليلا جائز ، وقد يقال : إن صفية وابنة أخيها كان لهما عذر ، لأن ابنة أخيها عذرها النفاس ليلة المزدلفة وهي عذرها معاونة ابنة أخيها ، والعلم عند الله تعالى .

الفرع السابع : اعلم أنه لا بأس بلقط الحصيات من المزدلفة : أعني السبع التي ترمى بها جمرة العقبة يوم النحر ، وبعض أهل العلم يقول : إن لقطها من المزدلفة مستحب ، واستدلوا لذلك بأمرين :

الأول : حديث الفضل بن العباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة يوم النحر : " القط لي حصى " فلقطت له حصيات مثل حصى الخذف ، قال النووي في شرح المهذب : وأما حديث الفضل بن عباس في لقط الحصيات فصحيح رواه البيهقي بإسناد حسن ، أو صحيح ، وهو على شرط مسلم من رواية عبد الله بن عباس ، عن أخيه الفضل بن عباس ، ورواه النسائي ، وابن ماجه بإسنادين صحيحين ، إسناد النسائي على شرط مسلم ، لكنهما روياه من رواية ابن عباس مطلقا ، وظاهر روايتيهما أنه عبد الله بن عباس ، لا الفضل ، وكذا ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الأطراف في مسند عبد الله بن عباس ، لا الفضل بن عباس ، ولم يذكره في مسند الفضل ، والجميع صحيح كما ذكرناه ، فيكون ابن عباس وصله في رواية البيهقي وأرسله في روايتي النسائي ، وابن ماجه ، وهو مرسل صحابي وهو حجة لو لم يعرف المرسل عنه فأولى بالاحتجاج ، وقد عرف هنا أنه الفضل بن عباس .

فالحاصل : أن الحديث صحيح من رواية الفضل بن عباس والله أعلم ، انتهى كلام النووي .

الأمر الثاني : أن السنة أنه إذا أتى منى لا يشتغل بشيء قبل الرمي ، فاستحب أن يأخذ [ ص: 458 ] الحصى من منزله بمزدلفة ليلا يشتغل عن الرمي بلقطه إذا أتى منى ، ولا شك أنه إن أخذ الحصى من غير المزدلفة أنه يجزئه ; لأن اسم الحصى يقع عليه ، والله تعالى أعلم .

الفرع الثامن : اعلم أن السنة أن يكون الحصى الذي يرمي به مثل حصى الخذف ; لأحاديث واردة بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي حديث جابر الطويل في صحيح مسلم : فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها حصى الخذف الحديث .

قال في اللسان : والخذف رميك بحصاة ، أو نواة تأخذها بين سبابتيك ، وقال الجوهري في صحاحه : الخذف بالحصى الرمي به بالأصابع ، ومنه قول الشاعر : " خذف أعسرا " ا هـ منه ، والشاعر امرؤ القيس وتمام البيت :



كأن الحصى من خلفها وأمامها إذا نجلته رجلها خذف أعسرا


الفرع التاسع : اعلم أن جمهور العلماء على أن رمي جمرة العقبة واجب يجبر بدم ، وخالف عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك الجمهور فقال : هو ركن واحتج الجمهور بالقياس على الرمي في أيام التشريق واحتج ابن الماجشون : بأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها ، وقال " لتأخذوا عني مناسككم " ، كما في صحيح مسلم ، وفي رواية البيهقي " خذوا عني مناسككم " ، وفي رواية أبي داود : " لتأخذوا مناسككم " .

الفرع العاشر : أجمع العلماء على أنه لا يرمى من الجمرات يوم النحر إلا جمرة العقبة .

الفرع الحادي عشر : اعلم أن الأفضل في موقف من أراد رمي جمرة العقبة أن يقف في بطن الوادي ، وتكون منى عن يمينه ، ومكة عن يساره كما دلت الأحاديث الصحيحة ، على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك .

قال النووي في شرح المهذب : وبهذا قال جمهور العلماء ، منهم ابن مسعود ، وجابر ، والقاسم بن محمد ، وسالم ، وعطاء ، ونافع ، والثوري ، ومالك وأحمد ، قال ابن المنذر : وروينا أن عمر رضي الله عنه خاف الزحام فرماها من فوقها .
المسألة العاشرة

ند مالك : إلا النساء ، والصيد ، والطيب ، فإن طاف طواف الإفاضة وكان قد سعى بعد طواف القدوم ، أو سعى بعد إفاضته فقد تحلل التحلل الثاني ، وبه يحل كل شيء كان محظورا بالإحرام ، حتى النساء ، والصيد ، والطيب .
[ ص: 459 ] فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنهم اختلفوا في الحلق ، هل هو نسك كما قدمنا في سورة البقرة ؟

فمن قال : هو نسك قال : إن التحلل الأول لا يكون إلا بعد الرمي ، والحلق معا ، ومن قال : إن الحلق غير نسك قال : يتحلل التحلل الأول بمجرد انتهائه من رمي جمرة العقبة يوم النحر .

وأظهر القولين عندي : أن الحلق نسك ، كما قدمنا إيضاحه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي الآية [ 2 \ 196 ] .

الفرع الثاني : في مذاهب العلماء في مسألة التحلل : فمذهب مالك : أنه بمجرد رمي جمرة العقبة يوم النحر : يحل له كل شيء إلا النساء ، والصيد ، والطيب ، والطيب مكروه عنده بعد رميها لا حرام ، وإن طاف طواف الإفاضة . وكان قد سعى حل له كل شيء ، ومذهب أبي حنيفة : أنه إذا حلق ، أو قصر حل التحلل الأول ، ويحل به كل شيء عنده إلا النساء ، وإن طاف طواف الإفاضة حل له النساء ، وهم يقولون : إن حل النساء بعد الطواف إنما هو بالحلق السابق ، لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل دون الطواف ، غير أنه أخر عمله إلى ما بعد الطواف فإذا طاف عمل الحلق عمله كالطلاق الرجعي أخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته إلى الاسترداد ، فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت .

والدليل على ذلك : أنه لو لم يحلق حتى طاف بالبيت لم يحل له شيء حتى يحلق ، وبذلك تعلم أن المدار عندهم على الحلق ، إلا أن الحلق عندهم بعد رمي جمرة العقبة ، وبعد النحر إن كان الحاج يريد النحر ، ومذهب الشافعي في هذه المسألة هو : أنه على القول بأن الحلق نسك يحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة هي : رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة ، فإذا فعل اثنين من هذه الثلاثة تحلل التحلل الأول ، وإن فعل الثالث منها تحلل التحلل الثاني ، وبالأول يحل عنده كل شيء إلا النساء ، وبالثاني تحل النساء ، وعلى القول بأن الحلق ليس بنسك ، فالتحلل الأول يحصل بواحد من اثنين : هما رمي جمرة العقبة ، وطواف الإفاضة . ويحصل التحلل الثاني بفعل الثاني ، ومذهب الإمام أحمد هو أنه إن رمى جمرة العقبة ، ثم حلق تحلل التحلل الأول ، وبه يحل عنده كل شيء إلا النساء ، فإن طاف طواف الإفاضة ، حلت له النساء .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:29 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (338)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 460 إلى صـ 467






[ ص: 460 ] وقال ابن قدامة في المغني بعد أن ذكر أن هذا هو الصحيح من مذهب أحمد . وهذا قول ابن الزبير ، وعائشة ، وعلقمة ، وسالم ، وطاوس ، والنخعي ، وعبد الله بن الحسين ، وخارجة بن زيد ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي ، وروي أيضا عن ابن عباس ، وعن أحمد أنه يحل له كل شيء إلا الوطء في الفرج ; لأنه أغلظ المحرمات ، ويفسد النسك ، بخلاف غيره . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : يحل له كل شيء إلا النساء ، والطيب . وروي ذلك عن ابن عمر ، وعروة بن الزبير ، وعباد بن عبد الله بن الزبير ، لأنه من دواعي الوطء فأشبه القبلة ، وعن عروة : أنه لا يلبس القميص ، ولا العمامة ، ولا يتطيب ، وروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا انتهى كلام صاحب المغني .

وإذا عرفت أقوال أهل العلم في المسألة ، فهذه تفاصيل أدلتهم .

أما حجة مالك في أن التحلل الأول يحل به ما سوى النساء والصيد والطيب : أما بالنسبة إلى الصيد ، فلم أر له مستندا من النقل ، إلا أمرين :

أحدهما : أثر مروي عن مكحول ، عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء والطيب والصيد : ذكر هذا الأثر صاحب المهذب ، وقال النووي في شرحه : وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فهو مرسل . لأن مكحولا لم يدرك عمر فحديثه عنه منقطع ومرسل . والله أعلم .

والثاني : التمسك بظاهر قوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم [ 5 \ 95 ] لأن حرمة الجماع المتفق عليها بعد رمي جمرة العقبة دليل على بقاء إحرامه في الجملة ، فيشمله عموم لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، لأنه لو زال حكم إحرامه بالكلية ، لما حرم عليه الوطء .

وأما حجته أعني مالكا بالنسبة إلى النساء والطيب ، فهي ما روى في موطئه عن نافع ، وعبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس بعرفة ، وعلمهم أمر الحج ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم منى ، فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء ، والطيب لا يمس أحد نساء ، ولا طيبا حتى يطوف بالبيت ا هـ .

ومما يستدل به لمالك على ذلك ما رواه الحاكم في المستدرك : حدثنا أبو [ ص: 461 ] عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ، ثنا إبراهيم بن عبد الله ، أنبأ زيد بن هارون ، أنبأ يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، عن عبد الله بن الزبير قال : من سنة الحج أن يصلي الإمام الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء الآخرة ، والصبح بمنى ، ثم يغدو إلى عرفة ، الحديث ، وفيه : فإذا رمى الجمرة الكبرى حل له كل شيء حرم عليه إلا النساء ، والطيب حتى يزور البيت ا هـ . ثم قال : هذا حديث على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ولم يتعقبه عليه الذهبي .

هذا هو حاصل حجة مالك وأصحابه في أن التحلل الأول يحل به ، ما عدا النساء والصيد ، والطيب ، وقد قدمنا أن الطيب بعد رمي الجمرة مكروه عنده لا حرام .

وأما حجة من قال : إنه إن رمى جمرة العقبة وحلق : حل له كل شيء إلا النساء : كأحمد ، والشافعي ومن وافقهما ، فمنها حديث عائشة المتفق عليه ، قالت : كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت . هذا لفظ البخاري في صحيحه ، ولفظ مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت ، وفي لفظ : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي لحرمه حين أحرم ، ولحله حين أحل . قبل أن يطوف بالبيت . وقد ذكر مسلم لهذا الحديث ألفاظا متعددة متقاربة معناها واحد .

منها قالت : طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يفيض بأطيب ما وجدت .

ومن أدلتهم على ذلك : ما رواه الإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء . قال رجل : والطيب ؟ فقال ابن عباس : أما أنا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضمخ رأسه بالمسك ، أفطيب ذلك أم لا ؟ قال النووي في شرح المهذب في حديث ابن عباس هذا : وقد روى النسائي بإسناده ، عن الحسن بن عبد الله العرني ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا رمى الجمرة فقد حل له كل شيء إلا النساء " هكذا رواه النسائي ، وابن ماجه مرفوعا ، وإسناده جيد ، إلا أن يحيى بن معين وغيره ، قالوا : يقال : إن الحسن العرني لم يسمع ابن عباس ، ورواه البيهقي موقوفا على ابن عباس . انتهى كلام النووي رحمه الله .

والذي رأيته في سنن النسائي ، وابن ماجه : أن حديث الحسن العرني المذكور موقوف عندهما على ابن عباس ، إلا ما ذكره من أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتضمخ بالمسك . وقال [ ص: 462 ] ابن حجر في تهذيب التهذيب في الحسن العرني المذكور ، قال أحمد : لم يسمع من ابن عباس شيئا ، وقال أبو حاتم : لم يدركه ا هـ . والعرني بضم العين ، وفتح الراء ثم نون : نسبة إلى عرينة بطن من بجيلة .

ومن أدلتهم على ذلك : ما رواه أبو داود في سننه من طريق الحجاج بن أرطاة ، عن الزهري ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء " ا هـ .

ومعلوم أن هذا الحديث ضعيف من وجهين :

أحدهما : هو ما قدمنا من تضعيف الحجاج بن أرطاة .

والثاني : أن الحجاج المذكور لم يسمع من الزهري . وقد قال أبو داود في سننه بعد أن ساق هذا الحديث : هذا حديث ضعيف : الحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه ، وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : أما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه أبو داود بإسناد ضعيف جدا من رواية الحجاج بن أرطاة ، وقال : هو حديث ضعيف اهـ .

هذا هو حاصل حجة من قال : إنه يحل له بعد رمي جمرة العقبة كل شيء إلا النساء ، وأما ما ذكرنا عن الشافعي : من أنه يحل له كل شيء إلا النساء باثنين من ثلاثة : هي الرمي ، والحلق ، والطواف ، وتحل النساء بالثالث منها ، بناء على أن الحلق نسك ، وعلى أنه ليس بنسك يحل له كل شيء إلا النساء بواحد من اثنين ، هما : الرمي ، والطواف وتحل له النساء بالثاني منهما لم نعلم له نصا يدل عليه ، هكذا والظاهر أنه رأى هذه الأشياء لها مدخل في التحلل ، وقد دل النص الصحيح على حصول التحلل الأول بعد الرمي والحلق ، فجعل هو الطواف كواحد منهما . والله تعالى أعلم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أن الطيب يحل له بالتحلل الأول ، لحديث عائشة المتفق عليه الذي هو صريح في ذلك . وكذلك لبس الثياب ، وقضاء التفث ، وأن الجماع لا يحل إلا بالتحلل الأخير ، وأما حلية الصيد بالتحلل الأول فهي محل نظر ; لأن الأحاديث التي فيها التصريح ، بأنه يحل له كل شيء إلا النساء ، قد علمت ما فيها من الكلام ، وحديث عائشة المتفق عليه لم يتعرض لحل الصيد .

وظاهر قوله : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم يمكن أن يتناول ما بعد التحلل الأول ; لأن حرمة الجماع تدل على أنه متلبس بالإحرام في الجملة ، وإن كان قد حل له بعض [ ص: 463 ] ما كان حراما عليه ، والله تعالى أعلم .
المسألة الحادية عشرة

في أحكام الرمي

اعلم أنا قدمنا في الكلام على الإفاضة من مزدلفة إلى منى بعض أحكام رمي جمرة العقبة ، فبينا كلام العلماء في حكمه ، وفي أول وقته وآخره ، وذكرنا بعض الأحكام المتعلقة برميها قريبا ، والآن سنذكر إن شاء الله المهم من أحكام الرمي .

اعلم أن الرمي في أيام التشريق واجب يجبر بدم عند جماهير العلماء على اختلاف بينهم في تعدد الدماء فيه ، وعدم تعددها ، ولا خلاف بينهم في أنه ليس بركن لأن الحج يتم قبله ، ويتحلل صاحبه التحلل الأصغر والأكبر ، فيحل له كل شيء حرم عليه بالإحرام ، فحجه تام إجماعا قبل رمي أيام التشريق ، ولكن رميها واجب يجبر بدم ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى فيها ، وقال " لتأخذوا عني مناسككم " .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن التحقيق أنه لا يجوز الرمي في أيام التشريق إلا بعد الزوال لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .

ففي صحيح مسلم من حديث جابر قال : " رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة يوم النحر ضحى ، وأما بعد فإذا زالت الشمس " هذا لفظ مسلم عنه في صحيحه ، وحديث جابر هذا الذي رواه مسلم في صحيحه موصولا باللفظ الذي ذكرنا ، رواه البخاري تعليقا مجزوما به بلفظ : وقال جابر : " رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى ، ورمى بعد ذلك بعد الزوال " ، ثم ساق البخاري رحمه الله بسنده عن ابن عمر قال : كنا نتحين ، فإذا زالت الشمس رمينا .

وقال ابن حجر في ( ( فتح الباري ) ) في قول ابن عمر : كنا نتحين . الحديث ، فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو دليل على أن الحافظ ابن حجر يرى قول ابن عمر : كنا نتحين ، فإذا زالت الشمس رمينا ، له حكم الرفع ، وحديث جابر الصحيح المذكور قبله صريح في الرفع ، وروى الإمام أحمد ، وأبو داود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر يوم حين صلى الظهر ، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس " الحديث ، وفي إسناده محمد بن إسحاق ، صاحب المغازي ، وهو مدلس ، وقد قال ابن إسحاق المذكور في الإسناد المذكور ، عن [ ص: 464 ] عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة ، والمدلس إذا عنعن لم تقبل روايته عند أهل الحديث ، وقد قدمنا مرارا أن من يحتج بالمرسل ، يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى ، وأن المشهور عن أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد : الاحتجاج بالمرسل . وروى الإمام أحمد ، وابن ماجه ، والترمذي وحسنه عن ابن عباس قال : " رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمار حين زالت الشمس " .

وبهذه النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تعلم أن قول عطاء ، وطاوس بجواز الرمي في أيام التشريق قبل الزوال ، وترخيص أبي حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال ، وقول إسحاق : إن رمى قبل الزوال في اليوم الثالث أجزأه ، كل ذلك خلاف التحقيق لأنه مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه المعتضد بقوله : " لتأخذوا عني مناسككم " ، ولذلك خالف أبا حنيفة في ترخيصه المذكور صاحباه محمد ، وأبو يوسف ، ولم يرد في كتاب الله ، ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يخالف ذلك ، فالقول بالرمي قبل الزوال أيام التشريق لا مستند له ألبتة مع مخالفته للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم ، فلا ينبغي لأحد أن يفعله ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : اعلم أنه يجب الترتيب في رمي الجمار أيام التشريق ، فيبدأ بالجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف ، فيرميها بسبع حصيات مثل حصى الخذف ، يكبر مع كل حصاة ، ثم يقف ، فيدعو طويلا ، ثم ينصرف إلى الجمرة الوسطى ، فيرميها كالتي قبلها ، ثم يقف ، فيدعو طويلا ، ثم ينصرف إلى جمرة العقبة ، فيرميها كذلك ، ولا يقف عندها بل ينصرف إذا رمى وهذا الترتيب على النحو الذي ذكرنا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمر بأخذ المناسك عنه . فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا الترتيب المذكور . ففي صحيح البخاري رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات ، يكبر على إثر كل حصاة ، ثم يتقدم ، حتى يسهل ، فيقوم مستقبل القبلة ، فيقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ثم يرمي الوسطى ، ثم يأخذ ذات الشمال فيستهل ، ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا ، ويدعو ويرفع يديه ، ويقوم طويلا ، ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ، ولا يقف عندها ، ثم ينصرف فيقول : هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ا هـ .

روى البخاري هذا الحديث في ثلاثة أبواب متوالية ، وهو نص صحيح صريح في الترتيب المذكور ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لتأخذوا عني مناسككم " فإن لم يرتب الجمرات ، بأن بدأ بجمرة العقبة لم يجزئه الرمي منكسا لأنه خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم وفي الحديث : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، وتنكيس الرمي عمل ليس من أمرنا ، فيكون مردودا ، وبهذا قال [ ص: 465 ] مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجمهور أهل العلم ، وقال أبو حنيفة : الترتيب المذكور سنة ، فإن نكس الرمي أعاده وإن لم يعد أجزأه ، وهو قول الحسن ، وعطاء ، واحتجوا بأدلة لا تنهض . وعلى الصحيح الذي هو قول الجمهور : إن الترتيب شرط لو بدأ بجمرة العقبة ، ثم الوسطى ، ثم الأولى ، أو بدأ بالوسطى ، ورمى الثلاث لم يجزه إلا الأولى لعدم الترتيب في الوسطى ، والأخيرة ، فعليه أن يرمي الوسطى ، ثم الأخيرة ، ولو رمى جمرة العقبة . ثم الأولى ، ثم الوسطى أعاد جمرة العقبة وحدها هذا هو الظاهر .

واعلم أن العلماء اختلفوا في مسائل كثيرة من مسائل الرمي ، ليس فيها نص ، وسنذكر هنا بعض ذلك مما يظهر لنا أنه أقرب للصواب ، مع الاختصار ، لعدم النصوص في ذلك .

فمن ذلك : أن الأقرب فيما يظهر لنا أنه لا بد من رمي الحصاة بقوة ، فلا يكفي طرحها ، ولا وضعها باليد في المرمى ; لأن ذلك ليس برمي في العرف خلافا لمن قال : إنه رمي ، وأنه لا بد من وقوع الحصاة في نفس المرمى ، وهو الجمرة التي يحيط بها البناء واستقرارها فيه خلافا لمن قال : إنها إن وقعت في المرمى ، ثم تدحرجت حتى خرجت منه : أنه يجزئه ، وأنها لو ضربت شيئا دون المرمى ، ثم طارت ، وسقطت في المرمى : أن ذلك يجزئه بخلاف ما لو جاءت في محمل ، أو في ثوب رجل ، فتحرك المحمل ، أو الرجل ، فسقطت في المرمى ، فإنها لا تجزئ ، وكذلك لو جاءت دون المرمى ، فأطارت حصاة أخرى ، فجاءت هذه الحصاة الأخرى في المرمى ، فإنها لا تجزئه . لأن الحصاة التي رماها لم تسقط في المرمى ، وإنما وقعت فيه الحصاة التي أطارتها ، وأنها إن أخطأت المرمى ، ولكن سقطت قريبا منه أن ذلك لا يجزئه ، خلافا لمن قال : يجزئه ، وأنه لا ينبغي أن يرمي إلا بالحجارة ، فلا ينبغي الرمي بالمدر ، والطين ، والمغرة ، والنورة ، والزرنيخ ، والملح ، والكحل ، وقبضة التراب ، والأحجار النفيسة : كالياقوت ، والزبرجد ، والزمرد ، ونحو ذلك ، خلافا لمن أجاز الرمي بذلك .

ولا يجوز الرمي بالخشب ، والعنبر ، واللؤلؤ ، والجواهر ، والذهب ، والفضة ، والأقرب أيضا أن الحصاة إن وقعت في شقوق البناء المنتصب في وسط الجمرة ، وسكنت فيها أنها لا تجزئ ، لأنها وقعت في هواء المرمى ، لا في نفس المرمى خلافا لمن قال : إنها تجزئه ، والأقرب أنه لا يلزم غسل الحصى لعدم الدليل على ذلك ، وأنه لو رمى بحصاة نجسة أجزأه ذلك لصدق اسم الرمي عليه ، وعدم نص على اشتراط طهارة [ ص: 466 ] الحصى مع كراهة ذلك عند بعض أهل العلم ، وقول بعضهم : بعدم الإجزاء ، والأقرب أنه لو رمى بحصاة قد رمى بها أنها تجزئه لصدق اسم الرمي عليها ، وعدم النص على منع ذلك ، ولا على عدم إجزائه ولكن الأحوط في الجميع الخروج من الخلاف ، كما قال بعضهم :



وأن الأورع الذي يخرج من خلافهم ولو ضعيفا فاستبن

وفي كتب الفروع هنا أشياء تركناها لكثرتها .

تنبيه

اعلم أن العلماء اختلفوا في المعنى الذي منه الجمرة ، فقال بعض أهل العلم : الجمرة في اللغة : الحصاة ، وسميت الجمرة التي هي موضع الرمي بذلك ، لأنها المحل الذي يرمى فيه بالحصى ، وعلى هذا فهو من تسمية الشيء باسم ما يحل فيه ، وهو أسلوب عربي معروف ، وهو عند البلاغيين من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، والتجمير رمي الحصى في الجمار ، ومنه قول ابن أبي ربيعة :



بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان


والمجمر بصيغة اسم المفعول مضعفا : هو الموضع الذي ترمى فيه الجمار ، ومنه قول حذيفة بن أنس الهذلي :



لأدركهم شعث النواصي كأنهم سوابق حجاج توافي المجمرا


وقال بعض أهل العلم : أصل الجمرة من التجمر بمعنى التجمع ، تقول العرب : تجمر القوم ، إذا اجتمعوا ، وانضم بعضهم إلى بعض ، وجمرهم الأمر : أحوجهم إلى التجمر ، وهو التجمع ، وجمر الشيء : جمعه ، وجمر الأمير الجيش ، إذا أطال حبسهم مجتمعين بالثغر ، ولم يأذن لهم في الرجوع والتفرق ، وروى الربيع : أن الشافعي أنشده في ذلك قول الشاعر :



وجمرتنا تجمير كسرى جنوده ومنيتنا حتى نسينا الأمانيا


والجمار : القوم المجتمعون ، ومنه قول الأعشى :



فمن مبلغ وائلا قومنا وأعني بذلك بكرا جمارا


[ ص: 467 ] ؛ أي : مجتمعين ، وعلى هذا فاشتقاق الجمرة من التجمر بمعنى التجمع ; لاجتماع الحجيج عندها يرمونها ، وقيل : لأن الحصى يتجمع فيها ، وقيل : اشتقاق الجمرة من أجمر إذا أسرع ; لأن الناس يأتون مسرعين لرميها . وقيل : أصلها من جمرته إذا نحيته ، وأظهرها القول الأول والثاني ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : في آخر وقت الرمي أيام التشريق .

قد علمت أن أول وقت رميها بعد الزوال ، ولا خلاف بين العلماء ، أن بقية اليوم وقت للرمي إلى الغروب .

واختلفوا فيما بعد الغروب ، فمنهم من يقول : إن غربت الشمس ، ولم يرم رمى بالليل ، وبعضهم يقول : الليل قضاء ، وبعضهم يقول : أداء ، وقد قدمنا أقوالهم ، وحججهم في الكلام على رمي جمرة العقبة ، ومنهم من يقول : لا يرمي بالليل ، بل يؤخر الرمي حتى تزول الشمس من الغد كما قدمناه مع إجماعهم على فوات وقت الرمي بغروب اليوم الثالث عشر من ذي الحجة الذي هو رابع يوم النحر .

واعلم أن هذا الحكم له حالتان :

الأولى : حكم الرمي في الليلة التي تلي اليوم الذي فاته الرمي فيه من أيام التشريق .

والثانية : الرمي في يوم آخر من أيام التشريق .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:32 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (339)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 468 إلى صـ 475






أما الليل فقد قدمنا أن الشافعية ، والمالكية ، والحنفية كلهم يقولون : يرمي ليلا . والمالكية بعضهم يقولون : الرمي ليلا قضاء ، وهو المشهور عندهم ، وبعضهم يتوقف في كونه قضاء أو أداء ، كما قدمناه عن الباجي ، والحنفية يقولون : إن الليلة التي بعد اليوم تبع له ، فيجوز الرمي فيها تبعا لليوم ، والشافعية لهم وجهان مشهوران في الرمي في الليلة التي بعد اليوم ، هل هو أداء ، أو قضاء ؟ كما قدمناه مستوفى ، والحنابلة قدمنا أنهم يقولون : لا يرمي ليلا ، بل يرمي من الغد بعد زوال الشمس ، كما ذكرنا فيه كلام صاحب المغني ، وأما رمي يوم من أيام التشريق في يوم آخر منها ، فلا خلاف فيه بين من يعتد به من أهل العلم ، إلا أنهم اختلفوا في أيام التشريق الثلاثة هل هي كيوم واحد ؟ فالرمي في جميعها أداء ; لأنها وقت للرمي كيوم واحد ، أو كل يوم منها مستقل ، فإن فات هو وليلته التي بعده فات وقت رميه ، فيكون قضاء في اليوم الذي بعده ، فعلى القول الأول لو رمى عن اليوم الأول في الثاني ، أو عن الثاني في الثالث ، أو عن الأول ، والثاني في الثالث ، فلا شيء [ ص: 468 ] عليه ; لأنه رمى في وقت الرمي ، وعلى الثاني يلزمه دم عن كل يوم فاته رمي فيه إلى الغد عند من يقول : بتعدد الدماء كالشافعية ، أو دم واحد عن اليومين ، عند من يقول : بعدم التعدد .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق في هذه المسألة أن أيام التشريق كاليوم الواحد بالنسبة إلى الرمي ، فمن رمى عن يوم منها في يوم آخر منها أجزأه ، ولا شيء عليه ، كما هو مذهب أحمد ، ومشهور مذهب الشافعي ، ومن وافقهما .

والدليل على ذلك : هو ما رواه مالك في الموطإ ، والإمام أحمد ، والشافعي ، وابن حبان ، والحاكم ، وأصحاب السنن الأربعة ، عن عاصم بن عدي العجلاني رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاء الإبل ، أن يرموا يوما ، ويدعوا يوما هذا لفظ أبي داود ، والنسائي وابن ماجه ، وفي لفظ : رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى ، يرمون يوم النحر ، ثم يرمون الغداة ، ومن بعد الغداة ليومين ، ثم يرمون يوم النفر . ولهذا الحديث ألفاظ متقاربة غير ما ذكرنا ، ومعناها واحد ، وقال الإمام مالك رحمه الله في الموطإ ما نصه : تفسير الحديث الذي أرخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في تأخير رمي الجمار فيما نرى والله أعلم : أنهم يرمون يوم النحر ، فإذا مضى اليوم الذي يلي يوم النحر رموا من الغد ، وذلك يوم النفر الأول ، فيرمون لليوم الذي مضى ، ثم يرمون ليومهم ذلك ، لأنه لا يقضي أحد شيئا حتى يجب عليه ، فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء بعد ذلك ، فإن بدا لهم النفر فقد فرغوا ، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الآخر ، ونفروا . انتهى منه ، وهذا المعنى الذي فسر به الحديث هو صريح معناه في رواية من روى : أن يرموا يوما ويدعوا يوما ، وحديث عاصم العجلاني هذا قال فيه الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .

فإن قيل : أنتم سقتم هذا الحديث مستدلين به على أن أيام التشريق كاليوم الواحد ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رخص لهم في تأخير رمي يوم إلى اليوم الذي بعده دل ذلك على أن اليوم الثاني وقت لرمي اليوم الأول ، لأنه لو فات وقته لفات بفوات وقته لإجماع العلماء على أنه لا يقضي في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة الذي هو خامس يوم النحر فما بعده ، ولكن ظاهر كلام مالك في تفسيره الحديث المذكور يدل على أن رمي يوم في اليوم الذي بعده قضاء لقوله في كلامه المذكور : فإذا وجب عليه ومضى كان القضاء .

فالجواب عن ذلك من وجهين :

[ ص: 469 ] أحدهما : أن إطلاق القضاء على ما فات وقته بالكلية اصطلاح حادث للفقهاء ; لأن القضاء في الكتاب والسنة يطلق على فعل العبادة في وقتها ، كقوله تعالى : فإذا قضيتم الصلاة الآية [ 4 ] ، وقوله : فإذا قضيت الصلاة [ 62 \ 10 ] ، وقوله تعالى : فإذا قضيتم مناسككم الآية [ 2 \ 200 ] . فالقضاء في هذه الآيات بمعنى الأداء .

الوجه الثاني : أنا لو فرضنا أن مالكا رحمه الله ، يريد بالقضاء في كلامه المذكور المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء ، وهو أن القضاء فعل العبادة بعد خروج وقتها المعين لها تداركا لشيء علم تقدم ما أوجب فعله في خصوص وقته ، كما هو المعروف في مذهبه ، إنه إن أخر الرمي إلى الليل فما بعده ، أنه قضاء . يلزم به الدم ، فإنا لا نسلم أن رمي يوم في اليوم الذي بعده قضاء لعبادة خرج وقتها بالكلية استنادا لأمرين :

الأول : أن رمي الجمار عبادة موقتة بالإجماع ، فإذن النبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في وقت دليل واضح على أن ذلك الوقت من أجزاء وقت تلك العبادة الموقتة ; لأنه ليس من المعقول أن تكون هذه العبادة موقتة بوقت معين ينتهي بالإجماع في وقت معروف ، ويأذن النبي صلى الله عليه وسلم في فعلها في زمن ليس من أجزاء وقتها المعين لها . فهذا لا يصح بحال ، وإذا تقرر أن الوقت الذي أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فعل العبادة الموقتة فيه أنه من وقتها علم أنها أداء لا قضاء ، والأداء في اصطلاح أهل الأصول هو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها شرعا لمصلحة اشتمل عليها ذلك الوقت .

الأمر الثاني : أنه لا يمكن أن يقال هنا : إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالرمي في وقت غير وقته ، بل بعد فوات وقته ، وأن أمره به في ذلك الوقت أمر بقضائه بعد فوات وقته المعين له ، لما قدمنا من إجماع المسلمين على أنه لا يجوز الرمي في رابع يوم النحر ، ولو كان يجوز قضاء الرمي بعد فوات وقته ، لجاز الرمي في رابع النحر وخامسه ، وما بعد ذلك . والقضاء في اصطلاح الفقهاء والأصوليين : لا يطلق إلا على ما فات وقته بالكلية ، والصلاة في آخر الوقت الضروري أداء عندهم ، حتى إنه لو صلى بعضها في آخر الضروري ، وبعضها بعد خروج الوقت الضروري ، فهي أداء عندهم على الصحيح . ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " وعرف في مراقي السعود الأداء والوقت والقضاء عند الأصوليين بقوله :



فعل العبادة بوقت عينا شرعا لها باسم الأداء قرنا

[ ص: 470 ] وكونه بفعل بعض يحصل
لعاضد النص هو المعول وقيل ما في وقته أداء
وما يكون خارجا قضاء والوقت ما قدره من شرعا
من زمن مضيقا موسعا وعكسه القضا تداركا لما
سبق الذي أوجبه قد علما

وقوله : وعكسه القضا ; يعني : أن القضاء ضد الأداء .

وبما ذكرنا : تعلم أن التحقيق أن أيام الرمي كلها كاليوم الواحد ، وأن من رمى عن يوم في الذي بعده ، لا شيء عليه لإذن النبي صلى الله عليه وسلم للرعاء في ذلك ، ولكن لا يجوز تأخير يوم إلى يوم آخر إلا لعذر ، فهو وقت له ، ولكنه كالوقت الضروري . والله تعالى أعلم .

أما رمي جمرة العقبة ، فقال بعض أهل العلم : إن حكمه مع رمي أيام التشريق كواحد منها ، فمن أخر رميه إلى يوم من أيام التشريق ، فهو كمن أخر يوما منها إلى يوم ، وعليه ففيه الخلاف المذكور ، وقال بعض أهل العلم : هو مستقل بوقته دونها لأنه يخالفها في الوقت والعدد ; لأنها جمرة واحدة أول النهار ، وأيام التشريق بعكس ذلك وله وجه من النظر . والله أعلم .
الفرع الرابع : أظهر قولي أهل العلم عندي أنه إن قضى رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق في اليوم الثالث منها ، ينوي تقديم الرمي عن اليوم الأول قبل الثاني ، ولا يجوز تقديم رمي الثاني بالنية ; لأنه لا وجه لتقديم المتأخر ، وتأخير المتقدم من غير استناد إلى دليل كما ترى . والظاهر أنه إن نوى تقديم الثاني لا يجزئه لأنه كالمتلاعب خلافا لمن قال : يجزئه ، والله تعالى أعلم .
الفرع الخامس : اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي يوجب تركه الدم من رمي الجمار ، فذهب مالك ، وأصحابه إلى أن من أخر رمي حصاة واحدة من واحدة من الجمار إلى ليل ذلك اليوم لزمه الدم ، وما فوق الحصاة أحرى بذلك ، وسواء عندهم في ذلك من جمرة العقبة يوم النحر ، ورمي الثلاث أيام التشريق . ومعلوم أن من توقف من المالكية في كون الرمي ليلا قضاء يتوقف في وجوب الدم ، إن رمى ليلا ، ولكن مشهور مذهبه : هو أن الليل قضاء كما قال خليل في مختصره : والليل قضاء . وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه : إلى أن الدم يلزمه بترك رمي الجمرات كلها ، أو رمي يوم واحد من أيام التشريق ، وكذلك عندهم رمي جمرة العقبة ، فرمي جمرة العقبة ورمي يوم من أيام التشريق ، ورمي الجميع سواء عندهم يلزم في ترك كل واحد منها دم واحد ، وما هو أكثر [ ص: 471 ] من نصف رمي يوم عندهم كرمي اليوم يلزم فيه الدم ، فلو رمى جمرة وثلاث حصيات من جمرة ، وترك الباقي ، فعليه دم ; لأنه رمى عشر حصيات وترك إحدى عشرة حصاة ، فإن ترك أقل من نصف رمي يوم كأن ترك جمرة واحدة ، فلا دم عليه ، ولكن عليه الصدقة عندهم ، فيلزمه لكل حصاة نصف صاع من بر ، أو صاع من تمر ، أو شعير إلا أن يبلغ ذلك دما فينقص ما شاء هكذا يقول . ولا أعلم له مستندا من النقل ، وقد قدمنا أن الدم يلزم عند أبي حنيفة بفوات الرمي في يومه وليلته التي بعده ، ولو رماه من الغد في أيام التشريق ، وخالفه في ذلك صاحباه . ومذهب الشافعي في هذه المسألة فيه اختلاف يرجع إلى قولين :

القول الأول : وعليه اقتصر صاحب المهذب : أنه إن ترك رمي الجمار الثلاث في يوم من أيام التشريق لزمه دم ، وإن ترك ثلاث حصيات من جمرة ، فما فوقها : لزمه دم لأن ثلاث حصيات فما فوقها يقع عليها اسم الجمع المطلق ، فصار تركها كترك الجميع ، وإن ترك حصاة واحدة فثلاثة أقوال :

الأول : يجب عليه ثلث دم .

والثاني : مد .

والثالث : درهم . وحكم الحصاتين كذلك ، قيل : يلزم فيها ثلثا دم ، وقيل : مدان وقيل درهمان ، فإن ترك الرمي في أيام التشريق كلها ، فعلى القول المشهور عندهم أنها كيوم واحد ، فاللازم دم واحد . وإن قلنا : بأن كل يوم منفرد بوقته ، فثلاثة دماء ، وإن ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر ، ورمى أيام التشريق ، فعلى القول بأن رمي يوم النحر كرمي يوم من أيام التشريق ، لزمه على القول الأول أنها كيوم واحد دم واحد ، وإن قلنا : بانفراد رمي يوم النحر عن أيام التشريق ، لمخالفته لها وقتا وعددا ، فإن قلنا : بالمشهور أن أيام التشريق كيوم واحد ، لزمه دمان ، وإن قلنا : بانفراد كل يوم منها عن الآخر بوقته ، لزمه أربعة دماء .

القول الثاني : أن الجمرات الثلاث كلها كالشعرات الثلاث ، فلا يكمل الدم في بعضها بل لا يلزم إلا بترك جميعها ، بأن يترك رمي يوم ، وعليه فإن ترك رمي جمرة من الجمار ، ففيه الأقوال الثلاثة المشهورة عندهم ، فيمن حلق شعرة أظهرها : مد ، والثاني : درهم ، والثالث : ثلث دم ، فإن ترك جمرتين ، فعلى هذا القياس ، وهو لزوم مدين ، أو درهمين ، أو ثلثي دم ، وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة ، فعلى أن في الجمرة ثلث دم يلزمه في الحصاة جزء من واحد وعشرين جزءا من دم ، وعلى أن فيها مدا أو درهما ، ففي الحصاة [ ص: 472 ] سبع مد ، أو سبع درهم ، وللشافعية في هذا المبحث تفاصيل كثيرة ، تركناها لطولها ، ومذهب الإمام أحمد : أن من أخر الرمي كله عن أيام التشريق . لزمه دم ، وعنه في ترك رمي الجمرة الواحدة دم ، ولا شيء عنده في الحصاة ، والحصاتين وعنه يتصدق بشيء . وروي عنه أن في الحصاة الواحدة : دما كقول مالك . وروي عنه أن في ثلاث حصيات : دما كأحد قولي الشافعي ، وفيما دون ذلك كل حصاة مد كأحد الأقوال عند الشافعية والعلم عند الله تعالى .

وإذا عرفت أقوال أهل العلم في حكم من أخل بشيء من الرمي ، حتى فات وقته .

فاعلم أن دليلهم في إجماعهم على أن من ترك الرمي كله وجب عليه دم ، هو ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه ، فليهرق دما ، وهذا صح عن ابن عباس موقوفا عليه ، وجاء عنه مرفوعا ولم يثبت . وقد روى مالك في موطئه عن أيوب بن أبي تميمة السختياني ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : من نسي من نسكه شيئا إلى آخره باللفظ الذي ذكرنا وهذا إسناد في غاية الصحة إلى ابن عباس كما ترى . وقال البيهقي في سننه : أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ، ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أنبأ ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن عمر ، ومالك بن أنس ، وغيرهما : أن أيوب بن أبي تميمة ، أخبرهم عن سعيد بن جبير ، عن عبد الله بن عباس أنه قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما اهـ .

وقال النووي في شرح المهذب : وأما حديث : " من ترك نسكا فعليه دم " فرواه مالك ، والبيهقي ، وغيرهما بأسانيد صحيحة ، عن ابن عباس موقوفا عليه لا مرفوعا ، ولفظه : عن مالك ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : أن ابن عباس قال : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما قال مالك : لا أدري قال : ترك أم نسي قال البيهقي : وكذا رواه الثوري ، عن أيوب : من ترك شيئا من نسكه فليهرق له دما وما قال البيهقي ، فكأنه قالهما يعني البيهقي أن أو ليست للشك كما أشار إليه مالك بل للتقسيم ، والمراد به يريق دما سواء ترك عمدا أو سهوا والله أعلم . انتهى كلام النووي .

وقال ابن حجر في تلخيص الحبير : حديث ابن عباس موقوفا عليه ومرفوعا : " من ترك نسكا فعليه دم " ، أما الموقوف ، فرواه مالك في الموطإ ، والشافعي عنه ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عنه بلفظ : " من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما " وأما [ ص: 473 ] المرفوع فرواه ابن حزم ، من طريق علي بن الجعد ، عن ابن عيينة ، عن أيوب به ، وأعله بالراوي ، عن علي بن الجعد أحمد بن علي بن سهل المروزي فقال : إنه مجهول ، وكذا الراوي عنه علي بن أحمد المقدسي قال : هما مجهولان . انتهى من التلخيص .

فإذا علمت أن الأثر المذكور ثابت بإسناد صحيح ، عن ابن عباس .

فاعلم أن وجه استدلال الفقهاء به على سائر الدماء التي قالوا بوجوبها غير الدماء الثابتة بالنص ، أنه لا يخلو من أحد أمرين .

الأول : أن يكون له حكم الرفع ، بناء على أنه تعبد ، لا مجال للرأي فيه ، وعلى هذا فلا إشكال .

والثاني : أنه لو فرض أنه مما للرأي فيه مجال ، وأنه موقوف ليس له حكم الرفع ، فهو فتوى من صحابي جليل لم يعلم لها مخالف من الصحابة ، وهم رضي الله عنهم خير أسوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

أما اختلاف العلماء في لزوم الدم بترك جمرة ، أو رمي يوم ، أو حصاة ، أو حصاتين إلى آخر ما تقدم : فهو من نوع الاختلاف في تحقيق المناط فمالك مثلا القائل : بأن في الحصاة الواحدة دما يقول الحصا الواحدة داخلة في أثر ابن عباس المذكور ، فمناط لزوم الدم محقق فيها ، لأنها شيء من نسكه فيتناولها قوله : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه إلخ ، لأن لفظة شيئا نكرة في سياق الشرط ، فهي صيغة عموم ، والذين قالوا : لا يلزم في الحصاة ، والحصاتين دم ، قالوا : الحصاة ، والحصاتان لا يصدق عليهما نسك ، بل هما جزء من نسك ، وكذلك الذين قالوا : لا يلزم في الجمرة الواحدة دم ، قالوا : رمي اليوم الواحد نسك واحد فمن ترك جمرة في يوم لم يترك نسكا ، وإنما ترك بعض نسك ، وكذلك الذين قالوا : لا يلزم إلا بترك الجميع قالوا : إن الجميع نسك واحد ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السادس : اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا : يستحب رمي جمرة العقبة راكبا إن أمكن ، ورمي أيام التشريق ماشيا في الذهاب والإياب إلا اليوم الأخير ، فيرمي فيه راكبا ، وينفر عقب الرمي وقال بعضهم : يرميه كله راكبا .

وأظهر الأقوال في المسألة : هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو قد رمى جمرة العقبة راكبا ، ورمى أيام التشريق ماشيا ذهابا وإيابا ، والله تعالى أعلم .
الفرع السابع : إذا عجز الحاج عن الرمي ، فله أن يستنيب من يرمي عنه ، وبه قال كثير [ ص: 474 ] من أهل العلم ، وهو الظاهر . وفي الموطإ قال يحيى : سئل مالك ، هل يرمى عن الصبي ، والمريض ؟ فقال : نعم ، ويتحرى المريض حين يرمى عنه ، فيكبر وهو في منزله ، ويهريق دما ، فإن صح المريض في أيام التشريق : رمى الذي رمي عنه ، وأهدى وجوبا انتهى من الموطإ .

أما الرمي عن الصبيان فهو كالتلبية عنهم ، والأصل فيه ما رواه ابن ماجه في سننه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا عبد الله بن نمير ، عن أشعث ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعنا النساء ، والصبيان ، فلبينا عن الصبيان ، ورمينا عنهم ، ورجال إسناد ابن ماجه هذا ثقات معروفون إلا أشعث ، وهو ابن سوار الكندي النجار الكوفي مولى ثقيف فقد ضعفه غير واحد ومسلم إنما أخرج له في المتابعات ، وهو ممن يعتبر بحديثه ، كما يدل على ذلك إخراج مسلم له في المتابعات . وروى الدورقي ، عن يحيى : أشعث بن سوار الكوفي ثقة ، وقال ابن عدي : لم أجد لأشعث متنا منكرا ، وإنما يغلط في الأحايين في الأسانيد ويخالف . وأما الرمي عن المريض ونحوه ممن كان له عذر غير الصغر فلا أعلم له مستندا من النقل إلا أن الاستنابة في الرمي ، هي غاية ما يقدر عليه والله تعالى يقول : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] وبعض أهل العلم يستدل لذلك بالقياس على الصبيان ، بجامع العجز في الجميع وبعضهم يقيس الرمي على أصل الحج قال النووي في شرح المهذب : استدل أصحابنا على جواز الاستنابة في الرمي بالقياس على الاستنابة في أصل الحج ، قالوا : والرمي أولى بالجواز ا هـ .

تنبيه

إذا رمى النائب ، عن العاجز ، ثم زال عذر المستنيب ، وأيام الرمي باقية ، فقد قدمنا قول مالك في الموطإ : أنه يقضي كل ما رماه عنه النائب ، مع لزوم الدم وقال بعض أهل العلم : لا يلزمه قضاء ما رمى عنه النائب ; لأن فعل النائب كفعل المنوب عنه ، فيسقط به الفرض ، ولكن تندب إعادته ، وهذا هو مشهور مذهب الشافعي . وفي المسألة لأهل العلم غير ما ذكرنا .

قال مقيده عفا الله وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه المسألة : أنه إذا زال عذر المستنيب وأيام الرمي باق بعضها : أنه يرمي جميع ما رمي عنه ، ولا شيء عليه ; لأن الاستنابة إنما وقعت لضرورة العذر ، فإذا زال العذر والوقت باق بعضه ، فعليه [ ص: 475 ] أن يباشر فعل العبادة بنفسه .

وقد قدمنا أن أقوى الأقوال دليلا هو قول من قال : إن أيام الرمي كيوم واحد بدليل ما قدمنا من ترخيصه صلى الله عليه وسلم للرعاء أن يرموا يوما ، ويدعوا يوما كما تقدم إيضاحه والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن : اعلم أن التحقيق في عدد الحصيات التي ترمى بها كل جمرة أنها سبع حصيات ، فمجموع الحصى سبعون حصاة سبع منها ترمى بها جمرة العقبة يوم النحر ، والثلاث والستون الباقية تفرق على الأيام الثلاثة في كل يوم إحدى وعشرون حصاة ، لكل جمرة سبع .

وأحوط الأقوال في ذلك قول مالك وأصحابه ومن وافقهم : أن من ترك حصاة واحدة كمن ترك رمي الجميع ، وقال بعض أهل العلم : يجزئه الرمي بخمس أو ست ، وقال ابن قدامة في المغني : والأولى ألا ينقص في الرمي عن سبع حصيات ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع حصيات ، فإن نقص حصاة ، أو حصاتين فلا بأس ، ولا ينقص أكثر من ذلك نص عليه يعني أحمد ، وهو قول مجاهد ، وإسحاق ، وعنه : إن رمى بست ناسيا ، فلا شيء عليه ، ولا ينبغي أن يتعمده ، فإن تعمد ذلك تصدق بشيء ، وكان ابن عمر يقول : ما أبالي رميت بست ، أو بسبع . وعن أحمد : أن عدد السبع شرط ، ونسبه إلى مذهب الشافعي ، وأصحاب الرأي لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بسبع . وقال أبو حبة : لا بأس بما رمى به الرجل من الحصى ، فقال عبد الله بن عمرو : صدق أبو حبة ، وكان أبو حبة بدريا .

ووجه الرواية الأولى ما روى ابن أبي نجيح قال : سئل طاوس عن رجل ترك حصاة ؟ قال : يتصدق بتمرة أو لقمة ، فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إن أبا عبد الرحمن لم يسمع قول سعد قال سعد : رجعنا من الحجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضنا يقول : رميت بست وبعضنا يقول : بسبع ، فلم يعب ذلك بعضنا على بعض . رواه الأثرم وغيره . انتهى كلام ابن قدامة في المغني . وما رواه عن أبي نجيح قال : سئل طاوس إلخ رواه البيهقي بإسناده في السنن الكبرى ، من طريق الفريابي ، عن ابن عيينة ، عن أبي نجيح .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-12, 11:34 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (340)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 476 إلى صـ 483

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أنه لا يجوز أقل من سبع حصيات للروايات الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يرمي الجمار بسبع حصيات . مع قوله : " خذوا عني مناسككم " فلا ينبغي العدول عن ذلك ; لوضوح دليله وصحته ، ولأن مقابله لم يقم [ ص: 476 ] عليه دليل يقارب دليله ، والعلم عند الله تعالى . والظاهر أن من شك في عدد ما رمى يبني على اليقين ، وروىالبيهقي عن علي رضي الله عنه ما يؤيده .
الفرع التاسع : اعلم أن جمهور أهل العلم على أن من غربت شمس يوم النفر الأول ، وهو بمنى لزم المقام بمنى ، حتى يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في اليوم الثالث ، ولا ينفر ليلا . وممن قال بهذا : الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وهو قول أكثر أهل العلم . وقال ابن قدامة في المغني : وهو قول عمر ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وأبان بن عثمان ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وابن المنذر . وقال ابن المنذر : ثبت عن عمر أنه قال : " من أدركه المساء في اليوم الثاني ، فليقم إلى الغد ، حتى ينفر مع الناس " . وخالف أبو حنيفة الجمهور في هذه المسألة فقال : له أن ينفر ليلة الثالث عشر من الشهر حتى يطلع الفجر من اليوم الثالث ، فإن طلع الفجر لزمه البقاء ، حتى يرمي .

والأظهر عندي حجة الجمهور ; لأن الله تعالى قال : فمن تعجل في يومين [ 2 \ 203 ] ولم يقل في يومين وليلة .

ووجه قول أبي حنيفة : هو أن من نفر بالليل فقد نفر في وقت لا يجب فيه الرمي ، بل لا يجوز فجاز له النفر كالنهار . وقد قدمنا أيضا عن الحنفية أنهم يرون الليلة التي بعد اليوم من أيام التشريق تابعة له ، فيجوز فيها ما يجوز في اليوم الذي قبلها كالرمي فيها والنفر فيها إن كان يجوز في يومها .

والأظهر عندي : أنه لو ارتحل من منى فغربت عليه الشمس ، وهو سائر في منى لم يخرج منها أنه يلزمه المبيت ، والرمي ، لأنه يصدق عليه أنه غربت عليه الشمس في منى ، فلم يتعجل منها في يومين خلافا للمشهور من مذهب الشافعي القائل بأن له أن يستمر في نفره ولا يلزمه المبيت والرمي .

والأظهر عندي أيضا : أنه لو غربت عليه الشمس ، وهو في شغل الارتحال أنه يبيت ، ويرمي خلافا لمن قال : يجوز له الخروج منها بعد الغروب ; لأنها غربت ، وهو مشتغل بالرحيل ، وهما وجهان مشهوران عند الشافعية ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم : أن التحقيق أن التعجل جائز ، لأهل مكة فهم فيه كغيرهم ، خلافا لمن فرق بين المكي وغيره ، إلا لعذر ; لأن الله قال : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه [ 2 \ 203 ] [ ص: 477 ] وهو عموم شامل لأهل مكة وغيرهم ، ولا شك أن التأخر أفضل من التعجل ; لأن فيه زيادة عمل ، والنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع لم يتعجل .
الفرع العاشر : اعلم أن العلماء اختلفوا في المبيت في منى ليالي أيام التشريق هل هو واجب ، أو مستحب ، مع إجماعهم على أنه مشروع ؟ فذهب مالك ، وأصحابه : إلى أنه واجب ، ولو بات ليلة واحدة منها أو جل ليلة ، وهو خارج عن منى . لزمه دم لأثر ابن عباس السابق . وروى مالك في الموطإ ، عن نافع أنه قال : زعموا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : كان يبعث رجالا يدخلون الناس من وراء العقبة . وروى مالك في الموطإ أيضا ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن عمر بن الخطاب قال : لا يبيتن أحد من الحاج ليالي منى من وراء العقبة . اهـ منه .

وهو دليل على وجوب المبيت ليالي أيام التشريق بمنى كما أنه دليل على أن ما وراء جمرة العقبة ، مما يلي مكة ليس من منى ، وهو معروف ، ومذهب أبي حنيفة : هو أن عدم المبيت بمنى ليالي منى مكروه ، ولو بات بغير منى لم يلزمه شيء ، عند أبي حنيفة ، وأصحابه ، لأنهم يرون أن المبيت بمنى لأجل أن يسهل عليه الرمي ، فلم يكن من الواجبات عندهم . ومذهب الشافعي في هذه المسألة : هو أن في المبيت بمنى ليالي منى طريقتين ، أصحهما ، وأشهرهما فيه قولان أصحهما : أنه واجب ، والثاني : أنه سنة ، والطريق الثاني أنه سنة قولا واحدا فعلى القول بأنه واجب ، فالدم واجب في تركه ، وعلى أنه سنة ، فالدم سنة في تركه ، ولا يلزم عندهم الدم ، إلا في ترك المبيت في الليالي كلها ، لأنها عندهم كأنها نسك واحد ، وإن ترك المبيت في ليلة من الليالي الثلاث ، ففيه الأقوال المذكورة في ترك الحصاة الواحدة عندهم أصحها أن في ترك مبيت الليلة الواحدة مدا ، والثاني : أن فيه درهما ، والثالث : أن فيه ثلث دم كما تقدم ، وحكم الليلتين معلوم كما تقدم .

ومذهب الإمام أحمد في هذه المسألة : أن المبيت بمنى ليالي منى واجب ، فلو ترك المبيت بها في الليالي الثلاث . فعليه دم على الصحيح من مذهبه ، وعنه : يتصدق بشيء ، وعنه : لا شيء عليه فإن ترك المبيت في ليلة من لياليها ، ففيه ما في الحصاة الواحدة من الأقوال التي قدمنا ، قيل : مد ، وقيل : درهم ، وقيل ، ثلث دم .

فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فاعلم أن أظهر الأقوال دليلا أن المبيت بمنى أيام منى نسك من مناسك الحج ، يدخل في قول ابن عباس : من نسي من نسكه شيئا ، أو تركه فليهرق دما .

[ ص: 478 ] والدليل على ذلك ثلاثة أمور : الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم بات بها الليالي المذكورة ، وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، فعلينا أن نأخذ من مناسكنا البيتوتة بمنى الليالي المذكورة .

الثاني : هو ما ثبت في الصحيحين : أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى ، من أجل سقايته وفي رواية : أذن للعباس .

وقال ابن حجر في فتح الباري في شرح حديث الترخيص للعباس المذكور عند البخاري ما نصه : وفي الحديث دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج ; لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة ، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة ، وإذا لم توجد هي أو ما في معناها لم يحصل الإذن وبالوجوب قال الجمهور : وفي قول للشافعي ، ورواية عن أحمد ، وهو مذهب الحنفية : أنه سنة ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف ، ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل انتهى محل الغرض منه . وما ذكره من أخذ الوجوب من الحديث المذكور واضح .

وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على الحديث المذكور : هذا يدل لمسألتين :

إحداهما : أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق مأمور به ، وهذا متفق عليه ، لكن اختلفوا هل هو واجب أو سنة ؟ وللشافعي قولان ، أصحهما : واجب ، وبه قال مالك ، وأحمد ، والثاني : سنة . وبه قال ابن عباس ، والحسن ، وأبو حنيفة ، فمن أوجبه أوجب الدم في تركه ، وإن قلنا : سنة ; لم يجب الدم بتركه ، ولكن يستحب انتهى محل الغرض منه وكأنه يقول : إن الحديث لا يؤخذ منه الوجوب ، ولكن يؤخذ منه مطلق الأمر به ; لأن رواية مسلم ليس فيها لفظ الترخيص ، وإنما فيها التعبير بالإذن ، ورواية البخاري فيها رخص النبي صلى الله عليه وسلم ، والتعبير بالترخيص : يدل على الوجوب كما أوضحه ابن حجر في كلامه الذي ذكرناه آنفا .

الأمر الثالث : هو ما قدمنا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أنه كان يمنع الحجاج من المبيت خارج منى ، ويرسل رجالا يدخلونهم في منى ، وهو من الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بالاقتداء بهم ، والتمسك بسنتهم ، والظاهر أن من ترك المبيت بمنى لعذر لا شيء عليه ، كما دل عليه الترخيص للعباس من أجل السقاية ، والترخيص لرعاء الإبل في عدم [ ص: 479 ] المبيت ورمي يوم بعد يوم .
الفرع الحادي عشر : في حكمة الرمي .

اعلم أنه لا شك في أن حكمة الرمي في الجملة هي طاعة الله ، فيما أمر به وذكره بامتثال أمره على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال أبو داود في سننه : حدثنا مسدد ، ثنا عيسى بن يونس ، ثنا عبيد الله بن أبي زياد ، عن القاسم ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله " ، وقال النووي في شرح المهذب في حديث أبي داود هذا ، وهذا الإسناد كله صحيح إلا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا ، ولم يضعف أبو داود هذا الحديث ، فهو حسن عنده كما سبق . وروى الترمذي هذا الحديث من رواية عبيد الله هذا ، وقال هو حديث حسن ، وفي بعض النسخ : حسن صحيح ، فلعله اعتضد برواية أخرى . انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : عبيد الله بن أبي زياد المذكور ، هو القداح أبو الحصين المكي ، وقد وثقه جماعة ، وضعفه آخرون ، وحديثه هذا معناه صحيح بلا شك ، ويشهد لصحة معناه قوله تعالى : واذكروا الله في أيام معدودات [ 2 \ 203 ] لأنه يدخل في الذكر المأمور به : رمي الجمار بدليل قوله بعده فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية [ 2 \ 203 ] ، وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله ، كما هو واضح ، ولكن هذه الحكمة إجمالية ، وقد روى البيهقي رحمه الله في سننه عن ابن عباس مرفوعا قال : لما أتى إبراهيم خليل الله عليه السلام المناسك ، عرض له الشيطان عند جمرة العقبة ، فرماه بسبع حصيات ، حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له عند الجمرة الثانية ، فرماه بسبع حصيات ، حتى ساخ في الأرض ، ثم عرض له في الجمرة الثالثة ، فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون . انتهى بلفظه من السنن الكبرى للبيهقي ، وقد روى هذا الحديث الحاكم في المستدرك مرفوعا ، ثم قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، وعلى هذا الذي ذكره البيهقي ، فذكر الله الذي يشرع الرمي لإقامته ، هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان ، ورميه ، وعدم الانقياد إليه ، والله يقول : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم الآية [ 60 \ 4 ] ، فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بها في [ ص: 480 ] قوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ 35 \ 6 ] وقوله منكرا على من والاه : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الآية [ 18 \ 50 ] ، ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة .

وقال النووي في شرح المهذب : فرع في الحكمة في الرمي ، قال العلماء : أصل العبادة الطاعة ، وكل عبادة فلها معنى قطعا ; لأن الشرع لا يأمر بالعبث ، ثم معنى العبادة قد يفهمه المكلف ، وقد لا يفهمه ، فالحكمة في الصلاة : التواضع ، والخضوع ، وإظهار الافتقار إلى الله تعالى ، والحكمة في الصوم كسر النفس وقمع الشهوات ، والحكمة في الزكاة : مواساة المحتاج ، وفي الحج : إقبال العبد أشعث أغبر من مسافة بعيدة إلى بيت فضله الله كإقبال العبد إلى مولاه ذليلا .

ومن العبادات التي لا يفهم معناها : السعي والرمي ، فكلف العبد بهما ليتم انقياده ، فإن هذا النوع لا حظ للنفس فيه ، ولا للعقل ، ولا يحمل عليه إلا مجرد امتثال الأمر ، وكمال الانقياد ، فهذه إشارة مختصرة تعرف بها الحكمة في جميع العبادات ، والله أعلم انتهى كلام النووي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره الشيخ النووي رحمه الله : من أن حكمة السعي والرمي غير معقولة المعنى غير صحيح فيما يظهر لي والله تعالى أعلم ، بل حكمة الرمي ، والسعي معقولة ، وقد دل بعض النصوص على أنها معقولة ، أما حكمة السعي : فقد جاء النص الصحيح ببيانها ، وذلك هو ما رواه البخاري في صحيحه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة ترك إبراهيم هاجر ، وإسماعيل في مكة ، وأنه وضع عندهما جرابا فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، وفي الحديث الصحيح المذكور : " وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل ، وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت ، وعطش ابنها ، وجعلت تنظر إليه يتلوى ، أو قال : يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود ، حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها ، ونظرت هل ترى أحدا ، فلم تر أحدا ، ففعلت ذلك سبع مرات " قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فذلك سعي الناس بينهما " الحديث . وهذا الطرف الذي ذكرنا من هذا الحديث سقناه بلفظ البخاري رحمه الله في صحيحه ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث : " فذلك سعي [ ص: 481 ] الناس بينهما " ، فيه الإشارة الكافية إلى حكمة السعي بين الصفا والمروة ; لأن هاجر سعت بينهما السعي المذكور ، وهي في أشد حاجة ، وأعظم فاقة إلى ربها ، لأن ثمرة كبدها ، وهو ولدها إسماعيل تنظره يتلوى من العطش في بلد لا ماء فيه ، ولا أنيس ، وهي أيضا في جوع ، وعطش في غاية الاضطرار إلى خالقها جل وعلا ، وهي من شدة الكرب تصعد على هذا الجبل فإذا لم تر شيئا جرت إلى الثاني فصعدت عليه لترى أحدا ، فأمر الناس بالسعي بين الصفا ، والمروة ليشعروا بأن حاجتهم وفقرهم إلى خالقهم ورازقهم كحاجة وفقر تلك المرأة في ذلك الوقت الضيق ، والكرب العظيم إلى خالقها ورازقها ، وليتذكروا أن من كان يطيع الله كإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا يضيعه ، ولا يخيب دعاءه وهذه حكمة بالغة ظاهرة دل عليها حديث صحيح وقد قدمنا في حديث البيهقي المذكور حكمة الرمي أيضا فتبين بذلك أن حكمة السعي ، والرمي معروفة ظاهرة خلافا لما ذكره النووي . والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية عشرة في مواقيت الحج والعمرة

اعلم أن الحج له ميقات زماني : وهو المذكور في قوله تعالى : الحج أشهر معلومات الآية [ 2 \ 197 ] ، وهي : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . وقيل : وذو الحجة مع الإجماع على فوات الحج بعدم الوقوف بعرفة قبل الفجر من ليلة النحر ، وميقات مكاني ، والمواقيت المكانية خمسة ; أربعة منها بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم ، بلا خلاف بين العلماء لثبوت ذلك في الصحيحين ، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم ، وواحد مختلف فيه هل وقته النبي صلى الله عليه وسلم ، أو وقته عمر رضي الله عنه .

أما الأربعة المجمع على نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم فهي : ذو الحليفة ، وهو ميقات أهل المدينة ، والجحفة وهي : ميقات أهل الشام ، وقرن المنازل وهو : ميقات أهل نجد ، ويلملم وهي ميقات أهل اليمن ، أخرج توقيت هذه المواقيت الأربعة الشيخان في صحيحيهما ، عن ابن عباس ، وابن عمر رضي عنهم إلا أن ابن عمر لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم توقيت يلملم لأهل اليمن ، بل سمعه من غيره صلى الله عليه وسلم ، وهو مرسل صحابي ، والاحتجاج بمراسيل الصحابة معروف ، أما ابن عباس فقد سمع منه صلى الله عليه وسلم المواقيت الأربعة المذكورة .

[ ص: 482 ] فتحصل : أن ذا الحليفة ، والجحفة ، وقرن المنازل اتفق الشيخان على إخراج توقيتها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من حديث ابن عمر ، وابن عباس . وأن يلملم اتفقا أيضا على إخراج توقيته عنهما معا ، إلا أن ابن عباس سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وابن عمر سمعه من غيره ، كما أوضحناه ، وذو الحليفة هو المسمى الآن بآبار علي ، وقرن المنازل هو المسمى الآن : بالسيل . والجحفة خراب الآن ، والناس يحرمون من رابغ ، وهو قبلها بقليل ، وهو موضع معروف قديما ، وفيه يقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :



ولما أجزنا الميل من بطن رابغ بدت نارها قمراء للمتنور

وأما الميقات الخامس الذي اختلف العلماء فيه ، هل وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو وقته عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فهو : ذات عرق لأهل العراق ، فقال بعض أهل العلم : توقيت ذات عرق لأهل العراق من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : هو بتوقيت عمر رضي الله عنه . وقال ابن حجر في فتح الباري : كون توقيت ذات عرق ، ليس منصوصا من النبي صلى الله عليه وسلم بل بتوقيت عمر ، هو الذي قطع به الغزالي ، والرافعي في شرح المسند ، والنووي في شرح مسلم ، وكذا وقع في المدونة لمالك ، وصحح الحنفية ، والحنابلة ، وجمهور الشافعية ، والرافعي في الشرح الصغير ، والنووي في شرح المهذب : أنه منصوص . انتهى محل الغرض من فتح الباري .

وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على ميقات ذات عرق : واختلف العلماء ، هل صارت ميقاتهم بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم ، أم باجتهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟ وفي المسألة وجهان لأصحاب الشافعي أصحهما ، وهو نص الشافعي رضي الله عنه في الأم : بتوقيت عمر رضي الله عنه . انتهى محل الغرض منه . وقال النووي في شرح المهذب : وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف ، طاوس ، وابن سيرين ، وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، وحكاه البيهقي وغيره عنهم ، وممن قال من السلف إنه منصوص عليه : عطاء بن أبي رباح وغيره ، وحكاه ابن الصباغ ، عن أحمد ، وأصحاب أبي حنيفة ، وإذا عرفت اختلاف أهل العلم فيمن وقت ذات عرق لأهل العراق ، فهذه تفاصيل أدلتهم :

أما الذين قالوا : إنه باجتهاد من عمر فاستدلوا بما رواه البخاري في صحيحه : حدثني علي بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن نمير ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما فتح هذان المصران أتوا عمر فقالوا : يا أمير المؤمنين ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا ، وهو جور عن طريقنا ، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا . [ ص: 483 ] قال : فانظروا حذوها من طريقكم ، فحد لهم ذات عرق ا هـ منه . قالوا : فهذا الحديث الصحيح صريح في أن توقيت ذات عرق باجتهاد من عمر ، وقد جاءت بذلك أيضا آثار عن بعض السلف .

وأما الذين قالوا : إنه بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستدلوا بأحاديث منها : ما رواه مسلم في صحيحه ، وحدثني محمد بن حاتم ، وعبد بن حميد ، كلاهما عن محمد بن بكر ، قال عبد : أخبرنا محمد ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، يسأل عن المهل ؟ فقال : سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : مهل أهل المدينة من ذي الحليفة ، والطريق الآخر الجحفة ، ومهل أهل العراق من ذات عرق ، ومهل أهل نجد من قرن . ومهل أهل اليمن : من يلملم . انتهى منه . وهذا الإسناد صحيح كما ترى إلا أنه ليس فيه الجزم برفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : فهذا إسناد صحيح ، لكنه لم يجزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم : فلا يثبت رفعه بمجرد هذا ، ورواه ابن ماجه من رواية إبراهيم بن يزيد الخوزي بضم الخاء المعجمة بإسناده عن جابر مرفوعا بغير شك ، لكن الخوزي ضعيف لا يحتج بروايته ، ورواه الإمام أحمد في مسنده ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بلا شك أيضا ، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة ، وهو ضعيف ، وعن عائشة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق " ، رواه أبو داود ، والنسائي ، والدارقطني ، وغيرهم بإسناد صحيح ، لكن نقل ابن عدي أن أحمد بن حنبل أنكر على أفلح بن حميد روايته هذه ، وانفراده به مع أنه ثقة ، وعن الحارث بن عمرو السهمي الصحابي رضي الله عنه : " أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق " ، رواه أبو داود ، وعن عطاء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه وقت لأهل المشرق ذات عرق " رواه البيهقي ، والشافعي بإسناد حسن ، عن عطاء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ، وعطاء من كبار التابعين . وقد قدمنا في مقدمة هذا الشرح أن مذهب الشافعي الاحتجاج بمرسل كبار التابعين ، إذا اعتضد بأحد أربعة أمور :

منها : أن يقول به بعض الصحابة ، أو أكثر العلماء ، وهذا قد اتفق على العمل به الصحابة ، ومن بعدهم ، قالالبيهقي : هذا هو الصحيح من رواية عطاء أنه رواه مرسلا ، قال : وقد رواه الحجاج بن أرطاة ، عن عطاء ، وغيره متصلا ، والحجاج ظاهر الضعف . انتهى كلام النووي . وقال صاحب نصب الراية : وأخرجه الدارقطني في سننه ، وابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو يعلى الموصلي في أسانيدهم ، عن حجاج ، عن عطاء ، عن [ ص: 484 ] جابر . وحجاج لا يحتج به ، وذكر الحافظ في الفتح أن أحمد روى هذا الحديث من طريق ابن لهيعة من غير شك في الرفع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:04 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (341)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 484 إلى صـ 491




قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا أن ذات عرق وقتها النبي صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ، والدليل على ذلك من وجهين :

أحدهما : أن ذلك ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث منها : ما هو صحيح الإسناد ، ومنها : ما في إسناده كلام ، وبعضها يقوي بعضا .

قال أبو داود رحمه الله في سننه : حدثنا هشام بن بهرام المدائني ، ثنا المعافى بن عمران ، عن أفلح يعني : ابن حميد ، عن القاسم بن محمد ، عن عائشة رضي الله عنها : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق " انتهى من سنن أبي داود ، وهذا الإسناد صحيح كما ترى ; لأن طبقته الأولى هشام بن بهرام المدائني أبو محمد ، وهو ثقة ، وطبقته الثانية المعافى بن عمران الأزدي الفهمي أبو مسعود الموصلي ، وهو ثقة عابد فقيه . وطبقته الثالثة أفلح بن حميد بن نافع المدني أبو عبد الرحمن ، ويقال له : ابن صغيراء ، وهو ثقة ، وطبقته الرابعة ، والخامسة القاسم بن أبي بكر ، عن عمته عائشة رضي الله عنها ، فهذا إسناد في غاية الصحة كما ترى .

وقال النسائي في سننه : حدثنا محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي ، قال : حدثنا أبو هاشم محمد بن علي ، عن المعافى ، عن أفلح بن حميد ، عن القاسم ، عن عائشة قالت : " وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة : ذا الحليفة ، ولأهل الشام ومصر : الجحفة ، ولأهل العراق : ذات عرق ، ولأهل نجد : قرنا ، ولأهل اليمن : يلملم " ، وهذا إسناد صحيح أيضا ; لأن طبقته الأولى محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي ; وهو ثقة حافظ ، وطبقته الثانية هي أبو هاشم محمد بن علي الأسدي ، وهو ثقة عابد ، وباقي الإسناد هو ما تقدم الآن في إسناد أبي داود ، وكلهم ثقات كما أوضحناه الآن ، فهذا الإسناد لا شك في صحته ، ومتنه فيه التصريح بتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق .

واعلم أن تضعيف من ضعف هذا الحديث بأن الإمام أحمد رحمه الله أنكر على أفلح بن حميد ذكره في هذا الحديث لذات عرق ، وأنه انفرد بذلك غير مسلم لأن أفلح بن حميد ثقة ، وزيادة العدل مقبولة ، ولا يضره انفراد المعافى بن عمران أيضا لأنه ثقة ، وكم من حديث صحيح غريب انفرد به ثقة ، عن ثقة ، كما هو معلوم في الأصول ، وعلم الحديث . وقال الشيخ الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال في نقد الرجال في ترجمة أفلح بن [ ص: 485 ] حميد المذكور : وثقه ابن معين ، وأبو حاتم . وقال ابن صاعد : كان أحمد ينكر على أفلح بن حميد قوله : ولأهل العراق ذات عرق ، وقال ابن عدي في الكامل : هو عندي صالح ، وهذا الحديث ينفرد به المعافى بن عمران ، عن أفلح ، عن القاسم ، عن عائشة .

قلت : هو صحيح غريب . انتهى كلام الذهبي . وتراه صرح بأن هذا الحديث صحيح غريب مع أن هذا الحديث في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق له شواهد متعددة .

منها : حديث جابر في صحيح مسلم ، وإن كان لم يجزم فيه بالرفع ، لأن قوله : أحسبه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ظن من أبي الزبير أن جابرا رفع الحديث ، وهذا الظن يقوي الروايات ، التي فيها الجزم بالرفع .

ومنها : ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا عتبة بن عبد الملك السهمي ، حدثني زرارة بن كريم : أن الحارث بن عمرو السهمي ، حدثه : قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى أو بعرفات ، وقد أطاف به الناس قال : فتجيء الأعراب ، فإذا رأوا وجهه قالوا : هذا وجه مبارك ، قال : ووقت ذات عرق لأهل العراق . انتهى منه . وهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن ; لأن طبقته الأولى : عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج أبو معمر المقعد التميمي المنقري ، وهو ثقة ثبت رمي بالقدر ، وطبقته الثانية : عبد الوارث وهو ابن سعيد بن ذكوان العنبري مولاهم أبو عبيدة التنوري ، وهو ثقة ثبت رمي بالقدر ، ولم يثبت عنه ، وطبقته الثالثة : عتبة بن عبد الملك السهمي ، وهو بصري . ذكره ابن حبان في الثقات ، وطبقته الرابعة : زرارة بن كريم بن الحارث بن عمرو السهمي ، وهو له رؤية ، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ، وطبقته الخامسة : الحارث بن عمرو السهمي الباهلي رضي الله عنه وهو صحابي ، فهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن ، وهو صالح لأن يعتضد به حديث عائشة المتقدم عند أبي داود ، والنسائي الذي قدمنا : أن إسناده صحيح ، وقد سكت أبو داود على هذا الحديث . ومعلوم أن أبا داود إذا سكت على حديث ، فهو صالح للاحتجاج عنده ، كما قدمناه مرارا . وقد ذكر ابن حجر في الإصابة في ترجمة الحارث بن عمر ، والمذكور : أن حديثه هذا صححه الحاكم ، ولم يتعقب ذلك بشيء . وذكر البخاري هذا الحديث في تاريخه في ترجمة زرارة بن كريم بالسند الذي رواه به أبو داود ، ولم يتعقبه بشيء .

ومنها : ما رواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو يعلى الموصلي في [ ص: 486 ] مسانيدهم ، والدارقطني في سننه : عن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت ذات عرق : لأهل العراق من غير شك في الرفع ، وقد قدمنا في كلام النووي ، والزيلعي ، وابن حجر : أن في إسناده ابن لهيعة ، والحجاج بن أرطاة ، وكلاهما ضعيف .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا شك أن رواية الحجاج بن أرطاة معتبر بها صالحة لاعتضاد غيرها ، ومن أجل ذلك أخرج له مسلم في صحيحه مقرونا بغيره ، كما قاله الذهبي في الميزان ، وقد أثنى عليه غير واحد ، وروى عنه شعبة ، وقال : اكتبوا حديث حجاج بن أرطاة ، وابن إسحاق ، فإنهما حافظان . وقال فيه الثوري : ما بقي أحد أعرف بما يخرج من رأسه منه ، وقال فيه حماد بن زيد : كان أقهر عندنا لحديثه من سفيان . وقال فيه الذهبي في الميزان : هو أحد الأعلام على لين في حديثه . وقال فيه الذهبي : وأكثر ما نقم عليه التدليس ، وفيه تيه لا يليق بأهل العلم ، وقال فيه ابن حجر في التقريب : صدوق كثير الخطإ والتدليس ا هـ .

وعلى كل حال : فلا شك في الاعتبار بروايته ، وصلاحها لتقوية غيرها ، وابن لهيعة لا شك في أن روايته تعضد غيرها ، وقد أخرج له مسلم أيضا مقرونا بغيره . وقد قدمنا الكلام عليه .

وعلى كل حال فرواية الحجاج ، وابن لهيعة عاضدة للرواية الصحيحة . ومنها الحديث الذي رواه عطاء مرسلا كما قدمنا في كلام النووي ، وقد قال : إنه رواه الشافعي ، والبيهقي بإسناد حسن ، ومرسل عطاء هذا في توقيت النبي صلى الله عليه وسلم : ذات عرق لأهل العراق محتج به عند الأئمة الأربعة . أما مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، فالمشهور عنهم الاحتجاج بالمرسل كما قدمناه مرارا . وأما الشافعي : فقد قدمنا عن النووي : أنه يعمل بمرسل التابعي الكبير إن قال به بعض الصحابة أو أكثر أهل العلم ، ومرسل عطاء هذا أجمع على العمل به الصحابة ، فمن بعدهم إلى غير ذلك من الأدلة العاضدة ، لأن توقيت ذات عرق لأهل العراق من النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال ابن حجر في فتح الباري بعد أن ساق بعض طرق حديث توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ذات عرق لأهل العراق ما نصه : وهذا يدل على أن للحديث أصلا ، فلعل من قال : إنه غير منصوص لم يبلغه ، ورأى ضعف الحديث باعتبار أن كل طريق لا يخلو من مقال . انتهى محل الغرض منه .

وقد بينا أن بعض روايات هذا الحديث صحيحة ، ولا يضرها انفراد بعض الثقات بها .

[ ص: 487 ] الأمر الثاني من الأمرين المذكورين في أول هذا المبحث : هو إنما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عمر ، مما يدل على أن توقيت ذات عرق لأهل العراق باجتهاد من عمر ، كما قدمناه لا يعارض هذه الأدلة التي ذكرناها على أنه منصوص لاحتمال أن عمر لم يبلغه ذلك ، فاجتهد فوافق اجتهاده توقيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو رضي الله عنه معروف أنه وافقه الوحي في مسائل متعددة ، فلا مانع من أن تكون هذه منها لا شرعا ، ولا عقلا ، ولا عادة . وأما إعلال بعضهم حديث ذات عرق ، بأن العراق لم تكن فتحت يومئذ فقد قال فيه ابن عبد البر : هي غفلة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت لأهل النواحي قبل الفتوح ، لأنه علم أنها ستفتح ، فلا فرق في ذلك بين الشام والعراق . انتهى بواسطة نقل ابن حجر في الفتح .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن المواقيت الخمسة التي ذكرنا مواقيت أيضا لكل من مر عليها من غير أهلها ، وهو يريد النسك حجا كان أو عمرة ، ففي حديث ابن عباس المتفق عليه ، الذي ذكرناه في أول هذا المبحث بعد ذكر المواقيت المذكورة : " هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن لمن كان يريد الحج والعمرة " هذا لفظ البخاري في صحيحه من رواية ابن عباس : وفي لفظ في البخاري ، عن ابن عباس : " هن لأهلهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة " وكلا اللفظين في صحيح مسلم من رواية ابن عباس ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم .
الفرع الثاني : اعلم أن من كان مسكنه أقرب إلى مكة من الميقات ، فميقاته من موضع سكناه ، ففي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفا : " فمن كان دونهن فمهله من أهله " وفي رواية : " فمن كان دونهن فمن أهله " ، وفي لفظ : " ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ " ، كل هذه الألفاظ في صحيح البخاري من حديث ابن عباس مرفوعا ، واللفظان الأخيران منها في صحيح مسلم أيضا من حديث ابن عباس ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم .
الفرع الثالث : اعلم أن أهل مكة يهلون من مكة ، وفي حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور آنفا : " حتى أهل مكة ، يهلون منها " ، وفي لفظ : " حتى أهل مكة يهلون من مكة " ، وكلا اللفظين في الصحيحين من حديث ابن عباس المذكور ، وهذا بالنسبة إلى الإهلال بالحج ، لا خلاف فيه بين أهل العلم إلا ما ذكره بعضهم من أن المكي يجوز له أن يحرم من أي [ ص: 488 ] موضع من الحرم ، ولو خارجا عن مكة وهو ظاهر السقوط لمخالفته للنص الصريح ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأما إهلال المكي بالعمرة ، فجماهير أهل العلم على أنه لا يهل بالعمرة من مكة ، بل يخرج إلى الحل ، ويحرم منه ، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وحكى غير واحد عليه الإجماع .

قال صاحب تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي : الوقت لأهل مكة الحرم في الحج ، والحل في العمرة للإجماع على ذلك . انتهى منه .

وقال ابن قدامة في المغني في الكلام على ميقات المكي : وإن أراد العمرة فمن الحل ، لا نعلم في هذا خلافا . انتهى منه .

وقال ابن حجر في فتح الباري في الكلام على ميقات أهل مكة : وأما المعتمر فيجب عليه أن يخرج إلى أدنى الحل ، كما سيأتي بيانه في أبواب العمرة .

قال المحب الطبري : لا أعلم أحدا جعل مكة ميقاتا للعمرة . انتهى محل الغرض منه .

وقال ابن القيم : إن أهل مكة لا يخرجون من مكة للعمرة ، وظاهر صنيع البخاري أنه يرى إحرامهم من مكة بالعمرة ، حيث قال : باب مهل أهل مكة للحج والعمرة ، ثم ساق بسنده حديث ابن عباس المذكور ، ومحل الشاهد عنده منه المطلق للترجمة هي قوله : " حتى أهل مكة من مكة " فقوله في الترجمة : باب مهل أهل مكة للحج والعمرة ، وإيراده لذلك ، حتى أهل مكة يهلون من مكة دليل واضح على أنه يرى أن أهل مكة يهلون من مكة للعمرة والحج معا كما هو واضح من كلامه .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن دليل هذا القول هو عموم حديث ابن عباس المتفق عليه . الذي فيه حتى أهل مكة يهلون من مكة ، والحديث عام بلفظه في الحج والعمرة ، فلا يمكن تخصيص العمرة منه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وأما القائلون : بأنه لا بد أن يخرج إلى الحل ، وهم جماهير أهل العلم كما قدمنا ، فاستدلوا بدليلين :

أحدهما : ما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بعائشة في عمرتها من مكة إلى التنعيم ، وهو أدنى الحل . قالوا : فلو كان الإهلال من مكة بالعمرة سائغا لأمرها بالإهلال من مكة ، وأجاب المخالفون عن هذا : بأن عائشة آفاقية والكلام في أهل مكة لا في الآفاقيين ، وأجاب الآخرون عن هذا بأن الحديث [ ص: 489 ] الصحيح دل على أن من مر بميقات لغيره كان ميقاتا له ، فيكون ميقات أهل مكة في عمرتهم هو ميقات عائشة في عمرتها ; لأنها صارت معهم عند ميقاتهم .

الدليل الثاني : هو الاستقراء وقد تقرر في الأصول : أن الاستقراء من الأدلة الشرعية ، ونوع الاستقراء المعروف عندهم بالاستقراء التام حجة بلا خلاف ، وهو عند أكثرهم دليل قطعي ، وأما الاستقراء الذي ليس بتام وهو المعروف عندهم بإلحاق الفرد بالأغلب فهو حجة ظنية عند جمهورهم . والاستقراء التام المذكور هو : أن تتبع الأفراد ، فيؤخذ الحكم في كل صورة منها ، ما عدا الصورة التي فيها النزاع ، فيعلم أن الصورة المتنازع فيها حكمها حكم الصور الأخرى التي ليست محل نزاع .

وإذا علمت هذا فاعلم أن الاستقراء التام أعني تتبع أفراد النسك دل على أن كل نسك من حج ، أو قران ، أو عمرة غير صورة النزاع لا بد فيه من الجمع بين الحل والحرم ، حتى يكون صاحب النسك زائرا قادما على البيت من خارج كما قال تعالى : يأتوك رجالا وعلى كل ضامر الآية [ 22 \ 27 ] . فالمحرم بالحج أو القران من مكة لا بد أن يخرج إلى عرفات : وهي في الحل ، والآفاقيون يأتون من الحل لحجهم وعمرتهم ، فجميع صور النسك غير صورة النزاع لا بد فيها من الجمع بين الحل والحرم ، فيعلم بالاستقراء التام أن صورة النزاع لا بد فيها من الجمع أيضا بين الحل والحرم ، وإلى مسألة الاستقراء المذكورة أشار في مراقي السعود بقوله :



ومنه الاستقراء بالجزئي على ثبوت الحكم للكلي فإن يعم غير ذي الشقاق
فهو حجة بالاتفاق إلخ

وقوله : فإن يعم . . . البيت : يعني أن الاستقراء إذا عم الصور كلها غير صورة النزاع فهو حجة في صورة النزاع بلا خلاف ، والشقاق الخلاف . فقوله : غير ذي الشقاق ؛ أي : غير محل النزاع .

واعلم أن جماعة من أهل العلم يقولون : إن أهل مكة ليس لهم التمتع ، ولا القران ، فالعمرة في التمتع ، والقران ليست لهم ، وإنما لهم أن يحجوا بلا خلاف والعمرة منهم في غير تمتع ، ولا قران جائزة عند جل من لا يرون عمرة التمتع ، والقران لأهل مكة ، وممن قال : لا تمتع ، ولا قران لأهل مكة : أبو حنيفة ، وأصحابه ، ونقله بعض الحنفية ، عن ابن عمر ، وابن عباس ، وابن الزبير ، وهو رأي البخاري رحمه الله كما ذكره في صحيحه ، ومنشأ الخلاف في أهل مكة هل لهم تمتع ، أو قران ، أو لا ؟ هو اختلاف العلماء [ ص: 490 ] في مرجع الإشارة في قوله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فالذين قالوا : لأهل مكة تمتع ، وقران كغيرهم ، قالوا : الإشارة راجعة إلى الهدي ، والصوم ، ومفهومه أن من كان أهله حاضري المسجد الحرام إذا تمتع فلا هدي عليه ، ولا صوم ، والذين قالوا : ليس لأهل مكة تمتع ولا قران ، قالوا : الإشارة راجعة إلى قوله : فمن تمتع [ 2 \ 196 ] ؛ أي : ذلك التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أما من كان أهله حاضري المسجد الحرام ، فلا تمتع له ، والقران داخل في اسم التمتع في عرف الصحابة ، كما تقدم إيضاحه ، والذين قالوا هذا القول زعموا أن في الآية بعض القرائن الدالة عليه ، منها التعبير باللام في قوله : لمن لم يكن أهله الآية ; لأن اللام تستعمل فيما لنا لا فيما علينا ، والتمتع لنا أن نفعله ، وأن لا نفعله بخلاف الهدي ، فهو علينا وكذلك الصوم عند العجز عن الهدي ، ومنها : أنه جمع في الإشارة بين اللام والكاف ، وذلك يدل على شدة البعد والتمتع أبعد في الذكر من الهدي والصوم .

وأجاب المخالفون : بأن الإشارة ترجع إلى أقرب مذكور وهو الهدي ، والصوم ، وأن الإشارة إلى القريب إشارة البعيد أسلوب عربي معروف ، وقد ذكره البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، ومنه قوله : ذلك الكتاب [ 2 ] ؛ أي : هذا القرآن . لأن الكتاب قريب ، ولذا تكثر الإشارة إليه بإشارة القريب كقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وقوله : وهذا كتاب أنزلناه الآية [ 65 \ 92 ] وأمثال ذلك كثير في القرآن ، ومن إطلاق إشارة البعيد على القريب قول خفاف بن ندبة السلمي :



فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا


أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا


فقد أشار إلى نفسه إشارة البعيد ، ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون بعيدا من نفسه قالوا : واللام تأتي بمعنى على كقوله : وإن أسأتم فلها [ 7 \ 17 ] ؛ أي : فعليها ، وقوله تعالى : ويخرون للأذقان [ 17 \ 109 ] ؛ أي : على الأذقان ، ومنه قول الشاعر ، وقد قدمناه في أول سورة هود :



هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم


وفي الحديث : " واشترطي لهم الولاء " أو أن المراد ذلك الحكم بالهدي والصوم مشروع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام .

[ ص: 491 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أقرب أقوال أهل العلم عندي للصواب في هذه المسألة : أن أهل مكة لهم أن يتمتعوا ، ويقرنوا وليس عليهم هدي ; لأن قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية [ 2 \ 196 ] عام بلفظه في جميع الناس من أهل مكة ، وغيرهم ولا يجوز تخصيص هذا العموم ، إلا بمخصص يجب الرجوع إليه ، وتخصيصه بقوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لا يجب الرجوع إليه ; لاحتمال رجوع الإشارة إلى الهدي والصوم ، لا إلى التمتع كما أوضحناه ، وأن المكي إذا أراد العمرة خرج إلى الحل فأحرم منه ، والدليل على هذا هو ما قدمناه من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها مع أخيها لتحرم بعمرتها من التنعيم ، وهو نص متفق على صحته ، وقول من قال : إن النبي أرسلها مع أخيها لتلك العمرة تطييبا لخاطرها ، لا تقوم به حجة ألبتة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمرها بعمرة ، وهي نسك وعبادة إلا على الوجه المشروع لعامة الناس لاستواء جميع الناس في أحكام التكليف ، فعمرتها المذكورة نسك قطعا ، والحالة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأداء ذلك النسك عليها لا شك أنها مشروعة لجميع الناس إلا فيما قام دليل يجب الرجوع إليه بالخصوص ، وقصة عمرة عائشة المذكورة لم يثبت فيها دليل على التخصيص والعلم عند الله تعالى .
الفرع الرابع : اعلم أن من سلك إلى الحرم طريقا لا ميقات فيها فميقاته المحل المحاذي ، لأقرب المواقيت إليه ، كما يدل عليه ما قدمناه في صحيح البخاري من توقيت عمر ذات عرق لأهل العراق لمحاذاتها قرن المنازل . وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم .
الفرع الخامس : قد قدمنا في حديث النسائي أن الجحفة ميقات لأهل مصر وأهل الشام ، وعليه فميقات أهل مصر منصوص ، والحديث المذكور قد قدمنا أنه صحيح الإسناد .
الفرع السادس : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن أهل الشام ، ومصر مثلا إذا قدموا المدينة ، فميقاتهم من ذي الحليفة ، وليس لهم أن يؤخروا إحرامهم إلى ميقاتهم الأصلي الذي هو الجحفة ، أو ما حاذاها . لظاهر حديث ابن عباس المتفق عليه : فهن لهن ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن . وقس على ذلك .
الفرع السابع : اعلم أن جمهور أهل العلم على أن من جاوز ميقاته من المواقيت المذكورة غير محرم ، وهو يريد النسك أن عليه دما ، ودليله في ذلك أثر ابن عباس الذي [ ص: 492 ] قدمناه موضحا : " من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما " ، قالوا : ومن جاوز الميقات غير محرم ، وهو يريد النسك فقد ترك من نسكه شيئا ، وهو الإحرام من الميقات ، فيلزمه الدم .

وأظهر أقوال أهل العلم عندي : أنه إن جاوز الميقات ، ثم رجع إلى الميقات ، وهو لم يحرم أنه لا شيء عليه ; لأنه لم يبتدئ إحرامه إلا من الميقات ، وأنه إن جاوز الميقات غير محرم ، وأحرم في حال مجاوزته الميقات ، ثم رجع إلى الميقات محرما أن عليه دما لإحرامه بعد الميقات ، ولو رجع إلى الميقات فإن ذلك لا يرفع حكم إحرامه مجاوزا للميقات . والله تعالى أعلم .
الفرع الثامن : في الكلام على مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه ممن أراد النسك ، ومفهومه صادق بصورتين :

إحداهما : أن يمر إنسان على واحد من هذه المواقيت المذكورة وهو لا يريد النسك ، ولا دخول مكة أصلا كالذي يمر بذي الحليفة قاصدا الشام أو نجدا مثلا وهذه الصورة لا خلاف في أنه لا يلزمه فيها الإحرام ، وأن مفهوم قوله : ممن أراد النسك دالا على أنه لا إحرام عليه في هذه الصورة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:07 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الرابع
الحلقة (342)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 492 إلى صـ 499




والثانية : هي أن يمر على واحد من هذه المواقيت وهو لا يريد حجا ، ولا عمرة ، ولكنه يريد دخول مكة لقضاء حاجة أخرى .

وهذه الصورة اختلف فيها أهل العلم ، فقال بعض أهل العلم : لا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام ، ولو كان دخوله لغرض آخر غير النسك . وقال بعضهم : إذا كان دخوله مكة لغرض غير النسك ، فلا مانع من دخوله غير محرم ، والخلاف في هذه المسألة مشهور بين أهل العلم .

وقال ابن حجر في فتح الباري : في باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام في هذه المسألة : وقد اختلف العلماء في هذا . فالمشهور من مذهب الشافعي عدم الوجوب مطلقا ، وفي قول : يجب مطلقا ، وفيمن يتكرر منه دخولها خلاف ، وهو أولى بعدم الوجوب . والمشهور عن الأئمة الثلاثة : الوجوب . وفي رواية عن كل منهم لا يجب ، وهو قول ابن عمر ، والزهري ، والحسن ، وأهل الظاهر ، وجزم الحنابلة باستثناء ذوي الحاجات المتكررة ، واستثنى الحنفية من كان داخل الميقات ، وزعم ابن عبد البر أن أكثر [ ص: 493 ] الصحابة والتابعين على القول بالوجوب . انتهى كلام ابن حجر . ونقل النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض : أن هذا هو قول أكثر العلماء .

وإذا علمت اختلاف العلماء في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم . أما الذين قالوا : إنه لا يجوز دخول مكة بغير إحرام إلا للمترددين عليها كثيرا كالحطابين ، وذوي الحاجات المتكررة كالمالكية والحنابلة ، ومن وافقهم فقد استدلوا بأدلة :

منها قول بعضهم : إن من نذر دخول مكة لزمه الإحرام . قالوا : ولو لم يكن واجبا لم يجب بنذر الدخول كسائر البلدان .

ومنها : ما رواه البيهقي في سننه أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني ، أنبأ أبو سعيد بن الأعرابي ، ثنا سعدان بن نصر ، ثنا إسحاق الأزرق ، عن عبد الملك ، عن عطاء ، عن ابن عباس أنه قال : ما يدخل مكة أحد من أهلها ، ولا من غير أهلها إلا بإحرام ، ورواه إسماعيل بن مسلم ، عن عطاء ، عن ابن عباس : فوالله ما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حاجا ، أو معتمرا . انتهى من البيهقي . وقال ابن حجر في التلخيص : حديث ابن عباس لا يدخل أحد مكة إلا محرما . رواه البيهقي من حديثه ، وإسناده جيد ، ورواه ابن عدي مرفوعا من وجهين ضعيفين ، ولابن أبي شيبة من طريق طلحة ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قال : لا يدخل أحد مكة بغير إحرام إلا الحطابين ، والعمالين ، وأصحاب منافعها . وفيه طلحة بن عمرو فيه ضعف . وروى الشافعي ، عن ابن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي الشعثاء : أنه رأى ابن عباس يرد من جاوز الميقات غير محرم . ا هـ منه .

ومنها : أن دخول مكة بغير إحرام مناف للتعظيم اللازم لها .

وأما الذين قالوا بجواز دخول مكة بلا إحرام لمن لم يرد نسكا ، فاحتجوا بأدلة :

منها : ما رواه البخاري في صحيحه ، قال : باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام . ودخل ابن عمر ، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإهلال لمن أراد الحج والعمرة ، ولم يذكر الحطابين وغيرهم . ثم ساق بسنده حديث ابن عباس المتفق عليه المذكور سابقا وفيه : " هن لهن ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة " الحديث ، ومراد البخاري رحمه الله أن مفهوم قوله : ممن أراد الحج والعمرة أن من لم يرد الحج ، والعمرة لا إحرام عليه ، ولو دخل مكة .

وقال ابن حجر في الفتح في الكلام على هذا الحديث وحاصله : أنه خص [ ص: 494 ] الإحرام بمن أراد الحج والعمرة ، واستدل بمفهوم قوله في حديث ابن عباس : ممن أراد الحج والعمرة ، فمفهومه أن المتردد إلى مكة لغير قصد الحج والعمرة لا يلزمه الإحرام . انتهى محل الغرض منه ، ثم قال البخاري رحمه الله : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن ابن شهاب ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء رجل فقال : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال : اقتلوه " انتهى منه ، فقول أنس في هذا الحديث الصحيح : دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر دليل على أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح بغير إحرام ، كما هو واضح ، وحديث أنس هذا أخرجه مالك في الموطإ ، وزاد : ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرما ، وأخرجه أيضا مسلم في صحيحه باللفظ الذي ذكره البخاري في باب جواز دخول مكة بغير إحرام .

وقال مسلم رحمه الله في صحيحه أيضا : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، وقتيبة بن سعيد الثقفي ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال قتيبة : حدثنا معاوية بن عمار الدهني ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة " وقال قتيبة : " دخل يوم فتح مكة ، وعليه عمامة سوداء بغير إحرام " وفي رواية قتيبة قال : حدثنا أبو الزبير ، عن جابر ، وفي رواية أخرى عند مسلم ، عن جابر أيضا : " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة ، وعليه عمامة سوداء " ، وفي رواية عند مسلم من طريق جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس ، وعليه عمامة سوداء " ، وفي لفظ لمسلم ، عن جعفر بن عمرو بن حريث ، عن أبيه قال : كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، وعليه عمامة سوداء ، قد أرخى طرفيها بين كتفيه . ولم يقل أبو بكر : على المنبر . انتهى منه .

فإن قيل : في بعض هذه الأحاديث الصحيحة : أنه دخل مكة ، وعلى رأسه المغفر ، وفي بعضها : أنه دخل وعليه عمامة سوداء .

فالجواب : أن العلماء جمعوا بين الروايتين . قال القاضي عياض : وجه الجمع بينهما أن أول دخوله كان على رأسه المغفر ، ثم بعد ذلك كان على رأسه العمامة بعد إزالة المغفر ، بدليل قوله : خطب الناس ، وعليه عمامة سوداء ; لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام فتح مكة ، وجمع بعض أهل العلم بينهما بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر وكانت تحت المغفر وقاية لرأسه من صدإ الحديد ، فأراد أنس بذكر المغفر كونه دخل متهيئا للحرب ، وأراد جابر بذكر العمامة كونه دخل غير محرم انتهى محل [ ص: 495 ] الغرض منه من فتح الباري . وقال ابن حجر في الفتح في قول البخاري : ( ودخل ابن عمر ) وصله مالك رحمه الله في الموطإ عن نافع قال : أقبل عبد الله بن عمر من مكة ، حتى إذا كان بقديد - يعني بضم القاف - جاءه خبر من المدينة ، فرجع ، فدخل مكة بغير إحرام ا هـ منه ، وقد ذكر مالك في الموطإ في جامع الحج بلفظ : جاءه خبر من المدينة يدل عن الفتنة ، وباقي اللفظ كما ذكره ابن حجر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا : أن من أراد دخول مكة حرسها الله لغرض غير الحج والعمرة أنه لا يجب عليه الإحرام ، ولو أحرم كان خيرا له ; لأن أدلة هذا القول أقوى وأظهر فحديث ابن عباس المتفق عليه : خص فيه النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام بمن أراد النسك . وظاهره أن من لم يرد نسكا فلا إحرام عليه . وقد رأيت الروايات الصحيحة بدخول النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح غير محرم ، ودخول ابن عمر غير محرم والعلم عند الله تعالى .

وأما قول بعض أهل العلم من المالكية وغيرهم أن دخول مكة بغير إحرام من خصائصه صلى الله عليه وسلم ، فهو لا تنهض به حجة ; لأن المقرر في الأصول وعلم الحديث أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يختص حكمه به إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله ، وأفعاله ، وتقريره كما هو معلوم .
الفرع التاسع : في حكم تأخير الإحرام عن الميقات ، وتقديمه عليه قد قدمنا أنه لا يجوز تأخير الإحرام عن الميقات ممن يريد حجا ، أو عمرة ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم ، وقد قدمنا دليله ، وأما ما رواه مالك رحمه الله في الموطإ عن نافع : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أهل من الفرع . ومعلوم أن الفرع وراء ميقات أهل المدينة الذي هو ذو الحليفة ، فهو محمول عند أهل العلم كما ذكره ابن عبد البر وغيره ، على أنه وصل الفرع وهو لا يريد النسك فطرأت عليه نية النسك بالفرع ، فأهل منه ، وهذا متعين ; لأن ابن عمر رضي الله عنهما ممن روى المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمن المعلوم أنه لا يخالف ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما الإحرام من موضع فوق الميقات ، فأكثر أهل العلم على جوازه وحكى غير واحد عليه الاتفاق .

واختلفوا في الأفضل من الأمرين وهما الإحرام من الميقات ، أو الإحرام من بلده إن كان أبعد من الميقات ؟ قال النووي في شرح المهذب : أجمع من يعتد به من السلف [ ص: 496 ] والخلف من الصحابة ، فمن بعدهم ، على أنه يجوز الإحرام من الميقات ومما فوقه . وحكى العبدري وغيره عن داود أنه قال : لا يجوز الإحرام مما فوق الميقات ، وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه ، ويلزمه أن يرجع ، ويحرم من الميقات . وهذا الذي قاله مردود عليه بإجماع من قبله . انتهى كلام النووي .

وحجة من قال : إن الإحرام من الميقات أفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته وعمرته من الميقات الذي هو ذو الحليفة ، وهذا مجمع عليه من أهل العلم ، وأحرم معه في حجه وعمرته أصحابه كلهم من الميقات ، وكذلك كان يفعل بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم من الصحابة والتابعين ، وجماهير العلماء ، وأهل الفضل فترك النبي صلى الله عليه وسلم الإحرام في مسجده الذي صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وإحرامه من الميقات دليل واضح لا شك فيه أن السنة هي الإحرام من الميقات ، لا مما فوقه ، واحتج من قال : يكون الإحرام مما فوق الميقات أفضل بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن صالح ، ثنا ابن أبي فديك ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يحنس ، عن يحيى بن أبي سفيان الأخنسي ، عن جدته حكيمة ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، أو وجبت له الجنة " شك عبد الله أيتهما قال : قال أبو داود : يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس ، يعني إلى مكة . انتهى من سنن أبي داود . واحتج أهل هذا القول أيضا بتفسير عمر ، وعلي رضي الله عنهما لقوله : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] قالا : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك ، واحتجوا أيضا بما رواه مالك في الموطإ عن الثقة عنده أن عبد الله بن عمر : أهل من إيلياء . وهي بيت المقدس ، ورد المخالفون استدلال هؤلاء بأن حديث أم سلمة : ليس بالقوي .

قال النووي في شرح المهذب : وأما حديث أم سلمة ، فرواه أبو داود ، وابن ماجه ، والبيهقي ، وآخرون وإسناده ليس بالقوي ، وبأن تفسير علي ، وعمر رضي الله عنهما للآية ، وفعل ابن عمر كلاهما مخالف لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وأفعاله في حجته تفسير لآيات الحج . وقد قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني مناسككم " ، وإحرامه من الميقات مجمع عليه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا هو الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والإحرام من الميقات ، فلو كان الإحرام قبله فيه فضل لفعله صلى الله عليه وسلم ، والخير كله في اتباعه صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 497 ] وقال النووي في شرح المهذب ، بعد أن بين أن الإحرام من الميقات أفضل من غيره ما نصه : فإن قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من الميقات لبيان جوازه .

فالجواب من أوجه :

أحدها : أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الجواز بقوله صلى الله عليه وسلم : " مهل أهل المدينة من ذي الحليفة " .

الثاني : أن بيان الجواز فيما يتكرر فعله ، ففعله صلى الله عليه وسلم مرة أو مرات يسيرة على أقل ما يجزئ بيانا للجواز ويداوم في عموم الأحوال على أكمل الهيئات ، كما توضأ مرة في بعض الأحوال وداوم على الثلاث ، ونظائر هذا كثيرة ، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من المدينة ، وإنما أحرم بالحج وعمرة الحديبية من ذي الحليفة .

الثالث : أن بيان الجواز إنما يكون في شيء اشتهر أكمل أحواله بحيث يخاف أن يظن وجوبه ، ولم يوجد ذلك هنا ، وهذا كله إنما يحتاج إليه على تقدير دليل صريح صحيح في مقابلته ولم يوجد ذلك ، فإن حديث أم سلمة قد سبق أن إسناده ليس بالقوي فيجاب عنه بأربعة أجوبة :

الأول : أن إسناده ليس بقوي .

الثاني : أن فيه بيان فضيلة الإحرام من فوق الميقات ، وليس فيه أنه أفضل من الميقات ، ولا خلاف أن الإحرام من فوق الميقات فيه فضيلة ، وإنما الخلاف أيهما أفضل .

فإن قيل : هذا الجواب يبطل فائدة تخصيص المسجد الأقصى .

فالجواب : أن فيه زيادة هي تبيين قدر الفضيلة فيه .

والثالث : أن هذا معارض لفعله صلى الله عليه وسلم المتكرر في حجته ، وعمرته ، فكان فعله المتكرر أفضل .

الرابع : أن هذه الفضيلة جاءت في المسجد الأقصى ; لأن له مزايا عديدة معروفة ، ولا يوجد ذلك في غيره ، فلا يلحق به والله تعالى أعلم . انتهى كلام النووي . ولا شك : أن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من المسجد الأقصى بدليل الحديث المتفق عليه : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه ; إلا المسجد الحرام " ، ولا خلاف بين أهل العلم في دخول المسجد الأقصى في هذا العموم ، وتفضيل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم عليه في الجملة ، فلو كان فضل المكان سببا للإحرام فيه قبل الميقات لأحرم النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده ; لأنه لا يفعل إلا ما هو الأفضل والأكمل صلوات الله وسلامه عليه ، ولا يخفى أن [ ص: 498 ] الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل ، وأكمل من غيره .
الفرع العاشر : في حكم تقديم الإحرام على ميقاته الزماني ، الذي هو أشهر الحج التي تقدم بيانها .

اعلم أن جماعة من أهل العلم قالت : لا يعتقد الإحرام بالحج في غير أشهر الحج ، وأكثر من قال بهذا يقولون : إنه إن أحرم بالحج في غير أشهره ينعقد إحرامه بعمرة لا حج ، وهذا هو مذهب الشافعي . قال النووي في شرح المهذب : وبه قال عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وأبو ثور . ونقله الماوردي عن عمر ، وابن مسعود ، وجابر ، وابن عباس ، وأحمد . وقال الأوزاعي : يتحلل بعمرة . وقال ابن عباس : لا يحرم بالحج إلا في أشهره . وقال داود : لا ينعقد . وقال النخعي ، والثوري ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد : يجوز قبل أشهر الحج ، ولكن يكره قالوا : فأما الأعمال فلا تجوز قبل أشهر الحج بلا خلاف ، واحتج لهم بقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ 2 \ 189 ] فأخبر سبحانه وتعالى أن الأهلة كلها مواقيت للناس والحج ; ولأنها عبادة تدخلها النيابة ، وتجب الكفارة في إفسادها ، فلم تخص بوقت كالعمرة ، ولأن الإحرام بالحج يصح في زمان لا يمكن إيقاع الأفعال فيه ; وهو شوال ، فعلم أنه لا يختص بزمان . قالوا : ولأن التوقيت ضربان توقيت مكان وزمان . وقد ثبت أنه لو تقدم إحرامه على ميقات المكان صح ، فكذا الزمان قالوا : وأجمعنا على أنه لو أحرم بالحج قبل أشهره انعقد لكن اختلفنا ، هل ينعقد حجا أو عمرة ؟ فلو لم ينعقد حجا لما انعقد عمرة . انتهى محل الغرض من كلام النووي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومن العجيب عندي أن يستدل عالم بمثل هذه الأدلة التي هي في غاية السقوط كما ترى ; لأن آية : قل هي مواقيت للناس والحج ليس معناها : أن كل شهر منها ميقات للحج ، ولكن أشهر الحج إنما تعلم بحساب جميع الأشهر ; لأنه هو الذي يتميز به وقت الحج من غيره ، ولأن هذه الأدلة التي لا يعول عليها في مقابلة آية محكمة من كتاب الله صريحة في توقيت الحج بأشهر معلومات هي قوله تعالى : الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] فتجاهل هذا النص القرآني ، ومعارضته بما رأيت من الغرائب كما ترى .

[ ص: 499 ] والتحقيق الذي يدل عليه القرآن هو قول من قال : إن الحج لا ينعقد في غير زمنه ، كما أن الصلاة المكتوبة لا ينعقد إحرامها قبل وقتها ، وانقلاب إحرامه عمرة له وجه من النظر ، ويستأنس له بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه المحرمين بالحج الذين لم يسوقوا هديا أن يقلبوا حجهم الذي أحرموا به عمرة ، وبأن من فاته الحج تحلل من إحرامه للحج بعمرة ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:11 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (343)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 3 إلى صـ 10



المجلد الخامس

[ ص: 3 ] المسألة الثانية عشرة في التلبية في بيان أول وقتها ووقت انتهائها وفي حكمها وكيفية لفظها ومعناها :

أما لفظها : فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وفي صحيح البخاري ، من حديث عائشة - رضي الله عنها - ومسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في تلبيته ، إذا أهل محرما " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " ورواية البخاري عن عائشة المذكورة إلى قوله : " إن الحمد والنعمة لك " وقد أجمع المسلمون على لفظ التلبية المذكورة في حديث ابن عمر المتفق عليه .

وحديث جابر عند مسلم ، عند الإحرام بالحج أو العمرة . ولكن اختلفوا في الزيادة عليه بألفاظ فيها تعظيم الله ، ودعاؤه ، ونحو ذلك فكره بعضهم : الزيادة ، على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحكاه ابن عبد البر ، عن مالك قال : وهو أحد قولي الشافعي ، انتهى منه بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " .

وقال آخرون : لا بأس بالزيادة المذكورة ، واستحب بعضهم الزيادة المذكورة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في هذه المسألة : أن الأفضل هو الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والاقتصار على لفظ تلبيته الثابت في الصحيحين وغيرهما ; لأن الله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] وهو - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لتأخذوا عني مناسككم " وأن الزيادة المذكورة لا بأس بها . والدليل على ذلك من وجهين :

أحدهما : ما رواه مسلم في صحيحه ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بعد أن ساق حديثه بلفظ تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - المذكورة قال : قال نافع : كان عبد الله - رضي الله عنه - يزيد مع هذا : لبيك لبيك وسعديك ، والخير بيديك لبيك ، والرغباء إليك ، والعمل . وقال مسلم [ ص: 4 ] - رحمه الله - في صحيحه أيضا بعد أن ساق حديثه ، بتلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ابن عمر من رواية ابنه سالم - رضي الله عنه - وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يقول : كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يهل بإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هؤلاء الكلمات ويقول : لبيك اللهم لبيك ، لبيك وسعديك ، والخير في يديك والرغباء إليك والعمل . ، ا هـ .

وقال ابن حجر في " الفتح " بعد أن ذكر الرواية عن عمر وابنه عبد الله ، فعرف أن ابن عمر اقتدى في ذلك بأبيه ، ا هـ .

ومعلوم أن الزيادة على تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان فيها محذور ، لما فعلها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابنه عبد الله - رضي الله عنهما - .

الوجه الثاني : هو ما ثبت في صحيح مسلم في حديث جابر الطويل ، فإن فيه ما نصه : فأهل بالتوحيد : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك " ، وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليهم شيئا منه . انتهى محل الغرض من حديث جابر المذكور ، وهو واضح في أنهم يزيدون على تلبيته - صلى الله عليه وسلم - ويقرهم على ذلك ، ولم ينكره عليهم كما ترى .

وأما أول وقتها : فأظهر أقوال أهل العلم فيه : أنه أول الوقت ، الذي يركب فيه مركوبه عند إرادة ابتداء السير لصحة الأحاديث الواردة ، بأنه - صلى الله عليه وسلم - أهل حين استوت به راحلته .

قال البخاري في صحيحه : باب من أهل حين استوت به راحلته قائمة : حدثنا أبو عاصم ، أخبرنا ابن جريج قال : أخبرني صالح بن كيسان ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : قال : أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استوت به راحلته قائما .

باب الإهلال مستقبل القبلة ، وقال أبو معمر : حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب ، عن نافع قال : كان ابن عمر - رضي الله عنهما - : إذا صلى بالغداة بذي الحليفة ، أمر براحلته فرحلت ، ثم ركب ، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما ، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم ، ثم يمسك ، حتى إذا جاء ذا طوى بات به ، حتى يصبح ، فإذا صلى الغداة اغتسل ، وزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك . تابعه إسماعيل عن أيوب في الغسل : حدثنا سليمان بن داود أبو الربيع ، حدثنا فليح ، عن نافع قال : كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا أراد الخروج إلى مكة ادهن بدهن ، ليس له رائحة طيبة ، ثم يأتي مسجد الحليفة ، فيصلي ثم يركب ، وإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ، ثم قال : هكذا رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل . انتهى من صحيح البخاري .

[ ص: 5 ] فهذه الروايات الصحيحة الثابتة ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أنه - صلى الله عليه وسلم - أحرم حين استوت به راحلته قائمة واضحة فيما ذكرنا ، من أن أول وقت الإحرام عندما يركب حالة شروعه في السير من الميقات .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك عن موسى بن عقبة ، عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه - رضي الله عنه - يقول : بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند المسجد يعني : ذا الحليفة . وحدثناه قتيبة بن سعيد ، حدثنا حاتم يعني : ابن إسماعيل ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم قال : كان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا قيل له : الإحرام من البيداء قال : البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا من عند الشجرة ، حين قام به بعيره . وفي لفظ لابن عمر - رضي الله عنهما - عند مسلم : فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته . وفي لفظ له أيضا عند مسلم قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وضع رجله في الغرز ، وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة . وفي مسلم عنه ألفاظ أخرى متعددة بهذا المعنى ، ومراد ابن عمر - رضي الله عنهما - بكذبهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإحرام من البيداء هو ما رواه البخاري ، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ : فأصبح بذي الحليفة ركب راحلته ، حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه . الحديث ، وما رواه البخاري - رحمه الله - في صحيحه أيضا ، عن أنس بن مالك بلفظ قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن معه بالمدينة الظهر أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها ، حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به على البيداء : حمد الله وسبح ، وكبر ، ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما ، الحديث . ومراد ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل محرما حين استوت به راحلته قائمة من منزله بذي الحليفة ، قبل أن يصل البيداء ، ووجه الجمع بين حديث ابن عمر ، وحديث ابن عباس ، وأنس معروف عند أهل الحديث ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - ابتدأ إهلاله حين استوت به راحلته قائمة فسمعه قوم ، ثم لما استوت به على البيداء أعاد تلبيته فسمعه آخرون لم يسمعوا تلبيته الأولى فحدث كل واحد منهم بما سمع .

وقال بعضهم : أحرم في مصلاه فسمعه بعضهم ، ولم يسمعه ابن عمر ، حتى استوت به راحلته ، وجزم ابن عمر أنه ما أهل حتى استوت به راحلته يدل على أنه علم أنه لم يهل حتى استوت به ، فالأحاديث متفقة ومراد ابن عمر بالإنكار والتكذيب خاص بمن زعم أنه [ ص: 6 ] لم يلب قبل وصوله البيداء ، وهذا الجمع ذكره ابن حجر ، عن أبي داود ، والحاكم ، وقال ابن حجر في " الفتح " : فائدة البيداء هذه فوق علمي ذي الحليفة ، لمن صعد من الوادي ، قاله أبو عبيد البكري وغيره . انتهى منه .

وإذا عرفت مما ذكرنا أول وقت التلبية ، وأنه وقت انعقاد الإحرام ، فاعلم أن الصحيح الذي قام عليه الدليل : أن الحاج لا يقطع التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة ، وقال بعض أهل العلم : حتى ينتهي رميه إياها .

والدليل على أن هذا القول هو الصواب دون غيره من أقوال أهل العلم هو ما ثبت في صحيح مسلم من حديث الفضل بن العباس - رضي الله عنهما - وكان رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى ، ففي لفظ لمسلم عن الفضل بن عباس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة . وقوله في هذا الحديث الصحيح : حتى بلغ الجمرة ، هو حجة من قال : يقطع التلبية ، عند الشروع في الرمي ; لأن بلوغ الجمرة هو وقت الشروع في الرمي . وفي لفظ مسلم ، عن الفضل أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي ، حتى رمى جمرة العقبة " وقوله في هذا الحديث " حتى رمى جمرة العقبة " هو حجة من قال : يلبي حتى ينتهي رميه ، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - من طريق عبد الله بن يزيد قال : قال عبد الله : ونحن بجمع سمعت الذي أنزلت عليه سورة " البقرة " ، يقول في هذا المقام : " لبيك اللهم لبيك " وجمع هي المزدلفة . وهذا الحديث الصحيح يدل على تلبية النبي - صلى الله عليه وسلم - بمزدلفة بعد الرجوع من عرفة ، وفي لفظ لابن مسعود عند مسلم أيضا : قال عبد الله : أنسي الناس أم ضلوا سمعت الذي أنزلت عليه سورة " البقرة " يقول في هذا المكان : " لبيك اللهم لبيك " وفي لفظ عنه أيضا عند مسلم ، من رواية عبد الرحمن بن يزيد والأسود بن يزيد قالا : سمعنا عبد الله بن مسعود يقول بجمع : سمعت الذي أنزلت عليه سورة " البقرة " هاهنا يقول " لبيك اللهم لبيك " ثم لبى ولبينا معه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : فهذه النصوص الصحيحة ، تدل على عدم قطع التلبية ، والأظهر أنه يقطعها عند الشروع في رمي العقبة ، وأن رواية مسلم : حتى رمى جمرة العقبة ، يراد به الشروع في رميها ، لا الانتهاء منه .

ومن القرائن الدالة على ذلك : ما ثبت في الروايات الصحيحة من التكبير مع كل حصاة ، فظرف الرمي لا يستغرق غير التكبير ، مع الحصاة لتتابع رمي الحصيات .

[ ص: 7 ] قال الزرقاني في " شرح الموطأ " ، ولابن خزيمة عن الفضل : أفضت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يزل يلبي ، حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة ، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة ، قال ابن خزيمة : حديث صحيح مفسر لما أبهم في الرواية الأخرى ، وأن المراد بقوله : حتى رمى جمرة العقبة ، أتم رميها ، ا هـ . وعلى تقدير صحة هذه الرواية لا ينبغي العدول عنها .

وإذا علمت الصحيح الذي دلت عليه النصوص ، فاعلم أن في وقت انتهاء الرمي مذاهب للعلماء غير ما ذكرنا . فقد روي عن سعد بن أبي وقاص ، وعائشة : أنه يقطع التلبية إذا راح إلى الموقف ، وعن علي ، وأم سلمة : أنهما كانا يلبيان حتى تزول الشمس يوم عرفة ، وهذا قريب من قول سعد وعائشة ، وكان الحسن يقول : يلبي حتى يصلي الغداة يوم عرفة ، ومذهب مالك أنه يقطعها إذا زاغت الشمس من يوم عرفة ، وقد روى مالك - رحمه الله - في " الموطأ " عن جعفر بن محمد ، عن أبيه : أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يلبي بالحج ، حتى إذا زاغت الشمس من يوم عرفة ، قطع التلبية . قال مالك : وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا ، ا هـ . وروى مالك في " الموطأ " أيضا عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنها كانت تترك التلبية إذا رجعت إلى الموقف ، وروي في " الموطأ " أيضا عن نافع ، عن ابن عمر : أنه كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم . حتى يطوف بالبيت . وبين الصفا والمروة . ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة . فإذا غدا ترك التلبية . وكان يترك في العمرة ، إذا دخل الحرم ، ا هـ .

والتحقيق أنه لا يقطعها ، إلا إذا رمى جمرة العقبة ؛ لدلالة حديث الفضل بن عباس الثابت في الصحيح على ذلك دلالة واضحة ، ودلالة حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح على تلبية النبي بمزدلفة أيضا ، ولم يثبت في كتاب الله ، ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يخالف ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

وأما حكم التلبية فقد اختلف فيه أهل العلم اختلافا معروفا ، قال ابن حجر في " فتح الباري " : لم يتعرض المصنف لحكم التلبية ، وفيها مذاهب أربعة ، يمكن توصيلها إلى عشرة .

الأول : أنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء ، وهو قول الشافعي وأحمد .

ثانيها : واجبة ، ويجب بتركها دم حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة من الشافعية ، [ ص: 8 ] وقال : إنه وجد للشافعي نصا يدل عليه ، وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية ، والخطابي عن مالك وأبي حنيفة . وأغرب النووي فحكى عن مالك أنها سنة ، ويجب بتركها دم ، ولا يعرف ذلك عندهم إلا أن ابن الجلاب قال : التلبية في الحج مسنونة غير مفروضة ، وقال ابن التين : يريد أنها ليست من أركان الحج وإلا فهي واجبة ، ولذلك يجب بتركها الدم ، ولو لم تكن واجبة لم يجب ، وحكى ابن العربي : أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم ، وهذا قدر زائد على أصل الوجوب .

ثالثها : واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج ، كالتوجه على الطريق ، وبهذا صدر ابن شاس من المالكية كلامه في الجواهر له ، وحكى صاحب الهداية من الحنفية مثله ، لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر ، كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معين ، وقال ابن المنذر : قال أصحاب الرأي : إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام ، فهو محرم .

رابعها : أنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري ، وأبي حنيفة ، وابن حبيب من المالكية ، والزبير من الشافعية ، وأهل الظاهر قالوا : هي نظيرة تكبيرة الإحرام للصلاة ، ويقويه ما تقدم من بحث ابن عبد السلام ، عن حقيقة الإحرام ، وهو قول عطاء ، أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه ، قال : التلبية فرض الحج ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاوس ، وعكرمة ، وحكى النووي عن داود أنه لا بد من رفع الصوت بها ، وهذا قدر زائد على أصل كونها ركنا . انتهى من " فتح الباري " .

وإذا عرفت مذاهب أهل العلم في حكم التلبية ، فاعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبى كما ذكرنا وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " فعلينا أن نأخذ عنه من مناسكنا التلبية ، وهذا القدر هو الذي قام عليه الدليل : أما كونها مسنونة أو مستحبة أو واجبة يصح الحج بدونها ، وتجبر بدم فكل ذلك لم يرد فيه دليل خاص ، والخير كله في اتباعه - صلى الله عليه وسلم - والعلم عند الله تعالى .

وأما معنى التلبية : فهي من لبى بمعنى : أجاب ، فلفظة : لبيك مثناة على قول سيبويه والجمهور ، وتثنيتها للتكثير : أي إجابة لك بعد إجابة ، ولزوما لطاعتك ، وقال يونس بن حبيب البصري : لبيك : اسم مفرد لا مثنى ، قال : وإنما انقلبت ألفه ياء لاتصالها بالضمير ، كما قلبت ألف لدى ، وإلى ، وعلى في حالة الاتصال بالضمير فتقول : لديك ، وإليك وعليك بإبدال الألف ياء ، والأظهر قول سيبويه ، وجمهور أهل اللغة .

ومما يدل على ذلك أنه سمع في كلام العرب ثبوت الياء مع الإضافة للاسم الظاهر [ ص: 9 ] لا الضمير كما في قول الشاعر ، وهو أعرابي من بني أسد :



دعوت لما نابني مسورا فلبى فلبى يدي مسور

وقال ابن الأنباري : ثنوا لبيك كما ثنوا حنانيك : أي تحننا بعد تحنن ، وقال القاضي عياض : اختلفوا في معنى لبيك واشتقاقها ، فقيل معناها : اتجاهي وقصدي إليك ، مأخوذ من قولهم : داري تلب دارك أي تواجهها ، وقيل معناها محبتي لك مأخوذ من قولهم : امرأة لبة ، إذا كانت محبة لولدها عاطفة عليه ، وقيل معناها : إخلاصي لك مأخوذ من قولهم : حب لباب ، إذا كان خالصا محضا ، ومن ذلك لب الطعام ولبابه ، وقيل معناها : أنا مقيم على طاعتك ، وإجابتك مأخوذ من قولهم : لب الرجل بالمكان ، وألب به إذا أقام فيه ، قال ابن الأنباري :

وبهذا قال الخليل . وقيل في لبيك : أي قربا منك ، وطاعة ، والإلباب : القرب ، وقال أبو نصر معناه : أنا ملب بين يديك أي : خاضع . انتهى كلام عياض ، مع تصرف وحذف يسير بواسطة نقل النووي في " شرح مسلم " ، وما قاله الشيخ عياض - رحمه الله - يدور حوله كلام أهل اللغة في معنى التلبية ، وبقية ألفاظ التلبية معانيها ظاهرة .

واعلم أن لفظة لبيك ملازمة للإضافة لضمير المخاطب ، وشذ إضافتها للظاهر ; كما تقدم قريبا ، وشذ أيضا إضافتها لضمير الغائب كقول الراجز : إنك لو دعوتني ودوني زوراء ذات متزع بيون لقلت لبيه لمن يدعوني .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه ينبغي للرجال رفع أصواتهم بالتلبية ، لما رواه مالك في " الموطأ " ، والشافعي ، وأحمد ، وأصحاب السنن ، وابن حبان ، والحاكم . من حديث خلاد بن السائب الأنصاري ، عن أبيه السائب بن خلاد بن سويد - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " ، ا هـ .

ولفظ مالك في موطئه : " أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ، أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية أو بالإهلال " يريد أحدهما . وقال الترمذي في هذا الحديث : حديث حسن صحيح ، وجمهور أهل العلم على أن هذا الأمر المذكور في الحديث للاستحباب ، وذهب الظاهرية إلى أنه للوجوب ، والقاعدة المقررة في الأصول مع الظاهرية ، وهي أن [ ص: 10 ] الأمر يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وأما النساء فلا ينبغي لهن رفع الصوت بالتلبية كما عليه جماهير أهل العلم .

قال مالك في موطئه : إنه سمع أهل العلم يقولون : ليس على النساء رفع الصوت بالتلبية ، لتسمع المرأة نفسها ، وعلل بعض أهل العلم خفض المرأة صوتها بالتلبية ، بخوف الافتتان بصوتها .

وقال الرافعي في شرحه الكبير المسمى : " فتح العزيز في شرح الوجيز " : وإنما يستحب الرفع في حق الرجل ، ولا يرفع حيث يجهد ويقطع صوته ، والنساء تقتصرن على إسماع أنفسهن ، ولا يجهرن كما لا يجهرن بالقراءة في الصلاة .

قال القاضي الروياني : ولو رفعت صوتها بالتلبية لم يحرم ; لأن صوتها ليس بعورة خلافا لبعض أصحابنا ، ا هـ . وذكر نحوه النووي عن الروياني ثم قال : وكذا قال غيره : لا يحرم لكن يكره ، صرح به الدارمي ، والقاضي أبو الطيب والبندنيجي ، ويخفض الخنثى صوته كالمرأة ذكره صاحب البيان وهو ظاهر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما المرأة الشابة الرخيمة الصوت ، فلا شك أن صوتها من مفاتن النساء ولا يجوز لها رفعه بحال ، ومن المعلوم أن الصوت الرخيم من محاسن النساء ومفاتنها ، ولأجل ذلك يكثر ذكره في التشبيب بالنساء ، كقول غيلان ذي الرمة :

لها بشر مثل الحرير ومنطق رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر وعينان قال الله كونا فكانتا
فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

فتراه جعل الصوت الرخيم من محاسن النساء ، كالبشرة الناعمة ، والعينين الحسنتين ، وكقول قعنب ابن أم صاحب :

وفي الخدود لو أن الدار جامعة بيض أوانس في أصواتها غنن




https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:15 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (344)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 11 إلى صـ 18



فتراه جعل الصوت الأغن من جملة المحاسن ، وهذا أمر معروف لا يمكن الخلاف فيه ، وقد قال جل وعلا مخاطبا لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهن خير أسوة لنساء المسلمين فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا لأن تليين الصوت وترخيمه يدل على الاهتمام بالريبة كإبداء غيره من محاسن المرأة للرجال كما قال الشاعر :

[ ص: 11 ]

يحسبن من الكلام زوانيا ويصدهن عن الخنا الإسلام


الفرع الثاني : اعلم أنه يستحب الإكثار من التلبية في دوام الإحرام ، ويتأكد استحبابها في كل صعود وهبوط ، وحدوث أمر من ركوب ، أو نزول ، أو اجتماع رفاق ، أو فراغ من صلاة وعند إقبال الليل والنهار ، ووقت السحر ، وغير ذلك من تغاير الأحوال ، وعلى هذا أكثر أهل العلم .

قال صاحب المهذب : يستحب أن يكثر من التلبية ، ويلبي عند اجتماع الرفاق ، وفي كل صعود وهبوط ، وفي أدبار الصلوات ، وإقبال الليل والنهار ، لما روى جابر - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي إذا رأى ركبا أو صعد أكمة أو هبط واديا ، وفي أدبار المكتوبة وآخر الليل . انتهى محل الغرض منه . ولم يتكلم النووي في شرحه للمهذب على حديث جابر المذكور ، وقال ابن حجر في " التلخيص الحبير " في حديث جابر المذكور : هذا الحديث ذكره الشيخ في المهذب ، وبيض له النووي ، والمنذري ، وقد رواه ابن عسكر في تخريجه لأحاديث المهذب من طريق عبد الله بن محمد بن ناجية في فوائده بإسناد له إلى جابر قال : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي إذا لقي ركبا " فذكره ، وفي إسناده من لا يعرف ، وروى الشافعي ، عن سعيد بن سالم ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع عن ابن عمر أنه كان يلبي راكبا ، ونازلا ، ومضطجعا . وروى ابن أبي شيبة من رواية ابن سابط قال : كان السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع : في دبر الصلاة ، وإذا هبطوا واديا أو علوه ، وعند التقاء الرفاق ، وعند خيثمة نحوه وزاد : وإذا استقلت بالرجل راحلته . انتهى من التلخيص .

وقال مالك في " الموطأ " : سمعت بعض أهل العلم يستحب التلبية دبر كل صلاة ، وعلى كل شرف من الأرض . ويستأنس لحديث جابر المذكور بقول البخاري ، باب التلبية : إذا انحدر في الوادي ، ثم ساق بسنده الحديث عن ابن عباس وفيه قال : " أما موسى كأني أنظر إليه ، إذا انحدر في الوادي يلبي " وقال في " الفتح " في شرح هذا الحديث ، وفي الحديث : أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين ، وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود .

الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا في استحباب التلبية في حال طواف القدوم والسعي بعده ، وممن قال إنه لا يلبي في طواف القدوم ، والسعي بعده : مالك وأصحابه ، وهو الجديد الصحيح من قولي الشافعي ، وقال ابن عيينة : ما رأيت أحدا يقتدى به يلبي [ ص: 12 ] حول البيت إلا عطاء بن السائب ، وممن أجاز التلبية في طواف القدوم : أحمد ، وقال ابن قدامة في " المغني " : وبه يقول ابن عباس ، وعطاء بن السائب ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وابن أبي ليلى ، والشافعي . وروي عن سالم بن عبد الله أنه قال : لا يلبي حول البيت ، وقال ابن عيينة : ما رأينا أحدا يقتدى به يلبي حول البيت ، إلا عطاء بن السائب ، وذكر أبو الخطاب : أنه لا يلبي ، وهو قول للشافعي ; لأنه مشتغل بذكر يخصه ، فكان أولى . انتهى محل الغرض من " المغني " ، وقد قدمنا لك أن القول الجديد الأصح في مذهب الشافعي : أنه لا يلبي خلافا لما يوهمه كلام صاحب المغني ، وروى مالك في موطئه عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يقطع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم . حتى يطوف بالبيت . وبين الصفا والمروة . ثم يلبي حتى يغدو من منى إلى عرفة . فإذا غدا ترك التلبية . وكان يترك التلبية في العمرة ، إذا دخل الحرم . انتهى من " الموطأ " ، وروى مالك في " الموطأ " أيضا عن ابن شهاب ، أنه كان يقول : كان عبد الله بن عمر لا يلبي ، وهو يطوف بالبيت انتهى منه ، وقد روي عن ابن عمر أيضا خلاف هذا ، فقد ذكر ابن حجر في " التلخيص " : أن ابن أبي شيبة أخرج من طريق ابن سيرين عن ابن عمر أنه كان إذا طاف بالبيت لبى .

الفرع الرابع : اعلم أنه لا خلاف بين من يعتد به من أهل العلم في أن المحرم يلبي في المسجد الحرام ، ومسجد الخيف بمنى ، ومسجد نمرة بقرب عرفات ; لأنها مواضع نسك . واختلفوا في التلبية فيما سوى ذلك من المساجد .

وأظهر القولين عندي : أنه يلبي في كل مسجد ، إلا أنه لا يرفع صوته رفعا يشوش على المصلين ، والعلم عند الله تعالى .

الفرع الخامس : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن المحرم يلبي في كل مكان في الأمصار وفي البراري ، ونقل النووي عن العبدري أنه قال به أكثر الفقهاء . خلافا لمن قال : التلبية مسنونة في الصحاري ، ولا يعجبني أن يلبي في المصر ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة عشرة

فيما يمتنع بسبب الإحرام على المحرم حتى يحل من إحرامه

فمن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه في قوله : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] والصيغة في قوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال [ ص: 13 ] صيغة خبر أريد بها الإنشاء : أي فلا يرفث ولا يفسق ، ولا يجادل ، وقد تقرر في فن المعاني أن الصيغة قد تكون خبرية ، والمراد بها الإنشاء لأسباب منها التفاؤل كقولك : رحم الله زيدا ، فالصيغة خبرية ، والمراد بها إنشاء الدعاء له بالرحمة ، ومنها إظهار تأكيد الإتيان بالفعل ، وإلزام ذلك ; كقوله تعالى : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله الآية [ 61 \ 10 - 11 ] : أي آمنوا بالله بدليل جزم الفعل في قوله يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم الآية [ 61 \ 12 ] فهو مجزوم بالطلب المراد بالخبر في قوله تؤمنون بالله أي : آمنوا بالله ، يغفر لكم ذنوبكم ; كقوله قاتلوهم يعذبهم الله الآية [ 9 \ 14 ] تعالوا أتل الآية [ 6 \ 151 ] ، ونحو ذلك . فالمسوغ لكون الصيغة في الآية خبرية ، هو إظهار التأكد ، واللزوم في الإتيان بالإيمان فعبر عنه بصيغة الخبر ، لإظهار أنه يتأكد ويلزم أن يكون كالواقع بالفعل المخبر عن وقوعه ، وكقوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن الآية [ 2 \ 233 ] ، وقوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية [ 2 \ 228 ] . فالمراد الأمر بالإرضاع ، والتربص وقد عبر عنه بصيغة خبرية لما ذكرنا ، كما هو معروف في فن المعاني .

والأظهر في معنى الرفث في الآية أنه شامل لأمرين :

أحدهما : مباشرة النساء بالجماع ومقدماته .

والثاني : الكلام بذلك كأن يقول المحرم لامرأته : إن أحللنا من إحرامنا فعلنا كذا وكذا ، ومن إطلاق الرفث على مباشرة المرأة كجماعها قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] فالمراد بالرفث في الآية : المباشرة بالجماع ومقدماته ، ومن إطلاق الرفث على الكلام قول العجاج :



ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم

وقد قدمنا هذا البيت في سورة " المائدة " ، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه لما أنشد وهو محرم قال الراجز :



وهن يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا


فقيل له : أترفث ، وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث : ما روجع به النساء ، وفي لفظ : ما قيل من ذلك عند النساء .

والأظهر في معنى الفسوق في الآية أنه شامل لجميع أنواع الخروج عن طاعة الله تعالى ، [ ص: 14 ] والفسوق في اللغة : الخروج ، ومنه قول العجاج : يهوين في نجد وغورا غائرا فواسقا عن قصدها جوائرا

يعني بقوله : فواسقا عن قصدها : خوارج عن جهتها التي كانت تقصدها .

والأظهر في الجدال في معنى الآية : أنه المخاصمة والمراء : أي لا تخاصم صاحبك وتماره حتى تغضبه ، وقال بعض أهل العلم : معنى ولا جدال في الحج : أي لم يبق فيه مراء ولا خصومة ; لأن الله أوضح أحكامه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك ما صرح الله بالنهي عنه في كتابه ، من حلق شعر الرأس في قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، ومن ذلك تغطية المحرم الذكر رأسه لما ثبت في الصحيح ، من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم الذي خر عن راحلته فوقصته فمات : " لا تخمروا رأسه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا " ، وفي رواية في صحيح مسلم : " ولا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " وهذا الحديث في صحيح مسلم بألفاظ متعددة في بعضها الاقتصار على النهي عن تخمير الرأس ، وفيها النهي عن تخمير الرأس والوجه ، وفي بعضها : النهي عن مسه بطيب ، وفي بعضها : النهي عن أن يقربوه طيبا وأن يغطوا وجهه ، وكل ذلك ثابت ، وهو نص صريح في منع تغطية المحرم الذكر رأسه أو وجهه ، أما المرأة فإنها تغطي رأسها ، ولا تغطي وجهها ، إلا إذا خافت نظر الرجال الأجانب إليه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ومن ذلك لبس كل شيء محيط بالبدن ، أو بعضه ، وكل شيء يغطي الرأس كما تقدم قريبا : فلا يجوز للمحرم لبس القميص ، ولا العمامة ، ولا السراويل ، ولا البرنس ، ولا القباء ، ولا الخف إلا إذا لم يجد نعلا فإنه يجوز له لبس الخفين ، ويلزمه أن يقطعهما أسفل من الكعبين ، وكذلك إذا لم يجد إزارا : فله أن يلبس السراويل على الأصح فيهما .

وكذلك لا يجوز له أن يلبس ثوبا مسه ورس أو زعفران . وهذه أدلة منع ما ذكر .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - : أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما يلبس المحرم من الثياب ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يلبس القمص المحرم ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران أو ورس " انتهى من صحيح البخاري .

[ ص: 15 ] وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يلبس المحرم من الثياب ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تلبسوا القمص ، ولا العمائم ، ولا السراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس " . وأخرج مسلم - رحمه الله - هذا الحديث عن ابن عمر أيضا من طريق ابنه سالم . وأخرج بعضه أيضا من طريق عبد الله بن دينار . ثم قال مسلم : حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو الربيع الزهراني ، وقتيبة بن سعيد جميعا ، عن حماد ، قال يحيى : أخبرنا حماد بن زيد ، عن عمرو ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب يقول : " السراويل لمن لم يجد الإزار ، والخفان لمن لم يجد النعلين " يعني : المحرم . وقد ذكر مسلم هذا الحديث من طرق ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد ، عن ابن عباس ، وزاد شعبة في روايته ، عن عمرو : يخطب بعرفات .

وأخرج البخاري نحوه عن ابن عباس أيضا ، قال مسلم - رحمه الله - : وحدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من لم يجد نعلين ، فليلبس خفين ، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل " انتهى من صحيح مسلم ، وهو يدل دلالة واضحة على جواز لبس السراويل للمحرم ، الذي لم يجد إزارا ، كجواز لبس الخفين لمن لم يجد نعلين ، وفي حديث ابن عباس ، وجابر المذكورين زيادة على حديث ابن عمر : وهي جواز السراويل لمن لم يجد إزارا ، وهذه الزيادة يجب قبولها ، خلافا لمن منع قبولها ، وإطلاق الخفين في حديث ابن عباس ، وجابر المذكورين يجب تقييده بما في حديث ابن عمر من قطعهما أسفل من الكعبين ; لوجوب حمل المطلق على المقيد ، ولا سيما إذا اتحد حكمهما وسببهما كما هنا ، كما هو مقرر في الأصول .

فأظهر الأقوال دليلا : أنه لا يجوز لبس الخفين ، إلا في حالة عدم وجود النعلين ، وأن قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين لا بد منه ، وأن لبس السراويل جائز للمحرم الذي لم يجد إزارا ، خلافا لمن ذهب إلى غير ذلك .

وقال النووي في " شرح المهذب " : وأما حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يلبس المحرم القميص ، ولا السراويلات ، ولا البرنس ، ولا العمامة ، ولا الخف ، إلا [ ص: 16 ] ألا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران " فرواه البخاري ومسلم هكذا ، وزاد البيهقي وغيره فيه : " ولا يلبس القباء " وقال البيهقي : هذه الزيادة صحيحة محفوظة ، انتهى منه وهو دليل على منع لبس القباء للمحرم .

وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرحه لحديث ابن عمر المذكور : زاد الثوري في روايته ، عن أيوب ، عن نافع في هذا الحديث : " ولا القباء " ، أخرجه عبد الرزاق ، ورواه الطبراني من وجه آخر عن الثوري ، وأخرجه الدارقطني ، والبيهقي من طريق حفص بن غياث ، عن عبد الله بن عمر ، عن نافع أيضا . انتهى محل الغرض منه . وهذا الذي ذكرنا من تحريم اللباس المذكور إنما هو في حق الرجال ، وأما النساء فلهن أن يلبسن ما شئن من أنواع الثياب ، إلا أنهن لا يجوز لهن أن ينتقبن ، ولا أن يلبسن القفازين ; لأن إحرام المرأة في وجهها وكفيها .

وقد قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا الليث ، حدثنا نافع ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : قام رجل فقال : يا رسول الله ، ماذا تأمرنا أن نلبس من الثياب . . . الحديث ، وفيه " ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفازين " تابعه موسى بن عقبة ، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، وجويرية ، وابن إسحاق في النقاب والقفازين ، وقال عبد الله : ولا ورس ، وكان يقول : لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين ، وقال مالك عن نافع عن ابن عمر : لا تنتقب المحرمة ، وتابعه ليث بن أبي سليم . انتهى من صحيح البخاري .

وقال أبو داود - رحمه الله - في سننه بعد أن ساق حديث ابن عمر المتقدم : حدثنا قتيبة بن سعيد ، ثنا الليث ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعناه . وزاد : " ولا تنتقب المرأة الحرام ، ولا تلبس القفازين " . وفي لفظ عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " المحرمة لا تنتقب ولا تلبس القفازين " وقال النووي في " شرح المهذب " في هذا الحديث : وأما حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين ، والنقاب ، وما مسه الورس ، والزعفران من الثياب وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من أنواع الثياب من معصفر أو خز أو حرير ، أو حليا ، أو سراويل ، أو قميصا ، أو خفا ، فرواه أبو داود بإسناد حسن ، وهو من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي ، إلا أنه قال : حدثني نافع عن ابن عمر وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق التدليس ، وإذا قال المدلس : حدثني ، [ ص: 17 ] احتج به على المذهب الصحيح المشهور . انتهى منه .

وقال ابن حجر في " التلخيص " : حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن النقاب ، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب معصفرا ، أو خزا ، أو حليا ، أو سراويل ، أو قميصا ، أو خفا . رواه أبو داود والحاكم والبيهقي من حديث ابن عمر ، واللفظ لأبي داود زاد فيه بعد قوله : عن النقاب : " وما مس الزعفران والورس من الثياب وليلبسن بعد ذلك " . ورواه أحمد إلى قوله " من الثياب " ، ومن ذلك استعمال المحرم الطيب في بدنه ، أو ثيابه ، والطيب هو ما يتطيب به ، ويتخذ منه الطيب ، كالمسك ، والكافور ، والعنبر ، والصندل ، والورس ، والزعفران ، والورد ، والياسمين ونحو ذلك ، والأصل في منع استعمال الطيب للمحرم هو ما قدمنا في حديث ابن عمر المتفق عليه من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن لبس ما مسه الزعفران ، والورس من الثياب في الإحرام ، وما قدمنا من حديث مسلم في الذي وقع عن راحلته فأوقصته فمات . ففي لفظ في صحيح مسلم : فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغسل بماء وسدر وأن يكفن في ثوبين ، ولا يمس طيبا ، الحديث . وفي لفظ في صحيح مسلم : فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اغسلوه ولا تقربوه طيبا ، ولا تغطوا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة يلبي " ، فقوله : " ولا يمس طيبا " في الرواية الأولى نكرة في سياق النفي وقوله : " ولا تقربوه طيبا " في الرواية الثانية نكرة في سياق النهي ، وكلتاهما من صيغ العموم ، كما هو مقرر في الأصول فهو يدل على منع جميع أنواع الطيب للمحرم ، وترتيبه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك بالفاء .

قوله : " فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا " دليل على أن علة منع ذلك الطيب كونه محرما ملبيا ، والدلالة على العلة المذكورة هي من دلالة مسلك الإيماء والتنبيه ، كما هو معروف في الأصول . ومن ذلك عقد النكاح ، فإنه لا يجوز للمحرم أن يتزوج ، ولا أن يزوج غيره بولاية أو وكالة ، وسيأتي الخلاف في تزويج المحرم غيره بالولاية العامة إن شاء الله تعالى .
وكون إحرام أحد الزوجين أو الولي مانعا من عقد النكاح ، هو الذي عليه أكثر أهل العلم . وعزاه النووي في " شرح المهذب " لجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم . وقال : وهو مذهب عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، ومالك ، وأحمد ، والشافعي ، وإسحاق ، وداود ، وغيرهم . وقال في " شرح مسلم " : قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجمهور العلماء من الصحابة ، فمن بعدهم : لا يصح نكاح المحرم ، ا هـ . وقال ابن قدامة في " المغني " . وروي ذلك عن عمر وابنه ، وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - وبه [ ص: 18 ] قال سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، والأوزاعي ، ومالك ، والشافعي ، ا هـ .

وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن إحرام أحد الزوجين ، أو الولي ، ليس مانعا من عقد النكاح ، وممن قال بهذا القول : أبو حنيفة ، وهو مروي عن الحكم ، والثوري ، وعطاء ، وعكرمة ، وعزاه صاحب " المغني " ، لابن عباس ، والظاهر أن عزو هذا القول الأخير لابن عباس أصح من عزو النووي له القول الأول كما ذكرناه عنه آنفا كما سترى : ما يدل على ذلك إن شاء الله تعالى .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في الإحرام بحج أو عمرة ، هل هو مانع من عقد النكاح ، أو لا ؟ ، فهذه أدلتهم . أما الجمهور القائلون : بأن الإحرام مانع من النكاح ، فاستدلوا بما رواه مسلم - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال :

قرأت على مالك ، عن نافع ، عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر ، بنت شيبة بن جبير . فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك وهو أمير الحج . فقال أبان : سمعت عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تنكح المحرم ، ولا ينكح ولا يخطب " .

وحدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع . حدثني نبيه بن وهب ، قال : بعثني عمر بن عبيد الله بن معمر ، وكان يخطب بنت شيبة بن عثمان على ابنه . فأرسلني إلى أبان بن عثمان وهو على الموسم . فقال : ألا أراه أعرابيا : " إن المحرم لا ينكح ولا ينكح " ، أخبرنا بذلك عثمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدثني أبو غسان المسمعي ، حدثنا عبد الأعلى ( ح ) ، وحدثني أبو الخطاب زياد بن يحيى ، حدثنا محمد بن سواء . قالا جميعا : حدثنا سعيد عن مطر ، ويعلى بن حكيم ، عن نافع ، عن نبيه بن وهب ، عن أبان بن عثمان ، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ولا يخطب " .

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب . جميعا عن ابن عيينة . قال زهير : حدثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى ، عن نبيه بن وهب ، عن أبان بن عثمان ، عن عثمان يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " المحرم لا ينكح ولا يخطب " .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:17 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (345)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 19 إلى صـ 26



حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ، حدثني أبي عن جدي ، حدثني خالد بن يزيد ، حدثني سعيد بن أبي هلال ، عن نبيه بن وهب : أن عمر بن عبيد الله بن معمر أراد [ ص: 19 ] أن ينكح ابنه طلحة بنت شيبة بن جبير في الحج ، وأبان بن عثمان يومئذ أمير الحج ، فأرسل إلى أبان : إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر . فأحب أن تحضر ذلك ، فقال له أبان : ألا أراك عراقيا جافيا ! إني سمعت عثمان بن عفان يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينكح المحرم " .

وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وابن نمير ، وإسحاق الحنظلي جميعا ، عن ابن عيينة ، قال ابن نمير : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء : أن ابن عباس أخبره : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم ، زاد ابن نمير : فحدثت به الزهري فقال : أخبرني يزيد بن الأصم : أنه نكحها وهو حلال ، وحدثنا يحيى بن يحيى ، أخبرنا داود بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن زيد أبي الشعثاء ، عن ابن عباس أنه قال : تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم .

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا جرير بن حازم ، حدثنا أبو فزارة ، عن يزيد بن الأصم ، حدثتني ميمونة بنت الحارث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال . قال : وكانت خالتي وخالة ابن عباس . انتهى من صحيح مسلم . وحديث عثمان المذكور في صحيح مسلم رواه أيضا مالك ، وأحمد ، وأصحاب السنن . وقال أبو عيسى الترمذي بعد أن ساقه : حديث عثمان حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وابن عمر ، وهو قول بعض فقهاء التابعين ، وبه يقول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، لا يرون أن يتزوج المحرم . وقالوا : إن نكح فنكاحه باطل . وحديث يزيد بن الأصم عن ميمونة المذكور في صحيح مسلم : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهو حلال " رواه أيضا الترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والإمام أحمد ، وقال الترمذي : حدثنا قتيبة ، ثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع قال : " تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو حلال وبنى بها وهو حلال وكنت أنا الرسول فيما بينهما " . قال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، لا نعلم أحدا أسنده غير حماد بن زيد عن مطر الوراق ، عن ربيعة . وروى مالك بن أنس عن ربيعة ، عن سليمان بن يسار : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال " رواه مالك مرسلا ، ورواه أيضا سليمان بن بلال عن ربيعة مرسلا . انتهى محل الغرض منه . وحديث أبي رافع هذا رواه أيضا الإمام أحمد ، وروى مالك - رحمه الله - في موطئه ، عن نافع أن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - كان يقول : لا ينكح المحرم ، ولا يخطب على نفسه ، ولا على غيره . وفي " الموطأ " أيضا ، عن مالك أنه بلغه : أن سعيد بن [ ص: 20 ] المسيب وسالم بن عبد الله ، وسليمان بن يسار سئلوا عن نكاح المحرم ؟ فقالوا : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح . وفي " الموطأ " أيضا عن مالك ، عن داود بن الحصين : أن أبا غطفان بن طريف المري ، أخبره أن أباه طريفا ، تزوج امرأة وهو محرم . فرد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نكاحه . وحديث أبي غطفان بن طريف ، هذا رواه أيضا الدارقطني ، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل ، وهو خارج من مكة ، فأراد أن يعتمر أو يحج ؟ فقال : لا تتزوجها ، وأنت محرم ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، انتهى منه بواسطة نقل المجد في " المنتقى " .

فهذا هو حاصل أدلة من قال : بأن الإحرام مانع من عقد النكاح ، وأما الذين قالوا : بأن الإحرام لا يمنع عقد النكاح ، فقد استدلوا بما رواه الشيخان في صحيحيهما ، وأصحاب السنن ، والإمام أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم " ، وللبخاري : " تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو محرم ، وبنى بها وهو حلال وماتت بسرف " ، ا هـ .

قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فيه التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم ، والله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] وهو المشرع لأمته بأقواله ، وأفعاله ، وتقريره صلوات الله وسلامه عليه ، فلو كان تزويج المحرم حراما لما فعله - صلى الله عليه وسلم - واحتج الجمهور القائلون بمنع نكاح المحرم بالأحاديث المتقدمة ، قالوا : ثبت في صحيح مسلم من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب " وصيغة النفي في قوله : " لا ينكح ، ولا ينكح ، ولا يخطب " يراد بها النهي ; كقوله تعالى : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا في الحج ، وإيراد الإنشاء بصيغة الخبر أبلغ من إيراده بصيغة الإنشاء ; كما هو مقرر في المعاني .

والحديث دليل صحيح من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على منع نكاح المحرم وهو معتضد بما ذكرنا معه من الأحاديث ، والآثار الدالة على منع نكاح المحرم . وأجاب الجمهور القائلون : يمنع إحرام أحد الزوجين أو الولي عقد النكاح عن حديث ابن عباس المذكور ، بأجوبة .

[ ص: 21 ] واعلم أولا : أن المقرر في الأصول : أنه إذا اختلف نصان وجب الجمع بينهما إن أمكن ، وإن لم يمكن وجب الترجيح .

وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن من أجوبتهم عن حديث ابن عباس المذكور ، أنه يمكن الجمع بينه وبين حديث ميمونة ، وأبي رافع : " أنه تزوجها وهو حلال " ووجه الجمع في ذلك ، هو أن يفسر قول ابن عباس : أنه تزوجها وهو محرم بأن المراد بكونه محرما في الشهر الحرام ، وقد تزوجها - صلى الله عليه وسلم - في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة عام سبع في عمرة القضاء ، كما ذكره البخاري - رحمه الله - في صحيحه في كتاب : " المغازي في باب عمرة القضاء " .

قال بعد أن ساق حديث ابن عباس المذكور ، وزاد ابن إسحاق : حدثني ابن أبي نجيح ، وأبان بن صالح ، عن عطاء ، ومجاهد ، عن ابن عباس قال : " تزوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ميمونة في عمرة القضاء " انتهى منه . ومعلوم أن عمرة القضاء كانت في الشهر الحرام ، وهو ذو القعدة من سنة سبع ، ولا خلاف بين أهل اللسان العربي في إطلاق الإحرام على الدخول في حرمة لا تهتك كالدخول في الشهر الحرام ، أو في الحرم أو غير ذلك .

وقال ابن منظور في " اللسان " : وأحرم الرجل : إذا دخل في حرمة لا تهتك . ومن إطلاق الإحرام على الدخول في الشهر الحرام ، وقد أنشده في اللسان شاهدا لذلك - قول زهير :

جعلن القنان عن يمين وحزنه وكم بالقنان من محل ومحرم

وقول الآخر :

وإذ فتك النعمان بالناس محرما فمليء من عوف بن كعب سلاسله


وقول الراعي :

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ودعا فلم أر مثله مقتولا
فتفرقت من بعد ذاك عصاهم شققا وأصبح سيفهم مسلولا


ويروى : فلم أر مثله مخذولا ، فقوله : قتلوا ابن عفان الخليفة محرما : أي في الشهر الحرام وهو ذو الحجة ، وقيل المعنى : أنهم قتلوه في حرم المدينة ; لأن المحرم يطلق لغة على كل داخل في حرمة لا تهتك ، سواء كانت زمانية ، أو مكانية أو غير ذلك .

وقال بعض أهل اللغة ، منهم الأصمعي : إن معنى قول الراعي : محرما في بيته [ ص: 22 ] المذكور كونه في حرمة الإسلام ، وذمته التي يجب حفظها ، ويحرم انتهاكها وأنه لم يحل من نفسه شيئا يستوجب به القتل ، ومن إطلاق المحرم على هذا المعنى الأخير ، قول عدي بن زيد :

قتلوا كسرى بليل محرما غادروه لم يمتع بكفن


يريد قتل شيرويه أباه أبرويز بن هرمز ، مع أن له حرمة العهد الذي عاهدوه به ، حين ملكوه عليهم ، وحرمة الأبوة ولم يفعل لهم شيئا يستوجب به منهم القتل . وذلك هو مراده بقوله : محرما ، وعلى تفسير قول ابن عباس : وهو محرم بما ذكر فلا تعارض بين حديث ابن عباس ، وبين حديث ميمونة وأبي رافع ، ولو فرضنا أن تفسير حديث ابن عباس بما ذكر ليس بمتعين وليس بظاهر كل الظهور ، وأن التعارض بين الحديثين باق ، والمصير إلى الترجيح إذا واجب . وحديث ميمونة وأبي رافع أرجح من حديث ابن عباس ، لأن ميمونة هي صاحبة القصة ، ولا شك أن صاحب القصة أدرى بما جرى له في نفسه من غيره . وقد تقرر في الأصول أن خبر صاحب الواقعة المروية مقدم على خبر غيره ، لأنه أعرف بالحال من غيره ، والأصوليون يمثلون له بحديث ميمونة المذكور ، مع حديث ابن عباس . وإليه أشار في " مراقي السعود " في مبحث الترجيح ، باعتبار حال الراوي بقوله عاطفا على ما ترجح به رواية أحد الراويين على رواية الآخر :

أو راويا باللفظ أو ذا الواقع وكون من رواه غير مانع


ومحل الشاهد منه قوله : أو ذا الواقع : أي يقدم خبر ذي الواقع المروي على خبر غيره كخبر ميمونة ، مع خبر ابن عباس ومما يرجح به حديث أبي رافع على حديث ابن عباس : أن أبا رافع هو رسوله إليها يخطبها عليه ، فهو مباشر للواقعة ، وابن عباس ليس كذلك ، وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المباشر لما روى على خبر غيره ; لأن المباشر لما روى أعرف بحاله من غيره ، والأصوليون يمثلون له بخبر أبي رافع المذكور : أنه - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو حلال ، قال : وكنت الرسول فيما بينهما ، مع حديث ابن عباس المذكور : " أنه تزوجها وهو محرم " .

ومما يرجح به حديث ميمونة ، وحديث أبي رافع معا ، على حديث ابن عباس : أن ميمونة ، وأبا رافع كانا بالغين وقت تحمل الحديث المذكور ، وابن عباس ليس ببالغ وقت التحمل . وقد تقرر في الأصول ترجيح خبر الراوي المتحمل بعد البلوغ على المتحمل قبله ; لأن البالغ أضبط من الصبي لما تحمل ، وللاختلاف في قبول [ ص: 23 ] خبر المتحمل ، قبل البلوغ من الاتفاق على قبول خبر المتحمل بعد البلوغ ، وإن كان الراجح قبول خبر المتحمل قبل البلوغ إذا كان الأداء بعد البلوغ ; لأن المتفق عليه أرجح من المختلف فيه ، وإلى تقديم خبر الراوي المباشر على خبر غيره ، وتقديم خبر المتحمل بعد البلوغ على خبر المتحمل قبله .

أشار في " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار حال الراوي ، بقوله عاطفا على ما يرجح أحد الخبرين :

أو كونه مباشرا أو كلفا أو غير ذي اسمين للأمن من خفا


فإن قيل : يرجح حديث ابن عباس ، بأنه اتفق عليه الشيخان في صحيحيهما . ومعلوم أن ما اتفق عليه مسلم والبخاري ، أرجح مما انفرد به مسلم ، وهو حديث ميمونة ، وأرجح مما أخرجه الترمذي وأحمد ، وهو حديث أبي رافع .

فالجواب : أن غاية ما يفيده اتفاق الشيخين صحة الحديث ، إلى ابن عباس ، ونحن لو جزمنا بأنه قاله قطعا لم يمنع ذلك من ترجيح حديث ميمونة وأبي رافع عليه ; لأنهما أعلم بحال الواقعة منه ; لأن ميمونة صاحبة الواقعة ، وأبو رافع هو الرسول المباشر لذلك . فلنفرض أن ابن عباس قال ذلك ، وأن أبا رافع وميمونة خلفاه ، وهما أعلم بالحال منه ; لأن لكل منهما تعلقا خاصا بنفس الواقعة ليس لابن عباس مثله .

ومن المرجحات التي رجح بها بعض العلماء حديث تزوجه - صلى الله عليه وسلم - ميمونة ، وهو حلال على حديث تزوجه إياها ، وهو محرم ، أن الأول : رواه أبو رافع ، وميمونة . والثاني : رواه ابن عباس وحده ، وما رواه الاثنان أرجح مما رواه الواحد كما هو مقرر في الأصول ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي :

وكثرة الدليل والرواية مرجح لدى ذوي الدراية


كما تقدم في سورة البقرة . ولكن هذا الترجيح المذكور يرده ما ذكره ابن حجر في " فتح الباري " ، ولفظه : فالمشهور عن ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو محرم " وصح نحوه عن عائشة وأبي هريرة . انتهى منه .

وعلى تقدير صحة ما ذكره ابن حجر فمن روى أن تزويجها في حالة الإحرام - أكثر .

[ ص: 24 ] فإن قيل : يرجح حديثهم إذا بالكثرة .

فالجواب : أنهم وإن كثروا فميمونة ، وأبو رافع أعلم منهم بالواقعة كما تقدم ، والمرجحات يرجح بعضها على بعض ، وضابط ذلك عند الأصوليين هو قوة الظن ، ومعلوم أن ما أخبرت به ميمونة - رضي الله عنها - عن نفسها ، وأخبر به الرسول بينها ، وبين زوجها - صلى الله عليه وسلم - الذي هو أبو رافع أقوى في ظن الصدق مما أخبر به غيرهما ، وأشار في " مراقي السعود " إلى ما ذكرنا بقوله :

قطب رحاها قوة المظنه فهي لدى تعارض مئنه


ومن أقوى الأدلة الدالة على أن حديث ابن عباس ، لا تنهض به الحجة ، على جواز عقد النكاح في حال الإحرام هو أنا لو سلمنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو محرم ، لم تكن في ذلك حجة على جواز ذلك بالنسبة إلى أمته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه ثبت عنه في صحيح مسلم وغيره من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ما يدل على منع النكاح في حال الإحرام وهو عام لجميع الأمة . والأظهر دخوله هو - صلى الله عليه وسلم - في ذلك العموم ، فإذا فعل فعلا يخالف ذلك العموم المنصوص عليه بالقول ، دل على أن ذلك الفعل خاص به - صلى الله عليه وسلم - لتحتم تخصيص ذلك العموم القولي بذلك الفعل . فيكون خاصا به - صلى الله عليه وسلم - .

وقد تقرر في الأصول : أن النص القولي العام الذي يشمل النبي بظاهر عمومه لا بنص صريح ، إذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلا يخالفه كان ذلك الفعل مخصصا لذلك العموم القولي ، فيكون ذلك الفعل خاصا به - صلى الله عليه وسلم - . وقد أشار صاحب " مراقي السعود " إلى ذلك في كتاب السنة بقوله :

في حقه القول بفعل خصا إن يك فيه القول ليس نصا


فإن قيل : لا حجة في حديث عثمان المذكور في صحيح مسلم ، على منع عقد النكاح في حال الإحرام ; لأن المراد بالنكاح فيه وطء الزوجة ، وهو حرام في حال الإحرام إجماعا ، وليس المراد به العقد .

فالجواب من أوجه :

الأول : أن في نفس الحديث قرينتين دالتين على أن المراد به عقد النكاح ، لا الوطء . الأولى : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الحديث المذكور : " لا ينكح المحرم ، ولا ينكح " فقوله : " ولا ينكح " بضم الياء ، دليل على أن المراد : لا يزوج ، ولا يمكن أن يكون المراد بذلك [ ص: 25 ] الوطء ; لأن الولي إذا زوج قبل الإحرام ، وطلب الزوج وطء زوجه في حال إحرام وليها ، فعليه أن يمكنه من ذلك إجماعا ، فدل ذلك على أن المراد بقوله : " ولا ينكح " ليس الوطء بل التزويج ، كما هو ظاهر القرينة الثانية : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال أيضا : " ولا يخطب " ، والمراد خطبة المرأة التي هي طلب تزويجها ، وذلك دليل على أن المراد العقد ، لأنه هو الذي يطلب بالخطبة ، وليس من شأن وطء الزوجة أن يطلب بخطبة كما هو معلوم .

الوجه الثاني : أن أبان بن عثمان راوي الحديث ، وهو من أعلم الناس بمعناه ، فسره بأن المراد بقوله : " ولا ينكح " : أي لا يزوج ; لأن السبب الذي أورد فيه الحديث ، هو أنه أرسل له عمر بن عبيد الله حين أراد أن يزوج ابنه طلحة بن عمر ابنة شيبة بن جبير ، فأنكر عليه ذلك أشد الإنكار وبين له أن حديث عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على منع عقد النكاح في حال الإحرام ، ولم يعلم أنه أنكر عليه أحد تفسيره الحديث ، بأن المراد بالنكاح فيه العقد لا الوطء .

الوجه الثالث : هو ما قدمنا من الأحاديث ، والآثار الدالة على منع التزويج في حال الإحرام ، كحديث ابن عمر ، عند أحمد : أنه سئل عن امرأة أراد أن يتزوجها رجل ، وهو خارج من مكة : فأراد أن يعتمر أو يحج ، قال : لا تتزوجها وأنت محرم ، نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنه ، ا هـ .

فتراه صرح بأن النكاح المنهي عنه في الإحرام التزويج .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في حديث ابن عمر هذا : في إسناده أيوب بن عيينة ، وهو ضعيف وقد وثق ، وكالأثر الذي رواه مالك والبيهقي والدارقطني ، عن أبي غطفان بن طريف : أن أباه طريفا تزوج امرأة ، وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه ، ا هـ .

وذلك دليل على أن عمر يفسر النكاح الممنوع في الإحرام بالتزويج ولا يخصه بالوطء . وقد روى البيهقي في " السنن الكبرى " بإسناده عن الحسن ، عن علي قال : من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته .

وروى بإسناده أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه : أن عليا - رضي الله عنه - قال : لا ينكح المحرم ، فإن نكح رد نكاحه . وروي بإسناده أيضا عن شوذب مولى زيد بن ثابت : أنه تزوج ، وهو محرم ، ففرق بينهما زيد بن ثابت .

[ ص: 26 ] قال : وروينا في ذلك عن عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - وروي بإسناده أيضا عن قدامة بن موسى قال : تزوجت ، وأنا محرم فسألت سعيد بن المسيب فقال : يفرق بينهما ، وروي بإسناده أيضا عن سعيد بن المسيب : أن رجلا تزوج ، وهو محرم فأجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل ، هو أن إحرام أحد الزوجين أو الولي مانع من عقد النكاح ; لحديث عثمان الثابت في صحيح مسلم ، ولما قدمنا من الآثار الدالة على ذلك ، ولم يثبت في كتاب الله ، ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - شيء يعارض ذلك الحديث . وحديث ابن عباس معارض بحديث ميمونة ، وأبي رافع ، وقد قدمنا لك أوجه ترجيحهما عليه . ولو فرضنا أن حديث ابن عباس ، لم يعارضه معارض ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة ، وهو محرم . فهذا فعل خاص لا يعارض عموما قوليا لوجوب تخصيص العموم القولي المذكور بذلك الفعل كما تقدم إيضاحه .

أما ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ابن بشار ، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أمية ، عن رجل ، عن سعيد بن المسيب قال : وهم ابن عباس في تزويج ميمونة وهو محرم ، فلا تنهض به حجة على توهيم ابن عباس ; لأن الراوي عن سعيد ، لم تعرف عينه كما ترى ، وما احتج به كل واحد من المتنازعين في هذه المسألة من الأقيسة كقياس من أجاز النكاح في الإحرام ، النكاح على شراء الأمة في الإحرام لقصد الوطء ، وكقياس من منعه النكاح في الإحرام على نكاح المعتدة بجامع أن كلا منهما لا يعقبه جواز التلذذ ; كالوطء والقبلة تركناه وتركنا مناقشته ، لأن هذه المسألة من المسائل المنصوصة فلا حاجة فيها إلى القياس ، مع أن كل الأقيسة التي استدل بها الطرفان لا تنهض بها حجة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:20 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (346)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 27 إلى صـ 34




فروع تتعلق بهذه المسألة

التي هي ما يمتنع بالإحرام على المحرم حتى يحل من إحرامه

الفرع الأول : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي : أن المحرم يجوز له أن يرتجع مطلقته في حال الإحرام ; لأن الرجعة ليست بنكاح مؤتنف ; لأنها لا يحتاج فيها إلى عقد ، ولا صداق ، ولا إلى إذن الولي ولا الزوجة فلا تدخل في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينكح المحرم ولا ينكح " وجواز الرجعة في الإحرام هو قول جمهور أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة ، وأصحابهم : [ ص: 27 ] مالك ، والشافعي وأبو حنيفة ، وهو إحدى الروايتين ، عن الإمام أحمد ، وعزاه النووي في " شرح المهذب " لعامة العلماء إلا رواية عن الإمام أحمد .

وقال ابن قدامة في " المغني " في شرحه قول الخرقي : وللمحرم أن يتجر ويصنع الصنائع ، ويرتجع امرأته - ما نصه :

فأما الرجعة : فالمشهور إباحتها ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وفيه رواية ثانية أنها لا تباح . إلى أن قال : وجه الرواية الصحيحة : أن الرجعية زوجة والرجعة إمساك بدليل قوله تعالى : فأمسكوهن بمعروف [ 65 \ 2 ] فأبيح ذلك كالإمساك قبل الطلاق . انتهى محل الغرض منه .

وقال مالك في " الموطأ " في الرجل المحرم : أنه يراجع امرأته ، إذا كانت في عدة منه . وذكر النووي عن الخراسانيين من الشافعية وجهين ، أصحهما : جواز الرجعة ، والثاني : منعها في الإحرام .

الفرع الثاني : اعلم أن التحقيق أن الولي إذا وكل وكيلا على تزويج وليته ، فلا يجوز لذلك الوكيل تزويجها بالوكالة في حالة إحرامه ; لأنه يدخل في عموم الحديث المذكور ، وكذلك وكيل الزوج .

الفرع الثالث : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي : أن السلطان لا يجوز له أن يزوج بالولاية العامة في حال إحرامه ، لدخوله في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا ينكح المحرم ولا ينكح " فلا يجوز إخراج السلطان من هذا العموم ، إلا بدليل خاص به من كتاب أو سنة ، ولم يرد بذلك دليل ; فالتحقيق منع تزويجه في الإحرام ، وهو قول جمهور العلماء خلافا لبعض الشافعية القائلين : يجوز ذلك للسلطان ، ولا دليل معهم من كتاب ولا سنة ، وإنما يحتجون بأن الولاية العامة أقوى من الولاية الخاصة . بدليل أن الولي المسلم الخاص ، لا يزوج الكافرة بخلاف السلطان ، فله عندهم أن يزوج الكافرة بالولاية العامة .

الفرع الرابع : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي : أن للشاهد المحرم أن يشهد على عقد نكاح ; لأن الشاهد لا يتناوله حديث : " لا ينكح المحرم ، ولا ينكح " لأن عقد النكاح بالإيجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك ، وخالف في ذلك أبو سعيد الإصطخري من الشافعية ، قائلا : إن شهادة الشاهد ركن في العقد ، فلم تجز في حال الإحرام كالولي ، وكره بعض أهل العلم للمحرم أن يشهد على النكاح .

[ ص: 28 ] الفرع الخامس : الأظهر عندي : أن المحرم لا يجوز له أن يخطب امرأة ، وكذلك المحرمة ، لا يجوز للرجل خطبتها لما تقدم من حديث عثمان ، عند مسلم : " لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب " فالظاهر أن حرمة الخطبة كحرمة النكاح ، لأن الصيغة فيهما متحدة ، فالحكم بحرمة أحدهما دون الآخر ، يحتاج إلى دليل خاص ، ولا دليل عليه . والظاهر من الحديث حرمة النكاح وحرمة وسيلته التي هي الخطبة كما تحرم خطبة المعتدة .

وبه تعلم أن ما ذكره كثير من أهل العلم من أن الخطبة لا تحرم في الإحرام ، وإنما تكره أنه خلاف الظاهر من النص ولا دليل عليه ، وما استدل به بعض أهل العلم من الشافعية وغيرهم : على أن المتعاطفين قد يكون أحدهما مخالفا لحكم الآخر ; كقوله تعالى : كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده الآية [ 6 \ 141 ] . قالوا : الأكل مباح وإيتاء الحق واجب ، لا دليل فيه ; لأن الأمر بالأكل معلوم أنه ليس للوجوب ، بخلاف قوله في الحديث " ولا يخطب " فلا دليل على أنه ليس للتحريم ، كقوله قبله : " لا ينكح المحرم " .

الفرع السادس : إذا وقع عقد النكاح في حال إحرام أحد الزوجين أو الولي ، فالعقد فاسد ، ولا يحتاج إلى فسخه بطلاق ; كما هو ظاهر الآثار التي قدمنا ، ومذهب مالك وأحمد : أنه يفسخ بطلاق مراعاة لقول من أجازه كأبي حنيفة ومن تقدم ذكرهم .

الفرع السابع : أظهر قولي أهل العلم عندي : أنه إذا وكل حلال حلالا في التزويج ، ثم أحرم أحدهما أو المرأة أن الوكالة لا تنفسخ بذلك ، بل له أن يزوج بعد التحلل بالوكالة السابقة ، خلافا لمن قال : تنفسخ الوكالة بذلك ، والتحقيق أن الوكيل إذا كان حلالا والموكل محرما ، فليس للوكيل الحلال عقد النكاح ، قبل تحلل موكله خلافا لمن حكى وجها بجواز ذلك ، ولا شك أن تجويز ذلك غلط .
الفرع الثامن : اعلم أنا قدمنا في أول الكلام على هذه المسألة : أن الإحرام يحرم بسببه على المحرم وطء امرأته في الفرج ومباشرتها فيما دون الفرج ; لقوله تعالى : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] وقد قدمنا أن الرفث شامل للجماع ، ومقدماته . وقد أردنا في هذا الفرع أن نبين ما يلزمه لو فعل شيئا من ذلك ، ولا خلاف بين أهل العلم : أن المحرم إذا جامع امرأته قبل الوقوف بعرفات : أن [ ص: 29 ] حجه يفسد بذلك ، ولا خلاف بينهم أنه لا يفسد الحج من محظورات الإحرام ، إلا الجماع خاصة ، وإذا فسد حجه بجماعه قبل الوقوف بعرفات : فعليه إتمام حجه هذا الذي أفسده وعليه قضاء الحج ، وعليه الهدي . وهو عند مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وجماعات من الصحابة بدنة ، وقال أبو حنيفة : عليه شاة ، وقال داود : هو مخير بين بدنة وبقرة وشاة ، فإن كان جماعه بعد الوقوف بعرفات ، وقبل رمي جمرة العقبة ، وطواف الإفاضة فحجه فاسد عند مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله .

وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : حجه صحيح ، وعليه أن يهدي بدنة متمسكا بظاهر حديث : " الحج عرفة " وإن كان جماعه بعد رمي جمرة العقبة ، وقبل طواف الإفاضة : فحجه صحيح عند الجميع ، وعند الشافعي : تلزمه فدية ، وعند أبي حنيفة : إن جامع بعد الحلق : فعليه شاة ، وإن جامع قبل الحلق ، وبعد الوقوف : فعليه بدنة .

وعن أحمد روايتان : فيما يلزمه هل هو شاة ، أو بدنة ، ومذهب مالك : أن حجه صحيح ، وعليه هدي وعمرة ، ووجهه عنده أن الجماع لما كان بعد التحلل الأول برمي جمرة العقبة ، لم يفسد به الحج ، ولكنه وقع فيه نقص بسبب الجماع قبل التحلل الثاني ، فكان هذا النقص عنده يجبر بالعمرة والهدي .

وفي " الموطأ " قال مالك في رجل وقع بامرأته في الحج ، ما بينه وبين أن يدفع من عرفة ، ويرمي الجمرة أنه يجب عليه الهدي وحج قابل ، قال : فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة ، فإنما عليه أن يعتمر ويهدي ، وليس عليه حج قابل ، ا هـ .

ونقل الباجي عن مالك : أن محل فساد الحج بالجماع قبل الرمي والإفاضة وبعد الوقوف بعرفة ، فيما إذا كان الوطء واقعا يوم النحر ، أما إن أخر رمي جمرة العقبة ، وطواف الإفاضة معا عن يوم النحر ، وجامع قبلهما : فلا يفسد حجه : وعليه عمرة وهديان : هدي لوطئه ، وهدي لتأخير رمي الجمرة انتهى منه بواسطة نقل المواق في شرحه لمختصر خليل في الكلام على قوله : والجماع ومقدماته ، وأفسد مطلقا كاستدعاء مني ، وإن ينظر قبل الوقوف مطلقا ، إن وقع قبل إفاضته وعقبه يوم النحر أو قبله وإلا فهدي ، ا هـ .

فتحصل : أن الجماع قبل الوقوف بعرفات مفسد للحج ، عند الأئمة الأربعة وبعد التحلل الأول ، وقبل الثاني : لا يفسد الحج عند الأربعة .

وقد عرفت مما قدمنا ما يقع به التحلل عند كل واحد منهم ، وإن وقع بعد الوقوف [ ص: 30 ] بعرفة ، وقبل التحلل : أفسد عند الثلاثة ، خلافا لأبي حنيفة كما تقدم إيضاحه قريبا .

وإذا عرفت أقوال أهل العلم في الجماع ، فاعلم أنهم متفقون على مقدمات الجماع كالقبلة ، والمفاخذة ، واللمس بقصد اللذة حرام على المحرم .

ولكنهم اختلفوا فيما يلزمه لو فعل شيئا من ذلك : فمذهب مالك وأصحابه : أن كل تلذذ بمباشرة المرأة من قبلة ، أو غيرها ، إذا حصل معه إنزال أفسد الحج . وقد بينا قريبا ما يلزم من أفسد حجه حتى إنه لو أدام النظر بقصد اللذة فأنزل : فسد عند مالك حجه ، ولو أنزل بسبب النظرة الأولى من غير إدامة : لم يفسد حجه عند مالك ، وعليه الهدي . أما إذا تلذذ بالمرأة بما دون الجماع ، ولم ينزل فإن كان بتقبيل الفم : فعليه هدي ، والقبلة حرام على المحرم مطلقا عند مالك ، وأما إن كان بغير القبلة كاللمس باليد ، فهو ممنوع إن قصد به اللذة ، وإن لم يقصدها به ، فليس بممنوع ، ولا هدي فيه ولو قصد به اللذة ، وإنما عليه الإثم إلا إذا حصل بسببه مذي فيلزم فيه الهدي ، ومحل هذا عندهم في غير الملاعبة الطويلة والمباشرة الكثيرة ففيها الهدي .

فتحصل : أن مذهب مالك فساد الحج بمقدمات الجماع ، إن أنزل ، وإن لم ينزل ففي القبلة خاصة مطلقا : هدي وكذلك كل تلذذ خرج بسببه مذي ، وكذلك الملاعبة الطويلة والمباشرة الكثيرة ، وما عدا ذلك من التلذذ ، فليس فيه إلا التوبة والاستغفار ، ولا يفسد الحج عنده إلا بالجماع ، أو الإنزال . ومذهب أبي حنيفة - رحمه الله - : أن التلذذ بما دون الجماع كالقبلة ، واللمس بشهوة ، والمفاخذة ونحو ذلك : يلزم بسببه دم ، وسواء عنده في ذلك أنزل أو لم ينزل ، ولو ردد النظر إلى امرأته حتى أمنى ، فلا شيء عليه عند أبي حنيفة .

ومذهب الشافعي - رحمه الله - : هو أنه إن باشر امرأته فيما دون الفرج بشهوة أو قبلها بشهوة : أن عليه فدية الأذى والاستمناء عنده ، كالمباشرة فيما دون الفرج . وصحح بعض الشافعية : أن عليه شاة ، ولو ردد النظر إلى امرأته ، حتى أمنى ، فلا شيء عليه عند الشافعي . ومذهب الإمام أحمد - رحمه الله - : أنه إن وطئ فيما دون الفرج ، ولم ينزل : فعليه دم ، وإن أنزل : فعليه بدنة . وفي فساد حجه روايتان :

إحداهما : أنه إن أنزل فسد حجه ، وعليه بدنة وبها جزم الخرقي .

وقال في " المغني " : في هذه الرواية اختارها الخرقي وأبو بكر ، وهو قول عطاء ، [ ص: 31 ] والحسن ، والقاسم بن محمد ، ومالك ، وإسحاق .

والرواية الثانية : أنه إن أنزل فعليه بدنة ، ولا يفسد حجه .

وقال ابن قدامة في " المغني " : في هذه الرواية : وهي الصحيحة ، إن شاء الله ; لأنه استمتاع لا يجب بنوعه حد فلم يفسد الحج كما لو لم ينزل ، ولأنه لا نص فيه ولا إجماع ، ولا هو في معنى المنصوص عليه . انتهى محل الغرض منه .

وما ذكرنا عن أحمد : من أنه إن أنزل تلزمه بدنة : أي سواء قلنا بفساد الحج ، أو عدم فساده ، وممن قال بلزوم البدنة في ذلك : الحسن ، وسعيد بن جبير ، والثوري ، وأبو ثور ، كما نقله عنهم صاحب " المغني " . وإن قبل امرأته ، ولم ينزل أو أنزل جرى على حكم الوطء فيما دون الفرج ، وقد أوضحناه قريبا .

وإن نظر إلى امرأته ، فصرف بصره ، فأمنى فعليه دم عند أحمد ، وإن كرر النظر ، حتى أمنى : فعليه بدنة عنده .

وقد قدمنا عن مالك : أنه إن كرر النظر ، حتى أمنى فسد حجه ، وهو مروي عن الحسن وعطاء .

واعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي : أن الحج الفاسد بالجماع يجب قضاؤه فورا في العام القابل ، خلافا لمن قال : إنه على التراخي ، ودليل ذلك الآثار التي ستراها إن شاء الله في الكلام على أدلة هذا المبحث .

وأظهر قولي أهل العلم عندي أيضا - أن الزوجين اللذين أفسدا حجهما يفرق بينهما إذا أحرما بحجة القضاء لئلا يفسدا حجة القضاء أيضا بجماع آخر ، كما يدل عليه بعض الآثار المروية عن الصحابة ، والأظهر أيضا : أن الزوجة إن كانت مطاوعة له في الجماع يلزمها مثل ما يلزم الرجل من الهدي والمضي في الفاسد والقضاء في العام القابل ، خلافا لمن قال : يكفيهما هدي واحد . والأظهر أنه إن أكرهها : لا هدي عليها . وإذا علمت أقوال أهل العلم في جماع المحرم ، ومباشرته بغير الجماع ، فاعلم أن غاية ما دل عليه الدليل : أن ذلك لا يجوز في الإحرام ; لأن الله تعالى نص على ذلك في قوله تعالى : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] ، أما أقوالهم في فساد الحج وعدم فساده ، وفيما يلزم في ذلك ، فليس على شيء من أقوالهم في ذلك دليل من كتاب ولا سنة ، وإنما يحتجون بآثار مروية عن الصحابة . ولم أعلم بشيء [ ص: 32 ] مروي في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حديثا منقطعا لا تقوم بمثله حجة : وهو ما رواه أبو داود في المراسيل ، والبيهقي في سننه : أخبرنا أبو بكر محمد بن صالح ، أنبأ أبو الحسن عبد الله بن إبراهيم الفسوي الداودي ، ثنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي ، ثنا أبو داود السجستاني ، ثنا أبو توبة ، ثنا معاوية يعني : ابن سلام ، عن يحيى قال : أخبرني يزيد بن نعيم أو زيد بن نعيم : شك أبو توبة : أن رجلا من جذام جامع امرأته ، وهما محرمان ، فسأل الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما " اقضيا نسككما وأهديا هديا ، ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى واحد منكما صاحبه ، وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما في المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فأحرما وأتما نسككما واهديا " .

هذا منقطع ، وهو يزيد بن نعيم الأسلمي بلا شك ، انتهى من البيهقي . وتراه صرح بأنه منقطع وانقطاعه ظاهر ; لأن يزيد بن نعيم المذكور من صغار التابعين . وقال الزيلعي في " نصب الراية " بعد أن ذكر الحديث المذكور ، عند أبي داود في المراسيل ، والبيهقي ، وذكر قول البيهقي : أنه منقطع - ما نصه : وقال ابن القطان في كتابه : هذا حديث لا يصح ، فإن زيد بن نعيم مجهول ، ويزيد بن نعيم بن هزال ثقة . وقد شك أبو توبة ، ولا يعلم عمن هو منهما ، ولا عمن حدثهم به معاوية بن سلام ، عن يحيى بن أبي كثير ، فهو لا يصح . قال ابن القطان : وروى ابن وهب ، أخبرني ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن بن حرملة ، عن ابن المسيب : أن رجلا من جذام جامع امرأته ، وهما محرمان ، فسأل الرجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لهما : " أتما حجكما ، ثم ارجعا ، وعليكما حجة أخرى ، فإذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما ، فأحرما وتفرقا ، ولا يرى واحد منكما صاحبه ، ثم أتما نسككما واهديا " انتهى .

قال ابن القطان : وفي هذا أنه أمرهما بالتفرق في العودة ، لا في الرجوع . وحديث المراسيل على العكس منه ، قال : وهذا ضعيف أيضا بابن لهيعة ، انتهى كلامه . انتهى محل الغرض منه من " نصب الراية " للزيلعي .

وإذا كانت هذه المسألة المذكورة ليس فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث المنقطع سنده تبين : أن عمدة الفقهاء فيها على الآثار المروية عن الصحابة ، فمن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " بلاغا أن عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأبا هريرة - رضي الله عنهم - سألوا عن رجل أصاب أهله ، وهو محرم بالحج ؟ فقالوا : ينفذان يمضيان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما حج قابل والهدي . قال : وقال علي بن أبي طالب - رضي الله [ ص: 33 ] عنه - : وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما ، ا هـ .

وهذا الأثر عن هؤلاء الصحابة منقطع أيضا كما ترى .

وفي " الموطأ " أيضا : عن مالك ، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : ما ترون في رجل وقع بامرأته وهو محرم ؟ فلم يقل له القوم شيئا . فقال سعيد : إن رجلا وقع بامرأته ، وهو محرم ، فبعث إلى المدينة يسأل عن ذلك ، فقال بعض الناس : يفرق بينهما إلى عام قابل ، فقال سعيد بن المسيب : لينفذا لوجههما فليتما حجهما الذي أفسداه ، فإذا فرغا رجعا ، فإن أدركهما حج قابل فعليهما الحج والهدي ، ويهلان من حيث أهلا بحجهما الذي أفسداه ويتفرقان ، حتى يقضيا حجهما . قال مالك : يهديان جميعا بدنة بدنة .

قال مالك في رجل وقع بامرأته في الحج ما بينه وبين أن يدفع من عرفة ، ويرمي الجمرة : إنه يجب عليه الهدي وحج قابل ، فإن كانت إصابته أهله بعد رمي الجمرة ، فإنما عليه أن يعتمر ، ويهدي ، وليس عليه حج قابل .

قال مالك : والذي يفسد الحج أو العمرة التقاء الختانين ، وإن لم يكن ماء دافق . قال : ويوجب ذلك أيضا الماء الدافق ، إذا كان من مباشرة ، فأما رجل ذكر شيئا حتى خرج منه ماء دافق ، فلا أرى عليه شيئا ، ولو أن رجلا قبل امرأته ، ولم يكن من ذلك ماء دافق ، لم يكن عليه في القبلة إلا الهدي ، وليس على المرأة التي يصيبها زوجها ، وهي محرمة مرارا في الحج أو العمرة ، وهي له في ذلك مطاوعة : إلا الهدي وحج قابل ، إن أصابها في الحج ، وإن كان أصابها في العمرة ، فإنما عليها قضاء العمرة التي أفسدت والهدي ، ا هـ . وفي " الموطأ " أيضا ، عن مالك عن أبي الزبير المكي ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - : أنه سئل عن رجل وقع بأهله ، وهو بمنى ، قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنة . وفي " الموطأ " أيضا عن مالك عن ثور بن زيد الديلي ، عن عكرمة مولى ابن عباس أنه قال : الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي . وفي " الموطأ " أيضا عن مالك : أنه سمع ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول في ذلك مثل قول عكرمة ، عن ابن عباس . قال مالك : وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك . انتهى محل الغرض منه .

وروى البيهقي بإسناده ، عن عطاء : أن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - قال في محرم بحجة أصاب امرأته : يعني وهي محرمة ؟ قال : يقضيان حجهما وعليهما الحج من [ ص: 34 ] قابل من حيث كانا أحرما ، ويفترقان حتى يتما حجهما ، قال : وقال عطاء : وعليهما بدنة ، إن أطاعته ، أو استكرهها ، فإنما عليهما بدنة واحدة ، ا هـ . وهذا الأثر منقطع أيضا ; لأن عطاء لم يدرك عمر - رضي الله عنه - وروى البيهقي بإسناده أيضا : أن مجاهدا سئل عن المحرم ، يواقع امرأته ؟ فقال : كان ذلك على عهد عمر - رضي الله عنه - قال : يقضيان حجهما والله أعلم بحجهما ، ثم يرجعان حلالا ، كل واحد منهما لصاحبه ، فإذا كان من قابل حجا وأهديا ، وتفرقا في المكان الذي أصابها فيه .

وروى البيهقي بإسناده أيضا ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : في رجل وقع على امرأته وهو محرم ؟ قال : اقضيا نسككما ، وارجعا إلى بلدكما ، فإذا كان عام قابل فاخرجا حاجين ، فإذا أحرمتما فتفرقا ، ولا تلتقيا حتى تقضيا نسككما ، واهديا هديا . وفي رواية : ثم أهلا من حيث أهللتما أول مرة ، ا هـ . قال النووي في هذا الأثر الذي رواه البيهقي عن ابن عباس : إسناده صحيح . وروى البيهقي بإسناده ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه : أن رجلا أتى عبد الله بن عمرو يسأله عن محرم وقع بامرأته ؟ فأشار إلى عبد الله بن عمر فقال : اذهب إلى ذلك فسله . قال شعيب : فلم يعرفه الرجل ، فذهبت معه ، فسأل ابن عمر فقال : بطل حجك . فقال الرجل : فما أصنع ؟ قال : اخرج مع الناس واصنع ما يصنعون ، فإذا أدركت قابلا ، فحج واحد ، فرجع إلى عبد الله بن عمرو ، وأنا معه فأخبره ، فقال : اذهب إلى ابن عباس فسله ، قال شعيب : فذهبت معه إلى ابن عباس فسأله فقال له كما قال ابن عمر ، فرجع إلى عبد الله بن عمرو ، وأنا معه ، فأخبره بما قال ابن عباس ، ثم قال : ما تقول أنت ؟ فقال : قولي مثل ما قالا ، ا هـ . ثم قال البيهقي : هذا إسناد صحيح ، وفيه دليل على صحة سماع شعيب بن محمد بن عبد الله عن جده بن عمرو بن العاص ، فترى هذا الأثر عن هؤلاء الصحابة الثلاثة فيه ذلك الحكم عنهم بإسناد صحيح .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:23 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (347)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 35 إلى صـ 42




وروى البيهقي أيضا من طرق أخرى ، عن ابن عباس مثل ذلك ، وفي بعض الروايات عن ابن عباس : أن على كل واحد منهما بدنة ، وفي بعضها : أنهما تكفيهما بدنة واحدة ، فهذه الآثار عن الصحابة وبعض خيار التابعين هي عمدة الفقهاء في هذه المسألة .
الفرع التاسع : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي : أنه إذا جامع مرارا قبل أن يكفر كفاه هدي واحد ، وإن كان كفر لزمته بالجماع الثاني كفارة أخرى ، كما أنه إن زنى مرارا قبل إقامة الحد عليه كفاه حد واحد إجماعا ، وإن زنى بعد إقامة الحد عليه لزمه حد آخر ، [ ص: 35 ] وهذا هو مذهب الإمام أحمد ، وممن قال به بأنه يكفيه هدي واحد مطلقا : مالك ، وإسحاق ، وعطاء .

والأصح في مذهب الشافعي : أنه يلزمه في الجماع الأول بدنة ، وفي كل مرة بعد ذلك شاة . وعن أبي ثور : تلزمه بكل مرة بدنة ، وهو رواية عن أحمد .

وعن أبي حنيفة : إن كان ذلك في مجلس واحد . فدم واحد وإلا فدمان .

واعلم أنهم اختلفوا فيما إذا جامع ناسيا لإحرامه ؟ ومذهب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد : أن العمد والنسيان سواء بالنسبة إلى فساد الحج ، وهو قول للشافعي ، وهو قوله القديم . وقال في الجديد : إن وطئ ناسيا أو جاهلا لا يفسد حجه ولا شيء عليه ، أما إن قبل امرأته ناسيا لإحرامه ، فليس عليه شيء عند الشافعي وأصحابه قولا واحدا .

وقال ابن قدامة في " المغني " :

ينبغي أن يكون الأمر كذلك في المذهب الحنبلي .

واعلم أن الجماع المفسد للحج هو التقاء الختانين الموجب للحد والغسل ، كما قدمناه في كلام مالك في " الموطأ " ، والأظهر أن الإتيان في الدبر كالجماع في إفساد الحج ، وكذلك الزنا أعاذنا الله وإخواننا المسلمين من فعل كل ما لا يرضي الله تعالى .

وقد قدمنا أن أظهر قولي أهل العلم عندنا أنه يفرق بين الزوجين اللذين أفسدا حجهما ، وذلك التفريق بينهما في حجة القضاء . لا في جميع السنة .

وظاهر الآثار المتقدمة أن ذلك التفريق بينهما إنما يكون من الموضع الذي جامعها فيه ، وعن مالك : يفترقان من حيث يحرمان ، ولا ينتظر موضع الجماع ، وهو رواية عن أحمد ، وهو أظهر . وعن مالك وأحمد : أن التفريق المذكور واجب وهو قول أو وجه عند الشافعية ، والثاني عندهم : أنه مستحب وهو وجه أيضا عن الحنابلة ، وممن قال بالتفريق بينهما : عمر بن الخطاب ، وعثمان ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والثوري ، وإسحاق ، وابن المنذر . كما نقله عنهم النووي في " شرح المهذب " ونقله ابن قدامة في " المغني " ، عن عمر ، وابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، والنخعي والثوري ، وأصحاب الرأي وغيرهم ، وعن أبي حنيفة وعطاء : لا يفرق بينهما ، ولا يفترقان قياسا على الجماع في نهار رمضان ، فإنهما إذا قضيا اليوم الذي أفسداه لا يفرق بينهما .

واعلم أنا قدمنا خلاف العلماء في الهدي الذي على المفسد حجه بالجماع ، وذكرنا أنه عند مالك والشافعي وأحمد : بدنة ، وهو قول جماعات من الصحابة وغيرهم منهم ابن [ ص: 36 ] عباس ، وطاوس ، ومجاهد ، والثوري ، وأبو ثور ، وإسحاق ، وغيرهم . ولم نتكلم على ما يلزمه إن عجز عن البدنة ، وفي ذلك خلاف بين أهل العلم ، فذهب بعضهم إلى أنه إن عجز عن البدنة كفته شاة ، وممن قال به الثوري ، وإسحاق ، وذهب بعضهم : إلى أنه إن لم يجد بدنة فبقرة ، فإن لم يجد بقرة فسبع من الغنم ، فإن لم يجد أخرج بقيمة البدنة طعاما ، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما ، وهذا هو مذهب الشافعي ، وبه قال جماعة من أهل العلم . وعن أحمد رواية : أنه مخير بين هذه الخمسة المذكورة .

واعلم أن المفسد حجه بالجماع إذا قضاه على الوجه الذي أحرم به في حجه الفاسد ، كأن يكون في حجه الفاسد مفردا ويقضيه مفردا أو قارنا ، ويقضيه قارنا فلا إشكال في ذلك وكذلك إن كان مفردا في الحج الذي أفسده وقضاه قارنا فلا إشكال ; لأنه جاء بقضاء الحج مع زيادة العمرة ، وأما إذا كان قارنا في الحج الذي أفسده ثم قضاه مفردا ، فالظاهر أن الدم اللازم له بسبب القران لا يسقط عنه بإفراده في القضاء ، خلافا لمن زعم ذلك .

وقال النووي في " شرح المهذب " : إذا وطئ القارن ، فسد حجه وعمرته ، ولزمه المضي في فاسدهما ، وتلزمه بدنة للوطء ، وشاة بسبب القران ، فإذا قضى لزمته أيضا شاة أخرى ، سواء قضى قارنا ، أم مفردا لأنه توجب عليه القضاء قارنا ، فإذا قضى مفردا لا يسقط عنه دم القران . قال العبدري : وبهذا كله قال مالك ، وأحمد .

وقال أبو حنيفة : إن وطئ قبل طواف العمرة ، فسد حجه وعمرته ، ولزمه المضي في فاسدهما والقضاء ، وعليه شاتان : شاة لإفساد الحج ، وشاة لإفساد العمرة ويسقط عنه دم القران ، فإن وطئ بعد طواف العمرة فسد حجه ، وعليه قضاؤه وذبح شاة ، ولا تفسد عمرته فتلزمه بدنة بسببها ، ويسقط عنه دم القران .

قال ابن المنذر ، وممن قال يلزمه هدي واحد : عطاء ، وابن جريج ، ومالك ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور . وقال الحكم : يلزمه هديان انتهى من " شرح المهذب " .

وقد قدمنا أن الأظهر عندنا : أن الزوجين المفسدين حجهما بالجماع تلزم كل واحد منهما بدنة ، إن كانت مطاوعة له ، وهو مذهب مالك . وبه قال النخعي ، وهو أحد القولين للشافعي .

قال النووي : قال ابن المنذر : وأوجب ابن عباس ، وابن المسيب ، والضحاك والحكم ، وحماد ، والثوري ، وأبو ثور على كل واحد منهما هديا ، وقال النخعي ومالك : [ ص: 37 ] على كل واحد منهما بدنة .

وقال أصحاب الرأي : إن كان قبل عرفة ، فعلى كل واحد منهما شاة ، وعن أحمد روايتان :

إحداهما : يجزئهما هدي واحد .

والثانية : على كل واحد منهما هدي ، وقال عطاء وإسحاق : لزمهما هدي واحد .
الفرع العاشر : إذا جامع المحرم بعمرة قبل طوافه : فسدت عمرته إجماعا ، وعليه المضي في فاسدها والقضاء والهدي ، فإن كان جماعه بعد الطواف ، وقبل السعي فعمرته فاسدة أيضا عند الشافعي ، وأحمد ، وأبي ثور ، وهو مذهب مالك فعليه إتمامها ، والقضاء والدم ، وقال عطاء : عليه شاة ، ولم يذكر القضاء . وقال أبو حنيفة : إن جامع المعتمر بعد أن طاف بالبيت أربعة أشواط لم تفسد عمرته ، وعليه دم ، وإن طاف ثلاثة أشواط ، فسدت ، وعليه إتمامها والقضاء ودم ، وأما إن كان جماعه بعد الطواف والسعي ، ولكنه قبل الحلق ، فلم يقل بفساد عمرته إلا الشافعي .

قال ابن المنذر : ولا أحفظ هذا عن غير الشافعي . وقال ابن عباس ، والثوري ، وأبو حنيفة : عليه دم ، وقال مالك : عليه الهدي ، وعن عطاء : أنه يستغفر الله ، ولا شيء عليه ، قال ابن المنذر : قول ابن عباس أعلى . انتهى بواسطة نقل النووي .

وأظهر قولي أهل العلم عندي : أن المحرمة التي أكرهها زوجها على الوطء حتى أفسد حجها أو عمرتها بذلك ، أن جميع التكاليف اللازمة لها بسبب حجة القضاء من نفقات سفرها في الحج ، كالزاد والراحلة والهدي اللازم لها كله على الزوج ; لأنه هو الذي تسبب لها في ذلك وإن كانت بانت منه ، ونكحت غيره ، وأنه إن كان عاجزا لفقره صرفت ذلك من مالها ، ثم رجعت عليه بذلك ، إن أيسر ، وهذا مذهب مالك وأصحابه وعطاء ، ومن وافقهم ، خلافا لمن قال : إن جميع تكاليف حجة القضاء في مالها لا في مال الزوج ، وهو قول بعض أهل العلم .

قال الشيخ شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته على تبيين الحقائق ، شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي ما نصه : قال في " شرح الطحاوي " : أما المرأة إذا كانت نائمة ، أو جامعها صبي أو مجنون ، فذلك كله سواء ، ولا ترجع المرأة من ذلك بما لزمها على المكره ; لأن ذلك شيء لزمها فيما بينها ، وبين الله غير مجبور عليه كرجل أكره على [ ص: 38 ] النذر ، فإنه يلزمه ، فإذا أدى ما لزمه ، فإنه لا يرجع على المكره ، كذلك هنا انتهى إتقاني - رحمه الله تعالى - . انتهى كلام الشلبي في حاشيته .

وقال في موضع آخر من حاشيته المذكورة : ثم إذا كانت مكرهة حتى فسد حجها ولزمها دم ، هل ترجع على الزوج ، عن أبي شجاع : لا ، وعن القاضي أبي حازم : نعم ، ا هـ .

وقد ذكرنا أن الأظهر عندنا لزوم ذلك لزوجها الذي أكرهها ، ووجهه ظاهر جدا ; لأن سببه هو جنايته بالجماع ، الذي لا يجوز له شرعا ، ومن تسبب في غرامة إنسان بفعل حرام ، فإلزامه تلك الغرامة لا شك في ظهور وجهه ، والعلم عند الله تعالى .

وقال ابن قدامة في " المغني " : في مذهب أحمد في هذه المسألة ما نصه : وإذا كانت المرأة مكرهة على الجماع ، فلا هدي عليها ، ولا على الرجل أن يهدي عنها نص عليه أحمد ; لأنه جماع يوجب الكفارة ، فلم يجب به حال الإكراه أكثر من كفارة واحدة كما في الصيام ، وهذا قول إسحاق ، وأبي ثور ، وابن المنذر .

وعن أحمد رواية أخرى : أن عليه أن يهدي عنها ، وهو قول عطاء ، ومالك ; لأن إفساد الحج وجد منه في حقها ، فكان عليه لإفساده حجها هدي قياسا على حجه ، وعنه ما يدل على أن الهدي عليها ; لأن فساد الحج ثبت بالنسبة إليها ، ويحتمل أنه أراد أن الهدي عليها ، ويتحمله الزوج عنها ، فلا يكون رواية ثالثة . انتهى منه .

وفي مذهب الشافعي في هذه المسألة وجهان ، الأصح منهما عند أصحاب الشافعي وجوب ذلك على الزوج ; كما بينه النووي في " شرح المهذب " . كما إن كانت مطاوعة له ، فالأظهر أن على كل واحد منهما تكاليف حجة القضاء ، وكل ما سببه الوطء المذكور ; لأنهما سواء فيه ، ولا ينبغي العدول عن ذلك .
الفرع الحادي عشر : اعلم أنا قدمنا أن من أفسد حجه أو عمرته ، لزمه القضاء ، وقد بينا أن الصحيح وجوبه على الفور لا على التراخي ، وسواء في ذلك كان الحج والعمرة فرضا أو نفلا ; لأن النفل منهما يصير فرضا بالشروع فيه ، وقد أردنا أن نبين في هذا الفرع أنه لو أحرم بالقضاء ، فأفسده أيضا بالجماع ، لزمته الكفارة ولزمه قضاء واحد ، ولو تكرر ذلك منه مائة مرة ، ويقع القضاء عن الحج الأول أي : الذي أفسده أولا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني عشر : قد قدمنا أن مما يمنع بسبب الإحرام حلق شعر الرأس ; لقوله [ ص: 39 ] تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، فإن حلق شعر رأسه لأجل مرض ، أو أذى ، ككثرة القمل في رأسه ، فقد نص تعالى على ما يلزمه بقوله : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] .

وهذه الآية الكريمة نزلت في كعب بن عجرة - رضي الله عنه - والتحقيق الذي لا شك فيه : أن الثلاثة المذكورة في الآية على سبيل التخيير بينها ; لأن لفظة " أو " في قوله : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك حرف تخيير ، والتحقيق : أن الصيام المذكور ثلاثة أيام ، وأن الصدقة المذكورة ثلاثة آصع بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وما سوى هذا فهو خلاف التحقيق .

وقد روى الشيخان في صحيحيهما ، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال : كان بي أذى من رأسي ، فحملت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي ، فقال : " ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ منك ما أرى ، أتجد شاة " ؟ قلت : لا . فنزلت الآية : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك قال : " هو صوم ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين نصف صاع نصف صاع طعاما لكل مسكين " وفي رواية : " أتى علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية فقال : " كأن هوام رأسك تؤذيك " ؟ فقلت : أجل . قال : " فاحلقه ، واذبح شاة ، أو صم ثلاثة أيام ، أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين " رواه مسلم ، وأحمد ، وأبو داود . ولأبي داود في رواية " فدعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " احلق رأسك ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، فرقا من زبيب ، أو انسك شاة ، فحلقت رأسي ثم نسكت " وفي رواية عند البخاري ، عن كعب بن عجرة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " لعلك آذاك هوامك " ؟ قال : نعم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " احلق رأسك ، وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك بشاة " وفي رواية عند البخاري أيضا ، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال : " وقف علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ، ورأسي يتهافت قملا فقال : " يؤذيك هوامك " ؟ قلت : نعم . قال : " فاحلق رأسك ، أو احلق " قال : في نزلت هذه الآية : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه إلى آخرها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : صم ثلاثة أيام ، أو تصدق بفرق بين ستة ، أو انسك بما تيسر " وفي رواية عند البخاري أيضا " فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يطعم فرقا بين ستة ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، وبعض هذه الروايات في صحيح مسلم وفيه غيرها بمعناها ، [ ص: 40 ] والفرق ثلاثة آصع .

فهذه النصوص الصحيحة الصريحة : مبينة غاية البيان آية الفدية ، موضحة : أن الصيام المذكور في الآية ثلاثة أيام ، وأن الصدقة فيها ثلاثة آصع بين ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع ، وأن النسك فيها ما تيسر شاة فما فوقها ، وأن ذلك على سبيل التخيير بين الثلاثة ، كما هو نص الآية ، والأحاديث المذكورة ، وهذا لا ينبغي العدول عنه ; لدلالة القرآن ، والسنة الصحيحة عليه ، وهو قول جماهير العلماء .

وبه تعلم أن قول الحسن ، والثوري ، وعكرمة ، ونافع : أن الصيام عشرة أيام ، والصدقة على عشرة مساكين - خلاف الصواب لما ذكرنا . وأن ما يقوله أصحاب الرأي : من أنه يجزئ نصف صاع من البر خاصة لكل مسكين ، وأما غير البر كالتمر والشعير مثلا ، فلا بد من صاع كامل لكل مسكين - خلاف الصواب أيضا لمخالفته للروايات الصحيحة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي ذكرناها آنفا . وأن ما رواه الطبري وغيره ، عن سعيد بن جبير : من أن الواجب أولا النسك ، فإن لم يجد نسكا ، فهو مخير بين الصوم والصدقة - خلاف الصواب أيضا ، للأدلة التي ذكرناها ، وهي واضحة صريحة في التخيير .

ومن أصرحها في التخيير ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد ، عن داود ، عن الشعبي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " إن شئت فانسك نسيكة ، وإن شئت فصم ثلاثة أيام ، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين " ، ا هـ . فصراحة هذا في التخيير بين الثلاثة كما ترى . وما رواه مالك في موطئه ، عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرما ، فآذاه القمل في رأسه ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه ، وقال : " صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان ، أو انسك بشاة ، أي ذلك فعلت أجزأ عنك " انتهى من " الموطأ " .

وقوله : " أي ذلك فعلت أجزأ عنك " صريح في التخيير كما ترى ، مع أن الآية الكريمة ، والروايات الثابتة في الصحيحين نصوص صريحة في ذلك لصراحة لفظة ، أو في التخيير ، والعلم عند الله تعالى .

وهذا الذي بينا حكمه الآن : هو حلق جميع شعر الرأس ، أما حلق بعض شعر الرأس ، أو شعر باقي الجسد غير الرأس ، فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله .

[ ص: 41 ] واعلم أن ما جاء في بعض الروايات أن النسك المذكور في الآية : بقرة ، يجاب عنه من وجهين ، وسنذكر هنا إن شاء الله بعض الروايات الواردة بذلك ، والجواب عنها .

قال أبو داود في سننه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث ، عن نافع : أن رجلا من الأنصار أخبره عن كعب بن عجرة ، وكان قد أصابه في رأسه أذى ، فحلق فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدي هديا بقرة . انتهى منه .

وقال ابن حجر في " الفتح " بعد أن أشار لحديث أبي داود : هذا وللطبراني من طريق عبد الوهاب بن بخت ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : حلق كعب بن عجرة رأسه فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفتدي فافتدى ببقرة .

ولعبد بن حميد من طريق أبي معشر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : افتدى كعب من أذى كان في رأسه ، فحلقه - ببقرة قلدها وأشعرها .

ولسعيد بن منصور من طريق ابن أبي ليلى ، عن نافع عن سليمان بن يسار ، قيل لابن كعب بن عجرة : ما صنع أبوك حين أصابه الأذى في رأسه ؟ قال : ذبح بقرة . انتهى من " الفتح " . ثم قال : فهذه الطرق كلها تدور على نافع .

وقد اختلف عليه في الواسطة التي بينه وبين كعب ، وقد عارضها ما هو أصح منها ، من أن الذي أمر به كعب وفعله إنما هو شاة .

وروى سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد من طريق المقبري ، عن أبي هريرة : أن كعب بن عجرة ذبح شاة لأذى كان أصابه ، وهذا أصوب من الذي قبله ، واعتمد ابن بطال على رواية نافع ، عن سليمان بن يسار فقال : أخذ كعب بأرفع الكفارات ، ولم يخالف النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أمره به من ذبح الشاة ، بل وافقه ، وزاد . ففيه : أن من أفتى بأيسر الأشياء فله أن يأخذ بأرفعها ، كما فعل كعب .

قلت : هو فرع ثبوت الحديث ولم يثبت لما قدمته . والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر .

وقد علمت منه الروايات المقضية : أن النسك في آية الفدية المذكورة بقرة ، وأن الجواب عنها من وجهين :

الأول : عدم ثبوت الروايات الواردة بالبقرة ، ومعارضتها بما هو صحيح ثابت من أن النسك المذكور في الآية شاة ، كما قدمناه .

والجواب الثاني : أنا لو فرضنا أن تلك الروايات ثابتة ، فهي لا تعارض الروايات [ ص: 42 ] الصحيحة الدالة ، على أن النسك المذكور : شاة ، وذلك بأن اللازم هو الشاة ، والتطوع بالبقرة تطوع بأكثر من اللازم . ولا مانع من التطوع بأكثر مما يلزم ، والعلم عند الله تعالى .

وهذا الذي ذكرنا حكمه : هو حلق الرأس لعذر كمرض ، أو أذى في الرأس ككثرة القمل فيه ، كما هو موضوع آية الفدية ، والأحاديث التي ذكرنا .

أما إن حلق رأسه قبل وقت الحلق لغير عذر من مرض ، أو أذى من رأسه ، فقد اختلف أهل العلم فيما يلزمه ، فذهب مالك والشافعي وهو ظاهر مذهب أحمد : إلى أن الفدية في العمد بلا عذر ، حكمها حكم الفدية لعذر المرض ، أو الأذى في الرأس ، ولا فرق بين المعذور وغيره ، إلا في الإثم ، فإن المعذور تلزمه الفدية ، ولا إثم عليه ، ومن لا عذر له تلزمه الفدية المذكورة مع الإثم ، وهو مروي عن الثوري .

وعن الحنابلة وجه : أنه لا فدية على من حلق ناسيا إحرامه ، وهو قول إسحاق ، وابن المنذر ، واحتجوا بالأدلة الدالة على العذر بالنسيان .

وذهب أبو حنيفة : إلى الفرق بين من حلق لعذر ومن حلق لغير عذر ، فإن حلقه لعذر ، فعليه الفدية المذكورة في الآية على سبيل التخيير ، وفاقا للجمهور ، وإن كان حلقه لغير عذر تعين عليه الدم دون الصيام والصدقة ، ولا أعلم لأقوالهم رحمهم الله في هذه المسألة نصا واضحا يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع .

أما الذين قالوا : إن فدية غير المعذور كفدية المعذور ، فاحتجوا ، بأن الحلق إتلاف ، فاستوى عمده وخطؤه كقتل الصيد . قالوا : ولأن الله تعالى أوجب الفدية على من حلق رأسه لأذى به وهو معذور ، فكان ذلك تنبيها على وجوبها على غير المعذور ، ا هـ . ولا يخفى أن هذا النوع من الاستدلال وأمثاله ليس فيه مقنع .

وأما الذين فرقوا بين المعذور وغيره ، وهم الحنفية فاستدلوا بظاهر قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك قالوا : فرتب الفدية المذكورة على العذر ، فدل ذلك على أن من ليس له عذر ، لا يكون له هذا الحكم المرتب على العذر خاصة .

واحتج بعض أجلاء علماء الشافعية على استدلال الحنفية بالآية المذكورة بأنه قول بدليل الخطاب : يعني مفهوم المخالفة ، والمقرر في أصول الحنفية : عدم الاحتجاج بدليل الخطاب .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:25 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (348)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 43 إلى صـ 50





[ ص: 43 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يلزم الحنفية احتجاج الشافعية المذكور عليهم ; لأنهم يقولون : نعم نحن لا نعتبر مفهوم المخالفة ، ولكن نرى أن قوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ليس فيه تعرض لحكم الحالق لغير عذر ، لا بنفي الفدية المذكورة ، ولا بإثباتها ، وقد ظهر لنا من دليل آخر خارج عن الآية : أنه يلزمه دم ، ا هـ .

ولا خلاف بين أهل العلم أن صيام الفدية له أن يصومه حيث شاء ، والأظهر عندي في النسك ، والصدقة أيضا أن له أن يفعلهما حيث شاء ; لأن فدية الأذى أشبه بالكفارة منها بالهدي ، ولأن الله لم يذكر للفدية محلا معينا ، ولم يذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماها نسكا ولم يسمها هديا ، والظاهر أنه لا مانع من أن ينوي بالنسك المذكور الهدي ، فيجري على حكم الهدي ، فلا يصح في غير الحرم ، إلا أنه لا يجوز له الأكل منه ; لأنه في حكم الكفارة ، كما قاله علماء المالكية . وعند الحنفية ، ومن وافقهم يختص النسك المذكور بالحرم . والعلم عند الله تعالى .

أما إذا كان الذي حلقه بعض شعر رأسه لا جميعه ، أو كان شعر جسده أو بعضه ، لا شعر الرأس ، فليس في ذلك نص صريح من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ; لأن الله جل وعلا إنما ذكر في آية الفدية : حلق الرأس ، وظاهرها حلق جميعه لا بعضه ، والعلماء مختلفون في ذلك ولم يظهر لنا في مستندات أقوالهم ما فيه مقنع يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى .

فذهب مالك - رحمه الله - وأصحابه إلى أن ضابط ما تلزم به فدية الأذى من الحلق هو حصول أحد أمرين :

أحدهما : أن يحصل له بذلك ترفه .

والثاني : أن يزيل عنه به أذى . أما حلق القليل من شعر رأسه ، أو غيره مما لا يحصل به ترفه ، ولا إماطة أذى ، فيلزم فيه التصدق بحفنة : وهي يد واحدة ، وكذلك عندهم الظفر الواحد لا لإماطة أذى ، وقتل القملة أو القملات .

وقال ابن القاسم في المدونة : ما سمعت بحد فيما دون إماطة الأذى أكثر من حفنة من شيء من الأشياء ، وقد قال في قملة أو قملات : حفنة من طعام ، والحفنة بيد واحدة . انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره ، وفي الظفر الواحد ، لا لإماطة الأذى حفنة ، ا هـ .

[ ص: 44 ] وذهب الشافعي وأصحابه : إلى أن حلق ثلاث شعرات فصاعدا تلزم فيه فدية الأذى كاملة ، واحتجوا بأن الثلاث : يقع عليها اسم الجمع المطلق ، فكان حلقها كحلق الجميع ، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد ، وقال القاضي : إنها المذهب ، وبذلك قال الحسن ، وعطاء ، وابن عيينة ، وأبو ثور ، كما نقله عنهم صاحب المغني . أما حلق الشعرة الواحدة ، أو الشعرتين فللشافعية فيه أربعة أقوال :

الأول : وهو أصحها عند محققيهم ، وهو نص الشافعي في أكثر كتبه : أنه يجب في الشعرة الواحدة مد وفي الشعرتين مدان .

الثاني : يجب في شعرة واحدة درهم ، وفي شعرتين درهمان .

الثالث : يجب في شعرة ثلث دم وفي شعرتين ثلثاه .

الرابع : أن في الشعرة الواحدة دما كاملا . ومذهب الإمام أحمد : وجوب الفدية كاملة في أربع شعرات فصاعدا ، وهذه الرواية اقتصر عليها الخرقي ، وقد قدمنا قريبا الرواية عنه بوجوب الفدية بثلاث شعرات فصاعدا . أما ما هو أقل من القدر الذي يوجب الفدية ، وهو ثلاث شعرات ، أو شعرتان بحسب الروايتين المذكورتين ففي الشعرة الواحدة : مد من طعام ، وفي الشعرتين : مدان ، وعنه أيضا في كل شعرة : قبضة من طعام ، وروي نحوه عن عطاء .

وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن حلق ربع رأسه ، أو ربع لحيته ، أو حلق عضوا كاملا كرقبته ، أو عانته أو أحد إبطيه ، ونحو ذلك : لزمته فدية الأذى ، إن كان ذلك لعذر ، وإن كان لغير عذر : لزمه دم ، ويلزم عنده في حلق أقل مما ذكر كحلق أقل من ربع الرأس ، أو ربع اللحية ، أو أقل من عضو كامل صدقة ، والصدقة عندهم : نصف صاع من بر ، أو صاع من غيره .

وروي عن أبي حنيفة وأصحابه : أن في كل شعرة قبضة من طعام كما ذكره عنهم صاحب المغني .

وأما حلق شعر البدن غير الرأس ، فقد علمت مما ذكرنا آنفا أن مذهب أبي حنيفة فيه : أنه إن حلق عضوا كاملا ففيه الفدية أو الدم ، وإن حلق أقل من عضو ، ففيه الصدقة ، وأن حكم اللحية عنده كحكم الرأس ، وحلق الربع فيهما كحلق الجميع .

ومذهب الشافعي أن حلق شعر الجسد غير الرأس كحكم حلق الرأس ، فتلزم الفدية [ ص: 45 ] في ثلاث شعرات فصاعدا ، سواء كانت من شعر الرأس أو غيره من الجسد ، وفي الشعرة ، أو الشعرتين من الجسد عندهم الأقوال الأربعة المتقدمة ، وإن حلق شعر رأسه وشعر بدنه معا ، لزمه عند الشافعي ، وأصحابه : فدية واحدة ، خلافا لأبي القاسم الأنماطي القائل : يلزمه فديتان ، محتجا بأن شعر الرأس مخالف لشعر البدن ; لأن النسك يتعلق بشعر الرأس ، فيلزم حلقه ، أو تقصيره بخلاف شعر البدن .

واحتج الشافعية بأنهما وإن اختلف حكمهما في النسك فهما جنس واحد : فأجزأت لهما فدية واحدة .

ومذهب الإمام أحمد في هذه المسألة كمذهب الشافعي فشعر الرأس وشعر البدن حكمهما عنده سواء . وإن حلق شعر رأسه وبدنه : فعليه فدية واحدة ، وعنه رواية أخرى : أنه يلزمه دمان ، إذا حلق من كل من الرأس ، والجسد ما تجب به الفدية منفردا عن الآخر كقول الأنماطي المتقدم .

قال في " المغني " : وهو الذي ذكره القاضي ، وابن عقيل ; لأن الرأس يخالف البدن ، بحصول التحلل به دون البدن ، ولنا أن الشعر كله جنس واحد في البدن ، فلم تتعدد الفدية فيه باختلاف مواضعه كسائر البدن ، وكاللباس ، ودعوى الاختلاف تبطل باللباس فإنه يجب كشف الرأس ، دون غيره ، والجزاء في اللبس فيهما واحد .

وقال ابن قدامة في " المغني " أيضا : وإن حلق من رأسه شعرتين ، ومن بدنه شعرتين فعليه دم واحد ، هذا ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي الخطاب ، ومذهب أكثر الفقهاء . ومذهب مالك في هذه المسألة : أن شعر البدن كشعر الرأس ، فإن حلق من شعر بدنه ما فيه ترفه ، أو إماطة أذى : لزمته الفدية ، وإلا فالتصدق بحفنة بيد واحدة .

وسئل مالك : عن المحرم يتوضأ فيمر يديه على وجهه ، أو يخلل لحيته في الوضوء ، أو يدخل يده في أنفه لمخاط ينزعه ، أو يمسح رأسه ، أو يركب دابته ، فيحلق ساقه الإكاف أو السرج ؟ قال مالك : ليس عليه في ذلك كله شيء ، وهذا خفيف ، ولا بد للناس منه . انتهى بواسطة نقل الحطاب في كلامه على قول خليل : وتساقط شعر لوضوء أو ركوب ، ا هـ .

وإذا علمت أقوال الأئمة رحمهم الله في شعر الجسد . فاعلم أني لا أعلم لشيء منها مستندا من نص كتاب ، أو سنة .

[ ص: 46 ] والأظهر أنهم قاسوا شعر الجسد على شعر الرأس ، بجامع أن الكل قد يحصل بحلقه الترفه ، والتنظف ، والظاهر أن اجتهادهم في حلق بعض شعر الرأس يشبه بعض أنواع تحقيق المناط ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الرابع عشر في حكم قص المحرم أظافره أو بعضها

وقد اختلف أهل العلم في ذلك ، فالصحيح من مذهب مالك : أنه إن قلم ظفرين فصاعدا : لزمته الفدية مطلقا ، وإن قلم ظفرا واحدا ، لإماطة أذى عنه : لزمته الفدية أيضا ، وإن قلمه لا لإماطة أذى : لزمه إطعام حفنة بيد واحدة .

قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : وفي الظفر الواحد لا لإماطة الأذى حفنة ، ما نصه : أما لو قلم ظفرين فلم أر في ابن عبد السلام والتوضيح ، وابن فرحون في شرحه ، لا ومناسكه وابن عرفة ، والتادلي ، والطراز وغيرهم خلافا في لزوم الفدية ، ولم يفصلوا كما فصلوا في الظفر الواحد ، والله أعلم . انتهى منه .

ولا ينبغي أن يختلف في أن الظفر إذا انكسر جاز أخذه ، ولا شيء فيه ; لأنه بعد الكسر لا ينمو فهو كحطب شجر الحرم . والله أعلم .

ومذهب الشافعي وأصحابه : أن حكم الأظفار كحكم الشعر ، فإن قلم ثلاثة أظفار فصاعدا ، فعليه الفدية كاملة ، وأظفار اليد والرجل في ذلك سواء ، وإن قلم ظفرا واحدا أو ظفرين ففيه الأقوال الأربعة فيمن حلق شعرة واحدة أو شعرتين ، وقد قدمنا أن أصحها عندهم أن في الشعرة مدا ، وفي الشعرتين : مدين ، وباقي الأقوال المذكورة موضح قريبا ومذهب الإمام أحمد في الأظفار كمذهبه في الشعر ، ففي أربعة أظفار ، أو ثلاثة على الرواية الأخرى : فدية كاملة ، وحكم الظفر الواحد كحكم الشعرة الواحدة ، وحكم الظفرين كحكم الشعرتين ، وقد تقدم موضحا قريبا .

ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة : أنه لو قص أظفار يديه ورجليه جميعا بمجلس واحد ، أو قص أظفار يد واحدة كاملة في مجلس ، أو رجل كذلك لزمه الدم ، وإن قطع مثلا خمسة أظفار ثلاثة من يد واثنان من رجل ، أو يد أخرى ، أو عكس ذلك : فعليه الصدقة ، وهي نصف صاع من بر عن كل ظفر ، والمعروف عند الحنفية في باب الفدية : أن ما كان لعذر ففيه فدية الأذى المذكورة في الآية ، وما كان لغير عذر ففيه الدم ، كما تقدم . أما لو [ ص: 47 ] قص أظفار إحدى يديه ، أو رجليه في مجلس ، والأخرى في مجلس آخر ، فعند أبي حنيفة ، وأبي يوسف : يتعدد الدم ، حتى إنه يمكن أن تلزمه أربعة دماء للرجلين واليدين ، إذا كانت كل واحدة في مجلس ، وعند محمد : لا يلزمه إلا دم واحد ، ولو تعددت المجالس إلا إذا تخللت الكفارة بينهما ، وقد علمت أنه لو قص أظافر أكثر من خمسة متفرقة من الرجلين واليدين : ليس عليه إلا الصدقة عندهم .

وقال زفر : يجب الدم بقص ثلاثة أظفار من اليد أو من الرجل ، وهو قول أبي حنيفة الأول ، بناء على اعتبار الأكثر ، والثلاثة أكثر من الباقي بعدها بالنسبة إلى الخمسة .

وقال ابن قدامة في " المغني " : قال ابن المنذر : وأجمع أهل العلم على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره ، وعليه الفدية بأخذها في قول أكثرهم ، وهو قول حماد ، ومالك ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأصحاب الرأي . وروي ذلك عن عطاء ، وعنه لا فدية عليه ; لأن الشرع لم يرد فيه بفدية ، ولم يعتبر ابن المنذر في حكايته الإجماع قول داود الظاهري : إن المحرم له أن يقص أظفاره ، ولا شيء عليه لعدم النص ، وفي اعتبار داود في الإجماع خلاف معروف ، والأظهر عند الأصوليين اعتباره في الإجماع . والله تعالى أعلم .

ثم قال صاحب " المغني " : ولنا أنه أزال ما منع إزالته لأجل الترفه ، فوجبت عليه الفدية كحلق الشعر ، وعدم النص فيه لا يمنع قياسه . كشعر البدن مع شعر الرأس ، والحكم في فدية الأظفار كالحكم في فدية الشعر سواء ، في أربعة منها دم . وعنه في ثلاثة دم ، وفي الظفر الواحد مد من طعام وفي الظفرين : مدان على ما ذكرنا من التفصيل والاختلاف فيه . وقول الشافعي وأبي ثور كذلك انتهى محل الغرض منه .

وإذا عرفت مذاهب الأئمة في حكم قص المحرم أظفاره ، وما يلزمه في ذلك فاعلم أني لا أعلم لأقوالهم مستندا من النصوص ، إلا ما ذكرنا عن ابن المنذر ، من الإجماع على أن المحرم ممنوع من أخذ أظفاره ، أما لزوم الفدية ، فلم يدع فيه إجماعا ، وإلا ما جاء عن بعض السلف من الصحابة والتابعين ، من تفسير آية الحج ، فإنه يدل على منع المحرم من أخذ أظفاره كمنعه من حلق شعره حتى يبلغ الهدي محله ، والآية المذكورة هي قوله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم الآية [ 22 \ 29 ] .

قال صاحب " الدر المنثور في التفسير بالمأثور " : وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله : ثم ليقضوا تفثهم قال : " يعني [ ص: 48 ] بالتفث : وضع إحرامهم من حلق الرأس ، ولبس الثياب ، وقص الأظفار ، ونحو ذلك " .

وقال أيضا : وأخرج ابن أبي شيبة ، عن محمد بن كعب قال : التفث : حلق العانة ونتف الإبط ، والأخذ من الشارب ، وتقليم الأظفار ، ا هـ . ونحو هذا كثير في كلام المفسرين وإن فسر بعضهم الآية بغيره .

وعلى التفسير المذكور فالآية تدل على : أن الأظفار كالشعر بالنسبة إلى المحرم ، ولا سيما أنها معطوفة بـ " ثم " على نحر الهدايا ; لأن الله تعالى قال : ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام والمراد بذكر اسمه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام التسمية عند نحر الهدايا والضحايا ، ثم رتب على ذلك قوله : ثم ليقضوا تفثهم فدل على أن الحلق وقص الأظافر ونحو ذلك ينبغي أن يكون بعد النحر كما قال تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن من حلق قبل أن ينحر لا شيء عليه . كما بيناه موضحا في سورة البقرة في الكلام على قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ، ويؤيد التفسير المذكور الدال على ما ذكرنا كلام أهل اللغة .

قال الجوهري في صحاحه : التفث في المناسك : ما كان من نحو قص الأظفار ، والشارب وحلق الرأس ، والعانة ، ورمي الجمار ، ونحر البدن ، وأشباه ذلك . قال أبو عبيدة : ولم يجئ فيه شعر يحتج به انتهى منه .

قال صاحب " القاموس " : التفث محركة في المناسك : الشعث ، وما كان من نحو قص الأظفار ، والشارب ، وحلق العانة ، وغير ذلك . وككتف الشعث والمغبر ، ا هـ .

وقال صاحب " اللسان " : التفث : نتف الشعر وقص الأظفار ، إلخ .

وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره في الكلام على معنى التفث : قال ابن العربي : وهذه اللفظة غريبة لم يجد أهل العربية فيها شعرا ، ولا أحاطوا بها خبرا ، لكني تتبعت التفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال : إنه قص الأظفار وأخذ الشارب ، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح ، ولم يجئ فيه شعر يحتج به . وقال صاحب " العين " : التفث : هو الرمي والحلق ، والتقصير ، والذبح ، وقص الأظفار ، والشارب ، والإبط . وذكر الزجاج والفراء نحوه ، ولا أراهم أخذوه إلا من قول العلماء ، وقال قطرب : تفث الرجل : إذا كثر وسخه . قال أمية بن أبي الصلت :

[ ص: 49 ]

حلقوا رءوسهم لم يحلقوا تفثا ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا

وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب عن مالك ، وهو الصحيح في التفث ، وهذه صورة إلقاء التفث لغة ، إلى أن قال : قلت : ما حكاه عن قطرب ، وذكر من الشعر قد ذكره في تفسيره الماوردي ، وذكر بيتا آخر فقال : قضوا تفثا ونحبا ثم ساروا إلى نجد وما انتظروا عليا

وقال الثعلبي : وأصل التفث في اللغة : الوسخ ، تقول العرب للرجل تستقذره : ما أتفثك أي : ما أوسخك وأقذرك .

قال أمية بن أبي الصلت :

ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا


انتهى من القرطبي .

والظاهر أن قوله : ساخين آباطهم . . البيت ، من قولهم : سخا يسخو سخوا إذا سكن من حركته : يعني : أنهم ساكنون عن الحركة إلى آباطهم بالحلق ، بدليل قوله بعده :

. . . لم يقذفوا تفثا وينزعوا عنهم قملا وصئبانا
الفرع الخامس عشر : قد قدمنا في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه ، ما يمنع المحرم من لبسه من أنواع الملبوس ، وسنذكر في هذا الفرع ما يلزم في ذلك عند الأئمة .

فذهب الشافعي ، وأصحابه : إلى أنه إن لبس شيئا مما قدمنا أنه لا يجوز لبسه مختارا عامدا ، أثم بذلك ، ولزمته المبادرة إلى إزالته ولزمته الفدية ، سواء قصر زمان اللبس أو طال ، لا فرق عندهم في ذلك ، ولا دليل عندهم للزوم الفدية في ذلك ، إلا القياس على حلق الرأس المنصوص عليه في آية الفدية ، واللبس الحرام الموجب للفدية عندهم محمول على ما يعتاد في كل ملبوس ، فلو التحف بقميص أو قباء ، أو ارتدى بهما ، أو ائتزر سراويل : فلا فدية عليه عندهم ; لأنه ليس لبسا له في العادة ، فهو عندهم كمن لفق إزارا من خرق وطبقتها وخاطها : فلا فدية عليه بلا خلاف ، وكذا لو التحف بقميص أو بعباءة أو إزار ونحوها ولفها عليه طاقا أو طاقين ، أو أكثر فلا فدية ، وسواء فعل ذلك في النوم أو اليقظة ، [ ص: 50 ] قاله النووي ، ثم قال : قال أصحابنا : وله أن يتقلد المصحف وحمائل السيف ، وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه ، ويلبس الخاتم ، ولا خلاف في جواز هذا كله ، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا ، وبه قال العلماء كافة ، إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه فكرههما ، وبه قال نافع مولاه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ما ذكره النووي - رحمه الله - من كون جواز شد المنطقة والهميان في وسطه ، هو قول العلماء كافة ، إلا ابن عمر في أصح الروايتين - فيه نظر ، فإن مذهب مالك ، وأصحابه : منع شد المنطقة والهميان ، فوق الإزار مطلقا ، وتجب به الفدية عندهم . أما شد المنطقة مباشرة للجلد تحت الإزار ، فهو جائز عندهم ، بشرط كونه يريد بذلك حفظ نفقته ، فلا يجوز إلا تحت الإزار ، لضرورة حفظ النفقة خاصة ، وإلا فتجب الفدية ، وشد المنطقة لغير النفقة تجب به الفدية أيضا ، عند أحمد . والهميان قريب مما تسميه العامة اليوم : بالكمر .

قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره عاطفا على ما يجوز للمحرم : وشد منطقة لنفقته على جلده . قال ابن فرحون في " شرح ابن الحاجب " : المنطقة : الهميان ، وهو مثل الكيس تجعل فيه الدراهم ، ا هـ .

وروى البيهقي بإسناده عن عائشة : أنه لا بأس بشد المنطقة لحفظ النفقة ، وما في " المغني " من رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه نظر ، والظاهر أنه من قول ابن عباس ، والمرفوع عند الطبراني وفي إسناده يوسف بن خالد السمتي ، وهو ضعيف . قاله في : " مجمع الزوائد " ، وقال في : " التقريب " في يوسف المذكور : تركوه ، وكذبوه .

وإذا علمت مما مر أن اللبس الحرام على المحرم ، تجب به الفدية عند الشافعية ، وأنه لا فرق عندهم بين اللحظة والزمن الطويل ، فاعلم أن الأصح عندهم ، وبه جزم الأكثرون : أن اللازم في ذلك هو فدية الأذى المذكورة في آية الفدية . ودليلهم القياس كما تقدم ، ولهم طريقان غير هذا في المسألة إحداهما ، وذكرها أبو علي الطبري في الإيضاح ، وآخرون من العراقيين أن في المسألة قولين :

أحدهما : أنه كالمتمتع ، فيلزمه ما استيسر من الهدي فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ، كما هو معلوم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:28 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (349)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 51 إلى صـ 58




والقول الثاني : أنه يلزمه الهدي فإن لم يجده قومه دراهم ، وقوم الدراهم طعاما ، ثم [ ص: 51 ] يصوم عن كل مد يوما .

الطريق الثانية : هي أن في المسألة عندهم أربعة أوجه ، أصحها أنه كالحلق لاشتراكهما في الترفه .

والثاني : أنه مخير بين شاة ، وبين تقويمها ، ويخرج قيمتها طعاما ، ويصوم عن كل مد يوما .

الثالث : تجب شاة ، فإن عجز عنها ، لزمه الطعام بقيمتها .

والرابع : أنه كالمتمتع . انتهى من النووي .

وقد علمت أن الصحيح عند الشافعية : أن اللبس الحرام تلزم فيه فدية الأذى ، وهذا حاصل مذهب الشافعي ، وأصحابه في المسألة ، ومذهب أحمد وأصحابه : أن الفدية تجب بقليل اللبس وكثيره كمذهب الشافعي . ويجوز عند الشافعي ، وأصحابه : للرجل المحرم ستر وجهه ، ولا فدية عليه ، بخلاف البياض الذي وراء الآذان .

قال النووي : وبه قال جمهور العلماء : يعني جواز ستر المحرم وجهه ، وقال أبو حنيفة ومالك : لا يجوز كرأسه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا القول الأخير أرجح عندي كما تقدم ; لأن في صحيح مسلم في المحرم الذي خر من بعيره ، فمات : " لا ولا تخمروا وجهه ولا رأسه " وقد قدمنا أن العلة كونه يبعث ملبيا .

فدل هذا الحديث الصحيح على أن إحرام الرجل مانع من ستر وجهه ، وما أول به الشافعية وغيرهم الحديث المذكور ، ليس بمقنع فلا يجوز العدول عن ظاهر الحديث إليه ، ولا عبرة بالأجلاء الذين خالفوا ظاهره ; لأن السنة أولى بالاتباع ، والآثار التي رووها عن عثمان ، وزيد بن ثابت ، ومروان بن الحكم ، لا يعارض بها المرفوع الصحيح ، والله أعلم .

والظاهر لنا : أن ما يروى عن أبي حنيفة والثوري وسعد بن أبي وقاص : من جواز لبس المحرمة القفازين - خلاف الصواب لما قدمنا من حديث ابن عمر الثابت في الصحيح ، وفيه : " ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفازين " الحديث . ولم يثبت شيء صحيح من كتاب أو سنة يخالفه ، وما قاله بعض أهل العلم من الحنابلة وغيرهم ، من النهي عن لبس المرأة الخلخال والسوار خلاف الصواب ، والظاهر : جواز ذلك : ولا دليل يمنع منه ، والله أعلم .

[ ص: 52 ] أما لبس الرجل القفازين ، فلم يخالف في منعه أحد ، وعند الشافعية : إذا طلى المحرم رأسه بطين ، أو حناء أو مرهم ونحو ذلك ، فإن كان رقيقا لا يستر فلا فدية ، وإن كان ثخينا ساترا فوجهان ، أصحهما : وجوب الفدية .

والثاني : لا تجب لأن ذلك لا يعد ساترا ولو توسد وسادة ، أو وضع يده على رأسه ، أو انغمس في ماء أو استظل بمحمل ، أو هودج ، فذلك عند الشافعية : جائز ، ولا شيء فيه ، سواء مس المحمل رأسه أم لا ، وفيه قول ضعيف : أنه إن مس المحمل رأسه ، وجبت الفدية .

وضابط ما تجب به الفدية عندهم هو : أن يستر من رأسه قدرا يقصد ستره ، لغرض كشد عصابة وإلصاق لصوق لشجة ونحوها ، والصحيح عندهم : أنه إن شد خيطا على رأسه لم يضره ، ولا فدية عليه ، ولو جرح المحرم فشد على جرحه خرقة ، فإن كان الجرح في غير الرأس فلا فدية ، وإن كان في الرأس ، لزمته الفدية ولا إثم عليه .

وقد قدمنا أن إحرام المرأة في وجهها فلا يجوز لها ستره بما يعد ساترا ، ولها ستر وجهها عن الرجال ، والأظهر في ذلك : أن تسدل الثوب على وجهها متجافيا عنه لا لاصقا به ، والله أعلم .

ويجوز عند الشافعية : أن يعقد الإزار ويشد عليه خيطان ، وأن يجعل له مثل الحجزة ، ويدخل فيها التكة ; لأن ذلك من مصلحة الإزار ، لا يستمسك إلا بنحو ذلك ، وقيل : لا يجوز له جعل حجزة في الإزار ، وإدخال التكة فيها ; لأنه حينئذ يصير كالسراويل ، والصحيح عندهم الأول ، والأخير ضعيف عندهم ، وكذلك القول بمنع عقد الإزار ضعيف عندهم . أما عقد الرداء فهو حرام عندهم ، وكذلك عندهم خله بخلال ، وربط طرفه إلى طرفه الآخر بخيط ، كل ذلك لا يجوز عندهم ، وفيه الفدية ، وفيه خلاف ضعيف عندهم . ووجه تفريقهم بين الإزار والرداء أن الإزار يحتاج إلى العقد ، بخلاف الرداء ، ولو حمل المحرم على رأسه زنبيلا ، أو حملا ، ففي ذلك عند الشافعية طريقان أصحهما : أن ذلك جائز ، ولا فدية فيه ; لأنه لا يقصد به الستر كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في متاع ، ا هـ .

ومذهب الإمام أحمد في جواز عقد الإزار ، ومنع عقد الرداء كمذهب الشافعي . ويجوز عند الإمام أحمد أن يشد في وسطه منديلا أو عمامة أو حبلا ونحو ذلك ، إذا لم يعقده فإن عقده منع ذلك عنده ، وإنما يجوز إذا أدخل بعض ذلك الذي شد على وسطه في بعضه .

[ ص: 53 ] قال في " المغني " : قال أحمد في محرم حزم عمامة على وسطه لا تعقدها ، ويدخل بعضها في بعض ، ثم قال : قال طاوس : رأيت ابن عمر يطوف بالبيت ، وعليه عمامة قد شدها على وسطه ، فأدخلها هكذا . وقد قدمنا أن مثل هذا يجوز عند المالكية لضرورة العمل خاصة ، ثم قال في " المغني " : ولا يجوز أن يشق أسفل ردائه نصفين ، ويعقد كل نصف على ساق ; لأنه يشبه السراويل ، انتهى من " المغني " . وفيه عند الشافعية وجهان ، أصحهما : المنع ، ولزوم الفدية ; لأنه كالسراويل ، كما قال صاحب " المغني " .

والوجه الثاني :

لا فدية في ذلك ، وهو ضعيف ، ا هـ .

وأظهر قولي أهل العلم عندي : أن لبس الخف المقطوع ، مع وجود النعل تلزم به الفدية . والله أعلم .

ومذهب مالك وأصحابه في هذه المسألة : هو أن المحرم إن لبس ما يحرم عليه لبسه لزمته فدية الأذى ، ويستوي عندهم : الخياطة والعقد والتزرر والتخلل والنسخ على هيئة المخيط ، ولكن بشرط أن ينتفع بذلك اللبس ، من حر ، أو برد ، أو يطول زمنه كيوم كامل ; لأن ذلك مظنة انتفاعه به من حر أو برد . أما إذا لبس المحرم ما يحرم عليه لبسه ، ولم ينتفع بلبسه من حر أو برد ، ولم يدم لبسه له يوما كاملا ، فلا فدية عليه عندهم ، ومشهور مذهب مالك : أن للمحرم أن يشد في وسطه الحزام ; لأجل العمل خاصة ، ولا يعقده ، وأن له أن يستثفر عند الركوب والنزول . وعنه في الاستثفار للركوب والنزول قول بالكراهة ولا فدية فيه على كل حال . والاستثفار : شد الفرج بخرقة عريضة ويوثق طرفاها إلى شيء مشدود على الوسط ، وهو مأخوذ من ثفر الدابة ، الذي يجعل تحت ذنبها ، أو من ثفر الدابة بمعنى : فرجها ، ومنه قول الأخطل :

جزى الله عنا الأعورين ملامة وفروة ثفر الثورة المتضاجم

فقوله : ثفر الثورة يعني : فرج البقرة ، وهو بدل من فروة ، والمتضاجم المائل وهو مخفوض بالمجاورة ; لأنه صفة للثفر ، وهو منصوب . وفروة : اسم رجل جعله في الخبث ، والحقارة كأنه فرج بقرة مائل .

وستر المحرم وجهه عند المالكية ، كستر رأسه : تلزم فيه الفدية ، إن ستر ذلك بما يعد ساترا كالمخيط ، ويدخل في ذلك ما لو ستره بطين أو جلد حيوان يسلخ ، فيلبس ، ولا يمنع عندهم لبس المخيط ، إذا استعمل استعمال غير المخيط ، كأن يجعل القميص إزارا أو رداء ; لأنه إذا ارتدى بالقميص مثلا ، لم يدخل فيه [ ص: 54 ] حتى يحيط به ; لأنه استعمله استعمال الرداء ، ولا بأس عندهم باتقاء الشمس أو الريح باليد يجعلها على رأسه أو وجهه . وله وضع يده على أنفه من غبار ، أو جيفة مر بها . ويستحب ذلك له عندهم ، إن مر على طيب وتلزم عندهم الفدية بلبس القباء ، وإن لم يدخل يده في كمه ، وحمله بعضهم على ما إذا أدخل فيه منكبيه ، وأطلقه بعضهم . ولا يجوز عندهم أن يظلل المحرم على رأسه ، أو وجهه بعصا فيها ثوب فإن فعل افتدى ، وفيه قول عندهم : بعد لزوم الفدية ، وهو الحق . والحديث الذي قدمنا في التظليل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوب يقيه الحر ، وهو يرمي جمرة العقبة : يدل على ذلك ، وعلى أنه جائز ، فالسنة أولى بالاتباع ، وأجاز المالكية للمحرم أن يرفع فوق رأسه شيئا يقيه من المطر .

واختلفوا في رفعه فوقه شيئا يقيه من البرد . والأظهر الجواز ، والله أعلم . لدخوله في معنى الحديث المذكور ، إذ لا فرق بين الأذى من البرد والحر والمطر ، والله أعلم . وبعضهم يقول : إن الفدية المذكورة مندوبة لا واجبة . وما يذكره المالكية ، من أن من لم يجد الإزار ، يكره له لبس السراويل أو يمنع وأن ذلك تلزم فيه الفدية - خلاف التحقيق للحديث المتقدم ، الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - " ومن لم يجد إزارا فليلبس السراويل " وهو حديث صحيح كما تقدم . وظاهره أن من لم يجد إزارا ، فله لبس السراويل من غير إثم ولا فدية ، إذ لو كانت الفدية تلزمه لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه ، ولا خلاف بين أهل العلم في الاستظلال بالخباء ، والقبة المضروبة والفسطاط والشجرة ، وأن يرمي عليها ثوبا . وعن مالك منع إلقاء الثوب على الشجرة ، وأجازه عبد الملك بن الماجشون قياسا على الخيمة ، وهو الأظهر .

واعلم : أن الاستظلال بالثوب على العصا عندهم إذا فعله وهو سائر لا خلاف في منعه ، ولزوم الفدية فيه ، وإن فعله وهو نازل ففيه خلاف عندهم أشرنا له قريبا . والحق : الجواز مطلقا للحديث المذكور ; لأن ما ثبتت فيه سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز العدول عنه إلى رأي مجتهد من المجتهدين ، ولو بلغ ما بلغ من العلم والعدالة ; لأن سنته - صلى الله عليه وسلم - حجة على كل أحد ، وليس قول أحد حجة على سنته - صلى الله عليه وسلم - وقد صح على الأئمة الأربعة - رحمهم الله - أنهم كلهم قالوا : إذا وجدتم قولي يخالف كتابا أو سنة ، فاضربوا بقولي الحائط ، واتبعوا الكتاب والسنة . وقد قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : وحدثني سلمة بن شبيب ، حدثنا الحسن بن أعين ، حدثنا معقل ، عن زيد بن أبي أنيسة ، عن يحيى بن حصين ، عن جدته أم الحصين قال : سمعتها تقول : حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 55 ] حجة الوداع ، فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف ، وهو على راحلته ، ومعه بلال ، وأسامة أحدهما يقود به راحلته ، والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشمس . الحديث . وفي لفظ لمسلم ، عن أم الحصين : فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر رافع ثوبه ، يستره من الحر ، حتى رمى جمرة العقبة . انتهى محل الغرض من صحيح مسلم ، وهو نص صحيح صريح في جواز استظلال المحرم الراكب بثوب مرفوع فوقه يقيه حر الشمس . والنازل أحرى بهذا الحكم ، عند المالكية من الراكب ، وهذا الحديث الصحيح المرفوع لا يعارض بما روي من فعل عمر وقول ابنه عبد الله - رضي الله عنهما - موقوفا عليهما ، ولا بحديث جابر الضعيف في منع استظلال المحرم ، والعلم عند الله تعالى .

ويجوز عند المالكية : حمل المحرم زاده على رأسه في خرج أو جراب إن كان فقيرا تدعوه الحاجة إلى ذلك ، أما إن كان ذلك لبخله بأجرة الحمل ، وهو غني ، أو لأجل تجارة بالمحمول ، فلا يجوز ، وتلزم به الفدية عندهم ، ويجوز عندهم إبدال ثوبه الذي أحرم فيه بثوب آخر ، ويجوز عندهم بيعه ، ولو قصد بذلك الاستراحة من الهوام التي فيه ، إلا أن ينقل الهوام من جسده ، أو ثوبه الذي عليه إلى الثوب الذي يريد طرحه فيكون ذلك كطرحه لها . قاله صاحب الطراز ، ويكره للمحرم عند المالكية غسل ثوبه الذي أحرم فيه ، إلا لنجاسة فيه ، فيجوز غسله بالماء فقط ، وقال بعضهم : يجوز غسله بالماء أيضا ، لأجل الوسخ ، فلا يختص الجواز بالنجاسة ; لأن الوسخ مبيح لغسله بالماء على هذا القول ، ولا يجوز للمحرم عندهم أن يغسل ثوب غيره خوف أن يقتل بغسله إياه بعض الدواب التي في الثوب . وقال بعضهم : فإن فعل افتدى . والظاهر أن محل ذلك فيما إذا لم يعلم أن الثوب ليس فيه شيء من الدواب ، فإن علم ذلك ، فلا بأس بغسله ، ولا شيء فيه إن كان ذلك لنجاسة أو وسخ والله تعالى أعلم . ويجوز عندهم : أن يعصب المحرم على جرحه خرقا ، وتلزمه الفدية بذلك . وقال التونسي : وفي المدونة : صغير خرق التعصيب والربط ككبيرها ، وروى محمد : رقعة قدر الدرهم كبيرة فيها الفدية . وظاهر قول خليل في مختصره المالكي : أو لصق خرقة كدرهم - أن الخرقة التي هي أصغر من الدرهم لا شيء فيها . وقال شارحه الحطاب : انظر إذا كان به جروح متعددة ، وألصق على كل واحد منها خرقة ، دون الدرهم ، والمجموع كدرهم ، أو أكثر . وظاهر ما في التوضيح ، وابن الحاجب : أنه لا شيء عليه . انتهى . وسمع ابن [ ص: 56 ] القاسم : لا بأس ، ولا فدية في جعل فرجه في خرقة عند النوم ، فإن لفها على ذكره لبول ، أو مذي افتدى . انتهى بواسطة نقل المواق . ولا يجوز للمحرم عندهم : أن يجعل القطن في أذنيه ، فإن فعل افتدى ; لأن كشف الأذن واجب في الإحرام ، فلا يجوز تغطيتها بالقطن ، وكذلك لو جعل على صدغه قرطاسا تلزمه الفدية عندهم ، سواء كان ذلك لعذر أو لغير عذر ، ولا يجوز عندهم عصب رأسه بعصابة ، فإن فعل افتدى .

ويكره عندهم لبس المصبوغ بغير طيب ، لمن يقتدي به خاصة دون غيره ، إذا كان لون الصبغ يشبه لون صبغ الطيب : ويكره عندهم : شد نفقته بعضده أو فخذه أو ساقه ، ولا فدية عليه في ذلك ، وإن شد عضده ، أو ساقه ، أو فخذه بما يحيط به لغير نفقة أو لنفقة غيره افتدى . وإن شد نفقته ، وجعل معها نفقة لغيره فلا بأس ، فإن فرغت نفقته ألقى المنطقة ونحوها مما كان يشده لحفظها ورد نفقة غيره إلى ربها فورا ، وإن ترك ردها إليه افتدى ، وإن ذهب صاحبها ، وهو عالم افتدى ، وإن لم يعلم فلا شيء عليه . انتهى من المواق . ويكره عند المالكية : كب المحرم وجهه على الوسادة ، وبعضهم يقول : بكراهة ذلك مطلقا للمحرم وغيره . وهو الأظهر ، ويكره عندهم غمس رأسه في الماء ، وإن فعل ذلك أطعم شيئا ، قاله مالك في المدونة ونقلناه بواسطة نقل المواق والحطاب .

وعن بعضهم : أن إطعام الشيء المذكور مستحب لا واجب ، وهذا في حق من له شعر يكون فيه القمل . أما من لا شعر له ، ولا يكون فيه القمل فلا يكره غمس رأسه في الماء ، ولا شيء عليه فيه ، قاله اللخمي ، وصاحب الطراز . انتهى بواسطة نقل الحطاب . وغسل الرأس لجنابة : لا خلاف فيه . أما غسله لغير جنابة بل للتبرد ونحوه : ففيه عندهم قولان : بالجواز ، والكراهة ، والجواز أظهر ، والله تعالى أعلم .

ومذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أنه إن لبس اللبس الحرام ، ويدخل فيه تغطية الرأس ، كما تقدم ، لا يلزمه بذلك دم ، إلا إذا لبسه يوما كاملا ; لأن اليوم الكامل مظنة الانتفاع باللبس ، من حر أو برد ، وعن أبي يوسف : أنه إذا لبس أكثر من نصف يوم ، فعليه دم وهو قول أبي حنيفة الأول ، وعن محمد : أنه إن لبسه في بعض اليوم يجب عليه من الدم بحسابه ، ا هـ . هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة وصاحبيه في هذه المسألة .

وقد قدمنا مرارا أن مثل ذلك إن كان فعله لعذر ففيه عندهم فدية الأذى ، وإن كان لغير عذر ، ففيه الدم ، والعلم عند الله تعالى .

والظاهر : أن اختلافهم في القدر الذي تلزم به الفدية في اللبس الحرام من نوع [ ص: 57 ] الاختلاف في تحقيق المناط ، والله تعالى أعلم . ولو ارتدى بالقميص أو اتشح به ، أو اتزر بالسراويل ، فلا بأس ، ولا يلزمه شيء عند الحنفية ، كما قدمنا عن غيرهم ، وكذلك لو أدخل منكبيه في القباء ، ولم يدخل يديه في الكمين ، فلا شيء عليه عندهم خلافا لزفر ، وقد بينا حكم ذلك عند غيرهم . وعن أبي حنيفة : تغطية ربع الرأس كتغطية جميعه ، وعن أبي يوسف : أنه يعتبر في ذلك الأكثر ودوام لبس المخيط عندهم بعد الإحرام كابتدائه ، وهو كذلك عند غيرهم أيضا .

واعلم أن النووي قال في " شرح المهذب " : وله - يعني المحرم - أن يتقلد المصحف وحمائل السيف وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه ، ويلبس الخاتم ، ولا خلاف في جواز هذا كله ، وهذا الذي ذكرناه في المنطقة والهميان مذهبنا ، وبه قال العلماء كافة إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه ، فكرههما وبه قال نافع مولاه .

وقد علمت أنا ناقشناه في كلامه وبينا : أن مالكا وأصحابه لا يجيزون شد المنطقة والهميان ، إلا تحت الإزار مباشرا جلده لخصوص النفقة ، وأن شد الهميان فوق الإزار فيه عندهم الفدية مطلقا ، وكذلك تحت الإزار لغير حفظ النفقة ، وأن الإمام أحمد تلزم عنده الفدية في شد المنطقة لغير حفظ النفقة : أي ولو كان لوجع بظهره ، وسنتمم الكلام هنا . أما ما ذكره من أن لبس الخاتم لا خلاف في جوازه للمحرم ، ففيه نظر أيضا ; لأن بعض العلماء يقول بمنع لبس المحرم الخاتم والخلاف في جواز لبسه ومنعه معروف في مذهب مالك .

قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل في مختصره : مشبها على ما لا يجوز لبسه للمحرم كخاتم ، ما نصه : قال ابن الحاجب : وفي الخاتم قولان ، فحملهما في التوضيح على الجواز والمنع . وقال اللخمي وابن رشد : المعروف من قول مالك منعه ; لأنه أشبه بالإحاطة بالإصبع المحيط ، وفي مختصر ما ليس في المختصر : لا بأس به . إلى أن قال : فالذي يظهر أن القائل بالمنع يقول : بالفدية ، والقائل بالجواز يقول بسقوط الفدية . انتهى منه .

ثم قال : تنبيه : وهذا في حق الرجل ، وأما المرأة فيجوز لها لبس الخاتم ، ا هـ .

وبما ذكرنا تعلم أن قول النووي : ولا خلاف في جواز هذا كله - فيه نظر ، وأما تقلد حمائل السيف فعند المالكية إن كان لعذر يلجئه إلى ذلك فهو جائز له ، ولا فدية فيه ، فإن تقلده لغير حاجة فقد قال ابن المواز عن مالك : ينزعه ولا فدية عليه انتهى بواسطة نقل [ ص: 58 ] المواق في كلامه على قول خليل في مختصره ، ولا فدية في سيف ، ولو بلا عذر ، ا هـ . وظاهر قوله : ينزعه ، أنه لا يجوز تقلد السيف اختيارا عنده كما ترى ، والعلم عند الله تعالى . وظاهر مذهب الإمام أحمد : أنه لا يجوز للمحرم ، أن يتقلد السيف إلا لضرورة ، وقال الخرقي : ويتقلد بالسيف عند الضرورة ، وقال في " المغني " في شرحه لكلام الخرقي : فأما من غير خوف ، فإن أحمد قال : لا إلا من ضرورة . انتهى محل الغرض منه .

وقال البخاري في صحيحه في كتاب " الحج " : باب لبس السلاح للمحرم ، وقال عكرمة : إذا خشي العدو لبس السلاح وافتدى ، ولم يتابع عليه في الفدية .

حدثنا عبيد الله ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء - رضي الله عنه - " اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة ، حتى قاضاهم لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب " انتهى منه .

وقوله : ولم يتابع عليه في الفدية ، يدل على أنه توبع في لبس السلاح للضرورة ; لأن معنى قاضاهم لا يدخل مكة سلاحا إلا في القراب ، أنه صالح كفار مكة صلح الحديبية ، أنه إن دخل معتمرا عام سبع في ذي القعدة ، لا يدخل مكة السيوف إلا في أغمادها ، والقراب غمد السيف ، فدل ذلك على جواز دخول المحرم متقلدا سيفه للخوف من العدو .

وقال البخاري في صحيحه في باب عمرة القضاء : حدثني عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن البراء - رضي الله عنه - قال : " لما اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذي القعدة ، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة ، حتى قضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام " الحديث بطوله ، وفيه : " فكتب : هذا ما قاضى محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخل مكة السلاح إلا السيف في القراب " الحديث . وفي لفظ للبخاري في كتاب الصلح : " لا يدخل مكة سلاح إلا في القراب " وفي لفظ له في كتاب الصلح أيضا : " ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح " فسألوه : ما جلبان السلاح ؟ فقال : " القراب بما فيه " والجلبان بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة بعدها ألف ثم نون : هو قراب السيف ويطلق على أوعية السلاح ، ويروى بتسكين اللام ، وتخفيف الباء ، وهو شبه الجراب من الأدم يوضع فيه السيف مغمودا .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-08-29, 11:33 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (350)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 59 إلى صـ 66





وقال صاحب " اللسان " : والقراب غمد السيف والسكين ونحوهما وجمعه قرب أي : بضمتين ، وفي صحاح الجوهري : قراب السيف : جفنه وهو وعاء يكون فيه السيف بغمده ، وحمالته ، ا هـ والقراب ككتاب ، ومن جمعه على قرب بضمتين قوله : [ ص: 59 ]

يا ربة البيت قومي غير صاغرة ضمي إليك رحال القوم والقربا


يعني : ضمي إليك رحالهم وسلاحهم ، في أوعيته .

وبهذه الأحاديث : استدل بعض أهل العلم على أن الصحابة دخلوا مكة محرمين عام سبع وهم متقلدو سيوفهم في أغمادها ، وأن ذلك لعلة خوفهم من المشركين ; لأن الكفار لا يوثق بعهودهم .

وقد علمت أن بعض أهل العلم قال : إن ذلك لا يجوز إلا لضرورة ، والله تعالى أعلم .

وللمخالف أن يقول : إن الأحاديث المذكورة ليس فيها التصريح بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه تقلدوها . ويمكن أن يكونوا حملوا السلاح معهم في رحالهم في أوعيته من غير أن يتقلدوه ، وعلى هذا الاحتمال ، فلا حجة في الأحاديث على تقلد المحرم حمائل السيف ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السادس عشر : قد بينا في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه أنه يمنع من الطيب ، وسنذكر إن شاء الله في هذا الفرع ما يلزم في ذلك .

اعلم : أن الأئمة الثلاثة مالكا ، والشافعي ، وأحمد لا فرق عندهم بين أن يطيب جسده كله أو عضوا منه ، أو أقل من عضو ، فكل ذلك عندهم إن فعله قصدا يأثم به ، وتلزمه الفدية .

وقال أبو حنيفة : لا تجب عليه الفدية إلا إذا طيب عضوا كاملا ، مثل الرأس ، والفخذ ، والساق ، فإن طيب أقل من عضو فعليه الصدقة ، وهي عندهم نصف صاع من بر أو صاع من غيره ، كتمر وشعير . وقد قدمنا مرارا أن مذهب أبي حنيفة : أنه إن فعل المحظور ، كاللباس ، والتطيب ، لا لعذر ، فعليه دم ، وتجزئه شاة وإن فعله لعذر فعليه فدية الأذى المذكورة في آية الفدية ، على التخيير ، وإن أكل المحرم طيبا كثيرا : لزمه الدم عند أبي حنيفة ، وقال صاحباه محمد وأبو يوسف : تجب في ذلك الصدقة ، وعن محمد : أنه إن طيب أقل من عضو لزمه بحسبه من الدم فإن طيب ثلث العضو ، فعليه ثلث دم مثلا ، وهكذا ، وعن بعض الحنفية : أنه إن طيب ربع عضو : لزمه الدم كاملا كحلق ربع الرأس ، فهو عندهم كحلق جميعه . وهذا خلاف المشهور في تطييب بعض العضو عندهم . وظاهر [ ص: 60 ] كلامهم أنه لو جعل طيبا كثيرا على بعض عضو ، فليس عليه إلا الصدقة . وصحح بعض الحنفية : أنه إن كان الطيب قليلا فالعبرة بالعضو ، وإن كان كثيرا فالعبرة بالطيب ، وله وجه من النظر ، وعن بعض الحنفية أن من مس طيبا بإصبعه ، فأصابها كلها فعليه دم . وعن أبي يوسف : إن طيب شاربه كله أو بقدره من لحيته ، أو رأسه فعليه دم ، وعن بعض الحنفية : أنه إن اكتحل بكحل مطيب ، فعليه صدقة ، ومثله الأنف ، فإن فعل ذلك مرارا كثيرة فعليه دم ، وفي مناسك الكرماني : لو طيب جميع أعضائه فعليه دم واحد ، لاتحاد الجنس ، ولو كان الطيب في أعضاء متفرقة يجمع ذلك كله ، فإن بلغ عضوا : فعليه دم ، وإلا فصدقة ، ولو شم طيبا فليس عليه شيء ، وإن دخل بيتا مجمرا ، فليس عليه شيء ، وإن أجمر ثوبه ، فإن تعلق به كثيرا ، فعليه دم ، وإلا فصدقة انتهى من تبيين الحقائق .

وقال بعض الحنفية : إن طيب أعضاءه كلها في مجلس واحد فعليه دم واحد كما تقدم ، وإن كان ذلك في مجلسين مختلفين ، فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، سواء ذبح للأول أو لم يذبح . وقال محمد : إن ذبح للأول ، فكذلك ، وإن لم يذبح فعليه دم واحد ، والاختلاف فيه كاختلاف في الجماع ، ا هـ .

وأظهرها عندي قول محمد : والحناء عندهم طيب ، فلو خضب رأسه بالحناء ، لزمه الدم . واستدلوا بحديث : " الحناء طيب " . قالوا رواه البيهقي . وسيأتي ما يدل على أن البيهقي رواه في " المعرفة " ، وفي إسناده ابن لهيعة ، وهو ضعيف . وقد روى البيهقي عن عائشة مرفوعا ، ما يدل على أن الحناء ليس بطيب ، والعلم عند الله تعالى : هذا حاصل مذهب أبي حنيفة وأصحابه في الطيب للمحرم .

وأما مذهب مالك في الطيب للمحرم فحاصله : أن الطيب عندهم نوعان : مذكر ومؤنث ، أما المذكر فهو ما يظهر ريحه ، ويخفى أثره : كالريحان ، والياسمين ، والورد ، والبنفسج ونحو ذلك . وأما المؤنث : فهو ما يظهر ريحه ، ويبقى أثره : كالمسك والورس والزعفران والكافور والعنبر والعود ونحو ذلك . فأما المذكر فيكره شمه والتطيب به ، ولا فدية في مسه ، والتطيب به ولو غسل يديه بماء الورد ، فلا فدية عليه عندهم في ذلك ; لأنه من الطيب المذكر ، خلافا لابن فرحون في مناسكه ; حيث قال : إن ماء الورد فيه الفدية ; لأن أثره يبقى ، وممن قال : بأن الطيب المذكر لا فدية في استعماله : عثمان بن عفان ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق . وأما ما ينبت في الأرض من النبات الطيب الريح ولا يقصد التطيب به ، كالشيح ، والقيصوم ، والزنجبيل ، والإذخر ، فلا فدية فيه [ ص: 61 ] عندهم ، فهو كريح الفواكه الطيبة كالتفاح والليمون ، والأترج وسائر الفواكه ، وبعض أهل العلم يكره شمه للمحرم ، وإن خضب رأسه أو لحيته بحناء ، أو خضبت المرأة رأسها أو رجليها ، أو طرفت أصابعها بحناء ; فالفدية عندهم واجبة في ذلك . وأما مؤنث الطيب : كالمسك ، والورس ، والزعفران ، فإن التطيب به عندهم حرام ، وفيه الفدية .

ومعنى التطيب بالطيب عندهم : إلصاقه بالثوب ، أو باليد وغيرها من الأعضاء ، ونحو ذلك ، فإن علق به ريح الطيب دون عينه بجلوسه في حانوت عطار ، أو في بيت تجمر ساكنوه ، فلا فدية عليه عندهم مع كراهة تماديه في حانوت العطار أو البيت الذي تجمر ساكنوه ، هذا هو مشهور مذهب مالك . وإن مس الطيب المؤنث افتدى عندهم ، وجد ريحه أو لا ، لصق به أو لا ، ويكره شم الطيب عندهم مطلقا .

وأظهر أقوال علماء المالكية في الثوب المصبوغ بالورس ، والزعفران : إذا تقادم عهده ، وطال زمنه حتى ذهب ريحه بالكلية - أنه مكروه للمحرم ، ما دام لون الصبغ باقيا ولكنه لا فدية فيه لانقطاع ريحه بالكلية .

وأقيس الأقوال : أنه يجوز مطلقا ; لأن الرائحة الطيبة التي منع من أجلها زالت بالكلية ، والعلم عند الله تعالى . وإن اكتحل عندهم بما فيه طيب ، فالفدية ، ولو لضرورة مع الجواز للضرورة وبما لا طيب فيه فهو جائز للضرورة ولغيرها ، فثلاثة أقوال مشهورها : وجوب الفدية على الرجل ، والمرأة معا ، وقيل : لا تجب عليهما ، وقيل : تجب على المرأة دون الرجل .

وحاصل مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة : أن النبات الذي تستطاب رائحته على ثلاثة أضرب :

أحدها : ما لا ينبت للطيب ولا يتخذ منه ، كنبات الصحراء من الشيح ، والقيصوم ، والخزامى والفواكه كلها من الأترج ، والتفاح وغيره ، وما ينبته الآدميون لغير قصد الطيب ، كالحناء والعصفر ، وهذا النوع مباح شمه في مذهب الإمام أحمد ، ولا فدية فيه .

قال في " المغني " : ولا نعلم فيه خلافا إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم : أن يشم شيئا من نبات الأرض من الشيح والقيصوم وغيرهما ، قال : ولا نعلم أحدا أوجب في ذلك شيئا فإنه لا يقصد للطيب ، ولا يتخذ منه فأشبه سائر نبات الأرض . وقد روي أن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كن يحرمن في المعصفرات .

[ ص: 62 ] النوع الثاني : ما ينبته الآدميون للطيب ، ولا يتخذ منه طيب ، كالريحان ، والنرجس ، ونحو ذلك وفي هذا النوع للحنابلة وجهان .

أحدهما : يباح بغير فدية كالذي قبله .

قال في " المغني " : وبه قال عثمان بن عفان ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وإسحاق .

والوجه الثاني : يحرم شمه ، فإن فعل فعليه الفدية .

قال في " المغني " : وهو قول جابر ، وابن عمر ، والشافعي ، وأبي ثور ; لأنه يتخذ للطيب فأشبه الورد . وكرهه مالك ، وأصحاب الرأي ، ولم يوجبوا فيه شيئا ، وكلام أحمد فيه محتمل لهذا ، فإنه قال في الريحان : ليس من آلة المحرم ، ولم يذكر فديته ، وذلك لأنه لا يتخذ منه طيب ، فأشبه العصفر . انتهى من " المغني " .

والنوع الثالث عندهم : هو ما ينبت للطيب ، ويتخذ منه طيب كالورد والبنفسج والياسمين ، ونحو ذلك . وهذا النوع إذا استعمله ، وشمه ففيه الفدية عندهم ; لأن الفدية تجب فيما يتخذ منه ، فكذلك في أصله . وعن أحمد رواية أخرى في الورد : أنه لا فدية عليه في شمه ; لأنه زهر كزهر سائر الشجر .

قال في " المغني " : وذكر أبو الخطاب في هذا ، والذي قبله روايتين ، والأولى تحريمه ; لأنه ينبت للطيب ، ويتخذ منه ، فأشبه الزعفران والعنبر . قال القاضي : يقال : إن العنبر ثمر شجر وكذلك الكافور . انتهى من " المغني " .

وقال في " المغني " أيضا : فكل ما صبغ بزعفران ، أو ورس ، أو غمس في ماء ورد ، أو بخر بعود ، فليس للمحرم لبسه ولا الجلوس عليه ، ولا النوم عليه نص أحمد عليه ، وذلك لأنه استعمال له ، فأشبه لبسه ، ومتى لبسه أو استعمله ، فعليه الفدية . وبذلك قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن كان رطبا يلي بدنه أو يابسا ينفض فعليه الفدية ، وإلا فلا ; [ ص: 63 ] لأنه ليس بمتطيب ، ثم قال صاحب " المغني " : وإن انقطعت رائحة الثوب ؛ لطول الزمن عليه أو لكونه صبغ بغيره فغلب عليه بحيث لا يفوح له رائحة إذا رش فيه الماء ، فلا بأس باستعماله لزوال الطيب منه . وبهذا قال سعيد بن المسيب ، والحسن ، والنخعي ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي . وروي ذلك عن عطاء ، وطاوس ، وكره ذلك مالك ، إلا أن يغسل ، ويذهب لونه ; لأن عين الزعفران ونحوه فيه . ثم قال : فأما إن لم يكن له رائحة في الحال لكن كان بحيث إذا رش فيه الماء فاح ريحه ، ففيه الفدية ; لأنه متطيب بدليل أن رائحته تظهر عند رش الماء فيه . والماء لا رائحة له ، وإنما هي من الصبغ الذي فيه . فأما إن فرش فوق الثوب ثوبا صفيقا يمنع الرائحة والمباشرة : فلا فدية عليه بالجلوس ، والنوم عليه ، وإن كان الحائل بينهما ثياب بدنه ففيه الفدية ; لأنه يمنع من استعمال الطيب في الثوب الذي عليه كمنعه من استعماله في بدنه . انتهى من " المغني " .

وأما العصفر : فليس عندهم بطيب ، ولا بأس باستعماله ، وشمه ، ولا بما صبغ به .

قال في " المغني " : وهذا قول جابر ، وابن عمر ، وعبد الله بن جعفر ، وعقيل بن أبي طالب ، وهو مذهب الشافعي ، وعن عائشة وأسماء ، وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنهن كن يحرمن في المعصفرات " ، ومنع منه الثوري ، وأبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن وشبهوه بالورس ، والمزعفر ; لأنه صبغ طيب الرائحة فأشبه ذلك ، ا هـ .

والأظهر : أن العصفر ليس بطيب مع أنه لا يجوز لبس المحرم ولا غيره للمعصفر ، وقد قدمنا فيه حديث ابن عمر ، عند أبي داود " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس والزعفران من الثياب ، وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر أو خز " الحديث ، وهو صريح في أن العصفر : ليس بطيب . وقد قدمنا الكلام على هذا الحديث .

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحناء ، وهن محرمات ، ويلبسن المعصفر وهن محرمات " .

وقال في " مجمع الزوائد " : رواه الطبراني في الكبير ، وفيه يعقوب بن عطاء ، وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة ، ا هـ . وسيأتي ما يدل على منع لبس المعصفر مطلقا .

وقال صاحب " المغني " أيضا : ولا بأس بالمصبوغ بالمغرة ; لأنه مصبوغ بطين لا بطيب ، وكذلك المصبوغ بسائر الأصباغ ، سوى ما ذكرنا ; لأن الأصل الإباحة ، إلا [ ص: 64 ] ما ورد الشرع بتحريمه ، وما كان في معناه ، وليس هذا كذلك ، وأما المصبوغ بالرياحين : فهو مبني على الرياحين في نفسها ، فما منع المحرم من استعماله منع من لبس المصبوغ به إذا ظهرت رائحته ، وإلا فلا ، وهذا الذي ذكرنا هو حاصل مذهب الإمام أحمد في الطيب للمحرم ، ولا فرق عنده بين قليل الطيب وكثيره ، ولا بين قليل اللبس وكثيره ، كما تقدم إلا أنه يفرق بين تعمد استعمال الطيب واللبس وبين استعماله لذلك ناسيا ، فإن فعله متعمدا أثم ، وعليه الفدية ، وإزالة الطيب واللباس فورا ، وإن تطيب ، أو لبس ناسيا : فلا فدية عليه ، ويخلع اللباس ، ويغسل الطيب .

قال ابن قدامة في " المغني " : المشهور أن المتطيب ناسيا ، أو جاهلا لا فدية عليه ، وهو مذهب عطاء ، والثوري ، وإسحاق ، وابن المنذر . انتهى محل الغرض منه ، ثم ذكر أن الذي يستوي عمده ونسيانه في لزوم الكفارة ثلاثة أشياء : وهي الجماع ، وقتل الصيد ، وحلق الرأس ، وأن كل ما سوى هذه الثلاثة يفرق فيه بين العمد والنسيان . وذكر أن الإمام أحمد نقل عن سفيان أن الثلاثة المذكورة يستوي عمدها ونسيانها في لزوم الكفارة .

وقال في " المغني " : ويلزمه غسل الطيب ، وخلع اللباس ; لأنه فعل محظورا ، فيلزمه إزالته ، وقطع استدامته كسائر المحظورات ، والمستحب أن يستعين في غسل الطيب بحلال لئلا يباشر المحرم الطيب بنفسه . ويجوز أن يليه بنفسه ، ولا شيء عليه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي رأى عليه طيبا أو خلوقا : " اغسل عنك الطيب " ولأنه تارك له ، فإن لم يجد ما يغسله به ، مسحه بخرقة ، أو حكه بتراب ، أو ورق أو حشيش ; لأن الذي عليه إزالته بحسب القدرة . وهذا نهاية قدرته ثم قال : وإذا احتاج إلى الوضوء ، وغسل الطيب ، ومعه ماء لا يكفي إلا أحدهما : قدم غسل الطيب ويتيمم للحدث ; لأنه لا رخصة في إبقاء الطيب ، وفي ترك الوضوء إلى التيمم رخصة ، فإن قدر على قطع رائحة الطيب بغير الماء فعل وتوضأ ، فإن المقصود من إزالة الطيب قطع رائحته ، فلا يتعين الماء ، والوضوء ، بخلافه انتهى منه . وهذا خلاصة المذهب الحنبلي في مسألة الطيب للمحرم .





ومذهب الشافعي في هذه المسألة : أنه يحرم على الرجل والمرأة استعمال الطيب ، ولا فرق عنده بين القليل والكثير ، واستعمال الطيب عنده : هو أن يلصق الطيب ببدنه ، أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب . فلو طيب جزءا من بدنه بغالية ، أو مسك مسحوق ، أو ماء ورد : لزمته الفدية ، سواء كان الإلصاق بظاهر البدن أو باطنه ، فإن أكله أو احتقن به ، أو استعط ، أو اكتحل أو لطخ به رأسه ، أو وجهه أو غير ذلك من بدنه أثم ، [ ص: 65 ] ولزمته الفدية ، ولا خلاف عندهم في شيء من ذلك ، إلا الحقنة والسعوط ففيهما وجه ضعيف : أنه لا فدية فيهما .

ومشهور مذهب الشافعي : وجوب الفدية فيهما ، ولو لبس ثوبا مبخرا بالطيب ، أو ثوبا مصبوغا بالطيب ، أو علق بنعله طيب ، لزمته الفدية عند الشافعية ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه ، بأن جلس في دكان عطار أو عند الكعبة ، وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه : فلا فدية عليه بلا خلاف ، ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة ، لم يكره ، وإن قصده لاشتمامها ففي كراهته قولان للشافعي ، أصحهما : يكره ، وبه قطع القاضي أبو الطيب وآخرون ، وهو نصه في الإملاء ، والثاني : لا يكره ، وقطع القاضي حسين بالكراهة ، وقال : إنما القولان في وجوب الفدية ، والمذهب الأول ، وبه قطع الأكثرون . قاله : النووي ثم قال : ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه أو ثيابه : لزمته الفدية ، بلا خلاف ; لأنه يعد استعمالا للطيب ، ولو مس طيبا يابسا كالمسك والكافور ، فإن علق بيده لونه وريحه وجبت الفدية ، بلا خلاف ; لأن استعماله هكذا يكون ، وإن لم يعلق بيده شيء من عينه ، لكن عبقت به الرائحة ، ففي وجوب الفدية قولان ، الأصح عند الأكثرين وهو نصه في الأوسط : لا تجب ; لأنها عن مجاورة فأشبه من قعد عند الكعبة ، وهي تبخر ، والثاني : تجب ، وصححه القاضي أبو الطيب ، وهو نصه في الأم والإملاء والقديم ; لأنها عن مباشرة ، وإن ظن أن الطيب يابس فمسه ، فعلق بيده ففي الفدية عند الشافعية قولان أصحهما : لا تجب عليه الفدية ، خلافا لإمام الحرمين .

وأما إن مس الطيب ، وهو عالم بأنه رطب وكان قاصدا مسه ، فعلق بيده ، فعليه فدية عندهم ، ولو شد مسكا أو كافورا ، أو عنبرا في طرف ثوبه أو جبته : وجبت الفدية عندهم قطعا ; لأنه استعمال له ، ولو شد العود فلا فدية ; لأنه لا يعد تطيبا ، بخلاف شد المسك ، ولو شم الورد فقد تطيب عندهم ، بخلاف ما لو شم ماء الورد ، فإنه لا يكون متطيبا عندهم ، بل استعمال ماء الورد عندهم هو أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكا ، أو طيبا غيره في كيس ، أو خرقة مشدودا ، أو قارورة مصممة الرأس ، أو حمل الورد في وعاء : فلا فدية عليه . نص عليه في الأم وقطع به الجمهور : وفيه وجه شاذ : أنه إن كان يشمه قصدا : لزمته الفدية ، ولو حمل مسكا في قارورة غير مشقوقة : فلا فدية في أصح الوجهين .

ولو كانت القارورة مشقوقة ، أو مفتوحة الرأس ، فعن جماعة من الأصحاب [ ص: 66 ] الشافعيين : تجب الفدية ، وخالف الرافعي قائلا : إن ذلك لا يعد تطيبا ، ولو جلس على فراش مطيب أو أرض مطيبة ، أو نام عليها مفضيا إليها ببدنه أو ملبوسه : لزمته الفدية عندهم . ولو فرش فوقه ثوبا ، ثم جلس عليه ، أو نام : لم تجب الفدية . نص عليه الشافعي في الأم . واتفق عليه الأصحاب ، لكن إن كان الثوب رقيقا كره ، وإلا فلا ، ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية ، وإن خفيت رائحة الطيب في الثوب لطول الزمان ، فإن كانت تفوح عند رشه بالماء حرم استعماله ، وإن بقي لون الطيب دون ريحه ، لم يحرم على أصح الوجهين .

ولو صب ماء ورد في ماء كثير ، حتى ذهب ريحه ولونه : لم تجب الفدية باستعماله في أصح الوجهين . فلو ذهبت الرائحة ، وبقي اللون ، أو الطعم فحكمه عندهم حكم من أكل طعاما فيه زعفران أو طيب . وذلك أن الطيب إن استهلك في الطعام ، حتى ذهب لونه ، وريحه وطعمه : فلا فدية . ولا خلاف في ذلك عندهم ، وإن ظهر لونه وطعمه ، وريحه وجبت الفدية ، بلا خلاف ، وإن بقيت الرائحة فقط : وجبت الفدية ; لأنه يعد طيبا ، وإن بقي اللون وحده ، فطريقان مشهوران :

أصحهما : أن فيه قولين الأصح منهما : أنه لا فدية فيه ، وهو نص الشافعي في الأم والإملاء والقديم . الثاني : تجب الفدية ، وهو نصه في الأوسط .

والطريق الثاني : أنه لا فدية فيه قطعا ، وإن بقي الطعم وحده ففيه عندهم ثلاث طرق أصحها : وجوب الفدية قطعا : كالرائحة ، والثاني : فيه طريقان بلزومها وعدمه ، والثالث : لا فدية ، وهذا ضعيف أو غلط . وحكى بعض الشافعية طريقا رابعا : وهو أنه لا فدية قطعا ولو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة الطيب ، واستعمل الطيب : لزمته الفدية عندهم ، بلا خلاف ; لأنه وجد منه استعمال الطيب مع علمه بتحريم الطيب على المحرم فوجبت الفدية ، وإن لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها قال النووي : وممن صرح بهذا المتولي ، وصاحب العدة والبيان ، ا هـ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-10, 11:45 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (351)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 67 إلى صـ 74





قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لزوم الفدية للأخشم الذي لا يجد ريح الطيب ، إذا استعمل الطيب ، مبني على قاعدة هي : أن المعلل بالمظان لا يتخلف بتخلف حكمته ; لأن مناط الحكم مظنة وجود حكمة العلة ، فلو تخلفت في صورة لم يمنع ذلك من لزوم الحكم كمن كان منزله على البحر ، وقطع مسافة القصر في لحظة في سفينة ، فإنه يباح له قصر الصلاة والفطر في رمضان بسفره ، هذا الذي لا مشقة فيه ; لأن الحكم الذي هو الرخصة علق بمظنة المشقة في الغالب ، وهو سفر أربعة برد مثلا والمعلل بالمظان لا تتخلف أحكامه بتخلف حكمها في بعض الصور ، كما عقده بعض أهل العلم بقوله : [ ص: 67 ] إن علل الحكم بعلة غلب وجودها اكتفي بذا عن الطلب لها بكل صورة . . . . . . إلخ

وإيضاحه : أن الغالب كون الإنسان يجد ريح الطيب ، فأنيط الحكم بالأغلب الذي هو وجوده ريح الطيب ، فلو تخلفت الحكمة في الأخشم الذي لا يجد ريح الطيب لم يتخلف الحكم لإناطته بالمظنة ، وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من أمثلتها في غير هذا الموضع .

وقد تقرر في الأصول : أن وجود الحكم مع تخلف حكمته من أنواع القادح المسمى بالكسر ، وقد أشار إلى ذلك صاحب المراقي بقوله في مبحث القوادح :

والكسر قادح ومنه ذكرا تخلف الحكمة عنه من درى

وهذا الذي قررنا في مسألة الأخشم مبني على القول ، بأن الكسر بتخلف الحكمة عن حكمها ، لا يقدح في المعلل بالمظان ، كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم : أن الحكمة في اصطلاح أهل الأصول : هي الفائدة التي صار بسببها الوصف علة للحكم ، فتحريم الخمر مثلا حكم والإسكار هو علة هذا الحكم ، والمحافظة على العقل من الاختلال : هي الحكمة التي من أجلها صار الإسكار علة لتحريم الخمر ، وقد عرف صاحب المراقي الحكمة بقوله :

وهي التي من أجلها الوصف جرى علة حكم عند كل من درى


وعلة الرخصة بقصر الصلاة والإفطار في رمضان : هي السفر ، والحكمة التي صار السفر علة بسببها هي : تخفيف المشقة على المسافر مثلا ، وهكذا .

واعلم : أن علماء الشافعية قالوا : إنه يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه : أن يكون معظم الغرض منه التطيب ، واتخاذ الطيب منه ، أو يظهر فيه هذا الغرض . هذا ضابطه عندهم .

ثم فصلوه فقالوا : الأصل في الطيب : المسك ، والعنبر ، والكافور ، والعود ، والصندل ، والذريرة ، وهذا كله لا خلاف فيه عندهم قالوا : والكافور صنع شجر معروف .

وأما النبات الذي له رائحة فأنواع :

[ ص: 68 ] منها : ما يطلب للتطيب ، واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين ، والخيرى ، والزعفران ، والورس ونحوها ، فكل هذا طيب . وعن الرافعي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيرى : أنها ليست طيبا والمذهب الأول .

ومنها : ما يطلب للأكل والتداوي غالبا ، كالقرنفل والدارصيني ، والفلفل ، والمصصكى ، والسنبل وسائر الفواكه كل هذا وشبهه ليس بطيب ، فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به ، ولا فدية فيه سواء قليله وكثيره ، ولا خلاف عند الشافعية في شيء من هذا إلا القرنفل ، ففيه وجهان عندهم . والصحيح المشهور أنه ليس بطيب عندهم .

ومنها : ما ينبت بنفسه ، ولا يراد للطيب كنور أشجار الفواكه كالتفاح ، والمشمش ، والكمثرى ، والسفرجل ، وكالشيح ، والقيصوم ، وشقائق النعمان والإذخر ، والخزامى ، وسائر أزهار البراري ، فكل هذا ليس بطيب فيجوز أكله وشمه ، وصبغ الثوب به ، ولا فدية فيه ، بلا خلاف .

ومنها : ما يتطيب به ، ولا يتخذ منه الطيب : كالنرجس ، والآس ، وسائر الرياحين وفي هذا النوع عند الشافعية طريقان .

أحدهما : أنه طيب قولا واحدا .

والطريق الثاني : وهو الصحيح المشهور عندهم : أن فيه قولين مشهورين الصحيح منهما ، وهو قوله الجديد : أنه طيب موجب للفدية . القول الثاني وهو القديم : أنه ليس بطيب ، ولا فدية فيه ، ا هـ والحناء والعصفر ليسا بطيب عند الشافعية بلا خلاف على التحقيق ، خلافا لمن زعم خلافا عندهم في الحناء .

واعلم : أن الأدهان عند الشافعية ضربان أحدهما دهن ليس بطيب ، ولا فيه طيب ، كالزيت ، والشيرج ، والسمن ، والزبد ، ودهن الجوز ، واللوز ونحوها . فهذا لا يحرم استعماله في جميع البدن ، ولا فدية فيه ، إلا في الرأس ، واللحية ، فيحرم عندهم استعماله فيهما بلا خلاف ، وفيه : الفدية ; لأنه إزالة للشعث ، إن كان في الرأس واللحية ، فإن كان أصلع لا ينبت الشعر في رأسه فدهن رأسه ، أو أمرد فدهن ذقنه : فلا فدية عندهم في ذلك ، بلا خلاف ، وإن كان محلوق الرأس فدهنه بما ذكر ، ففيه عندهم وجهان : أصحهما : وجوب الفدية بناء على أن الشعر إن نبت جمله ذلك الدهن ، الذي جعل عليه ، وهو محلوق والوجه الثاني : لا فدية ; لأنه لا يزول به شعث . واختاره المزني وغيره ولو كان [ ص: 69 ] برأسه شجة فجعل هذا الدهن في داخلها من غير أن يمس شعر رأسه : فلا فدية ، بلا خلاف ، ولو طلى شعر رأسه ولحيته بلبن جاز : ولا فدية ، وإن كان اللبن يستخرج منه السمن ; لأنه ليس بدهن ولا يحصل به ترجيل الشعر ، والشحم ، والشمع عندهم ، إذا أذيبا كالدهن يحرم على المحرم ترجيل شعره بهما .

الضرب الثاني : دهن هو طيب ، ومنه : دهن الورد ، والمذهب عندهم : وجوب الفدية فيه ، وقيل : فيه وجهان . ومنه : دهن البنفسج ، فعلى القول بأن نفس البنفسج : لا فدية فيه ، فدهنه أولى ، وعلى أن فيه الفدية ، فدهنه كدهن الورد ، والأدهان كثيرة ، وخلاف العلماء فيها من الخلاف في تحقيق المناط كدهن البان والزنبق ، وهو دهن الياسمين والكاذي وهو دهن ، ونبت طيب الرائحة ، والخيرى ، وهو معرب ، وهو نبت طيب الرائحة ويقال للنحاسي : خيري البر ، ومذهب الشافعي : أن الأدهان المذكورة ، ونحوها طيب ، تجب باستعماله الفدية .

واعلم : أن محل وجوب الفدية عند الشافعية في الطيب : إذا كان استعمله عامدا ، فإن كان ناسيا أو ألقته الريح عليه ، لزمته المبادرة بإزالته بما يقطع ريحه ، وكون الأولى أن يستعين في غسله بحلال وتقديمه غسله على الوضوء ، إن لم يكف الماء ، إلا أحدهما عند الشافعية موافق لما قدمنا عن الحنابلة ، بخلاف غسل النجاسة ، فهو مقدم عندهم على غسل الطيب ولو لصق بالمحرم طيب يوجب الفدية ، لزمه المبادرة إلى إزالته فإن أخره عصى ولا تتكرر به الفدية والاكتحال عندهم بما فيه طيب حرام ، فإن احتاج إليه اكتحل به ولزمته الفدية .

وأما الاكتحال بما لا طيب فيه ، فإن كان فيه زينة كره عندهم : كالإثمد ، وإن كان بما لا زينة فيه : كالتوتيا الأبيض فلا كراهة .

وقال النووي بعد أن ذكر الإجماع على تحريم الطيب للمحرم : ومذهبنا أنه لا فرق بين أن يتبخر ، أو يجعله في ثوبه ، أو بدنه ، وسواء كان الثوب مما ينقض الطيب ، أم لم يكن .

قال العبدري : وبه قال أكثر العلماء .

وقال أبو حنيفة : يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود ، والند ، ولا يجوز أن يجعل شيئا من الطيب في بدنه ، ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه ، فإن جعله في باطنه ، وكان الثوب لا [ ص: 70 ] ينقص ، فلا شيء عليه ، وإن كان ينقص لزمته الفدية انتهى منه .

والظاهر المنع مطلقا لصريح الحديث الصحيح في النهي عن ثوب مسه ورس أو زعفران ، وكل هذه الصور يصدق فيها : أنه مسه ورس أو زعفران ، وغيرهما من أنواع الطيب وحكمه كحكمهما ، كما أوضحنا الأحاديث الدالة عليه في أول الكلام في هذه المسألة التي هي مسألة ما يمتنع على المحرم بسبب إحرامه . وكذلك المتبخر بالعود متطيب عرفا ، والأحاديث دالة على اجتناب المحرم للطيب كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .

وقال النووي في " شرح المهذب " : قد ذكرنا أن مذهبنا : أن الزيت ، والشيرج ، والسمن ، والزبد ونحوها من الأدهان غير المطيبة ، لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته .

وقال الحسن بن صالح : يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته .

وقال مالك : لا يجوز أن يدهن بها أعضاءه الظاهرة : كالوجه ، واليدين ، والرجلين ، ويجوز دهن الباطنة : وهي ما يوارى باللباس .

وقال أبو حنيفة : كقولنا في السمن والزبد ، وخالفنا في الزيت والشيرج فقال : يحرم استعمالها في الرأس والبدن .

وقال أحمد : إن ادهن بزيت أو شيرج : فلا فدية في أصح الروايتين ، سواء دهن يديه أو رأسه .

وقال داود : يجوز دهن رأسه ، ولحيته ، وبدنه بدهن غير مطيب .

وحجة من قال بهذا حديث جاء بذلك : فقد قال البيهقي في " السنن الكبرى " : أخبرنا أبو ظاهر الفقيه ، وأبو سعيد بن أبي عمرو قراءة عليهما ، وأبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني إملاء قالوا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، أنبأ أبو سلمة الخزاعي ، أنبأ حماد بن سلمة ، عن فرقد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم " يعني : غير مطيب ، لم يذكر ابن يوسف تفسيره .

قال الإمام أحمد : ورواه الأسود بن عامر شاذان ، عن حماد بن سلمة ، عن فرقد ، عن سعيد ، عن ابن عمر فذكره من غير تفسير انتهى منه . ثم ذكر بإسناده عن أبي ذر - رضي الله عنه - [ ص: 71 ] أنه مر عليه قوم محرمون ، وقد تشققت أرجلهم فقال : ادهنوها . وفرقد المذكور في سند هذا الحديث ، هو فرقد بن يعقوب السبخي بفتح السين المهملة والباء الموحدة وبخاء معجمة : أبو يعقوب البصري ، وهو معروف بالزهد والعبادة . ولكنه ضعفه غير واحد . وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق عابد ، لكنه لين الحديث كثير الخطأ . وقال النووي في " شرح المهذب " : واحتج أصحابنا بحديث فرقد السبخي الزاهد - رحمه الله - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم " رواه الترمذي والبيهقي ، وهو ضعيف . وفرقد غير قوي عند المحدثين . قال الترمذي : هو ضعيف غريب ، لا يعرف إلا من حديث فرقد ، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد . وقوله : غير مقتت : أي غير مطيب انتهى محل الغرض منه .

وفي " القاموس " : وزيت مقتت طبخ بالرياحين أو خلط بأدهان طيبة ، واحتجاج الشافعية بهذا الحديث الذي ذكرنا على جواز دهن جميع البدن غير الرأس واللحية بالزيت والسمن ونحوهما فيه أمران :

الأول : أن الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج ، لضعف فرقد المذكور .

والثاني : أنه على تقدير صحة الاحتجاج به فظاهره عدم الفرق بين الرأس واللحية وبين سائر البدن ; لأن الادهان فيه مطلق غير مقيد بما سوى الرأس واللحية ، ا هـ .

وحجة من منع الادهان بغير الطيب ; لأنه يزيل الشعث الحديث الذي فيه : " انظروا إلى عبادي جاءوا شعثا غبرا " وهو مشهور ، وفيه دليل على أنه لا ينبغي إزالة الشعث ، ولا التنظيف . والله أعلم .

وقال النووي في " شرح المهذب " : قال ابن المنذر : أجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والسمن . قال : وأجمع عوام أهل العلم ، على أنه له دهن بدنه بالزيت والشحم والشيرج والسمن ، قال : وأجمعوا على أنه ممنوع من حيث استعمال الطيب في جميع بدنه .

وقال النووي أيضا : الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق : ولا فدية ، وبه قال مالك ، وأحمد ، وداود . وقد قدمنا أن الخضاب بالحناء : يوجب الفدية عند المالكية ، ثم قال النووي : وقال أبو حنيفة : هو طيب يوجب الفدية ، وإذا لبس ثوبا معصفرا : فلا فدية ، والعصفر : ليس بطيب ، هذا مذهبنا ، وبه قال أحمد وداود ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر [ ص: 72 ] وجابر ، وعبد الله بن جعفر ، وعقيل بن أبي طالب وعائشة وأسماء وعطاء ، وقال : وكرهه عمر بن الخطاب ، وممن تبعه الثوري ومالك ، ومحمد بن الحسن ، وأبو ثور ، وقال أبو حنيفة : إن نفض على البدن : وجبت الفدية ، وإلا وجبت صدقة . انتهى محل الغرض منه .

وقال النووي أيضا : ذكرنا أن مذهبنا في تحريم الرياحين قولان : الأصح تحريمها ، ووجوب الفدية ، وبه قال ابن عمر ، وجابر ، والثوري ، ومالك ، وأبو ثور ، وأبو حنيفة ، إلا أن مالكا ، وأبا حنيفة يقولان : يحرم ولا فدية .

قال ابن المنذر : واختلف في الفدية ، عن عطاء وأحمد ، وممن جوزه وقال : هو حلال لا فدية فيه : عثمان ، وابن عباس ، والحسن البصري ، ومجاهد وإسحاق ، قال العبدري : وهو قول أكثر الفقهاء .

وقال النووي أيضا : قد ذكرنا أن مذهبنا : جواز جلوس المحرم عند العطار : ولا فدية فيه . وبه قال ابن المنذر ، قال : وأوجب عطاء فيه الفدية ، وكره ذلك مالك . انتهى منه .

واعلم : أن المحرم عند الشافعية ، إذا فعل شيئا من محظورات الإحرام ناسيا أو جاهلا ، فإن كان إتلافا كقتل الصيد والحلق والقلم ، فالمذهب وجوب الفدية ، وفيه خلاف ضعيف . وإن كان استمتاعا محضا : كالتطيب ، واللباس ، ودهن الرأس واللحية ، والقبلة ، وسائر مقدمات الجماع : فلا فدية ، وإن جامع ناسيا أو جاهلا : فلا فدية في الأصح أيضا .

قال النووي : وبهذا قال : عطاء ، والثوري ، وإسحاق ، وداود . وقال : مالك ، وأبو حنيفة ، والمزني وأحمد في أصح الروايتين عنه : عليه الفدية ، وقاسوه على قتل الصيد .

وقد قدمنا حكم المجامع ناسيا وأقوال الأئمة فيه . هذا هو حاصل كلام العلماء من الصحابة ومن بعدهم ، ومنهم الأئمة الأربعة في مسألة الطيب . وقد علمت من النقول التي ذكرنا عن الأئمة وغيرهم ، من فقهاء الأمصار ، ما اتفقوا عليه ، وما اختلفوا فيه .

واعلم : أنهم مجمعون على منع الطيب للمحرم في الجملة ، إلا أنهم اختلفوا في أشياء كثيرة ، اختلافا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط . فيقول بعضهم مثلا : الريحان والياسمين ، كلاهما طيب فمناط تحريمهما ، على المحرم موجود ، وهو كونهما طيبا ، [ ص: 73 ] فيخالفه الآخر ، ويقول : مناط التحريم ، ليس موجودا فيهما ; لأنهما لا يتخذ منهما الطيب ، فليسا بطيب وهكذا .

واعلم : أنهم متفقون على لزوم الفدية في استعمال الطيب ، ولا دليل من كتاب ولا سنة ، على أن من استعمل الطيب ، وهو محرم يلزمه فدية ، ولكنهم قاسوا الطيب على حلق الرأس المنصوص على الفدية فيه ، إن وقع لعذر في آية : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] .

وأظهر أقوال أهل العلم : أن الفدية اللازمة كفدية الأذى وهي على التخيير المذكور في الآية ; لأنها هي حكم الأصل المقيس عليه ، والمقرر في الأصول أنه لا بد من اتفاق الفرع المقيس ، والأصل المقيس عليه في الحكم وذلك هو مذهب أبي حنيفة ، إن كان التطيب ، أو اللبس لعذر ; لأن الآية نزلت في العذر ، وقد قدمنا أنه هو الصحيح من مذهب الشافعي مطلقا كان لعذر أو غيره ، وهو أيضا مذهب مالك وأحمد .

فتحصل : أن مذاهب الأئمة الأربعة متفقون على أن فدية الطيب ، وتغطية الرأس ، واللبس ، وتقليم الأظافر ، كفدية حلق الرأس المنصوصة في آية الفدية ، وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى ، وقدمنا الأقوال المخالفة لهذا المذهب الصحيح المشهور عند الأربعة . وقد بينا أنه مقتضى الأصول ، لوجوب اتفاق الأصل والفرع في الحكم ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيهان

الأول : في ذكر أشياء مما ذكر وردت فيها نصوص ، وتفصيل ذلك : فمن ذلك العصفر وقد رأيت في النقول التي ذكرنا من قال من أهل العلم : بأنه ليس بطيب ، وأنه لا بأس بلبس المحرم له ، وقد قدمنا فيه حديث أبي داود المصرح بأنه لا بأس بلبس النساء له ، وهن محرمات ، وفيه ابن إسحاق ، وقد صرح فيه بالسماع ، فعلم أنه لم يدلس فيه إلى آخر ما قدمنا فيه ، والظاهر بحسب الدليل : أن المعصفر لا يجوز لبسه ، وإن جوزه كثير من أجلاء العلماء من الصحابة ومن بعدهم ; لأن السنة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق بالاتباع .

وقد قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي عن يحيى ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث : أن ابن معدان أخبره : أن عبد الله بن عمرو بن العاص ، أخبره قال " رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي ثوبين معصفرين ، فقال : إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها " ، ا هـ .

[ ص: 74 ] وابن معدان المذكور : هو خالد كما ثبت في صحيح مسلم بعد الحديث المذكور مباشرة ، وفي لفظ مسلم بإسناد غير الأول ، عن عبد الله بن عمرو قال : " رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - علي ثوبين معصفرين ، فقال : " أأمك أمرتك بهذا " ؟ قلت : أغسلهما قال : " بل أحرقهما " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثنا يحيى بن يحيى ، قال : قرأت على مالك ، عن نافع ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نهى عن لبس القسي ، والمعصفر ، وعن تختم الذهب ، وعن قراءة القرآن في الركوع " وفي لفظ لمسلم ، عن علي - رضي الله عنه - : " نهاني النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القراءة وأنا راكع ، وعن لبس الذهب ، والمعصفر " وفي لفظ لمسلم عنه أيضا - رضي الله عنه - : " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب ، وعن لباس القسي ، وعن القراءة في الركوع والسجود ، وعن لباس المعصفر " انتهى منه .

فهذا الحديث الثابت في صحيح مسلم ، وغيره عن صحابيين جليلين ، وهما علي ، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهم - صريح في منع لبس المعصفر مطلقا ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو : " إنهما من ثياب الكفار ، فلا تلبسهما " صريح في منع لبسهما ; لأن النهي يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول ، ويؤيد ذلك هنا أنه رتب النهي عنهما على أنهما من ثياب الكفار ، وهذا دليل واضح على منع لبس المعصفر مطلقا في الإحرام وغيره . وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عبد الله بن عمرو : " بل أحرقهما " فهو دليل واضح على منع لبسهما ; لأن لبس الجائز لبسه ، لا يستوجب الإحراق بحال ، فهو نص في منع المعصفر مطلقا ، وقول علي - رضي الله عنه - : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القسي والمعصفر ، وعن تختم الذهب " الحديث . دليل أيضا على منع لبس المعصفر مطلقا ; لأن النهي يقتضي التحريم ، إلا لدليل صارف عنه ، وليس موجودا ، ويؤيده أنه قرنه بالتختم بالذهب ، وهو ممنوع ، وما زعمه بعض أهل العلم : من أن رواية علي المذكورة آنفا في مسلم : " نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : تدل على اختصاص هذا الحكم بعلي ; لأنه قال : نهاني بياء المتكلم في الرواية المذكورة ، مردود من ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه - صلى الله عليه وسلم - بين في حديث ابن عمرو عموم هذا الحكم ، حيث قال لعبد الله : " إن هذا من ثياب الكفار ، فلا تلبسهما " وهذا صريح في عدم اختصاص هذا الحكم بعلي - رضي الله عنه - .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-10, 11:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (352)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 75 إلى صـ 82




الوجه الثاني : أنه ثبت في صحيح مسلم ، عن علي - رضي الله عنه - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 75 ] نهى عن لبس القسي ، والمعصفر وعن تختم الذهب ، بحذف مفعول نهى ، وحذف المفعول في ذلك ، يدل على عموم الحكم على التحقيق كما حرره القرافي في شرح التنقيح من أن مثل نهى - صلى الله عليه وسلم - عن كذا صيغة عموم بما لا يدع مجالا للشك ؟ وممن انتصر لذلك : ابن الحاجب وغيره ، واختاره الفهري .

والحاصل : أن التحقيق في مثل نهى - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر وقضى بالشفعة ، وقضى بالشاهد واليمين ونحو ذلك : أنه يعم كل غرر وكل شفعة ، وكل شاهد ، ويمين ، وإن خالف في ذلك كثير من الأصوليين ، كما حررنا أدلة الفريقين ، وناقشناها في غير هذا الموضع .

الوجه الثالث : أن رواية " نهاني " التي احتج بها مدعي اختصاص هذا الحكم بعلي : تدل أيضا على عموم الحكم ; لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة لاستوائهم في أحكام التكليف ، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه ، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد ، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم ، خلاف في حال لا خلاف حقيقي ، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم ، وعند غيرهم من الشافعية ، والمالكية وغيرهم : أن خطاب الواحد لا يعم ; لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره ، وإذا كان لا يشمله وضعا ، فلا يكون صيغة عموم ، ولكن أهل هذا القول موافقون : على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره لكن بدليل آخر غير خطاب الواحد ، وذلك الدليل بالنص والقياس . أما القياس فظاهر ; لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي والنص ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في مبايعة النساء : " إني لا أصافح النساء ، وما قولي لامرأة إلا كقولي لمائة امرأة " .

قالوا : ومن أدلة ذلك حديث : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " .

قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات : اعلم أن حديث : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " لا يعرف له أصل بهذا اللفظ ، ولكن روى الترمذي وقال : حسن صحيح ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان ، قوله - صلى الله عليه وسلم - في مبايعة النساء : " إني لا أصافح النساء " وساق الحديث كما ذكرناه .

وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الألباس ، عما اشتهر من الأحاديث ، على ألسنة الناس : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، وفي لفظ : " كحكمي على الجماعة " ليس له أصل بهذا اللفظ ، كما قال العراقي : في تخريج أحاديث البيضاوي . [ ص: 76 ] وقال في الدرر كالزركشي لا يعرف ، وسئل عنه المزي ، والذهبي فأنكراه . نعم يشهد له ما رواه الترمذي ، والنسائي من حديث أميمة بنت رقيقة ، فلفظ النسائي : " ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة " ولفظ الترمذي : " إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها ; لثبوتها على شرطهما .

وقال ابن قاسم العبادي في شرح الورقات الكبير : " حكمي على الجماعة " ، لا يعرف له أصل ، إلى آخره قريبا مما ذكرنا عنه ، ا هـ .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرا : وهي صحابية من المبايعات ، ورقيقة أمها : وهي أخت خديجة بنت خويلد . وقيل عمتها واسم أبيها بجاد بموحدة ، ثم جيم ابن عبد الله بن عمير التيمي تيم بن مرة ، وأشار إلى ذلك في " المراقي " بقوله :

خطاب واحد لغير الحنبلي من غير رعي النص والقيس الجلي

وبهذا كله تعلم أن التحقيق منع لبس المعصفر ، وظاهر النصوص الإطلاق : أي سواء كان في الإحرام ، أو غيره كما رأيت ، وجمع بعض العلماء بين الأحاديث التي ذكرناها في صحيح مسلم ، الدالة على منع لبس المعصفر مطلقا ، وبين حديث أبي داود المتقدم الدال على إباحته للنساء في الإحرام ، بأن أحاديث المنع إنما هي بالنسبة للرجال ، وحديث الجواز بالنسبة إلى النساء ، فيكون ممنوعا للرجال جائزا للنساء ، وتتفق الأحاديث .

وممن اعتمد هذا الجمع الترمذي في سننه حيث قال : باب ما جاء في كراهة المعصفر للرجال : حدثنا قتيبة ، ثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه ، عن علي - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس القسي والمعصفر " وفي الباب عن أنس ، وعبد الله بن عمرو ، وحديث علي : حديث حسن صحيح ، انتهى منه . فتراه في ترجمة الحديث جعله خاصا بالرجال ، وهو عين الجمع الذي ذكرنا ، وأشار النووي في شرح مسلم : إلى أن الجمع المذكور يشير إليه الحديث الصحيح عند مسلم ، وذلك في قوله : أعني النووي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أأمك أمرتك بهذا " معناه : أن هذا من لباس النساء ، وزيهن ، وأخلاقهن . انتهى محل الغرض منه .

[ ص: 77 ] وتفسيره للحديث : يدل على أن الحديث فيه تحريم المعصفر على الرجال دون النساء .

ويدل لهذا الجمع ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا مسدد ، ثنا عيسى بن يونس ، ثنا هشام بن الغاز ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : هبطنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثنية فالتفت إلي وعلي ريطة مضرجة بالعصفر فقال : " ما هذه الريطة عليك ؟ " فعرفت ما كره فأتيت أهلي ، وهم يسجرون تنورا لهم فقذفتها فيه ، ثم أتيته من الغد فقال : " يا عبد الله ما فعلت الريطة ؟ " فأخبرته فقال : ألا كسوتها بعض أهلك فإنه لا بأس به للنساء " انتهى من سنن أبي داود ، وهو صريح في الجمع المذكور ، وهذا الإسناد لا يقل عن درجة الحسن ، وهذا الحديث أخرجه ابن ماجه : حدثنا أبو بكر ، ثنا عيسى بن يونس ، عن هشام بن الغاز إلى آخر الإسناد ، ثم قال : أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ثنية أذاخر ، فالتفت إلي وعلي ريطة ، إلى آخر الحديث . كلفظ أبي داود ، ا هـ .

وجمع الخطابي بين الأحاديث : بأن النهي فيما صبغ من الثياب بعد النسج ، وأن الإباحة منصرفة إلى ما صبغ غزله ، ثم نسج نقل هذا الجمع النووي في " شرح مسلم " عن الخطابي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا الجمع فيه نظر ; لأنه تحكم ، والظاهر أن العصفر ليس بطيب ، فأبيح للنساء ومنع للرجال ، كالحرير وخاتم الذهب . والله تعالى أعلم .

فاتضح أن الظاهر بحسب الدليل أن المعصفر : لا يحل لبسه للرجال ، ويحل للنساء ; لأن ظاهر أحاديث النهي عنه العموم ، وكونه من ثياب الكفار قرينة على التعميم ، إلا أن أحاديث النهي تخصص بالأحاديث المتقدمة المصرحة ، بجوازه للنساء كحديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عند أبي داود وابن ماجه ، وحديث الترمذي وما فسر به النووي حديث مسلم وحديث أبي داود المتقدم الذي فيه ابن إسحاق ، وكونه من ثياب الكفار : لا ينافي أن ذلك بالنسبة للرجال . دون النساء ، كما قال في الذهب والفضة والديباج والحرير : " إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " مع إباحتها للنساء .

والذين أباحوا لبس المعصفر للرجال والنساء معا ، احتجوا بما ذكره النووي في " شرح مسلم " قال : ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبس حلة حمراء .

[ ص: 78 ] وفي الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغ بالصفرة " انتهى منه فانظره .

والذين منعوه للرجال دون النساء استدلوا بالأحاديث المذكورة المصرحة بإباحته للنساء ، وعضدوا الأحاديث المذكورة بآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - فمن ذلك ما رواه مالك في " الموطأ " ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أمه أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - : أنها كانت تلبس الثياب المعصفرات المشبعات ، وهي محرمة ليس فيها زعفران . انتهى محل الغرض منه .

وقال شارحه الزرقاني : وكذلك جاء عن أختها . روى سعيد بن منصور ، عن القاسم بن محمد قال : كانت عائشة - رضي الله عنها - تلبس الثياب المعصفرة ، وهي محرمة . إسناده صحيح انتهى منه .

وروى البيهقي بإسناده ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن أسماء بنت أبي بكر نحو رواية مالك في " الموطأ " عنها ثم قال : هكذا رواه مالك ، وخالفه أبو أسامة ، وحاتم بن إسماعيل ، وابن نمير فرووه عن هشام ، عن فاطمة ، عن أسماء ، قاله مسلم بن الحجاج . انتهى من السنن الكبرى .

وقال البيهقي : وروينا عن نافع أن نساء ابن عمر كن يلبسن المعصفر ، وهن محرمات ، ثم ذكر عن أبي داود في المراسيل : أن مكحولا قال : جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب مشبع بعصفر ، فقالت : يا رسول الله ، إني أريد الحج ، فأحرم في هذا ؟ قال : " لك غيره ؟ " قالت : لا . قال : " فأحرمي فيه " ثم ساق سنده به إلى أبي داود ، وذكر بسنده عن جابر أنه قال : " لا تلبس المرأة ثياب الطيب وتلبس الثياب المعصفرة لا أرى المعصفر طيبا "

وروى البيهقي بسنده عن عائشة - رضي الله عنها - " أنها كانت تلبس الثياب الموردة بالعصفر الخفيف وهي محرمة " ، وقد قدمنا حديث ابن عباس ، عند الطبراني في الكبير قال : كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحناء ، وهن محرمات ، ويلبسن المعصفر ، وهن محرمات ، وفي إسناده يعقوب بن عطاء .

قال في مجمع الزوائد : وثقه ابن حبان ، وضعفه جماعة .

وقال أبو داود في سننه : حدثنا زهير بن حرب ، ثنا يحيى بن أبي بكير ، ثنا إبراهيم بن طهمان ، حدثني بديل عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة ، عن أم سلمة زوج [ ص: 79 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ، ولا الممشقة ، ولا الحلي ، ولا تختضب " انتهى منه ، وهذا الإسناد صحيح كما ترى .

وقال صاحب الجوهر النقي في حاشيته على سنن البيهقي ، لما أشار إلى حديث أبي داود هذا ، وفيه دليل على أن العصفر طيب ، ولذلك نهيت عن المعصفر ، إذ لو كان النهي لكونه زينة نهيت عن ثوب العصب ; لأنه في الزينة فوق المعصفر ، والعصب برود اليمن يعصب غزلها : أي تطوى ، ثم تصنع مصبوغا ، ثم تنسج .

وفي الصحيحين : أنه - صلى الله عليه وسلم - استثنى من المنع ثوب العصب ، والشافعية خالفت هذا الحديث .

قال النووي : الأصح عندنا تحريم العصب مطلقا ، والحديث حجة لمن أجازه . وقال أيضا : الأصح أنه يجوز لها لبس الحرير . انتهى منه .

وفي صحيح مسلم من حديث أم عطية ، في المتوفى عنها زوجها : " ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ، ولا تكتحل ولا تمس طيبا " الحديث .

وفي صحيح البخاري : من حديث أم عطية قالت : " كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج " . الحديث ، وفيه : " ولا تكتحل ولا تطيب ولا تلبس مصبوغا إلا ثوب عصب " الحديث .

والممشقة في حديث أم سلمة المذكورة هي المصبوغة بالمشق بالكسر والفتح ، وهو المغرة ، والعصفر بالضم : نبات يصبغ به وبرزه هو القرطم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن منع المتوفى عنها زوجها ، من لبس المعصفر المذكور ، ليس لكونه طيبا كما ظنه صاحب الجوهر النقي ، بدليل الأحاديث الدالة على المنع منه في غير الإحرام ، مع جواز الطيب لغير المحرم ، والأظهر أن المنع منه للزينة : وهي محرمة على المتوفى عنها زوجها ، دون غيرها من النساء . والعلم عند الله تعالى .

ولا يتعين كون العصب فوقه في الزينة ; لأن المتوفى عنها زوجها ممنوعة في العدة ، من الطيب ، والتزين ، فإباحة العصب لها تدل على ضعف رتبته في الزينة . والله تعالى أعلم .

ومن ذلك الحناء ، قد قدمنا اختلاف العلماء فيها ، هل هي طيب أو لا ؟ وقد قدمنا [ ص: 80 ] آثارا تدل على أنها ليست بطيب ، وقدمنا حديث ابن عباس عند الطبراني : أن أزواج النبي كن يختضبن بالحناء ، وهن محرمات ، وقد قدمنا أن في إسناده يعقوب بن عطاء ، وقد روى البيهقي بإسناده في " السنن الكبرى " عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قيل لها : ما تقولين في الحناء والخضاب ؟ قالت : كان خليلي لا يحب ريحه ، ثم قال البيهقي : فيه كالدلالة على أن الحناء ليس بطيب : " فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الطيب ولا يحب ريح الحناء " انتهى منه .

وهذا حاصل مستند من قال : إن الحناء ليس بطيب ، وقال صاحب " الجوهر النقي " بعد أن ذكر كلام البيهقي الذي ذكرنا : وقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - خلاف هذا . قال أبو عمر في " التمهيد " : ذكر ابن بكير عن ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن خولة بنت حكيم ، عن أمها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأم سلمة : " لا تطيبي وأنت محرمة ولا تمسي الحناء ، فإنه طيب " . وأخرجه البيهقي في كتاب المعرفة ، من هذا الوجه وقد عد أبو حنيفة الدينوري وغيره : من أهل اللغة : الحناء من أنواع الطيب . وقال الهروي في الغريبين : وفي الحديث : " سيد رياحين الجنة الفاغية " قال الأصمعي : هو نور الحناء . وفي الحديث أيضا عن أنس : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الفاغية " انتهى منه . وقال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس . وقال النجم ، وعند الطبراني والبيهقي ، وأبي نعيم في الطب عن بريدة : " سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم ، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء ، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية " انتهى محل الحاجة منه ، وقال ابن الأثير في النهاية فيه : " سيد رياحين الجنة الفاغية ، هي نور الحناء " وقيل : نور الريحان . وقيل : نور كل نبت من أنوار الصحراء ، التي لا تزرع . وقيل : فاغية كل نبت نوره ، ومنه حديث أنس : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجبه الفاغية " ، ا هـ .

وفي " القاموس " : والفاغية نور الحناء أو يغرس غصن الحناء مقلوبا فيثمر زهرا أطيب من الحناء ، فذلك الفاغية انتهى محل الغرض منه . ولا يخفى أن الحناء لم يثبت فيه شيء مرفوع وأكثر أنواع الطيب لم تثبت في خصوصها نصوص ، ومنها : ما ثبت بالنص كالزعفران ، والورس ، كما تقدم إيضاحه ، وكالذريرة والمسك كما سيأتي إن شاء الله . وقد قدمنا أن الذي اختلف فيه أهل العلم من الأنواع : هل هو طيب ، أو ليس بطيب ؟ أن ذلك من نوع الاختلاف في تحقيق المناط ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 81 ] الفرع السابع عشر : اعلم أن العلماء اختلفوا في التطيب عند إرادة الإحرام قبله بحيث يبقى أثر الطيب ، وريحه أو عينه بعد التلبس بالإحرام ، هل يجوز ذلك لأنه وقت الطيب غير محرم ، والدوام على الطيب ، ليس كابتدائه كالنكاح عند من يمنعه في حال الإحرام ، مع إباحة الدوام على نكاح مقعود ، قبل الإحرام أو لا يجوز ذلك ; لأن وجود ريح الطيب ، أو عينه ، أو أثره في المحرم بعد إحرامه كابتدائه للتطيب ; ولأنه متلبس حال الإحرام بالطيب ، مع أن الطيب منهي عنه في الإحرام ، فقال جماهير من أهل العلم : إن الطيب عند إرادة الإحرام مستحب . قال النووي في " شرح المهذب " : قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه ، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء منهم : سعد بن أبي وقاص ، وابن عباس ، وابن الزبير ، ومعاوية ، وعائشة ، وأم حبيبة ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وأبو يوسف ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وداود وغيرهم ، ا هـ .

وقال النووي في " شرح مسلم " : وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم : سعد بن أبي وقاص ، وابن عباس إلى آخره ، كما في " شرح المهذب " .

وقال ابن قدامة في " المغني " في شرحه لقول الخرقي : ويتطيب .

وجملة ذلك أنه يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب في بدنه خاصة ، ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية ، أو أثره كالعود والبخور وماء الورد ، هذا قول ابن عباس ، وابن الزبير ، وسعد بن أبي وقاص وعائشة ، وأم حبيبة ، ومعاوية ، وروي عن محمد ابن الحنفية ، وأبي سعيد الخدري ، وعروة ، والقاسم ، والشعبي وابن جريج . انتهى محل الغرض منه .

وقال جماعة آخرون من أهل العلم : لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام ، فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه ، وهذا هو مذهب مالك .

وقال النووي في " شرح مسلم " : وقال آخرون بمنعه منهم : الزهري ، ومالك ، ومحمد بن الحسن ، وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ، ا هـ .

وقال في " شرح المهذب " : وقال عطاء والزهري ومالك ومحمد بن الحسن : يكره .

[ ص: 82 ] قال القاضي عياض : وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ، ا هـ .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وكان عطاء يكره ذلك ، وهو قول مالك ، وروي ذلك عن عمر وعثمان ، وابن عمر - رضي الله عنهم - ، ا هـ .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة : فهذه أدلتهم ومناقشتها وما يظهر رجحانه بالدليل منها .

أما الذين منعوا ذلك : فقد احتجوا بحديث يعلى بن أمية التميمي - رضي الله عنه - وهو متفق عليه . قال البخاري في صحيحه ، قال أبو عاصم : أخبرنا ابن جريج ، أخبرني عطاء : أن صفوان بن يعلى أخبره : أن يعلى قال لعمر - رضي الله عنه - : أرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه ، قال : فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ، ومعه نفر من أصحابه ، جاء رجل فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف ترى في رجل أحرم بعمرة ، وهو متضمخ بطيب ؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة ، فجاءه الوحي فأشار عمر - رضي الله عنه - إلى يعلى ، فجاء يعلى ، وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب ، وقد أظل به ، فأدخل رأسه فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه ، وهو يغط ، ثم سري عنه فقال : " أين الذي سأل عن العمرة " فأوتي برجل فقال : " اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات ، وانزع عنك الجبة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك " قلت لعطاء : أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات ؟ قال : نعم . انتهى من صحيح البخاري قالوا : فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسل الطيب الذي تضمخ به قبل الإحرام ، وأمر بإنقائه كما قاله عطاء ، ولا شك أن هذا الحديث يقتضي أن الطيب في بدنه إذ لو كان في الجبة ، دون البدن لكفى نزع الجبة كما ترى ، خلافا لما توهمه ترجمة الحديث الذي ترجمه بها البخاري ، وهي قوله : باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب . وقول البخاري في أول هذا الإسناد : قال أبو عاصم : قد قدمنا الكلام على مثله مستوفى وبينا أنه صحيح ، سواء قلنا : إنه موصول كما هو الصحيح ، أو معلق ; لأنه أورده بصيغة الجزم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-10, 11:51 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (353)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 83 إلى صـ 90





وقال البخاري أيضا في صحيحه : في أبواب العمرة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا همام ، حدثنا عطاء قال : حدثني صفوان بن يعلى بن أمية : يعني عن أبيه : أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة وعليه جبة ، وعليه أثر الخلوق ، أو قال صفرة ، فقال : كيف [ ص: 83 ] تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ فأنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - فستر بثوب ، ووددت أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل عليه الوحي ، فقال عمر : تعال أيسرك أن تنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل الله الوحي ؟ قلت : نعم ، فرفع طرف الثوب ، فنظرت إليه له غطيط : وأحسبه قال : كغطيط البكر ، فلما سري عنه قال : " أين السائل عن العمرة ، اخلع عنك الجبة ، واغسل أثر الخلوق عنك ، وأنق الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك " انتهى منه . وقوله في هذا الحديث : " اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق وأنق الصفرة " صريح في أن غسل ذلك وإنقاءه من بدنه ; لأن ما في الجبة من الخلوق ، والصفرة يزول بخلعها كما ترى .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا همام ، حدثنا عطاء بن أبي رباح ، عن صفوان بن يعلى بن أمية ، عن أبيه - رضي الله عنه - قال : " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة عليه جبة ، وعليها خلوق أو قال : أثر صفرة . فقال : كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : وأنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي ، فستر بثوب وكان يعلى يقول : وددت أن أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نزل عليه الوحي ، قال : فقال : أيسرك أن تنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل عليه الوحي ؟ قال : فرفع عمر طرف الثوب ، فنظرت إليه له غطيط قال : وأحسبه قال : كغطيط البكر . قال : فلما سري عنه قال : " أين السائل عن العمرة ؟ : اغسل عنك أثر الصفرة " أو قال : " أثر الخلوق - واخلع عنك جبتك ، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك " .

وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، وهو بالجعرانة ، وأنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه مقطعات - يعني جبة - وهو متضمخ بالخلوق فقال : إني أحرمت بالعمرة ، وعلي هذا ، وأنا متضمخ بخلوق ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما كنت صانعا في حجك ؟ " قال : أنزع عني هذه الثياب ، وأغسل عني هذا الخلوق ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما كنت صانعا في حجك ، فاصنعه في عمرتك " وفي لفظ في صحيح مسلم ، عن يعلى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك " وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى - رضي الله عنه - : " أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة قد أهل بالعمرة ، وهو مصفر لحيته ورأسه ، وعليه جبة ، فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أحرمت بعمرة ، وأنا كما ترى فقال : " انزع عنك الجبة ، واغسل عنك الصفرة ، وما كنت صانعا في حجك ، فاصنعه في عمرتك " . وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى أيضا قال : " انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك ، [ ص: 84 ] وافعل في عمرتك ما كنت فاعلا في حجك " انتهى من صحيح مسلم .

قالوا : فهذه الروايات الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : فيها التصريح بأن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام على ذلك ، بل يجب غسله ثلاثا ، وإنقاؤه ، ولا شك أن بعض الروايات الصحيحة التي أوردنا صريحة في ذلك . وهذا هو حجة مالك ومن ذكرنا معه من أهل العلم في وجوب إزالة المحرم الطيب ، الذي تلبس به قبل إحرامه .

وروى مالك في " الموطأ " عن حميد بن قيس ، عن عطاء بن أبي رباح : " أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بحنين ، وعلى الأعرابي قميص ، وبه أثر صفرة فقال : يا رسول الله ، إني أهللت بعمرة ، فكيف تأمرني أن أصنع ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " انزع قميصك ، واغسل هذه الصفرة عنك ، وافعل في عمرتك ما تفعل في حجتك " ، ا هـ .

والذين قالوا بهذا قالوا : يعتضد حديث يعلى المتفق عليه ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - كما أشرنا إليه غير بعيد ، وقد روىمالك في " الموطأ " ، عن نافع ، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجد ريح طيب ، وهو بالشجرة ، فقال : ممن ريح هذا الطيب ، فقال معاوية بن أبي سفيان : مني يا أمير المؤمنين ، فقال منك لعمر الله فقال معاوية : إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه .

وروى مالك في " الموطأ " عن الصلت بن زيد عن غير واحد من أهله : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجد ريح طيب وهو بالشجرة ، وإلى جنبه كثير بن الصلت ، فقال عمر : ممن ريح هذا الطيب ؟ فقال كثير : مني يا أمير المؤمنين ، لبدت رأسي ، وأردت ألا أحلق ، فقال عمر : فاذهب إلى شربة فادلك رأسك ، حتى تنقيه ، ففعل كثير بن الصلت . قال مالك : الشربة حفير تكون عند أصل النخلة . انتهى من " الموطأ " .

قالوا : ففعل هذا الخليفة الراشد في زمن خلافته مطابق لما تضمنه حديث يعلى بن أمية المتفق عليه ، فتبين بذلك أنه غير منسوخ ، وذكر الزرقاني في " شرح الموطأ " : أن عمر أنكر أيضا ذلك على البراء بن عازب ، وقال : إنه رواه ابن أبي شيبة عن بشير بن يسار ، كما أنكر على معاوية وكثير المذكورين ، قال : فهذا عمر قد أنكر على صحابيين ، وتابعي كبير الطيب بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم ، وما أنكر عليه منهم أحد ، فهو من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة ، ثم ذكر عن وكيع ، عن شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه : أن عثمان رأى رجلا قد تطيب عند الإحرام ، فأمره أن يغسل رأسه بطين ، ا هـ .

[ ص: 85 ] وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر : أن محمد بن المنتشر سأله عن الرجل يتطيب ، ثم يصبح محرما ، فقال : " ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا ، لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك " . هذا لفظ مسلم في صحيحه . وفيه بعده رد عائشة على ابن عمر ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

فحديث يعلى المتفق عليه ، والآثار التي ذكرنا عن بعض الصحابة ، ومنها ما لم نذكره هو حجة مالك ، ومن ذكرنا معه في منع التطيب قبل الإحرام ، ووجوب غسله ، وإنقائه إن فعل ذلك ، ولا فدية فيه عندهم مطلقا ، وذكر بعضهم : أن المشهور عن مالك : الكراهة لا التحريم .

واحتج الجمهور القائلون باستحباب التطيب عند الإحرام بما رواه الشيخان وغيرهما ، عن عائشة - رضي الله عنها - وبعض الآثار الدالة على ذلك ، عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - . قال البخاري في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت . وفي صحيح البخاري : قبل هذا الحديث متصلا به من طريق الأسود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم . وقد ذكرنا هذا الحديث في الكلام على التحلل الأول .

وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم : أنه سمع أباه وكان أفضل أهل زمانه يقول : سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين حين أحرم ، ولحله حين أحل قبل أن يطوف ، وبسطت يديها انتهى منه .

وقال مسلم - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا محمد بن عباد ، أخبرنا سفيان ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه ، حين أحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت . وفي لفظ لمسلم عنها من طريق القاسم بن محمد قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، لحرمه حين أحرم ، ولحله حين أحل ، قبل أن يطوف بالبيت . وفي لفظ عند مسلم عنها قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه ، قبل أن يحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت . وفي لفظ عنها عند مسلم قالت : طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي بذريرة في حجة الوداع ، للحل والإحرام .

[ ص: 86 ] وفي النهاية : الذريرة : نوع من الطيب مجموع من أخلاط . وقال السيوطي في تلخيصه للنهاية : وقيل هي فتات قصب ، وقال النووي في " شرح مسلم " : هي فتات قصب طيب ، يجاء به من الهند ، وقد قدمنا في سورة " الأنعام " أن الذريرة قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به . وفي لفظ عند مسلم أيضا ، عن عروة قال : سألت عائشة - رضي الله عنها - بأي شيء طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ؟ قالت : بأطيب الطيب ، وفي لفظ : بأطيب ما أقدر عليه ، قبل أن يحرم ، ثم يحرم . وفي لفظ : بأطيب ما وجدت . وفي لفظ عنها قالت : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، وفي لفظ عنها قالت : لكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يهل . وفي لفظ : وهو يلبي . والألفاظ المماثلة لهذا متعددة في صحيح مسلم عنها - رضي الله عنها - وفي لفظ عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم ، يتطيب بأطيب ما يجد ، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته . وفي لفظ عنها قالت :

كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم ، ويوم النحر ، قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك . وفي صحيح مسلم : أن عائشة لما بلغها قول ابن عمر المتقدم : لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك ، قالت : أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ، ثم طاف في نسائه ، ثم أصبح محرما ، ا هـ . كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم . قالوا فهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان ، عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - دليل صحيح صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام ، وإن كان أثره باقيا بعد الإحرام ، بل ولو بقي عينه وريحه ; لأن رؤيتها وبيص الطيب في مفارقه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم صريح في ذلك ، قالوا : وقد وردت آثار عن بعض الصحابة بذلك ، تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

قال صاحب نصب الراية : وقيل إن ذلك من خواصه - صلى الله عليه وسلم - وفيه نظر ، فقد رئي ابن عباس محرما ، وعلى رأسه مثل الرب من الغالية . وقال مسلم بن صبح : رأيت ابن الزبير ، وهو محرم ، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل أعد منه رأس مال . انتهى منه .

فهذا الحديث ، وهذه الآثار : حجة من قال : بالتطيب قبل الإحرام ، ولو كان الطيب يبقى بعد الإحرام .

وإذا عرفت أقوال أهل العلم وحججهم في هذه المسألة فهذه مناقشة أقوالهم : اعلم أن المالكية ، ومن وافقهم أجابوا عن حديث عائشة المذكور بأجوبة :

منها : أنهم حملوه على أنه تطيب ، ثم اغتسل بعده ، فذهب الطيب قبل الإحرام ، [ ص: 87 ] قالوا : ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى : " طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ثم طاف على نسائه ، ثم أصبح محرما " فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده ، لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى ، ولا يبقى مع ذلك طيب ، ويكون قولها : ثم أصبح ينضح طيبا : أي قبل غسله ، وقد سبق في رواية لمسلم : أن ذلك الطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل ، قالوا : وقولها : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، المراد به : أثره لا جرمه قاله : القاضي عياض . وقال ابن العربي : ليس في شيء من طرق حديث عائشة : أن عين الطيب بقيت .

ومنها : أن ذلك التطيب خاص به - صلى الله عليه وسلم - .

ومنها : أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام ، بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام ، في كل منهما قالوا : ومما يؤيد أن ذلك التطيب خاص به - صلى الله عليه وسلم - : أنه لو كان مشروعا لعامة الناس لما أنكره عمر ، وعثمان ، وابن عمر مع علمهم بالمناسك وجلالتهم في الصحابة . ولم ينكر عليهم أحد إلا ما أنكرت عائشة على ابن عمر ولما أنكره الزهري ، وعطاء مع علمهما بالمناسك .

ومنها : أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب ، لمن أراد الإحرام ، وحديث يعلى بن أمية : يقتضي منع ذلك ، والمقرر في الأصول : أن الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام .

ومنها : أن حديث يعلى من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه الصريح في الأمر بإزالة الطيب ، وإنقائه من البدن ، وظاهره العموم لما قدمنا أن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع لاستواء الجميع في التكليف ، والعموم القولي لا يعارضه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول ، كما أوضحناه سابقا ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :

في حقه القول بفعل خصا إن يك فيه القول ليس نصا

فهذا هو حاصل ما أجاب به القائلون بمنع التطيب ، عند إرادة الإحرام أو كراهته . وأجاب القائلون بمنع ذلك كله قالوا : دعوى أن التطيب للنساء لا الإحرام ، يرده صريح الحديث في قولها : طيبته لا لإحرامه ، يرده صريح الحديث في قولها : طيبته لإحرامه ، وادعاء أن اللام للتوقيت ، خلاف الظاهر قالوا : وادعاء أن الطيب زال بالغسل قبل الإحرام ترده الروايات الصريحة عن عائشة : أنها كأنها تنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ; لأن الوبيص في اللغة : البريق ، واللمعان ، وهو [ ص: 88 ] وصف وجودي ، والوصف الوجودي : لا يوصف به المعدوم ، وإنما يوصف به الموجود . فدل على أن الطيب الموصوف بالوبيص موجود بعينه ، وهو يرد قول ابن العربي أنه لم يرد في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت .

ويؤيده ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا الحسين بن الجنيد الدامغاني : ثنا أبو أسامة ، قال : أخبرني عمر بن سويد الثقفي ، قال : حدثتني عائشة بنت طلحة : أن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - حدثتها قالت : " كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة . فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها ، فيراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا " انتهى منه والسك بضم السين ، وتشديد الكاف : نوع من الطيب ، يضاف إلى غيره من الطيب ، ويستعمل .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في حديث أبي داود هذا : سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، وإسناده رواته ثقات إلا الحسين بن الجنيد شيخ أبي داود ، وقد قال النسائي : لا بأس به ، وقال ابن حبان في الثقات : مستقيم الأمر فيما يروي ، ا هـ . وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : لا بأس به ، وقال فيه : في " تهذيب التهذيب " : قال النسائي : لا بأس به . وذكره ابن حبان في " الثقات " . وقال : من أهل سمنان : مستقيم الأمر فيما يروي .

قلت : وقال أحمد بن حمدان العابدي ، ثنا الحسين بن الجنيد ، وكان رجلا صالحا ، وقال : مسلمة بن القاسم ثقة انتهى منه .

وبما ذكرنا تعلم أن حديث عائشة المذكور عند أبي داود أقل درجاته أنه حسن ، وقال فيه النووي في " شرح المهذب " : هذا حديث حسن ، رواه أبو داود بإسناد حسن انتهى منه ، وهو حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام ، إن كان استعماله للطيب ، قبل الإحرام .

قال في " القاموس " : والسك بالضم طيب ، يتخذ من الرامك مدقوقا منخولا معجونا بالماء ، ويعرك شديدا ، ويمسح بدهن الخيري لئلا يلصق بالإناء ، ويترك ليلة ثم يسحق السك ويلقمه ويعرك شديدا ويقرص ويترك يومين ، ثم يثقب بمسلة وينظم في خيط قنب ، ويترك سنة ، وكلما عتق طابت رائحته انتهى منه . وقال أيضا : والرامك كصاحب : شيء أسود يخلط بالمسك ، ويفتح انتهى منه . ولا يخفى أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كن يضمدن به جباههن في حال كونه معجونا ، قبل أن يقرص ويجف .

[ ص: 89 ] وقال ابن منظور في " اللسان " : والسك ضرب من الطيب يركب من مسك ورامك ، وقال في " اللسان " أيضا ابن سيده : والرامك والرامك والكسر أعلى شيء أسود كالقار يخلط بالمسك فيجعل سكا ، قال :



إن لك الفضل على صحبتي والمسك قد يستصحب الرامكا


وأجابوا عن كون التطيب المذكور خاصا به - صلى الله عليه وسلم - : بأن حديث عائشة هذا نص في عدم خصوص ذلك به - صلى الله عليه وسلم - وعضدوه بالآثار المروية عن بعض الصحابة كما تقدم ، عن ابن عباس ، وابن الزبير قالوا : وإنكار عمر وعثمان لا يعارض المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن سنته أولى بالاتباع من قول كل صحابي ، مع أنهم خالفهم بعض الصحابة .

وقد ثبت في صحيح مسلم : أن عائشة أنكرت ذلك على ابن عمر - رضي الله عنهم - . وأجابوا عن كون حديث يعلى ، كالعموم القولي ، فلا يعارضه فعله - صلى الله عليه وسلم - بل يخصص به بما ذكرناه آنفا من الأدلة على أن ذلك الفعل الذي هو التطيب قبل الإحرام ، ليس خاصا به كما دل عليه حديث عائشة المذكور آنفا . وقولها في الصحيح : " طيبته بيدي هاتين " . صريح في أنها شاركته في ملامسة ذلك الطيب ، كما ترى .

وأجابوا عن كون حديث يعلى : دالا على المنع ، وحديث عائشة : دالا على الجواز . والدال على المنع مقدم على الدال على الجواز ، بأن محل ذلك فيما إذا جهل المتقدم منهما . أما إذا علم المتقدم ، فإنه يجب الأخذ بالمتأخر ; لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث ، وقصة يعلى وقعت بالجعرانة عام ثمان بلا خلاف ، وحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر ومن المقرر في الأصول : أن النصين إذا تعارضا وعلم المتأخر منهما فهو ناسخ للأول ، كما هو معلوم في محله . وأجابوا عن كون الدوام على الطيب كابتدائه بأنه منتقض بالنكاح ، فإن ابتداء عقده في حال الإحرام ممنوع عند الجمهور كما تقدم إيضاحه خلافا لأبي حنيفة ، مع الإجماع على جواز الدوام على نكاح ، وقد عقده قبل الإحرام ، ثم أحرم بعد عقده الزوجان ، وهو دليل على أنه ما كل دوام كالابتداء .

وقد تقرر في الأصول أن المانع بالنسبة إلى الابتداء والدوام ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

الأول : هو المانع للدوام والابتداء معا كالرضاع ، فإن الرضاع مانع من ابتداء عقد النكاح كما أنه أيضا مانع من الدوام عليه فلو تزوج رضيعة غير محرم منه في حال العقد ، ثم أرضعتها أمه بعد العقد فإن هذا الرضاع الطارئ على عقد النكاح مانع من الدوام عليه ، [ ص: 90 ] لوجوب فسخ ذلك النكاح بذلك الرضاع الطارئ عليه ، وكالحدث فإنه مانع من ابتداء الصلاة ، مانع من الدوام عليها إذا طرأ في أثنائها .

والثاني : هو المانع للدوام فقط دون الابتداء ، كالطلاق فإنه مانع من الدوام على العقد الأول ، والاستمتاع بالزوجة بموجبه ، وليس مانعا من ابتداء عقد جديد والاستمتاع بها بموجبه .

والثالث : هو المانع من الابتداء فقط دون الدوام ، كالنكاح بالنسبة إلى الإحرام ، فإن الإحرام مانع من ابتداء العقد ، وليس مانعا من الدوام على عقد كان قبله ، وكالاستبراء ، فإنه مانع من النكاح في حال الاستبراء ، وليس مانعا من الدوام على النكاح ; لأن الزوج إذا وطئت امرأته بشبهة ، فلزمها الاستبراء بذلك فإن ذلك لا يمنع من الدوام على عقد زواجها الأول ، قالوا : ومن هذا الطيب فإن الإحرام مانع من ابتدائه ، وليس مانعا من الدوام عليه ، كالنظائر المذكورة وإلى تعريف المانع وأقسامه ، أشار في " المراقي " بقوله :



ما من وجوده يجيء العدم ولا لزوم في انعدام يعلم
بمانع يمنع للدوام والابتدا أو آخر الأقسام


أو أول فقط على نزاع كالطول الاستبراء والرضاع

هذا هو حاصل أقوال العلماء ومناقشتها .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم عندي في هذه المسألة : أن الطيب جائز عند إرادة الإحرام ، ولو بقيت ريحه بعد الإحرام ; لحديث عائشة المتفق عليه ، ولإجماع أهل العلم على أنه آخر الأمرين ، والأخذ بآخر الأمرين أولى كما هو معلوم .

وقد علمت من الأدلة أنه ليس من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - فحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر ، وحديث يعلى عام الفتح ، وهو عام ثمان ، فحديث عائشة بعد حديث يعلى بسنتين ، هذا ما ظهر ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-10, 11:55 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (354)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 91 إلى صـ 98


تنبيه

أظهر قولي أهل العلم عندي أنه إن طيب ثوبه قبل الإحرام فله الدوام على لبسه كتطييب بدنه ، وأنه إن نزع عنه ذلك الثوب المطيب بعد إحرامه ، فليس له أن يعيد لبسه ، فإن لبسه صار كالذي ابتدأ الطيب في الإحرام ، فتلزمه الفدية ، وكذلك إن نقل الطيب الذي [ ص: 91 ] تلبس به قبل الإحرام ، من موضع بدنه إلى موضع آخر بعد الإحرام ، فهو ابتداء تطيب في ذلك الموضع ، الذي نقله إليه ، وكذلك إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه ، ثم رده إليه ; لأن كل تلك الصور فيها ابتداء تلبس جديد بعد الإحرام بالطيب ، وهو لا يجوز . أما إن كان قد عرق فسال الطيب من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه في ذلك ; لأنه ليس من فعله .

ولحديث عائشة عند أبي داود الذي ذكرناه قريبا . وقال بعض علماء المالكية : ولا فرق في ذلك ، بين أن يكون الطيب في بدنه ، أو ثوبه ، إلا أنه إذا نزع ثوبه لا يعود إلى لبسه ، فإن عاد فهل عليه في العود فدية ، يحتمل أن نقول : لا فدية ; لأن ما فيه قد ثبت له حكم العفو كما لو لم ينزعه . وقال أصحاب الشافعي : تجب عليه الفدية ; لأنه لبس جديد وقع بثوب مطيب . انتهى من الحطاب والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن عشر : في أحكام أشياء متفرقة : كالنظر في المرآة للمحرم ، وغسل الرأس ، والبدن وما يلزم من قتله بغسله رأسه قملا ، والحجامة ، وحك الجسد ، والرأس وتقريد البعير ، وتضميد العين بالصبر ونحوه ، والسواك . أما النظر في المرآة : فالظاهر أنه لا بأس به للمحرم ، ولم يرد شيء يدل على النهي عنه فيما أعلم .

وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : باب الطيب عند الإحرام ، وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ، ويدهن . وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يشم المحرم الريحان ، وينظر في المرآة ، ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن ، وقال عطاء : يتختم ويلبس الهميان ، وطاف ابن عمر - رضي الله عنهما - وهو محرم ، وقد حزم على بطنه بثوب ، ولم تر عائشة - رضي الله عنها - بالتبان بأسا للذين يرحلون هودجها انتهى منه .

ومحل الشاهد عنه قول ابن عباس : وينظر في المرآة وهذه المسائل التي ذكرها البخاري ، قد قدمناها كلها وأوضحنا مذاهب العلماء فيها ، إلا النظر في المرآة الذي هو غرضنا منها الآن . وكون عائشة لم تر بأسا بالتبان ، للذين يرحلون هودجها ، والتبان كرمان ، سراويل صغير يستر العورة المغلظة ، وإباحة عائشة للتبان للذين يرحلون هودجها قريب من قول المالكية : بجواز الاستثفار للركوب والنزول ، وما ذكره البخاري عن ابن عمر من : " أنه طاف وهو محرم ، وقد حزم على بطنه بثوب " خصص المالكية ، جواز شد الحزام [ ص: 92 ] على البطن من غير عقد بضرورة العمل خاصة كما تقدم .

والحاصل : أنه لا ينبغي أن يختلف في جواز نظر المحرم في المرآة ، إذ لا دليل على النهي عنه ، وذكر ابن حجر في " الفتح " : أنه نقلت كراهته عن القاسم بن محمد ، وذلك هو مشهور مذهب مالك ، وفي سماع ابن القاسم : لا أحب نظر المحرم في المرآة ، فإن نظر فلا شيء عليه ، وليستغفر الله .

وأصح القولين عند الشافعية : أنه لا كراهة فيه ، ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وطاوس ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق قال : وبه أقول ، وكره ذلك عطاء الخراساني . وقال مالك : لا يفعل ذلك إلا عن ضرورة ، قال : وعن عطاء في المسألة قولان : بالكراهة والجواز ، وصح عن ابن عمر : أنه نظر في المرآة . انتهى بالمعنى من النووي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة : أن مجرد نظر المحرم في المرآة لا بأس به ، ما لم يقصد به الاستعانة على أمر من محظورات الإحرام ، كنظر المرأة فيها لتكتحل بما فيه طيب أو زينة ، ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

وذكر في " الفتح " أيضا : أن سعيد بن منصور روى من طريق عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها حجت ، ومعها غلمان لها ، وكانوا إذا شدوا رحلها يبدو منهم الشيء ، فأمرتهم أن يتخذوا التبابين فيلبسوها ، وهم محرمون قال : وأخرجه من وجه آخر مختصرا بلفظ : يشدون هودجها ، انتهى محل الغرض منه ، وقوله : يرحلون هودجها هو بفتح الياء المثناة التحتية ، وسكون الراء ، وفتح الحاء من قولهم : رحلت البعير أرحله بفتح الحاء في المضارع ، والماضي رحلا بمعنى : شددت الرحل على ظهره ، ومنه قول الأعشى :

رحلت سمية غدوة أجمالها غضبى عليك فما تقول بدا لها

وقول المثقب العبدي وهو عائذ بن محصن :

إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين


والهودج : مركب من مراكب النساء معروف ، وما ذكر عن عائشة - رضي الله عنها - ظاهره أنها إنما رخصت في التبان ، لمن يرحل هودجها ، لضرورة انكشاف العورة ، وهو [ ص: 93 ] يدل على أنه لا يجوز لغير ضرورة ، والعلم عند الله تعالى .

وأما غسل الرأس والبدن بالماء ، فإن كان لجنابة كاحتلام ، فلا خلاف في وجوبه ، وإن كان لغير ذلك فهو جائز على التحقيق ، ولكن ينبغي أن يكون برفق لئلا يقتل بعض الدواب في رأسه واغتسال المحرم ، وغسله رأسه ، لا ينبغي أن يختلف فيه : لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلما خالف السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - فهو مردود على قائله .

قال البخاري في صحيحه : باب الاغتسال للمحرم ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - : يدخل المحرم الحمام ، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا . حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن إبراهيم بن عبد الله بن حنين ، عن أبيه : " أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء ، فقال عبد الله بن عباس : يغسل المحرم رأسه . وقال المسور : لا يغسل المحرم رأسه ، فأرسلني عبد الله بن العباس إلى أبي أيوب الأنصاري فوجدته يغتسل بين القرنين ، وهو يستر بثوب ، فسلمت عليه فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا عبد الله بن حنين ، أرسلني إليك عبد الله بن العباس أسألك كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه ، وهو محرم ؟ فوضع أبو أيوب يده على الثوب ، فطأطأه حتى بدا لي رأسه ، ثم قال لإنسان يصب عليه : اصبب ، فصب على رأسه ، ثم حرك رأسه بيديه ، فأقبل بهما ، وأدبر وقال : هكذا رأيته - صلى الله عليه وسلم - يفعل .

وقال ابن حجر في الكلام على هذا الحديث : وكأنه خص الرأس بالسؤال ; لأنه موضع الإشكال في هذه المسألة ; لأنه محل الشعر الذي يخشى انتتافه بخلاف سائر البدن غالبا ، وحديث أبي أيوب المذكور أخرجه أيضا مسلم في صحيحه كلفظ البخاري ، وزاد مسلم فقال المسور لابن عباس : لا أماريك أبدا . وقال النووي في شرحه لحديث أبي أيوب : هذا عند مسلم ، وفي هذا الحديث فوائد .

منها : جواز اغتسال المحرم ، وغسله رأسه ، وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتف شعرا إلى آخره ، وهذا حديث متفق عليه فيه التصريح : بجواز غسل الرأس في الإحرام ، وكذلك غسل البدن ، وقال النووي في " شرح المهذب " : قال الماوردي : أما اغتسال المحرم بالماء والانغماس فيه ، فجائز لا يعرف بين العلماء ، خلاف فيه ، لحديث أبي أيوب السابق : أما دخول الحمام وإزالة الوسخ عن نفسه فجائز أيضا عندنا وبه قال الجمهور ، وقال مالك : تجب الفدية بإزالة الوسخ ، وقال أبو حنيفة : إن غسل رأسه بخطمي ؛ لزمته الفدية . دليلنا حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعير . وقال ابن المنذر : وكره [ ص: 94 ] جابر بن عبد الله ومالك : غسل المحرم رأسه بالخطمي . قال مالك : وعليه الفدية ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : عليه صدقة . قال ابن المنذر : هو مباح لحديث ابن عباس . انتهى محل الغرض منه .

وقد قدمنا جواز غسل الرأس بالماء وحده ، عن المالكية ، وكراهة غمس الرأس في الماء ما لم يتيقن أنه لا يقتل بذلك بعض دواب الرأس .

وقال صاحب " اللسان " : والخطمي : ضرب من النبات ، بغسل به ، وفي الصحاح : يغسل به الرأس . قال الأزهري : هو بفتح الخاء ، ومن قال : خطمي بكسر الخاء فقد لحن ، وفي المدونة عن مالك : لا يدخل المحرم الحمام ، فإن دخله ، وتدلك ، وألقى الوسخ : افتدى . وقال اللخمي : أرى أن يفتدي ، ولو لم يتدلك ; لأن الشأن فيمن دخل الحمام ، ثم اغتسل أن الشعث يذهب عنه ، ولو لم يتدلك ، انتهى بواسطة نقل المواق .

فتحصل : أن مطلق الغسل الذي لا تنظيف فيه لا خلاف فيه إلا ما رواه مالك ، عن ابن عمر : " أنه كان لا يغسل رأسه وهو محرم ، إلا من احتلام " . وروى مالك في " الموطأ " ، عن عمر بن الخطاب : " أنه غسل رأسه ، وهو محرم ، وأمر يعلى بن منية : أن يصب على رأسه أي : عمر الماء ، وقال : اصبب ، فلن يزيده الماء إلا شعثا " . وقد ثبت في الصحيحين جوازه ، وأن إزالة الوسخ بالتدلك في الحمام ، وغسل الرأس بالخطمي ونحو ذلك : فيه خلاف كما رأيت أقوال أهل العلم فيه .

وحجة من قال : من التدلك وإزالة الوسخ لا شيء فيه حديث ابن عباس في المحرم الذي خر عن بعيره ، ومات ، ونهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخمروا رأسه ووجهه ، وعلل ذلك : بأنه يبعث ملبيا ، ومع ذلك فقد أمرهم أن يغسلوه بماء وسدر ، وذلك ثابت في الصحيح ، وأن الأصل عدم الوجوب .

واحتج من منع إزالة الوسخ : بأن الوسخ من التفث وقد دلت آية : ثم ليقضوا تفثهم على أن إزالة التفث : لا تجوز قبل وقت التحلل الأول .

واحتجوا أيضا بحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تعالى يباهي بأهل عرفات أهل السماء ، فيقول لهم : انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا " ، قال النووي في " شرح المهذب " : رواه البيهقي بإسناد صحيح .

وأخرج الترمذي ، وابن ماجه ، عن ابن عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحاج الشعث التفل " وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي .

[ ص: 95 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما مجرد الغسل الذي لا يزيده إلا شعثا كما قال عمر - رضي الله عنه - فلا ينبغي أن يختلف فيه ، لحديث أبي أيوب المتفق عليه ، وأما التدلك في الحمام ، وغسل الرأس بالخطمي ، فلا نص فيه ، والأحسن تركه احتياطا ، وأما لزوم الفدية فيه فلا أعلم له دليلا يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى .

وأما حكم من قتل بغسله رأسه قملا ، فلا أعلم في خصوص قتل المحرم القمل نصا من كتاب ، ولا سنة .

وقد قدمنا أن مذهب مالك : أنه إن قتل قملة أو قملات أطعم ملء يد واحدة من الطعام كفارة لذلك ، وإن قتل كثيرا منه لزمته الفدية ، وعن الشافعي أن من قتل قملة : أطعم شيئا قال : وأي شيء فداها به فهو خير منها . وعند الشافعي : أنه إن ظهر القمل على بدنه أو ثيابه ، لم يكره له أن ينحيه ; لأنه ألجأه .

وذهب بعض أهل العلم إلى أن قتل القمل لا فدية فيه ، وهو مذهب أحمد وأصحابه ، مع أن عنه روايتين :

إحداهما : إباحة قتله ; لأنه يؤذي ، والأخرى منع قتله ; لأن فيه ترفها .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - :

أظهر أقوال أهل العلم عندي في ذلك : أن القمل لا يجوز قتله وأخذه من الرأس ، بدليل قصة كعب بن عجرة المتقدمة ، فإنه لو كان قتله يجوز لما صبر على أذاه ، ولتسبب في التفلي ; لإزالته من رأسه ، كما هو العادة المعروفة فيمن آذاه القمل ، وهو غير محرم إن لم يرد الحلق ، وأنه لا شيء على من قتله . والدليل على ذلك أمران .

أحدهما : أن الأصل عدم الوجوب إلا لدليل ، ولا دليل على لزوم شيء في قتل القمل ، مع أنه يؤذي أشد الإيذاء .

الأمر الثاني : أن ظاهر حديث كعب بن عجرة المتفق عليه ، وظاهر القرآن العظيم كلاهما : يدل على أن الفدية إنما لزمت بسبب حلق الرأس ، مع كثرة ما فيه من القمل ، فلو كانت الفدية تلزم من قتل القمل ، وإزالته ، لبينه - صلى الله عليه وسلم - فقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ظاهره : أن الأذى الذي برأسه من القمل ونحوه : كالمرض في إباحة الحلق ، وأن الفدية لزمت بسبب الحلق لا بسبب المرض ، ولا بسبب إزالة القمل ، وكذلك [ ص: 96 ] ظاهر حديث كعب ، حيث أمره بالحلق والفدية ، فهو يدل على أن الفدية من أجل الحلق لا غيره .

ومما يؤيد ذلك : أن القمل لا قيمة له ، فهو كالبراغيث والبعوض ، وليس القمل بمأكول ، وليس بصيد .

قال صاحب " المغني " : وحكي عن ابن عمر قال : هي أهون مقتول ، وسئل ابن عباس ، عن محرم ألقى قملة ، ثم طلبها فلم يجدها ؟ قال : تلك ضالة لا تبتغى . قال : وهذا قول طاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وأبي ثور ، وابن المنذر ، وعن أحمد فيمن قتل قملة ، قال : يطعم شيئا فعلى هذا أي شيء تصدق به أجزأه ، سواء قتل كثيرا أو قليلا ، وهذا قول أصحاب الرأي وقال إسحاق : تمرة فما فوقها . وقال مالك : حفنة من طعام . وروي ذلك عن ابن عمر ، وقال عطاء : قبضة من طعام .

وهذه الأقوال كلها راجعة إلى ما قلناه ، فإنهم لم يريدوا بذلك التقدير ، وإنما هو على التقريب لأقل ما يتصدق به . انتهى من " المغني " . ولا يخفى أنها أقوال لا دليل على شيء منها .

وحجة القائلين بها في الجملة : أن قتل القمل فيه ترفه للمحرم ، والعلم عند الله تعالى .

وأما الحجامة : إن دعت إليها ضرورة ، فلا خلاف في جوازها للمحرم ، وإنما اختلف أهل العلم في الفدية ، إن احتجم . أما جوازها لضرورة فهو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه .

قال البخاري في صحيحه : باب الحجامة للمحرم : وكوى ابن عمر ابنه ، وهو محرم ، ويتداوى ما لم يكن فيه طيب .

حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال : قال عمرو : أول شيء سمعت عطاء يقول : سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول : احتجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، ثم سمعته يقول : حدثني طاوس ، عن ابن عباس فقلت : لعله سمعه منها .

حدثنا خالد بن مخلد ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن علقمة بن أبي علقمة ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن ابن بحينة - رضي الله عنه - قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم بلحيي جمل في وسط رأسه " . انتهى من صحيح البخاري .

[ ص: 97 ] وقال البخاري في كتاب " الطب " ، باب الحجم في السفر والإحرام : قاله ابن بحينة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، وعطاء ، عن ابن عباس قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم " .

وقال البخاري في كتاب " الطب " أيضا : باب الحجامة على الرأس .

حدثنا إسماعيل ، حدثني سليمان ، عن علقمة : أنه سمع عبد الرحمن الأعرج : أنه سمع عبد الله بن بحينة ، يحدث : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم بلحيي جمل من طريق مكة وهو محرم في وسط رأسه " وقال الأنصاري :

أخبرنا هشام بن حسان ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم في رأسه " وفي لفظ للبخاري ، عن ابن عباس قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - في رأسه وهو محرم من وجع كان به بماء يقال له : لحيي جمل . وفي لفظ له أيضا ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به " انتهى منه . وحديث ابن عباس الذي ذكره البخاري : أخرجه مسلم أيضا ، عن طاوس ، وعطاء ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم " . وأخرج مسلم أيضا حديث ابن بحينة المذكور بلفظ : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم بطريق مكة وهو محرم وسط رأسه " ، ا هـ .

فهذا الحديث المتفق عليه ، عن صحابيين جليلين وهما : عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن بحينة : صريح في جواز الحجامة للمحرم إن دعت إلى ذلك ضرورة وجع . والحديث المتفق عليه المذكور فيه أن الحجامة المذكورة كانت في الرأس .

قال ابن حجر في " الفتح " : وخالف ذلك حديث أنس فأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل ، والنسائي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن حبان من طريق معمر ، عن قتادة عنه قال : " احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به " . ورجاله رجال الصحيح ، إلا أن أبا داود ، حكى عن أحمد أن سعيد بن أبي عروبة رواه عن قتادة ، فأرسله وسعيد أحفظ من معمر وليست هذه بعلة قادحة ، والجمع بين حديث ابن عباس ، وحديث أنس ، واضح بالحمل على التعدد أشار إلى ذلك الطبري . انتهى منه .

ولا يخفى أن مثل هذا لا تعارض فيه ، وأنه احتجم مرة في الرأس ، ومرة على ظهر القدم كما لا يخفى . وقوله في الحديث المتفق عليه : " بلحيي جمل " هو بفتح اللام ، [ ص: 98 ] ويجوز كسرها وسكون الحاء وياء مثناة تحتية ، وفي بعض رواياته : بياءين بصيغة التثنية ، وجمل بفتح الجيم ، والميم . وقد جاء في الروايات ، أنه اسم موضع بين مكة والمدينة . وقال في " الفتح " : قال ابن وضاح : هي بقعة معروفة وهي عقبة الجحفة على سبعة أميال من السقيا ، ا هـ .

وقال صاحب " القاموس " : ولحى جمل موضع بين الحرمين ، وإلى المدينة أقرب . وزعم صاحب " القاموس " : أن السقيا بالضم : موضع بين المدينة ، ووادي الصفراء ، وما ظنه بعضهم : من أن المراد به أحد فكي الجمل الذي هو ذكر الإبل ، وأن فكه كان هو آلة الحجامة ، فهو غلط لا شك فيه .

فهذه النصوص التي ذكرنا لا يبقى معها شك في جواز الحجامة للمحرم الذي به وجع يحتاج إلى الحجامة .

أما ما يلزم في ذلك فاختلفوا فيه : قال النووي في " شرح مسلم " : وفي هذا الحديث دليل لجواز الحجامة للمحرم . وقد أجمع العلماء على جوازها له في الرأس وغيره ، إذا كان له عذر في ذلك وإن قطع الشعر حينئذ ، لكن عليه الفدية لقطع الشعر ، فإن لم يقطع فلا فدية عليه ، ودليل المسألة قول ه تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية . وهذا الحديث محمول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان له عذر في الحجامة في وسط الرأس ; لأنه لا ينفك عن قطع شعر ، أما إذا أراد المحرم الحجامة لغير حاجة ، فإن تضمنت قلع شعر ، فهي حرام لتحريم قطع الشعر وإن لم تتضمن ذلك ، بأن كانت في موضع لا شعر فيه ، فهي جائزة عندنا .

وعند الجمهور : ولا فدية فيها ، ووافق الجمهور سحنون ، من أصحاب مالك ، وعن ابن عمر ومالك كراهتها ، وعن الحسن البصري : فيها الفدية .

دليلنا : أن إخراج الدم ليس حراما في الإحرام . انتهى منه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-10, 11:57 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (355)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 99 إلى صـ 106





وما ذكره النووي ، عن ابن عمر ومالك : من كراهة الحجامة لغير عذر ، ذكره مالك في " الموطأ " ، عن نافع ، عن ابن عمر بلفظ : أنه كان يقول : " لا يحتجم المحرم إلا مما لا بد منه " وفيه قال مالك : لا يحتجم المحرم إلا من ضرورة ، ولا شك أنها إن أدت إلى قطع شعر من غير حاجة إليها أنها حرام ، وإن كانت لا تؤدي إلى قطع شعر ، فقد وجه المالكية كراهتها المذكورة ، عن مالك وابن عمر بأمرين :

[ ص: 99 ] أحدهما : أن إخراج الدم من الحاج ، قد يؤدي إلى ضعفه ، كما كره صوم يوم عرفة للحاج ، مع أن الصوم أخف من الحجامة ، قالوا : فبطل استدلال المجيز ، بأنه لم يقم دليل على تحريم إخراج الدم في الإحرام ، لأنا لم نقل بالحرمة ، بل بالكراهة لعلة أخرى علمت . قاله : الزرقاني في " شرح الموطأ " .

ومرادهم أن ضعفه بإخراج الدم منه ، قد يؤدي إلى عجزه عن إتمام بعض المناسك .

الأمر الثاني : هو أن الحجامة إنما تكون في العادة ، بشد الزجاج ونحوه ، والمحرم ممنوع من العقد والشد على جسده . قاله : الشيخ سند .

وقال الحطاب في شرحه لقول خليل عاطفا على ما يكره : وحجامة بلا عذر - ما نصه : وأما مع العذر فتجوز ، فإن لم يزل بسببها شعرا ، ولم يقتل قملا فلا شيء عليه ، وإن أزال بسببها شعرا : فعليه الفدية . وذكر ابن بشير قولا بسقوطها قال في التوضيح : وهو غريب ، وإن قتل قملا ، فإن كان كثيرا ، فالفدية ، وإلا أطعم حفنة من طعام . والله سبحانه أعلم ، انتهى منه .

والقول الذي ذكره ابن بشير من المالكية واستغربه خليل في التوضيح بسقوط الفدية مطلقا . ولو أزال بسبب الحجامة شعرا له وجه من النظر ، ولا يخلو عندي من قوة ، والله تعالى أعلم . وإيضاح ذلك أن جميع الروايات المصرحة : " بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : احتجم في رأسه ، لم يرد في شيء منها أنه افتدى لإزالة ذلك الشعر من أجل الحجامة ، ولو وجبت عليه في ذلك فدية ، لبينها للناس ; لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .

والاستدلال على وجوب الفدية في ذلك بعموم قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية . لا ينهض كل النهوض ; لأن الآية واردة في حلق جميع الرأس ، لا في حلق بعضه ، وقد قدمنا أن حلق بعضه : ليس فيه نص صريح .

ولذلك اختلف العلماء فيه ، فذهب الشافعي : إلى أن الفدية تلزم بحلق ثلاث شعرات فصاعدا . وذهب أحمد في إحدى الروايتين إلى ذلك ، وفي الأخرى : إلى لزومها بأربع شعرات ، وذهب أبو حنيفة : إلى لزومها بحلق الربع ، وذهب مالك : إلى لزومها بحلق ما فيه ترفه ، أو إماطة أذى ، وهذا الاختلاف يدل على عدم النص الصريح في حلق بعض [ ص: 100 ] الرأس ، فلا تتعين دلالة الآية على لزوم الفدية ، في من أزال شعرا قليلا ; لأجل تمكن آلة الحجامة من موضع الوجع ، والله تعالى أعلم .

وممن قال بأن إزالة الشعر عن موضع الحجامة لا فدية فيه : محمد وأبو يوسف صاحبا أبي حنيفة ، بل قالا : في ذلك صدقة ، وقد قدمنا مرارا : أن الصدقة عندهم نصف صاع من بر أو صاع كامل من غيره كتمر وشعير .

والحاصل : أن أكثر أهل العلم منهم الأئمة الأربعة ، على أنه إن حلق الشعر لأجل تمكن آلة الحجامة ، لزمته الفدية على التفصيل المتقدم في قدر ما تلزم به الفدية ، من حلق الشعر كما تقدم إيضاحه . وأن عدم لزومها عندنا له وجه من النظر قوي ، وحكاه ابن بشير من المالكية . وأما إن لم يحلق بالحجامة شعرا ، فقد قدمنا قريبا أقوال أهل العلم فيها ، وتفصيلهم بين ما تدعو إليه الضرورة ، وبين غيره . والعلم عند الله تعالى .

واستدل أهل العلم بأحاديث الحجامة المذكورة ، على جواز الفصد ، وربط الجرح ، والدمل ، وقلع الضرس ، والختان ، وقطع العضو ، وغير ذلك من وجوه التداوي ، إذ لم يكن في ذلك محظور : كالطيب ، وقطع الشعر .

وأما الحك فإن كان في موضع لا شعر فيه فلا ينبغي أن يختلف في جوازه ، وإن كان في موضع فيه شعر كالرأس ، وكان برفق بحيث لا يحصل به نتف بعض الشعر فكذلك ، وإن كان بقوة بحيث يحصل به نتف بعض الشعر ، فالظاهر أنه لا يجوز .

وهذا هو الصواب إن شاء الله في مسألة الحك . ولم أعلم في ذلك بشيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإنما فيه بعض الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - وقد قدمنا قول البخاري ، ولم ير ابن عمر وعائشة بالحك بأسا .

وروى مالك في " الموطأ " عن علقمة بن أبي علقمة ، عن أمه أنها قالت : سمعت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - تسأل عن المحرم ، أيحك جسده ؟ قالت : نعم فليحككه ، وليشدد ، ولو ربطت يداي ، ولم أجد إلا رجلي لحككت ، ا هـ .

وأما نزع القراد والحلمة من بعيره ، فقد أجازه عمر بن الخطاب ، وكرهه ابن عمر ومالك . وقد روى مالك في " الموطأ " عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، عن ربيعة بن أبي عبد الله بن الهدير : أنه رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقرد بعيرا له في طين بالسقيا ، وهو محرم . قال مالك : وأنا أكرهه . وروي أيضا في [ ص: 101 ] " الموطأ " عن نافع : أن عبد الله بن عمر كان يكره أن ينزع المحرم حلمة ، أو قرادا عن بعيره . قال مالك : وذلك أحب ما سمعت إلي في ذلك . وقوله : يقرد بعيره : أي ينزع عنه القراد ويرميه .

وأما تضميد العين بالصبر ونحوه مما لا طيب فيه لضرورة الوجع فلا خلاف فيه بين العلماء ، وأنه لا فدية فيه ، كما أجمعوا على أنه إن دعته الضرورة إلى تضميد العين ونحوها بما فيه طيب . أن ذلك جائز له ، وعليه الفدية .

ومن أدلتهم على جواز تضميد العين بالصبر ونحوه : ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب جميعا ، عن ابن عيينة قال أبو بكر : حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا أيوب بن موسى ، عن نبيه بن وهب قال : خرجنا مع أبان بن عثمان ، حتى إذا كنا بملل اشتكى عمر بن عبيد الله عينيه ، فلما كنا بالروحاء اشتد وجعه ، فأرسل إلى أبان بن عثمان يسأله ، فأرسل إليه : أن اضمدهما بالصبر ، فإن عثمان - رضي الله عنه - حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل إذا اشتكى عينيه ، وهو محرم ضمدهما بالصبر . وفي لفظ عن مسلم : أن عمر بن عبيد الله بن معمر رمدت عينه ، فأراد أن يكحلها ، فنهاه أبان بن عثمان ، وأمره أن يضمدها بالصبر ، وحدث عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه فعل ذلك . انتهى من صحيح مسلم .

وأما السواك في الإحرام ، فلا خلاف في جوازه بين أهل العلم .

قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : وربط جرحه ما نصه : قال التادلي في مناسك ابن الحاج : وأجمع أهل العلم على أن للمحرم أن يتسوك ، وإن دمي فمه . انتهى .

وقال ابن عرفة الشيخ : روى محمد والعتبي : للمحرم أن يتسوك ، ولو أدمى فاه انتهى ، ثم قال : قلت : لا يلزم من منع القاضي الزينة منع السواك بالجوزاء ونحوه . انتهى والله أعلم . انتهى كلام الحطاب .
فصل فيما تتعدد فيه الفدية ونحوها وما لا يتعدد فيه ذلك وأقوال العلماء فيه

اعلم أولا : أن هذا الفصل يدخل في مسألة كبيرة ، يذكرها علماء الأصول في مبحث الأمر ، وهي : هل الأمر يقتضي التكرار أو لا ؟ وهي ذات واسطة وطرفين ، طرف يتعدد فيه اللازم بلا خلاف ، وطرف لا يتعدد فيه ، بلا خلاف ، وواسطة : هي محل الخلاف ، وهذا البحث أعم مما نحن بصدده ، ولكن إذا تكلمنا عليه على سبيل العموم ، رجعنا إلى [ ص: 102 ] مسألتنا ، فذكرنا فيها كلام أهل العلم ، وأدلتهم ، وناقشناها .

والمسألة المذكورة : هي إذا تعددت الأسباب ، واتحد موجبها بصيغة اسم المفعول ، هل يتعدد الموجب نظرا لتعدد أسبابه أو لا يتعدد نظرا لاتحاده في نفسه ؟ وأشار إلى هذه المسألة في الجملة الشيخ ميارة في " التكميل " بقوله :



إن يتعدد سبب والموجب متحد كفى لهن موجب كناقض سهو ولوغ
والفدا حكاية حد تيمم بدا وذا الكثير والتعدد ورد
بخلف أو وفق بنص معتمد

فقوله : الموجب في الموضعين بصيغة اسم المفعول . وقوله كناقض يعني : أن نواقض الوضوء إن تعددت كمن بال مرات . أو بال ونام وقبل ، فإنه يكفي لجميعها وضوء واحد . وكذلك الجنابة ، إن تعددت أسبابها بوطء مرات ، وإنزال بلذة ، واحتلام ، وانقطاع حيض ، فإنه يكفي لجميع ذلك غسل واحد .

وقوله : سهو يعني : أن من سها في صلاته مرات متعددة ، يكفيه لجميعها سجود سهو واحد .

وقوله : ولوغ يعني : أنه إذا تعدد ولوغ الكلب في الإناء بأن ولغ فيه مرات متعددة أو دلفت فيه كلاب متعددة ، فإنه يكفي لجميع ذلك غسله سبع مرات على نحو ما في الحديث ، ولا يتعدد الغسل بتعدد الولوغ .

وقوله : والفدا يعني : أن من تكرر منه موجب الفدية ، كمن لبس ثوبا مخيطا مطيبا تكفيه فدية واحدة .

قوله : حكاية يعني : أن من سمع أذان جماعة من المؤذنين في وقت واحد ، يكفيه حكاية أذان واحد ، ولا تتعدد حكاية الأذان لتعدد المؤذنين .

وقوله : حد يعني : أن من زنى مرات متعددة قبل أن يقام عليه الحد يكفي حده حدا واحدا ، ولا يتعدد الحد بتعدد الزنى مثلا . أما إذا أقيم عليه الحد ، ثم زنى بعد إقامة الحد ، فإنه يقام عليه الحد لزناه الواقع بعد إقامة الحد .

وقوله : تيمم يعني : أن الجنب مثلا الذي حكمه التيمم ، إذا أراد حمل المصحف وقراءة القرآن فيه يكفيه تيمم واحد ، ولا يلزمه أن يتيمم لكل واحد منهما .

[ ص: 103 ] وقوله : وذا الكثير يعني : أن الكثير في فروع هذه المسألة عدم تعدد الموجب الذي تعددت أسبابه .

وقوله : والتعدد ورد بخلف ، أو وفق يعني : أن تعدد الموجب ، لتعدد أسبابه وارد في الشرع ، وتارة يكون مجمعا على تعدده ، وتارة يكون مختلفا فيه ، فقوله : أو وفق يعني : بالوفق الاتفاق ، ومراده به الإجماع . وقد نظم العلوي الشنقيطي في " نشر البنود شرح مراقي السعود " ما يتعدد بتعدد سببه إجماعا ، وما يتعدد بخلاف في شرحه ; لقوله في " المراقي " :



أو التكرر إذا ما علقا بشرط أو بصفة تحققا


فقال - رحمه الله - :



وما تعدد بوفق غره أو دية ومهر غصب الحره
عقيقة ومهر من لم تعلم والثلث من بعد الخروج فاعلم
والخلف في صاع المصراة وفي كفارة الظهار من نسى يفي
وهدي من نذر نحر ولده غسل إن الولغ يرى بعدده
حكاية المؤذنين وسجود تلاوة وبعد تكفير يعود
قذف جماعة وثلث قبل أن يخرج ثلثا قاله من قد فطن
كفارة اليمين بالله علا لقصد تأسيس من الذي ائتلى


وحاصل كلامه في نظمه : أن الذي يتعدد إجماعا خمس مسائل :

الأولى : أن من ضرب بطن حامل ، فأسقطت جنينين مثلا ، يتعدد الواجب فيهما من غرة أو دية على ما مر تفصيله في سورة " بني إسرائيل " ، وهذا مراده بقوله : وما تعدد بوفق غرة أو دية .

المسألة الثانية : أن من غصب حرة فزنى بها مرات متعددة ، يتعدد عليه مهرها بتعدد الزنى بها .

والثالثة : أن من ولد له توأمان لزمته عقيقتان .

الرابعة : أن من وطئت مرات وهي غير عالمة كالنائمة ، فإنه يتعدد لها المهر بتعدد الوطء .

الخامسة : أن من نذر ثلث ماله فأخرجه ثم نذر بعد ذلك ثلثه ، فإنه يلزمه ، ومراده [ ص: 104 ] بهذا واضح من النظم ، وقد يقال : إن بعض المذكورات ، لا يخلو من خلاف .

أما ما ذكر تعدده على خلاف فيه ، فهو عشر مسائل :

الأولى : صاع المصراة يعني : صاع التمر الذي يرده مع المصراة إذا حلبها ، هل يتعدد بتعدد الشياه المصراة ، أو يكفي عن جميعها صاع واحد ، والأظهر في هذه التعدد .

الثانية : إذا ظاهر من زوجاته الأربع ، هل تتعدد كفارة الظهار بتعددهن ، أو تكفي كفارة واحدة ؟

والثالثة : إذا تكرر منه نذر ذبح ولده ، بأن نذر أنه يذبح اثنين ، أو ثلاثة من ولده ، وقلنا : يلزمه الهدي ، هل يتكرر بتكرر الأولاد المنذور ذبحهم ، أو يكفي هدي واحد ؟

والرابعة : تعدد ولوغ الكلاب في الإناء ، هل يتعدد الغسل سبعا بتعدد الولوغ ، أو يكفي غسله سبعا مرة واحدة ؟

والخامسة : حكاية أذان المؤذنين .

والسادسة : سجود التلاوة ، إذا كرر آية السجود مرارا في وقت واحد ، هل يكفي سجود واحد أو لا ؟

والسابعة : إذا جامع في نهار رمضان ، ثم كفر من حينه ، ثم جامع مرة أخرى في نفس اليوم ، هل تتعدد الكفارة أو لا ؟

والثامنة : إذا قذف جماعة ، هل يتعدد عليه حد القذف بتعددهم ، أو يكفي حد واحد ؟

والتاسعة : إذا نذر ثلث ماله ، ثم نذر ثلثا آخر قبل أن يخرج الثلث الأول هل يلزمه النذر في الثلثين ، أو يكفي واحد ؟

والعاشرة : إذا حلف بالله مرات متعددة ، وقصد بكل يمين التأسيس لا التأكيد ، هل تتعدد الكفارة بتعدد الأيمان ، أو تكفي كفارة واحدة ، هذا هو حاصل مراده بالأبيات .

ولا شك أن المسائل المتفق على تعددها والمختلف فيها أكثر مما ذكر بكثير ، فمن المسائل المتفق على التعدد فيها ، ولم يذكرها من صاد ظبيين مثلا ، وهو محرم فإنه يتكرر عليه الجزاء إجماعا . وما روي عن أحمد من أنه يكفي جزاء واحد ، لا يصح ، كما قاله صاحب " المغني " ; لأنه مخالف لصريح قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم ; لأن الواحد لا يكون مثلا للاثنين .

[ ص: 105 ] والحاصل : أن هذه المسألة ، إنما تعرف فروعها بالتتبع ، فقد يكفي موجب واحد مع تعدد الأسباب إجماعا ، كتعدد نواقض الوضوء ، وأسباب الجنابة ، وتعدد سبب الحد كالزنى ، وقد يتعدد إجماعا كالمسائل المذكورة آنفا ، وقد يختلف في تعدده ، وعدم تعدده وهذا هو الغالب في فروع هذه المسألة ، خلافا لما قاله الشيخ ميارة في " التكميل " .

فإذا علمت هذه المسألة في الجملة وعلمت أنها عند الأصوليين من المسائل المبنية على مسألة : الأمر هل يقتضي التكرار أو لا يقتضيه ؟ فهذه أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في المسألة التي نحن بصددها ، وهي ما تعدد فيه الفدية ونحوها ، بتعدد أسبابها ، وما لا تتعدد فيه .

واعلم أولا : أن تعدد اللازم في الجماع بتعدد الجماع ، وعدم تعدده قد قدمنا أقوال أهل العلم فيه ، واستوفينا الكلام عليه .

أما مذهب مالك - رحمه الله - في هذه المسألة ففيه تفصيل . حاصله : أن الجماع لا يتعدد الهدي اللازم فيه بتعدده ، سواء جامع بعد إخراج الهدي عن الجماع الأول أو قبله . وأما غير الجماع من محظورات الإحرام كلبس المخيط والتطيب ، وحلق الرأس ، وقلم الأظافر ، ونحو ذلك ، فتارة تكفي عنده في ذلك فدية واحدة ، عن الجميع ، وتارة تتعدد بتعدد أسبابها .

أما موجبات عدم تعدد الفدية ، فهي في مذهب مالك ثلاثة .

الأولى : أن يكون فعل أسباب الفدية في وقت واحد أو بعضها بالقرب من بعض ، فإن لبس وتطيب وحلق في وقت واحد ، فعليه فدية واحدة ، وكذلك إن فعل بعضها قريبا من بعض ، والقول الذي خرجه اللخمي بالتعدد في ذلك ضعيف ، لا يعول عليه .

الثانية : أن ينوي فعل جميعها ، بأن ينوي اللبس والتطيب والحلق فتلزمه فدية واحدة ، ولو كان بعضها بعد بعض غير قريب منه .

الثالثة : أن يكون فعل محظورات الإحرام ظانا أنها مباحة ، كالذي يطوف على غير وضوء في عمرته ، ثم يسعى ، ويحل ويفعل محظورات متعددة ، وكالذي يرفض إحرامه ظانا أن الإحرام يصح رفضه ، فيفعل بعد رفضه محظورات متعددة ، وكمن أفسد إحرامه بالوطء ، ثم فعل موجبات الفدية ظانا أن الإحرام تسقط حرمته بالفساد ، وجعل بعض المالكية من صور ظن الإباحة من ظن أن الإحرام لا يمنعه من محرماته أو لا يمنعه من [ ص: 106 ] بعضها . وأما ما يوجب تعدد الفدية عند المالكية ، فهو أن يفعل محظورات الإحرام مترتبة بعضها بعد بعض ، غير قريب منه ، فإنه تلزمه بكل محظور فدية ، ولو كثر ذلك سواء كانت المحظورات من نوع واحد ، كمن كرر التطيب ، أو كرر اللبس ، أو كرر الحلق في أوقات غير متقاربة ، والظاهر أن القرب بحسب العرف ، أو من أنواع كمن لبس مخيطا ، ثم تطيب ، ثم حلق ، فإن الفدية تتعدد في جميع ذلك ، إن لم يكن بعضه قريبا من بعض ، أو في وقت واحد ، فإن احتاج إلى لبس قميص ، ثم احتاج بعد ذلك إلى لبس سراويل ، ففدية واحدة عندهم ; لأن محل السراويل كان يستره القميص قبل لبس السراويل . أما إن احتاج إلى السراويل أولا ، ثم احتاج بعد ذلك إلى القميص ، ففديتان ; لأن القميص يستر من أعلى بدنه شيئا ما كان يستره السراويل .

هذا هو حاصل مذهب مالك في تعدد الفدية وعدمه في تعدد محظورات الإحرام .

وأما مذهب أبي حنيفة : فهو أنه إن تكرر منه موجب الفدية من نوع واحد في مجلس واحد ، فعليه كفارة واحدة ، وهي فدية الأذى إن كان ذلك لعذر ، ودم إن كان لغير عذر ، وإن فعل ذلك في مجالس متعددة تعددت الكفارة . وقال محمد : لا تتعدد إلا إذا كفر عن الأول قبل فعل الثاني ، فلو لبس قميصا وقباء وسراويل وخفين يوما كاملا لزمه دم واحد أو فدية واحدة ; لأنها من جنس واحد فصارت كجناية واحدة ، وكذلك لو دام على لبس ذلك أياما ، وكذا لو كان ينزعه بالليل ، ويلبسه بالنهار ، لا يجب عليه إلا دم واحد ، إلا إذا نزعه على عدم الترك ، ثم لبسه بعد ذلك ، فإنه يجب عليه دم آخر ; لأن اللبس الأول انفصل عن الثاني بالعزم على الترك ، وكذا لو لبس قميصا للضرورة ولبس خفين من غير ضرورة فعليه دم وفدية ; لأن السبب اختلف فلا يمكن التداخل ، وكذلك لو طيب جميع أعضائه ، فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد ، إن كان لغير عذر . وفدية واحدة ، إن كان ذلك لعذر ، وإن كان تطييب أعضائه في مجالس تعددت الفدية أو الدم بتعدد الأعضاء التي طيبها في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، سواء ذبح للأول أو لم يذبح . وقال محمد : إن ذبح للأول فكذلك ، وإن لم يذبح فعليه دم واحد ، وإن اختلفت أسباب الفدية ، كمن تطيب ، ولبس مخيطا أو تطيب ، وغطى رأسه يوما كاملا مثلا ، تعددت الفدية ، أو الدم سواء كان ذلك في مجلس واحد ، أو في مجلسين . وقد قدمنا أنه لا خلاف في تعدد جزاء الصيد بتعدد الصيد . وما روي عن أحمد مما يخالف ذلك ، لم يصح لمخالفته صريح القرآن العظيم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-11, 12:01 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (356)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 107 إلى صـ 114




[ ص: 107 ] هذا هو حاصل مذهب أبي حنيفة في المسألة .

وأما مذهب أحمد في هذه المسألة فهو : أنه إن فعل محظورات متعددة من جنس واحد ، كما لو حلق مرة بعد مرة ، أو لبس مرة بعد مرة ، أو تطيب مرة بعد مرة : فعليه فدية واحدة ، ولا تتعدد الفدية بتعدد الأسباب ، التي هي من نوع واحد ، سواء كانت في مجلس واحد ، أو مجالس متفرقة ، ومحل هذه ما لم يكفر عن الفعل الأول ، قبل الفعل الثاني . فلو تطيب مثلا ، ثم افتدى ثم تطيب بعد الفدية لزمته فدية أخرى ; لتطيبه بعد أن افتدى .

وعن أحمد : أنه إن كرر ذلك لأسباب مختلفة ، مثل أن لبس للبرد ، ثم لبس للحر ، ثم لبس للمرض فكفارات ، وإن كان لسبب واحد فكفارة واحدة . وقد روى عنه الأثرم فيمن لبس قميصا وجبة وعمامة وغير ذلك لعلة واحدة .

قلت له : فإن اعتل فلبس جبة ، ثم برئ ، ثم اعتل فلبس جبة ، قال : هذا الآن عليه كفارتان قاله في " المغني " ، ثم قال : وعن الشافعي كقولنا ، وعنه لا يتداخل . وقال مالك : تتداخل كفارة الوطء دون غيره ، وقال أبو حنيفة : إن كرره في مجلس واحد فكفارة واحدة ، وإن كان في مجالس فكفارات ; لأن حكم المجلس الواحد حكم الفعل الواحد ، بخلاف غيره ، ولنا أن ما يتداخل إذا كان بعضه عقب بعض ، يجب أن يتداخل ، وإن تفرق كالحدود وكفارة الأيمان ، ولأن الله تعالى أوجب في حلق الرأس : فدية واحدة ، ولم يفرق بين ما وقع في دفعة أو دفعات ، والقول بأنه لا يتداخل غير صحيح ، فإنه إذا حلق رأسه لا يمكن إلا شيئا بعد شيء . انتهى من " المغني " .

وأما إن كانت المحظورات من أجناس مختلفة ، كأن حلق ، ولبس ، وتطيب ، ووطئ فعليه لكل واحد منها فدية ، سواء فعل ذلك مجتمعا أو متفرقا . قال في " المغني " : وهذا مذهب الشافعي .

وعن أحمد أن في الطيب واللبس والحلق فدية واحدة ، وإن فعل ذلك واحدا بعد واحد ، فعليه لكل واحد دم ، وهو قول إسحاق .

وقال عطاء وعمرو بن دينار : إذا حلق ثم احتاج إلى الطيب أو إلى قلنسوة أو إليهما ، ففعل ذلك ، فليس عليه إلا فدية .

وقال الحسن : إن لبس القميص ، وتعمم ، وتطيب فعل ذلك جميعا : فليس عليه إلا كفارة واحدة ، ونحو ذلك عن مالك .

[ ص: 108 ] ولنا أنها محظورات مختلفة الأجناس ، فلم تتداخل أجزاؤها كالحدود المختلفة ، والأيمان المختلفة ، وعكسه ما إذا كان من جنس واحد . انتهى من " المغني " .

وهذا هو حاصل مذهب أحمد في المسألة .

وأما مذهب الشافعي في هذه المسألة : فهو أن المحظورات تنقسم عند الشافعية إلى استهلاك ، كالحلق ، والقلم ، والصيد وإلى استمتاع ، وترفه كالطيب ، واللباس ، ومقدمات الجماع فإذا فعل محظورين ، فله ثلاثة أحوال :

أحدها : أن يكون أحدهما استهلاكا ، والآخر استمتاعا ، فينظر : إن لم يستند إلى سبب واحد ، كالحلق ، ولبس القميص تعددت الفدية كالحدود المختلفة ، وإن استند إلى سبب واحد ، كمن أصابت رأسه شجة ، واحتاج إلى حلق جوانبها ، وسترها بضماد ، وفيه طيب ، ففي تعدد الفدية وجهان ، والصحيح منهما تعددها .

الحال الثاني : أن يكون استهلاكا وهو على ثلاثة أضرب :

الأول : أن يكون مما يقابل بمثله ، وهو الصيد . فتتعدد الفدية بتعدده ، بلا خلاف عندهم ، سواء فدى عن الأول أم لا ، وسواء اتحد الزمان والمكان ، أو اختلفا كضمان المتلفات .

الضرب الثاني : أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله ، دون الآخر كالصيد والحلق فتتعدد بلا خلاف . الضرب الثالث : أن لا يقابل واحد منهما بمثله ، فينظر إن اختلف نوعهما كحلق وطيب أو لباس وحلق ، تعددت الفدية ، سواء فرق بينهما أو والى في مكان أو مكانين بفعلين أم بفعل واحد ، وإن لبس ثوبا مطيبا فوجهان عندهم ، الصحيح المنصوص منهما : أن عليه فدية واحدة ، والثاني : عليه فديتان ، وإن اتحد النوع . فإن كرر الحلق ، وكان ذلك في وقت واحد - لزمته فدية واحدة ، كمن يحلق رأسه شيئا بعد شيء في وقت واحد ، ولو طال الزمان ، وهو في أثناء الحلق ، فهو كما لو حلف لا يأكل في اليوم إلا مرة واحدة ، فوضع الطعام ، وجعل يأكل لقمة لقمة من بكرة إلى العصر ، فإنه لا يحنث عندهم .

وأما إن كان الحلق في أمكنة متعددة أو في مكان واحد في أوقات متفرقة ففيه عندهم طريقان . أصحهما : تتعدد الفدية فتفرد كل مرة بحكمها ، فإن كان حلق في كل مرة ثلاث شعرات فصاعدا ، وجب لكل مرة فدية ، وإن كانت شعرة أو شعرتين ، ففيها الأقوال السابقة [ ص: 109 ] الأربعة : وهي أنه قيل في الشعرة الواحدة مد . وقيل : درهم . وقيل : ثلث دم . وقيل : دم كامل وحكم الشعرتين معروف من هذا كما تقدم إيضاحه .

الطريق الثاني : أن في المسألة قولين : بالتعدد ، وعدمه ، وعدم التعدد : هو القديم ، والتعدد : هو الجديد . وإن حلق عندهم ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة أو ثلاثة أزمنة متفرقة ، ففي ذلك عندهم طريقان ، أصحهما ، أنه يفرد كل شعرة بحكمها ، وفيها الأقوال الأربعة الماضية .

والطريق الثاني : هو تفريع ذلك على القول ، بالتداخل وعدمه . فإن قلنا بالتداخل : لزمته فدية كاملة ; لأنه كأنه قطع الشعرات الثلاث في وقت واحد ، وإن قلنا : بعدمه ، وهو الصحيح عندهم ، فلكل شعرة حكمها ، كما تقدم في الطريق الصحيح عندهم . ولو أخذ ثلاث شعرات في وقت واحد من ثلاثة مواضع من بدنه . ففيه عندهم طريقان :

أصحهما : لزوم الفدية ، كما لو أخذها من موضع واحد .

والطريق الثاني : فيه وجهان أحدهما : هذا الذي ذكرناه آنفا .

والثاني : أنه كما لو أزالها في أزمنة متفرقة ، أو أمكنة متفرقة ، فيجري على الخلاف في ذلك وقد قدمنا أن حكم الأظفار عندهم كحكم الشعر .

الحال الثالث : أن يكون استمتاعا ، فإن اتحد النوع بأن تطيب بأنواع من الطيب أو لبس أنواعا من الثياب كعمامة وقميص وسراويل ، وخف أو استعمل نوعا واحدا مرات ، فإن فعل ذلك متواليا من غير أن يتخلله تكفير عن الأول ففدية واحدة تكفي للجميع ، وإن تخلله تكفير وجبت الفدية للثاني أيضا ، وإن فعل ذلك في مكانين ، أو زمانين متفرقين فإن تخللهما تكفير : وجبت الفدية للثاني أيضا ، وإن لم يتخللهما تكفير فقولان ، الأصح عندهم منهما ، وهو الجديد : تعدد الفدية ، والقديم : تتداخل ، ولا تتعدد وإن اختلف النوع ، بأن لبس وتطيب في مجلس واحد ، قبل أن يكفر عن الأول منهما أو فعلهما معا ، ففيه ثلاثة أوجه مشهورة عندهم .

أصحها : تعدد الفدية لاختلاف نوع السبب .

الثاني : تجب فدية واحدة ; لأنهما استمتاع ، فيتداخلان ، لاتحاد الجنس .

الثالث : التفصيل ، فإن اتحد سببهما بأن أصابته شجة ، واحتاج في مداواتها إلى طيب وسترها . لزمته فدية واحدة ، وإن لم يتحد السبب : ففديتان ، وهذا كله في غير [ ص: 110 ] الجماع ، وقد قدمنا حكم تعدد الجماع ، وفيه للشافعية خمسة أقوال :

أصحها : تجب بالجماع الأول : بدنة ، وبالثاني : شاة .

والثاني : تجب بكل جماع بدنة .

الثالث : تكفي بدنة واحدة عن الجميع .

الرابع : إن كفر عن الأول ، قبل الجماع الثاني وجبت الكفارة للثاني : وهي شاة في الأصح ، وبدنة في القول الآخر ، وإن لم يكن كفر عن الأول كفته بدنة عنهما .

والخامس : إن طال الزمان بين الجماعين أو اختلف المجلس : وجبت كفارة أخرى للثاني ، وفيها القولان . وإلا فكفارة واحدة ، وإن وطئ مرة ثالثة ورابعة ، أو أكثر ففيه الأقوال المذكورة ، الأظهر : تجب للأول بدنة ، ولكل جماع بعد ذلك شاة .

والثاني : تجب بكل جماع بدنة إلى آخر الأقوال المذكورة آنفا . هذا هو حاصل مذهب الشافعي في المسألة .

ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الحج في الكلام على آية الحج هذه خوف الإطالة المملة .

تنبيهان :

الأول : اعلم أن مسألة الإحصار والفوات وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " البقرة " ، ومسألة الصيد وجزائه في الإحرام ، أو أحد الحرمين ، وأشجار الحرمين ، ونباتهما ونحو ذلك وصيد وج - قد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " المائدة " ، وأحكام الهدي سيأتي تفصيلها إن شاء الله في الآيات الدالة عليها من سورة " الحج " هذه .

التنبيه الثاني : اعلم أن جميع ما ذكرنا في هذا الفصل من تعدد الفدية ، وعدم تعددها ، إذا تعددت أسبابها لا نص فيه من كتاب ولا سنة فيما نعلم ، واختلاف أهل العلم فيه كما ذكرنا من نوع الاختلاف في تحقيق المناط . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ليشهدوا منافع لهم . اللام في قوله : ليشهدوا [ 22 \ 28 ] : هي لام التعليل : وهي متعلقة بقوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر الآية [ 22 \ 27 ] : أي إن تؤذن فيهم يأتوك مشاة وركبانا ، لأجل أن يشهدوا : أي يحضروا منافع لهم ، والمراد بحضورهم المنافع : حصولها لهم .

[ ص: 111 ] وقوله : منافع جمع منفعة ، ولم يبين هنا هذه المنافع ما هي . وقد جاء بيان بعضها في بعض الآيات القرآنية ، وأن منها ما هو دنيوي ، وما هو أخروي ، أما الدنيوي فكأرباح التجارة ، إذا خرج الحاج بمال تجارة معه ، فإنه يحصل له الربح غالبا ، وذلك نفع دنيوي .

وقد أطبق علماء التفسير على أن معنى قوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ 2 \ 198 ] أنه ليس على الحاج إثم ولا حرج ، إذا ابتغى ربحا بتجارة في أيام الحج ، إن كان ذلك لا يشغله عن شيء ، من أداء مناسكه ، كما قدمنا إيضاحه .

فقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فيه بيان لبعض المنافع المذكورة في آية " الحج " هذه وهذا نفع دنيوي .

ومن المنافع الدنيوية ما يصيبونه من البدن والذبائح ، كما يأتي تفصيله إن شاء الله قريبا ; كقوله في البدن : لكم فيها منافع إلى أجل مسمى على أحد التفسيرين .

وقوله : فكلوا منها في الموضعين ، وكل ذلك نفع دنيوي ، وفي ذلك بيان أيضا لبعض المنافع المذكورة في آية " الحج " هذه .

وقد بينت آية " البقرة " على ما فسرها به جماعة من الصحابة ومن بعدهم ، واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره ، ووجه اختياره له ، بكثرة الأحاديث الدالة عليه : أن من المنافع المذكورة في آية " الحج " غفران ذنوب الحاج ، حتى لا يبقى عليه إثم إن كان متقيا ربه في حجه بامتثال ما أمر به ، واجتناب ما نهي عنه .

وذلك أنه قال : إن معنى قوله تعالى : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه [ 2 \ 203 ] أن الحاج يرجع مغفورا له ، ولا يبقى عليه إثم ، سواء تعجل في يومين ، أو تأخر إلى الثالث ، ولكن غفران ذنوبه هذا مشروط بتقواه ربه في حجه ، كما صرح به في قوله تعالى : لمن اتقى الآية : أي وهذا الغفران للذنوب ، وحط الآثام إنما هو لخصوص من اتقى .

ومعلوم أن هذه الآية الكريمة فيها أوجه من التفسير غير هذا .

وممن نقل عنهم ابن جرير أن معناها : أنه يغفر للحاج جميع ذنوبه ، سواء تعجل في [ ص: 112 ] يومين ، أو تأخر : علي ، وعبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وإبراهيم ، وعامر ، ومعاوية بن قرة .

ولما ذكر أقوال أهل العلم فيها قال : وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال : تأويل ذلك : فمن تعجل من أيام منى الثلاثة ، فنفر في اليوم الثاني ، فلا إثم عليه ، يحط الله ذنوبه إن كان قد اتقى في حجه ، فاجتنب فيه ما أمر الله باجتنابه ، وفعل فيه ما أمر الله بفعله ، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده ، ومن تأخر إلى اليوم الثالث منهن ، فلم ينفر إلى النفر الثاني ، حتى نفر من غد النفر الأول ، فلا إثم عليه ، لتكفير الله ما سلف من آثامه ، وإجرامه إن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده .

وإنما قلنا : إن ذلك أولى تأويلاته : لتظاهر الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " وأنه قال : " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة " . وساق ابن جرير - رحمه الله - بأسانيده أحاديث دالة على ذلك ففي لفظ له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " تابعوا بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة " . وفي لفظ له عن عمر يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " تابعوا بين الحج والعمرة ، فإن المتابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير الخبث ، أو خبث الحديد " . وفي لفظ له عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك " ، وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب مما ينبئ عن أن من حج ، فقضاه بحدوده على ما أمره الله ، فهو خارج من ذنوبه كما قال جل ثناؤه فلا إثم عليه لمن اتقى الله في حجه ، فكان في ذلك من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يوضح أن معنى قوله جل وعز : فلا إثم عليه أنه خارج من ذنوبه ، محطوطة عنه آثامه ، مغفورة أجرامه إلى آخر كلامه الطويل في الموضوع .

وقد بين فيه أنه لا وجه لقول من قال : إن المعنى لا إثم عليه في تعجله ، ولا إثم عليه في تأخره ; لأن التأخر إلى اليوم الثالث ، لا يحتمل أن يكون فيه إثم ، حتى يقال فيه : فلا إثم عليه ، وأن قول من قال : إن سبب النزول أن بعضهم كان يقول : التعجل لا يجوز ، وبعضهم يقول : التأخر لا يجوز .

[ ص: 113 ] فمعنى الآية : النهي عن تخطئة المتأخر المتعجل كعكسه : أي لا يؤثمن أحدهما الآخر ، أن هذا القول خطأ ، لمخالفته لقول جميع أهل التأويل .

والحاصل : أنه أعني الطبري بين كثيرا من الأدلة على أن معنى الآية : هو ما ذكر من أن الحاج يخرج مغفورا له ، كيوم ولدته أمه ، لا إثم عليه ، سواء تعجل في يومين ، أو تأخر ، وقد يظهر للناظر أن ربط نفي الإثم في قوله : فلا إثم عليه بالتعجل والتأخر في الآية ، ربط الجزاء بشرطه يتبادر منه أن نفي الإثم إنما هو في التعجل والتأخر ، ولكن الأدلة التي أقامها أبو جعفر الطبري ، على المعنى الذي اختار فيها فيه مقنع ، وتشهد لها أحاديث كثيرة ، وخير ما يفسر به القرآن بعد القرآن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - .

فقوله في آية البقرة هذه : فلا إثم عليه ، هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " رجع كيوم ولدته أمه " ، وقوله : لمن اتقى ، هو معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق " ; لأن من لم يرفث ، ولم يفسق ، هو الذي اتقى .

ومن كلام ابن جرير الطويل الذي أشرنا إليه أنه قال ما نصه : فإن قال قائل : ما الجالب للام في قوله : لمن اتقى وما معناها ؟

قيل : الجالب لها معنى قوله : فلا إثم عليه ; لأن في قوله : فلا إثم عليه معنى : حططنا ذنوبه ، وكفرنا آثامه ، فكان في ذلك معنى : جعلنا تكفير الذنوب لمن اتقى في الله حجه ، وترك ذكر " جعلنا تكفير الذنوب " اكتفاء بدلالة قوله : فلا إثم عليه ، وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة ، فقد أخبر عن أمر فقال : لمن اتقى أي هذا لمن اتقى ، وأنكر بعضهم ذلك من قوله : وقد زعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به ; لأنها لا تقوم بنفسها ، ولكنها فيما زعم من صلة قول متروك .

فكان معنى الكلام عنده ما قلنا : من أن من تأخر لا إثم عليه لمن اتقى ، وقام قوله : ومن تأخر فلا إثم عليه مقام القول . انتهى محل الغرض من كلام ابن جرير .

وعلى تفسير هذه الآية الكريمة بأن معنى فلا إثم عليه في الموضعين : أن الحاج يغفر جميع ذنوبه ، فلا يبقى عليه إثم ، فغفران جميع ذنوبه هذا الذي دل عليه هذا التفسير من أكبر المنافع المذكورة في قوله : ليشهدوا منافع لهم وعليه فقد بينت آية " البقرة " هذه بعض ما دلت عليه آية " الحج " ، وقد أوضحت السنة هذا البيان بالأحاديث الصحيحة التي ذكرنا ; كحديث : " من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم [ ص: 114 ] ولدته أمه " . وحديث : " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة " ، ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن حديث : " إن الله يباهي بأهل عرفة أهل السماء " الحديث ، كما تقدم . ومن تلك المنافع التي لم يبينها القرآن تيسر اجتماع المسلمين من أقطار الدنيا في أوقات معينة ، في أماكن معينة ليشعروا بالوحدة الإسلامية ، ولتمكن استفادة بعضهم من بعض ، فيما يهم الجميع من أمور الدنيا والدين ، وبدون فريضة الحج ، لا يمكن أن يتسنى لهم ذلك ، فهو تشريع عظيم من حكيم خبير ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام .

قوله : ويذكروا منصوب بحذف النون ; لأنه معطوف على المنصوب بـ " أن " المضمرة بعد لام التعليل ، أعني قوله : ليشهدوا منافع لهم .

وإيضاح المعنى : وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يتقربوا إليه بإراقة دماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، مع ذكرهم اسم الله عليها عند النحر والذبح ، وظاهر القرآن يدل على أن هذا التقرب بالنحر في هذه الأيام المعلومات ، إنما هو الهدايا لا الضحايا ; لأن الضحايا لا يحتاج فيها إلى الأذان بالحج ، حتى يأتي المضحون مشاة وركبانا ، وإنما ذلك في الهدايا على ما يظهر ، ومن هنا ذهب مالك ، وأصحابه إلى أن الحاج بمنى لا تلزمه الأضحية ولا تسن له ، وكل ما يذبح في ذلك المكان والزمان ، فهو يجعله هديا لا أضحية .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-11, 12:04 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (357)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 115 إلى صـ 122





وقوله : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم أي على نحر وذبح ما رزقهم من بهيمة الأنعام ; ليتقربوا إليه بدمائها ; لأن ذلك تقوى منهم ، فهو يصل إلى ربهم كما في قوله تعالى : لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم [ 22 \ 37 ] ، وقد بين في بعض المواضع أنه لا يجوز الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه منها ؛ كقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه . وقوله : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه [ 6 \ 119 ] ، وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل الحرم المكي منسكا تراق فيه الدماء تقربا إلى الله ، ويذكر عليها عند تذكيتها اسم الله ، ولم يبين في هذه الآية ، هل وقع مثل هذا لكل أمة أو لا ، ولكنه بين في موضع آخر : أنه جعل مثل هذا لكل أمة من الأمم ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 115 ] ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 34 ] .

وإذا علمت أن من حكم الأذان في الناس بالحج ، ليأتوا مشاة ، وركبانا تقربهم إلى ربهم بدماء الأنعام ، ذاكرين عليها اسم الله عند تذكيتها ، وأن الآية أقرب إلى إرادة الهدي من إرادة الأضحية ، فدونك تفصيل أحكام الهدايا التي دعوا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم منها .

اعلم أولا : أن الهدي قسمان : هدي واجب ، وهدي غير واجب ، بل تطوع به صاحبه تقربا بالله تعالى ، والأيام المعلومات التي ذكر الله عز وجل أنه يذبح فيها ، ويذكر عليه اسم الله فيها - للعلماء فيها أقوال كثيرة . والتحقيق إن شاء الله تعالى : أن غير اثنين من تلك الأقوال الكثيرة باطل لا يعول عليه ، وأن المعول عليه منها اثنان ; لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات هي أيام النحر ، بدليل قوله : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وذكرهم الله عليها يعني : التسمية عند تذكيتها . فاتضح أنها أيام النحر ، ويومان بعده ، وعليه فلا يذبح الهدي ، ولا الأضحية في اليوم الأخير من أيام منى ، الذي هو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة .

قال ابن قدامة في " المغني " : وهذا القول نص عليه أحمد ، وقال : وهو عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه الأثرم عن ابن عمر وابن عباس ، وبه قال مالك والثوري ، ويروى عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : أيام النحر : يوم الأضحى ، وثلاثة أيام بعده . وبه قال الحسن ، وعطاء ، والأوزاعي ، والشافعي ، وابن المنذر . انتهى محل الغرض منه .

وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية : اختلفوا كم أيام النحر . فقال مالك : ثلاثة ، يوم النحر ويومان بعده ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد بن حنبل . وروي ذلك عن أبي هريرة ، وأنس بن مالك ، من غير اختلاف عنهما .

وقال الشافعي : أربعة أيام ، يوم النحر ، وثلاثة بعده ، وبه قال الأوزاعي ، وروي ذلك عن علي - رضي الله عنه - وابن عباس ، وابن عمر - رضي الله عنهم - . وروي عنهم أيضا مثل قول مالك وأحمد . انتهى محل الغرض منه .

وقال أيضا : قال أبو عمر بن عبد البر : أجمع العلماء على أن يوم النحر يوم [ ص: 116 ] أضحى . وأجمعوا على أن لا أضحى بعد انسلاخ ذي الحجة ، ولا يصح عندي في هذه إلا قولان :

أحدهما : قول مالك والكوفيين .

والآخر : قول الشافعي ، والشاميين ، وهذان القولان مرويان عن الصحابة ، فلا معنى للاشتغال بما خالفهما ; لأن ما خالفهما لا أصل له في السنة ، ولا في قول الصحابة ، وما خرج عن هذين فمتروك لهما ، ا هـ .

وقال النووي في " شرح المهذب " : في وقت ذبح الهدي طريقان : أصحهما وبه قطع العراقيون وغيرهم : أنه يختص بيوم النحر وأيام التشريق ، والثاني : فيه وجهان أصحهما : هذا ، والثاني : لا يختص بزمان كدماء الجبران . فعلى الصحيح لو أخر الذبح ، حتى مضت هذه الأيام ، فإن كان الهدي واجبا : لزمه ذبحه ، ويكون قضاء ، وإن كان تطوعا فقد فات الهدي .

قال الشافعي والأصحاب : فإن ذبحه كان شاة لحم لا نسكا . انتهى محل الغرض منه .

وذكر النووي عن الرافعي : أنه في بعض المواضع من كتابه في باب صفة الحج ، جزم بأنه لا يختص بيوم النحر ، وأيام التشريق ، وأنه ذكر المسألة على الصواب في باب الهدي .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : القول بعدم الاختصاص بيوم النحر ويومين أو ثلاثة بعده ظاهر البطلان ; لأن عدم الاختصاص يجعل زمن النحر مطلقا ، ليس مقيدا بزمان ، وهذا يرده صريح قوله : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، فجعل ظرفه أياما معلومات يرد الإطلاق في الزمن ردا لا ينبغي أن يختلف فيه كما ترى .

وقال النووي أيضا في " شرح المهذب " : اتفق العلماء على أن الأيام المعدودات هي : أيام التشريق ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، ا هـ .

ولا وجه للخلاف في ذلك ، مع أنه يدل عليه قوله تعالى متصلا به : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية ، والمراد بذلك : أيام الرمي التي هي أيام التشريق كما ترى ، ثم قال النووي : وأما الأيام المعلومات فمذهبنا : أنها العشر الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر . انتهى محل الغرض منه . وعزا ابن كثير هذا القول لابن عباس قال : وعلقه عنه البخاري بصيغة الجزم ، ونقله ابن كثير أيضا عن أبي موسى الأشعري ، ومجاهد ، وقتادة ، [ ص: 117 ] وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وإبراهيم النخعي ، قال : وهو مذهب الشافعي ، والمشهور عن أحمد بن حنبل ، ثم شرع يذكر الأحاديث الدالة على فضل الأيام العشرة الأول من ذي الحجة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : تفسير الأيام المعلومات في آية الحج هذه : بأنها العشر الأول من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر ، لا شك في عدم صحته ، وإن قال به من أجلاء العلماء ، وبعض أجلاء الصحابة من ذكرنا .

والدليل الواضح على بطلانه أن الله بين أنها أيام النحر بقوله : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام وهو ذكره بالتسمية عليها عند ذبحها تقربا إليه كما لا يخفى ، والقول بأنها العشرة المذكورة ، يقتضي أن تكون العشرة كلها أيام نحر ، وأنه لا نحر بعدها ، وكلا الأمرين باطل كما ترى ; لأن النحر في التسعة التي قبل يوم النحر لا يجوز والنحر في اليومين بعده جائز . وكذلك الثالث عند من ذكرنا ، فبطلان هذا القول واضح كما ترى . ثم قال النووي متصلا بكلامه الأول ، وقال مالك : هي ثلاثة أيام : يوم النحر ، ويومان بعده فالحادي عشر ، والثاني عشر عنده من المعلومات ، والمعدودات .

وقال أبو حنيفة : المعلومات ثلاثة أيام : يوم عرفة والنحر والحادي عشر . وقال علي - رضي الله عنه - : المعلومات أربعة : يوم عرفة والنحر ويومان بعده .

وفائدة الخلاف : أن عندنا يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها ، وعند مالك لا يجوز في اليوم الثالث . هذا كلام صاحب البيان ، انتهى من النووي . وقد سكت على كلام صاحب " البيان " : وهو باطل بطلانا واضحا ; لأن القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة الأول ، لا يدل على جواز الذبح فيما بعد يوم النحر لأنه آخرها ، وقد يدل على جواز الذبح قبل يوم النحر في جميع التسعة الأول ; لأن القرآن دل على أن الأيام المعلومات ، هي ظرف الذبح ; كما بينا مرارا فإن كانت هي العشرة كانت العشرة هي ظرف الذبح . فلا يجوز فيما قبلها ولا ما بعدها ، ولكنه يجوز في جميعها ، وبطلان هذا واضح كما ترى ، ثم قال النووي متصلا بكلامه السابق .

وقال العبدري : فائدة وصفه بأنه معلوم جواز النحر فيه ، وفائدة وصفه بأنه معدود انقطاع الرمي فيه . وقال : وبمذهبنا قال أحمد ، وداود ، وقال الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره : قال أكثر المفسرين : الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة . قال : وإنما قيل [ ص: 118 ] لها معلومات للحرص على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها .

قال : وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق . وقال محمد بن كعب : المعلومات والمعدودات واحد .

قلت : وكذا نقل القاضي أبو الطيب والعبدري ، وخلائق - إجماع العلماء على أن المعدودات هي أيام التشريق . وأما ما نقله صاحب البيان عن ابن عباس فخلاف المشهور عنه .

فالصحيح المعروف عن ابن عباس : أن المعلومات أيام العشر كلها كمذهبنا ، وهو مما احتج به أصحابنا ، كما سأذكره قريبا إن شاء الله . واحتج لأبي حنيفة ، ومالك بأن الله تعالى قال : ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، وأراد بذكر اسم الله في الأيام المعلومات : تسمية الله تعالى على الذبح ، فينبغي أن يكون ذكر اسم الله تعالى في جميع المعلومات ، وعلى قول الشافعي : لا يكون ذلك إلا في يوم واحد منها ، وهو يوم النحر . واحتج أصحابنا بما رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الأيام المعلومات أيام العشر ، والمعدودات أيام التشريق . رواه البيهقي بإسناد صحيح .

واستدلوا أيضا بما استدل به المزني في مختصره : وهو أن اختلاف الأسماء يدل على اختلاف المسميات ، فلما خولف بين المعدودات والمعلومات في الاسم دل على اختلافهما ، وعلى ما يقول المخالفون يتداخلان في بعض الأيام ، والجواب عن الآية من وجهين :

أحدهما : جواب المزني : أنه لا يلزم من سياق الآية : وجود الذبح في الأيام المعلومات ، بل يكفي وجوده في آخرها وهو يوم النحر .

قال المزني والأصحاب : ونظيره قوله تعالى : وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 16 ] ، وليس هو نورا في جميعها ، بل في بعضها .

الثاني : أن المراد بالذكر في الآية الذكر على الهدايا ، ونحن نستحب لمن رأى هديا أو شيئا من بهيمة الأنعام في العشر أن يكبر ، والله أعلم . انتهى كلام النووي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن مذهب الشافعية في الأيام المعلومات خلاف الصواب ، وإن قال به من قال من أجلاء العلماء ، [ ص: 119 ] وأن الأجوبة التي أجابوا بها عن الاعتراضات الواردة عليه ، لا ينهض شيء منها لما قدمنا من أن الله بين في كتابه ، أن الأيام المعلومات هي ظرف الذبح والنحر ، فتفسيرها بأنها العشرة الأول ، يلزمه جواز الذبح في جميعها ، وعدم جوازه بعد غروب شمس اليوم العاشر ، وهذا كله باطل كما ترى .

وزعم المزني - رحمه الله - : أن الآية كقوله : وجعل القمر فيهن نورا - ظاهر السقوط ; لأن كون القمر كوكبا واحدا والسماوات سبعا طباقا - قرينة دالة على أنه في واحدة منها دون الست الأخرى .

وأما قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، فظاهره المتبادر منه أن جميع الأيام المعلومات ظرف لذكر الله على الذبائح ، وليس هنا قرينة تخصصه ببعضها دون بعض . فلا يجوز التخصيص ببعضها ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وليس موجودا هنا . وتفسيرهم ذكر اسم الله عليها ، بأن معناه : أن من رأى هديا أو شيئا من بهيمة الأنعام في العشر استحب له أن يكبر ، وأن ذلك التكبير هو ذكر الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام - ظاهر السقوط كما ترى ; لأنه مخالف لتفسير عامة المفسرين للآية الكريمة ، والتحقيق في تفسيرها ما هو مشهور عند عامة أهل التفسير ، وهو ذكر اسم الله عليها عند التذكية ، كما دل عليه قوله بعده مقترنا به : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير الآية [ 22 \ 28 ] . وقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الآية [ 6 \ 121 ] .

وقوله : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه الآية [ 6 \ 109 ] ، وتداخل الأيام لا يمنع من مغايرتها ; لأن الأعمين من وجه متغايران إجماعا مع تداخلهما في بعض الصور .

ومما يبطل القول بأن الأيام المعلومات هي العشرة المذكورة : أن كونها العشرة المذكورة يستلزم عدم جواز الذبح بعد غروب شمس اليوم العاشر ، وهو خلاف الواقع لجواز الذبح في الحادي عشر والثاني عشر ، بل والثالث عشر عند الشافعية . والتحقيق إن شاء الله في هذه المسألة : أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق التي هي أيام رمي الجمرات . وحكى عليه غير واحد الإجماع ، ويدل عليه قوله تعالى متصلا به : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه الآية [ 2 \ 203 ] ، وأن الأيام المعلومات هي أيام النحر ، فيدخل فيها يوم النحر واليومان بعده ، والخلاف في الثالث عشر ، هل هو منها كما مر تفصيله ، وقد رجح بعض أهل العلم أن الثالث عشر منها . ورجح بعضهم : أنه ليس منها .

[ ص: 120 ] وقد قال ابن قدامة في " المغني " في ترجيح القول بأنه ليس منها ما نصه : ولنا " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأكل من النسك ، فوق ثلاث " وغير جائز أن يكون الذبح مشروعا في وقت يحرم فيه الأكل ، ثم نسخ تحريم الأكل ، وبقي وقت الذبح بحاله ، ولأن اليوم الرابع لا يجب فيه الرمي ، فلم يجز فيه الذبح كالذي بعده .

ومما رجح به بعضهم أن اليوم الرابع منها : أنه يؤدي فيه بعض المناسك : وهو الرمي ، إذا لم يتعجل فهو كسابقيه من أيام التشريق ، والعلم عند الله تعالى .

ومما يوضح أن الأيام المعلومات هي أيام النحر ، سواء قلنا إنها ثلاثة ، أو أربعة : أن الله نص على أنها هي التي يذكر فيها اسم الله : أي عند التذكية ، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، كما قدمنا إيضاحه .
وإذا عرفت كلام أهل العلم في الأيام المعلومات ، التي هي زمن الذبح .

فاعلم : أن العلماء اختلفوا في لياليها ، هل يجوز فيها الذبح ؟ فذهب مالك ، وأصحابه : إلى أنه لا يجوز ذبح النسك ليلا ، فإن ذبحه ليلا لم يجز ، وتصير شاة لحم لا نسك ، وهو رواية عن أحمد ، وهي ظاهر كلام الخرقي . وذهب الشافعي ، وأصحابه : إلى جواز الذبح ليلا قال النووي : وبه قال : أبو حنيفة ، وإسحاق ، وأبو ثور والجمهور وهو الأصح عن أحمد .

وحجة من قال لا يجوز الذبح ليلا : أن الله خصصه بلفظ الأيام في قوله : في أيام معلومات قالوا : وذكر اليوم يدل على أن الليل ليس كذلك .

وحجة من أجازه : أن الأيام تطلق لغة على ما يشمل الليالي ، وتخصيصه بالأيام أحوط ، لمطابقة لفظ القرآن ، والعلم عند الله تعالى .
وإذا علمت وقت نحر الهدي ، وأن الهدي نوعان : واجب ، وغير واجب ، وهو هدي التطوع ، فهذه تفاصيل أحكام كل منهما .

أما الهدي الواجب : فهو بالتقسيم الأول نوعان :

أحدهما : هدي واجب بالنذر ، وسيأتي الكلام عليه ، إن شاء الله في الكلام على قوله تعالى : وليوفوا نذورهم [ 22 \ 29 ] ، وهدي واجب بغير النذر ، وهو أيضا ينقسم إلى قسمين :

[ ص: 121 ] أحدهما : الهدي المنصوص عليه .

والثاني : الهدي المسكوت عنه ، ولكن العلماء قاسوه على الهدي المنصوص عليه .

أما المنصوص عليه فهو أربعة أقسام :

الأول : هدي التمتع ، ويدخل فيه القران ; لأن الصحابة - رضي الله عنهم - جاء عنهم التصريح ، بأن اسم التمتع في الآية صادق بالقران ، كما قدمناه واضحا عن ابن عمر ، وعمران بن حصين ، وغيرهما ، والصحابة هم أعلم الناس بلغة العرب وبدلالة القرآن .

وهدي التمتع المذكور منصوص في قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] .

الثاني : دم الإحصار المنصوص عليه في قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] .

الثالث : دم جزاء الصيد المنصوص عليه بقوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة الآية [ 5 \ 95 ] .

الرابع : دم فدية الأذى المذكور في قوله : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] ، وهذه الدماء الأربعة اثنان منها على التخيير ، وهما : دم الفدية في قوله : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ 2 \ 196 ] كما قدمنا إيضاحه . والثاني : جزاء الصيد ، فهو على التخيير أيضا ، كما قدمنا إيضاحه مستوفى في الكلام على قوله : يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما الآية [ 5 \ 95 ] .

وقد أوضحنا الكلام على التخيير فيهما غاية الإيضاح بما أغنى عن إعادته هنا ، وواحد من الدماء الأربعة المذكورة على الترتيب إجماعا ، وهو دم التمتع الشامل للقران ; لأن الله بين أنه على الترتيب بقوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] ثم قال مبينا الترتيب : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم الآية [ 2 \ 196 ] .

والرابع : من الدماء المذكورة اختلف فيه ، فمن قال : له بدل عند العجز عنه قال : هو على الترتيب ، ومن قال : لا بدل له فالأمر على قوله واضح ; لأنه ليس هناك تعدد ، [ ص: 122 ] يقتضي الترتيب أو عدمه ، وهذا القسم هو دم الإحصار وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة " البقرة " في الكلام على قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] .

والحاصل : أن ثلاثة من الدماء الأربعة المذكورة ، قد قدمنا الكلام على كل واحد منها ، بغاية الإيضاح ، والاستيفاء ، فدم الفدية قدمناه في مباحث آية " الحج " التي هي : وأذن في الناس بالحج [ 22 \ 27 ] . في جملة مسائل الحج ، التي ذكرنا في الكلام عليها .

ودم جزاء الصيد قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في " المائدة " في الكلام على قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما [ 5 \ 95 ] .

ودم الإحصار ، قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في " البقرة " في الكلام على قوله : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي .

وأما هدي التمتع ، فلم يتقدم لنا فيه إيضاح ، وسنبينه الآن .

أما التمتع بالعمرة فمعلوم أن كل من اعتمر في أشهر الحج ، ثم حل من عمرته ، ثم حج من عامه ، ولم يكن أهله حاضري المسجد الحرام أنه متمتع .

وقد بينا أن الصحابة بينوا أنه يشمل القران من حيث إن كلا منهما عمرة في أشهر الحج مع الحج ، وإن كان بين حقيقتيهما اختلاف كما هو واضح .

اعلم أولا : أن العلماء اشترطوا لوجوب هدي التمتع شروطا :

منها : ما هو مجمع عليه .

ومنها : ما هو مختلف فيه .

الأول : أن يعتمر في أشهر الحج ، فإن اعتمر في غير أشهر الحج ، لم يلزمه دم ; لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج ، فلم يلزمه دم كالمفرد ، ولا يخفى سقوط قول طاوس : إنه متمتع ، كما لا يخفى سقوط قول الحسن : إن من اعتمر بعد النحر فهو متمتع .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-11, 12:06 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (358)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 123 إلى صـ 130





وقال ابن المنذر : لا نعلم أحدا قال بواحد من هذين القولين :

قاله في " المغني " فإن أحرم بها في غير أشهر الحج ، ولكنه أتى بأفعالها في أشهر الحج ، ففي ذلك للعلماء قولان :

[ ص: 123 ] أحدهما : يجب عليه الدم نظرا إلى أفعال العمرة الواقعة في أشهر الحج .

والثاني : لا يجب عليه دم نظرا إلى وقوع الإحرام قبل أشهر الحج ، وهو نسك لا تتم العمرة بدونه ، ولكليهما وجه من النظر ، ولا نص فيهما ، وممن قال بأنه لا دم عليه ، وأنه غير متمتع الإمام أحمد .

قال في " المغني " : ونقل معنى ذلك عن جابر ، وأبي عياض . وهو قول إسحاق ، وأحد قولي الشافعي ، وقال طاوس : عمرته في الشهر الذي يدخل فيه الحرم . وقال الحسن ، والحكم ، وابن شبرمة ، والثوري ، والشافعي في أحد قوليه : عمرته في الشهر الذي يطوف فيه . وقال عطاء : عمرته في الشهر الذي يحل فيه ، وهو قول مالك . وقال أبو حنيفة : إن طاف للعمرة أربعة أشواط ، قبل أشهر الحج فليس بمتمتع ، وإن طاف الأربعة في أشهر الحج ، فهو متمتع ; لأن العمرة صحت في أشهر الحج ، بدليل أنه لو وطئ أفسدها ، فأشبه إذا أحرم بها في أشهر الحج . قاله في " المغني " والله تعالى أعلم .

الشرط الثاني : أن يحج في نفس تلك السنة ، التي اعتمر في أشهر الحج منها . أما إذا كان حجه في سنة أخرى : فلا دم عليه .

قال صاحب " المهذب " : وذلك لما روى سعيد بن المسيب قال : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك ، لم يهدوا ، قال : ولأن الدم إنما يجب لترك الإحرام بالحج من الميقات ، وهذا لم يترك الإحرام بالحج من الميقات ، فإنه إن أقام بمكة صارت مكة ميقاته ، وإن رجع إلى بلده ، وعاد فقد أحرم من الميقات . وقال النووي في " الأثر المذكور " : المروي عن ابن المسيب حسن ، رواه البيهقي بإسناد حسن ، ولا يخفى سقوط قول الحسن : إنه متمتع وإن لم يحج من عامه .

الشرط الثالث : أن لا يعود إلى بلده ، أو ما يماثله في المسافة . وقال بعضهم : يكفي في هذا الشرط أن يرجع إلى ميقاته فيحرم بالحج منه ، وبعضهم يكتفي بمسافة القصر بعد العمرة ، ثم يحرم للحج من مسافة القصر .

والحاصل : أن الأئمة الأربعة متفقون على أن السفر بعد العمرة ، والإحرام بالحج من منتهى ذلك السفر مسقط لدم التمتع ، إلا أنهم مختلفون في قدر المسافة ، فمنهم من يقول : لا بد أن يرجع بعد العمرة في أشهر الحج إلى المحل الذي جاء منه ، ثم ينشئ سفرا للحج ويحرم من الميقات . وبعضهم يقول : يكفيه أن يرجع إلى بلده أو يسافر مسافة [ ص: 124 ] مساوية لمسافة بلده ، وبعضهم يكفي عنده سفر مسافة القصر ، وبعضهم يقول : يكفيه أن يرجع لإحرام الحج إلى ميقاته ، وقد قدمنا أقوالهم مفصلة ، ودليلهم في ذلك ما فهموه من قوله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ 2 \ 196 ] قالوا : لا فرق بين حاضري المسجد الحرام ، وبين غيرهم ، إلا أن غيرهم ترفهوا بإسقاط أحد السفرين الذي هو السفر للحج ، بعد السفر للعمرة ، وإن سافر للحج بعد العمرة زال السبب ، فسقط الدم بزواله ، وعضدوا ذلك بآثار رووها ، عن عمر وابنه - رضي الله عنهما - وقد قدمنا قولي العلماء في الشيء الذي ترجع إليه الإشارة في قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام [ 2 \ 196 ] وناقشنا أدلتهما ، وبينا أنه على القول الذي يراه البخاري - رحمه الله - ومن وافقه : أن الإشارة راجعة إلى نفس التمتع وأن أهل مكة لا متعة لهم أصلا ، فلا دليل في الآية على أقوال الأئمة التي ذكرنا ، وعلى القول الآخر أن الإشارة راجعة إلى حكم التمتع ، وهو لزوم ما استيسر من الهدي والصوم عند العجز عنه ، لا نفس التمتع ، فاستدلال الأئمة بها على الأقوال المذكورة له وجه من النظر كما ترى .

والحاصل أن استدلالهم بها إنما يصح على أحد التفسيرين في مرجع الإشارة في الآية ، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى .

والأحوط عندي : إراقة دم التمتع ، ولو سافر ؛ لعدم صراحة دلالة الآية في إسقاطه ، وللاحتمال الآخر الذي تمسك به البخاري والحنفية ، كما تقدم إيضاحه . وممن قال بذلك الحسن ، واختاره ابن المنذر لعموم الآية ، قاله في " المغني " . والعلم عند الله تعالى .

الشرط الرابع : أن يكون من غير حاضري المسجد الحرام ، فأما إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه ; لقوله تعالى : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام .

وأظهر أقوال أهل العلم عندي في المراد بحاضري المسجد الحرام : أنهم أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة ; لأن المسجد الحرام ، قد يطلق كثيرا ويراد به الحرم كله . ومن على مسافة دون مسافة القصر ، فهو كالحاضر ، ولذا تسمى صلاته إن سافر من الحرم ، إلى تلك المسافة صلاة حاضر ، فلا يقصرها ، لا صلاة مسافر ، حتى يشرع له قصرها فظهر دخوله في اسم حاضري المسجد الحرام ، بناء على أن المراد به جميع الحرم ، وهو الأظهر خلافا لمن خصه بمكة ، ومن خصه بالحرم ، ومن عممه في كل ما دون الميقات ، [ ص: 125 ] وقد علمت أن هذا الشرط إنما يتمشى على أحد القولين في الآية .

الشرط الخامس : ما قال به بعض أهل العلم : من أنه يشترط نية التمتع بالحج إلى العمرة عند الإحرام بالعمرة . قال : لأنه جمع بين عبادتين في وقت إحداهما ، فافتقر إلى نية الجمع كالجمع بين الصلاتين ، وعلى الاشتراط المذكور فمحل نية التمتع هو وقت الإحرام بالعمرة .

وقال بعضهم : له نية التمتع ، ما لم يفرغ من أعمال العمرة كالخلاف في وقت نية الجمع بين الصلاتين فقال بعضهم : ينوي عند ابتداء الأولى منهما ، وقال بعضهم : له نيته ما لم يفرغ من الصلاة الأولى ، هكذا قاله بعض أهل العلم ، وعليه فلو اعتمر في أشهر الحج ، وهو لا ينوي الحج في تلك السنة ، ثم بعد الفراغ من العمرة بدا له أن يحج في تلك السنة ، فلا دم تمتع عليه ، واشتراط النية المذكور عزاه صاحب " الإنصاف " للقاضي ، وأكثر الحنابلة ، وحكى عدم الاشتراط بـ " قيل " ثم قال : واختاره " المصنف " ، و " الشارح " ، وقدمه في " المحرر والفائق " ، والظاهر سقوط هذا الشرط ، وأنه متى حج بعد أن اعتمر في أشهر الحج من تلك السنة فعليه الهدي ، لظاهر عموم الآية الكريمة ، فتخصيصه بالنية تخصيص للقرآن ، بل دليل يجب الرجوع إليه : ويؤيده أنهم يقولون : إن سبب وجوب الدم : أنه ترفه بإسقاط سفر الحج ، وتلك العلة موجودة في هذه الصورة ، والعلم عند الله تعالى .

الشرط السادس : هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كون الحج والعمرة المذكورين عن شخص واحد ، كأن يعتمر بنفسه ويحج بنفسه ، وكل ذلك عن نفسه لا عن غيره أو يحج شخص ، ويعتمر عن شخص واحد . أما إذا حج عن شخص ، واعتمر عن شخص آخر ، أو اعتمر عن شخص ، وحج عن نفسه ، أو اعتمر عن نفسه ، وحج عن شخص آخر ، فهل يلزم دم التمتع نظرا إلى أن مؤدي النسكين شخص واحد أو لا يلزم نظرا إلى أن الحج وقع عن شخص والعمرة وقعت عن شخص آخر فهو كما لو فعله شخصان فحج أحدهما ، واعتمر الآخر ، وإذا فلا تمتع على أحدهما ، وكلاهما له وجه من النظر ، ومذهب الشافعي الذي عليه جمهور الشافعية : هو عدم اشتراط هذا الشرط نظرا إلى اتحاد فاعل النسك ، ومقابله المرجوح عدم وجوب الدم نظرا إلى أن الحج عن شخص ، والعمرة عن آخر ، ومذهب مالك في هذا قريب من مذهب الشافعي في وجود الخلاف وترجيح عدم الاشتراط .

قال الشيخ المواق في شرح قول خليل في مختصره ، في عدة شروط وجوب دم التمتع ، وفي شرط كونهما عن واحد تردد ، ما نصه : ذكر ابن شاس من الشروط التي يكون [ ص: 126 ] بها متمتعا : أن يقع النسكان عن شخص واحد : ابن عرفة لا أعرف هذا ، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه ، ثم حج من عامه عن غيره فتمتع . وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل المذكور ما نصه : أشار بالتردد لتردد المتأخرين في النقل ، فالذي نقله صاحب النوادر وابن يونس واللخمي عدم اشتراط ذلك . وقال ابن الحاجب : الأشهر اشتراط كونهما عن واحد ، وحكى ابن شاس في ذلك قولين قال في " التوضيح " : لم يعزهما ولم يعين المشهور منهما ، ولم يحك صاحب النوادر وابن يونس ، إلا ما وقع في الموازية أنه تمتع . انتهى . وقال في مناسكه بعد أن ذكر كلام ابن الحاجب خليل : ولم أر في ابن يونس وغيره ، إلا القول بوجوب الدم .

وقال ابن عرفة : وشرط ابن شاش كونهما عن واحد ، ونقل ابن حاجب : لا أعرفه ، بل في كتاب محمد من اعتمر عن نفسه ، ثم حج من عامه عن غيره متمتع فما ذكره المصنف من التردد صحيح . لكن المعروف عدم اشتراط ذلك وعادته أن يشير بالتردد لما ليس فيه ترجيح .

وقال ابن جماعة الشافعي في منسكه الكبير : لا يشترط أن يقع النسكان عن واحد عند جمهور الشافعية ، وهو قول الحنفية ورواية ابن المواز ، عن مالك ، وعلى ذلك جرى جماعة من أئمة المالكية منهم الباجي ، والطرطوشي ، ومن الشافعية من شرط ذلك . وقال ابن الحاجب : إنه الأشهر من مذهب مالك ، وتبع ابن الحاجب في اشتراط ذلك صاحب الجواهر ، وقوله : إنه الأشهر غير مسلم ، فإن القرافي في الذخيرة ذكر ما سوى هذا الشرط ، وقال : إن صاحب الجواهر زاد هذا الشرط ، ولم يعزه لغيره . انتهى كلام الحطاب ، والظاهر من النقول التي نقلها أن عدم اشتراط كون النسكين عن واحد : هو المعروف في مذهب مالك ، وهو كذلك ، ومذهب أحمد قريب من مذهب مالك والشافعي ، ففيه خلاف أيضا ، هل يشترط كون النسكين عن واحد أو لا يشترط ؟ وعدم اشتراطه عليه الأكثر من الحنابلة ، وعزاه في " الإنصاف " لبعض الأصحاب ، قال منهم المنصف ، والمجد ، قاله : الزركشي ، واقتصر عليه في الفروع ، وعزا مقابله لصاحب " التلخيص " ، وقد قدمنا في كلام ابن جماعة الشافعي أن عدم اشتراط كون النسكين ، عن شخص واحد هو مذهب الحنفية أيضا ، فظهر أن المشهور في المذاهب الأربعة عدم اشتراط هذا الشرط ، وقول من اشترطه له وجه من النظر . والعلم عند الله تعالى .

الشرط السابع : أن يحل من العمرة قبل إحرامه بالحج ، فإن أحرم قبل حله منها صار [ ص: 127 ] قارنا ، كما وقع لعائشة - رضي الله عنها - في حجة الوداع على التحقيق كما تقدم إيضاحه .
الشرط الثامن : هو ما اشترطه بعض أهل العلم من كونه لا يعد متمتعا ، حتى يحرم بالعمرة من الميقات ، فإن أحرم بها من دون الميقات صار غير متمتع ; لأنه كأنه من حاضري المسجد الحرام ، ولا يخفى سقوط هذا الشرط .

قال صاحب " الإنصاف " : لما ذكر هذا الشرط ذكره أبو الفرج والحلواني وجزم به ابن عقيل في التذكرة ، وقدمه في الفروع . وقال القاضي وابن عقيل : وجزم به في المستوعب والتلخيص والرعاية وغيرهم : إن بقي بينه وبين مكة مسافة قصر ، فأحرم منه لم يلزمه دم المتعة ; لأنه من حاضري المسجد الحرام ، بل دم مجاوزة الميقات . واختار المصنف والشارح وغيرهما ، أنه إذا أحرم بالعمرة من دون الميقات : يلزمه دمان ، دم المتعة ودم الإحرام من دون الميقات ; لأنه لم يقم ولم ينوها به ، وليس بساكن ، وردوا ما قاله القاضي . انتهى منه ، وهذا الأخير هو الظاهر . والله تعالى أعلم .

وقال صاحب الإنصاف بعد كلامه هذا متصلا به .

قال المصنف والشارح : ولو أحرم الآفاقي بعمرة في غير أشهر الحج ثم أقام بمكة واعتمر من التنعيم ، فهو متمتع نص عليه ، وفي نصه على هذه الصورة تنبيه على إيجاب الدم في الصورة الأولى بطريق الأولى . انتهى منه . ولا ينبغي أن يختلف في واحدة منهما لدخولهما صريحا في عموم آية التمتع ، كما ترى . والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن من يعتد به من أهل العلم : أجمعوا على أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع من الهدي ، والصوم عند العجز عن الهدي ، وقد قدمنا الروايات الصحيحة الثابتة عن بعض أجلاء الصحابة ، بأن القران داخل في اسم التمتع ، وعلى هذا فهو داخل في عموم الآية ، وكلا النسكين فيه تمتع لغة ; لأن التمتع من المتاع أو المتعة ، وهو الانتفاع أو النفع ومنه قوله :

وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق

جعل استئناسه بقبره متاعا لانتفاعه بذلك الاستئناس ، وكل من القارن والمتمتع ، انتفع بإسقاط أحد السفرين وانتفع القارن عند الجمهور باندراج أعمال العمرة في الحج .

وقال جماعة من أهل العلم : إن القران لم يدخل في عموم الآية بحسب مدلول لفظها ، وهو الأظهر ; لأن الغاية في قوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج تدل على [ ص: 128 ] ذلك ، والذين قالوا هذا قالوا : هو ملحق به في حكمه ; لأنه في معناه . وعلى أن القارن يلزمه ما يلزم المتمتع ، عامة العلماء ، منهم الأئمة الأربعة ، إلا من شذ شذوذا لا عبرة به . وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلافا له وجه من النظر

قال في " الإنصاف " : وسأله - يعني الإمام أحمد - ابن مشيش : القارن يجب عليه الدم وجوبا ؟ فقال : كيف يجب عليه وجوبا ، وإنما شبهوه بالمتمتع ، قال في الفروع ، فتتوجه منه رواية لا يلزمه دم . انتهى منه .

ولا يخفى أن مذهب أحمد مخالف لما زعموه رواية ، وأن القارن كالمتمتع في الحكم . وقال ابن قدامة في " المغني " : ولا نعلم في وجوب الدم على القارن خلافا إلا ما حكي عن داود أنه لا دم عليه . وروي ذلك عن طاوس . وحكى ابن المنذر أن ابن داود لما دخل مكة ، سئل عن القارن هل يجب عليه دم ؟ فقال : لا ، فجر برجله ، وهذا يدل على شهرة الأمر بينهم . انتهى منه . وذكر النووي أن العبدري حكى هذا القول ، عن الحسن بن علي بن سريج . والتحقيق خلافه ، وأنه يلزمه ما يلزم المتمتع .

ومن النصوص الدالة على ذلك . حديث عائشة المتفق عليه ، وفيه : " فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت : ما هذا ؟ فقيل : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه " متفق عليه .

قال المجد في " المنتقى " : وفيه دليل على الأكل من دم القران ; لأن عائشة كانت قارنة . انتهى منه . وهو يدل على أن القارن عليه دم . والله أعلم .

ومن أصرح الأدلة في ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه ، عن جابر بلفظ : " ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر " ومعلوم أنها كانت قارنة ، على التحقيق فتلك البقرة دم قران ، وذلك دليل على لزومه ، وما ذكره ابن قدامة في " المغني " ، من أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من قرن بين حجه وعمرته فليهرق دما " لم أعرف له أصلا ، والظاهر أنه لا يصح مرفوعا . والله تعالى أعلم .

وأكثر أهل العلم : على أن القارن إن كان أهله حاضري المسجد الحرام ، أنه لا دم عليه ; لأنه متمتع أو في حكم المتمتع ، والله يقول : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام .

وقال ابن قدامة في " المغني " ، وهو قول جمهور العلماء . وقال ابن الماجشون : عليه دم ; لأن الله تعالى أسقط الدم عن المتمتع ، وهذا ليس متمتعا ، وليس هذا بصحيح ، فإننا [ ص: 129 ] ذكرنا أنه متمتع ، وإن لم يكن متمتعا ، فهو مفرع عليه ، ووجوب الدم على القارن ، إنما كان بمعنى النص على التمتع ، فلا يجوز أن يخالف الفرع أصله . انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : حاصل هذا الكلام أن القارن كالمتمتع في أن كلا منهما إن كان من حاضري المسجد الحرام ، لا دم عليه ، وذكر صاحب " المغني " أن ابن الماجشون خالف في ذلك ، وقال : عليه دم ، وله وجه قوي من النظر على قول الجمهور : أنه يكفيه طواف واحد وسعي واحد لحجه وعمرته . فقد انتفع بإسقاط عمل أحد النسكين ، ولزوم الدم في مقابل ذلك له وجه من النظر كما ترى .

وقال النووي في " شرح المهذب " : قال أصحابنا : ولا يجب على حاضري المسجد الحرام دم القران ، كما لا يجب على المتمتع ، هذا هو المذهب ، وبه قطع الجمهور . وحكى الحناطي والرافعي وجها : أنه يلزمه . انتهى محل الغرض منه . وهذا الوجه عند الشافعية هو قول ابن الماجشون من المالكية ، كما ذكره صاحب " المغني " ، ومذهب مالك ، وأصحابه ، كمذهب الشافعي وأحمد ، في أن القارن إن كان من حاضري المسجد الحرام ، لا دم عليه ، وحاضروا المسجد عند مالك وأصحابه أهل مكة ، وذي طوى .

قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : وشرط دمهما عدم إقامته بمكة أو ذي طوى . . . إلخ ، ما نصه : وذو طوى هو ما بين الثنية التي يهبط منها إلى مقبرة مكة المسماة بالمعلاة ، والثنية الأخرى التي إلى جهة الزاهر وتسمى عند أهل مكة بين الحجونين انتهى محل الغرض منه .

وقد قدمنا أن مذهب أبي حنيفة ، وأصحابه أن أهل مكة ونحوهم ممن دون الميقات : لا تشرع لهم العمرة أصلا فلا تمتع لهم ولا قران ، بناء على رجوع الإشارة في قوله : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام لنفس التمتع ، كما تقدم إيضاحه ، مع أنهم يقولون : إنهم إن تمتعوا أو قرنوا أساءوا وانعقد إحرامهم ، ولزمهم دم الجبر ، وهذا الدم عندهم دم جناية لا يأكل صاحبه منه ، بخلاف دم التمتع والقران من غير حاضري المسجد الحرام ، فهو عندهم دم نسك ، يجوز لصاحبه الأكل منه ، ونقل بعض الحنفية عن ابن عمر وابن عباس ، وابن الزبير أن أهل مكة لا متعة لهم . وقد قدمنا أنه رأي البخاري .

واعلم أنا قدمنا أن من شروط وجوب دم التمتع : ألا يرجع بعد العمرة إلى بلده أو مسافة مثله ، أو يسافر مسافة القصر على ما بينا هناك من أقوال الأئمة في ذلك ، وأردنا أن [ ص: 130 ] نذكر هنا حكم القارن إذا أتى بأفعال العمرة ، ثم رجع إلى بلده ، ثم حج من عامه ، أو سافر مسافة القصر ، ثم أحرم بالحج من الميقات ، هل يسقط عنه الدم بذلك كالتمتع أو لا ؟ . ومذهب أبي حنيفة أن الدم لا يسقط عنه برجوعه إلى بلده بعد إتيانه بأفعال العمرة ، إن رجع وحج ; لأنه لم يزل قارنا .

وقال صاحب " الإنصاف " في الكلام على القارن : لا يلزم الدم حاضري المسجد الحرام ، كما قال المصنف : وقاله في الفروع وغيره ، وقال : والقياس أنه لا يلزم من سافر سفر قصر أو إلى الميقات ، إن قلنا به ، كظاهر مذهب الشافعي ، وكلامهم يقتضي لزومه ; لأن اسم القران باق بعد السفر ، بخلاف التمتع انتهـى منه .

وحاصل كلامه أن ظاهر كلام الحنابلة أن السفر بعد وصول مكة ، لا يسقط دم القران ، وأن مقتضى القياس أنه يسقطه إلحاقا له بالتمتع ، وقال النووي في " شرح المهذب " : لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة ، ثم عاد إلى الميقات ، فالمذهب : أنه لا دم عليه في الإملاء ، وقطع به كثيرون أو الأكثرون ، وصححه الحناطي وآخرون . وقال إمام الحرمين : إن قلنا المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه لا يسقط عنه الدم فهنا أولى ، وإلا فوجهان : والفرق أن اسم القران لا يزول بالعود ، بخلاف التمتع ، ولو أحرم بالعمرة من الميقات ، ودخل مكة ، ثم رجع إلى الميقات قبل طوافه فأحرم بالحج ، فهو قارن .

قال الدارمي في آخر باب الفوات : إن قلنا إذا أحرم بهما جميعا ، ثم رجع سقط الدم فهنا أولى ، وإلا فوجهان . انتهى منه .

وظاهر كلام خليل في مختصره المالكي أن السفر لا يسقط دم القران والحاصل : أنا بينا اختلاف أهل العلم في السفر بعد أفعال العمرة أو بعد دخول مكة ، هل يسقط دم القران أو لا ؟ وبينا قول صاحب " الإنصاف " أن سقوطه بالسفر ، هو مقتضى قياسه على التمتع .

وأقرب الأقوال عندي للصواب أن دم القران لا يسقطه السفر ، وقد بينا أن الأحوط عندنا أن دم التمتع لا يسقطه السفر ; لتصريح القرآن بوجوب الهدي على المتمتع ، وعدم صراحة الآية في سقوطه بالسفر . وقد ذكرنا أن لزوم الدم للقارن الذي هو من حاضري المسجد الحرام له وجه من النظر ; لأنه اكتفى عن النسكين بعمل أحدهما على قول الجمهور ، كما تقدم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-11, 12:09 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (359)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 131 إلى صـ 138



[ ص: 131 ] وأظهر قولي أهل العلم عندنا أن المكي إذا أراد الإحرام بالقران ، أحرم به من مكة ; لأنه يخرج في حجه إلى عرفة ، فيجمع بين الحل والحرم ، خلافا لمن قال : يلزم المكي إنشاء إحرامه من أدنى الحل وكذلك الآفاقي ، إذا كان في مكة ، وأراد أن يحرم قارنا ، فالأظهر أنه يحرم بالقران من مكة ، خلافا لمن قال : يحرم به من أدنى الحل لما بينا . والعلم عند الله تعالى .
وإذا عرفت الشروط التي بها يجب دم التمتع والقران ، فاعلم أنا أردنا هنا أن نبين ما يجزئ فيه ، فالتحقيق أنه ما تيسر من الهدي ، وأقله شاة تجزئ ضحية ، وأعلاه بدنة ، وأوسطه بقرة ، والتحقيق أن سبع بدنة أو بقرة يكفي ، فلو اشترك سبعة من المتمتعين في بدنة أو بقرة وذبحوها أجزأت عنهم ، للنصوص الصحيحة الدالة على ذلك ; كحديث جابر الثابت في الصحيح قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة " وفي لفظ لمسلم قال : " اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة " ، فقال رجل لجابر : أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور ؟ فقال : ما هي إلا من البدن .

قال مسلم في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا مالك ( ح ) ، وحدثنا يحيى بن يحيى . واللفظ له ، قال : قرأت على مالك عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " . وفي لفظ لمسلم عن جابر قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر ، كل سبعة منا في بدنة " وفي لفظ له عنه أيضا ، قال : " حججنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة " . وفي لفظ له عنه أيضا قال : " اشتركنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحج والعمرة ، كل سبعة في بدنة " فقال رجل لجابر : أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور ؟ قال : ما هي إلا من البدن ، وحضر جابر الحديبية ، قال : " نحرنا يومئذ سبعين بدنة اشتركنا كل سبعة في بدنة " . وفي لفظ له عنه ، وهو يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ويجتمع النفر منا في الهدية " ; وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث . وفي لفظ له عنه أيضا قال : " كنا نتمتع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنذبح البقرة ، عن سبعة نشترك فيها " . انتهى محل الغرض من صحيح مسلم .

وهذه الروايات الصحيحة تدل : على أن دم التمتع يكفي فيه الاشتراك بالسبع في بدنة ، أو بقرة ، ويدل على أن ذلك داخل فيما استيسر من الهدي . أما الشاة والبدنة كاملة [ ص: 132 ] فإجزاء كل منهما لا إشكال فيه . وقال البخاري في صحيحه : حدثنا إسحاق بن منصور ، أخبرنا النضر ، أخبرنا شعبة ، حدثنا أبو جمرة قال : سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - عن المتعة ؟ فأمرني بها ، وسألته عن الهدي فقال : فيها جزور أو بقرة ، أو شاة ، أو شرك في دم . الحديث . فقوله : أو شرك في دم : يعني به ما بينته الروايات المذكورة الصحيحة . عن جابر أن البدنة والبقرة كلتاهما تكفي عن سبعة من المتمتعين ، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث : وهذا موافق لما رواه مسلم عن جابر قال : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة " ، ثم قال وبهذا قال الشافعي والجمهور ، سواء كان الهدي تطوعا أو واجبا ، وسواء كانوا كلهم متقربين بذلك ، أو كان بعضهم يريد التقرب ، وبعضهم يريد اللحم . وعن أبي حنيفة : يشترط في الاشتراط أن يكونوا كلهم متقربين بالهدي ، وعن زفر مثله بزيادة : أن تكون أسبابهم واحدة ، وعن داود وبعض المالكية : يجوز في هدي التطوع ، دون الواجب ، وعن مالك : لا يجوز مطلقا انتهى منه .

والتحقيق أن سبع البدنة وسبع البقرة كل واحد منهما يقوم مقام الشاة ، ويدخل في عموم : فما استيسر من الهدي ، والروايات الصحيحة التي ذكرنا حجة على كل من خالف ذلك كمالك ومن وافقه ، وما احتج به إسماعيل القاضي لمالك ، من أن الاشتراك في الهدي ، لا يصح من أن حديث جابر ، إنما كان بالحديبية ، حيث كانوا محصرين . وأن حديث ابن عباس خالف فيه أبو جمرة عنه ثقات أصحابه ، فرووا عنه أن ما استيسر من الهدي : شاة ، ثم ساق ذلك عنهم بأسانيد صحيحة مردودة . أما دعوى أن حديث جابر إنما كان بالحديبية ، حيث كانوا محصرين ، فهي مردودة ، بما ثبت في الروايات الصحيحة في مسلم التي سقناها بألفاظها : أنهم اشتركوا الاشتراك المذكور معه - صلى الله عليه وسلم - أيضا في حجه ، ولا شك أن المراد بحجه حجة الوداع ; لأنه لم يحج بعد الهجرة حجة غيرها . وفي بعض الروايات الصحيحة ، عند مسلم التي سقناها بألفاظها آنفا التصريح بوقوع الاشتراك في الحجة المذكورة ، كما هو واضح من ألفاظ مسلم التي ذكرناها . وأما دعوى مخالفة أبي جمرة في ذكره الاشتراك المذكور ثقات أصحاب ابن عباس ، فهي مردودة أيضا ، بما ذكره ابن حجر في " الفتح " ، حيث قال : وليس بين رواية أبي جمرة ، ورواية غيره منافاة ; لأنه زاد عليهم ذكر الاشتراك ، ووافقهم على ذكر الشاة ، وإنما أراد ابن عباس بالاقتصار على الشاة الرد على من زعم اختصاص الهدي بالإبل والبقر . وذلك واضح فيما سنذكره بعد هذا ، إلى [ ص: 133 ] أن قال : وبهذا تجتمع الأخبار ، وهو أولى من الطعن في رواية من أجمع العلماء على توثيقه ، وهو أبو جمرة الضبعي . وقد روي عن ابن عمر أنه كان لا يرى التشريك ، ثم رجع عن ذلك لما بلغته السنة ، وذكر ابن حجر رجوع ابن عمر عن ذلك ، عن أحمد بسنده من طريق الشعبي ، عن ابن عمر .

وأظهر قولي أهل العلم عندي أن البدنة لا تجزئ عن أكثر من سبعة ، وذكر ابن حجر في " الفتح " ، عن سعيد بن المسيب في إحدى الروايتين عنه : أنها تجزئ عن عشرة . قال : وبه قال إسحاق بن راهويه ، وابن خزيمة من الشافعية . واحتج لذلك في صحيحه ، وقواه واحتج له ابن خزيمة بحديث رافع بن خديج : " أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير " ، الحديث . وهو في الصحيحين .

وأجمعوا على أن الشاة : لا يصح الاشتراك فيها ، وقوله : " أو شاة " هو قول جمهور العلماء . ورواه الطبري وابن أبي حاتم بأسانيد صحيحة عنهم ، ورويا بإسناد قوي عن القاسم بن محمد ، عن عائشة ، وابن عمر : أنهما كانا لا يريان ( فما استيسر من الهدي ) : إلا من الإبل والبقر ، ووافقهما القاسم ، وطائفة . قال إسماعيل القاضي في الأحكام له : أظن أنهم ذهبوا إلى ذلك لقوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] فذهبوا إلى تخصيص ما يقع عليه اسم البدن ، قال : ويرد هذا قوله تعالى : هديا بالغ الكعبة [ 5 \ 95 ] وأجمع المسلمون على أن في الظبي شاة ، فوقع عليها اسم هدي .

قلت : قد احتج بذلك ابن عباس ، فأخرج الطبري بإسناد صحيح إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال : قال ابن عباس : الهدي شاة . فقيل له في ذلك ، فقال : أنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تقرون به ، ما في الظبي ؟ قالوا : شاة ، قال : فإن الله يقول : هديا بالغ الكعبة . اهـ من فتح الباري .

وقد قدمنا في سورة " البقرة " : أنه ثبت في الصحيحين ، عن عائشة أنها قالت : " أهدى - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما " ، وهو نص صحيح عنها صريح في تسمية الغنم هديا كما ترى .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أنه هو الصواب في هدي التمتع ، الذي نص الله في كتابه على أنه ما استيسر من الهدي : أنه شاة ، أو بدنة ، أو بقرة . ويكفي في ذلك سبع البدنة وسبع البقرة ، عن المتمتع الواحد ، وتكفي البدنة عن سبعة متمتعين لثبوت الروايات الصحيحة بذلك ، ولم يقم من كتاب الله ، ولا سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - نص [ ص: 134 ] صريح في محل النزاع يقاومها ، ورواية جابر أن البدنة تكفي في الهدي ، عن سبعة أخص في محل النزاع من حديث رافع بن خديج : " أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل البعير في القسمة يعدل عشرا من الغنم " ; لأن هذا في القسمة ، وحديث جابر في خصوص الهدي ، والأخص في محل النزاع مقدم على الأعم ، والعلم عند الله تعالى .

ومما يوضح ذلك ما ذكره ابن حجر في " الفتح " في شرح حديث رافع المذكور ، وقد أورده البخاري في كتاب الذبائح ، عن رافع بن خديج بلفظ ، قال : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة فأصبنا إبلا وغنما ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخريات الناس فعجلوا فنصبوا القدور ، فدفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فأمر بالقدور فأكفئت ، ثم قسم فعدل عشرا من الغنم ببعير فند منها بعير " ، الحديث .

ونص كلام ابن حجر في هذا الحديث : وهذا محمول على أن هذا كان قيمة الغنم إذ ذاك ، فلعل الإبل كانت قليلة ، أو نفيسة ، والغنم كانت كثيرة ، أو هزيلة بحيث كانت قيمة البعير عشر شياه ، ولا يخالف ذلك القاعدة في الأضاحي ، من أن البعير يجزئ عن سبع شياه ; لأن ذلك هو الغالب في قيمة الشاة والبعير المعتدلين . وأما هذه القسمة ، فكانت واقعة عين ، فيحتمل أن يكون التعديل لما ذكر من نفاسة الإبل ، دون الغنم .

وحديث جابر عند مسلم صريح في الحكم ، حيث قال فيه : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر ، كل سبعة منا في بدنة " والبدنة تطلق على الناقة ، والبقرة .

وأما حديث ابن عباس : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فحضر الأضحى فاشتركنا في البقرة تسعة ، وفي البدنة عشرة " فحسنه الترمذي وصححه ابن حبان ، وعضده بحديث رافع بن خديج هذا . والذي يتحرر في هذا أن الأصل أن البعير بسبع ما لم يعرض عارض من نفاسة ، ونحوها ، فيتغير الحكم بحسب ذلك ، وبهذا تجتمع الأخبار الواردة في ذلك ، ثم الذي يظهر من القسمة المذكورة ، أنها وقعت فيما عدا ما طبخ وأريق من الإبل والغنم ، التي كانوا غنموها ، ويحتمل إن كانت الواقعة تعددت أن تكون القصة التي ذكرها ابن عباس ، أتلف فيها اللحم لكونه كان قطع للطبخ ، والقصة التي في حديث رافع طبخت الشياه صحاحا مثلا ، فلما أريق مرقها ضمت إلى الغنم لتقسم ، ثم يطبخها من وقعت في سهمه ، ولعل هذا هو النكتة في انحطاط قيمة الشياه ، عن العادة ، والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر .

[ ص: 135 ] وكون اللحم رد ليطبخه من وقع في سهمه مرة أخرى ، غير ظاهر عندي ، والله أعلم .

وحديث رافع المذكور : أخرجه أيضا مسلم في كتاب : الصيد والذبائح ، ولفظ المراد منه عن رافع قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذي الحليفة من تهامة فأصبنا غنما وإبلا فعجل القوم فأغلوا بها القدور فأمر بها فكفئت ، ثم عدل عشرا من الغنم بجزور " .

والحاصل أن أخص شيء في محل النزاع وأصرحه فيه ، وأوضحه فيه حديث جابر ، الذي ذكرنا روايته عند مسلم . أما حديث رافع ، فهو في قسمة الغنيمة لا في الهدي . وأما حديث ابن عباس ، فظاهره أنه في الضحايا ، وعلى كل حال : فحديث جابر أصح منه ، فالذي يظهر أن المتمتع يكفيه سبع بدنة ، وأن النص الصريح الوارد بذلك ينبغي تقديمه ، على أنه يكفيه عشر بدنة ، وقد رأيت أدلة القولين . والعلم عند الله تعالى .
فإذا علمت أقوال أهل العلم في تعيين القدر المجزئ في هدي التمتع ، والقران ، وأن أظهر الأقوال أن أقله شاة ، أو سبع بدنة أو بقرة ، وأن إجزاء البدنة الكاملة ، لا نزاع فيه .

فاعلم أن أهل العلم اختلفوا في وقت وجوبه ، ووقت نحره ، وهذه تفاصيل أقوالهم وأدلتها ، وما يرجحه الدليل منها .

أما مذهب مالك فالتحقيق فيه أن هدي التمتع والقران لا يجب وجوبا تاما إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة ; لأن ذبحه في ذلك الوقت هو الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، ولذا لو مات المتمتع يوم النحر ، قبل رمي جمرة العقبة ، لا يلزم إخراج هدي التمتع من تركته ; لأنه لم يتم وجوبه ، وهذا هو الصحيح المشهور في مذهب مالك ، وقد كنت قلت في نظمي في فروع مالك ، وفي الفرائض على مقتضى مذهبه في الكلام على ما يخرج من تركة الميت ، قبل ميراث الورثة بعد أن ذكرت قضاء ديونه :



وأتبعن دينه بهدي تمتع إن مات بعد الرمي


واعلم أن قول من قال من المالكية : إنه يجب بإحرام الحج ، وأنه يجزئ قبله كما هو ظاهر قول خليل في مختصره ، الذي قال في ترجمته مبينا لما به الفتوى : ودم التمتع يجب بإحرام الحج ، وأجزأ قبله ، قد اغتر به بعض من لا تحقيق عنده بالمذهب المالكي ، والتحقيق أن الوجوب عندهم برمي جمرة العقبة ، وبه جزم ابن رشد وابن العربي ، وصاحب [ ص: 136 ] الطراز وابن عرفة ، قال ابن عرفة : سمع ابن القاسم : إن مات ، يعني المتمتع قبل رمي جمرة العقبة ، فلا دم عليه .

ابن رشد : لأنه إنما يجب في الوقت ، الذي يتعين فيه نحره ، وهو بعد رمي جمرة العقبة ، فإن مات قبله لم يجب عليه .

ابن عرفة : قلت : ظاهره لو مات يوم النحر قبل رميه : لم يجب ، وهو خلاف نقل النوادر ، عن كتاب محمد عن ابن القاسم ، وعن سماع عيسى : من مات يوم النحر ، ولم يرم فقد لزمه الدم ، ثم قال ابن عرفة : فقول ابن الحاجب : يجب بإحرام الحج يوهم وجوبه على من مات قبل وقوفه ، ولا أعلم في سقوطه خلافا .

ولعبد الحق ، عن ابن الكاتب ، عن بعض أصحابنا : من مات بعد وقوفه ، فعليه الدم . انتهى من الحطاب .

فأصح الأقوال الثلاثة ، وهو المشهور : أنه لا يجب على من مات ، إلا إذا كان موته بعد رمي جمرة العقبة ، وفيه قول بلزومه ، إن مات يوم النحر قبل الرمي ، وأضعفها أنه يلزمه ، إن مات بعد الوقوف بعرفة . أما لو مات قبل الوقوف بعرفة ، فلم يقل أحد بوجوب الدم عليه من عامة المالكية ، وقول من قال منهم : إنه يجب بإحرام الحج لا يتفرع عليه من الأحكام شيء ، إلا جواز إشعاره وتقليده ، وعليه فلو أشعره ، أو قلده قبل إحرام الحج ، كان هدي تطوع ، فلا يجزئ عن هدي التمتع ، فلو قلده ، وأشعره بعد إحرام الحج أجزأه ; لأنه قلده بعد وجوبه : أي بعد انعقاد الوجوب في الجملة ، وعن ابن القاسم : أنه لو قلده وأشعره قبل إحرام الحج ، ثم أخر ذبحه إلى وقته : أنه يجزئه عن هدي التمتع ، وعليه فالمراد بقول خليل : وأجزأ قبله أي : أجزأ الهدي الذي تقدم تقليده ، وإشعاره على إحرام الحج هذا هو المعروف عند عامة علماء المالكية . فمن ظن أن المجزئ هو نحره قبل إحرام الحج ، أو بعده قبل وقت النحر . فقد غلط غلطا فاحشا .

قال الشيخ المواق في شرحه قول خليل " وأجزأ قبله " ما نصه : ابن عرفة يجزئ تقليده ، وإشعاره بعد إحرام حجه ، ويجوز أيضا قبله على قول ابن القاسم . انتهى منه .

وقال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : ودم التمتع يجب بإحرام الحج وأجزأ قبله ما نصه :

فإن قلت : إذا كان هدي التمتع إنما ينحر بمنى ، إن وقف به بعرفة ، أو بمكة بعد ذلك على ما سيأتي فما فائدة الوجوب هنا ؟

[ ص: 137 ] قلت : يظهر في جواز تقليده ، وإشعاره بعد الإحرام بالحج ، وذلك أنه لو لم يجب الهدي حينئذ مع كونه يتعين بالتقليد ، لكان تقليده إذ ذاك قبل وجوبه ، فلا يجزئ إلا إذا قلد بعد كمال الأركان .

وقال الشيخ الحطاب أيضا : والحاصل أن دم التمتع والقران ، يجوز تقليدهما قبل وجوبهما على قول ابن القاسم ، ورواية عن مالك ، وهو الذي مشى عليه المصنف . فإذا علم ذلك فلم يبق للحكم بوجوب دم التمتع بإحرام الحج فائدة تعم على القول بأنه لا يجزئه ما قلده قبل الإحرام بالحج تظهر ثمرة الوجوب في ذلك ، ويكون المعنى : أنه يجب بإحرام الحج ، وجوبا غير متحتم ; لأنه معرض للسقوط بالموت ، والفوات ، فإذا رمى جمرة العقبة تحتم الوجوب ، فلا يسقط بالموت . كما نقول في كفارة الظهار ، أنها تجب بالعود وجوبا غير متحتم بمعنى أنها تسقط بموت الزوجة وطلاقها فإن وطئ تحتم الوجوب ولزمت الكفارة ، ولو ماتت الزوجة ، أو طلقها إلى أن قال : بل تقدم في كلام ابن عبد السلام في شرح المسألة الأولى أن هدي التمتع إنما ينحر بمنى ، إن وقف به بعرفة ، أو بمكة بعد ذلك إلى آخره ، وهو يدل : على أنه لا يجزئ نحره قبل ذلك والله أعلم ، ونصوص أهل المذهب شاهدة لذلك .

قال القاضي عبد الوهاب في المعونة : ولا يجوز نحر هدي التمتع والقران ، قبل يوم النحر ، خلافا للشافعي ; لقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، وقد ثبت أن الحلق ، لا يجوز قبل يوم النحر ، فدل على أن الهدي ، لم يبلغ محله إلا يوم النحر ، وله نحو ذلك في شرح الرسالة . وقال في " التلقين " : الواجب لكل واحد من التمتع والقران هدي ينحره بمنى ، ولا يجوز تقديمه قبل فجر يوم النحر ، وله مثله في مختصر عيون المجالس ، ثم قال الحطاب رحمه الله : فلا يجوز الهدي عند مالك ، حتى يحل ، وهو قول أبي حنيفة وجوزه الشافعي : من حين يحرم بالحج . واختلف قوله فيما بعد التحلل من العمرة قبل الإحرام بالحج .

ودليلنا أن الهدي متعلق بالتحلل ، وهو المفهوم من قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله انتهى منه . وكلام علماء المالكية بنحو هذا كثير معروف .

والحاصل : أنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران عند مالك وعامة أصحابه قبل يوم النحر ، وفيه قول ضعيف بجوازه بعد الوقوف بعرفة ، وهو لا يعول عليه ، وأن قولهم : أنه [ ص: 138 ] يجب بإحرام الحج ، لا فائدة فيه إلا جواز إشعار الهدي وتقليده بعد إحرام الحج ، لا شيء آخر ، فما نقل عن عياض وغيره من المالكية مما يدل على جواز نحره قبل يوم النحر كله غلط . إما من تصحيف الإشعار والتقليد وجعل النحر بدل ذلك غلطا ، وإما من الغلط في فهم المراد عند علماء المالكية ، كما لا يخفى على من عنده علم بالمذهب المالكي ، فاعرف هذا التحقيق ، ولا تغتر بغيره .

ومذهب الإمام أحمد في وقت وجوبه فيه خلاف ، فقيل : وقت وجوبه هو وقت الإحرام بالحج . قال في " المغني " : وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ; لأن الله تعالى قال : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ 2 \ 196 ] ، وهذا قد فعل ذلك ، ولأن ما جعل غاية فوجود أوله كاف ; كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ 3 \ 187 ] ، إلى أن قال : وعنه أنه يجب إذا وقف بعرفة . قال : وهو قول مالك واختيار القاضي ، ووجه في المغني هذا القول بأنه قبل الوقوف لا يعلم أيتم حجه أو لا ; لأنه قد يعرض له الفوات ، فلا يكون متمتعا ، فلا يجب عليه دم ، وذكر عن عطاء وجوبه برمي جمرة العقبة .

وعن أبي الخطاب يجب إذا طلع فجر يوم النحر ، ثم قال في " المغني " : فأما وقت إخراجه فيوم النحر ، وبه قال : مالك ، وأبو حنيفة : لأن ما قبل يوم النحر لا يجوز فيه ذبح الأضحية ، فلا يجوز فيه ذبح هدي التمتع ، ثم قال : وقال أبو طالب : سمعت أحمد قال في الرجل يدخل مكة في شوال ، ومعه هدي قال : ينحر بمكة ، وإن قدم قبل العشر ينحره لا يضيع أو يموت أو يسرق . وكذلك قال عطاء : وإن قدم في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قدموا في العشر ، فلم ينحروا ، حتى نحروا بمنى ، ومن جاء قبل ذلك نحره عن عمرته ، وأقام على إحرامه ، وكان قارنا . انتهى محل الغرض منه . وسترى ما يرد هذا إن شاء الله تعالى .

وقال صاحب " الإنصاف " : يلزم دم التمتع ، والقران بطلوع فجر يوم النحر على الصحيح من المذهب ، وجزم به القاضي في الخلاف ، ورد ما نقل عنه خلافه إليه وجزم به في البلغة ، وقدمه في " الهداية " و " المستوعب " و " الخلاصة " ، و " التلخيص " ، و " الفروع " ، و " الرعايتين " ، و " الحاويين " ، وعنه يلزم الدم إذا أحرم بالحج ، وأطلقهما في المذهب ، و " مسبوك الذهب " وعنه يلزم الدم بالوقوف وذكره المصنف والشارح اختيار القاضي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-11, 12:14 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (360)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 139 إلى صـ 146



[ ص: 139 ] قال الزركشي : ولعله في المجرد وأطلقها والتي قبلها في الكافي ، ولم يذكر غيرها ، وكذا قال في " المغني " و " الشرح " ، وقال ابن الزاغوني في " الواضح " : يجب دم القران بالإحرام . قال في " الفروع " : كذا قال ، وعنه يلزم بإحرام العمرة لنية التمتع ، إذ قال في " الفروع " : ويتوجه أن يبني عليها ، ما إذا مات بعد سبب الوجوب ، يخرج عنه من تركته .

وقال بعض الأصحاب : فائدة الروايات إذا تعذر الدم ، وأراد الانتقال إلى الصوم ، فمتى يثبت العذر فيه الروايات ، ثم قال في " الإنصاف " : هذا الحكم المتقدم في لزوم الدم . وأما وقت ذبحه فجزم في " الهداية " ، و " المذهب " ، و " مسبوك الذهب " ، و " المستوعب " ، و " الخلاصة " ، و " الهادي " ، و " التلخيص " ، و " البلغة " ، و " الرعايتين " ، و " الحاويين " وغيرهم : أنه لا يجوز ذبحه قبل وجوبه .

قال في " الفروع " : وقال القاضي وأصحابه : لا يجوز قبل فجر يوم النحر ، ثم ذكر صاحب " الإنصاف " ، عن بعضهم ما يدل على جواز ذبحه قبل ذلك ، وذكر رده ، ورده الذي ذكر هو الصحيح .

ومن جملة ما رده به فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ; لأنهم لم يذبحوا قبل يوم النحر قارنهم ومتمتعهم جميعا ، ثم قال : وقد جزم في " المحرر " ، و " النظم " ، و " الحاوي " ، و " الفائق " وغيرهم أن وقت دم المتعة والقران وقت دم الأضحية على ما يأتي في بابه ، ثم قال : واختار أبو الخطاب في الانتصار " يجوز له نحره بإحرام العمرة ، وأنه أولى من الصوم ; لأنه بدل " وحمل رواية ابن منصور بذبحه يوم النحر على وجوبه يوم النحر ، ثم قال :

ونقل أبو طالب إن قدم قبل العشر ومعه هدي : ينحره لا يضيع ، أو يموت ، أو يسرق . قال في " الفروع " : وهذا ضعيف .

قال في " الكافي " : وإن قدم قبل العشر نحره ، وإن قدم به في العشر لم ينحره حتى ينحره بمنى ، استدل بهذه الرواية واقتصر عليه . انتهى محل الغرض من " الإنصاف " .

وقد رأيت في كلامه أن الروايات بتحديد وقت الوجوب يبنى عليها لزوم الهدي في تركته ، إن مات بعد الوجوب ، وتحقق وقت العذر المبيح للانتقال إلى الصوم ، إن لم يجد الهدي ، لا أن المراد بوقت الوجوب استلزام جواز الذبح ; لأنهم يفردون وقت الذبح بكلام مستقل ، عن وقت الوجوب .

[ ص: 140 ] وأن الصحيح المشهور من مذهبه : أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ، واختيار أبي الخطاب جواز ذبحه بإحرام المتعة .

ورواية أبي طالب : جواز ذبحه إن قدم به . قبل العشر ، كلاهما ضعيف لا يعول عليه ، ولا يعضده دليل ، والتعليل بخوف الموت والضياع والسرقة منتقض بما إذا قدم به في العشر ; لأن العشر يحتمل أن يموت فيها ، أو يضيع ، أو يسرق كما ترى والتحديد بنفس العشر ، لا دليل عليه من نص ولا قياس ، فبطلانه واضح لعدم اعتضاده بشيء غير احتمال الموت والضياع والسرقة ، وذلك موجود في الهدي الذي قدم به في العشر ، مع أن الأصل في كليهما السلامة ، والعلم عند الله تعالى .

ومذهب الشافعي في هذه المسألة : هو أن وقت وجوب دم التمتع ، هو وقت الإحرام بالحج .

قال النووي في " شرح المهذب " : وبه قال أبو حنيفة ، وداود ، وقال عطاء : لا يجب حتى يقف بعرفات .

وقال مالك : لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة ، وأما وقت جواز ذبحه عند الشافعية ففيه قولان :

أحدهما : لا يجوز قبل الإحرام بالحج ، قالوا : لأن الذبح قربة تتعلق بالبدن ، فلا تجوز قبل وجوبها ، كالصلاة والصوم .

والقول الثاني : يجوز بعد الفراغ من العمرة ; لأنه حق مالي يجب بسببين ، فجاز تقديمه على أحدهما ، كالزكاة بعد ملك النصاب وقبل الحول ، أما جواز ذبحه بعد الإحرام بالحج ، فلا خلاف فيه عند الشافعية ، كما أن ذبحه قبل الإحرام بالعمرة ، لا يجوز عندهم ، بلا خلاف .

وقد قدمنا نقل النووي ، عن أبي حنيفة أن وقت وجوبه هو وقت الإحرام بالحج ، أما وقت نحره فهو عند أبي حنيفة ، وأصحابه : يوم النحر ، فلا يجوز تقديمه عليه عند الحنفية ، وإن قدمه لم يجزئه ، وينبغي تحقيق الفرق بين وقت الوجوب ، ووقت النحر ; لأن وقت الوجوب إنما تظهر فائدته ، فيما لو مات المحرم هل يخرج الهدي من تركته بعد موته ، ويتعين به وقت ثبوت العذر المجيز للانتقال إلى الصوم ، ولا يلزم من دخول وقت الوجوب ، جواز الذبح .

[ ص: 141 ] ومن فوائد ذلك : أنه إن فاته الحج بعد وجوبه بالإحرام ، عند من يقول بذلك ، لا يتعين لزوم الدم ; لأنه بفوات الحج انتفى عنه اسم المتمتع : فلا دم تمتع عليه ، وإنما عليه دم الفوات . كما يأتي إن شاء الله تعالى .
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في وقت ذبح دم التمتع والقران ، فدونك أدلتهم ، ومناقشتها ، وبيان الحق الذي يعضده الدليل منها .

اعلم أن من قال بجوازه قبل يوم النحر : كالشافعية ، وأبي الخطاب من الحنابلة ، ورواية ضعيفة عن أحمد : إن جاء به صاحبه قبل عشر ذي الحجة فقد احتجوا ، واحتج لهم بأشياء . أما رواية أبي طالب عن أحمد : بجواز تقديم ذبحه ، إن قدم به صاحبه ، قبل العشر ، فقد ذكرنا تضعيف صاحب " الفروع " لها ، وبينا أنها لا مستند لها ; لأن مستندها مصلحة مرسلة مخالفة لسنة ثابتة .

وأما قول أبي الخطاب : إنه يجوز بإحرام العمرة ، فلا مستند له من كتاب ولا سنة ولا قياس . والظاهر : أنه يرى أن هدي التمتع له سببان ، وهما العمرة والحج في تلك السنة ، فإن أحرم بالعمرة انعقد السبب الأول في الجملة فجاز الإتيان بالمسبب ، كوجوب قضاء الحائض أيام حيضها من رمضان ; لأن انعقاد السبب الأول الذي هو وجود شهر رمضان كفى في وجوب الصوم ، وإن لم تتوفر الأسباب الأخرى ، ولم تنتف الموانع ; لأن قضاء الصوم فرع عن وجوب سابق في الجملة ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع . ولا يخفى سقوط هذا ، كما ترى . وأما الشافعية : فقد ذكروا لمذهبهم أدلة .

منها أن هدي التمتع حق مالي ، يجب بسببين : هما الحج ، والعمرة .

فجاز تقديمه على أحدهما قياسا على الزكاة بعد ملك النصاب ، وقبل حلول الحلول .

ومنها قوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي قالوا : قوله : فما استيسر من الهدي ، أي عليه ما استيسر من الهدي ، وبمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا ، فوجب حينئذ ; لأنه معلق على التمتع : وقد وجد . قالوا : ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله ; كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ 2 \ 187 ] ، فالصيام ينتهي بأول جزء من الليل ، فكذلك التمتع ، يحصل بأول جزء من الحج وهو الإحرام .

ومنها أن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج ، فوجد التمتع ، وذبح الهدي معلق على التمتع ، وإذا حصل المعلق عليه حصل المعلق .

[ ص: 142 ] ومنها أن الصوم الذي هو بدل الهدي عند العجز عنه ، يجوز تقديم بعضه على يوم النحر ، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج الآية [ 2 \ 196 ] ، وتقديم البدل يدل على تقديم المبدل منه .

ومنها أنه دم جبران ، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر كدم فدية الطيب واللباس .

ومنها ظواهر بعض الأحاديث التي قد يفهم منها الذبح قبل يوم النحر ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه في باب الاشتراك في الهدي .

وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج ، أخبرنا أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي ، ويجتمع النفر منا في الهدية " ، وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم في هذا الحديث . انتهى بلفظه من صحيح مسلم . وقال النووي في شرحه لهذا الحديث : وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع ، بعد التحلل من العمرة ، وقبل الإحرام بالحج . وفي المسألة خلاف ، وتفصيل . . . إلى آخر كلام النووي .

ومن ذلك أيضا ما رواه الحاكم في " المستدرك " : أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن إبراهيم ، ثنا أحمد بن النضر بن عبد الوهاب ، ثنا يحيى بن أيوب ، ثنا وهب بن جرير ، ثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، ثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وعطاء ، عن جابر بن عبد الله ، قال : كثرت القالة من الناس ، فخرجنا حجاجا ، حتى لم يكن بيننا وبين أن نحل إلا ليال قلائل ، أمرنا بالإحلال . . . الحديث .

وفيه : قال عطاء : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه ، فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت يدي ناقته ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : اصرخ ، أيها الناس هل تدرون أي شهر هذا " ، إلى آخر الحديث ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه ، وفيه ألفاظ من ألفاظ حديث جعفر بن محمد الصادق ، عن أبيه ، عن جابر أيضا ، وفيه أيضا زيادة ألفاظ كثيرة اهـ .

وأقره الحافظ الذهبي على تصحيح الحديث المذكور ، وقوله في هذا الحديث : " فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه فلما وقف بعرفة " إلخ . قد يتوهم منه ، أن ذبح سعد لتيسه كان قبل الوقوف بعرفة .

[ ص: 143 ] هذا هو حاصل ما استدل به القائلون بجواز ذبح هدي التمتع قبل يوم النحر ، وغيره مما زعموه أدلة تركناه لوضوح سقوطه ، ولأنه لا يحتاج في سقوطه إلى دليل .

وأما الجمهور القائلون : بأنه لا يجوز ذبح دم التمتع والقران قبل يوم النحر فاستدلوا بأدلة واضحة ، وأحاديث كثيرة صحيحة صريحة ، في أن أول وقت نحر الهدي : هو يوم النحر ، وكان - صلى الله عليه وسلم - قارنا كما قدمنا ، ما يدل على الجزم بذلك ، سواء قلنا : إذا بدأ إحرامه قارنا ، أو أدخل العمرة على الحج ، وأن ذلك خاص به كما تقدم . وكانت أزواجه كلهن متمتعات كما هو ثابت في الأحاديث الصحيحة ، إلا عائشة فإنها كانت قارنة على التحقيق كما قدمنا إيضاحه بالأدلة الصحيحة الصريحة ، ولم ينحر عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - ، ولا عن أحد من أزواجه ، إلا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة ، وكذلك كل من كان معه من المتمتعين ، وهم أكثر أصحابه والقارنين الذين ساقوا الهدي ، لم ينحر أحد منهم ألبتة ، قبل يوم النحر ، وعلى ذلك جرى عمل الخلفاء الراشدين ، والمهاجرين ، والأنصار ، وعامة المسلمين فلم يثبت عن أحد من الصحابة ، ولا من الخلفاء : أنه نحر هدي تمتعه ، أو قرانه قبل يوم النحر ألبتة .
فإن قيل : فعله - صلى الله عليه وسلم - لا يتعين به الوجوب ; لإمكان أن يكون سنة لا فرضا ; لأن الفعل لا يقع في الخارج إلا شخصيا ، فلا عموم له ، ولذلك كانت أفعال هيئات صلاة الخوف كلها جائزة ، ولم ينسخ الأخير منها الأول ، وإذا فلا مانع من أن يكون هو ذبح يوم النحر ، مع جواز الذبح قبله .

فالجواب من وجهين ، الأول : هو ما تقرر في الأصول ، من أن فعله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بيانا لنص فهو محمول على الوجوب ، إن كان الفعل المبين واجبا كما أطبق عليه الأصوليون . وقد قدمنا إيضاحه فقطعه السارق من الكوع مبينا به المراد من اليد في قوله : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، يقتضي الوجوب ، فلا يجوز لأحد القطع من غير الكوع ، وأفعاله في جميع مناسك الحج مبينة للآيات الدالة على الحج ، ومن ذلك الذبائح ، وأوقاتها ; لأنها من جملة المناسك المذكورة في القرآن المبينة بالسنة ; ولذا ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وإذا يجب الاقتداء به في فعله في نوعه وزمانه ، ومكانه ما لم يكن هنالك قول منه أعم من الفعل كبيانه أن عرفة كلها موقف ، وأن مزدلفة كلها موقف ، وأن منى كلها منحر ، ونحو ذلك ، فلا يختص الحكم بنفس محل موقفه أو نحره .

قال صاحب " جمع الجوامع " ، عاطفا على ما تعرف به جهة فعله - صلى الله عليه وسلم - من وجوب أو [ ص: 144 ] ندب ما نصه : ووقوعه بيانا . . . إلخ . يعني أن وقوع الفعل بيانا لنص مجمل إن كان مدلول النص واجبا ، فالفعل المبين به ذلك النص واجب بلا خلاف ، وإن كان مندوبا فمندوب . سواء كان الفعل المبين للنص دل على كونه بيانا قرينة أو قولا .

قال شارحه صاحب " الضياء اللامع " ، ما نصه : الثاني : أن يكون فعله بيانا لمجمل إما بقرينة حال مثل القطع من الكوع ، فإنه بيان لقوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وإما بقول مثل قوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، فإن الصلاة فرضت على الجملة ، ولم تبين صفاتها فبينها بفعله ، وأخبر بقوله أن ذلك الفعل بيان ، وكذا قوله : " خذوا عني مناسككم " ، وحكم هذا القسم وجوب الاتباع . انتهى محل الغرض منه ، وهو واضح فيما ذكرنا ولا أعلم فيه خلافا فجميع أفعال الحج ، والصلاة التي بين بها - صلى الله عليه وسلم - آيات الصلاة والحج يجب حمل كل شيء منها ، على الوجوب إلا ما أخرجه دليل خاص يجب الرجوع إليه . وقال ابن الحاجب في مختصره الأصولي : مسألة فعله - صلى الله عليه وسلم - ما وضح فيه أمر الجبلة ، كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، أو تخصيصه ، كالضحى ، والوتر ، والتهجد ، والمشاورة ، والتخيير ، والوصال والزيادة على أربع فواضح ، وما سواهما إن وضح أنه بيان بقول أو قرينة مثل : صلوا ، وخذوا ، وكالقطع من الكوع والغسل إلى المرافق ، اعتبر اتفاقا . انتهى محل الغرض منه . ومعنى قوله : اعتبر اتفاقا : أنه إن كان المبين باسم المفعول واجبا ، فالفعل المبين باسم الفاعل واجب ; لأن المبين بحسب المبين ، وقال شارحه العضد : فإن عرف أنه بيان لنص على جهته من الوجوب ، والندب ، والإباحة اعتبر على جهة المبين من كونه خاصا وعاما اتفاقا ، ومعرفة كونه بيانا إما بقول ، وإما بقرينة ، فالقول نحو : " خذوا عني مناسككم " ، و " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، والقرينة مثل : أن يقع الفعل بعد إجمال ، كقطع يد السارق من الكوع ، دون المرفق والعضد بعد ما نزل قوله : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، والغسل إلى المرافق ، بإدخال المرافق ، أو إخراجها بعد ما نزلت : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق [ 5 \ 6 ] انتهى محل الغرض منه ، وهو واضح فيما ذكرنا من أن الفعل المبين لنص دال على واجب ، يكون واجبا ; لأن البيان به بيان لواجب ، كما هو واضح . وإلى ذلك أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :

من غير تخصيص وبالنص يرى وبالبيان وامتثال ظهرا
ومحل الشاهد منه قوله : وبالبيان . وقال في شرحه " نشر البنود " في معنى قوله : [ ص: 145 ] وبالبيان ، فيكون حكمه حكم المبين انتهى منه . وهو واضح - والمبين بصيغة اسم المفعول - في آيات الحج ، وهدي التمتع واجب ; لأن الحج واجب إجماعا ، وهدي التمتع واجب إجماعا ، فالفعل المبين لهما يكون واجبا على ما قررناه ، وعليه عامة أهل الأصول ، إلا ما أخرجه دليل خاص وبه تعلم أن ذبحه - صلى الله عليه وسلم - هديه يوم النحر وهو قارن ، وذبحه عن أزواجه يوم النحر ، وهن متمتعات ، وعن عائشة وهي قارنة : فعل مبين لنص واجب ، فهو واجب ، ولا تجوز مخالفته في نوع الفعل ، ولا في زمانه ، ولا في مكانه إلا فيما أخرجه دليل خاص ، كغير المكان الذي ذبح فيه من منى ; لأنه بين أن منى كلها نحر ، ولم يبين أن الزمن كله وقت نحر ، ومما يؤيد ذلك ما اختاره بعض أهل الأصول ، من أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يكن بيانا لمجمل ، ولم يعلم هل فعله على سبيل الوجوب ، أو على سبيل الندب أنه يحمل على الوجوب ; لأنه أحوط وأبعد من لحوق الإثم ، إذ على احتمال الندب والإباحة لا يقتضي ترك الفعل إثما ، وعلى احتمال الوجوب يقتضي الترك الإثم ، وإلى هذا أشار في " مراقي السعود " في مبحث أفعاله - صلى الله عليه وسلم - بقوله :

وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل



وقال في شرحه لمراقي السعود المسمى نشر البنود : يعني أن ما كان من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - مجهول الصفة - أي مجهول الحكم - فإنه يحمل على الوجوب إلى أن قال : وكونه للوجوب هو الأصح ، وهو الذي ذهب إليه الإمام مالك ، والأبهري ، وابن القصار ، وبعض الشافعية ، وأكثر أصحابنا وبعض الحنفية ، وبعض الحنابلة . انتهى محل الغرض منه .

وقال صاحب " الضياء اللامع " : وبهذا قال مالك في رواية أبي الفرج ، وابن خويز منداد ، وقال به الأبهري ، وابن القصار ، وأكثر أصحابنا ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية ، وبعض الحنابلة ، وبعض المعتزلة . واستدل أهل هذا القول بأدلة :

منها قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ 33 \ 21 ] ، قالوا : معناه : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فله فيه أسوة حسنة ، ويستلزم أن من ليس له فيه أسوة حسنة ، فهو لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، وملزوم الحرام حرام ، ولازم الواجب واجب . وقالوا أيضا : وهو مبالغة في التهديد على عدم الأسوة فتكون الأسوة واجبة ، ولا شك أن من الأسوة اتباعه في أفعاله .

ومنها قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، قالوا : وما فعله فقد آتاناه ; لأنه هو المشرع لنا بأقواله وأفعاله وتقريره .

[ ص: 146 ] ومنها قوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، ومن اتباعه التأسي به في فعله ، قالوا : وصيغة الأمر في قوله : فاتبعوني للوجوب .

ومنها أن الصحابة لما اختلفوا في وجوب الغسل من الوطء ، بدون إنزال سألوا عائشة ، فأخبرتهم أنها هي ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلا ذلك ، فاغتسلا فحملوا ذلك الفعل الذي هو الغسل من الوطء بدون إنزال على الوجوب .

ومنها أنه - صلى الله عليه وسلم - لما خلع نعليه في الصلاة ، خلعوا نعالهم ، فلما سألهم : لم خلعوا نعالهم ؟ قالوا : رأيناك خلعت نعليك ، فخلعنا نعالنا ، فحملوا مطلق فعله على الوجوب ، فخلعوا لما خلع ، وأقرهم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك قالوا : فلو كان الفعل الذي لم يعلم حكمه لا يدل على الوجوب ، لبين لهم أنه لا يلزم من خلعه أن يخلعوا ، ولكنه أقرهم على خلع نعالهم ، وأخبرهم أن جبريل أخبره : أن في باطنهما قذرا والقصة في ذلك ثابتة من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عند أحمد ، وأبي داود ، والحاكم وغيرهم . وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : رواه أبو داود بإسناد صحيح ، ورواه الحاكم في " المستدرك " . وقال : هو صحيح على شرط مسلم ، وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في شرحه لحديث أبي سعيد المذكور في " المنتقى " بعد أن قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد وأبو داود ، انتهى الحديث . أخرجه أيضا الحاكم ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، واختلف في وصله وإرساله ورجح أبو حاتم في العلل الموصول ، ورواه الحاكم من حديث أنس ، وابن مسعود إلى آخر كلامه . ومعلوم أن المخالفين القائلين : بأن الفعل الذي لم يكن بيانا لمجمل ، ولم يعلم حكمه من وجوب لا يحمل على الوجوب ، بل على الندب أو الإباحة إلى آخر أقوالهم ، ناقشوا الأدلة التي ذكرنا مناقشة معروفة في الأصول ، قالوا : قوله : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، أي ما أمركم به بدليل قوله : وما نهاكم عنه [ 59 \ 7 ] ، فهي في الأمر والنهي لا في مطلق الفعل ، ولا يخفى أن تخصيص : ( وما آتاكم ) ، بالأمر تخصيص لا دليل عليه ، وذكر النهي بعده لا يعينه وقالوا : إن كنتم تحبون الله فاتبعوني إنما يكون الاتباع واجبا فيما علم أنه واجب ، أما إذا كان فعله مندوبا فالاتباع فيه مندوب ، ولا يتعين أن الفعل واجب على الأمة بالاتباع إلا إذا علم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الوجوب .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 12:50 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (361)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 147 إلى صـ 154




أما لو كان فعله على سبيل الندب ، وفعلته الأمة على [ ص: 147 ] سبيل الوجوب ، فلم يتحقق الاتباع بذلك ، قالوا : وكذلك يقال في قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، فلا تتحقق الأسوة إذا كان هو - صلى الله عليه وسلم - فعله على سبيل الندب ، وفعلته أمته على سبيل الوجوب ، بل لا بد في الأسوة من علم جهة الفعل ، الذي فيه التأسي ، قالوا : وخلعهم نعالهم لا دليل فيه ; لأنه فعل داخل في نفس الصلاة ، وإنما أخذوه من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ; لأن خلع النعال كأنه في ذلك الوقت من هيئة أفعال الصلاة ، قالوا : وإنما أخذوا وجوب الغسل من الفعل ، الذي أخبرتهم به عائشة ; لأنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجوب الغسل من التقاء الختانين ، أو لأنه فعل مبين لقوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ 5 \ 6 ] ، والفعل المبين لإجمال النص لا خلاف فيه كما تقدم إيضاحه .

قالوا : والاحتياط في مثل هذا لا يلزم ; لأن الاحتياط لا يلزم إلا فيما ثبت وجوبه أو كان وجوبه هو الأصل كليلة الثلاثين من رمضان ، إن حصل غيم يمنع رؤية الهلال عادة ، أما غير ذلك فلا يلزم فيه الاحتياط ، كما لو حصل الغيم المانع من رؤية هلال رمضان ليلة ثلاثين من شعبان : فلا يجوز صوم يوم الشك ، ولا يحتاط فيه ; لأنه لم يثبت له وجوب ولم يكن وجوبه هو الأصل ، إلى آخر أدلتهم ومناقشاتها . فلم نطل بجميعها الكلام ، ولا شك أن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول كقوله : فاتبعوني [ 3 \ 31 ] ، وقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه الآية [ 59 \ 7 ] ، وقوله : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] ، وإن لم تكن مقنعة بنفسها في الموضوع ، فلا تقل عن أن تكون عاضدة لما قدمنا من وجوب الفعل الواقع به البيان ، وما سنذكره من غير ذلك ، وهو الوجه الثاني من وجهي الجواب اللذين ذكرنا : وهو أن ذلك الفعل الذي هو ذبح هدي التمتع ، والقران يوم النحر ، هو الذي مشى عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين . ودلت عليه الأحاديث ولن يصلح آخر هذه الأمة ، إلا ما أصلح أولها ، ومن أوضح الأدلة الثابتة في ذلك الأحاديث المتفق عليها التي لا مطعن فيها بوجه أنه - صلى الله عليه وسلم - ، أمر أصحابه بفسخ حجهم في عمرة ، وأن يحلوا منها الحل كله ، ثم يحرموا بالحج ، وتأسف على أنه لم يفعل مثل فعلهم وقال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " ، وفي تلك النصوص الصحيحة : التصريح بأمرهم بفسخ الحج في العمرة ، ومعناه : أنه هو - صلى الله عليه وسلم - يجوز له أن يفسخ الحج في العمرة ، كما أمر أصحابه بذلك . وقد صرح في الأحاديث الصحيحة : بأن الذي منعه من ذلك . أنه ساق الهدي ، فلو كان هدي التمتع يجوز ذبحه بعد [ ص: 148 ] الإحلال من العمرة لجعل الحج عمرة ، وأحل منها ، ونحر الهدي بعد الإحلال منها . ولكن المانع الذي منعه من ذلك هو عدم جواز النحر في ذلك الوقت . والحلق الذي لا يصح الإحلال دونه معلق على بلوغ الهدي محله ، كما قال : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . وقد بين صلى الله عليه وسلم بفعله الثابت عنه أن محله : منى يوم النحر . وقد قدمنا في سورة " البقرة " أن القرآن دل في موضعين ، على أن النحر قبل الحلق .

أحدهما : قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . والثاني : قوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، وقد قدمنا أنه التسمية عند نحرها تقربا لله ، ثم قال بعد النحر الذي هو معنى الآية : ثم ليقضوا تفثهم [ 22 \ 29 ] ، ومن قضاء تفثهم : الحلق ، أو التقصير .

وقد ثبت في الصحيح : " أنه - صلى الله عليه وسلم - حلق قبل أن ينحر وأمر بذلك " ، كما قدمناه في سورة " البقرة " مستوفى ، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - بين أن من قدم الحلق ، على النحر : لا شيء عليه . ولا خلاف أن كل الواقع من ذلك في حجته ، أنه كان يوم النحر كما هو معروف . وقد دلت آية " الحج " على أن كل هدي له تعلق بالحج ، ويدخل فيه التمتع دخولا أوليا أن وقت ذبحه مخصص بأيام معلومات ، دون غيرها من الأيام ، وذلك في قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 27 - 28 ] ; لأن معنى الآية الكريمة : أذن فيهم بالحج ، يأتوك مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يذكروا اسم الله في أيام معلومات ، على ما رزقهم من بهيمة الأنعام : أي ولأجل أن يتقربوا بدماء الأنعام في خصوص تلك الأيام المعلومات وهو واضح كما ترى . وقد قدمنا أن هذه الأنعام التي يتقرب بها في هذه الأيام المعلومات ، ويسمى عليها الله عند تذكيتها ، أنها أظهر في الهدايا من الضحايا ; لأن الضحايا لا تحتاج أن يؤذن فيها للمضحين ، ليأتوا رجالا وركبانا ، ويذبحوا ضحاياهم كما ترى ، والأحاديث الصحيحة الدالة على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ونحر هديه يوم النحر ، وأنه ما منعه من فسخ الحج في العمرة إلا سوق الهدي ، وأن الهدي لو كان يجوز ذبحه بعد الإحلال من العمرة ، لأحل بعمرة ، وذبح هدي التمتع عند الإحلال منها ، أو عند الإحرام بالحج ، كما يقول من ذكرنا : أنه جائز ، وقد قدمنا كثيرا منها موضحا بأسانيده ، وسنعيد طرفا منه هنا إن شاء الله تعالى .

[ ص: 149 ] فمن ذلك حديث حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - المتفق عليه ، قال البخاري في صحيحه : حدثنا إسماعيل قال : حدثني مالك ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن نافع عن ابن عمر ، عن حفصة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت : " يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شأن الناس حلوا بعمرة ، ولم تتحلل أنت من عمرتك ؟ قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أهل حتى أنحره " انتهى من صحيح البخاري ، وقوله : " حتى أنحر " ، يعني : يوم النحر ، فلو جاز نحر هدي التمتع قبل ذلك ، لأحل بعمرة ، ونحر .

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أن حفصة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت : " يا رسول الله ، ما شأن الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ قال : " إني لبدت رأسي ، وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " . وفي لفظ له عنها ، قالت : قال : " إني قلدت هديي ، فلا أحل حتى أحل من الحج " . وفي لفظ له عنها : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع ، قالت حفصة : قلت : ما يمنعك أن تحل ؟ قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر هديي " اهـ .

ففي هذه الروايات الصحيحة ما يدل على أن الهدي الذي معه مانع من الحل ، ولو كان النحر قبل يوم النحر جائزا لتحلل بعمرة ثم نحر ، وفيه أن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - متمتعات ، وقد نحر عنهن البقر يوم النحر .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد ، عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخمس بقين من ذي القعدة ، لا نرى إلا الحج ، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه هدي إذا طاف وسعى بين الصفا والمروة أن يحل . قالت : فدخل علينا يوم النحر بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ قال : نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه " ، قال يحيى : فذكرته للقاسم بن محمد ، فقال : أتتك بالحديث على وجهه ، انتهى من صحيح البخاري .

وقال مسلم - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن زكرياء بن أبي زائدة ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : " ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة بقرة يوم النحر " . وفي لفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه " . وفي حديث ابن بكر عن عائشة بقرة في [ ص: 150 ] حجته . انتهى من صحيح مسلم ، وقد تركنا ذكر اختلاف الروايات ، هل ذبح عن جميعهن بقرة واحدة ، أو عن كل واحدة بقرة ، كما جاء به في حديث مسلم ، هذا بالنسبة إلى عائشة ، وعلى كل حال فهذه الروايات الصحيحة ، وأمثالها الكثيرة التي قدمنا كثيرا منها : تدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - نحر عمن تمتع من أزواجه ، ومن قرن في خصوص يوم النحر ، وأنه هو - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل عن نفسه ، وكان قارنا مع أنه كان يتمنى أن يعتمر ، ويحل منها ، ثم يحرم بالحج ، كما أمر أصحابه بفعل ذلك ، وصرح في الروايات الصحيحة : بأن المانع له من ذلك سوق الهدي ، فلو كان الهدي يجوز نحره قبل يوم النحر لتحلل ونحر كما أوضحناه ، وفعله هذا كالتفسير لقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، فبين بفعله أن بلوغه محله يوم النحر بمنى ، بعد رمي جمرة العقبة ، فمن أجاز ذبح هدي التمتع قبل ذلك ، فقد خالف فعله - صلى الله عليه وسلم - المبين لإجمال القرآن ، وخالف ما كان عليه أصحابه من بعده وجرى عليه عمل عامة المسلمين ، ولا يثبت بنص صحيح عن صحابي واحد أنه نحر هدي تمتع أو قران قبل يوم النحر ، فلا يجوز العدول عن هذا الذي فعله - صلى الله عليه وسلم - مبينا به إجمال الآيات القرآنية ، وأكده بقوله : " لتأخذوا عني مناسككم " ، كما ترى .
فإذا عرفت مما ذكرنا أن الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة ، وفعل الخلفاء الراشدين ، وغيرهم من كافة علماء المسلمين : هو أنه لا يجوز نحر هدي التمتع والقران ، قبل يوم النحر . فدونك الأجوبة التي أجيب بها عن أدلة المخالفين القائلين بجواز ذبحه عند إحرام الحج ، أو عند الإحلال من العمرة .

أما استدلالهم بأن هدي التمتع له سببان ، فجاز بأحدهما قياسا على الزكاة ، بعد ملك النصاب ، وقبل حلول الحول ، فهو مردود بكونه فاسد الاعتبار ، وفساد الاعتبار من القوادح المجمع على القدح بها ، وهو بالنسبة إلى القياس أن يكون القياس مخالفا لنص من كتاب ، أو سنة ، أو إجماع ، وهذا القياس مخالف للسنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - التي هي النحر يوم النحر ، كما قدمنا إيضاحه ، وعرف في " مراقي السعود " فساد الاعتبار بقوله في مبحث القوادح :

والخلف للنص أو اجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى


واستدلالهم بأن شروط التمتع وجدت عند الإحرام بالحج ، فوجد التمتع بوجود شروطه ، وذبح الهدي معلق على وجود التمتع في الآية ، وإذا حصل المعلق عليه ، حصل المعلق ، مردود من وجهين :

[ ص: 151 ] الأول أن وجود التمتع لم يحقق بإحرام الحج ، لاحتمال أن يفوته الحج بسبب عائق عن الوقوف بعرفة وقته ; لأنه لو فاته الحج ، لم يوجد منه التمتع ، فدل ذلك على أن الإحرام بالحج لا يتحقق به وجود حقيقة التمتع التي علق على وجودها ما استيسر من الهدي .

الثاني أن الهدي الواجب بالتمتع له محل معين ، لا بد من بلوغه في زمن معين ، كما دل عليه قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله . وقد بين - صلى الله عليه وسلم - بفعله الثابت ثبوتا لا مطعن فيه ، وقوله : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي " الحديث المتقدم أن محله هو منى يوم النحر كما تقدم إيضاحه ، واستدلالهم بأن الصوم الذي هو بدل الهدي عند العجز عنه يجوز تقديم بعضه على يوم النحر ، وهو الأيام الثلاثة المذكورة في قوله : فصيام ثلاثة أيام في الحج ، فجاز تقديم الهدي على يوم النحر ، قياسا على بدله مردود من وجهين :

الأول : أنه قياس مخالف لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي فعلها مبينا بها القرآن .

وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " ، فهو قياس فاسد الاعتبار ، كما قدمنا إيضاحه قريبا .

الوجه الثاني : أنه قياس مع وجود فوارق تمنع من إلحاق الفرع بالأصل .

منها أن الهدي يترتب على ذبحه قضاء التفث ، كما يدل عليه قوله في ذبح الهدايا : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، ثم رتب على ذلك قوله تعالى : ثم ليقضوا تفثهم [ 22 \ 29 ] ، وهذا الحكم الموجود في الأصل منتف عن الفرع ; لأن الصوم لا يترتب عليه قضاء تفث .

ومنها أن الهدي يختص بمكان ، وهذا الوصف منتف عن الفرع ، وهو الصوم ، فإنه لا يختص بمكان .

ومنها أن الصوم إنما يؤدى جزؤه الأكبر بعد الرجوع إلى الأهل في قوله تعالى : وسبعة إذا رجعتم [ 2 \ 196 ] ، وهذا منتف عن الأصل الذي هو الهدي ، فلا يفعل منه شيء بعد الرجوع إلى الأهل كما ترى . واستدلالهم : بأنه دم جبران ، فجاز بعد وجوبه قبل يوم النحر قياسا على فدية الطيب واللباس مردود من وجهين أيضا .

اعلم أولا : أنا قدمنا أقوال أهل العلم ، ومناقشة أدلتهم مناقشة دقيقة في هدي التمتع [ ص: 152 ] هل هو دم جبران ، أو دم نسك كالأضحية ؟ فعلى أنه دم نسك فسقوط الاستدلال المذكور واضح ، وعلى أنه دم جبران ، فقياسه على فدية الطيب واللباس يمنعه أمران .

الأول : أنه قياس فاسد الاعتبار لمخالفته السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - .

الثاني : أنه لم يثبت نص صحيح من كتاب ولا سنة على وجوب الهدي في الطيب واللباس ، حتى يقاس عليه هدي التمتع ، والعلماء إنما أوجبوا الفدية في الطيب واللباس قياسا على الحلق المنصوص في آية الفدية ، والقياس على حكم مثبت بالقياس فيه خلاف معروف بين أهل الأصول . فذهبت جماعة منهم إلى أن حكم الأصل المقيس عليه ، لا بد أن يكون ثابتا بنص ، أو اتفاق الخصمين . وذهب آخرون إلى جواز القياس على الحكم الثابت بالقياس ، كأن تقول هنا : من لبس أو تطيب في إحرامه ، لزمته فدية الأذى ، قياسا على الحلق المنصوص عليه في قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية الآية [ 2 \ 196 ] ، بجامع ارتكاب المحظور ، ثم تقول : ثبت بهذا القياس أن في الطيب واللباس فدية فتجعل الطيب واللباس الثابت حكمها بالقياس أصلا ثانيا ، فتقيس عليهما هدي التمتع في جواز التقديم بجامع أن الكل دم جبران ، وكأن تقول : يحرم الربا في الذرة ، قياسا على البر بجامع الاقتيات ، والادخار ، أو الكيل مثلا ، ثم تقول : ثبت تحريم الربا في الذرة بالقياس على البر ، فتجعل الذرة أصلا ثانيا ، فتقيس عليها الأرز ، ونحو ذلك ، فعلى أن مثل هذا لا يصح به القياس ، فسقوط الاستدلال المذكور واضح وعلى القول بصحة القياس عليه ، وهو الذي درج عليه في " مراقي السعود " بقوله :



وحكم الأصل قد يكون ملحقا لما من اعتبار الأدنى حققا



فهو قياس مختلف في صحته أصلا ، وهو فاسد الاعتبار أيضا ; لمخالفته لسنته صلى الله عليه وسلم .

واستدلالهم بقوله تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي قائلين : إنه بمجرد الإحرام بالحج يسمى متمتعا ، فيجب الهدي بإحرام الحج ; لأن اسم التمتع يحصل به ، والهدي معلق عليه ، قالوا : ولأن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله ; كقوله تعالى : ثم أتموا الصيام إلى الليل [ 2 \ 187 ] ، مردود أيضا .

أما كون التمتع يوجد بإحرام الحج ، والهدي معلق عليه فيلزم وجوده بوجوده ، فقد بينا رده من وجهين بإيضاح قريبا فأغنى عن إعادته هنا .

وقولهم : إن ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله يعنون أن قوله تعالى : [ ص: 153 ] فمن تمتع بالعمرة إلى الحج جعل فيه الحج غاية بحرف الغاية الذي هو ( إلى ) ، فيجب تعلق الحكم الذي هو ذبح الهدي بأول الغاية ، وهو الحج وأوله الإحرام ، فيجب الذبح بالإحرام كقوله : ثم أتموا الصيام إلى الليل ، فإن حكم إتمام الصيام ينتهي بأول جزء من الليل ، الذي هو الغاية لإتمامه مردود من وجهين :

الأول أن هذا غير مطرد ، فلا يلزم تعلق الحكم بأول ما جعل غاية .

ومن النصوص التي لم يتعلق الحكم بها فأول ما جعل غاية قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ، فنكاحها زوجا غيره جعل غاية لعدم حليتها له ، مع أن أول هذه الغاية الذي هو عقد النكاح ، لا يتعلق به الحكم ، بل لا بد من بلوغ آخر الغاية : وهو الجماع ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، فعلم أن التعلق بأول الغاية : لا يلزم على كل حال .

الوجه الثاني أن سنة النبي الثابتة عنه من فعله ، ومفهوم قوله : بينت أن هذا الحكم ، لا يتعلق بأول الغاية ، وإنما يتعلق بآخرها وهو الإحلال الأول ; لأنه لم ينحر هدي تمتع ، ولا قران إلا بعد رمي جمرة العقبة ، وفعله فيه البيان الكافي للمراد من الغاية التي يترتب عليها : فما استيسر من الهدي ، والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر الآية [ 33 \ 21 ] ، ففعله مبين لقوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ; لأنه ذبح عن أزواجه المتمتعات يوم النحر ، وأمر أصحابه المتمتعين بذلك ، وخير ما يبين به القرآن بعد القرآن السنة ، والله يقول لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم الآية [ 6 \ 44 ] ، وهو - صلى الله عليه وسلم - يبين المناسك بأفعاله ، موضحا لذلك المراد من القرآن ، ويقول : "لتأخذوا عني مناسككم " .

الثالث : أنه لو جاز له ذبحه قبل يوم النحر ، لجاز الحلق قبل يوم النحر ، وذلك باطل ; فالحلق لا يجوز ، حتى يبلغ الهدي محله . كما هو صريح القرآن ، والحلق لم يجز قبل يوم النحر ، فالهدي لم يبلغ محله قبل يوم النحر ، وهو واضح كما ترى ، ولذا لم يأذن - صلى الله عليه وسلم - في حجته لمن ساق هديا أن يحل ويحلق ، وإنما أمر بفسخ الحج في العمرة من لم يسق هديا ، ولا شك أن ذلك عمل منه بقوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله .
واستدلالهم بحديث جابر المتقدم عند مسلم قال : " فأمرنا إذا أحللنا أن نهدي [ ص: 154 ] ويجتمع النفر منا في الهدية " . وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم مردود بالقادح المسمى في اصطلاح أهل الأصول بالقلب ; لأن حديث جابر المذكور حجة عليهم لا لهم ، وذلك هو عين القلب ، وإيضاحه أن لفظ الحديث : " وذلك حين أمرهم أن يحلوا من حجهم " . والإشارة في قوله " وذلك " راجعة إلى الأمر بالهدية ، والاشتراك فيها ، والحديث صريح في أن ذلك حين إحلالهم من حجهم ; وذلك إنما وقع يوم النحر ; لأنه لا إحلال من حج ألبتة قبل يوم النحر .

والغريب من الشيخ النووي أنه قال في حديث جابر هذا : وفيه دليل لجواز ذبح هدي التمتع بعد التحلل من العمرة ، وقبل الإحرام بالحج ; لأن لفظ الحديث مصرح بأن ذلك عند الأمر بالإحلال من الحج ، وهو يستدل به على وقوعه قبل الإحرام بالحج .

والظاهر أن هذا سهو منه أو أنه ذهب ذهنه إلى أنه أمرهم بذلك حين تحللهم من العمرة ، وظن أن اسم الحج لا ينافي ذلك ; لأن أصل الإحرام بالحج ، ففسخوه في عمرة ، فلما أحلوا منها صاروا كأنهم محلون من الحج الذي فسخوه فيها ، وهذا محتمل ولكنه بعيد جدا من ظاهر اللفظ ; لأن الحج الذي أحرموا به لما فسخوه في عمرة زال اسمه بالكلية ، وصار الإحلال من عمرة لا من حج كما ترى ، فحمل لفظ الإحلال من الحج على الإحلال من العمرة حمل للفظ الحديث ، على ما لا يدل عليه بحسب الوضع العربي من غير دليل يجب الرجوع إليه .

ولو سلمنا جدليا أن المراد في حديث جابر المذكور بالإحلال من الحج : هو الإحلال من العمرة التي فسخوا فيها الحج كما هو رأي النووي ، فلا دليل في الحديث أيضا ; لأن غاية ما دل عليه الحديث على التفسير المذكور : أنه أمرهم عند الإحلال من العمرة بالهدي وذلك لا يستلزم أنهم ذبحوه في ذلك الوقت ، بل الأحاديث الصحيحة الكثيرة الدالة على أنهم لم يذبحوا شيئا من هداياهم ، قبل يوم النحر ، كما تقدم إيضاحه .

واستدلالهم بحديث ابن عباس المتقدم عند الحاكم : " أنه - صلى الله عليه وسلم - قسم يومئذ في أصحابه غنما فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس فذبحه عن نفسه ، فلما وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة " ، إلى آخر الحديث المتقدم ، لا دليل فيه ; لأنه محمول على أنه لم يذبحه إلا يوم النحر ، كما فعل جميع الصحابة . وجاء في مسند الإمام أحمد التصريح بذلك فصارت رواية أحمد المصرحة بأن ذلك وقع يوم النحر ، مفسرة لرواية الحاكم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 12:55 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (362)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 155 إلى صـ 162




قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " ، ما نصه : " باب تفرقة الهدي " : عن ابن عباس [ ص: 155 ] - رضي الله عنهما - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم غنما يوم النحر في أصحابه وقال : " اذبحوا لعمرتكم فإنها تجزئ عنكم " فأصاب سعد بن أبي وقاص تيس " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح . انتهى منه .

وهذه الرواية الصحيحة مبينة أن ذبحهم عن عمرتهم ، إنما كان يوم النحر ، وأن ذلك هو المراد في الرواية التي رواها الحاكم ; لأن الروايات يفسر بعضها بعضا ، كما هو معلوم في علم الحديث والأصول ، ولقد صدق الهيثمي في أن رجاله رجال الصحيح ; لأن أحمد رواه عن حجاج بن محمد المصيصي الأعور أبي محمد مولى سليمان بن مجالد ، وهو ترمذي الأصل سكن بغداد ثم تحول إلى المصيصة ، أخرج له الجميع . وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : ثقة ثبت ، لكنه اختلط في آخر عمره ، لما قدم بغداد قبل موته ، وقال فيه في " تهذيب التهذيب " ، بعد أن ذكر ثناء عليه كثيرا من نقاد رجال الحديث ، كان ثقة صدوقا إن شاء الله ، وكان تغير في آخر عمره حين رجع إلى بغداد . والظاهر أن الإمام أحمد إنما أخذ عنه قبل اختلاطه ; لأنه كان في بغداد قبل المصيصة ، ثم رجع من المصيصة إلى بغداد في حاجة له ، فمات بها واختلاطه في رجوعه الأخير كما يعلمه من نظر ترجمته في كتب الرجال ، وحجاج المذكور رواه عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ، وقد أخرج له الجميع وهو ثقة فقيه فاضل معروف وكان يدلس ويرسل ، ولكنه في هذا الحديث صرح بالإخبار عن عكرمة ، عن ابن عباس ، وراوي الحديث عن أحمد ابنه عبد الله ، وجلالته معروفة ، فظهر صحة الإسناد المذكور كما قاله في " مجمع الزوائد " ، والعلم عند الله تعالى ، وقد رأيت مما ذكرنا أدلة من قال : بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج ، ومن قال : بجوازه عند الفراغ من العمرة ، وأدلة من قال : لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر ومناقشتها .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله أعلم : أنه لا يجوز ذبح هدي التمتع والقران قبل يوم النحر لأدلة متعددة ، أوضحناها غاية الإيضاح قريبا .

منها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل فلم يذبح عن أزواجه المتمتعات ولا عن عائشة القارنة إلا يوم النحر ، وكذلك فعل هو وجميع أصحابه المتمتعين بأمره ، واستمر على ذلك عمل الأمة ، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة . وقد أمرنا أن نأخذ عنه مناسكنا ، ومن مناسكنا وقت ذبح الهدايا ، ولا شك أن القرآن العظيم دل على أن كل هدي له تعلق بالحج أن ذبحه في أيام معلومات ، لا في أيام مجهولات كما أوضحناه مرارا ; لأنه تعالى [ ص: 156 ] قال : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 27 - 28 ] ; لأن مضمون الآية الكريمة : أذن فيهم بالحج يأتوك حجاجا مشاة وركبانا ; لأجل أن يشهدوا منافع لهم ، ولأجل أن يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام : أي وليتقربوا إلى الله بدماء ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، ذاكرين اسم الله عليها عند التذكية .

فقد صرح بأن ذلك التقرب بدماء الأنعام الذي هو من جملة ما دعوا إلى الحج من أجله ، أنه في أيام معلومات لا في زمن مطلق مجهول كما ترى .

وقد بينا الأيام المعلومات في أول هذا البحث ، وقد بين - صلى الله عليه وسلم - أول وقتها ، فذكر اسم الله على ما رزقه من بهيمة الأنعام وقت تذكيتها يوم النحر ، ويوضح أن ذكر اسم الله عليها إنما هو عند تذكيتها تقربا لله تعالى بدمائها ، قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف أي ذكوها قائمة صواف على ثلاثة أرجل كما هو معلوم .

ولا شك أن الله جل وعلا في محكم كتابه بين أن الهدي له محل معروف لا يجوز التحلل بحلق الرأس ، قبل بلوغه إياه ، وذلك في قوله : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله ، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن فيها : أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر من لم يسق هديا من أصحابه بفسخ حجه في عمرة ، والإحلال من العمرة ، وتأسف هو - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يفعل ذلك ، وقال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " .

ولا شك أن المانع له من فسخ الحج في العمرة أنه لا يمكنه التحلل ، وحلق الرأس ، حتى يبلغ الهدي محله .

ومن الضروري البديهي أن هدي التمتع لو كان يجوز ذبحه عند الإحلال من العمرة ، أو الإحرام بالحج أنه - صلى الله عليه وسلم - يتحلل بعمرة ، ويذبح هديه عندما تحلل منها ، فيكون متمتعا ذابحا عند الفراغ من العمرة ، أو عند الإحرام بالحج ، فلما صرح بامتناع هذا وعلله بأنه قلد هديه ، وعلم أنه لا يجوز ذبحه قبل يوم النحر كما هو واضح .

وقد أوضحنا أن جميع أفعاله في الحج - ويدخل فيها الذبح ووقته - كلها بيان لإجمال آيات القرآن كقوله : حتى يبلغ الهدي محله ، وقوله : [ ص: 157 ] ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، كما أنه بيان لقوله : ولله على الناس حج البيت الآية [ 3 \ 97 ] . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - مبينا أن أفعاله في الحج ، بيان للقرآن : " لتأخذوا عني مناسككم " ، وقد قدمنا اتفاق الأصوليين ، على أن فعله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو بيان لإجمال نص يقتضي الوجوب : أنه واجب إلى آخر ما قدمناه من الأدلة .

وقد علمت مما ذكرنا أن القائلين بجواز ذبح هدي التمتع عند الإحرام بالحج ، أو بعد الفراغ من العمرة كالشافعية وأبي الخطاب من الحنابلة ، ليس معهم حجة واضحة من كتاب الله ، ولا من سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا فعل أحد من الصحابة وأن تمسكهم بآية : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ، وبعض الأحاديث ليس في شيء منه حجة ناهضة يجب الرجوع إليها ، هذا ما ظهر لنا في هذه المسألة ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

اعلم أن ما يفعله كثير من الحجاج - الذين يزعمون التقرب بالهدي يوم النحر - من ذبح الغنم في أماكن متفرقة من منى لا يقدر الفقراء على الوصول إليها ، والتمكن منها ، وتركها مذبوحة ليس بقربها فقير ينتفع بها ، وتضيع تلك الغنم بكثرة وتنتفخ وينتشر نتن ريحها في أقطار منى ، حتى يعم أرجاءها النتن كأنه نتن الجيف ، أن كل ذلك لا يجوز وهو إلى المعصية أقرب منه إلى الطاعة . ولا يجوز لمن بسط الله يده إقرارهم على ذلك ; لأنه فساد وأذية لسائر الحجاج بالأرواح المنتنة ، وإضاعة للمال ، وإفساد له باسم التقرب إلى الله ، ودواء ذلك الداء المنتشر في منى كل سنة أن يعلم كل مهد وكل مضح : أنه يلزمه إيصال لحم ما يتقرب به إلى الفقراء ، فعليه إذا ذبحها أن يؤجر من يسلخها طرية حين ذبحها أو يسلخها هو ، ويحملها بنفسه أو بأجرة ، حتى يوصلها إلى المستحقين ; لأن الله يقول : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، ويقول : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ولا يمكنه إطعام أحد ممن أمره الله بإطعامهم إلا بإيصال ذلك إليهم ، ولو اجتهد في إيصاله إليهم ، لأمكنه ذلك ; لأنه قادر عليه وعلى من بسط الله يده أن يعين الحجاج المتقربين بالدماء على طريق الإيصال إلى الفقراء بالطرق الكفيلة بتيسير ذلك كتهيئة عدد ضخم من العاملين للإيجار يوم النحر على سلخ الهدايا والضحايا طرية ، وحمل لحومها إلى الفقراء في أماكنهم ، وكتعدد مواضع الذبح في أرجاء منى ، وفجاج مكة ، ونحو ذلك من الطرق المعينة على إيصال الحقوق لمستحقيها .

[ ص: 158 ] واعلم أن التحقيق أن فقراء الحرم هم الموجودون فيه وقت نحر الهدايا من الآفاقيين ، وحاضري المسجد الحرام ، فإن ذبح في موضع فيه فقراء ، وخلى بينهم وبين الذبيحة أجزأه ذلك ; لأنه يسر لهم الأكل منها بطريق لا كلفة عليهم فيها ، فكأنه أطعمهم بالفعل ، والعلم عند الله تعالى .

ومعلوم أن المتمتع إذا لم يجد هديا أنه ينتقل إلى الصوم ، كما قال تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ 2 \ 196 ] .

وأظهر قولي أهل العلم عندي أن معنى قوله : ( في الحج ) : أي في حالة التلبس بإحرام الحج ; لأن الظاهر من اسم الحج هو الدخول في نفس الحج ، وذلك بالإحرام . وقال بعض أهل العلم : المراد بالحج أشهره ، واستدل بقوله تعالى : الحج أشهر معلومات [ 2 \ 297 ] ولا دليل في الآية عندي ; لأن الكلام على حذف مضاف : أي زمن الحج أشهر معلومات . وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أسلوب عربي ، كما أشار له في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وعليه ، فينبغي أن يحرم بحجه ، قبل يوم التروية ليتم الثلاثة قبل يوم النحر ; لأن صومه لا يجوز .

وكره بعض أهل العلم للحاج صوم يوم عرفة ، واستحب أن يفرغ من صوم الثلاثة قبله ، وجزم به صاحب المهذب والتحقيق أن السبعة إنما يصومها بعد الرجوع إلى أهله ، ووصوله إلى بلده ، وأنه ليس المراد أنه يصومها في طريقه في رجوعه . وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر أن المراد الرجوع إلى أهله ، وهو ظاهر القرآن . فلا يجوز العدول عنه . والظاهر أن الأيام الثلاثة والأيام السبعة : لا يجب التتابع في واحد منهما ، لعدم الدليل على ذلك ، قال في " المغني " : ولا نعلم فيه خلافا ، وإن فاته صومها قبل يوم النحر ، فهل يجوز له أن يصوم أيام التشريق الثلاثة ؟ اختلف العلماء في ذلك على قولين :

أحدهما : أنه لا يجوز صوم أيام التشريق للمتمتع .

والثاني : يجوز له صومها ، وفيها قول ثالث : أنها يجوز صومها مطلقا ، ولا يخفى بعد هذا القول وسقوطه . أما حجة من قال : إنها لا يجوز صومها للمتمتع ، ولا غيره فهو ما رواه مسلم في صحيحه . وحدثنا سريج بن يونس ، حدثنا هشيم ، أخبرنا خالد ، عن أبي المليح ، [ ص: 159 ] عن نبيشة الهذلي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أيام التشريق أيام أكل وشرب " ، وفي لفظ عند مسلم عنه زيادة : " وذكر الله " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن سابق ، حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن أبي الزبير ، عن ابن كعب بن مالك ، عن أبيه أنه حدثه : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق ، فنادى : " أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن ، وأيام منى أيام أكل وشرب " . وفي لفظ عند مسلم : " فناديا " انتهى منه . قالوا : فهذا الحديث الصحيح الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابيان : هما كعب بن مالك ، ونبيشة بن عبد الله الهذلي ، فيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أيام التشريق أيام أكل وشرب ، وذلك يدل على أنها لا يجوز صومها . وظاهر الحديث الإطلاق في المتمتع وغيره . وفي الحديث المذكور : الرد على من أجاز صومها مطلقا ، ومما يؤيد ذلك حديث عمرو بن العاص ، أنه قال لابنه عبد الله في أيام التشريق : إنها الأيام التي نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صومهن ، وأمر بفطرهن . قال ابن حجر في " الفتح " : أخرجه أبو داود ، وابن المنذر وصححه ابن خزيمة والحاكم .

وأما حجة من قال بجواز صوم أيام التشريق الثلاثة للمتمتع الذي فاته صومها قبل يوم النحر ، فهي ما رواه البخاري في صحيحه ، قال : باب صيام أيام التشريق ، قال أبو عبد الله : قال لي محمد بن المثنى : حدثنا يحيى ، عن هشام قال : أخبرني أبي كانت عائشة - رضي الله عنها - تصوم أيام منى ، وكان أبوها يصومها .

حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة : سمعت عبد الله بن عيسى ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، وعن سالم ، عن ابن عمر - رضي الله عنهم - قالا : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن ، إلا لمن لم يجد الهدي . انتهى منه . قالوا : فهذا الحديث له حكم الرفع وفيه التصريح بالترخيص في صوم أيام التشريق للمتمتع ، الذي لم يجد هديا ، والروايات الصحيحة التي رواها الحفاظ من أصحاب شعبة ، لم يرخص بضم الياء وفتح الخاء مبنيا للمفعول .

قال في " الفتح " : ووقع في رواية يحيى بن سلام عن شعبة عند الدارقطني ، واللفظ له ، والطحاوي : رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمتمتع إذا لم يجد الهدي أن يصوم أيام التشريق ، وقال : إن يحيى بن سلام ، ليس بالقوي ، ولم يذكر طريق عائشة ، وأخرجه من وجه آخر ضعيف عن [ ص: 160 ] الزهري ، عن عروة عن عائشة ، وإذا لم تصح هذه الطرق المصرحة بالرفع ، بقي الأمر على الاحتمال .
وقد اختلف علماء الحديث في قول الصحابي : أمرنا بكذا ، ونهينا عن كذا ، هل له حكم الرفع ؟ على أقوال :

ثالثها : إن أضافه إلى عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فله حكم الرفع ، وإلا فلا .

واختلف في الترجيح فيما إذا لم يضفه ، ويلتحق به رخص لنا في كذا ، وعزم علينا ألا نفعل كذا ، كل في الحكم سواء ، فمن يقول : إن له حكم الرفع فغاية ما وقع في رواية يحيى بن سلام ، أنه روي بالمعنى . لكن قال الطحاوي : إن قول ابن عمر وعائشة أخذاه من عموم قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ; لأن قوله : ( في الحج ) ، يعم ما قبل النحر ، وما بعده ، فتدخل أيام التشريق ، فعلى هذا فليس بمرفوع بل هو بطريق الاستنباط منهما ، عما فهماه من عموم الآية . وقد ثبت نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن صوم أيام التشريق ، وهو عام في حق المتمتع وغيره . وعلى هذا فقد تعارض عموم الآية المشعر بالإذن ، وعموم الحديث المشعر بالنهي ، وفي تخصيص عموم المتواتر بعموم الآحاد نظر لو كان الحديث مرفوعا ، فكيف وفي كونه مرفوعا نظر ، فعلى هذا يترجح القول بالجواز ، وإلى هذا جنح البخاري والله أعلم . انتهى كلام ابن حجر في " الفتح " وتراه فيه يجعل : أمرنا ونهينا ، ورخص لنا وعزم علينا ، كلها سواء في الخلاف المذكور : هل لها حكم الرفع أو الوقف ؟ وممن قال : بصوم أيام التشريق للمتمتع : ابن عمر ، وعائشة ، وعروة ، وعبيد بن عمير ، والزهري ، ومالك ، والأوزاعي وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه ، وأحمد في إحدى الروايتين ، وممن روى عنه عدم صوم المتمتع لها : الشافعي في القول الثاني ، وأحمد في الرواية الثالثة ، وروي نحوه عن علي والحسن ، وعطاء وهو قول ابن المنذر قاله في " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : مسألة صوم أيام التشريق للمتمتع ، يظهر لي فيها أنها بالنسبة إلى النصوص الصريحة ، يترجح فيها عدم جواز صومها وبالنظر إلى صناعة علم الحديث يترجح فيها جواز صومها ، وإيضاح هذا أن عدم صومها : دل عليه حديث نبيشة الهذلي ، وكعب بن مالك في صحيح مسلم ، كما قدمنا وكلا الحديثين صريح في أن كونها : " أيام أكل وشرب " . من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو نص صحيح صريح في عدم صومها ، فظاهره الإطلاق في المتمتع ، الذي لم يجد هديا وفي غيره .

[ ص: 161 ] ولم يثبت نص صريح من لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من القرآن : يدل على جواز صومها للمتمتع ، الذي لم يجد هديا ، وما ذكره ابن حجر عن الطحاوي من أن ابن عمر ، وعائشة - رضي الله عنهم - أخذا جواز صومها من ظاهر عموم قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام في الحج ، ليس بظاهر ، والظاهر سقوطه والله أعلم لإجماع جميع المسلمين أن الحاج إذا طاف طواف الإفاضة ، بعد رمي جمرة العقبة ، والحلق : أنه يحل له كل شيء حرم عليه بالحج من النساء ، والصيد ، والطيب ، وكل شيء . فقد زال عنه الإحرام بالحج بالكلية ، وصار حلالا حلا تاما كل التمام . وذلك ينافي كونه يطلق عليه أنه في الحج ، فإن صام أيام التشريق فقد صامها في غير الحج ; لأنه تحلل من حجه ، وقضى مناسكه .

ومن أصرح الأدلة في ذلك أن الله صرح بأنه لا رفث في الحج ، وأيام التشريق يجوز فيها الرفث بالجماع فما دونه ، فدل على أن ذلك الرافث فيها ليس في الحج ، وأما الرمي في أيام التشريق فهو من السنن الواقعة بعد تمام الحج تابعة له ، وكذلك النحر فيها إن لم ينحر يوم النحر .

أما كونه في أيام التشريق : يصدق عليه أنه في الحج بعد إحلاله منه ، وفراغه منه ، حتى يتناوله عموم الآية ، فليس بظاهر عندي . والله تعالى أعلم .

وأما بالنظر إلى صناعة علم الحديث ، فالذي يترجح هو جواز صوم أيام التشريق للمتمتع ، الذي لم يجد هديا ; لأن المشهور الذي عليه جمهور المحدثين أن قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا ، أو رخص لنا في كذا ، أو أحل لنا كذا له كله حكم الرفع ، فهو موقوف لفظا مرفوع حكما .

قال ابن الصلاح في علوم الحديث الثاني : قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا من نوع المرفوع ، والمسند عند أصحاب الحديث ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وخالف في ذلك فريق منهم : أبو بكر الإسماعيلي ، والأول هو الصحيح ; لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهره إلى من إليه الأمر والنهي ، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . انتهى محل الغرض منه

وقد قال بعد هذا : ولا فرق بين أن يقول ذلك في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعده .

وقال النووي في تقريبه : الثاني قول الصحابي : أمرنا بكذا ، أو نهينا عن كذا ، أو من السنة كذا ، أو أمر بلال أن يشفع الأذان وما أشبهه ، كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور . وقيل : ليس بمرفوع ، ولا فرق بين قوله في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعده انتهى [ ص: 162 ] منه ، وعلى هذا درج العراقي في ألفيته في قوله :



قول الصحابي من السنة أو نحو أمرنا حكمه الرفع ولو بعد النبي قاله بأعصر
على الصحيح وهو قول الأكثر

وفي علوم الحديث مناقشات في هذه المسألة معروفة ، والصحيح عندهم الذي عليه الأكثر أن ذلك له حكم الرفع وبه تعلم أن حديث ابن عمر ، وعائشة عند البخاري لم يرخص في أيام التشريق ، أن ضمن الحديث له حكم الرفع . وإذا قلنا : إنه حديث صحيح مرفوع عن صحابيين ، فلا إشكال في أنه يخصص به عموم حديث نبيشة ، وكعب بن مالك ، ولو كان ظاهر الآية يدل على صومها ، كما ذكره ابن حجر عن الطحاوي ، فلا مانع من تخصيص عمومها بالحديث المرفوع .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن التحقيق ، جواز تخصيص عموم المتواتر ، بأخبار الآحاد كما هو معلوم ; لأن التخصيص بيان ، والبيان يجوز بكل ما يزيل اللبس ، ولذا كان جمهور العلماء على جواز بيان المتواتر ، بأخبار الآحاد ، كتخصيص عموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] ، وهو متواتر بحديث : " لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها " ، وهو خبر آحاد ، وقد أكثرنا من أمثلته في هذا الكتاب المبارك ، وكذلك أجاز الجمهور تخصيص المنطوق بالمفهوم كتخصيص عموم : " في أربعين شاة شاة " ، وهو منطوق بمفهوم المخالفة في حديث : " في الغنم السائمة زكاة " ، عند من يقول بذلك .

والحاصل أن المبين باسم الفاعل ، يجوز أن يكون دون المبين باسم المفعول في السند ، وفي الدلالة ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :



وبين القاصر من حيث السند أو الدلالة على ما يعتمد
وقد أوضحنا هذا ، وذكرنا كلام أهل العلم فيه في ترجمة هذا الكتاب المبارك .

وقد يترجح عند الناظر عدم صومها للمتمتع من وجهين :

الأول أن عدم صومها مرفوع رفعا صريحا ، وصومها موقوف لفظا مرفوع حكما على المشهور ، والمرفوع صريحا أولى بالتقديم من المرفوع حكما .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 12:57 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (363)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 163 إلى صـ 170




والثاني أن الجواز والنهي ، إذا تعارضا قدم النهي ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب منهي عنه ، وقد يحتج المخالف ، بأن دليل الجواز خاص بالمتمتع ، ودليل النهي عام ، والخاص يقضي على العام ، والعلم عند الله تعالى . فإن أخر صوم الأيام الثلاثة ، عن يوم [ ص: 163 ] عرفة فقد فات وقتها ، على القول بأن أيام التشريق لا يصومها المتمتع ، وعلى القول بأنه يصومها إنما يخرج وقتها بانتهاء أيام التشريق وهل عليه قضاؤها بعد ذلك ؟ لا أعلم في ذلك نصا من كتاب الله ولا من سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

والعلماء مختلفون في ذلك ، فقال بعضهم : يقضيها فيصوم عشرة ، ومن قال بهذا القول من أهل العلم اختلفوا ، هل يفرقها فيفصل بين الثلاثة والعشرة ، بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء ، لو لم تفت في وقتها بناء على أن تقديم الثلاثة على السبعة لا يتعلق بالوقت ، فلم يسقط كترتيب أفعال الصلاة ، أو ليس عليه تفريقها ، بل يجوز أن يصوم العشرة كلها متوالية ، بناء على أن التفريق وجب بحكم الوقت المعين ، وقد فات ، فسقط كالتفريق بين الصلوات التي فاتت أوقاتها ، فإنها تقضى متوالية لا متفرقة على أوقاتها حسب الأداء لو لم تفت ، والتفريق بين الثلاثة والسبعة في الصوم هو مذهب الشافعي ، وعدمه : مذهب أحمد ، وعلى قول من قالوا : بلزوم قضاء الأيام الثلاثة بعد خروج وقتها .

فبعضهم يقول : لا دم على المتمتع ; لأنه قضى ما فات ، وهو مذهب الشافعي . وقيل : عليه دم مع القضاء ; لأجل التأخير ، وجزم به الخرقي وهو مروي عن أحمد . وقال القاضي : إن أخره لعذر ، فليس عليه إلا القضاء ، ولا دم . وعن أحمد : لا دم مع القضاء بحال .

وقيل : لا تقضى الأيام الثلاثة ، بعد خروج وقتها ، ويلزم الدم لسقوط قضائها بفوات وقتها ، ولا يجوز صوم السبعة بعد ذلك ; لأنها تابعة للثلاثة التي سقطت ، ويتعين الدم ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وآخر وقت الثلاثة عنده يوم عرفة .

واعلم أن أبا حنيفة وأحمد يقولان : إن صوم الثلاثة للعاجز عن الهدي يجوز قبل التلبس بإحرام الحج ، فمذهب أبي حنيفة أن أول وقت صومها في أشهر الحج ، بين الإحرامين ، والأفضل عنده : أن يؤخرها إلى آخر وقتها ، فيصوم السابع ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . وبعض الحنفية يروي هذا عن علي - رضي الله عنه - . وعند أحمد : يجوز صومها ، عند الإحرام بالعمرة ، وعنه : إذا حل من العمرة ، وهذه الأقوال مبنية على أن قوله : في الحج يراد به : أشهره . وقد بينا عدم ظهوره ، وعند مالك والشافعي : لا يجوز صومها إلا بعد التلبس بإحرام الحج ، وهذا أقرب لظاهر القرآن ، وهما يقولان : ينبغي تقديمها قبل يوم النحر ، والشافعي يستحب إنهاءها قبل يوم عرفة ، فإن لم يصم إلى يوم [ ص: 164 ] النحر ، أفطر يوم النحر ، وصام عند مالك أيام التشريق ، فإن لم يصمها ، حتى رجع إلى بلده وله به مال لزمه أن يبعث بالهدي ، إلى الحرم ، ولا يجزئه الصوم عنده ، وليس له أن يؤخر الصيام ; ليهدي من بلده ، وفي صوم أيام التشريق ، للمتمتع عند الشافعية : قولان . وعن أحمد : روايتان فيهما . وقد علمت أن أبا حنيفة لا يجيز صومها . وأن مالكا يجيزه ويكفي عنده في صوم السبعة الرجوع من منى .

وقد قدمنا أن التحقيق أن صومها بعد الرجوع إلى أهله لحديث ابن عمر الثابت في الصحيح . فما يروى عن مالك وأبي حنيفة ، والشافعي ، وغيرهم مما يخالف ذلك من الروايات لا ينبغي التعويل عليه ، لمخالفته الحديث الصحيح . ولفظه : " فمن لم يجد هديا فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " الحديث ، هذا لفظ مسلم في صحيحه ، ولفظ البخاري : " فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله " ، فلفظة : " إذا رجع إلى أهله " في الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو تفسير منه لقوله تعالى : وسبعة إذا رجعتم [ 2 \ 196 ] ، وإذا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين ، من حديث ابن عمر : تفسير الرجوع في الآية برجوعه إلى أهله ، فلا وجه للعدول عنه .

وفي صحيح البخاري ، من حديث ابن عباس بلفظ : " وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم " ، وكل ذلك يدل على أن صوم السبعة بعد رجوعه إلى أهله ، لا في رجوعه إلى مكة ، ولا في طريقه كما هو ظاهر النصوص التي ذكرنا ، بل صريحها ، والعدول عن النص بلا دليل يجب الرجوع إليه لا يجوز ، والعلم عند الله تعالى .

والأظهر عندي : أنه إن صام السبعة قبل يوم النحر ، لا يجزئه ذلك ، فما قال اللخمي من المالكية : من أنه يرى إجزاءها لا وجه له . والله أعلم .

بل لو قال قائل : بمقتضى النصوص ، وقال لا تجزئ قبل رجوعه إلى أهله ، لكان له وجه من النظر واضح ; لأن من قدمها قبل الرجوع إلى أهله ، فقد خالف لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ، الثابت في الصحيحين عن ابن عمر وهو لفظ منه - صلى الله عليه وسلم - ، في معرض تفسير آية : وسبعة إذا رجعتم والعدول عن لفظه الصريح ، المبين لمعنى القرآن . لو قيل : بأنه لا يجزئ فاعله ، لكان له وجه ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن العاجز عن الهدي في حجه ينتقل إلى الصوم ولو غنيا في بلده ، هذا هو الظاهر ، وإن عجز وابتدأ صوم الثلاثة ثم وجد الهدي ، بعد أن صام يوما منها أو يومين ، [ ص: 165 ] فالأظهر عندي فيه : أنه لا يلزمه الرجوع إلى الحج ; لأنه دخل في الصوم بوجه جائز وأنه ينبغي له أن ينتقل إلى الهدي ، واستحباب الانتقال إلى الهدي هو مذهب مالك ، ومن وافقه . وممن وافقه الحسن ، وقتادة والشافعي وأحمد . وعن ابن أبي نجيح ، وحماد ، والثوري ، والمزني : إن وجد الهدي ، قبل أن يكمل صوم الثلاثة ، فعليه الهدي . وقيل : متى قدر على الهدي قبل يوم النحر انتقل إليه صام أو لم يصم ، والأظهر ما قدمنا والله أعلم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي : أنه إن فاته صوم الثلاثة في وقتها ، إلى ما بعد أيام التشريق أنه يجري على القاعدة الأصولية التي هي : هل يستلزم الأمر المؤقت القضاء ، إذا فات وقته ، أو لا يستلزمه ؟ وقد قدمنا الكلام على تلك المسألة مستوفى في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة الآية [ 19 \ 59 ] .

فعلى القول : بأن الأمر يستلزم القضاء فلا إشكال في قضاء الثلاثة بعد وقتها ، وعلى القول : بأنه لا يستلزم القضاء يحتمل أن يقال : بوجوب القضاء لعموم حديث : " فدين الله أحق أن يقضى " ، ويحتمل أن يقال بعدمه ، بناء على أن صوم الثلاثة في الحج ، ليكون ذلك مسوغا لقضاء التفث ; لأن الدم مسوغ لقضاء التفث ، ممن عنده هدي فلا يبعد أن يكون بعض الصوم قدم لينوب عن الدم في تسويغ قضاء التفث . وعلى هذا الاحتمال : لا يظهر القضاء ، ولا يبعد لزوم الدم للإخلال بالصوم في وقته ، والعلم عند الله تعالى .

أما لزوم صوم السبعة بعد الرجوع إلى أهله ، فالذي يظهر لي : لزومه لمن لم يجد الهدي مطلقا : وأنه لا يسقط بحال ; لأن وجوبه ثابت بالقرآن فلا يمكن إسقاطه ، إلا بدليل واضح ، يجب الرجوع إليه . فجعل الدم بدلا منه إن فات صوم الثلاثة في وقتها ، ليس عليه دليل يوجب ترك العمل بصريح القرآن في قوله : وسبعة إذا رجعتم .
تنبيه

إذا أخر الحاج طواف الإفاضة ، عن أيام التشريق إلى آخر ذي الحجة مثلا ، فهل يجزئه حينئذ صوم الأيام الثلاثة لأنه لم يزل في الحج ، لبقاء ركن منه ، ولأنه لا يجوز له الرفث إلى النساء ; لأنه لم يزل في الحج ، أو لا يجوز له صومها نظرا إلى أن وقت الطواف ، الذي بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : " لتأخذوا عني مناسككم " قد فات ؟ وهذا التأخير مخالف [ ص: 166 ] للسنة ، فلا عبرة به ، وهذا أظهر عندي . والله تعالى أعلم .

وبنحوه جزم النووي في " شرح المهذب " ، قائلا : إن تأخير الطواف بعيد فلا يحمل عليه قوله تعالى : ( في الحج ) وذكر عن بعض الشافعية وجها آخر غير هذا . وإن مات المتمتع العاجز ، عن الصوم قبل أن يصوم ، فقال بعض أهل العلم : يتصدق عما أمكنه صومه ، عن كل يوم بمد من حنطة ، وهو مروي عن الشافعي . وقيل : يهدي عنه . وقيل : لا هدي عنه ، ولا إطعام . والله تعالى أعلم .

واختلف أهل العلم : إن وجب عليه الصوم فلم يشرع فيه ، حتى قدر على الهدي هل ينتقل إلى الهدي ؟ ; لأن الصوم إنما لزم للعجز عن الهدي ، وقد زال بوجوده ، وهذا إن وقع قبل يوم النحر ، لا ينبغي أن يختلف فيه . أما إن وجد الهدي ، بعد فوات وقت الأيام الثلاثة ، فهو محل القولين ، وهما روايتان ، عن أحمد ، وقد قدمنا كلام أهل العلم في ذلك ، ولا نص فيه .

والأظهر أن صوم السبعة الذي لم يعين له وقت لا ينبغي العدول عنه ، إلى غيره ، كما تقدم خلافا لمن قال بغير ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

هذا هو حاصل ما يتعلق بالدماء الواجبة ، بغير النذر مع كونها منصوصا عليها في القرآن .

أما الدماء التي لم يذكر حكمها في القرآن ، وقد قاسها العلماء على المذكورة في القرآن ، فمنها : دم الفوات . فقد روى مالك في " الموطأ " ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : أنه أمر أبا أيوب الأنصاري ، وهبار بن الأسود حين فاتهما الحج ، وأتيا يوم النحر : أن يحلا بعمرة ، ثم يرجعا حلالا ثم يحجان عاما قابلا ، ويهديان ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع إلى أهله . انتهى محل الغرض منه .

فقد قاس عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : دم الفوات على دم التمتع حيث قال : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وقول عمر " ثلاثة أيام في الحج " ، لا يظهر في الفوات ; لأن الفوات لا يتحقق إلا بانتهاء ليلة النحر ، اللهم إلا إن كان عاقه عائق ، وهو بعيد ، بحيث لو سار ثلاثة أيام لم يدرك عرفة ليلة النحر ، فحينئذ قد يصومها وكأنه في الحج ; لأنه لم يحصل له الفوات فعلا ، وإن كان الفوات محققا وقوعه في المستقبل ، ووجه قياس : دم الفوات على دم التمتع ، حتى صار بدله من الصوم كبدله .

[ ص: 167 ] ذكره ابن قدامة في " المغني " قائلا : إن هدي التمتع ، إنما وجب للترفه بترك أحد السفرين وقضائه النسكين في سفر واحد ، فيقاس عليه دم من فاته الحج بجامع أنه ترك بعض ما اقتضاه إحرامه ، فصار كالتارك لأحد السفرين انتهى محل الغرض منه . ولا يظهر عندي كل الظهور .

ثم قال في " المغني " : فإن قيل : فهلا ألحقتموه بهدي الإحصار فإنه أشبه به ، إذ هو حلال من إحرامه قبل إتمامه . قلنا : الهدي فيهما سواء . وأما البدل ، فإن الإحصار ليس بمنصوص على البدل فيه ، وإنما ثبت قياسا ، فقياس هذا على الأصل المنصوص عليه أولى من قياسه على فرعه ، على أن الصيام هاهنا مثل الصيام عن دم الإحصار ، وهو عشرة أيام أيضا ، إلا أن صيام الإحصار : يجب أن يكون قبل حله ، وهذا يجوز فعله قبل حله وبعده ، وهو أيضا مفارق لصوم المتعة ; لأن الثلاثة في المتعة : يستحب أن يكون آخرها يوم عرفة ، وهذا يكون بعد فوات عرفة . والخرقي إنما جعل الصوم عن هدي الفوات مثل الصوم عن جزاء الصيد عن كل مد يوما . والمروي عن عمر وابنه مثل ما ذكرنا ، ويقاس عليه أيضا : كل دم وجب لترك واجب ، كدم القران وترك الإحرام من الميقات والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس ، والمبيت بمزدلفة ، والرمي ، والمبيت ليالي منى بها ، وطواف الوداع . فالواجب فيه : ما استيسر من الهدي ، فإن لم يجد فصيام عشرة أيام ، وأما من أفسد حجه بالجماع ، فالواجب فيه بدنة بقول الصحابة المنتشر الذي لم يظهر خلافه ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج ، وسبعة إذا رجع ، كصيام المتعة . كذا قال عبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمرو رواه عنهم الأثرم ، ولم يظهر في الصحابة خلافهم ، فيكون إجماعا ، فيكون بدله مقيسا على بدل دم المتعة .

وقال أصحابنا : يقوم البدنة بدراهم ، ثم يشتري بها طعاما ، فيطعم كل مسكين مدا أو يصوم عن كل مد يوما ، فتكون ملحقة بالبدنة الواجبة في جزاء الصيد .

ويقاس على فدية الأذى ما وجب بفعل محظور ، يترفه به كتقليم الأظافر ، واللبس ، والطيب وكل استمتاع من النساء : كالوطء في العمرة ، أو في الحج بعد رمي جمرة العقبة ، فإنه في معنى فدية الأذى من الوجه الذي ذكرنا ، فيقاس عليه ، ويلحق به ، فقد قال ابن عباس : لامرأة وقع عليها زوجها قبل أن تقصر : عليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك . انتهى بطوله من " المغني " .

وهذه الأمور المذكورة لا نص فيها ، من كتاب ولا سنة .

[ ص: 168 ] وقد قدمنا في سورة " البقرة " ، أقوال أهل العلم في المحصر إن عجز عن الهدي هل يلزمه بدله ، أو لا يلزمه شيء بدلا عنه . وأقوال من قالوا : يلزمه البدل في البدل ، هل هو الصوم ، أو الإطعام بما أغنى عن إعادته هنا .

وقد علمت من كلام صاحب " المغني " أن المشهور في مذهب أحمد : هو قياس دم الفوات على دم التمتع ، كما فعل عمر - رضي الله عنه - ، وأن الخرقي من الحنابلة قاسه على دم جزاء الصيد فجعل الصوم عن دم الفوات ، كالصوم عن جزاء الصيد ، وأن مذهب أحمد أيضا ، قياس كل دم وجب لترك واجب على دم التمتع . فيصوم عند العجز عنه عشرة أيام ، وذلك كدم القران ، وترك الإحرام من الميقات ، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس ، والمبيت بمزدلفة والرمي والمبيت ليالي منى بها . وطواف الوداع . وكذلك قياس صوم من عجز عن البدنة في حال إفساد حجه بالجماع ، فهو عند أحمد : عشرة أيام قياسا على التمتع . وقد قدمنا نقل صاحب " المغني " لذلك عن بعض الصحابة وعدم مخالفة غيرهم لهم .

وعن بعض الحنابلة : تقويم بدنة المجامع العاجز بالدراهم ، فيشتري بها طعاما إلى آخر ما تقدم . وأن مذهب أحمد : قياس كل دم وجب بفعل محظور ، كاللبس ، والطيب ، وتقليم الأظافر ، ونحو ذلك على فدية الأذى .

وقد قدمنا أن قياس تلك الأشياء على فدية الأذى : مجمع عليه من الأئمة الأربعة ، إلا أن أبا حنيفة . يخصصه بما فعل للعذر ، ويوجب الدم دون غيره ، فيما فعل من ذلك لا لعذر ، كما تقدم إيضاحه .

وأما مذهب الشافعي في دم الفوات ، ففيه طريقان أصحهما : قياسه على دم التمتع ، في الترتيب ، والتقدير ، وسائر الأحكام .

والطريق الثاني : على قولين أحدهما : أنه كدم التمتع أيضا . والثاني : أنه كدم الجماع في الأحكام ، إلا أن هذا شاة ، والجماع بدنة لاشتراك الصورتين في وجوب القضاء ، وقد قدمنا حكم المجامع العاجز عن البدنة في مذهب الشافعي ماذا يلزمه ، ومذهب الشافعي في الدم الواجب بسبب ترك بعض المأمورات كالإحرام من الميقات ، والرمي والوقوف بعرفة إلى الغروب ، والمبيت بمزدلفة ليلة النحر ، وبمنى ليالي منى ، وطواف الوداع هو أن في ذلك أربعة أوجه ، أصحها : أنه كدم التمتع أيضا في الترتيب ، [ ص: 169 ] والتقدير ، فإن عجز عن الهدي ، صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع .

الوجه الثاني : أنه إن عجز عن الهدي قوم شاة الهدي دراهم ، واشترى بها طعاما وتصدق به ، فإن عجز صام عن كل مد يوما ، والوجهان الآخران عند الشافعية تركناهما لضعفهما وشذوذهما ، كما قاله علماء الشافعية . ومذهب الشافعي في الدم اللازم . بسبب الاستمتاع : كالطيب واللباس ، ومقدمات الجماع أن فيه عندهم أربعة أوجه ، وقد قدمناها .

وقدمنا أن أصحها أنه كفدية الأذى المنصوصة في آية الفدية . ودم الجماع فيه عند الشافعية طرق واختلاف منتشر ، والمذهب المشهور عندهم : أنه بدنة ، فإن عجز عنها فبقرة ، فإن عجز فسبع شياه ، فإن عجز قوم البدنة بدراهم ، والدراهم بطعام ثم تصدق به ، فإن عجز صام عن كل مد يوما . وقيل : إن عجز عن الغنم قوم البدنة وصام ، فإن عجز أطعم ، فيقدم الصيام على الإطعام ككفارة الظهار ونحوها . وقيل : لا مدخل للإطعام والصيام ، بل إذا عجز عن الغنم ثبت الفداء في ذمته . وقيل : إنه يتخير بين البدنة ، والبقرة ، والغنم ، فإن عجز عنها ، فالإطعام ثم الصوم . وقيل : يتخير بين البدنة ، والبقرة ، والشياه ، والإطعام ، والصيام ، وكل هذه الأقوال لا دليل على شيء منها من كتاب ولا سنة ولا قياس جلي .

وقول الظاهرية : إن كل ما لم يثبت من هذه المذكورات من صيام ودم لا يجب ; لأن كل ما سكت عنه الوحي فهو عفو له وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .

وقد قدمنا أن مذهب مالك هو قياس الطيب واللبس ونحو ذلك على فدية الأذى كغيره من الأئمة .

وأما دم الفوات والفساد ، وترك الرمي وتعدي الميقات ، وترك المبيت بمزدلفة ، فكل ذلك يقيس بدله على بدل التمتع ، فإن عجز عن الهدي صام عشرة أيام ، وإنما يصوم الثلاثة في الحج عندهم المتمتع ، والقارن ومتعدي الميقات ، ومفسد الحج ومن فاته الحج .

وأما من لزمه ذلك لترك جمرة أو النزول بمزدلفة ، فيصوم متى شاء ; لأنه يقضي في غير حج ، فيصوم في غير حج . اهـ من المواق .

وقد قدمنا في مسائل الحج التي ذكرناها في الكلام على آية الحج : بعض المسائل التي يتعدد فيها الدم ، وبعض المسائل التي لا يتعدد فيها في مواضع متفرقة ، مع عدم النص في ذلك من كتاب أو سنة .

[ ص: 170 ] والأظهر عندي أن الدماء إن اختلفت أسبابها كمن جاوز الميقات غير محرم ، ودفع من عرفة قبل غروب الشمس عند من يقول حجه صحيح ، وعليه دم ، وترك المبيت بمزدلفة وترك المبيت بمنى أيام منى ، أنه تتعدد عليه الدماء ، بتعدد أسبابها مع اختلافها . أما إن كانت الأسباب المتعددة من نوع واحد ، كأن ترك رمي يوم ، ثم ترك رمي يوم آخر أو بات ليلة من ليالي منى في غير منى ثم كرر ذلك ، فللتعدد وجه وللاتحاد وجه ، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك في محله . والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن من اعتمر في أشهر الحج ، وأحل من عمرته ، وهو يريد التمتع ثم كرر العمرة في أشهر الحج : لا يلزمه إلا هدي تمتع واحد ، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك ، والعلم عند الله تعالى .

وقد قدمنا أن أقل الهدي واجبا كان للتمتع والقران ونحوهما ، أو غير واجب شاة تجزئ ضحية أو شرك في دم ، كسبع بدنة أو بقرة على التحقيق ، كما تقدم إيضاحه ، ولا عبرة بخلاف من خالف في الاشتراك فيه لثبوته بالنص الصحيح .

واعلم أن من أحرم بعمرة في أشهر الحج له أن يدخل عليها الحج ، فيكون قارنا ، وعليه دم القران ما لم يفتتح الطواف بالبيت ، وإن افتتح الطواف : ففي جواز إدخاله عليها حينئذ ، خلاف بين أهل العلم .

قال النووي : فجوزه مالك ، ومنعه عطاء ، والشافعي ، وأبو ثور .

واختلفوا أيضا في إدخال العمرة على الحج ، فيكون قارنا ، وعليه دم القران ، وقد قدمنا أن الشافعية والمالكية يقولون : إن ذلك هو الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، وأكثرهم يقول : هو لا يجوز لغيره ، بل جوازه خاص به - صلى الله عليه وسلم - كما قدمنا .

وقال النووي في " شرح المهذب " : واختلفوا في إدخال العمرة على الحج ، فقال أصحابنا : يجوز ، ويصير قارنا وعليه دم القران ، وهو قول قديم للشافعي ، ومنعه الشافعي في مصر ، ونقل منعه عن أكثر من لقيه . انتهى محل الغرض منه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 01:00 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (364)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 171 إلى صـ 178




والظاهر أن المحرم المتمتع إذا أحل من عمرته ، يستحب له ألا يحرم بالحج ، إلا يوم التروية ; لأن ذلك هو الذي فعله أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بأمره في حجة الوداع ، ومحل هذا إن كان واجدا هدي التمتع ، فإن كان عاجزا عنه ويريد أن يصوم ، استحب له تقديم الإحرام ; ليصوم الأيام الثلاثة في إحرام الحج ، وقد قدمنا أقوال من قال من أهل العلم : إنه [ ص: 171 ] ينبغي أن يكون آخرها يوم عرفة ، وقول من كره صوم يوم عرفة واستحب انتهاءها قبل يوم عرفة . والله تعالى أعلم
تنبيه

إذا فرغ المتمتع من عمرته ، وكان لم يسق هديا فإن له التحلل التام ، فله مس الطيب والاستمتاع بالنساء ، وكل شيء حرم عليه بإحرامه ، فإن كان ساق الهدي ففيه للعلماء قولان :

أحدهما أن له التحلل أيضا ; لأن الله يقول في التمتع : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ 2 \ 196 ] ، ولا يمنعه سوق الهدي من ذلك ; لأنه متمتع .

والقول الثاني : أنه لا يجوز له الإحلال حتى يبلغ الهدي محله يوم النحر ، واستدل من قال بهذا بحديث : حفصة - رضي الله عنها - الذي قدمناه أنها قالت له - صلى الله عليه وسلم - : ما شأن الناس حلوا ، ولم تحلل أنت من عمرتك ؟ فقال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي ، فلا أحل حتى أنحر " وكلا القولين قال به جماعة من الأئمة - رضي الله عنهم - .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أن له أن يحل من إحرامه ، ولكنه يؤخر ذبح هدي تمتعه ، حتى يرمي جمرة العقبة يوم النحر ، كما قدمنا إيضاحه . والاحتجاج بحديث حفصة المذكور لا ينهض كل النهوض ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قارنا ، فحديثها ليس في محل النزاع ; لأن النزاع فيمن أحرم بعمرة يريد التحلل منها . والإحرام بالحج بعد ذلك . هل يمنعه سوق الهدي من التحلل ؟ وحديث حفصة في القران ، والقران ليس محل نزاع ، وقولها : ولم تحلل أنت من عمرتك . تعني : عمرته المقرونة مع الحج ، لا عمرة مفردة بإحرام دون الحج ، كما هو معلوم ، وكما تقدم إيضاحه .

ومما يوضحه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " فدل على أنه لم يجعلها عمرة مفردة الذي هو محل النزاع ; لأن ظاهره أنها لو كانت مفردة لكان له الإحلال منها مطلقا ، ولا حجة في قوله : " لما سقت الهدي " ; لأنه ساقه لقران لا لعمرة مفردة عن الحج .

وقال النووي : فإن قيل : قد ثبت في صحيح مسلم ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحجة ، حتى قدمنا مكة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ، ومن [ ص: 172 ] أحرم بعمرة وأهدى فلا يتحلل حتى ينحر هديه ، ومن أهل بحجة فليتم حجه " .

فالجواب أن هذه الرواية مختصرة من روايتين ذكرهما مسلم قبل هذه الرواية ، وبعدها قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع ، فأهللنا بعمرة ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كان معه هدي فليهلل بالحج مع العمرة ، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا " ، فهذه الرواية مفسرة للأولى ويتعين هذا التأويل ; لأن القصة واحدة فصحت الروايات . انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ومما يؤيد ما ذكرنا عن النووي أن رواية حديث عائشة المذكورة التي قال : إنها يجب تأويلها بتفسيرها بالروايات الصحيحة الأخرى فيها ما لفظه : " ومن أهل بحجة فليتم حجه " ; لكثرة الروايات الصحيحة المتفق عليها عن جماعة من الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر كل من أحرم بحج مفردا ، ولم يسق هديا أن يفسخ حجه في عمرة ، ويحل منها الحل كله ، فعلم أن قولها : ومن أهل بحجة فليتم حجته : يجب تأويله ، وتفسيره بالروايات الأخرى الصحيحة ، كما قال النووي . وقول من قال : إن سوق الهدي في عمرته يمنعه من الإحلال منها حتى ينحر يوم النحر له وجه قوي من النظر لدخوله في ظاهر عموم قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] ، وهذا المعتمر المتمتع الذي ساق معه هدي التمتع إن حل من عمرته حلق قبل أن يبلغ هديه محله ، والعلم عند الله تعالى . ولنكتف هنا بما ذكرنا من أحكام الدماء الواجبة بغير النذر .

أما الهدي الذي ليس بواجب : وهو هدي التطوع ، وهو مستحب فيستحب لمن قصد مكة حاجا أو معتمرا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام ، وينحره ويفرقه ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى مائة بدنة وهو قارن ، ويكفي لدم القران بدنة واحدة ، بل شاة واحدة ، وبقية المائة تطوع منه - صلى الله عليه وسلم - : ويستحب أن يكون ما يهديه سمينا حسنا ; لقوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله الآية [ 22 \ 32 ] . وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - تعظيمها الاستسمان والاستحسان والاستعظام ، ويؤيده قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الآية [ 22 \ 36 ] . ومعلوم أن أقل الهدي شاة تجزئ ضحية أو سبع بدنة أو بقرة كما تقدم إيضاحه ، ولا يكون من الحيوان إلا من بهيمة الأنعام ، وقد تقدم إيضاح الأنعام ، وأنها الأزواج الثمانية المذكورة في آيات من كتاب الله وهي : الجمل ، والناقة ، والبقرة ، والثور ، والنعجة ، والكبش ، والعنز ، والتيس .

[ ص: 173 ] واعلم أن التحقيق أن الهدي والإطعام يختص بهما فقراء الحرم المكي ، وأن الصوم لا يختص به مكان دون مكان ، مع اختلاف في الطعام ، كما تقدم إيضاحه في سورة " المائدة " .

وأظهر قولي أهل العلم أنه يلزمه ذبح الهدي في الحرم ، وتفريقه في الحرم أيضا ، خلافا لمن زعم جواز الذبح في الحل ، إن كان تفريق اللحم في الحرم ، والتحقيق أن البدن يسن تقليدها ، وإشعارها فيقلدها نعلين . ومعنى إشعارها : هو جرحها في صفحة سنامها ، ويسلت الدم عنها . والجمهور على أن الإشعار في صفحة السنام اليمنى ، كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس خلافا لمالك القائل : إنه في الصفحة اليسرى .

واعلم أن التحقيق أن الإشعار المذكور سنة لثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - خلافا لأبي حنيفة القائل : بالنهي عنه ، معللا : بأنه مثلة وهي منهي عنها . وروي مثله عن النخعي ; لأن الأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار تخصص عموم النهي عن المثلة ، ولأنه لا يسلم أنه مثلة ، فهو جرح لمصلحة : كالفصد والختان ، والحجامة ، والكي ، والوسم .

واعلم أن الهدي من الغنم يسن تقليده عند عامة أهل العلم ، وخالف مالك وأصحابه الجمهور ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة : " أنه - صلى الله عليه وسلم - أهدى غنما فقلدها " وقال بعض أهل العلم : لا تقلد بالنعال لضعفها ، وإنما تقلد بنحو عرى القرب ، ولا تشعر الغنم إجماعا ، والظاهر أن مالكا لم يبلغه حديث تقليد الغنم ، ولو بلغه لعمل به ; لأنه صحيح متفق عليه ، وإشعار البقر إن كان له سنام لا نص فيه ، وقاسه جماعة من أهل العلم على إشعار الإبل . والمقصود من الإشعار والتقليد وتلطيخ الهدي بالدم ، هو أن يعلم كل من رآه أنه هدي ; لأنه قد يختلط بغيره ، فإذا أشعر وقلد تميز عن غيره ، وربما شرد فيعرف أنه هدي فيرد ، وهذه العلة موجودة في البقر ، فمقتضى القياس : إشعاره إن كان له سنام .

وقال بعض أهل العلم : الحكمة في تقليده النعلين أن المنتعل عندهم كالراكب لكون النعل تقي صاحبها الأذى من الحر والبرد والشوك ، والقذر ونحو ذلك فكأن المهدي خرج لله عن مركوبه الحيواني ، وغير الحيواني ، وظاهر صنيع البخاري أنهم قلدوا البقر في حجة الوداع ; حيث قال : باب فتل القلائد للبدن والبقر ، ثم ساق حديث حفصة المتقدم ، وفيه قال : " إني لبدت رأسي وقلدت هديي " . الحديث ، وحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت : " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهدي من المدينة ، فأفتل قلائد هديه " . . . الحديث ، فترى البخاري قال في الترجمة هذه : باب فتل القلائد للبدن والبقر .

[ ص: 174 ] وقال ابن حجر . وترجمة البخاري صحيحة ; لأنه إن كان المراد بالذي في الحديث : الإبل والبقر معا فلا كلام ، وإن كان المراد الإبل خاصة فالبقر في معناها . انتهى محل الغرض منه وهو كما قال .

والأظهر أن الصواب إن شاء الله أن البقر والإبل والغنم كلها تقلد إن كانت هديا ، وأن الغنم لا تشعر قولا واحدا ، وأن السنة الصحيحة ثابتة بإشعار الإبل ، ومقتضى القياس أن البقر كذلك إن كان له سنام . والله تعالى أعلم .

واعلم أن التحقيق أن من أهدى إلى الحرم هديا وهو مقيم في بلده ليس بحاج ولا معتمر ، لا يحرم عليه شيء بإرسال الهدي كما هو ثابت في الصحيح . وعن عائشة - رضي الله عنها - ثبوتا لا مطعن فيه ، فلا ينبغي أن يعول على ما خالفه ، والعلم عند الله تعالى ، ولذا ثبت في صحيح البخاري أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة - رضي الله عنها - أن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج ، حتى ينحر هديه ، قالت : عمرة . فقالت عائشة - رضي الله عنها - : ليس كما قال ابن عباس : فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، ثم قلدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه ، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله حتى نحر الهدي . وحديث عائشة المذكور عند البخاري أخرجه مسلم بألفاظ كثيرة معناها واحد ، إلا أن فيه أن الذي سأل عائشة ابن زياد .

والصواب : ما في البخاري من أن الذي كتب إليها يسألها هو زياد بن أبي سفيان المعروف بزياد ابن أبيه ، كما نبه عليه غير واحد ، فما في مسلم من كونه ابن زياد وهم من بعض الرواة ، وقد قدمنا مرارا أن السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه يجب تقديمها على قول كل عالم ، ولو بلغ ما بلغ من العلم والدين ، وبه تعلم أن التحقيق أن من بعث بهدي ، وأقام في بلده لا يحرم عليه شيء بإرسال هديه ، وأن ما خالف ذلك لا يلتفت إليه ، وإن زعم جماعة أنه مروي عن عمر وابنه ، وعلي ، وقيس بن سعد بن عبادة ، وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ، وعطاء ، والنخعي ، ومجاهد ; لأن السنة الصحيحة مقدمة على أقوال كل العلماء وكذلك ما قاله سعيد بن المسيب : من أنه لا يجتنب إلا الجماع ليلة جمع : وهي ليلة النحر ، لا يلتفت إليه ; للحديث الصحيح المتفق عليه المذكور آنفا ، والحديث الذي رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه ، الدال على أنه يحرم عليه ما يحرم على الحاج ضعيف ، كما ذكره الحافظ في " الفتح " ، فلا يعارض به الحديث المتفق [ ص: 175 ] عليه . وذكر ابن حجر في " الفتح " ، عن الزهري : ما يدل على أن الأمر استقر على حديث عائشة لما بينت به سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورجع الناس عن فتوى ابن عباس ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن التحقيق الذي عليه جمهور أهل العلم أن من أراد النسك لا يصير محرما بمجرد تقليد الهدي ، ولا يجب عليه بذلك شيء ، خلافا لما حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق من أنه يصير محرما بمجرد تقليد الهدي ، وخلافا لأصحاب الرأي في قولهم : إن من ساق الهدي ، وأم البيت ثم قلد وجب عليه الإحرام ; لأن إيجاب الإحرام يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه .

وقد دلت النصوص : على أنه لا يجب إلا إذا بلغ الميقات وأراد مجاوزته كما هو معلوم ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

الظاهر أن التحقيق أنه لا يشترط في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم ، فلو اشتراه من منى ونحره بها من غير أن يخرجه إلى الحل أجزأه . قال النووي في " شرح المهذب " : وهو مذهبنا ، وبه قال ابن عباس ، وأبو حنيفة وأبو ثور ، والجمهور . وقال ابن عمر وسعيد بن جبير : لا هدي إلا ما أحضر عرفات . وقال ابن قدامة في " المغني " : وليس من شرط الهدي أن يجمع فيه بين الحل والحرم ، ولا أن يقفه بعرفة لكن يستحب ذلك . وروي هذا عن ابن عباس ، وبه قال الشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وكان ابن عمر لا يرى الهدي إلا ما عرف به ، ونحوه عن سعيد بن جبير ، انتهى محل الغرض منه .

ومعلوم أن مذهب مالك : أنه لا يذبح هدي التمتع والقران بمنى ، إلا إذا وقف به بعرفة ، وإن لم يقف به بعرفة ذبحه في مكة ، ولا بد عنده في الهدي أن يجمع به بين الحل والحرم ، فإن اشتراه في الحرم لزمه إخراجه إلى الحل والرجوع به إلى الحرم وذبحه فيه ، وإنما قلنا : إن الظاهر لنا في هذه المسألة عدم اشتراط جمع الهدي ، بين الحل والحرم ; لثلاثة أمور .

الأول : أنه لم يرد نص بذلك يجب الرجوع إليه .

الثاني أن المقصود من الهدي نفع فقراء الحرم ، ولا فائدة لهم في جمعه بين الحل والحرم .

[ ص: 176 ] الثالث : أنه قول أكثر أهل العلم . وقال جماعة من أهل العلم : يستحب أن يكون الهدي معه من بلده ، فإن لم يفعل فشراؤه من الطريق أفضل من شرائه من مكة ، ثم من مكة ، ثم من عرفات ، فإن لم يسقه أصلا بل اشتراه من منى جاز ، وحصل الهدي اهـ .

وهذا هو الظاهر ، واحتج من قال : بأنه لا بد أن يجمع بين الحل والحرم ، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يهد هديا إلا جامعا بين الحل والحرم ; لأنه يساق من الحل إلى الحرم ، وأن ذلك هو ظاهر قوله تعالى : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ 2 \ 196 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن ابن عمر اشترى هديه من الطريق ، ونحو ذلك من الأدلة ، ولا شك أن سوق الهدي من الحل إلى الحرم أفضل ، ولا يقل عن درجة الاستحباب ، كما ذكرنا عن بعض أهل العلم . أما كونه لا يجزئ بدون ذلك ، فإنه يحتاج إلى دليل خاص ، ولا دليل يجب الرجوع إليه يقتضي ذلك ; لأن الذي دل عليه الشرع أن المقصود التقرب إلى الله بما رزقهم من بهيمة الأنعام في مكان معين في زمن معين ، والغرض المقصود شرعا حاصل ، ولو لم يجمع الهدي بين حل وحرم ، وجمع هديه - صلى الله عليه وسلم - بين الحل والحرم محتمل للأمر الجبلي ، فلا يتمحض لقصد التشريع ; لأن تحصيل الهدي أسهل عليه من بلده ، ولأن الإبل التي قدم بها علي من اليمن تيسر له وجودها هناك ، والله جل وعلا أعلم . فحصول الهدي في الحل يشبه الوصف الطردي ; لأنه لم يتضمن مصلحة كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

ولا خلاف بين أهل العلم في أن المهدي إن اضطر لركوب البدنة المهداة في الطريق ، أن له أن يركبها لما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة فقال : " اركبها " . قال : يا رسول الله ، إنها بدنة ، فقال : " اركبها ويلك " في الثانية أو في الثالثة " هذا لفظ مسلم . ولفظ البخاري ، فقال : " اركبها " فقال : إنها بدنة فقال : " اركبها " ، قال : إنها بدنة فقال : " اركبها ، ويلك " في الثانية أو في الثالثة " وروى مسلم نحوه عن أنس ، وجابر - رضي الله عنهما - .

واعلم أن أهل العلم اختلفوا في ركوب الهدي ، فذهب بعضهم إلى أنه يجوز للضرورة دون غيرها ، وهو مذهب الشافعي ، قال النووي : وبه قال ابن المنذر ، وهو رواية عن مالك ، وقال عروة بن الزبير ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق : له ركوبه من غير حاجة ، بحيث لا يضره . وبه قال أهل الظاهر ، وقال أبو حنيفة : لا يركبه إلا إن لم يجد منه بدا ، وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه أوجب ركوبها لمطلق الأمر ولمخالفة ما كانت [ ص: 177 ] الجاهلية عليه من إهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال دليلا عندي في ركوب الهدي واجبا أو غير واجب : هو أنه إن دعته ضرورة لذلك جاز وإلا فلا ; لأن أخص النصوص الواردة في ذلك بمحل النزاع وأصرحها فيه ما رواه مسلم في صحيحه : وحدثني محمد بن حاتم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج : أخبرني أبو الزبير قال : سمعت جابر بن عبد الله ، سئل عن ركوب الهدي ؟ فقال : سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا " . وفي رواية عنه في صحيح مسلم : " اركبها بالمعروف حتى تجد ظهرا " اهـ . فهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن ركوب الهدي إنما يجوز بالمعروف ، إذا ألجأت إليه الضرورة ، فإن زالت الضرورة بوجود ظهر يركبه غير الهدي ترك ركوب الهدي ، فهذا القيد الذي في هذا الحديث تقيد به جميع الروايات الخالية عن القيد ; لوجوب حمل المطلق على المقيد ، عند جماهير أهل العلم . ولا سيما إن اتحد الحكم والسبب كما هنا .

أما حجة من قال : بوجوب ركوب الهدي ، فهي ظاهرة السقوط ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يركب هديه كما هو معلوم . وأما حجة من أجاز الركوب مطلقا ، فهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ويلك اركبها " ، وقوله تعالى : لكم فيها منافع إلى أجل مسمى [ 22 \ 33 ] ، على أحد التفسيرين ، ولا تنهض به الحجة فيما يظهر ; لأنه محمول على كونه تدعوه الضرورة إلى ذلك ، بدليل حديث جابر عند مسلم الذي ذكرناه آنفا فهو أخص نص في محل النزاع ، فلا ينبغي العدول عنه ، والعلم عند الله تعالى ، والظاهر أن شرب ما فضل من لبنها ، عن ولدها لا بأس به ; لأنه لا ضرر فيه عليها ولا على ولدها . وقال بعض أهل العلم : إن ركبها الركوب المباح للضرورة ونقصها ذلك فعليه قيمة النقص يتصدق بها . وله وجه من النظر . والعلم عند الله تعالى .

وإنما قلنا : إن الظاهر أنه لا فرق في الحكم المذكور بين الهدي الواجب وغيره ; لأنه صلى الله عليه وسلم قال لصاحب البدنة " اركبها " ، وهي مقلدة نعلا ، وقد صرح له تصريحا مكررا بأنها بدنة ، ولم يستفصله النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هل تلك البدنة من الهدي الواجب أو غيره ، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم إيضاحه مرارا . وقد أشار إليه في [ ص: 178 ] " مراقي السعود " بقوله :



ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال

مسألة : في حكم الهدي إذا عطب في الطريق أو بعد بلوغ محله

اعلم أولا أن الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه أن من بعث معه هدي إلى الحرم فعطب في الطريق ، قبل بلوغ محله : أنه ينحره ثم يصبغ نعليه في دمه ، ويضرب بالنعل المصبوغ بالدم صفحة سنامها ; ليعلم من مر بها أنها هدي ويخلي بينها وبين الناس ، ولا يأكل منها هو ، ولا أحد من أهل رفقته المرافقين له في سفره .

وإنما قلنا : إن هذا هو الصواب الذي لا ينبغي العدول عنه ; لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح ، فقد روى مسلم في صحيحه ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما لفظه : " بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بست عشرة بدنة مع رجل وامرأة فيها ، قال : فمضى ثم رجع ، فقال : يا رسول الله ، كيف أصنع بما أبدع علي منها ؟ قال : " انحرها ، ثم اصبغ نعليها في دمها ثم اجعله على صفحتها ، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك " ، انتهى من صحيح مسلم .

وفي رواية في صحيح مسلم ، عن ابن عباس : " أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث معه بالبدن ثم يقول : " إن عطب شيء منها فخشيت عليه موتا فانحرها ، ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب بها صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك " ، انتهى منه . وقوله : كيف أصنع بما أبدع منها ؟ : هو بضم الهمزة ، وإسكان الباء ، وكسر الدال بصيغة المبني للمفعول : أي كل وأعيا حتى وقف من الإعياء ، فهذا النص الصحيح .

لا يلتفت معه إلى قول من قال : إن رفقته لهم الأكل مع جملة المساكين ; لأنه مخالف للنص الصحيح ، ولا قول لأحد مع السنة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، كما أوضحناه مرارا . والظاهر أن علة منعه ومنع رفقته : هو سد الذريعة لئلا يتوصل هو أو بعض رفقته إلى نحره ، بدعوى أنه عطب أو بالتسبب له في ذلك للطمع في أكل لحمه ; لأنه صار للفقراء ، وهم يعدون أنفسهم من الفقراء ، ولو لم يبلغ محله . والظاهر : أنه لا يجوز الأكل منه للأغنياء ، بل للفقراء والله أعلم .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 01:03 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (365)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 179 إلى صـ 186




فإن قيل : روى أصحاب السنن عن ناجية الأسلمي : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث معه [ ص: 179 ] بهدي فقال : " إن عطب فانحره ، ثم اصبغ نعله في دمه ، ثم خل بينه وبين الناس " اهـ . وظاهر قوله : " وبين الناس " ، يشمل بعمومه سائق الهدي ورفقته .

فالجواب أن حديث مسلم أصح وأخص ، والخاص يقضي على العام ; لأن حديث مسلم أخرج السائق ورفقته من عموم حديث أصحاب السنن . ومعلوم أن الخاص يقضي على العام .

واعلم أن للعلماء تفاصيل في حكم ما عطب من الهدي ، قبل نحره بمحل النحر ، سنذكر أرجحها عندنا إن شاء الله من غير استقصاء للأقوال والحجج ; لأن مسائل الحج أطلنا عليها الكلام طولا يقتضي الاختصار في بعضها خوف الإطالة المملة .

اعلم أولا أن الهدي إما واجب ، وإما تطوع ، والواجب إما بالنذر ، أو بغيره ، والواجب بالنذر ، إما معين ، أو غير معين ، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الهدي الواجب بغير النذر كهدي التمتع والقران ، والدماء الواجبة بترك واجب ، أو فعل محظور ، والواجب بالنذر في ذمته ، كأن يقول : علي لله نذر أن أهدي هديا ، أن لجميع ذلك حالتين .

الأولى : أن يكون ساق ما ذكر من الهدي ينوي به الهدي الواجب عليه ، من غير أن يعينه بالقول ، كأن يقول : هذا الهدي سقته أريد به أداء الهدي الواجب علي .

والحالة الثانية : هي أن يسوقه ينوي به الهدي المذكور مع تعيينه بالقول ، فإن نواه ، ولم يعينه بالقول ; فالظاهر : أنه لا يزال في ضمانه ولا يزول ملكه عنه إلا بذبحه ودفعه إلى مستحقيه ، ولذا إن عطب في الطريق فله التصرف فيه بما شاء من أكل وبيع ; لأنه لم يزل في ملكه ، وهو مطالب بأداء الهدي الواجب عليه بشيء آخر غير الذي عطب ; لأنه عطب في ضمانه ، فهو بمنزلة من عليه دين فحمله إلى مستحقه بقصد دفعه إليه ، فتلف قبل أن يوصله إليه : فعليه قضاء الدين بغير التالف ; لأنه تلف في ذمته وإن تعيب الهدي المذكور قبل بلوغه محله ، فعليه بدله سليما ويفعل بالذي تعيب ما شاء ; لأنه لم يزل في ملكه ، وضمانه . والذي يظهر أن له التصرف فيه ، ولو لم يعطب ، ولم يتعيب ; لأن مجرد نية إهدائه عن الهدي الواجب لا ينقل ملكه عنه ، والهدي المذكور لازم له في ذمته ، حتى يوصله إلى مستحقه . والظاهر أن له نماءه .

وأما الحالة الثانية : وهي ما إذا نواه وعينه بالقول كأن يقول : هذا هو الهدي [ ص: 180 ] الواجب علي . والظاهر أن الإشعار والتقليد كذلك . فالظاهر : أنه يتعين الوجوب فيه من غير أن تبرأ الذمة ، فليس له التصرف فيه ما دام سليما ، وإن عطب أو سرق أو ضل أو نحو ذلك لم يجزه ، وعاد الوجوب إلى ذمته . فيجب عليه هدي آخر ; لأن الذمة لا تبرأ بمجرد التعيين بالنية والقول أو فعل به ما شاء ; لأن الهدي لازم في التقليد والإشعار . والظاهر : أنه إن عطب ذمته ، وهذا الذي عطب صار كأنه شيء من ماله لا حق فيه لفقراء الحرم ; لأن حقهم باق في الذمة ، فله بيعه وأكله ، وكل ما شاء . وعلى هذا جمهور أهل العلم . وعن مالك يأكل ويطعم من شاء من الأغنياء والفقراء ، ولا يبيع منه شيئا ، وإن بلغ الهدي محله فذبحه وسرق : فلا شيء عليه عند أحمد .

قال في " المغني " : وبهذا قال الثوري ، وابن القاسم صاحب مالك ، وأصحاب الرأي . وقال الشافعي : عليه الإعادة ; لأنه لم يوصل الحق إلى مستحقه ، فأشبه ما لو لم يذبحه . ولنا أنه أدى الواجب عليه ، فبرئ منه كما لو فرقه . ودليل أنه أدى الواجب : أنه لم يبق إلا التفرقة ، وليست واجبة ، بدليل أنه لو خلى بينه ، وبين الفقراء أجزأه . ولذلك لما نحر النبي - صلى الله عليه وسلم - البدنات قال : " من شاء اقتطع " . انتهى محل الغرض من " المغني " .

وأظهر القولين عندي : أنه لا تبرأ ذمته بذبحه : حتى يوصله إلى المستحقين ; لأن المستحقين إن لم ينتفعوا به ، لا فرق عندهم بين ذبحه وبين بقائه حيا ، ولأن الله تعالى يقول : وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، ويقول : وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ، والآيتان تدلان على لزوم التفرقة والتخلية بينه وبين الفقراء يقتسمونه تفرقة ضمنية ; لأن الإذن لهم في ذلك ، وهو متيسر لهم كإعطائهم إياه بالفعل ، والعلم عند الله تعالى . وقول من قال : إن الهدي المذكور إن تعيب في الطريق فعليه نحره ، ونحر هدي آخر غير معيب لا يظهر كل الظهور ، إذ لا موجب لتعدد الواجب عليه وهو لم يجب عليه إلا واحد . وحجة من قال بذلك : أنه لما عينه متقربا به إلى الله لا يحسن انتفاعه به بعد ذلك ، ولو لم يجزئه .

وأما الواجب المعين بالنذر ، كأن يقول : نذرت لله إهداء هذا الهدي المعين ، فالظاهر أنه يتعين بالنذر ، ولا يكون في ذمته ، فإن عطب أو سرق : لم يلزمه بدله ; لأن حق الفقراء إذا تعلق بعينه ، لا بذمة المهدي . والظاهر : أنه ليس له الأكل منه ، سواء عطب في الطريق أو بلغ محله .

وحاصل ما ذكرنا : راجع إلى أن ما عطب بالطريق من الهدي إن كان متعلقا بذمته سليما فالظاهر أن له الأكل منه ، والتصرف فيه ; لأنه يلزمه بدله سليما ، وقيل : يلزم الذي عطب [ ص: 181 ] والسليم معا لفقراء الحرم ، وأن ما تعلق الوجوب فيه بعين الهدي كالنذر المعين للمساكين ، ليس له تصرف فيه ، ولا الأكل منه إذا عطب ولا بعد نحره ، إن بلغ محله على الأظهر .

واعلم أن مالكا وأصحابه يقولون : إن كل هدي جاز الأكل منه للمهدي له ، أن يطعم منه من شاء من الأغنياء والفقراء ، وكل هدي لا يجوز له الأكل منه ، فلا يجوز إطعامه إلا للفقراء الذين لا تلزمه نفقتهم ، وكره عندهم إطعام الذميين منه . وستأتي تفاصيل ما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز إن شاء الله تعالى في الكلام على آية : فكلوا منها الآية [ 22 \ 28 ] .

وأما هدي التطوع : فالظاهر أنه إن عطب في الطريق ألقيت قلائده في دمه ، وخلي بينه وبين الناس ، وإن كان له سائق مرسل معه لم يأكل منه هو ولا أحد من رفقته ، كما تقدم إيضاحه ، وليس لصاحبه الأكل منه عند مالك وأصحابه . وهو ظاهر مذهب أحمد ، وليس عليه بدله ; لأنه معين لم يتعلق بذمته . وأما مذهب الشافعي ، وأصحابه : فهو أن هدي التطوع باق على ملك صاحبه ، فله ذبحه ، وأكله ، وبيعه وسائر التصرفات فيه ولو قلده ; لأنه لم يوجد منه إلا نية ذبحه والنية لا تزيل ملكه عنه ، حتى يذبحه بمحله ، فلو عطب في الطريق فلمهديه أن يفعل به ما شاء من بيع وأكل وإطعام ; لأنه لم يزل في ملكه ولا شيء عليه في شيء من ذلك . وأما مذهب أبي حنيفة في هدي التطوع إذا عطب في الطريق قبل بلوغ محله : فهو أنه لا يجوز لمهديه الأكل منه ولا لغني من الأغنياء ، وإنما يأكله الفقراء . ووجه قول من قال : إن هدي التطوع إذا عطب في الطريق ، لا يجوز لمهديه أن يأكل منه : هو أن الإذن له في الأكل ، جاء النص به بعد بلوغه محله ، أما قبل بلوغه محله فلم يأت الإذن بأكله ، ووجه خصوص الفقراء به ; لأنه حينئذ يصير صدقة ; لأن كونه صدقة خير من أن يترك للسباع تأكله . هكذا قالوا : والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

الأظهر عندي أنه إذا عين هديا بالقول ، أو التقليد ، والإشعار ثم ضل ثم نحر هديا آخر مكانه ، ثم وجد الهدي الأول الذي كان ضالا أن عليه أن ينحره أيضا ; لأنه صار هديا للفقراء . فلا ينبغي أن يرده لملكه ، مع وجوده ، وكذلك إن عين بدلا منه ، ثم وجد الضال ، فإنه ينحرهما معا .

[ ص: 182 ] قال ابن قدامة في " المغني " : وروي ذلك عن عمر وابنه ، وابن عباس ، وفعلته عائشة - رضي الله عنهم - . وبه قال مالك ، والشافعي ، وإسحاق ، ويتخرج على قولنا فيما إذا تعيب الهدي ، فأبدله فإن له أن يصنع ما شاء أن يرجع إلى ملك أحدهما ; لأنه قد ذبح ما في الذمة ، فلم يلزمه شيء آخر ، كما لو عطب المعين وهذا قول أصحاب الرأي .

ووجه الأول : ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - : أنها أهدت هديين ، فأضلتهما ، فبعث إليها ابن الزبير هديين فنحرتهما ، ثم عاد الضالان فنحرتهما ، وقالت : هذه سنة الهدي ، رواه الدارقطني . وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنه تعلق حق الله بهما بإيجابهما ، أو ذبح أحدهما وإيجاب الآخر . انتهى محل الغرض من " المغني " . وليس في المسألة شيء مرفوع . والأحوط : ذبح الجميع كما ذكرنا أنه الأظهر ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن الهدي إن كان معينا بالنذر من الأصل ، بأن قال : نذرت إهداء هذا الهدي بعينه أو معينا تطوعا ، إذا رآه صاحبه في حالة يغلب على الظن أنه سيموت ، فإنه تلزمه ذكاته ، وإن فرط فيها حتى مات كان عليه ضمانه ; لأنه كالوديعة عنده .

أما لو مات بغير تفريطه ، أو ضل أو سرق ، فليس عليه بدل عنه كما أوضحناه ; لأنه لم يتعلق الحق بذمته بل بعين الهدي .

والأظهر عندي : إن لزمه بدله بتفريطه أنه يشتري هديا مثله ، وينحره بالحرم بدلا عن الذي فرط فيه ، وإن قيل : بأنه يلزمه التصدق بقيمته على مساكين الحرم ، فله وجه من النظر . والله أعلم .

ولا نص في ذلك ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الهدي ، وسيأتي إن شاء الله تفصيل ما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز من الهدايا .
تنبيه

قد قدمنا في سورة " البقرة " أن القرآن دل في موضعين على أن نحر الهدي قبل الحلق ، والتقصير يوم النحر ، وبينا أنه لو قدم الحلق على النحر لا شيء عليه ، وأوضحنا ذلك في الكلام على قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي .

والحاصل أن الحاج مفردا كان أو قارنا أو متمتعا إن رمى جمرة العقبة ونحر ما معه من الهدي : فعليه الحلق أو التقصير ، وقد قدمنا أن التحقيق أن الحلق نسك وأنه [ ص: 183 ] أفضل من التقصير ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " رحم الله المحلقين " ، قالوا : يا رسول الله ، والمقصرين ؟ قال : " رحم الله المحلقين " ، قالوا : والمقصرين ؟ فقال : " والمقصرين " في الرابعة ، أو الثالثة كما تقدم إيضاحه . فدل دعاؤه للمحلقين بالرحمة مرارا : على أن الحلق نسك ; لأنه لو لم يكن قربة لله تعالى لما استحق فاعله دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالرحمة ، ودل تأخير الدعاء للمقصرين إلى الثالثة أو الرابعة أن التقصير مفضول ، وأن الحلق أفضل منه ، والتقصير مع كونه مفضولا : يجزئ بدلالة الكتاب ، والسنة والإجماع ; لأن الله تعالى يقول : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين [ 48 \ 27 ] ، وقد روى الشيخان ، وغيرهما : التقصير عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - .

فمن ذلك حديث جابر : أنه حج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أهلوا بالحج مفردا ، فقال لهم : " أحلوا من إحرامكم بطواف البيت ، وبين الصفا والمروة ، وقصروا " . وفي الصحيحين ، عن ابن عمر ، قال : " حلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم " ، وقد قدمنا حديث معاوية الثابت في الصحيحين ، قال : قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص على المروة وحديث : " رحم الله المحلقين " ، ثم قال بعد ذلك : " والمقصرين " إلى غير ذلك من الأحاديث .

وقد أجمع جميع علماء الأمة على أن التقصير مجزئ ، ولكنهم اختلفوا في القدر الذي يكفي في الحلق والتقصير ، فقال الشافعي وأصحابه : يكفي فيهما حلق ثلاث شعرات فصاعدا أو تقصيرها ; لأن ذلك يصدق عليه أنه حلق أو تقصير ; لأن الثلاث جمع .

وقال أبو حنيفة : يكفي حلق ربع الرأس ، أو تقصير ربعه بقدر الأنملة .

وقال مالك ، وأحمد وأصحابهما : يجب حلق جميع الرأس ، أو تقصير جميعه ، ولا يلزمه في التقصير تتبع كل شعرة ، بل يكفيه أن يأخذ من جميع جوانب الرأس ، وبعضهم يقول : يكفيه قدر الأنملة ، والمالكية يقولون : يقصره إلى القرب من أصول الشعر .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي : أنه يلزم حلق جميع الرأس ، أو تقصير جميعه ، ولا يلزم تتبع كل شعرة في التقصير ; لأن فيه مشقة كبيرة ، بل يكفي تقصير جميع جوانب الرأس مجموعة أو مفرقة ، وأنه لا يكفي الربع ، ولا ثلاث شعرات خلافا للحنفية والشافعية ; لأن الله تعالى يقول : محلقين رءوسكم ، ولم يقل : [ ص: 184 ] بعض رءوسكم ومقصرين أي : رءوسكم لدلالة ما ذكر قبله عليه ، وظاهره حلق الجميع أو تقصيره ، ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " . فمن حلق الجميع أو قصره ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، ومن اقتصر على ثلاث شعرات أو على ربع الرأس ، لم يدع ما يريبه ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه من كتاب ولا سنة على الاكتفاء بواحد منهما ، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حلق في حجة الوداع ، حلق جميع رأسه وأعطى شعر رأسه لأبي طلحة ليفرقه على الناس . وفعله في الحلق بيان للنصوص الدالة على الحلق كقوله : محلقين رءوسكم الآية ، وقوله : ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله .

وقد قدمنا أن فعله - صلى الله عليه وسلم - : إذا كان بيانا لنص مجمل يقتضي وجوب حكم أن ذلك الفعل المبين لذلك النص واجب . ولا خلاف في ذلك بين من يعتد به من أهل الأصول .
تنبيه آخر

اعلم أن محل كون الحلق أفضل من التقصير ، إنما هو بالنسبة إلى الرجال خاصة . أما النساء : فليس عليهن حلق وإنما عليهن التقصير .

والصواب عندنا : وجوب تقصير المرأة جميع رأسها ويكفيها قدر الأنملة ; لأنه يصدق عليه أنه تقصير من غير منافاة لظواهر النصوص ، ولأن شعر المرأة من جمالها ، وحلقه مثلة وتقصيره جدا إلى قرب أصول الشعر نقص في جمالها ، وقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن النساء لا حلق عليهن ، وإنما عليهن التقصير .

قال أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن الحسن العتكي ، ثنا محمد بن بكر ، ثنا ابن جريج ، قال : بلغني عن صفية بنت شيبة بن عثمان ، قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير " .

حدثنا أبو يعقوب البغدادي ثقة ، ثنا هشام بن يوسف ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة عن صفية بنت شيبة ، قالت : أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على النساء حلق ، إنما على النساء التقصير " انتهى منه .

وقال النووي في " شرح المهذب " ، في حديث ابن عباس هذا : رواه أبو داود بإسناد [ ص: 185 ] حسن . وقال صاحب " نصب الراية " في حديث ابن عباس المذكور : قال ابن القطان في كتابه : هذا ضعيف ومنقطع .

أما الأول : فانقطاعه من جهة ابن جريج ، قال : بلغني عن صفية ، فلم يعلم من حدثه به .

وأما الثاني : فقول أبي داود : حدثنا رجل ثقة ، يكنى أبا يعقوب ، وهذا غير كاف . وإن قيل : إنه أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل ، فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه . وأما ضعفه : فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها . انتهى محل الغرض من " نصب الراية " للزيلعي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : حديث ابن عباس المذكور : في أن على النساء التقصير لا الحلق ، أقل درجاته الحسن . فقول النووي : إنه حديث رواه أبو داود بإسناد حسن أصوب مما نقله الزيلعي عن ابن القطان في كتابه ، وسكت عليه من أن الحديث المذكور ضعيف ومنقطع ، فقول ابن القطان : وأما ضعفه فإن أم عثمان بنت أبي سفيان لا يعرف حالها فيه قصور ظاهر جدا ; لأن أم عثمان المذكورة من الصحابيات المبايعات ، وقد روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس فدعوى أنها لا يعرف حالها ظاهرة السقوط كما ترى . وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : أم عثمان بنت سفيان القرشية الشيبية العبدرية ، أم بني شيبة الأكابر ، كانت من المبايعات . روت عنها صفية بنت شيبة ، وروى عبد الله بن مسافع عن أمه عنها . انتهى منه .

وقال ابن حجر في " الإصابة " : أم عثمان بنت سفيان ، والدة بني شيبة الأكابر ، وكانت من المبايعات . قاله أبو عمر إلى آخر كلامه ، وقد أورد فيه حديثا روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، في السعي بين الصفا والمروة ، وقد قدمناه .

وقال ابن حجر في " الإصابة " ، عن أبي نعيم : حديثا أخرجه ، وفيه أن أم عثمان بنت سفيان هي أم بني شيبة الأكابر ، وقد بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ .

وقال ابن حجر في " تهذيب التهذيب " : أم عثمان بنت سفيان . ويقال : بنت أبي سفيان : هي أم ولد شيبة بن عثمان . روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس . وروت عنها صفية بنت شيبة اهـ .

ومعلوم أن الصحابة كلهم عدول بتزكية الكتاب والسنة لهم ، كما أوضحناه في غير [ ص: 186 ] هذا الموضع ، فتبين أن قول ابن القطان : إن الحديث ضعيف ; لأنها لم يعلم حالها قصور منه - رحمه الله - كما ترى . وأما قوله : إن توثيق أبي داود لأبي يعقوب غير كاف ، وأن أبا يعقوب المذكور ، إن قيل : إنه إسحاق بن إبراهيم أبي إسرائيل فذاك رجل تركه الناس لسوء رأيه .

فجوابه أن أبا يعقوب المذكور هو إسحاق بن إبراهيم واسم إبراهيم أبو إسرائيل ، وقد وثقه أبو داود وأثنى عليه غير واحد من أجلاء العلماء بالرجال . وقال فيه الذهبي في " الميزان " : حافظ شهير . قال : ووثقه يحيى بن معين ، والدارقطني : وقال صالح جزرة صدوق ، إلا أنه كان يقف في القرآن ، ولا يقول : غير مخلوق ، بل يقول : كلام الله . وقال فيه أيضا : قال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا لم يكن مثله أحد في الحفظ والورع واتهم بالوقف . وقال فيه ابن حجر في " تهذيب التهذيب " ، قال ابن معين : ثقة . وقال أيضا : من ثقات المسلمين ، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس ، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه . وقال أيضا : ثقة مأمون أثبت من القواريري وأكيس ، والقواريري ثقة صدوق ، وليس هو مثل إسحاق ، وذكر غير هذا من ثناء ابن معين عليه ، وتفضيله على بعض الثقات المعروفين ، ثم قال : وقال الدارقطني : ثقة . وقال البغوي : كان ثقة مأمونا ، إلا أنه كان قليل العقل ، وثناء أئمة الرجال عليه في الحفظ ، والعدالة كثير مشهور وإنما نقموا عليه أنه كان يقول : القرآن كلام الله ، ويسكت عندها ولا يقول : غير مخلوق ، ومن هنا جعلوه واقفيا ، وتكلموا في حديثه ، كما قال فيه صالح جزرة : صدوق في الحديث إلا أنه يقول : القرآن كلام الله ويقف .

وقال الساجي : تركوه لموضع الوقف ، وكان صدوقا . وقال أحمد : إسحاق بن أبي إسرائيل واقفي مشئوم ، إلا أنه كان صاحب حديث كيسا .

وقال السراج : سمعته يقول : هؤلاء الصبيان يقولون : كلام الله غير مخلوق ، ألا قالوا كلام الله وسكتوا . وقال عثمان بن سعيد الدارمي : سألت يحيى بن معين فقال : ثقة . قال عثمان : لم يكن أظهر الوقف حين سألت يحيى عنه ويوم كتبنا عنه كان مستورا ، وقال عبدوس النيسابوري : كان حافظا جدا ، ولم يكن مثله في الحفظ والورع ، وكان لقي المشايخ فقيل : كان يتهم بالوقف قال : نعم اتهم وليس بمتهم . وقال مصعب الزبيري : ناظرته فقال : لم أقل على الشك ، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 01:06 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (366)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 187 إلى صـ 194




والحاصل : أنهم متفقون على ثقته ، وأمانته بالنسبة إلى الحديث ، إلا أنهم كانوا [ ص: 187 ] يتهمونه بالوقف ، وقد رأيت قول من نفى عنه التهمة ، وقول من ناظره أنه قال له : لم أقل على الشك . ولكني سكت كما سكت القوم قبلي ، ومعنى كلامه : أنه لا يشك في أن القرآن غير مخلوق ، ولكنه يقتدي بمن لم يخض في ذلك ، ولما حكى الذهبي في الميزان قول الساجي : إنهم تركوا الأخذ عنه لمكان الوقف ، قال بعده ما نصه : قلت : قل من ترك الأخذ عنه اهـ ، وهو تصريح منه

بأن الأكثرين على قبوله ، فحديثه لا يقل عن درجة الحسن ، وروايته عند أبي داود الذي وثقه تعتضد بالرواية المذكورة قبلها ، وقول ابن جريج فيها : " بلغني عن صفية بنت شيبة " تفسره الرواية الثانية التي بين فيها ابن جريج أن من بلغه عن صفية المذكورة : هو عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، وهو ثقة معروف .

فإن قيل : ابن جريج روى عنه بالعنعنة ، وهو مدلس ، والرواية بالعنعنة لا تقبل من المدلس بل لا بد من تصريحه ، بما يدل على السماع .

والجواب : أنا قدمنا أن مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد هو الاحتجاج بالمرسل ، ومن يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى كما نبه عليه غير واحد من الأصوليين .

وقد قدمنا موضحا مرارا في هذا الكتاب المبارك مع اعتضاد هذه الرواية بالأخرى واعتضادها بغيرها .

قال الزيلعي في " نصب الراية " : بعد ذكره كلام ابن القطان في تضعيف حديث ابن عباس المذكور في تقصير النساء ، وعدم حلقهن الذي ناقشنا تضعيفه له كما رأيت ما نصه : وأخرجه الدارقطني في سننه والطبراني في معجمه ، عن أبي بكر بن عياش ، عن يعقوب بن عطاء ، عن صفية بنت شيبة به ، وأخرجه الدارقطني أيضا ، والبزار في مسنده ، عن حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير ، عن صفية به . وقال البزار : لا نعلمه يروى عن ابن عباس ، إلا من هذا الوجه انتهى ، وأخرجه الدارقطني في سننه ، عن ليث ، عن نافع ، عن ابن عمر قال في المحرمة : تأخذ من شعرها قدر السبابة . انتهى ، وليث هذا الظاهر أنه ابن أبي سليم ، وهو ضعيف . انتهى من " نصب الراية " .

فتبين من جميع ما ذكر أن حديث ابن عباس في أن على النساء المحرمات إذا أردن قضاء التفث التقصير ، لا الحلق أنه لا يقل عن درجة الحسن ، كما جزم النووي بأن إسناده عند أبي داود حسن ، وقد رأيت اعتضاده بما ذكرنا من الروايات المتابعة له بواسطة نقل [ ص: 188 ] الزيلعي ، عند الطبراني ، والدارقطني ، والبزار ويعتضد عدم حلق النساء رءوسهن بخمسة أمور غير ما ذكرنا .

الأول : الإجماع على عدم حلقهن في الحج ، ولو كان الحلق يجوز لهن لشرع في الحج .

الثاني : أحاديث جاءت بنهي النساء عن الحلق .

الثالث : أنه ليس من عملنا ، ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد .

الرابع : أنه تشبه بالرجال ، وهو حرام .

الخامس : أنه مثلة والمثلة لا تجوز .

أما الإجماع ، فقد قال النووي في " شرح المهذب " ، قال ابن المنذر : أجمعوا على ألا حلق على النساء ، وإنما عليهن التقصير ، ويكره لهن الحلق ; لأنه بدعة في حقهن ، وفيه مثلة .

واختلفوا في قدر ما تقصره ، فقال ابن عمر ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : تقصر من كل قرن مثل الأنملة ، وقال قتادة : تقصر الثلث أو الربع ، وقالت حفصة بنت سيرين : إن كانت عجوزا من القواعد أخذت نحو الربع ، وإن كانت شابة فلتقلل ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ، ولا يجوز من بعض القرون . انتهى محل الغرض منه ، وتراه نقل عن ابن المنذر الإجماع على أن النساء : لا حلق عليهن في الحج ، ولو كان الحلق يجوز لهن لأمرن به في الحج ; لأن الحلق نسك على التحقيق ، كما تقدم إيضاحه .

وأما الأحاديث الواردة في ذلك فسأنقلها بواسطة نقل الزيلعي ، في " نصب الراية " ; لأنه جمعها فيه في محل واحد قال : فنهي النساء عن الحلق فيه أحاديث .

منها : ما رواه الترمذي في الحج ، والنسائي في الزينة ، قالا : حدثنا محمد بن موسى الحرشي ، عن أبي داود الطيالسي ، عن همام ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن تحلق المرأة رأسها " ، انتهى . ثم رواه الترمذي ، عن محمد بن بشار ، عن أبي داود الطيالسي به ، عن خلاس عن النبي مرسلا ، وقال : هذا حديث فيه اضطراب ، وقد روي عن حماد بن سلمة عن قتادة ، عن عائشة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا انتهى ، وقال عبد الحق في أحكامه : هذا حديث يرويه همام عن يحيى ، عن قتادة ، عن خلاس بن عمرو ، عن علي ، وخالفه هشام الدستوائي ، وحماد بن سلمة فروياه عن قتادة ، عن النبي مرسلا .

[ ص: 189 ] حديث آخر أخرجه البزار في مسنده عن معلى بن عبد الرحمن الواسطي : ثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تحلق المرأة رأسها " ، انتهى . قال البزار : ومعلى بن عبد الرحمن الواسطي روى عن عبد الحميد أحاديث ، لم يتابع عليها ، ولا نعلم أحدا تابعه على هذا الحديث . انتهى ، ورواه ابن عدي في الكامل ، وقال : أرجو أنه لا بأس به ، قال عبد الحق : وضعفه أبو حاتم وقال : إنه متروك الحديث انتهى . وقال ابن حبان في كتاب " الضعفاء " : يروي عن عبد الحميد بن جعفر المقلوبات ، لا يجوز الاحتجاج به ، إذا تفرد حديث آخر ، رواه البزار في مسنده أيضا .

حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي ، ثنا روح بن عطاء بن أبي ميمونة ، ثنا أبي ، عن وهب بن عمير قال : سمعت عثمان يقول : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تحلق المرأة رأسها " انتهى . قال البزار : ووهب بن عمير لا نعلمه روى غير هذا الحديث ، ولا نعلم روى عنه إلا عطاء بن أبي ميمونة ، وروح ليس بالقوي . انتهى كلام الزيلعي في " نصب الراية " .

وهذه الروايات التي ذكرنا في نهي المرأة عن حلق رأسها ، عن علي ، وعثمان ، وعائشة : يعضد بعضها بعضا كما تعتضد بما تقدم ، وبما سيأتي إن شاء الله ، وأما كون حلق المرأة رأسها ليس من عمل نساء الصحابة ، فمن بعدهم ، فهو أمر معروف ، لا يكاد يخالف فيه إلا مكابر ، فالقائل : بجواز الحلق للمرأة قائل بما ليس من عمل المسلمين المعروف ، وفي الحديث الصحيح : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ، فالحديث يشمل عمومه الحلق بالنسبة للمحرمة بلا شك ، وإذا لم يبح لها حلقه في حال النسك ، فغيره من الأحوال أولى ، وأما كون حلق المرأة رأسها تشبها بالرجال ، فهو واضح ، ولا شك أن الحالقة رأسها متشبهة بالرجال ; لأن الحلق من صفاتهم الخاصة بهم دون الإناث عادة . وقد قدمنا الحديث الصحيح في لعن المتشبهات من النساء بالرجال في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وأما كون حلق رأس المرأة مثلة ، فواضح ; لأن شعر رأسها من أحسن أنواع جمالها وحلقه تقبيح لها وتشويه لخلقتها ، كما يدركه الحس السليم ، وعامة الذين يذكرون محاسن النساء في أشعارهم ، وكلامهم مطبقون على أن شعر المرأة الأسود من أحسن زينتها لا نزاع في ذلك بينهم في جميع طبقاتهم وهو في أشعارهم مستفيض استفاضة يعلمها كل من له أدنى إلمام ، وسنذكر هنا منه أمثلة قليلة تنبيها بها على غيرها قال امرؤ القيس في معلقته : [ ص: 190 ]

وفرع يزين المتن أسود فاحم أثيث كقنو النخلة المتعثكل غدائره مستشزرات إلى العلى
تضل المداري في مثنى ومرسل فتراه جعل كثرة شعر رأسها وسواده وطوله من محاسنها ، وهو كذلك . وقال الأعشى ميمون بن قيس :

غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
فقوله : فرعاء يعني أن فرعها أي شعر رأسها تام في الطول والسواد والحسن .

وقال عمر بن أبي ربيعة :

تقول يا أمتا كفي جوانبه ويلي بليت وأبلى جيدي الشعر
مثل الأساود قد أعيا مواشطه تضل فيه مداريها وتنكسر
فلو لم تكن كثرة الشعر وسواده من الجمال عندهم ، لما تعبوا في خدمته هذا التعب الذي ذكره هذا الشاعر ، ونظيره قول الآخر :



وفرع يصير الجيد وحف كأنه على الليث قنوان الكروم الدوالح


لأن قوله : يصير الجيد أي يميل العنق لكثرته ، وقد بالغ من قال : بيضاء تسحب من قيام فرعها وتغيب فيه وهو وجف أسحم فكأنها فيه نهار ساطع وكأنه ليل عليها مظلم وأمثال هذا أكثر من أن تنحصر ، وقصدنا مطلق التمثيل ، وهو يدل على أن حلق المرأة شعر رأسها نقص في جمالها ، وتشويه لها ، فهو مثلة وبه تعلم أن العرف الذي صار جاريا في كثير من البلاد ، بقطع المرأة شعر رأسها إلى قرب أصوله سنة أفرنجية مخالفة لما كان عليه نساء المسلمين ونساء العرب قبل الإسلام ، فهو من جملة الانحرافات التي عمت البلوى بها في الدين والخلق ، والسمت وغير ذلك .

فإن قيل : جاء عن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على حلق المرأة رأسها ، وتقصيرها إياه ، فما دل على الحلق ، فهو ما رواه ابن حبان في صحيحه في النوع الحادي عشر من القسم الخامس ، من حديث وهب بن جرير : ثنا أبي ، سمعت أبا فزارة ، يحدث عن يزيد بن الأصم ، عن ميمونة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوجها حلالا وبنى بها وماتت بسرف ، فدفنها في الظلة التي بنى بها فيها ، فنزلنا قبرها أنا وابن عباس فلما وضعناها في اللحد مال رأسها فأخذت [ ص: 191 ] ردائي فوضعته تحت رأسها فاجتذبه ابن عباس فألقاه وكانت قد حلقت رأسها في الحج فكان رأسها محجما " . انتهى بواسطة نقل صاحب " نصب الراية " . فهذا الحديث يدل على أن ميمونة حلقت رأسها ، ولو كان حراما ما فعلته ، وأما التقصير فما رواه مسلم في صحيحه .

وحدثني عبيد الله بن معاذ العنبري قال : حدثنا أبي قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بكر بن حفص ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : دخلت على عائشة أنا وأخوها من الرضاع ، فسألها عن غسل النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجنابة فدعت بإناء قدر الصاع ، فاغتسلت ، وبيننا وبينها ستر ، وأفرغت على رأسها ثلاثا . قال : وكان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة . اهـ من " صحيح مسلم " .

فالجواب عن حديث ميمونة على تقدير صحته أن فيه أن رأسها كان محجما ، وهو يدل على أن الحلق المذكور لضرورة المرض ، لتتمكن آلة الحجم من الرأس ، والضرورة يباح لها ما لا يباح بدونها ، وقد قال تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ 6 \ 119 ] .

وأما الجواب : عن حديث مسلم فعلى القول : بأن الوفرة أطول من اللمة التي هي ما ألم بالمنكبين من الشعر ، فلا إشكال ; لأن ما نزل عن المنكبين طويل طولا يحصل به المقصود . قال النووي في " شرح مسلم " : والوفرة أشبع ، وأكثر من اللمة . واللمة ما يلم بالمنكبين من الشعر . قاله : الأصمعي . انتهى محل الغرض من النووي .

وأما على القول الصحيح المعروف عند أهل اللغة : من أنها لا تجاوز الأذنين . قال في القاموس : والوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، أو ما سال على الأذنين منه أو ما جاوز شحمة الأذن ، ثم الجمة ، ثم اللمة انتهى منه .

وقال الجوهري في صحاحه : والوفرة : الشعر إلى شحمة الأذن ، ثم الجمة ثم اللمة : وهي التي ألمت بالمنكبين . وقال ابن منظور في " اللسان " : والوفرة : الشعر المجتمع على الرأس ، وقيل : ما سال على الأذنين من الشعر . والجمع وفار . قال كثير عزة : كأن وفار القوم تحت رحالها إذا حسرت عنها العمائم عنصل وقيل : الوفرة أعظم من الجمة . قال ابن سيده : وهذا غلط إنما هي وفرة ، ثم جمة ، ثم لمة ، والوفرة : ما جاوز شحمة الأذنين ، واللمة : ما ألم بالمنكبين . التهذيب ، والوفرة : [ ص: 192 ] الجمة من الشعر إذا بلغت الأذنين ، وقيل : الوفرة الشعرة إلى شحمة الأذن ، ثم الجمة ، ثم اللمة ، إلى أن قال : والوفرة شعر الرأس ، إذا وصل شحمة الأذن . انتهى من " اللسان " .

فالجواب أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصرن رءوسهن بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ; لأنهن كن يتجملن له في حياته ، ومن أجمل زينتهن شعرهن . أما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فلهن حكم خاص بهن لا تشاركهن فيه امرأة واحدة من نساء جميع أهل الأرض ، وهو انقطاع أملهن انقطاعا كليا من التزويج ، ويأسهن منه اليأس الذي لا يمكن أن يخالطه طمع ، فهن كالمعتدات المحبوسات بسببه - صلى الله عليه وسلم - إلى الموت . قال تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ 33 \ 53 ] ، واليأس من الرجال بالكلية ، قد يكون سببا للترخيص في الإخلال بأشياء من الزينة ، لا تحل لغير ذلك السبب . وقال النووي في " شرح مسلم " ، في الكلام على هذا الحديث : قال عياض - رحمه الله تعالى - : والمعروف أن نساء العرب إنما كن يتخذن القرون ، والذوائب ، ولعل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلن هذا بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لتركهن التزين ، واستغنائهن عن تطويل الشعر وتخفيفا لمؤنة رءوسهن ، وهذا الذي ذكره القاضي عياض من كونهن فعلنه ، بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، لا في حياته . كذا قاله أيضا غيره ، وهو متعين ولا يظن بهن فعله في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء . انتهى كلام النووي . وقوله : وفيه دليل على جواز تخفيف الشعور للنساء ، فيه عندي نظر لما قدمنا من أن أزواج النبي بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - لا يقاس عليهن غيرهن ; لأن قطع طمعهن في الرجال بالكلية خاص بهن دون غيرهن ، وهو قد يباح له من الإخلال ببعض الزينة ما لا يباح لغيره حتى إن العجوز من غيرهن لتزين للخطاب ، وربما تزوجت ; لأن كل ساقطة لها لاقطة . وقد يحب بعضهم العجوز كما قال القائل : أبى القلب إلا أم عمرو وحبها عجوزا ومن يحبب عجوزا يفند كثوب اليماني قد تقادم عهده ورقعته ما شئت في العين واليد وقال الآخر : ولو أصبحت ليلى تدب على العصا لكان هوى ليلى جديدا أوائله

والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير .

الضمير في قوله : ( منها ) . راجع إلى بهيمة الأنعام المذكورة في قوله تعالى : [ ص: 193 ] ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، وهذا الأكل الذي أمر به هنا منها وإطعام البائس الفقير منها ، أمر بنحوه في خصوص البدن أيضا في قوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله إلى قوله : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر الآية [ 22 \ 36 ] ، ففي الآية الأولى : الأمر بالأكل من جميع بهيمة الأنعام الصادق بالبدن ، وبغيرها ، وقد بينت الآية الأخيرة أن البدن داخلة في عموم الآية الأولى .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يرد نص عام ، ثم يرد نص آخر يصرح بدخول بعض أفراده في عمومه ، ومثلنا لذلك بعض الأمثلة . وفي الآية العامة هنا أمر بالأكل ، وإطعام البائس الفقير ، وفي الآية الخاصة بالبدن : أمر بالأكل ، وإطعام القانع والمعتر .

وفي هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان .

الأول : حكم الأكل المأمور به في الآيتين ، هل هو الوجوب لظاهر صيغة الأمر ، أو الندب والاستحباب ؟

المبحث الثاني : فيما يجوز الأكل منه لصاحبه ، وما لا يجوز له الأكل منه ، ومذاهب أهل العلم في ذلك .

أما المبحث الأول : فجمهور أهل العلم على أن الأمر بالأكل في الآيتين : للاستحباب ، والندب ، لا للوجوب ، والقرينة الصارفة عن الوجوب في صيغة الأمر : هي ما زعموا من أن المشركين كانوا لا يأكلون هداياهم فرخص للمسلمين في ذلك .

وعليه فالمعنى : فكلوا إن شئتم ولا تحرموا الأكل على أنفسكم كما يفعله المشركون ، وقال ابن كثير في تفسيره : إن القول بوجوب الأكل غريب ، وعزا للأكثرين أن الأمر للاستحباب قال : وهو اختيار ابن جرير في تفسيره ، وقال القرطبي في تفسيره : فكلوا منها : أمر معناه : الندب عند الجمهور ، ويستحب للرجل ، أن يأكل من هديه وأضحيته ، وأن يتصدق بالأكثر مع تجويزهم الصدقة بالكل ، وأكل الكل وشذت طائفة ، فأوجبت الأكل والإطعام بظاهر الآية ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فكلوا وادخروا وتصدقوا " ، قال الكيا في قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا ، يدل على أنه لا يجوز بيع جميعه ، ولا التصدق بجميعه . انتهى كلام القرطبي .

[ ص: 194 ] ومعلوم أن بيع جميعه لا وجه لحليته ، بل ولا بيع بعضه ، كما هو معلوم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أقوى القولين دليلا : وجوب الأكل والإطعام من الهدايا والضحايا ; لأن الله تعالى قال : فكلوا منها في موضعين . وقد قدمنا أن الشرع واللغة دلا على أن صيغة افعل : تدل على الوجوب إلا لدليل صارف عن الوجوب ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك كقوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] .

وأوضحنا جميع أدلة ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، منها آية " الحج " التي ذكرنا عندها مسائل الحج .

ومما يؤيد أن الأمر في الآية يدل على وجوب الأكل وتأكيده : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر مائة من الإبل فأمر بقطعة لحم من كل واحدة منها ، فأكل منها وشرب من مرقها " . وهو دليل واضح على أنه أراد ألا تبقى واحدة من تلك الإبل الكثيرة إلا وقد أكل منها أو شرب من مرقها ، وهذا يدل على أن الأمر في قوله : فكلوا منها ليس لمجرد الاستحباب والتخيير ، إذ لو كان كذلك لاكتفى بالأكل من بعضها ، وشرب مرقه دون بعض ، وكذلك الإطعام فالأظهر فيه الوجوب .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 01:10 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (367)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 195 إلى صـ 202



والحاصل أن المشهور عند الأصوليين أن صيغة افعل : تدل على الوجوب إلا لصارف عنه ، وقد أمر بالأكل من الذبائح مرتين ، ولم يقم دليل يجب الرجوع إليه صارف عن الوجوب وكذلك الإطعام ، هذا هو الظاهر بحسب الصناعة الأصولية ، وقد دلت عليها أدلة الوحي ، كما قدمنا إيضاحه . وقال أبو حيان في " البحر المحيط " : والظاهر وجوب الأكل والإطعام وقيل : باستحبابهما . وقيل : باستحباب الأكل ، ووجوب الإطعام . والأظهر أنه : لا تحديد للقدر الذي يأكله والقدر الذي يتصدق به ، فيأكل ما شاء ويتصدق بما شاء ، وقد قال بعض أهل العلم : يتصدق بالنصف ، ويأكل النصف ، واستدل لذلك بقوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، قال : فجزأها نصفين ، نصف له ونصف للفقراء ، وقال بعضهم : يجعلها ثلاثة أجزاء ، يأكل الثلث ويتصدق بالثلث ، ويهدي الثلث ، واستدل بقوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر [ 22 \ 36 ] ، فجزأها ثلاثة أجزاء ، ثلث له ، وثلث للقانع ، وثلث للمعتر . هكذا قالوا وأظهرها الأول ، والعلم عند الله تعالى . [ ص: 195 ] والبائس : هو الذي أصابه البؤس ، وهو الشدة . قال الجوهري في صحاحه : وبئس الرجل يبأس بؤسا وبئيسا : اشتدت حاجته ، فهو بائس وأنشد أبو عمرو :

لبيضاء من أهل المدينة لم تذق بئيسا ولم تتبع حمولة مجحد وهو اسم وضع موضع المصدر انتهى منه . يعني أن البئيس في البيت لفظه لفظ الوصف ، ومعناه المصدر ، والفقير معروف ، والقاعدة عند علماء التفسير أن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا ، وعلى قولهم : فالفقير هنا يشمل المسكين ; لأنه غير مذكور معه هنا ، وذلك هو مرادهم ، بأنهما إذا افترقا اجتمعا ، ومعلوم خلاف العلماء في الفقير والمسكين في آية الصدقة أيهما أشد فقرا ، وقد ذكرنا حجج الفريقين وناقشناها في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " البلد " ، ومما استدل به القائل : إن الفقير أحوج من المسكين ، وأن المسكين من عنده شيء لا يقوم بكفايته قوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر الآية [ 18 \ 79 ] ، قالوا : فسماهم مساكين ، مع أن عندهم سفينة عاملة للإيجار .

ومما استدل به القائلون بأن المسكين أحوج من الفقير أن الله قال في المسكين : أو مسكينا ذا متربة [ 90 \ 16 ] ، قالوا : ذا متربة : أي لا شيء عنده . حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر ، ليس له مأوى إلا التراب .

قال ابن عباس : هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له . وقال مجاهد : هو الذي لا يقيه من التراب لباس ، ولا غيره انتهى من القرطبي . وعضدوا هذا بأن العرب تطلق الفقير على من عنده مال لا يكفيه ، ومنه قول راعي نمير : أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد فسماه فقيرا مع أن له حلوبة قدر عياله .

وقد ناقشنا أدلة الفريقين مناقشة تبين الصواب في الكتاب المذكور ، فأغنانا ذلك عن إعادته هنا ، والعلم عند الله تعالى .

وأما المبحث الثاني : وهو ما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز فقد اختلف فيه أهل العلم ، وهذه مذاهبهم وما يظهر رجحانه بالدليل منها : فذهب مالك - رحمه الله - ، وأصحابه إلى جواز الأكل من جميع الهدي واجبه وتطوعه إذا بلغ محله إلا ثلاثة أشياء : جزاء الصيد ، وفدية الأذى ، والنذر الذي هو للمساكين ، وقال اللخمي : كل هدي واجب في [ ص: 196 ] الذمة ، عن حج أو عمرة من فساد أو متعة أو قران ، أو تعدي ميقات ، أو ترك النزول بعرفة نهارا ، أو ترك النزول بمزدلفة أو ترك رمي الجمار أو أخر الحلق يجوز الأكل منه قبل بلوغ محله وبعده . أما جزاء الصيد ، وفدية الأذى فيؤكل منهما قبل بلوغهما محلهما ، ولا يؤكل منهما بعده . وأما النذر المضمون إذا لم يسمه للمساكين : فإنه يأكل منه بعد بلوغه محله ، وإن كان منذورا معينا ، ولم يسمه للمساكين ، أو قلده ، وأشعره من غير نذر أكل منه بعد بلوغه محله ، ولم يأكل منه قبله وإن عين النذر للمساكين أو نوى ذلك حين التقليد والإشعار لم يأكل منه قبل ولا بعد .

والحاصل أن النذر المعين للمساكين لا يجوز له الأكل منه مطلقا ، عند مالك وأن النذر المضمون للمساكين ، حكمه عند المالكية حكم جزاء الصيد وفدية الأذى فيمتنع الأكل منه بعد بلوغه محله ، ويجوز قبله ; لأنه باقي في الذمة حتى يبلغ محله . وأما النذر المضمون الذي لم يسم للمساكين كقوله : علي لله نذر أن أتقرب إليه بنحر هدي ، فله عند المالكية : الأكل منه قبل بلوغ محله ، وبعده ، وقد قدمنا أن هدي التطوع إن عطب في الطريق ، لا يجوز له الأكل منه عند المالكية ، وأوضحنا دليل ذلك . هذا هو حاصل مذهب مالك في الأكل من الهدايا ، ولا خلاف في جواز الأكل من الضحايا . وقد قدمنا قول اللخمي من المالكية أن كل هدي جاز أن يأكل منه : جاز أن يطعم منه من شاء من غني وفقير ، وكل هدي لم يجز له أن يأكل منه ، فإنه يطعمه فقيرا ، لا تلزمه نفقته كالكفارة . وكره ابن القاسم من أصحاب مالك إطعام الذمي من الهدايا كما تقدم . ومذهب أبي حنيفة - رحمه الله - : أنه يأكل من هدي التمتع والقران ، وهدي التطوع إذا بلغ محله ، أما إذا عطب هدي التطوع ، قبل بلوغ محله ، فليس لصاحبه الأكل منه عند أبي حنيفة ، كما تقدم إيضاحه . ولا يأكل من غير ذلك ، هو ولا غيره من الأغنياء ، بل يأكله الفقراء . هذا حاصل مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - .

وأما مذهب الشافعي - رحمه الله - : فهو أن الهدي إن كان تطوعا ، فالأكل منه مستحب ، واستدل بعضهم لعدم وجوب الأكل بقوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] . قالوا : فجعلها لنا وما هو للإنسان فهو مخير بين تركه ، وأكله ، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال .

واعلم أنا حيث قلنا في هذا المبحث : يجوز الأكل ، فإنا نعني : الإذن في الأكل الصادق بالاستحباب ، وبالوجوب لما قدمنا من الخلاف ، في وجوب الأكل والإطعام ، [ ص: 197 ] واستحبابهما ، والفرق بينهما بإيجاب الإطعام دون الأكل ، وكل هدي واجب لا يجوز الأكل منه في مذهب الشافعي ، كهدي التمتع والقران ، والنذر ، وجميع الدماء الواجبة ، قال النووي : وكذا قال الأوزاعي ، وداود الظاهري : لا يجوز الأكل من الواجب . هذا هو حاصل مذهب الشافعي .

وأما مذهب أحمد - رحمه الله - : فهو أنه لا يأكل من هدي واجب ، إلا هدي التمتع والقران ، وأنه يستحب له أن يأكل من هدي التطوع ، وهو ما أوجبه بالتعيين ابتداء من غير أن يكون عن واجب في ذمته ، وما نحره تطوعا من غير أن يوجبه ، هذا هو مشهور مذهب الإمام أحمد . وعنه رواية أنه لا يأكل من المنذور ، وجزاء الصيد ويأكل مما سواهما .

قال في " المغني " : وهو قول ابن عمر وعطاء والحسن وإسحاق ; لأن جزاء الصيد بدل والنذر جعله الله تعالى بخلاف غيرهما .

وقال ابن أبي موسى : لا يأكل أيضا من الكفارة ، ويأكل مما سوى هذه الثلاثة ، ونحوه مذهب مالك ; لأن ما سوى ذلك لم يسمه للمساكين ، ولا مدخل للإطعام فيه فأشبه التطوع . وقال الشافعي : لا يأكل من واجب ; لأنه هدي واجب بالإحرام فلم يجز الأكل منه كدم الكفارة . انتهى من " المغني " .

فقد رأيت مذاهب الأربعة فيما يجوز الأكل منه ، وما لا يجوز .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يرجحه الدليل في هذه المسألة : هو جواز الأكل من هدي التطوع وهدي التمتع والقران دون غير ذلك ، والأكل من هدي التطوع لا خلاف فيه بين العلماء بعد بلوغه محله ، وإنما خلافهم في استحباب الأكل منه ، أو وجوبه ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة في حجة الوداع : " أنه أهدى مائة من الإبل " ، ومعلوم أن ما زاد على الواحدة منها تطوع ، وقد أكل منها وشرب من مرقها جميعا .

وأما الدليل على الأكل من هدي التمتع والقران ، فهو ما قدمنا مما ثبت في الصحيح : " أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عنهن - صلى الله عليه وسلم - بقرا ودخل عليهن بلحمه وهن متمتعات ، وعائشة منهن قارنة وقد أكلن جميعا مما ذبح عنهن في تمتعهن وقرانهن بأمره - صلى الله عليه وسلم - " وهو نص صحيح صريح في جواز الأكل من هدي التمتع والقران . أما غير ما ذكرنا من الدماء فلم يقم دليل يجب الرجوع إليه على الأكل منه ، ولا يتحقق دخوله في عموم فكلوا منها لأنه لترك [ ص: 198 ] واجب أو فعل محظور ، فهو بالكفارات أشبه ، وعدم الأكل منه أظهر وأحوط . والعلم عند الله تعالى .
مسألة في الأضحية

لا يخفى أن كلامنا في الهدي وأن الآية التي نحن بصددها ظاهرها أنها في الهدي ، ولما كان عمومها قد تدخل فيه الأضحية ، أردنا هنا أن نشير إلى بعض أحكام الأضحية باختصار .

اعلم أولا أن الأضحية فيها أربع لغات : أضحية بضم الهمزة ، وإضحية بكسرها ، وجمعهما أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها ، وضحية ، وجمعها ضحايا ، وأضحاة وجمعها : أضحى كأرطاة ، وأرطى .

واعلم أنه لا خلاف في مشروعية الأضحية . قال بعض أهل العلم : وقد دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع .

أما الكتاب فقوله تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] ، على ما قاله بعض أهل التفسير ، من أن المراد به : ذبح الأضحية بعد صلاة العيد ، ولا يخفى أن صلاة العيد داخلة في عموم فصل لربك ، وأن الأضحية داخلة في عموم قوله : وانحر .

وأما الإجماع : فقد أجمع جميع المسلمين على مشروعية الأضحية . وأما السنة : فقد وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة صحيحة في مشروعية الأضحية وسنذكر طرفا منها فيه كفاية إن شاء الله .

قال البخاري في صحيحه : باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين ويذكر سمينين . وقال يحيى بن سعيد : سمعت أبا أمامة بن سهل ، قال : كنا نسمن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يسمنون .

حدثنا آدم بن أبي إياس ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال : سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين " ، وأنا أضحي بكبشين .

حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد الوهاب عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده " ، وقال إسماعيل وحاتم بن وردان ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن أنس تابعه وهيب عن أيوب ، وقال : حدثنا [ ص: 199 ] عمرو بن خالد ، حدثنا الليث ، عن يزيد ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود ، فذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ضح به أنت " ، انتهى من صحيح البخاري . وفي لفظ له من حديث أنس - رضي الله عنه - قال : " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده " . وفي لفظ للبخاري عن أنس أيضا ، قال : " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما " . وفي لفظ له عن أنس - رضي الله عنه - أيضا : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ويضع رجله على صفاحهما ، ويذبحهما بيده " . انتهى منه .

وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا أبو عوانة عن قتادة ، عن أنس قال : " ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما " . وفي لفظ له عن أنس - رضي الله عنه - قال : " ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ، قال : ورأيته يذبحهما بيده ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما قال : وسمى وكبر ، وفي لفظ لمسلم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله ، غير أنه قال : ويقول : " بسم الله ، والله أكبر " . وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا عبد الله بن وهب قال : قال حيوة : أخبرني أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد ، وينظر في سواد فأتى به ليضحي به ، فقال لها : " يا عائشة ، هلمي المدية ، ثم قال : " اشحذيها بحجر " ، ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال : " باسم الله ، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد " ، ثم ضحى به ، انتهى من صحيح مسلم . والأحاديث الواردة في مشروعية الأضحية كثيرة ، معروفة .

وقد اختلف أهل العلم في حكمها ، فذهب أكثر أهل العلم : إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر ، ولا تجب عليه . وقال النووي في " شرح المهذب " : وهذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء منهم أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وبلال ، وأبو مسعود البدري ، وسعيد بن المسيب ، وعطاء ، وعلقمة ، والأسود ، ومالك ، وأحمد ، وأبو يوسف ، وإسحاق ، وأبو ثور ، والمزني ، وداود بن المنذر ، وقال ربيعة والليث بن سعد ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي : هي واجبة على الموسر إلا الحاج بمنى . وقال محمد بن الحسن : هي واجبة على المقيم بالأمصار . والمشهور عن أبي حنيفة : أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابا . انتهى كلام النووي .

[ ص: 200 ] وقال النووي في " شرح مسلم " : واختلف العلماء في وجوب الأضحية ، على الموسر ، فقال جمهورهم : هي سنة في حقه إن تركها بلا عذر ، لم يأثم ، ولم يلزمه القضاء ، وممن قال بهذا : أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب إلى آخر كلامه قريبا مما ذكرنا عنه في " شرح المهذب " .

وقال ابن قدامة في " المغني " : أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة ، روي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وبلال ، وأبي مسعود البدري - رضي الله عنهم - . وبه قال سويد بن غفلة ، وسعيد بن المسيب ، وعلقمة ، والأسود ، وعطاء ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وابن المنذر . وقال ربيعة ، ومالك ، والنووي ، والأوزاعي ، والليث ، وأبو حنيفة : هي واجبة ونقل ابن قدامة في " المغني " ، عن مالك وجوب الأضحية خلاف مذهبه ، ومذهبه هو ما نقل عنه النووي : من أنها سنة ، ولكنها عنده لا تسن على خصوص الحاج بمنى ; لأن ما يذبحه هدي لا أضحية . وقد قدمنا أن آية " الحج " لا تخلو من دلالة على ما ذهب إليه مالك ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .

فإذا رأيت أقوال أهل العلم في حكم الأضحية ، فهذه أدلة أقوالهم ومناقشتها ، وما يظهر رجحانه بالدليل منها ، على سبيل الاختصار .

أما من قال : إنها واجبة فقد استدل بأدلة منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلها ، والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] .

وقد قدمنا قول من قال من أهل الأصول إن فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم تعلم جهته من وجوب أو غيره يحمل على الوجوب . وأوضحنا أدلة ذلك . وذكرنا أن صاحب " مراقي السعود " ذكره بقوله في كتاب السنة في مبحث أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - :



وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل وذكرنا مناقشة الأقوال فيه في الحج ، وغيره من سور القرآن .

ومن أدلتهم على وجوب الأضحية ما رواه البخاري في صحيحه : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا الأسود بن قيس : سمعت جندب بن سفيان البجلي قال : شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال : " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ، ومن لم يذبح فليذبح " اهـ . قالوا قوله : " فليعد " ، وقوله : " فليذبح " كلاهما صيغة أمر .

وقد قدمنا أن الصحيح عند أهل الأصول أن الأمر المتجرد عن القرائن ، يدل على [ ص: 201 ] الوجوب ، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة ، ورجحناه بالأدلة الكثيرة الواضحة كقوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] . وقوله : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فسمى مخالفة الأمر معصية ، وقوله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة الآية [ 33 \ 36 ] ، فجعل أمره وأمر رسوله مانعا من الاختيار ، موجبا للامتثال ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " ، الحديث إلى آخر ما قدمنا ، وحديث جندب بن سفيان الذي ذكرناه عن البخاري أخرجه أيضا مسلم في صحيحه بلفظ : " من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي ، فليذبح مكانها أخرى ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله " ، وصيغة الأمر بالذبح في حديثه واضحة ، كما بينا دلالتها على الوجوب آنفا .

ومن أدلتهم على وجوب الأضحية : ما رواه أبو داود في سننه ، حدثنا مسدد ، ثنا يزيد ، ( ح ) وثنا حميد بن مسعدة ، ثنا بشر ، عن عبد الله بن عون ، عن عامر أبي رملة قال : أخبرنا مخنف بن سليم قال : ونحن وقوف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات قال : " يا أيها الناس ، إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة ؟ هي : التي يقول عنها الناس : الرجبية " انتهى منه .

وقال النووي في " شرح المهذب " : في هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ، قال الترمذي : حديث حسن . قال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج ; لأن أبا رملة مجهول . وهو كما قال الخطابي مجهول . قال فيه ابن حجر في " التقريب " : عامر أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف انتهى منه . وقال فيه الذهبي في " الميزان " : عامر أبو رملة شيخ لابن عون فيه جهالة له عن مخنف بن سليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا أيها الناس ، إن على كل بيت في الإسلام أضحية ، وعتيرة " . قال عبد الحق : إسناده ضعيف ، وصدقه ابن القطان لجهالة عامر ، رواه عنه ابن عون انتهى منه .

وبه تعلم أن قول ابن حجر في " الفتح " ، في حديث مخنف بن سليم أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي ، خلاف التحقيق كما ترى . وقد قال أبو داود بعد أن ساق الحديث بسنده ومتنه كما ذكرناه عنه آنفا . قال أبو داود : العتيرة : منسوخة هذا خبر منسوخ انتهى منه . ولكنه لم يبين الناسخ ، ولا دليل النسخ . وعلى كل حال فالحديث ضعيف لا يحتج به ; لأن أبا رملة مجهول كما رأيت من قال ذلك .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الحاكم عن أبي [ ص: 202 ] هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا " . قال ابن حجر في بلوغ المرام : في هذا الحديث رواه أحمد وابن ماجه ، وصححه الحاكم ورجح الأئمة غيره وقفه ، وقال ابن حجر في " فتح الباري " : وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية ، حديث أبي هريرة ، رفعه : " من وجد سعة فلم يضح ، فلا يقربن مصلانا " ، أخرجه ابن ماجه ، وأحمد ، ورجاله ثقات ، لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب . قاله الطحاوي وغيره ، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب انتهى منه .

وذكر النووي في شرح المهذب ، من أدلة من أوجبها : ما جاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة يوم عيد " ، ثم قال : رواه البيهقي . وقال : تفرد به محمد بن ربيعة ، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي وليسا بقويين ، ثم قال : وعن عائذ الله المجاشعي ، عن أبي داود نفيع ، عن زيد بن أرقم أنهم قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هذه الأضاحي ؟ قال : " سنة أبيكم إبراهيم " ( صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم ) ، قالوا : ما لنا فيها من الأجر ؟ قال : " بل كل قطرة حسنة " ، رواه ابن ماجه ، والبيهقي . قال البيهقي : قال البخاري : عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه ، وأبو داود هذا ضعيف ، ثم قال النووي : وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نسخ الأضحى كل ذبح ، وصوم رمضان كل صوم ، والغسل من الجنابة كل غسل ، والزكاة كل صدقة " ، رواه الدارقطني ، والبيهقي قال : وهو ضعيف ، واتفق الحفاظ على ضعفه ، وعن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أستدين وأضحي ؟ قال : " نعم ، فإنه دين مقضي " ، رواه الدارقطني والبيهقي ، وضعفاه قالا : وهو مرسل اهـ كلام النووي . وما ذكره من تضعيف الأحاديث المذكورة : هو الصواب ، وقد وردت أحاديث غير ما ذكرنا في الترغيب في الأضحية ، وفيها أحاديث متعددة ليست بصحيحة . وهذا الذي ذكرنا هو عمدة من قال : بوجوب الأضحية ، واستدلال بعض الحنفية على وجوبها بالإضافة في قولهم : يوم الأضحى قائلا : إن الإضافة إلى الوقت لا تحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك ، ولا تكون موجودة فيه بيقين ، إلا إذا كانت واجبة لا يخفى سقوطه ; لأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة ، فلا تقتضي الوجوب على التحقيق ، كما لا يخفى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 01:13 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (368)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 203 إلى صـ 210


وأقوى أدلة من قال بالوجوب : هو ما قدمنا في الصحيحين من حديث جندب بن [ ص: 203 ] سفيان البجلي ، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة ، وأمر من لم يذبح بالذبح . وقد قدمنا دلالة الأمر على الوجوب والحديث المختلف في وقفه ورفعه الذي قدمنا ; لأن قوله فيه : " فلا يقربن مصلانا " ، يفهم منه أن ترك الأضحية مخالفة غير هينة ، لمنع صاحبها من قرب المصلى وهو يدل على الوجوب . والفرق بين المسافر والمقيم عند أبي حنيفة لا أعلم له مستندا من كتاب ولا سنة ، وبعض الحنفية يوجهه بأن أداءها له أسباب تشق على المسافر ، وهذا وحده لا يكفي دليلا ; لأنه من المعلوم أن كل واجب عجز عنه المكلف ، يسقط عنه ; لقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] .

وأما الذين قالوا : بأن الأضحية سنة مؤكدة ، وليست بواجبة ، فاستدلوا بأدلة منها : ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر المكي ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، سمع سعيد بن المسيب يحدث عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا " ، قيل لسفيان : فإن بعضهم لا يرفعه . قال : لكني أرفعه اهـ وفي لفظ عنها ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم : " إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا " . وفي لفظ له عنها مرفوعا " إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره " اهـ .

كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث زوجه أم المؤمنين - أم سلمة رضي الله عنها - ، ووجه الاستدلال بها ، على عدم الوجوب أن ظاهر الرواية أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي ، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك .

قال النووي في " شرح المهذب " : بعد أن ذكر بعض روايات حديث أم سلمة المذكور ما نصه : قال الشافعي : هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - ، " وأراد " فجعله مفوضا إلى إرادته ، ولو كانت واجبة لقال : فلا يمس من شعره ، حتى يضحي انتهى منه . وقال النووي في " شرح المهذب " أيضا : واستدل أصحابنا ، يعني لعدم الوجوب بحديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " هن علي فرائض وهن لكم تطوع : النحر ، والوتر ، وركعتا الضحى " ، رواه البيهقي بإسناد ضعيف . ورواه في موضع آخر وصرح بضعفه وللحديث المذكور طرق ، ولا يخلو شيء منها من الضعف ولم يذكرها النووي . ثم قال النووي : وصح عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - : أنهما كانا لا يضحيان ، مخافة أن يعتقد الناس وجوبها اهـ كلام النووي . وقال ابن حجر في " فتح الباري " : قال ابن [ ص: 204 ] حزم : لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة ، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور ، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين . وقد استدل لعدم وجوبها : المجد في " المنتقى " بحديثين ، ولا تظهر دلالتها على ذلك عندي كل الظهور . قال في " المنتقى " : باب ما احتج به في عدم وجوبها ، بتضحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمته : عن جابر قال : صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيد الأضحى ، فلما انصرف " أتى بكبش فذبحه فقال : " باسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي " . وعن علي بن الحسين ، عن أبي رافع : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب للناس أوتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول : " اللهم هذا عني وعن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ " ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول : " هذا عن محمد وآل محمد " فيطعمهما جميعا المساكين ، ويأكل هو وأهله منهما " فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغرم ، رواه أحمد ، اهـ من " المنتقى " .

وقال شارحه في " نيل الأوطار " : ووجه دلالة الحديثين ، وما في معناهما على عدم الوجوب أن تضحيته - صلى الله عليه وسلم - عن أمته وعن أهله تجزئ كل من لم يضح ، سواء كان متمكنا من الأضحية أو غير متمكن ، ثم تعقبه بقوله : ويمكن أن يجاب عن ذلك ، بأن حديث : " على كل أهل بيت أضحية " ، يدل على وجوبها على كل أهل بيت يجدونها ، فيكون قرينة على أن تضحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن غير الواجدين من أمته ولو سلم الظهور المدعى ، فلا دلالة له على عدم الوجوب ; لأن محل النزاع من لم يضح عن نفسه ، ولا ضحى عنه غيره ، فلا يكون عدم وجوبها على من كان في عصره - صلى الله عليه وسلم - من الأمة مستلزما ، لعدم وجوبها على من كان في غير عصره - صلى الله عليه وسلم - منهم انتهى من " نيل الأوطار " . وقد رأيت أدلة القائلين بالوجوب ، والقائلين بالسنة . والواقع في نظرنا أنه ليس في شيء من أدلة الطرفين ، دليل جازم سالم من المعارض على الوجوب ، ولا على عدمه ; لأن صيغة الأمر بالذبح في الحديث الصحيح وبإعادة من ذبح قبل الصلاة ، وإن كان يفهم منه الوجوب على أحد الأقوال ، وهو المشهور في صيغة الأمر . فحديث أم سلمة الذي ظاهره : تفويض ذلك إلى إرادة المضحي ، وهو في صحيح مسلم يمكن أن يكون قرينة صارفة عن الوجوب في صيغة الأمر المذكور ، وكلا الدليلين لا يخلو من احتمال ، وحديث : " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا " ، رجح أكثر الأئمة وقفه ، وقد قدمنا أن ابن حجر قال : إنه ليس صريحا [ ص: 205 ] في الإيجاب وأجاب القرطبي في المفهم عن دلالة صيغة الأمر في قوله : فليعد ، وقوله : فليذبح وقال : لا حجة في شيء من ذلك ، على الوجوب وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية ، لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلا ، فبين له وجه تدارك ما فرط منه انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في مثل هذا الذي لم تتضح فيه دلالة النصوص على شيء معين إيضاحا بينا أنه يتأكد على الإنسان الخروج من الخلاف فيه ، فلا يترك الأضحية مع قدرته عليها ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، فلا ينبغي تركها لقادر عليها ; لأن أداءها هو الذي يتيقن به براءة ذمته ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الأول : قد علمت أن أكثر أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على أن الأضحية سنة لا واجبة ، والمالكية يقولون : إن وجوبها خاص به صلى الله عليه وسلم ، وقد علمت أن الأحاديث الواردة في ذلك لا تخلو من ضعف ، وقد استثنى مالك وأصحابه به الحاج بمنى ، قالوا : لا تسن له الأضحية ; لأن ما يذبحه هدي لا أضحية ، وخالفهم جماهير أهل العلم نظرا لعموم أدلة الأمر بالأضحية في الحاج وغيره ، ولبعض النصوص المصرحة بمشروعية الأضحية للحاج بمنى . قال البخاري في صحيحه : باب الأضحية للمسافر والنساء : حدثنا مسدد ، حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها وحاضت بسرف قبل أن تدخل مكة ، وهي تبكي " . الحديث وفيه : " فلما كنا بمنى أتيت بلحم بقر ، فقلت : ما هذا ؟ قالوا ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أزواجه بالبقر " اهـ . وقال مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى قال : قرأت على مالك ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل ، عن عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حجة الوداع ، فمنا من أهل بعمرة ، ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج ، وأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحج " ، الحديث بطوله ، وفيه فقالت : " وضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه بالبقر " اهـ من صحيح مسلم . قالوا : فقد ثبت في الصحيحين ، عن عائشة - رضي الله عنها - : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عن نسائه ببقر يوم النحر بمنى " ، وهو دليل صحيح على مشروعية الأضحية للحاج بمنى .

[ ص: 206 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين دليلا عندي في هذا الفرع قول مالك وأصحابه ، وإن خالفهم الجمهور ، وأن الأضحية لا تسن للحاج بمنى ، وأن ما يذبحه هدي لا أضحية ، وأن الاستدلال بحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا لا تنهض به الحجة على مالك وأصحابه ، ووجه كون مذهب مالك أرجح في نظرنا هنا مما ذهب إليه جمهور أهل العلم ، هو أن القرآن العظيم دال عليه ، ولم يثبت ما يخالف دلالة القرآن عليه سالما من المعارض من كتاب أو سنة ، ووجه دلالة القرآن على أن ما يذبحه الحاج بمنى : هدي لا أضحية ، هو ما قدمناه موضحا ; لأن قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها الآية [ 22 \ 27 - 28 ] ، فيه معنى : وأذن في الناس بالحج يأتوك مشاة وركبانا لحكم منها : شهودهم منافع لهم ، ومنها ذكرهم اسم الله : على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ، عند ذبحها تقربا إلى الله ، والذي يكون من حكم التأذين فيهم بالحج ، حتى يأتوا مشاة وركبانا ، ويشهدوا المنافع ويتقربوا بالذبح ، إنما هو الهدي خاصة دون الأضحية لإجماع العلماء على أن للمضحي : أن يذبح أضحيته في أي مكان شاءه من أقطار الدنيا ولا يحتاج في التقرب بالأضحية إلى إتيانهم مشاة وركبانا من كل فج عميق . فالآية ظاهرة في الهدي ، دون الأضحية ، وما كان القرآن أظهر فيه وجب تقديمه على غيره ، أما الاحتجاج بحديث عائشة المتفق عليه : " أنه ضحى ببقر عن نسائه يوم النحر صلوات الله وسلامه عليه " ، فلا تنهض به الحجة ; لكثرة الأحاديث الصحيحة المصرحة بأنهن متمتعات ، وأن ذلك البقر هدي واجب ، وهو هدي التمتع المنصوص عليه في القرآن ، وأن عائشة منهن قارنة والبقرة التي ذبحت عنها هدي قران ، سواء قلنا : إنها استقلت بذبح بقرة عنها وحدها ، كما قدمناه في بعض الروايات الصحيحة ، أو كان بالاشتراك مع غيرها في بقرة ، كما قال به بعضهم ، وأكثر الروايات ليس فيها لفظ : ضحى ، بل فيها : أهدى ، وفيها : ذبح عن نسائه ، وفيها : نحر عن نسائه ، فلفظ ضحى من تصرف بعض الرواة للجزم ، بأن ما ذبح عنهن من البقر يوم النحر بمنى هدي تمتع بالنسبة لغير عائشة ، وهدي قران : بالنسبة إليها ، كما هو معلوم بالأحاديث الصحيحة ، التي لا نزاع فيها ، وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن ظاهر القرآن مع مالك ، والحديث ليس فيه حجة عليه .

وقال ابن حجر في " فتح الباري " : في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن [ ص: 207 ] بعد ذكره رواية : ضحى المذكورة ، ما نصه : والظاهر أن التصرف من الرواة ; لأنه في الحديث ذكر النحر ، فحمله بعضهم على الأضحية ، فإن رواية أبي هريرة صريحة في أن ذلك ، كان عمن اعتمر من نسائه فقويت رواية من رواه بلفظ : أهدى ، وتبين أنه هدي التمتع ، فليس فيه حجة على مالك في قوله : لا ضحايا على أهل منى انتهى محل الغرض من " فتح الباري " ، وهو واضح فيما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : اعلم أن من ذبح أضحية ، قبل أن يصلي إمام المسلمين صلاة العيد ، فإن ذبيحته لا تجزئه عن الأضحية ، وإنما شاته التي ذبحها شاة لحم يأكلها هو ومن شاء . وليست بشاة نسك ، وهذا ثابت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم .

قال البخاري في صحيحه : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن زبيد اليامي ، عن الشعبي ، عن البراء - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، من فعله فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء " انتهى محل الغرض منه . وفي لفظ للبخاري من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من ذبح قبل الصلاة ، فإنما ذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة ، فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين " اهـ . وفي لفظ للبخاري ، عن أنس بن مالك أيضا قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر : " من كان ذبح قبل الصلاة فليعد " الحديث . وفي لفظ للبخاري من حديث البراء ، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه ، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين " اهـ .

وقد قدمنا في حديث جندب بن سفيان البجلي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى " ، الحديث إلى غير هذا من الروايات بمعناه في صحيح البخاري ، وكون الأضحية المذبوحة قبل الصلاة : لا تجزئ صاحبها الذي ذكرنا في صحيح البخاري ، أخرجه مسلم أيضا من حديث جندب بن سفيان البجلي ، والبراء بن عازب ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - ، فهذه الأحاديث المتفق عليها عن جندب والبراء وأنس نصوص صريحة في أن من ذبح أضحيته قبل صلاة الإمام صلاة العيد : أنها لا تجزئه ، وإن كان الإمام الأعظم ، هو إمام الصلاة فلا إشكال ، وإن كان إمام الصلاة غيره ، فالظاهر أن المعتبر إمام الصلاة ; لأن ظاهر الأحاديث : أنها يشترط لصحتها أن تكون بعد الصلاة ، وظاهرها العموم سواء كان إمام الصلاة الإمام الأعظم أو غيره ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 208 ] والأظهر أن من أراد أن يضحي بمحل لا تقام فيه صلاة العيد ، أنه يتحرى بذبح أضحيته قدر ما يصلي فيه الإمام صلاة العيد عادة ، ثم يذبح . والله تعالى أعلم .

وقد جاء في صحيح مسلم وغيره ، ما يدل على عدم إجزاء ما نحر قبل نحره صلى الله عليه وسلم . وظاهره : أنه لا بد لإجزاء الأضحية من أن تكون بعد الصلاة ، وبعد نحر الإمام ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : في سن الأضحية التي تجزئ . والأظهر أن السن التي تجزئ في الأضحية هي التي تكون مسنة ، فإن تعسرت المسنة أجزأته جذعة من الضأن .

قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " اهـ .

وقال النووي في شرح هذا الحديث ما نصه : قال العلماء : المسنة هي الثنية من كل شيء من الإبل والبقر والغنم ، فما فوقها . وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير الضأن في حال من الأحوال . وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض ، ونقل العبدري وغيره من أصحابنا ، عن الأوزاعي أنه قال : يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن . وحكي هذا عن عطاء . وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ، ومذهب العلماء كافة : أنه يجزئ سواء وجد غيره أو لا ، وحكوا عن ابن عمر والزهري أنهما قالا : لا يجزئ . وقد يحتج لهما بظاهر هذا الحديث . قال الجمهور : هذا الحديث محمول على الاستحباب والأفضل ، وتقديره : يستحب لكم أن لا تذبحوا إلا مسنة ، فإن عجزتم فجذعة ضأن ، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن ، وأنها لا تجزئ بحال . وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره ; لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن ، مع وجود غيره وعدمه . وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه ، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم . إلى أن قال : والجذع من الضأن : ما له سنة تامة ، هذا هو الأصح عند أصحابنا ، وهو الأشهر عند أهل اللغة وغيرهم ، وقيل : ما له ستة أشهر .

وقيل : سبعة ، وقيل : ثمانية ، وقيل : ابن عشرة . حكاه القاضي ، وهو غريب .

وقيل : إن كان متولدا من بين شابين ، فستة أشهر ، وإن كان من هرمين فثمانية أشهر انتهى محل الغرض منه . وقال في " شرح المهذب " : ثم الجذع ما استكمل سنة على [ ص: 209 ] أصح الأوجه إلى آخر الأوجه التي ذكرها في " شرح مسلم " . وتقدم نقلها عنه آنفا . وقال أيضا : وأما الثني من الإبل فما استكمل خمس سنين ، ودخل في السادسة . وروى حرملة عن الشافعي أنه الذي استكمل ست سنين ، ودخل في السابعة .

قال الروياني : وليس هذا قولا آخر للشافعي ، وإن توهمه بعض أصحابنا ، ولكنه إخبار عن نهاية سن الثني ، وما ذكره الجمهور بيان لابتداء سنة ، وأما الثني من البقر فهو ما استكمل سنتين ، ودخل في الثالثة .

وروى حرملة عن الشافعي : أنه ما استكمل ثلاث سنين ، ودخل في الرابعة . والمشهور من نصوص الشافعي الأول ، وبه قطع الأصحاب وغيرهم من أهل اللغة وغيرهم . والثني من المعز فيه عندهم وجهان أصحهما : ما استكمل سنتين . والثاني : ما استكمل سنة انتهى منه .

وقد علمت أن الثني هو المسن . قال ابن الأثير في " النهاية " في الجذع : هو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة ، ومن البقر والمعز : ما دخل في السنة الثانية ، وقيل : البقر في الثالثة ، ومن الضأن : ما تمت له سنة ، وقيل : أقل منها ، ومنهم من يخالف بعض هذا في التقدير انتهى منه . وقال ابن الأثير في " النهاية " أيضا : الثنية من الغنم ما دخلت في السنة الثالثة ، ومن البقر كذلك ، ومن الإبل : في السادسة والذكر ثني ، وعلى مذهب أحمد بن حنبل : ما دخل من المعز في الثانية ، ومن البقر في الثالثة .

وقال ابن الأثير في " النهاية " ، في المسنة ، قال الأزهري : البقرة والشاة يقع عليهما اسم المسن ، إذا أثنيا ، ويثنيان في السنة الثالثة .

وقال الجوهري في صحاحه : الجذع قبل الثني والجمع جذعان وجذاع ، والأنثى : جذعة ، والجمع : جذعات ، تقول منه لولد الشاة في السنة الثانية ، ولولد البقر والحافر في السنة الثالثة ، وللإبل في السنة الخامسة : أجذع ، والجذع اسم له في زمن ليس بسن تنبت ولا تسقط ، وقد قيل : في ولد النعجة : إنه جذع في ستة أشهر ، أو تسعة أشهر ، وذلك جائز في الأضحية انتهى منه . وفي القاموس : والثنية : الناقة الطاعنة في السادسة ، والبعير : ثني ، والفرس : الداخلة في الرابعة ، والشاة : في الثالثة كالبقرة . انتهى منه .

وقد علمت مما مر أن حديث مسلم الثابت فيه دل على أن الأضحية لا تكون إلا بمسنة ، وأنها إن تعسرت فجذعة من الضأن ، فمن ضحى بمسنة ، أو بجذعة من الضأن عند تعسرها فضحيته مجزئة إجماعا .

[ ص: 210 ] واختلف أهل العلم فيما سوى ذلك ، وهذه مذاهبهم وأدلتها .

فذهب مالك - رحمه الله - وأصحابه : إلى أن المجزئ في الضحية : جذع الضأن ، وثني المعز والبقر ، والإبل . وجذع الضأن عندهم : هو ما أكمل سنة على المشهور ، وثني المعز عندهم : هو ما أكمل سنة ، ودخل في الثانية دخولا بينا ، فالدخول في السنة الثانية ، دخولا بينا هو الفرق عندهم بين جذع الضأن ، وثني المعز .

ودليل مالك وأصحابه على ما ذكرنا عنهم في سن الأضحية أن جذع الضأن عندهم ، لا فرق بينه وبين جذعة الضأن المنصوص على إجزائها في صحيح مسلم ، وأن الثني إجزاؤه مطلق ، وتحديدهم له في المعز بما دخل في الثانية دخولا بينا من تحقيق المناط ، والثني عندهم من البقر ابن ثلاث سنين والأنثى والذكر سواء عندهم . والثني عندهم من الإبل : ابن خمس سنين ، والذكر والأنثى سواء .

ومعلوم أن الذكورة ، والأنوثة في الضحايا والهدايا ، وصفان طرديان ، لا أثر لواحد منهما في الحكم ، فهما سواء . وقال بعض المالكية : إن الثني من البقر : ابن أربع سنين . والظاهر : أنه غير مخالف للقول الأول ، وأن المراد به ابن ثلاث ودخل في الرابعة .

وقال ابن حبيب من المالكية : والثني من الإبل ابن ست سنين ، والظاهر أيضا أنه غير مخالف للقول الأول ; لأن المراد به ابن خمس ، ودخل في السادسة ، فإن قيل ظاهر . . . سلمنا أن جذعة الضأن المنصوص عليها في حديث جابر عند مسلم : لا فرق بينها ، وبين الجذع الذكر ; لأن الذكورة والأنوثة في الهدايا والضحايا وصفان طرديان ، لا أثر لهما في الحكم .

ولكن ظاهر الحديث ، يدل على أن جذعة الضأن الأنثى المذكورة في الحديث ، لا يذبحها ، إلا من تعسرت عليه المسنة ، التي هي الثنية ; لأن لفظ الحديث المتقدم : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " .

فالجواب أن ظاهر الحديث أن الجذعة من الضأن : لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة ، وظاهره أن الجذع الذكر من الضأن : لا يجزئ سواء عسر وجود المسنة ، أو لم يعسر ، وجمهور أهل العلم خالفوا ظاهر هذا الحديث من الجهتين المذكورتين ، إلا ما روي عن ابن عمر ، والزهري : من أن الجذع الذكر من الضأن : لا يجزئ مطلقا ; لظاهر هذا الحديث .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 01:15 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (369)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 211 إلى صـ 218



قال النووي : في شرحه لحديث مسلم هذا ما نصه : قال العلماء المسنة هي الثنية : من كل شيء من الإبل والبقر والغنم ، فما فوقها وهذا تصريح بأنه لا يجوز الجذع من غير [ ص: 211 ] الضأن في حال من الأحوال ، وهذا مجمع عليه على ما نقله القاضي عياض ، ونقل العبدري ، وغيره من أصحابنا أنه قال : يجوز الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن ، وحكي هذا عن عطاء ، وأما الجذع من الضأن فمذهبنا ، ومذهب العلماء كافة : أنه يجزئ ، سواء وجد غيره أو لا ، وحكوا عن ابن عمر والزهري ، أنهما قالا : تجزئ ، وقد يحتج لهما بظاهر الحديث . قال الجمهور : هذا الحديث محمول على الاستحباب ، والأفضل وتقديره : يستحب لكم ألا تذبحوا إلا مسنة ، فإن عجزتم فجذعة ضأن ، وليس فيه تصريح بمنع جذعة الضأن ، وأنها لا تجزئ بحال ، وقد أجمعت الأمة أنه ليس على ظاهره ; لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه ، وابن عمر والزهري : يمنعانه مع وجود غيره وعدمه ، فتعين تأويل الحديث على ما ذكرنا من الاستحباب والله أعلم . قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث ظاهر في أن جذعة الضأن : لا تجزئ إلا إذا تعسر وجود المسنة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح : " لا تذبحوا إلا مسنة " ، نهي صريح عن ذبح غير المسنة ، التي هي الثنية . والنهي : يقتضي التحريم كما تقرر في الأصول ، إلا إذا وجد صارف عنه ، وهو دليل ظاهر على أن جذعة الضأن : لا تجزئ إلا عند تعسر المسنة كما ترى ، وسيأتي إن شاء الله إيضاح بقية هذا البحث بعد ذكر مذاهب أهل العلم في هذه المسألة ، ومناقشة أدلتهم ، وأما مذهب الشافعي - رحمه الله - في هذه المسألة : فهو أن الجذع لا يجزئ إلا من الضأن خاصة ، والجذع من الضأن والجذعة عنده سواء ، وأما غير الضأن : فلا يجزئ عنه منه إلا الثنية ، أو الثني . وقد قدمنا كلام أهل العلم ، واللغة في سن الجذع ، والثني والجذعة والثنية ، والوجه الذي حكاه الرافعي أن جذع المعز يجزئ عند الشافعية غلط ، كما صرح به النووي . وأما مذهب أبي حنيفة : فهو كمذهب الشافعي ، وهو جواز التضحية بالجذع من الضأن خاصة ، وبالثني من غير الضأن وهو المعز والإبل والبقر .

وقال صاحب " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي " ، ما نصه : والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر عند الفقهاء ، وذكر الزعفراني : أنه ابن سبعة أشهر . والثني من الضأن ، والمعز ابن سنة ، ومن البقر : ابن سنتين ، ومن الإبل : ابن خمس سنين ، وفي القرب : الجذع من البهائم قبل الثني إلا أنه من الإبل قبل السنة الخامسة ، ومن البقر والشاة في السنة الثانية ، ومن الخيل في الرابعة ، وعن الزهري الجذع من المعز لسنة ، ومن الضأن لثمانية أشهر . انتهى منه .

[ ص: 212 ] والأصح : هو ما قدمنا في سن الجذع والثني عن الفقهاء ، وأهل اللغة ، ومذهب الإمام أحمد كمذهب أبي حنيفة والشافعي ، فلا يجوز عنده الجذع إلا من الضأن خاصة ، ولا يجوز من غير الضأن : إلا الثني ، والجذع من الضأن عندهم : ما له ستة أشهر ، ودخل في السابع ، وثني المعز عندهم : إذا تمت له سنة ، ودخل في الثانية ، وثني البقر عندهم : إذا تمت له سنتان ، ودخل في الثالثة ، وثني الإبل عندهم : إذا تمت له خمس سنين ، ودخل في السادسة . قاله ابن قدامة في " المغني " : وقال أيضا " قال الأصمعي ، وأبو زياد الكلابي ، وأبو زيد الأنصاري : إذا مضت السنة الخامسة على البعير ، ودخل في السادسة ، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني ، ونرى أنه إنما سمي ثنيا ; لأنه ألقى ثنيتيه . وأما البقرة فهي التي لها سنتان ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تذبحوا إلا مسنة " ومسنة البقر التي لها سنتان ، وقال وكيع : الجذع من الضأن يكون ابن سبعة أشهر . انتهى كلام " المغني " . وقد عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في السن التي تجزئ ضحية من بهيمة الأنعام ، وأنهم متفقون على إجزاء جذع الضأن والثني من غيره مع بعض الاختلاف ، الذي رأيت في سن الجذع والثني .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي : هو ما عليه جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وغيرهم : أنه لا يجزئ في الأضحية : الجذع إلا من الضأن خاصة ، ومن غير الضأن وهو المعز ، والإبل والبقر : لا يجزئ إلا الثني . فما فوقه . والذكر والأنثى سواء في الهدايا ، والأضاحي كما تقدم .

والتأويل الذي قدمنا عن النووي في حديث جابر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " ، أنه متعين بحمله على الاستحباب ، والأفضل يظهر لي أنه متعين كما قاله النووي ، والقرينة الصارفة عن ظاهر حديث جابر المذكور عند مسلم : هي أحاديث أخر جاءت من طرق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الجذع من الضأن يجزئ ، وظاهرها ولو كان المضحي قادرا على المسنة ، وسنذكرها هنا بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ; لأنه ذكرها في محل واحد ، فمنها ما رواه الإمام أحمد والترمذي ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " نعم أو نعمت الأضحية : الجذع من الضأن " ومنها ما رواه الإمام أحمد وابن ماجه ، عن أم بلال بنت هلال ، عن أبيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يجوز الجذع من الضأن ضحية " . ومنها ما رواه أبو داود وابن ماجه ، عن مجاشع بن سليم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية " ومنها ما رواه النسائي ، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال : " ضحينا [ ص: 213 ] مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجذع من الضأن " اهـ . بواسطة نقل المجد في " المنتقى " .

وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ، فتصلح بمجموعها للاحتجاج ، وتعتضد بأن عامة أهل العلم ، على العمل بها ، إلا ما نقل عن ابن عمر والزهري . وقد دل حديث جابر المذكور عند مسلم : على أن الجذع من غير الضأن لا يجزئ ، وهو كذلك ، وحديث البراء بن عازب الثابت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بردة : " ضح بجذعة من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، دليل : على أن جذع المعز لا يجزئ في الأضحية . قال البخاري في صحيحه : باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : " ضح بالجذع من المعز ولن تجزئ عن أحد بعدك " .

حدثنا مسدد ، حدثنا خالد بن عبد الله ، حدثنا مطرف ، عن عامر عن البراء بن عازب - رضي الله عنهما - ، قال : ضحى خال لي يقال له : أبو بردة ، قبل الصلاة فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " شاتك شاة لحم ، فقال : يا رسول الله ، إن عندي داجنا جذعة من المعز . قال : " اذبحها ولا تصلح لغيرك " انتهى منه . وفي لفظ للبخاري من حديث البراء : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " . وكذلك هي في بعض ألفاظ مسلم في حديث البراء المذكور : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " . وفي لفظ عند مسلم من حديث البراء : " ضح بها ولا تصلح لغيرك " . وفي لفظ له عنه : " ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك " .

والروايات بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لأبي بردة في التضحية بعناق جذعة من المعز وصرح : بأنها لا تجزئ عن أحد بعده معروفة في الصحيحين وغيرهما : وهي دليل على أن جذع المعز لا يجزئ . فمن قال من أهل العلم بأنه يجزئ رد قوله بهذا الحديث الصحيح ، المصرح بأن جذعة المعز لا تجزئ عن أحد بعد أبي بردة .

فإن قيل : جاء في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه - " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود ، فذكره للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : " ضح به أنت " ، وهذا لفظ البخاري في صحيحه ، وفي لفظ لمسلم عن عقبة بن عامر الجهني المذكور - رضي الله عنه - قال : " قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - فينا ضحايا فأصابني جذع ، فقلت : يا رسول الله ، أصابني جذع ، فقال : " ضح به " انتهى منه . وروايات هذا الحديث الصحيح ، عن عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يضحي بجذع المعز ; لأن العتود لا تطلق إلا على ولد المعز ، والروايات مصرحة بأن المذكور جذع . وقال ابن الأثير في " النهاية " : والعتود من ولد المعز إذا قوي ورعى ، وأتى عليه حول . وهذا حديث متفق عليه [ ص: 214 ] فيه الدلالة الصريحة على جواز التضحية بجذع المعز ، وذكر ابن حجر في " الفتح " أن البيهقي ذكر زيادة في حديث عقبة بن عامر المذكور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لعقبة : " ولا رخصة فيها لأحد بعدك " ، وقال ابن حجر : إن الطريق التي روى بها البيهقي الزيادة المذكورة صحيحة وإن حاول بعضهم تضعيفها .

فالجواب أن الجمع بين ما وقع لأبي بردة ، وعقبة بن عامر أشكل على كثير من أهل العلم ، ويزيده إشكالا ، أن الترخيص في الأضحية بجذع المعز ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - لجماعة آخرين . قال ابن حجر في " الفتح " : فقد أخرج أبو داود ، وأحمد ، وصححه ابن حبان من حديث زيد بن خالد : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عتودا جذعا ، فقال : " ضح به " . فقلت : إنه جذع أفأضحي ؟ قال : " نعم ضح به " ، فضحيت به ، لفظ أحمد إلى أن قال : وفي الطبراني في الأوسط ، من حديث ابن عباس : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سعد بن أبي وقاص جذعا من المعز فأمره أن يضحي به ، وأخرجه الحاكم من حديث عائشة ، وفي سنده ضعف ، ولأبي يعلى ، والحاكم من حديث أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هذا جذع من الضأن مهزول ، وهذا جذع من المعز سمين ، وهو خيرهما أفأضحي به ؟ قال : " ضح به ، فإن لله الخير " ، انتهى بواسطة نقل ابن حجر في " فتح الباري " .

وإذا عرفت أن في الأحاديث المذكورة إشكالا ، فاعلم أن الحافظ في " الفتح " تصدى لإزالة ذلك الإشكال ، فقال في موضع بعد سوقه الأحاديث التي ذكرنا ، والحق أنه لا منافاة بين هذه الأحاديث ، وبين حديثي أبي بردة وعقبة ; لاحتمال أن يكون ذلك في ابتداء الأمر ، ثم تقرر الشرع بأن الجذع من المعز لا يجزئ ، واختص أبو بردة وعقبة بالرخصة في ذلك . وإنما قلت ذلك : لأن بعض الناس زعم أن هؤلاء شاركوا أبا بردة وعقبة في ذلك ، والمشاركة إنما وقعت في مطلق الإجزاء لا في خصوص منع الغير . انتهى محل الغرض منه بلفظه . ومقصوده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل لأحد ممن رخص لهم في التضحية بجذع المعز : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " إلا لأبي بردة ، وعقبة بن عامر على ما رواه البيهقي ، والذين لم يقل لهم : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، لا إشكال في مسألتهم ; لاحتمال أنها قبل تقرر الشرع بعدم إجزاء جذع المعز ، فبقي الإشكال بين حديث أبي بردة ، وحديث عقبة . وقد تصدى لحله ابن حجر في " الفتح " أيضا ، فقال في موضع : وأقرب ما يقال فيه : إن ذلك صدر لكل منهما في وقت واحد ، أو تكون خصوصية الأول نسخت بثبوت الخصوصية للثاني ، ولا مانع من ذلك ; لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع لغيره [ ص: 215 ] صريحا انتهى محل الغرض منه . وقال في موضع آخر : وإن تعذر الجمع الذي قدمته ، فحديث أبي بردة أصح مخرجا ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما الجمع الذي ذكره ابن حجر ، فالظاهر عندي : أنه لا يصح . وقوله : لأنه لم يقع في السياق استمرار المنع غلط منه - رحمه الله - ، بل وقع في السياق التصريح باستمرار المنع ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، صريح في استمرار منع الإجزاء عن غيره ; لأن لفظة " لن " ، تدل على نفي الفعل في المستقبل من الزمن ، فهي دليل صريح على استمرار عدم الإجزاء عن غيره ، في المستقبل من الزمن ويؤيد ذلك أن قوله : " عن أحد بعدك " ، نكرة في سياق النفي ، فهي تعم كل أحد في كل وقت كما ترى .

والصواب : الترجيح بين الحديثين ، وحديث أبي بردة لا شك أن لفظة : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، فيه أصح سندا من زيادة نحو ذلك في حديث عقبة ، فيجب تقديم حديث أبي بردة على حديث عقبة ، كما ذكره ابن حجر في كلامه الأخير ، والله تعالى أعلم .

فإن قيل : ذكر جماعة من علماء العربية أن لفظة : لن : لا تدل على تأبيد النفي . قال ابن هشام في " المغني " في الكلام على لن : ولا تفيد توكيد النفي ، خلافا للزمخشري في كشافه ، ولا تأبيده خلافا له في أنموذجه ، وكلاهما دعوى بلا دليل ، قيل : ولو كانت للتأبيد ، لم يقيد منفيها باليوم في : فلن أكلم اليوم إنسيا [ 19 \ 26 ] ، ولكان ذكر الأبد في : ولن يتمنوه أبدا [ 2 \ 95 ] ، تكرارا والأصل عدمه انتهى محل الغرض منه .

فالجواب أن قول الزمخشري بإفادة لن : التأبيد يجب رده ; لأنه يقصد به استحالة رؤية الله تعالى يوم القيامة زاعما أن قوله لموسى : لن تراني [ 7 \ 143 ] ، تفيد فيه لفظة لن تأبيد النفي ، فلا يرى الله عنده أبدا لا في الدنيا ، ولا في الآخرة . وهذا مذهب معتزلي معروف باطل ترده النصوص الصحيحة في القرآن والأحاديث الصحيحة الكثيرة التي لا مطعن في ثبوتها . وقد بينا مرارا أن رؤية الله تعالى بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة . ولو كانت ممنوعة عقلا في الدنيا لما قال نبي الله موسى : رب أرني أنظر إليك [ 7 \ 143 ] ; لأنه لا يجهل المحال في حق خالقه تعالى ، وأنها ممنوعة شرعا في الدنيا ثابتة الوقوع في الآخرة ، وإفادة لن التأبيد التي زعمها الزمخشري في الآية تردها [ ص: 216 ] النصوص الصحيحة الصريحة في الرؤية في الآخرة ، ولا ينافي ذلك أن تفيد لن التأبيد في موضع لم يعارضها فيه نص .

وبالجملة فقد اختلف أهل العربية في إفادة لن تأبيد النفي حيث لم يصرف عنه صارف ، وعدم إفادتها لذلك ، فعلى القول : بأنها تفيد التأبيد فقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة : " ولن تجزئ عن أحد بعدك " ، يدل على تأبيد نفي الإجزاء ، كما ذكرنا وعلى عدم اقتضائها التأبيد ، فلا تقل عن الظهور فيه ، حتى يصرف عنه صارف ، وبذلك كله تعلم أن الجمع بين حديث أبي بردة ، وحديث عقبة بن عامر ، كالمتعذر فيجب الترجيح ، وحديث أبي بردة : أرجح . والعلم عند الله تعالى .

وهذا الذي ذكرنا في هذا الفرع هو حاصل كلام أهل العلم في السن التي تجزئ في الضحايا .
الفرع الرابع : اعلم أنه لا يجوز في الأضحية إلا بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز بأنواعها ; لقوله تعالى : ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام [ 22 \ 28 ] ، فلا تشرع التضحية بالظباء ولا ببقرة الوحش وحمار الوحش مثلا .

وقال النووي في " شرح المهذب " : ولا تجزئ بالمتولد من الظباء والغنم ; لأنه ليس من بهيمة الأنعام . اهـ .

والظاهر أنه كذلك كما عليه جماهير أهل العلم ، فما روي عن الحسن بن صالح من أن بقرة الوحش تجزئ عن سبعة ، والظبي عن واحد ، خلاف التحقيق . وعن أصحاب الرأي أن ولد البقرة الإنسية يجزئ ، وإن كان أبوه وحشيا وعن أبي ثور : يجزئ إن كان منسوبا إلى بهيمة الأنعام . والأظهر أن المتولد من بين ما يجزئ ، وما لا يجزئ ، لا يجزئ بناء على قاعدة تقديم الحاظر على المبيح . ومعلوم أنها خالف فيها بعض أهل الأصول ، وعلى كل حال ، فالأحوط أن لا يضحي إلا ببهيمة الأنعام ; لظاهر الآية الكريمة .
الفرع الخامس : اعلم أن أكثر أهل العلم على أن أفضل أنواع الأضحية : البدنة ، ثم البقرة ، ثم الشاة ، والضأن ، أفضل من المعز . وسيأتي الكلام على حكم الاشتراك في الأضحية ببدنة ، أو بقرة إن شاء الله . وكون الأفضل : البدنة ، ثم البقرة ، ثم شاة الضأن ، ثم شاة المعز . قال النووي في " شرح المهذب " : هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ، وأحمد ، وداود . وقال مالك : أفضلها الغنم ثم البقر ، ثم الإبل . قال : والضأن أفضل من المعز ، [ ص: 217 ] وإناثها أفضل من فحول المعز ، وفحول الضأن خير من إناث المعز ، وإناث المعز خير من الإبل والبقر . وقال بعض أصحاب مالك : الإبل أفضل من البقر .

فإذا عرفت أقوال أهل العلم في أفضل ما يضحى به من بهيمة الأنعام ، فاعلم أن الجمهور الذين قالوا البدنة أفضل ، ثم البقرة ، ثم الشاة احتجوا بأدلة : منها أن البدنة أعظم من البقرة ، والبقرة أعظم من الشاة . والله تعالى يقول : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب الآية [ 22 \ 32 ] .

ومنها ما قدمنا ثابتا في الصحيح أن البقرة والبدنة كلتاهما تجزئ عن سبعة في الهدي ، فكل واحدة منهما تعدل سبع شياه . وكونها تعدل سبع شياه ، دليل واضح على أنها أفضل من شاة واحدة .

ومنها ما رواه الشيخان والإمام أحمد وأصحاب السنن ، غير ابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ، ثم راح فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة ، فكأنما قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة ، فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة ، فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر " ، اهـ . قالوا : ففي هذا الحديث الصحيح الدلالة الواضحة ، على أن البدنة أفضل ، ثم البقرة ، ثم الكبش الأقرن ، ووجهه ظاهر . واحتج مالك ، وأصحابه : على أن التضحية بالغنم أفضل : بأنه صلى الله عليه وسلم كان يضحي بالغنم لا بالإبل ، ولا بالبقر . وقد قدمنا الأحاديث بتضحيته بكبشين أقرنين أملحين ، وتضحيته بكبش أقرن يطأ في سواد ، ويبرك في سواد ، وينظر في سواد ، وكلها ثابتة في الصحيح كما قدمنا أسانيدها ومتونها . قالوا : وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يضحي مكررا ذلك عاما بعد عام ، إلا بما هو الأفضل في الأضحية . فلو كانت التضحية بالإبل والبقر لفعل - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأفضل .

قالوا فإن قيل : أهدى في حجته الإبل ، ولم يهد الغنم .

فالجواب : أنه أهدى الغنم أيضا فبعث بها إلى البيت ، ولو سلمنا أن الإبل أفضل في الهدي ، فلا نسلم أنها أفضل في الأضحية ، والمالكية لا ينكرون أفضلية الإبل في الهدي ، وإنما يقولون : إن الغنم أفضل في الأضحية ، ولكل من الغنم والإبل فضل من جهة ; فالإبل أفضل من حيث كثرة لحمها ، والغنم أفضل ، من حيث إن لحمها أطيب ، وألذ . وعند [ ص: 218 ] المالكية : فلا مانع من أن يراعي كل واحد من الوصفين في نوع من أنواع النسك ، ودليل الجمهور ظاهر . لكن دليل المالكية أخص في محل النزاع ; لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضح إلا بالغنم ، والخير كله في اتباعه في أقواله وأفعاله ، وما جاء عنه من تفضيل البدنة ، ثم البقرة ، ثم الكبش الأقرن ، لم يأت في خصوص الأضحية . ولكن فعله - صلى الله عليه وسلم - في خصوص الأضحية والله تعالى يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .

والحاصل أن لكل من القولين وجها من النظر . والله تعالى أعلم بالصواب .

واعلم أن الجمهور أجابوا عن دليل مالك بأن تضحيته - صلى الله عليه وسلم - بالغنم ، لبيان الجواز ، أنه لأنه لم يتيسر له في ذلك الوقت بدنة ولا بقرة ، وإنما تيسرت له الغنم هكذا قالوا . وظاهر الأحاديث تكرر تضحيته صلى الله عليه وسلم بالغنم ، وقد يدل ذلك على قصده الغنم دون غيرها ; لأنه لو لم يتيسر له إلا الغنم سنة ، فقد يتيسر له غيرها في سنة أخرى . والله تعالى أعلم .

فإن قيل : روى البيهقي عن ابن عمر كان - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالجزور أحيانا وبالكبش إذا لم يجد الجزور .

فالجواب أن الزرقاني في " شرح الموطأ " قال ما نصه : وحديث البيهقي عن ابن عمر : " كان - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالجزور أحيانا ، وبالكبش إذا لم يجد الجزور " . ضعيف . في سنده عبد الله بن نافع ، وفيه مقال . انتهى منه . وقد روى البيهقي في " السنن الكبرى " ، عن أبي أمامة ، وعبادة بن الصامت - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " خير الضحايا الكبش الأقرن " انتهى منه . وقد ذكر النووي أن فيه ضعفا ، ولا شك أنه تقويه الأحاديث الصحيحة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم - بالمداومة على التضحية بالكبشين الأقرنين ، أو الكبش الأقرن . كما تقدم إيضاحه .
الفرع السادس : اعلم أن جمهور أهل العلم : أجازوا اشتراك سبعة مضحين في بدنة أو بقرة ، بأن يشتروها مشتركة بينهم ، ثم يهدوا بها ، أو يضحوا بها عن كل واحد سبعها .

وقد قدمنا النصوص الصريحة بذلك في الهدي ، والظاهر عدم الفرق في ذلك بين الهدي ، والأضحية .

وخالف مالك وأصحابه الجمهور ، فقالوا : لا يجوز ذبح بدنة مشتركة ، ولا بقرة ، وإنما يملكها واحد فيشرك غيره معه في الأجر . أما اشتراكهم في ملكها ، فلا يجزئ عند مالك لا في الأضحية ولا في الهدي الواجب ، وكذلك هدي التطوع خلافا لأشهب من أصحابه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-09-27, 01:17 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (370)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 219 إلى صـ 226


[ ص: 219 ] واعلم أن مالكا - رحمه الله - حمل أحاديث اشتراك السبعة في البدنة والبقرة ، على الاشتراك في الأجر ، بأن يكون المالك واحدا ، ويشرك غيره معه في الأجر لا في ملك الرقبة ، وظاهر الأحاديث فيه الدلالة الواضحة على الاشتراك في الملك . وأجاز مالك للرجل : أن يضحي بالشاة الواحدة ، ويشرك معه أهله في الأجر .

وقد قدمنا في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح كبشا وقال : " اللهم تقبل من محمد وآل محمد " .

والحاصل أن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز اشتراك مالكين في شاة الأضحية ، أما كون المالك واحدا فيضحي عن نفسه بالشاة وينوي اشتراك أهل بيته معه في الأجر ، وأن ذلك يتأدى به الشعار الإسلامي عنهم جميعا ، فلا ينبغي أن يختلف فيه ; لدلالة النصوص الصحيحة عليه ، كالحديث المذكور آنفا وغيره ، كحديث أبي أيوب الأنصاري : كان الرجل في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحي بالشاة عنه ، وعن أهل بيته ، فيأكلون ويطعمون ، حتى تباهى الناس ، فصار كما ترى . قال في " المنتقى " : رواه ابن ماجه ، والترمذي ، وصححه ، وقال شارحه في " النيل " : وأخرجه مالك في " الموطأ " إلى غير ذلك من الأحاديث ، والاشتراك المذكور في الأجر في الشاة الواحدة يصح ولو كانوا أكثر من سبعة ، كما هو ظاهر النص ، وكما صرح به المالكية وغيرهم واشترط المالكية لذلك شروطا ثلاثة . وهي سكناهم مع المضحي ، وقرابتهم منه ، وإنفاقه عليهم ، وإن تبرعا . ولا أعلم لهذه الشروط مستندا من الوحي إلا أن يكون يراد بها تحقيق المناط في مسمى الأهل ، وأن أهل الرجل هم ما اجتمع فيهم الأوصاف الثلاثة ، ولا تساعد على الشروط المذكورة في جميع النسك الأحاديث المتقدمة باشتراك كل سبعة من الصحابة في بدنة أو بقرة في عمرة الحديبية وفي الحج ; لأن ذلك الاشتراك عند مالك في الأجر لا في الرقبة ، وظاهر الأحاديث أنهم لم تجتمع فيهم الشروط المذكورة ، والعلم عند الله تعالى .

وما ذكرنا من التضحية بالشاة الواحدة عن المضحي وأهله . قال ابن قدامة في " المغني " : نص عليه أحمد ، وبه قال مالك ، والليث والأوزاعي ، وإسحاق ، وروي ذلك عن ابن عمر ، وأبي هريرة ، ثم قال : وكره ذلك الثوري ، وأبو حنيفة ; لأن الشاة لا تجزئ عن أكثر من واحد فإذا اشترك فيها اثنان لم تجزئ عنهما انتهى منه . والحديث المتفق عليه المذكور : حجة على من خالفه .
الفرع السابع : اعلم أنا قدمنا وقت الأضحية والهدي وأقوال أهل العلم في ذلك ، بما [ ص: 220 ] أغنى عن إعادته هنا ، وقد قدمنا حديث أم سلمة ، عند مسلم المقتضي أن من أراد أن يضحي لا ينبغي له أن يحلق شيئا من شعره ، ولا أن يقلم شيئا من أظفاره في عشر ذي الحجة ، حتى يضحي ، وظاهر الحديث : تحريم ذلك ; لأن في لفظ الحديث عند مسلم ، عن أم سلمة عنه - صلى الله عليه وسلم - : " فلا يأخذن شعرا ، ولا يقلمن ظفرا " . وفي لفظ له عنها ، عنه - صلى الله عليه وسلم - : " فلا يمس من شعره وبشره شيئا " وفي الألفاظ المذكورة في الحديث الصحيح النهي عن حلق الشعر ، وتقليم الأظفار في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي ، والنهي يقتضي التحريم إلا لصارف عنه يجب الرجوع إليه كما تقرر في الأصول ، وقال الشافعية والمالكية ، ومن وافقهم : إن الحلق وتقليم الأظفار مكروه كراهة تنزيه لا تحريم ; لأن المضحي ليس بمحرم .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحريم أظهر لظاهر الحديث ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - يقول : "وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " ، والتحريم المذكور لظاهر النص وجه للشافعية ، قال النووي : حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم ، وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث ، وحكى الشيخ المواق في شرحه لخليل ، عن أحمد ، وإسحاق : تحريم الحلق ، وتقليم الأظافر في عشر ذي الحجة لمريد التضحية ، وقال ابن قدامة في " المغني " : قال بعض أصحابنا : بالتحريم ، وحكاه ابن المنذر عن أحمد ، وإسحاق ، وسعيد بن المسيب ، وقال القاضي ، وجماعة من أصحابنا : هو مكروه غير محرم ، وبه قال مالك والشافعي ; لقول عائشة : " كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يقلدها بيده " ، ولا يحرم عليه شيء أحله الله له ، حتى ينحر الهدي متفق عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يكره ذلك ; لأنه لا يحرم عليه الوطء واللباس ، فلا يكره له حلق الشعر ، وتقليم الأظفار ، كما لو لم يرد أن يضحي . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وأظهر شيء في محل النزاع وأصرح وأخصه فيه : حديث أم سلمة ، وظاهره التحريم . وقال النووي في " شرح المهذب " : مذهبنا أن إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية : مكروه كراهة تنزيه ، حتى يضحي ، وقال مالك وأبو حنيفة : لا يكره ، وقال سعيد بن المسيب ، وأحمد ، وربيعة ، وإسحاق ، وداود : يحرم ، وعن مالك : أنه يكره ، وحكى عنه الدارمي يحرم في التطوع ، ولا يحرم في الواجب ، ثم ذكر الدليلين المذكورين للقولين .

وقد ذكرنا آنفا أن أخصهما في محل النزاع ظاهره التحريم : وهو حديث أم سلمة ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 221 ] الفرع الثامن : أجمع العلماء على إجزاء الذكر والأنثى . واختلفوا أيهما أفضل ، وظاهر النصوص الصحيحة أن ذكور الضأن خير من إناثها ; لتضحيته بالكبش دون النعجة ، وبعضهم قال : بأفضلية الذكور مطلقا ، وبعضهم قال : بأفضلية الإناث مطلقا ولم يقم دليل صحيح في غير ذكر الضأن فلا ينبغي أن يختلف في ذكر الضأن أنه أفضل من أنثاه .
الفرع التاسع : اعلم أن منع ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث منسوخ . فقد دلت الأحاديث الصحيحة ، على أنه - صلى الله عليه وسلم - منع ادخار لحم الأضاحي بعد ثلاث ، ومنع المضحي بأن يأكل من أضحيته ، بعد ثلاث ، ثم نسخ ذلك ، وصار الأكل والادخار منها مباحا مطلقا . وسنذكر هنا إن شاء الله طرفا من الأحاديث الصحيحة الدالة على المنع المذكور أولا ، وعلى نسخه وإباحة ذلك مطلقا .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو عاصم ، عن يزيد بن أبي عبيد ، عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة ، وبقي في بيته منه شيء " ، فلما كان العام المقبل قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، نفعل كما فعلنا العام الماضي ؟ قال : " كلوا وأطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيها " ، وحديث سلمة بن الأكوع هذا أخرجه أيضا مسلم في صحيحه قريبا من لفظ البخاري .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عبد الجبار بن العلاء ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري ، عن أبي عبيد قال : شهدت العيد مع علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، وقال : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث " . وفي لفظ لمسلم ، عن علي أنه قال : " إنه - صلى الله عليه وسلم - قد نهاكم أن تأكلوا لحوم نسككم فوق ثلاث ليال فلا تأكلوا " .

وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يأكل أحدكم من لحم أضحيته فوق ثلاثة أيام " . وفي لفظ له عنه : " أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث " ، ثم قال : قال سالم : فكان ابن عمر لا يأكل لحوم الأضاحي فوق ثلاث . وفي لفظ : بعد ثلاث .

وفي لفظ لمسلم ، عن عبد الله بن واقد قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ، فقال عبد الله بن أبي بكر : فذكرت ذلك لعمرة فقالت : صدق ، [ ص: 222 ] سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول : دف أهل أبيات من أهل البادية صفرة الأضحى زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ادخروا ثلاثا ، ثم تصدقوا بما بقي " ، فلما كان بعد ذلك قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم ، ويجملون منها الودك . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ قالوا نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال : " إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وادخروا وتصدقوا " .

وفي لفظ لمسلم عن جابر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنه نهى عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث ، ثم قال بعد : " كلوا وتزودوا وادخروا " .

وفي لفظ لمسلم عن عطاء ، عن جابر أيضا ، أنه قال : كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث في منى ، فأرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كلوا وتزودوا " ، قلت لعطاء : قال جابر : حتى جئنا المدينة ؟ قال : نعم .

وفي لفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - ، قال : كنا لا نمسك لحوم الأضاحي ، فوق ثلاث ، فأمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتزود منها ، ونأكل يعني : فوق ثلاث ، وفي لفظ له عنه : كنا نتزودها إلى المدينة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفي لفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يا أهل المدينة ، لا تأكلوا لحوم الأضاحي فوق ثلاث " ، وقال ابن المثنى : ثلاثة أيام ، فشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لهم عيالا وحشما وخدما فقال : " كلوا وأطعموا واحبسوا وادخروا " ، قال ابن المثنى : شك عبد الأعلى .

وفي لفظ لمسلم ، عن ثوبان - رضي الله عنه - قال : " ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحية ، ثم قال : " يا ثوبان ، أصلح لهم هذه " ، فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة " .

وفي بعض ألفاظ حديث ثوبان ، هذا عند مسلم أن ذلك في حجة الوداع .

وفي لفظ لمسلم ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا " انتهى منه .

فكل هذه الألفاظ الثابتة بالأسانيد الصحيحة في مسلم ، وبعضها في البخاري فيها الدلالة الصحيحة الصريحة أن تحريم الادخار ، والأكل من لحوم الأضاحي ، فوق ثلاث : أنه [ ص: 223 ] منسوخ ، وأن ذلك جائز مطلقا ، وفي بعض الروايات : تعليل ذلك النهي الموقت بمجيء بعض الفقراء من البادية ، وهم المعبر عنهم في الحديث بالدافة .

قال ابن الأثير في " النهاية " : الدافة القوم يسيرون جماعة سيرا ليس بالشديد . يقال لهم : يدفون دفيفا ، والدافة قوم من الأعراب يردون المصر ، يريد أنهم قدموا المدينة عند الأضحى ، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ، ليفرقوها ويتصدقوا بها ، فينتفع أولئك القادمون بها . انتهى من " النهاية " .

تنبيه

في هذا الحديث دليل لمن قال من أهل الأصول : باشتراط انعكاس العلة في صحتها ; لأن علة تحريم ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث : هي وجود دافة فقراء البادية ، الذين دفوا عليهم . ولما زالت هذه العلة زال الحكم معها ، ودوران الحكم مع علته في العدم ، هو المعروف في الاصطلاح بانعكاسها . والمقرر في الأصول أن محل القدح في العلة بعدم انعكاسها فيما إذا كانت علة الحكم واحدة ، لا إن كانت له علل متعددة ، فلا يقدح في واحدة منها بعدم العكس ; لأنه إذا انعدمت واحدة منها ثبت الحكم بالعلة الأخرى ، كالبول ، والغائط ، لنقض الوضوء مثلا . فإن البول يكون معدوما وعلة النقض ثابتة بخروج الغائط ، وهكذا . وكذلك مع كونها علة واحدة لا بد أيضا في القدح فيها ، بعدم العكس من عدم ورود دليل ببقاء الحكم مع ذهاب العلة ، فإن دل دليل على بقاء الحكم ، مع انتفاء العلة ، فلا يقدح فيها بعدم العكس ، كالرمل في الأشواط الأول من الطواف ، فإن علته هي أن يعلم المشركون أن الصحابة أقوياء ولم تضعفهم حمى يثرب . وهذه العلة قد زالت مع أن حكمها وهو الرمل في الأشواط المذكورة باق لوجود الدليل على بقائه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - رمل في حجة الوداع ، والعلة المذكورة معدومة قطعا زمن حجة الوداع كما قدمنا إيضاحه ، وإلى هذه المسألة أشار صاحب " مراقي السعود " في مبحث القوادح بقوله :

وعدم العكس مع اتحاد يقدح دون النص بالتمادي

الفرع العاشر : أظهر قولي أهل العلم عندي : هو نسخ الأمر بالفرع والعتيرة . ونقل النووي في شرحه لمسلم ، عن عياض أن جماهير العلماء على نسخ الأمر بالفرع ، والعتيرة . وذكر النووي أيضا في شرحه لمسلم أن الصحيح عند علماء الشافعية : استحباب الفرع والعتيرة قال : وهو نص الشافعي .

[ ص: 224 ] والدليل عندنا على أن الأظهر هو نسخهما : هو ثبوت ما يدل على ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وعمرو الناقد ، وزهير بن حرب ، قال يحيى : أخبرنا . وقال الآخرون : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ح ) ، وحدثني محمد بن رافع ، وعبد بن حميد ، قال عبد : أخبرنا . وقال ابن رافع : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا فرع ولا عتيرة " ، زاد ابن رافع في روايته : والفرع : أول النتاج ، كان ينتج لهم فيذبحونه اهـ من صحيح مسلم . وهذا الإسناد في غاية الصحة من طريقيه كما ترى . وفيه : تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا فرع . والعتيرة والفرع بالفاء والراء المفتوحتين بعدهما عين مهملة ، جاء تفسيره ، عن ابن رافع كما ذكره عنه مسلم فيما رأيت . وقال النووي : قال الشافعي ، وأصحابه وآخرون : الفرع هو أول نتاج البهيمة ، كانوا يذبحونه ، ولا يملكونه رجاء البركة في الأم ، وكثرة نسلها ، وهكذا فسره كثيرون من أهل اللغة وغيرهم ، وقال كثيرون منهم : هو أول النتاج كانوا يذبحونه لآلهتهم : وهي طواغيتهم . وكذا جاء في هذا التفسير في صحيح البخاري ، وسنن أبي داود وقيل : هو أول النتاج لمن بلغت إبله مائة يذبحونه . وقال شمر : قال أبو مالك : كان الرجل إذا بلغت إبله مائة قدم بكرا فنحره لصنمه ، ويسمونه الفرع . انتهى محل الغرض منه .

وأما العتيرة بعين مهملة مفتوحة ، ثم تاء مثناة من فوق فهي : ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب ، ويسمونها الرجبية أيضا ، وحديث مسلم هذا الذي ذكرنا صريح في نسخ الأمر بها ; لأن قوله : " لا فرع ولا عتيرة " نفي أريد به النهي ، فيما يظهر كقوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ 2 \ 197 ] ، أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ، وعليه فيكون المعنى : لا تعملوا عمل الجاهلية في ذبح الفرع والعتيرة ، ولو قدرنا أن الصيغة نافية ، فالظاهر أن المعنى : لا فرع ولا عتيرة مطلوبان شرعا ، ونسخهما هو الأظهر عندنا للحديث الصحيح كما رأيت . ومن زعم بقاء مشروعيتهما ، واستحبابهما فقد استدل ببعض الأحاديث على ذلك ، وسنذكر حاصلها بواسطة نقل النووي ; لأنه جمعها في محل واحد ، فقال منها : حديث نبيشة - رضي الله عنه - قال : نادى رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب ، فقال : " اذبحوا لله في أي شهر كان ، وبروا الله عز وجل وأطعموا " ، قال : إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية ، فما تأمرنا ؟ فقال : " في كل [ ص: 225 ] سائمة فرع تغذوه ماشيتك حتى إذا استحمل ذبحته فتصدقت بلحمه " ، رواه أبو داود ، وغيره بأسانيد صحيحة . وقال ابن المنذر : هو حديث صحيح . قال أبو قلابة ، أحد رواة هذا الحديث : السائمة مائة . ورواه البيهقي بإسناده الصحيح ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفرعة من كل خمسين واحدة . وفي رواية : من كل خمسين شاة شاة . قال ابن المنذر : حديث عائشة صحيح ، وفي سنن أبي داود ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، قال الراوي : أراه عن جده . قال سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الفرع ، فقال : " الفرع حق ، وإن تركوه حتى يكون بكرا أو ابن مخاض أو ابن لبون ، فتعطيه أرملة أو تحمل عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ إناءك وتوله ناقتك " ، قال أبو عبيد في تفسير هذا الحديث : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الفرع حق ، ولكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه " ، ولذا قال : " تذبحه ، فيلزق لحمه بوبره " ، وفيه أن ذهاب ولدها يدفع لبنها ، ولهذا قال : " خير من أن تكفأ " يعني : أنك إذا فعلت ذلك ، فكأنك كفأت إناءك وأرقته . وأشار به إلى ذهاب اللبن ، وفيه : أنه يفجعها بولدها ، ولهذا قال : " وتوله ناقتك " فأشار بتركه ، حتى يكون ابن مخاض ، وهو ابن سنة ، ثم يذهب وقد طاب لحمه واستمتع بلبن أمه ، ولا تشق عليها مفارقته ; لأنه استغنى عنها . هذا كلام أبي عبيد . وروى البيهقي بإسناده عن الحارث بن عمر قال : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ، أو قال : بمنى ، وسأله رجل عن العتيرة ؟ فقال : " من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ، ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع " ، وعن أبي رزين قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إنا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب ، فنأكل منها ، ونطعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا بأس بذلك " ، وعن أبي رملة ، عن مخنف بن سليم قال : كنا وقوفا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات ، فسمعته يقول : " يا أيها الناس ، إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل تدري ما العتيرة ؟ هي التي تسمى الرجبية " ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . قال الترمذي : حديث حسن . وقال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج ; لأن أبا رملة مجهول ، هذا مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة اهـ كلام النووي .

وقد قدمنا الكلام مستوفى على حديث مخنف بن سليم المقتضي : أن على كل أهل بيت في كل عام : أضحية وعتيرة ، وقد علمت حجج الفريقين في الفرع والعتيرة .

وقد قدمنا أن الأظهر عندنا فيهما : النسخ ، ويترجح ذلك بأمور : منها أن حديث مسلم المصرح بذلك أصح من جميع الأحاديث المذكورة في الباب .

[ ص: 226 ] ومنها أن أكثر أهل العلم على النسخ في ذلك ، كما ذكره النووي عن عياض .

ومنها أن ذلك كان من فعل الجاهلية ، وكانوا يتقربون بهما [ لطواغيتهما ] ، وللمخالف أن يقول في هذا الأخير : إن المسلمين يتقربون بهما لله ويتصدقون بلحومهما . ولم نستقص أقوال أهل العلم في المسألة لقصد الاختصار ، لطول الكلام في موضوع آيات الحج هذه .
الفرع الحادي عشر : اعلم أن المعيبة لا تجوز التضحية بها ، ولا تجزئ . والأصل في ذلك ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والبيهقي ، والحاكم عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - ، وصححه الترمذي . وقال النووي في حديث البراء : صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم ، بأسانيد حسنة قال أحمد بن حنبل : ما أحسنه من حديث . وقال الترمذي : حديث حسن صحيح . قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أربع لا تجزئ في الأضاحي : العوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعرجاء البين ضلعها ، والعجفاء التي لا تنقي " . وفي رواية : " والكسير التي لا تنقي " ، والتي لا تنقي هي التي لا مخ فيها ; لأن النقي بكسر النون المشددة ، وسكون القاف المخ . فقول العرب : أنقت تنقي إنقاء : إذا كان لها مخ ومنه قول كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه :

يبيت الندى يا أم عمرو ضجيعه إذا لم يكن في المنقيات حلوب وقول الآخر :



ولا يسرق الكلب السروق نعالنا ولا ينتقي المخ الذي في الجماجم
وقال ابن الأثير في " النهاية " : والكسير : التي لا تنقى ، أي التي لا مخ فيها لضعفها وهزالها . وقوله في الحديث : " البين ضلعها " أي : عرجها كما هو واضح ، والضلع بفتح الضاد ، واللام ، وقد جاء في الحديث عن علي - رضي الله عنه - قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والأذن ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء " . قال المجد في " المنتقى " : ورواه الخمسة ، وصححه الترمذي . ومراده بالخمسة الإمام أحمد ، وأصحاب السنن الأربعة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:06 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (371)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 227 إلى صـ 234



وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : في حديث علي المذكور : أخرجه أيضا البزار وابن حبان والحاكم والبيهقي . وأعله الدارقطني ، والمقابلة والمدابرة : كلتاهما بفتح الباء بصيغة اسم المفعول ، والمقابلة : هي التي قطع شيء من مقدم أذنها ولم ينفصل ، بل بقي لاصقا بالأذن متدليا ، والمدابرة : هي التي قطع شيء من مؤخر أذنها على نحو [ ص: 227 ] ما ذكرنا فيما قبلها ، والخرقاء : التي في أذنها خرق مستدير ، والشرقاء : مشقوق الأذن اهـ . وضابط ما يمنع الإجزاء هو ما ينقص اللحم . وقال النووي في " شرح المهذب " : أجمعوا على أن العمياء لا تجزئ ، وكذلك العوراء البين عورها ، والعرجاء البين عرجها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء .

واختلفوا في ذاهبة القرن ومكسورته فمذهبنا : أنها تجزئ . قال مالك : إن كانت مكسورة القرن ، وهو يدمى لم تجزه ، وإلا فتجزئه . وقال أحمد : إن ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه ، سواء دميت أم لا ، وإن كان دون النصف أجزأته . وأما مقطوعة الأذن ، فمذهبنا : أنها لا تجزئ ، سواء قطع كلها أو بعضها . وبه قال مالك ، وداود وقال أحمد : إن قطع أكثر من النصف لم تجزه ، وإلا فتجزئه . وقال أبو حنيفة : إن قطع أكثر من الثلث لم تجزه وقال أبو يوسف ، ومحمد : إن بقي أكثر من نصف أذنها : أجزأت ، وأما مقطوعة بعض الألية : فلا تجزئ عندنا ، وبه قال مالك وأحمد ، وقال أبو حنيفة في رواية : إن بقي الثلث أجزأت ، وفي رواية : إن بقي أكثرها أجزأت ، وقال داود : تجزئ بكل حال . انتهى محل الغرض من كلام النووي .

ومعلوم أن هناك روايات أخر لم يذكرها عن الأئمة الذين نقل عنهم ولم نستقص هنا أقوال أهل العلم ; لأن باب الأضحية جاء في هذا الكتاب استطرادا ، مع أن الكلام في آيات الحج طال كثيرا ; ولذلك اكتفينا هنا بهذه الجمل التي ذكرنا من أحكام الأضاحي .
مسألة

اعلم أنه لما كانت العمرة قرينة الحج في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله [ 2 \ 196 ] ، وقوله : فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] ، وقوله : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج [ 2 \ 196 ] ، أردنا أن نذكر هنا حكم العمرة على سبيل الاختصار استطرادا ، والعمرة في اللغة الزيارة .

ومنه قول الراجز :

لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وخبر وهي في الشرع : زيارة بيت الله للنسك المعروف المتركب من إحرام ، وطواف وسعي وحلق أو تقصير .

واعلم أن العلماء أجمعوا على أن من أحرم بالعمرة ، وجب عليه إتمامها ، ولا [ ص: 228 ] يجوز له قطعها وعدم إتمامها ، لقوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله .

أما حكم استئناف فعلها ، فقد اختلف فيه أهل العلم ، فذهب بعضهم : إلى أنها واجبة في العمر كالحج ، وذهب بعضهم : إلى أنها غير واجبة أصلا ، ولكنها سنة في العمر مرة واحدة ، وممن قال : بأنها فرض في العمر مرة : الشافعي في الصحيح من مذهبه . قال النووي : وبه عمر ، وابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وطاوس ، وعطاء ، وابن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والشعبي ، ومسروق ، وأبو بردة بن أبي موسى الحضرمي ، وعبد الله بن شداد ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وداود .

وممن قال : بأنها سنة في العمر ليست بواجبة : مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة ، وأبو ثور ، وحكاه ابن المنذر وغيره ، عن النخعي قاله النووي . وقال ابن قدامة في " المغني " : وتجب العمرة على من يجب عليه الحج في إحدى الروايتين . وروي ذلك عن عمر ، وابن عباس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، والشعبي . وبه قال الثوري ، وإسحاق ، والشافعي في أحد قوليه . والرواية الثانية ليست بواجبة ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وبه قال مالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي انتهى محل الغرض منه .

وإذا علمت أقوال العلماء في العمرة : هل هي فرض في العمر ، أو سنة ؟ فدونك أدلتهم ، ومناقشتها باختصار مع بيان ما يظهر رجحانه منها .

أما الذين قالوا : العمرة فرض في العمر ، فقد احتجوا بأحاديث :

منها : حديث أبي رزين العقيلي ، وقد قدمنا الكلام عليه مستوفى وهو أنه : " أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن أبي شيخ كبير ، لا يستطيع الحج ، ولا العمرة ولا الظعن ، فقال : " حج عن أبيك واعتمر " ، رواه أحمد وأصحاب السنن ، وصححه الترمذي ، ومحل الدليل منه قوله : " واعتمر " ; لأنه صيغة أمر بالعمرة ، مقرونة بالأمر بالحج ، فأفادت صيغة الأمر الوجوب كما أوضحنا توجيه ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك ، وذكر غير واحد عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه قال : لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا ولا أصح .

ومن أدلتهم على وجوبها قوله تعالى : وأتموا الحج والعمرة لله الآية ، بناء على أن المراد بإتمامها في الآية ابتداء فعلها على الوجه الأكمل ، لا إتمامها بعد الشروع ، [ ص: 229 ] وقد قدمنا الكلام في الآية بما أغنى عن إعادته هنا .

وأن الظاهر أن المتبادر منها : وجوب الإتمام بعد الشروع من غير تعرض إلى حكم ابتداء فعلها .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما رواه الدارقطني من حديث زيد بن ثابت : " الحج والعمرة فريضتان ، لا يضرك أيهما بدأت " اهـ .

ومن أدلتهم على وجوب العمرة : ما جاء في بعض روايات حديث في سؤال جبريل : " وأن تحج وتعتمر " ، أخرجه ابن خزيمة ، وابن حبان ، والدارقطني ، وغيرهم . ورواه المجد في " المنتقى " ، بلفظ قال : " يا محمد ما الإسلام ؟ قال : " الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت وتعتمر ، وتغتسل من الجنابة ، وتتم الوضوء ، وتصوم رمضان " ، الحديث . وأنه قال : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " ، ثم قال المجد : رواه الدارقطني ، وقال : هذا إسناد ثابت صحيح . ورواه أبو بكر الجوزقي في كتابه " المخرج على الصحيحين " .

ومن أدلتهم على وجوبها : ما أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، هل على النساء من جهاد ؟ قال : " نعم عليهن جهاد لا قتال فيه : الحج والعمرة " ، اهـ . قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد وابن ماجه ، وإسناده صحيح ، ومن أجوبة المخالفين عن هذه الأدلة الدالة على وجوب العمرة أن الحديث الذي قال أحمد : لا أعلم حديثا أجود في إيجاب العمرة منه ، وهو حديث أبي رزين العقيلي ، الذي فيه : " حج عن أبيك واعتمر " ، أن صيغة الأمر في قوله : " واعتمر " ، واردة بعد سؤال أبي رزين ، وقد قرر جماعة من أهل الأصول أن صيغة الأمر الواردة بعد المنع أو السؤال : إنما تقتضي الجواز لا الوجوب ; لأن وقوعها في جواب السؤال عن الجواز دليل صارف عن الوجوب إلى الجواز ، والخلاف في هذه المسألة معروف .

وقد قدمنا الكلام عليه في آيات الحج هذه ، وأجابوا عن آية : وأتموا الحج ، بأن المراد بها : الإتمام بعد الشروع كما تقدم إيضاحه ، وأجابوا عن حديث : " الحج والعمرة فريضتان " ، الحديث . بأن في إسناده إسماعيل بن مسلم المكي ، وهو ضعيف لا يحتج به . وقال ابن حجر في " التلخيص " : ثم هو عن ابن سيرين ، عن زيد وهو منقطع ورواه البيهقي موقوفا ، على زيد من طريق ابن سيرين ، وإسناده أصح ، وصححه الحاكم ، ورواه ابن عدي والبيهقي من حديث ابن لهيعة ، عن عطاء ، عن جابر ، وابن لهيعة ضعيف . وقال ابن عدي : [ ص: 230 ] هو غير محفوظ ، عن عطاء ، انتهى محل الغرض منه . وبه تعلم أن حديث زيد بن ثابت المذكور : ليس بصالح للاحتجاج ، وأجابوا عما جاء في حديث جبريل ، عن عمر مرفوعا بلفظ : " وأن تحج وتعتمر " ، بجوابين : أحدهما أن الروايات الثابتة في صحيح مسلم ، وغيره وليس فيها ذكر العمرة وهي أصح ، وقد يجاب عن هذا بأن زيادة العدول مقبولة .

والجواب الثاني : هو ما ذكر الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " ، في شرحه للحديث المذكور ، ونص كلامه : فإن قيل : إن وقوع العمرة في جواب من سأل عن الإسلام : يدل على الوجوب ، فيقال : ليس كل أمر من الإسلام واجبا . والدليل على ذلك : حديث شعب الإسلام ، والإيمان ، فإنه اشتمل على أمور ليست بواجبة بالإجماع ، انتهى منه ، وله وجه من النظر .

وأجابوا عن حديث عائشة : بأن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " عليهن جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة " ، بأن لفظة : " عليهن " : ليست صريحة في الوجوب ، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة ، وإذا كان محتملا لإرادة الوجوب والسنة المؤكدة ، لزم طلب الدليل بأمر خارج وقد دل دليل خارج على وجوب الحج ، ولم يدل دليل خارج يجب الرجوع إليه على وجوب العمرة .

هذا هو حاصل أدلة القائلين بوجوب العمرة مرة في العمر ، ومناقشة مخالفيهم لهم .

أما القائلون : بأن العمرة سنة لا فرض ، فقد احتجوا أيضا بأدلة :

منها : ما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، والبيهقي ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، عن جابر - رضي الله عنه - أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن العمرة ، أواجبة هي ؟ فقال : " لا وأن تعتمر خير لك " ، وفي رواية : " أولى لك " ، وقال صاحب " نيل الأوطار " : وقد رواه البيهقي من حديث سعيد بن عفير ، عن يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله ، عن جابر بنحوه ، ورواه ابن جريج ، عن ابن المنكدر ، عن جابر . وقال ابن حجر في " التلخيص " ، وفي الباب عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : رواه الدارقطني ، وابن حزم والبيهقي ، وإسناده ضعيف . وأبو صالح : ليس هو ذكوان السمان ، بل هو : أبو صالح ماهان الحنفي ، كذلك رواه الشافعي ، عن سعيد بن سالم ، عن الثوري ، عن معاوية بن إسحاق ، عن أبي صالح الحنفي ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحج جهاد ، والعمرة تطوع " ، ورواه ابن ماجه من حديث طلحة ، وإسناده ضعيف . والبيهقي من حديث ابن عباس ، ولا يصح من ذلك شيء .

[ ص: 231 ] واستدل بعضهم بما رواه الطبراني من طريق يحيى بن الحارث ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا : " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة تطوع فأجره كعمرة " .

هذا هو حاصل أدلة من قالوا : بأن العمرة غير واجبة .

وأجاب مخالفوهم عن أدلتهم ، قالوا : أما حديث سؤال الأعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجوب العمرة ، وأنه أجابه : بأنها غير واجبة ، وأنه إن اعتمر تطوعا ، فهو خير له بأنه حديث ضعيف ، وتصحيح الترمذي له مردود ، ووجه ذلك أن في إسناده : الحجاج بن أرطاة ، وأكثر أهل الحديث على تضعيف الحجاج المذكور كما قدمناه مرارا ، وقال ابن حجر في " التلخيص " : وفي تصحيحه نظر كثير من أجل الحجاج ، فإن الأكثر على تضعيفه ، والاتفاق على أنه مدلس ، وقال النووي : ينبغي ألا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه ، فإنه اتفق الحفاظ على تضعيفه ، وقد نقل الترمذي ، عن الشافعي أنه قال : ليس في العمرة شيء ثابت : أنها تطوع . وأفرط ابن حزم فقال : إنه مكذوب باطل . انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر . ثم قال بعد هذا في الحديث المذكور : إنه موقوف على جابر ، وقال كذلك : رواه ابن جريج ، عن ابن المنكدر ، عن جابر انتهى منه .

هذا هو حاصل حجج من قالوا : إن العمرة سنة لا واجبة .

وقال الشوكاني : في " نيل الأوطار " ، بعد أن ساق الأحاديث ، التي ذكرنا في عدم وجوب العمرة ما نصه : قال الحافظ : ولا يصح من ذلك شيء ، وبهذا تعرف أن الحديث من قسم الحسن لغيره ، وهو محتج به عند الجمهور ، ويؤيده ما عند الطبراني : عن أبي أمامة مرفوعا : " من مشى إلى صلاة مكتوبة فأجره كحجة ، ومن مشى إلى صلاة غير مكتوبة ، فأجره كعمرة " ، إلى أن قال : والحق عدم وجوب العمرة ; لأن البراءة الأصلية ، لا ينتقل عنها إلا بدليل يثبت به التكليف ، ولا دليل يصلح لذلك ، لا سيما مع اعتضاده بما تقدم من الأحاديث القاضية : بعدم الوجوب ، ويؤيد ذلك اقتصاره - صلى الله عليه وسلم - على الحج في حديث " بني الإسلام على خمس " ، واقتصار الله جل جلاله على الحج في قوله : ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 97 ] ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن ما احتج به كل واحد من الفريقين ، لا يقل عن درجة الحسن لغيره ، فيجب الترجيح بينهما ، وقد رأيت الشوكاني [ ص: 232 ] رجح عدم الوجوب بموافقته للبراءة الأصلية ، والذي يظهر بمقتضى الصناعة الأصولية : ترجيح أدلة الوجوب على أدلة عدم الوجوب وذلك من ثلاثة أوجه :

الأول أن أكثر أهل الأصول يرجحون الخبر الناقل عن الأصل : على الخبر المبقي على البراءة الأصلية ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " ، في مبحث الترجيح باعتبار المدلول : وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر على إباحة . . . إلخ .

لأن معنى قوله : " وناقل " أن الخبر الناقل عن البراءة الأصلية مقدم على الخبر المبقي عليها . وعزاه في شرحه المسمى : " نشر البنود للجمهور " ، وهو المشهور عند أهل الأصول .

الثاني أن جماعة من أهل الأصول : رجحوا الخبر الدال على الوجوب ، على الخبر الدال على عدمه . ووجه ذلك : هو الاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " ، المذكور آنفا :

ثم هذا الآخر . . . . على إباحة إلخ ; لأن مراده بالآخر المقدم على الإباحة : هو الخبر الدال على الأمر ، فالأول الدال على النهي ; لأن درء المفاسد ، مقدم على جلب المصالح ، ثم الدال على الأمر للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب ، ثم الدال على الإباحة ويشمل غير الواجب ، فيدخل فيه المسنون والمندوب ; لاشتراك الجميع في عدم العقاب على ترك الفعل .

الثالث : أنك إن عملت بقول من أوجبها فأديتها على سبيل الوجوب برئت ذمتك بإجماع أهل العلم من المطالبة بها ، ولو مشيت على أنها غير واجبة فلم تؤدها على سبيل الوجوب بقيت مطالبا بواجب على قول جمع كثير من العلماء . والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، ويقول : " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ، وهذا المرجح راجع في الحقيقة لما قبله ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن جميع السنة وقت للعمرة إلا أيام التشريق . فلا تنبغي العمرة فيها حتى تغرب شمس اليوم الرابع عشر ، على ما قاله جمع من أهل العلم .

[ ص: 233 ] الفرع الثاني : اعلم أنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن " عمرة في رمضان تعدل حجة " . وفي بعض روايات الحديث في الصحيح : " حجة معي " .

الفرع الثالث : اعلم أن التحقيق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعتمر في رجب بعد الهجرة قطعا ، وأنه لم يعتمر بعد الهجرة ، إلا أربع عمر . الأولى : عمرة الحديبية في ذي القعدة ، من عام ست ، وصده المشركون ، وأحل ونحر من غير طواف ولا سعي ، كما هو معلوم .

الثانية : عمرة القضاء في ذي القعدة ، عام سبع : وهي التي وقع عليها صلح الحديبية .

وقد قدمنا في سورة " البقرة " وجه تسميتها عمرة القضاء وأوضحناه . الثالثة : عمرة الجعرانة في ذي القعدة من عام ثمان ، بعد فتح مكة في رمضان عام ثمان . الرابعة : العمرة التي قرنها ، مع حجة الوداع . هذا هو التحقيق .

وقد قدمنا الإشارة إليه ولنكتف هنا بما ذكرناه من أحكام العمرة ; لأن غالب أحكامها ذكرناه في أثناء كلامنا على مسائل الحج . والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : وليوفوا نذورهم [ 22 \ 29 ] . صيغة الأمر في هذه الآية الكريمة : تدل على وجوب الإيفاء بالنذر ، كما قدمنا مرارا أن صيغة الأمر تقتضي الوجوب ، على الأصح ، إلا لدليل صارف عنه .

ومما يدل من القرآن على لزوم الإيفاء بالنذر : أنه تعالى أشار إلى أنه هو ، والخوف من أهوال يوم القيامة ، من أسباب الشرب من الكأس الممزوجة بالكافور في قوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [ 76 \ 5 - 6 ] ، ثم أشار إلى بعض أسباب ذلك ، فقال : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 7 ] ، فالوفاء بالنذر ممدوح على كل حال ، وإن كانت آية الإنسان ليست صريحة في وجوبه ، وكذلك قوله في سورة " البقرة " : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه الآية [ 2 \ 270 ] . وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان بالقرآن ، إن لم يكن وافيا بالمقصود أتممناه بالبيان بالسنة . ولذلك سنبين هنا ما تقتضيه السنة من النذر الذي يجب الإيفاء به ، والذي لا يجب الإيفاء به .

اعلم أولا أن الأمر المنذور له في الجملة حالتان :

الأولى : أن يكون فيه طاعة لله .

[ ص: 234 ] والثانية : ألا يكون فيه طاعة لله ، وهذا الأخير منقسم إلى قسمين :

أحدهما : ما هو معصية لله .

والثاني : ما ليس فيه معصية في ذاته ، ولكنه ليس من جنس الطاعة كالمباح الذي لم يؤمر به .

والذي يجب اعتماده بالدليل في الأقسام الثلاثة المذكورة أن المنذور إن كان طاعة لله ، وجب الإيفاء به ، سواء كان في ندب كالذي ينذر صدقة بدراهم على الفقراء ، أو ينذر ذبح هدي تطوعا أو صوم أيام تطوعا ، ونحو ذلك . فإن هذا ونحوه ، يجب بالنذر ، ويلزم الوفاء به . وكذلك الواجب إن تعلق النذر بوصف ، كالذي ينذر أن يؤدي الصلاة في أول وقتها ، فإنه يجب عليه الإيفاء بذلك .

أما لو نذر الواجب كالصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، فلا أثر لنذره ; لأن إيجاب الله لذلك أعظم من إيجابه بالنذر ، وإن كان المنذور معصية لله : فلا يجوز الوفاء به ، وإن كان جائزا لا نهي فيه ، ولا أمر فلا يلزم الوفاء به .

أما الدليل على وجوب الإيفاء في نذر الطاعة وعلى منعه في نذر المعصية فهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه ذلك .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، عن القاسم ، عن عائشة - رضي الله عنها - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه " اهـ . وهو ظاهر في وجوب الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنع الإيفاء بنذر المعصية .

وقال البخاري أيضا : حدثنا أبو عاصم ، عن مالك ، عن طلحة بن عبد الملك ، إلى آخر الإسناد والمتن المذكورين آنفا .

وإذا علمت أن هذا الحديث الصحيح ، قد دل على لزوم الإيفاء بنذر الطاعة ، ومنعه في نذر المعصية .

فاعلم أن الدليل على عدم الإيفاء بنذر الأمر الجائز : هو أنه ثبت أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:09 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (372)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 235 إلى صـ 242




قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب ، حدثنا أيوب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : " بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذ هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ولا يتكلم ، ويصوم ، [ ص: 235 ] فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : مره فليتكلم ، وليستظل وليقعد ، وليتم صومه " انتهى محل الغرض من صحيح البخاري . وفيه التصريح بأن ما كان من نذره من جنس الطاعة ، وهو الصوم أمره - صلى الله عليه وسلم - بإتمامه ، وفاء بنذره وما كان من نذره مباحا لا طاعة ، كترك الكلام ، وترك القعود ، وترك الاستظلال ، أمره بعدم الوفاء به ، وهو صريح في أنه لا يجب الوفاء به .

واعلم أنا لم نذكر أقوال أهل العلم هنا للاختصار ، ولوجود الدليل الصحيح من السنة على ما ذكرنا .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أنه لا نذر لشخص في التقرب بشيء لا يملكه ، وقد ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وعلي بن حجر السعدي واللفظ لزهير قالا : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - قال : كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . الحديث بطوله .

وفيه ما نصه : وأسرت امرأة من الأنصار ، وأصيبت العضباء فكانت المرأة في الوثاق ، وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم ، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق ، فأتت الإبل ، فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء ، فلم ترغ قال : وناقة منوقة فقعدت في عجزها ، ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فطلبوها ، فأعجزتهم قال : ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها . فلما قدمت المدينة ، رآها الناس فقالوا : العضباء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : إنها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرنها ، فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا ذلك له فقال : " سبحان الله ، بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها ، لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك العبد " ، الحديث . ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولا فيما لا يملك العبد " ، وهذا نص صحيح صريح فيما ذكرنا ، ويؤيده حديث ثابت بن الضحاك : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا في قطيعة رحم ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " اهـ .

قال الحافظ في " بلوغ المرام " : رواه أبو داود والطبراني ، واللفظ له ، وهو صحيح الإسناد ، وله شاهد من حديث كردم عند أحمد .
[ ص: 236 ] الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن نذر نذرا لا يلزم الوفاء به ، هل تلزمه كفارة يمين ، أو لا يلزمه شيء ؟ وحجة من قال : لا يلزمه شيء : هو حديث نذر أبي إسرائيل ، أنه لا يقعد ولا يتكلم ، ولا يستظل ، وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح المذكور آنفا : أنه لا يفي بهذا النذر ، ولم يقل له إن عليه كفارة يمين . وقد قدمنا هذا في سورة " مريم " ، موضحا . وقد قدمنا أن القرطبي قال في قصة أبي إسرائيل : هذه أوضح الحجج للجمهور في عدم وجوب الكفارة ، على من نذر معصية ، أو ما لا طاعة فيه . فقد قال مالك لما ذكره : ولم أسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بالكفارة ، وأما الذين قالوا : إن النذر الذي لا يجب الوفاء به تجب فيه كفارة يمين ، فقد احتجوا بما رواه مسلم ، في صحيحه : وحدثني هارون بن سعيد الأيلي ، ويونس بن عبد الأعلى ، وأحمد بن عيسى ، قال يونس : أخبرنا وقال الآخران : حدثنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن كعب بن علقمة ، عن عبد الرحمن بن شماسة ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كفارة النذر كفارة اليمين " اهـ ، وظاهره شموله للنذر الذي لا يجب الوفاء به .

وقال النووي في " شرح مسلم " : اختلف العلماء في المراد به ، فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج ، وهو أن يقول إنسان يريد الامتناع من كلام زيد مثلا : إن كلمت زيدا مثلا ، فلله علي حجة ، أو غيرها ، فيكلمه فهو بالخيار بين كفارة يمين ، وبين ما التزمه . هذا هو الصحيح في مذهبنا ، وحمله مالك وكثيرون أو الأكثرون على النذر المطلق كقوله : علي نذر ، وحمله أحمد وبعض أصحابنا على نذر المعصية ، كمن نذر أن يشرب الخمر ، وحمله جماعة من فقهاء أصحاب الحديث على جميع أنواع النذر ، وقالوا : هو مخير في جميع المنذورات بين الوفاء بما التزم ، وبين كفارة يمين والله أعلم اهـ كلام النووي .

ولا يخفى بعد القول الأخير لقوله تعالى : وليوفوا نذورهم ، فهو أمر جازم مانع للتخيير بين الإيفاء به ، وبين شيء آخر .

والأظهر عندي في معنى الحديث أن من نذر نذرا مطلقا كأن يقول : علي لله نذر ، أنه تلزمه كفارة يمين ، لما رواه ابن ماجه ، والترمذي وصححه ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين " ، وروى نحوه أبو داود ، وابن ماجه ، عن ابن عباس ، وفي الحديثين بيان المراد بحديث مسلم ، بأن المراد به : النذر [ ص: 237 ] المطلق الذي لم يسم صاحبه ما نذره بل أطلقه ، والبيان يجوز بكل ما يزيد الإيهام ، كما قدمناه مرارا ، والمطلق يحمل على المقيد .

ومما يؤيد القول بلزوم الكفارة في نذر اللجاج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم شرب العسل على نفسه في قصة ممالأة أزواجه عليه . وأنزل الله في ذلك : لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، قال الله بعد ذلك : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، فدل ذلك على لزوم كفارة اليمين ، وكذلك قال ابن عباس وغيره : بلزوم كفارة اليمين ، على القول بأنه حرم جاريته ، والأقوال فيمن حرم زوجته ، أو جاريته ، أو شيئا من الحلال معروفة عند أهل العلم . فغير الزوجة والأمة لا يحرم بالتحريم قولا واحدا ، والخلاف في لزوم كفارة اليمين ، وعدم لزومها ، وظاهر الآية لزومها ، وبعض العلماء يقول : لا يلزم فيه شيء ، وهو مذهبمالك وأصحابه ، أما تحريم الرجل امرأته أو جاريته ، ففيه لأهل العلم ما يزيد على ثلاثة عشر مذهبا معروفة في محلها ، وأجراها على القياس في تحريم الزوجة لزوم كفارة الظهار ; لأن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، فهو بمثابة ما لو قال لها : أنت حرام ، والظهار نص الله في كتابه ، على أن فيه كفارته المنصوصة في سورة " المجادلة " .

أما نذر اللجاج فقد قدمنا القول ، بأن فيه كفارة يمين ، والمراد بنذر اللجاج : النذر الذي يراد به الامتناع من أمر لا التقرب إلى الله .

قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أنه إذا أخرج النذر مخرج اليمين ، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا ، أو يحث به على شيء مثل أن يقول : إن كلمت زيدا ، فلله علي الحج أو صدقة مالي أو صوم سنة ، فهذا يمين حكمه أنه مخير بين الوفاء بما حلف عليه ، فلا يلزمه شيء ، وبين أن يحنث فيتخير بين فعل المنذور وبين كفارة يمين ، ويسمى نذر اللجاج ، والغضب ، ولا يتعين الوفاء به ، ثم قال : وهذا قول عمر وابن عباس ، وابن عمر ، وعائشة ، وحفصة ، وزينب بنت أبي سلمة ، وبه قال عطاء ، وطاوس ، وعكرمة ، والقاسم ، والحسن ، وجابر بن زيد ، والنخعي ، وقتادة ، وعبد الله بن شريك ، والشافعي ، والعنبري ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال سعيد بن المسيب : لا شيء في الحلف بالحج ، وعن الشعبي ، والحارث العكلي ، وحماد ، والحكم : لا شيء في الحلف بصدقة ماله ; لأن الكفارة إنما تلزم بالحلف بالله لحرمة الاسم ، وهذا ما حلف باسم الله ولا يجب ما سماه ; لأنه لم يخرجه مخرج القربة ، وإنما التزمه على طريق [ ص: 238 ] العقوبة ، فلم يلزمه . وقال أبو حنيفة ومالك : يلزمه الوفاء بنذره ; لأنه نذر فيلزم الوفاء به كنذر البر . وروي نحو ذلك عن الشعبي .

ولنا ما روى عمران بن حصين قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين " ، رواه سعيد بن منصور ، والجوزجاني في المترجم . وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف بالمشي والهدي ، أو جعل ماله في سبيل الله ، أو في المساكين ، أو في رتاج الكعبة ، فكفارته كفارة يمين " ، إلى أن قال : وعن أحمد رواية ثانية : أنه تتعين الكفارة ، ولا يجزئه الوفاء بنذره . وهو قول بعض أصحاب الشافعي ; لأنه يمين ، انتهى محل الغرض من " المغني " ، وروى أبو داود ، عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث ، فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني القسمة ، فكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك ، وكلم أخاك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ، ولا في قطيعة رحم ، وفيما لا تملك " ، اهـ رواه أبو داود ، وسعيد بن المسيب : لم يصح سماعه من عمر . قاله بعضهم : وعليه فهو من مراسيل سعيد ، وذكر جماعة أنه ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر - رضي الله عنه - ، وعن أحمد ما يدل على سماع سعيد من عمر ، وأنه قال : إن لم نقبل سعيدا ، عن عمر ، فمن يقبل . والظاهر سماعه من عمر كما صدر بما يدل عليه صاحب " تهذيب التهذيب " ، وعن مالك وغيره أنه لم يدرك عمر ، وحديث سعيد المذكور عن عمر : إما متصل ، وإما مرسل من مراسيل سعيد ، وقد قدمنا كلام العلماء فيها .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب ، فهو منقطع ، وروي نحوه عن عائشة : أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة . فقالت : يكفر عن اليمين . أخرجه مالك ، والبيهقي بسند صحيح . وصححه ابن السكن اهـ . ولفظ مالك في " الموطأ " : فقالت عائشة - رضي الله عنها - : يكفره ما يكفر اليمين ، وليس في " الموطأ " أن فتواها هذه في نذر لجاج بل الذي فيه : أنها سئلت عن رجل قال : مالي في رتاج الكعبة وهو بابها وهو براء مكسورة ، فمثناة فوقية بعدها ألف فجيم .

وهذا الذي ذكرنا هو : حاصل حجة من قال : إن نذر اللجاج فيه كفارة يمين ، وهو الأقرب عندي لما ذكرنا ، خلافا لمن قال : لا شيء فيه . وأما نذر المعصية فلا خلاف في [ ص: 239 ] أنه حرام ، وأن الوفاء به ممنوع ، وإنما الخلاف في لزوم الكفارة به ، فذهب جمهور أهل العلم أنه لا كفارة فيه ، وعن أحمد والثوري وإسحاق ، وبعض الشافعية ، وبعض الحنفية : فيه الكفارة . وذكر الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك ، واحتج من قال : بأنه ليس فيه كفارة بالأحاديث الصحيحة الواردة بأنه : " لا نذر في معصية " ، ونفي نذر المعصية مطلقا يدل على نفي أثره ، فإذا انتفى النذر من أصله انتفت كفارته ; لأن التابع ينتفي بانتفاء المتبوع . وإن قلنا : إن الصيغة في قوله : " لا نذر في معصية " ، خبر أريد به الإنشاء وهو النهي عن نذر المعصية ، فالنهي يقتضي الفساد ، وإذا فسد المنذور بالنهي بطل معه تأثيره في الكفارة . قالوا : والأصل براءة الذمة من الكفارة . قالوا : ومما يؤيد ذلك الأحاديث الواردة بأنه : " لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله " . قال المجد في " المنتقى " : رواه أحمد ، وأبو داود . وفي لفظ عند أحمد : " إنما النذر ما ابتغي به وجه الله " ، وهو من رواية عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . وفي إسناده مناقشات تركناها اختصارا ، واحتج من قال : بأن في نذر المعصية كفارة ببعض الأحاديث الواردة بذلك .

منها : ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ، قال المجد في " المنتقى " : رواه الخمسة ، واحتج به أحمد ، وإسحاق . ومعلوم أن مراده بالخمسة : الإمام أحمد ، وأصحاب السنن ، ولفظ أبي داود في هذا الحديث :

حدثنا إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر ، ثنا عبد الله بن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " .

حدثنا ابن السرح قال : ثنا وهب عن يونس ، عن ابن شهاب بمعناه . وإسناده قال أبو داود : سمعت أحمد بن شبويه ، يقول : قال ابن المبارك : يعني في هذا الحديث : حدث أبو سلمة ، فدل ذلك على أن الزهري لم يسمعه من أبي سلمة ، وقال أحمد بن محمد : وتصديق ذلك : ما حدثنا أيوب ، يعني ابن سليمان ، قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول : أفسدوا علينا هذا الحديث ، قيل له : وصح إفساده عندك ، وهل رواه غير ابن أبي أويس ؟ قال : أيوب كان أمثل منه ، يعني : أيوب بن سليمان بن بلال ، وقد رواه أيوب .

حدثنا أحمد بن محمد المروزي ، ثنا أيوب بن سليمان ، عن أبي بكر بن أبي أويس ، عن سليمان بن بلال ، عن ابن أبي عتيق وموسى بن عقبة ، عن ابن شهاب ، عن سليمان بن [ ص: 240 ] أرقم أن يحيى بن أبي كثير أخبره ، عن أبي سلمة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين " ، قال أحمد بن محمد المروزي : إنما الحديث حديث علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن محمد بن الزبير ، عن أبيه ، عن عمران بن حصين ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن سليمان بن أرقم وهم فيه ، وحمله عنه الزهري ، وأرسله عن أبي سلمة ، عن عائشة رضي الله عنها . قال أبو داود : روى بقية عن الأوزاعي ، عن يحيى ، عن محمد بن الزبير بإسناد علي بن المبارك مثله اهـ من سنن أبي داود بلفظه . وفيه سوء ظن كثير بالزهري ، وهو أنه حذف من إسناد الحديث واسطتين : وهما سليمان بن أرقم ، ويحيى بن أبي كثير ، وأرسله عن أبي سلمة وكذلك قال الترمذي بعد إخراجه لحديث عائشة المذكور ، لا يصح ; لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة ، ومما يقوي سوء الظن المذكور بالزهري أن سليمان بن أرقم الذي حذفه من الإسناد متروك لا يحتج بحديثه ، فحذف المتروك . ورواية حديثه عمن فوقه من العدول من تدليس التسوية ، وهو شر أنواع التدليس وأقبحها ، ولا شك أن هذا النوع من التدليس قادح فيمن تعمده . وما ذكره بعضهم : من أن الثوري والأعمش كانا يفعلان هذا النوع من التدليس مجاب عنه بأنهما لا يدلسان إلا عمن هو ثقة عندهما . وإن كان ضعيفا عند غيرهما . ومن المستبعد أن يكون الزهري يحسن الظن بسليمان بن أرقم مع اتفاق الحفاظ على عدم الاحتجاج به .

والحاصل أن لزوم الكفارة في نذر المعصية ، جاءت فيه أحاديث متعددة ، لا يخلو شيء منها من كلام . وقد يقوي بعضها بعضا .

وقال الشوكاني : قال النووي في " الروضة " : حديث " لا نذر في معصية ، وكفارته كفارة يمين " ، ضعيف باتفاق المحدثين . قال الحافظ : قلت : قد صححه الطحاوي ، وأبو علي بن السكن ، فأين الاتفاق . انتهى منه . وقد تركنا تتبع الأحاديث الواردة فيه ، ومناقشتها اختصارا . والأحوط لزوم الكفارة ; لأن الأمر مقدم على الإباحة كما تقرر في الأصول للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب . فمن أخرج كفارة عن نذر المعصية ، فقد برئ من المطالبة بها باتفاق الجميع ، ومن لم يخرجها بقي مطالبا بها على قول أحمد ، ومن ذكرنا معه .
الفرع الثالث : اعلم أن من نذر شيئا من الطاعة لا يقدر عليه لا يلزمه الوفاء به ، لعجزه عنه .

[ ص: 241 ] واختلف فيما يلزمه في ذلك المعجوز عنه ، فلو نذر مثلا أن يحج ، أو يعتمر ماشيا على رجليه ، وهو عاجز عن المشي : جاز له الركوب لعجزه عن المشي ، وإن قدر على المشي : لزمه .

وفي حالة ركوبه عند العجز ، اختلف العلماء فيما يلزمه ، فقال بعضهم : لا شيء عليه ; لأنه عاجز ، والله يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، فقد عجز عما نذر ولا يلزمه شيء غير ما نذر . وقال بعضهم : تلزمه كفارة يمين . وقال بعضهم : يلزمه صوم ثلاثة أيام . وقال بعضهم : تلزمه بدنة . وقال بعضهم : يلزمه هدي .

قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أن من نذر المشي إلى بيت الله الحرام ، لزمه الوفاء بنذره . وبهذا قال مالك ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وابن المنذر ، ولا نعلم فيه خلافا ، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا ، والمسجد الأقصى " . ولا يجزئه المشي إلا في الحج أو العمرة . وبه يقول الشافعي . ولا أعلم فيه خلافا ، وذلك لأن المشي المعهود في الشرع : هو المشي في حج أو عمرة ، فإذا أطلق الناذر حمل على المعهود الشرعي . ويلزمه المشي فيه لنذره ، فإن عجز عن المشي ركب ، وعليه كفارة يمين ، وعن أحمد رواية أخرى : أنه يلزمه دم ، وهو قول الشافعي . وأفتى به عطاء لما روى ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت المشي إلى بيت الله الحرام ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب ، وتهدي هديا . رواه أبو داود ، وفيه ضعف ; ولأنه أخل بواجب في الإحرام فلزمه هدي ، كتارك الإحرام من الميقات . وعن ابن عمر وابن الزبير قالا : يحج من قابل ، بل ويركب ما مشى ، ويمشي ما ركب ونحوه . قال ابن عباس وزاد ، فقال : ويهدي ، وعن الحسن مثل الأقوال الثلاثة ، وعن النخعي روايتان : إحداهما : كقول ابن عمر ، والثانية : كقول ابن عباس ، وهذا قول مالك . وقال أبو حنيفة : عليه هدي سواء عجز عن المشي ، أو قدر عليه . وأقل الهدي : شاة ، وقال الشافعي : لا يلزمه مع العجز كفارة بحال ، إلا أن يكون النذر مشيا إلى بيت الله الحرام ، فهل يلزمه هدي ؟ فيه قولان . وأما غيره فلا يلزمه مع العجز شيء ، انتهى محل الغرض من " المغني " .

وإذا علمت أقوال أهل العلم فيما يلزم من نذر شيئا ، وعجز عنه ، فهذه أدلة أقوالهم نقلناها ملخصة بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ; لأنه جمعها في محل واحد . أما من قال : تلزمه كفارة يمين فقد احتج بما رواه أبو داود ، وابن ماجه ، عن ابن عباس - رضي الله [ ص: 242 ] عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من نذر نذرا ولم يسمه ، فكفارته كفارة يمين ، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين " اهـ .

قال الحافظ في " بلوغ المرام " : في حديث ابن عباس : هذا إسناده صحيح ، إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه ، اهـ . كما تقدمت الإشارة إليه .

ومن أدلة أهل هذا القول ما رواه كريب ، عن ابن عباس قال : جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ; لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها " ، رواه أحمد ، وأبو داود ، وقال في " نيل الأوطار " : في هذا الحديث سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح . والظاهر المتبادر أن المراد بالتكفير عن اليمين : هو كفارة اليمين المعروفة ، ولقد صدق الشوكاني في أن رجال حديث أبي داود المذكور رجال الصحيح ; لأن أبا داود قال : حدثنا حجاج بن أبي يعقوب ، ثنا أبو النضر ، ثنا شريك ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن كريب ، عن ابن عباس إلى آخر الحديث المذكور بمتنه ، فطبقة إسناده الأولى حجاج بن أبي يعقوب ، وهو حجاج بن الشاعر الذي أكثر مسلم في صحيحه من الإخراج له ، وهو ثقة حافظ ، وطبقته الثانية : أبو النضر ، وهو هاشم بن القاسم بن مقسم الليثي البغدادي خراساني الأصل ، ولقبه قيصر ، وهو ثقة ثبت ، أخرج له الجميع . وطبقته الثالثة هي : شريك ، وهو ابن عبد الله بن أبي شريك النخعي ، أبو عبد الله الكوفي القاضي . أخرج له البخاري تعليقا ، وهو من رجال مسلم . وظاهر كلام ابن حجر في " تهذيب التهذيب " أن مسلما إنما أخرج له في المتابعات ، وكلام أهل العلم فيه كثير بين مثن وذاكر غير ذلك ، وطبقته الرابعة : محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، وهو من رجال مسلم ، وهو ثقة . وطبقته الخامسة : كريب بن أبي مسلم الهاشمي ، مولى ابن عباس ومعلوم أنه ثقة ، وأنه أخرج له الجميع .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:12 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (373)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 243 إلى صـ 250




هذا هو حاصل حجة من قال : إن على من نذر نذرا ، ولم يطقه كفارة يمين ، وأما الذين قالوا : عليه صيام ثلاثة أيام ، فقد احتجوا بما رواه أحمد ، وأصحاب السنن عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن أخته نذرت أن تمشي حافية ، غير مختمرة ، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ، مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " ، اهـ بواسطة نقل المجد في " المنتقى " . قال الشوكاني في هذا الحديث : حسنه [ ص: 243 ] الترمذي ولكن في إسناده عبيد الله بن زحر ، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ظاهر كلام أبي داود في عبيد الله بن زحر المذكور : أنه ثقة عنده ; لأنه ذكر تزكيته عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، ولم يتعقب ذلك بشيء .

فقد قال أبو داود في هذا الحديث : حدثنا مسدد ، ثنا يحيى بن سعيد القطان قال : أخبرني يحيى بن سعيد الأنصاري ، أخبرني عبيد الله بن زحر أن أبا سعيد أخبره أن عبد الله بن مالك أخبره أن عقبة بن عامر أخبره : أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة ، فقال : " مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام " .

حدثنا مخلد بن خالد ، ثنا عبد الرزاق ، ثنا ابن جريج قال : كتبت إلى يحيى بن سعيد ، أخبرني عبيد الله بن زحر ، مولى لبني ضمرة ، وكان أيما رجل أن أبا سعيد الرعيني ، أخبره بإسناد يحيى ، ومعناه ، اهـ من سنن أبي داود ، فكتابة يحيى بن سعيد الأنصاري إلى ابن جريج في ابن زحر المذكور . وكان أيما رجل فيه أعظم تزكية ; لأن قولهم فكان أيما رجل يدل على أنه من أفاضل الرجال والتفضيل في هذا المقام ، إنما هو في الثقة والعدالة ، كما ترى ومن هذا القبيل قول الراعي :

فأومأت إيماء خفيا لحبتر فلله عينا حبتر أيما فتى وقال ابن حجر في " التقريب " ، في ابن زحر المذكور : صدوق يخطئ ، وكلام أئمة الحديث فيه كثير منهم : المثني ، ومنهم القادح .

وحجة من قال إن عليه بدنة : هي ما رواه عكرمة ، عن ابن عباس أن عقبة بن عامر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة " ، رواه أحمد ، وأبو داود . وقال الشوكاني في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح : قال الحافظ في " التلخيص " : إسناده صحيح .

وحجة من قال : إن عليه هديا هي : ما رواه أبو داود ، حدثنا محمد بن المثنى ، ثنا أبو الوليد ، ثنا همام ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت ، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تركب وتهدي هديا . وقال الشوكاني في [ ص: 244 ] هذا الحديث : سكت عنه أبو داود والمنذري ، ولزوم الهدي المذكور مروي عن مالك في " الموطأ " وفسر الهدي : ببدنة ، أو بقرة ، أو شاة ، إن لم تجد غيرها .

هذا هو حاصل أدلة أقوال أهل العلم : فيما يلزم من نذر شيئا ، وعجز عن فعله . والقول بالهدي والقول بالبدنة ، يمكن الجمع بينهما ; لأن البدنة هدي ، والخاص يقضي على العام .

وقد ذكرنا كلام الناس في أسانيد الأحاديث الواردة في ذلك ، وأحوطها فيمن عجز عن المشي ، الذي نذره في الحج : البدنة ; لأنها أعظم ما قيل في ذلك ، وليس من المستبعد ، أن تلزم البدنة ، وأنه يجزئ الهدي والصوم وكفارة اليمين ; لأن كل الأحاديث الواردة بذلك ليس فيها التصريح بنفي إجزاء شيء آخر . فحديث لزوم كفارة اليمين لم يصرح بعدم إجزاء البدنة ، وحديث الهدي لم يصرح بعدم إجزاء الصوم مثلا وهكذا .

وقد عرفت أقوال أهل العلم في ذلك مع أن الأحاديث لا يخلو شيء منها من كلام . وظاهر النصوص العامة : أنه لا شيء عليه ; لأن الله يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، ويقول : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] قال الله : قد فعلت " . وفي رواية : نعم ، ويدخل في حكم ذلك قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .

الآية [ 2 \ 286 ] .
الفرع الرابع : في حكم الإقدام على النذر ، مع تعريفه لغة وشرعا .

اعلم أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن النذر لا ينبغي ، وأنه منهي عنه ، ولكن إذا وقع وجب الوفاء به ، إن كان قربة كما تقدم .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن صالح ، حدثنا فليح بن سليمان ، حدثنا سعيد بن الحارث : أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - يقول : أولم ينهوا عن النذر ، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخر شيئا ، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل " . وفي البخاري ، عن ابن عمر قال : نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر فقال : " إنه لا يرد شيئا ولكنه يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ للبخاري من حديث أبي هريرة قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا يأتي ابن آدم النذر بشيء لم أكن قدرته ، ولكن يلقيه النذر إلى القدر قد قدر له ; فيستخرج الله به من البخيل فيؤتي عليه ما لم يكن يؤتي عليه من [ ص: 245 ] قبل " ، اهـ من صحيح البخاري ، وهو صريح في النهي عن النذر ، وأنه ليس ابتداء فعله من الطاعات المرغب فيها .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : وحدثني زهير بن حرب ، وإسحاق بن إبراهيم ، قال إسحاق : أخبرنا ، وقال زهير : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن عبد الله بن مرة ، عن عبد الله بن عمر قال : أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ينهانا عن النذر ويقول : " إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من الشحيح " . وفي لفظ لمسلم ، عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " النذر لا يقدم شيئا ولا يؤخره ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم عن ابن عمر ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يأتي بخير وإنما يستخرج به من البخيل " .

وقال مسلم في صحيحه أيضا : وحدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز يعني : الدراوردي ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تنذروا ، فإن النذر لا يغني من القدر شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن النذر ، وقال : " إنه لا يرد من القدر ، وإنما يستخرج به من البخيل " . وفي لفظ لمسلم ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له ، ولكن النذر يوافق القدر فيخرج بذلك من البخيل ما لم يكن البخيل يريد أن يخرج " ، انتهى من صحيح مسلم .

وهذا الذي ذكرنا من حديث الشيخين ، عن ابن عمر وأبي هريرة : فيه الدلالة الصريحة على النهي عن الإقدام على النذر ، وأنه لا يأتي بخير ، وإنما يستخرج به من البخيل . وفي الأحاديث المذكورة إشكال معروف ; لأنه قد دل القرآن على الثناء على الذين يوفون بالنذر ، وأنه من أسباب دخول الجنة كقوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 5 - 7 ] ، وقوله تعالى : وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه [ 2 \ 27 ] ، وقد دل الكتاب والسنة على وجوب الوفاء بنذر الطاعة كقوله تعالى في هذه الآية التي نحن بصددها : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " ، ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح ، من ذم الذين لم يوفوا بنذورهم .

[ ص: 246 ] قال البخاري في صحيحه : حدثنا مسدد ، عن يحيى ، عن شعبة : حدثني أبو جمرة ، حدثنا زهدم بن مضرب ، قال : سمعت عمران بن حصين - رضي الله عنهما - يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خيركم قرني ، ثم الذين يلونهم " قال عمران : لا أدري ذكر ثنتين أو ثلاثا بعد قرنه : " ثم يجيء قوم ينذرون ولا يوفون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، ويشهدون ولا يستشهدون ، ويظهر فيهم السمن " ، اهـ من صحيح البخاري . وهو ظاهر جدا في إثم الذين لا يوفون بنذرهم ، وأنهم كالذين يخونون ، ولا يؤتمنون . وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم في صحيحه ، عن عمران بن حصين . وقال النووي في شرحه لحديث عمران هذا : فيه وجوب الوفاء بالنذر ، وهو واجب بلا خلاف ، وإن كان ابتداء النذر منهيا عنه : كما سبق في بابه ، انتهى محل الغرض منه .

ولأجل هذا الإشكال المذكور اختلف العلماء في حكم الإقدام على النذر ، فذهب المالكية : إلى جواز نذر المندوبات إلا الذي يتكرر دائما كصوم يوم من كل أسبوع فهو مكروه عندهم ، وذهب أكثر الشافعية : إلى أنه مكروه ، ونقله بعضهم عن نص الشافعي للأحاديث الدالة على النهي عنه . ونقل نحوه عن المالكية أيضا ، وجزم به عنهم ابن دقيق العيد . وأشار ابن العربي إلى الخلاف عنهم ، والجزم عن الشافعية بالكراهة . وجزم الحنابلة بالكراهة ، وعندهم رواية في أنها كراهة تحريم ، وتوقف بعضهم في صحتها ، وكراهته مروية عن بعض الصحابة . اهـ بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " . وجزم صاحب " المغني " : بأن النهي عنه نهي كراهة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر لي في طريق إزالة هذا الإشكال ، الذي لا ينبغي العدول عنه أن نذر القربة على نوعين .

أحدهما : معلق على حصول نفع كقوله : إن شفى الله مريضي ، فعلي لله نذر كذا ، أو إن نجاني الله من الأمر الفلاني المخوف ، فعلي لله نذر كذا ، ونحو ذلك .

والثاني : ليس معلقا على نفع للناذر ، كأن يتقرب إلى الله تقربا خالصا بنذر كذا من أنواع الطاعة ، وأن النهي إنما هو في القسم الأول ; لأن النذر فيه لم يقع خالصا للتقرب إلى الله ، بل بشرط حصول نفع للناذر وذلك النفع الذي يحاوله الناذر هو الذي دلت الأحاديث على أن القدر فيه غالب على النذر وأن النذر لا يرد فيه شيئا من القدر .

أما القسم الثاني : وهو نذر القربة الخالص من اشتراط النفع في النذر ، فهو الذي فيه [ ص: 247 ] الترغيب والثناء على الموفين به المقتضي أنه من الأفعال الطيبة ، وهذا التفصيل قالت به جماعة من أهل العلم .

وإنما قلنا : إنه لا ينبغي العدول عنه لأمرين :

الأول أن نفس الأحاديث الواردة في ذلك فيها قرينة واضحة ، دالة عليه ، وهو ما تكرر فيها من أن النذر لا يرد شيئا من القدر ، ولا يقدم شيئا ، ولا يؤخر شيئا ونحو ذلك . فكونه لا يرد شيئا من القدر قرينة واضحة على أن الناذر أراد بالنذر جلب نفع عاجل ، أو دفع ضر عاجل فبين - صلى الله عليه وسلم - أن ما قضى الله به في ذلك واقع لا محالة ، وأن نذر الناذر لا يرد شيئا كتبه الله عليه ، ولكنه إن قدر الله ما كان يريده الناذر بنذره ، فإنه يستخرج بذلك من البخيل الشيء الذي نذر وهذا واضح جدا كما ذكرنا .

الثاني أن الجمع واجب إذا أمكن وهذا جمع ممكن بين الأدلة واضح تنتظم به الأدلة ، ولا يكون بينها خلاف ، ويؤيده أن الناذر الجاهل ، قد يظن أن النذر قد يرد عنه ما كتبه الله عليه . هذا هو الظاهر في حل هذا الإشكال . وقد قال به غير واحد . والعلم عند الله تعالى .

تنبيه

فإن قيل : إن النذر المعلق كقوله : إن شفى الله مريضي أو نجاني من كذا فلله علي نذر كذا ، قد ذكرتم أنه هو المنهي عنه ، وإذا تقرر أنه منهي عنه لم يكن من جنس القربة ، فكيف يجب الوفاء بمنهي عنه .

والجواب أن النص الصحيح دل على هذا ، فدل على النهي عنه أولا ، كما ذكرنا الأحاديث الدالة على ذلك ، ودل على لزوم الوفاء به بعد الوقوع ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإنما يستخرج به من البخيل " نص صريح في أن البخيل يلزمه إخراج ما نذر إخراجه ، وهو المصرح بالنهي عنه أولا ، ولا غرابة في هذا ; لأن الواحد بالشخص قد يكون له جهتان . فالنذر المنذور له جهة هو منهي عنه من أجلها ابتداء ، وهي شرط حصول النفع فيه ، وله جهة أخرى هو قربة بالنظر إليها ، وهو إخراج المنذور تقربا لله وصرفه في طاعة الله ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن النذر في اللغة النحب وهو ما يجعله الإنسان نحبا واجبا عليه قضاؤه ، ومنه قول لبيد : [ ص: 248 ]

ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل

وحاصله : أنه إلزام الإنسان نفسه بشيء لم يكن لازما لها ، فيجعله واجبا عليها وهو في اصطلاح الشرع : التزام المكلف قربة لم تكن واجبة عليه . وقال ابن الأثير في " النهاية " : يقال : نذرت أنذر وأنذر نذرا إذا أوجبت على نفسي شيئا تبرعا من عبادة أو صدقة أو غير ذلك . وقد تكرر في أحاديثه ذكر النهي عنه وهو تأكيد لأمره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه ، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه ، وإسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي يصير معصية . فلا يلزم ، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك أمر لا يجر لهم في العاجل نفعا ، ولا يصرف عنهم ضرا ، ولا يرد قضاء . فقال : لا تنذروا على أنكم قد تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم ، أو تصرفون به عنكم ما جرى به القضاء عليكم ، فإذا نذرتم ولم تعتقدوا هذا فأخرجوا عنه بالوفاء ، فإن الذي نذرتموه لازم لكم ، اهـ الغرض من كلام ابن الأثير . وقد قاله غيره ، ولا يساعد عليه ظواهر الأحاديث .

فالظاهر أن الأرجح الذي لا ينبغي العدول عنه هو ما قدمنا من الجمع ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن تعريف المالكية للنذر شرعا : بأنه التزام مسلم مكلف ، ولو غضبان إلى آخره فيه أمران :

الأول أن اشتراط الإسلام في النذر فيه نظر ; لأن ما نذره الكافر من فعل الطاعات قد ينعقد نذره له بدليل أنه يفعله إذا أسلم بعد ذلك ، ولو كان لغوا غير منعقد ، لما كان له أثر بعد الإسلام .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا عبد الله ، أخبرنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر أن عمر قال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال : " أوف بنذرك " ، انتهى منه . فقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر في هذا الحديث الصحيح : " أوف بنذرك " مع أنه نذره في الجاهلية صريح في ذلك كما ترى ، ولا التفات إلى ما أوله به بعض العلماء من المالكية وغيرهم . وقول المالكية في تعريف النذر ، ولو غضبان لا يخفى أن العلماء مختلفون في نذر الغضبان ، هل يلزم فيه ما نذر أو هو من نوع اللجاج تلزم فيه كفارة يمين كما أوضحنا حكمه سابقا .

الفرع الخامس : اعلم أنه قد دل الحديث على أن من نذر أن ينحر تقربا لله في محل [ ص: 249 ] معين ، فلا بأس بإيفائه بنذره ، بأن ينحر في ذلك المحل المعين ، إذا لم يتقدم عليه أنه كان به وثن يعبد ، أو عيد من أعياد الجاهلية . ومفهومه أنه إن كان قد سبق أن فيه وثنا يعبد ، أو عيدا من أعياد الجاهلية : أنه لا يجوز النحر فيه .

قال أبو داود في سننه : حدثنا داود بن رشيد ، ثنا شعيب بن إسحاق ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : حدثني أبو قلابة ، قال : حدثني ثابت بن الضحاك ، قال : نذر رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحر إبلا ببوانة ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا ، قال : " هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ " قالوا : لا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أوف بنذرك ، فإنه لا وفاء لنذر في معصية ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " انتهى منه .

وفيه الدلالة الظاهرة على أن النحر بموضع كان فيه وثن يعبد أو عيد من أعياد الجاهلية من معصية الله تعالى ، وأنه لا يجوز بحال ، والعلم عند الله تعالى . وإسناد الحديث صحيح .
الفرع السادس : اعلم أن الأحاديث الصحيحة دلت على أن من مات وعليه نذر أنه يقضى عنه ، وسنقتصر هنا على قليل منها اختصارا لصحته ، وثبوته .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، قال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن عبد الله بن عباس أخبره : " أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نذر كان على أمه ، فتوفيت قبل أن تقضيه ، فأفتاه أن يقضيه عنها فكانت سنة بعد " اهـ من صحيح البخاري .

وقد قدمنا بعض الأحاديث الدالة على ذلك فيمن مات وعليه نذر الحج ، أنه يقضى عنه كما تقدم إيضاحه ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة معروفة .

تنبيه

اعلم أن ابن عمر وابن عباس أفتيا بقضاء الصلاة المنذورة عن الميت إذا مات ولم يصل ما نذر . قال البخاري في صحيحه : باب من مات وعليه نذر ، وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء فقال : صلي عنها . وقال ابن عباس نحوه ، اهـ من البخاري . وفي " الموطأ " عن مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر عن عمته : أنها حدثته ، عن جدته أنها كانت جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء ، فماتت ولم تقضه ، فأفتى [ ص: 250 ] عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها . قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : لا يمشي أحد عن أحد ، اهـ من " الموطأ " . وقال الزرقاني ، في شرحه : قال ابن القاسم : أنكر مالك الأحاديث في المشي إلى قباء ، ولم يعرف المشي إلا إلى مكة خاصة . قال ابن عبد البر يعني : لا يعرف إيجاب المشي للحالف والناذر . وأما المتطوع ، فقد روى مالك فيما مر أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي قباء راكبا وماشيا ، وأن إتيانه مرغب فيه . اهـ فيه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي عليه جمهور أهل العلم ، وحكى ابن بطال الإجماع عليه أنه لا يصلي أحد عن أحد ، أما الصوم والحج عن الميت فقد قدمنا مشروعيتهما . وإن خالف جل أهل العلم في الصوم عن الميت ، والعلم عند الله تعالى . وفي " الموطأ " عن مالك ، بعد أن ذكر حديث : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " قال يحيى : وسمعت مالكا يقول : معنى قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام ، أو إلى مصر ، أو إلى الربذة ، أو ما أشبه ذلك مما ليس لله بطاعة ، إن كلم فلانا أو ما أشبه ذلك فليس عليه في شيء من ذلك شيء إن هو كلمه ، أو حنث بما حلف عليه ; لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة . وإنما يوفى لله بما له فيه طاعة ، اهـ . من " الموطأ " .
الفرع السابع : الأظهر عندي أن من نذر جميع ماله لله ليصرف في سبيل الله ، أنه يكفيه الثلث ولا يلزمه صرف الجميع ، وهذا قول مالك وأصحابه وأحمد وأصحابه ، والزهري . وفي هذه المسألة للعلماء عشرة مذاهب أظهرها عندنا : هو ما ذكرنا ، ويليه في الظهور عندنا قول من قال : يلزمه صرفه كله ، وهو مروي عن الشافعي والنخعي ، وعن أحمد رواية أخرى أن عليه كفارة يمين ، وعن ربيعة تلزمه الصدقة بقدر الزكاة ، وعن جابر بن زيد ، وقتادة : إن كان كثيرا وهو ألفان تصدق بعشره ، وإن كان متوسطا وهو ألف تصدق بسبعه ، وإن كان قليلا ، وهو خمسمائة تصدق بخمسه ، وعن أبي حنيفة : يتصدق بالمال الزكوي كله ، وعنه في غيره روايتان .

إحداهما : يتصدق به .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:15 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (374)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 251 إلى صـ 258




والثانية : لا يلزم منه شيء ، وعن النخعي ، والبتي ، والشافعي : يتصدق بماله كله ، وعن الليث : إن كان مليا لزمه ، وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين ، ووافقه ابن وهب ، وزاد : وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله وهذا مروي أيضا عن أبي حنيفة ، وهو قول ربيعة كما تقدم . وعن الشعبي : لا يلزم شيء أصلا ، وقيل : يلزم الكل إلا في نذر اللجاج ، فكفارة [ ص: 251 ] يمين ، وعن سحنون : يلزمه إخراج ما لا يضر به . وعن الثوري والأوزاعي وجماعة : يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة :

فاعلم : أن أكثرها لا يعتضد بدليل ، والذي يعتضد بالدليل منها ثلاثة مذاهب :

الأول : هو ما قدمنا أنه أظهرها عندنا ، وهو الاكتفاء بالثلث .

والثاني : لزوم الصدقة بالمال كله .

والثالث : قول سحنون : أنه يلزمه إخراج ما لا يضر به ، أما الاكتفاء بالثلث الذي هو أقربها عندنا فقد يستدل له ببعض الأحاديث الصحيحة التي فيها النهي عن التصدق بالمال كله ، وفيها أن الثلث كثير .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : باب إذا أهدى ماله على وجه النذر ، والتوبة : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي ، قال : سمعت كعب بن مالك يقول في حديثه : وعلى الثلاثة الذين خلفوا [ 9 \ 118 ] فقال في آخر حديثه : إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " اهـ .

فظاهر هذا الحديث الصحيح : أن كعبا غير مستشير بل مريد التجرد من جميع ماله على وجه النذر والتوبة ، كما في ترجمة الحديث ، وقد أمره - صلى الله عليه وسلم - بأن يمسك بعض ماله ، وصرح له بأن ذلك خير له ، وقد جاء في بعض الروايات أنه فسر ذلك البعض الذي يمسكه بالثلثين ، وأنه يتصدق بالثلث ، وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث قوله : " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " زاد أبو داود عن أحمد بن صالح بهذا السند ، فقلت : إني أمسك سهمي الذي بخيبر ، وهو عند المصنف من وجه آخر عن ابن شهاب ، ووقع في رواية ابن إسحاق عن الزهري بهذا السند ، عند أبي داود : " إن من توبتي أن أخرج من مالي كله لله ورسوله صدقة قال : لا ، قلت : فنصفه ؟ قال : لا ، قلت : فثلثه ؟ قال : نعم ، قلت : فإني سأمسك سهمي في خيبر " .

واعلم أن ابن إسحاق في حديثه هذا عند أبي داود ، صرح بالتحديث عن الزهري ، فأمن تدليسه ثم قال ابن حجر : وأخرج من طريق ابن عيينة ، عن الزهري ، عن ابن [ ص: 252 ] كعب بن مالك ، عن أبيه أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذكر الحديث وفيه : وإني أنخلع من مالي كله صدقة ، قال : " يجزئ عنك الثلث " وفي حديث أبي لبابة ، عند أحمد وأبي داود مثله اهـ محل الغرض من فتح الباري .

وقد رأيت الروايات المصرحة بأنه يجزئه الثلث عن جميع المال ، وظاهر الحديث أنه جازم غير مستشير فمن زعم من أهل العلم أنه مستشير فهو مخالف لظاهر اللفظ ; لأن اللفظ مبدوء بجملة خبرية مؤكدة بحرف التوكيد ، الذي هو إن المكسورة في قوله : إن من توبتي أن أنخلع من مالي ، واللفظ الذي هذه صفته ، لا يمكن حمله على التوقف والاستشارة ، كما ترى فقوله - صلى الله عليه وسلم - لكعب بن مالك وأبي لبابة : إن الثلث يكفي عن الصدقة بجميع المال ، هو الدليل الذي ذكرنا بسببه : أن أقرب الأقوال عندنا الاكتفاء بالثلث . وأما قول من قال : يلزمه التصدق بجميعه ، فيستدل له بالحديث الصحيح : " من نذر أن يطيع الله فليطعه " وهو يدل على إيفائه بنذره ، ولو أتى على كل المال ، إلا أن دليل ما قبله أخص منه في محل النزاع والأخص مقدم على الأعم .

وأما قول سحنون : يلزمه التصدق بما لا يضر به فيستدل له بقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو الآية [ 2 \ 216 ] ; لأن العفو في أصح التفسيرين ، هو ما لا يضر إنفاقه بالمنفق ، ولا يجحف به لإمساكه ما يسد خلته الضرورية ، وهذا قد يرجع إلى الأول ; لأن الثلث من العفو الذي لا يجحف به إنفاقه ، فأظهرها الأول كما ذكرنا وباقي الأقوال لا أعلم له دليلا متجها من كتاب ، ولا سنة ، وما وجه به تلك الأقوال بعض أهل العلم لا يتجه عندي ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن : اعلم أنه قد دل النص الصحيح ، على أن من نذر أن يسافر إلى مسجد ليصلي فيه كمسجد البصرة ، أو الكوفة أو نحو ذلك : لا يلزمه السفر إلى مسجد من تلك المساجد ، وليصل الصلاة التي نذرها به في موضعه الذي هو به ، والنص الصحيح المذكور هو حديث : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا ومسجد بيت المقدس " ، والجاري على الأصول : أنه لا يخرج من هذا الحصر الذي صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح ، إلا ما أخرجه نص صحيح يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة . والأظهر أن من نذر السفر لصلاة في مسجد إيلياء ، وصلاها في مسجد مكة أو المدينة أجزأته ، لأنهما أفضل منه .

وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ثنا حماد أخبرنا حبيب المعلم ، عن [ ص: 253 ] عطاء بن أبي رباح ، عن جابر بن عبد الله : أن رجلا قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين قال : " صل ههنا ثم أعاد عليه ، فقال : صل ههنا ثم أعاد عليه ، فقال : شأنك إذا " قال أبو داود : وروي نحوه عن عبد الرحمن بن عوف ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وفي لفظ لأبي داود عن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " والذي بعث محمدا بالحق لو صليت هنا لأجزأ عنك صلاة في بيت المقدس " اهـ ، والعلم عند الله تعالى .

ولنكتف بما ذكر هنا من مسائل النذر لكثرة ما كتبنا في آيات سورة الحج من الأحكام الشرعية وأقوال أهل العلم فيها ، والنذر باب مذكور في كتب الفروع ، فمن أراد الإحاطة بجميع مسائله ، فلينظرها في كتب فروع المذاهب الأربعة ، وقد ذكرنا هنا عيون مسائله المهمة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وليطوفوا بالبيت العتيق .

في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال :

الأول : أن المراد به القديم ، لأنه أقدم مواضع التعبد .

الثاني : أن الله أعتقه من الجبابرة .

الثالث : أن المراد بالعتق فيه الكرم ، والعرب تسمي القديم عتيقا وعاتقا ومنه قول حسان - رضي الله عنه - :

كالمسك تخلطه بماء سحابة أو عاتق كدم الذبيح مدام

لأن مراده بالعاتق الخمر القديمة التي طال مكثها في دنها زمنا طويلا ، وتسمي الكريم عتقا ومنه قول كعب بن زهير :

قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل


فقوله : عتق مبين : أي كرم ظاهر ، ومنه قول المتنبي :



ويبين عتق الخيل في أصواتها أي كرمها ،

والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق ، وهو معروف .

وإذا علمت ذلك فاعلم : أنه قد دلت آية من كتاب الله ، على أن العتيق في الآية [ ص: 254 ] بمعنى القديم الأول وهي قوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا الآية [ 3 \ 96 ] مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق ، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

تنبيهان

الأول : دلت هذه الآية الكريمة ، على لزوم طواف الإفاضة وأنه لا صحة للحج بدونه .

الثاني : دلت هذه الآية أيضا على لزوم الطواف من وراء الحجر الذي عليه الجدار القصير شمال البيت ; لأن أصله من البيت ، فهو داخل في اسم البيت العتيق ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم ، لم يبين هنا هذا الذي يتلى عليهم المستثنى من حلية الأنعام ، ولكنه بينه بقوله في سورة الأنعام : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 \ 145 ] وهذا الذي ذكرنا هو الصواب ، أما ما قاله جماعات من أهل التفسير من أن الآية التي بينت الإجمال في قوله تعالى هنا : إلا ما يتلى عليكم [ 22 ] أنها قوله تعالى في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة الآية [ 5 \ 3 ] فهو غلط ، لأن المائدة من آخر ما نزل من القرآن وآية الحج هذه نازلة قبل نزول المائدة بكثير ، فلا يصح أن يحال البيان عليها في قوله : إلا ما يتلى عليكم بل المبين لذلك الإجمال آية الأنعام التي ذكرنا لأنها نازلة بمكة ، فيصح أن تكون مبينة لآية الحج المذكورة كما نبه عليه غير واحد .

أما قوله تعالى في المائدة : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم [ 5 \ 1 ] فيصح بيانه بقوله في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم الآية [ 5 \ 3 ] ، كما أوضحنا في أول المائدة والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فاجتنبوا الرجس من الأوثان . " من " في هذه الآية بيانية .

والمعنى : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان : أي [ ص: 255 ] عبادتها والرجس القذر الذي تعافه النفوس ، وفي هذه الآية الكريمة الأمر باجتناب عبادة الأوثان ، ويدخل في حكمها ، ومعناها عبادة كل معبود من دون الله كائنا من كان ، وهذا الأمر باجتناب عبادة غير الله المذكور هنا ، جاء مبينا في آيات كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] وبين تعالى أن ذلك شرط في صحة إيمانه بالله في قوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] وأثنى الله على مجتنبي عبادة الطاغوت المنيبين لله ، وبين أن لهم البشرى ، وهي ما يسرهم عند ربهم في قوله تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى الآية [ 39 \ 17 ] ، وقد سأل إبراهيم ربه أن يرزقه اجتناب عبادة الطاغوت ، في قوله تعالى : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] والأصنام تدخل في الطاغوت دخولا أوليا .
قوله تعالى : واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ، أمر في هذه الآية الكريمة باجتناب قول الزور ، وهو الكذب والباطل كقولهم : إن الله حرم البحيرة والسائبة ، ونحو ذلك ، وكادعائهم له الأولاد والشركاء ، وكل قول مائل عن الحق فهو زور ، لأن أصل المادة التي هي الزور من الازورار بمعنى الميل ، والاعوجاج ، كما أوضحناه في الكلام على قوله : تزاور عن كهفهم الآية [ 18 \ 17 ] .

واعلم أنا قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها ، أن يذكر لفظ عام ، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، وتقدمت لذلك أمثلة ، وسيأتي بعض أمثلته في الآيات القريبة من سورة الحج هذه .

وإذا علمت ذلك فاعلم أنه هنا قال : واجتنبوا قول الزور بصيغة عامة ، ثم بين في بعض المواضع بعض أفراد قول الزور المنهي عنه كقوله تعالى في الكفار الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا [ 25 \ 4 ] فصرح بأن قولهم هذا من الظلم والزور ، وقال في الذين يظاهرون من نسائهم ، ويقول الواحد منهم لامرأته : أنت علي كظهر أمي وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا [ 58 \ 2 ] فصرح بأن قولهم ذلك ، منكر وزور ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس [ ص: 256 ] فقال : " ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " اهـ وقد جمع تعالى هنا بين قول الزور والإشراك به تعالى في قوله :

واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به [ 22 - 31 ] وكما أنه جمع بينهما هنا ، فقد جمع بينهما أيضا في غير هذا الموضع كقوله : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 33 ] لأن قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون هو قول الزور ، وقد أتى مقرونا بقوله : وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وذلك يدل على عظمة قول الزور ; لأن الإشراك بالله قد يدخل في قول الزور ، كادعائهم الشركاء ، والأولاد لله ، وكتكذيبه - صلى الله عليه وسلم - فكل ذلك الزور فيه أعظم الكفر والإشراك بالله ، نعوذ بالله من كل سوء .

ومعنى حنفاء : قد قدمناه مرارا مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من أشرك بالله غيره أي ومات ولم يتب من ذلك فقد وقع في هلاك ، لا خلاص منه بوجه ولا نجاة معه بحال ، لأنه شبهه بالذي خر : أي سقط من السماء إلى الأرض ، فتمزقت أوصاله ، وصارت الطير تتخطفها وتهوي بها الريح فتلقيها في مكان سحيق : أي محل بعيد لشدة هبوبها بأوصاله المتمزقة ، ومن كانت هذه صفته فإنه لا يرجى له خلاص ولا يطمع له في نجاة ، فهو هالك لا محالة ; لأن من خر من السماء إلى الأرض لا يصل الأرض عادة إلا متمزق الأوصال ، فإذا خطفت الطير أوصاله وتفرق في حواصلها ، أو ألقته الريح في مكان بعيد فهذا هلاك محقق لا محيد عنه ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من هلاك من أشرك بالله وأنه لا يرجى له خلاص ، جاء موضحا في مواضع أخر كقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار الآية [ 5 \ 73 ] ، وكقوله : قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [ 7 \ 50 ] وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ 4 \ 48 ] في الموضعين من سورة النساء ، والخطف : الأخذ بسرعة والسحيق : البعيد ، ومنه قوله تعالى : فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] [ 67 \ 11 ] أي بعدا لهم .

وقد دلت آيات أخر على أن محل هذا الهلاك الذي لا خلاص منه بحال الواقع بمن [ ص: 257 ] يشرك بالله ، إنما هو في حق من مات على ذلك الإشراك ، ولم يتب منه قبل حضور الموت ، أما من تاب من شركه قبل حضور الموت ، فإن الله يغفر له ; لأن الإسلام يجب ما قبله .

والآيات الدالة على ذلك متعددة كقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] وقوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات الآية [ 25 \ 68 - 70 ] وقوله في : الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة [ 5 \ 73 ] ، أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 74 ] وقوله : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا الآية [ 20 \ 2 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأما إن كانت توبته من شركه عند حضور الموت ، فإنها لا تنفعه .

وقد دلت على ذلك آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 \ 18 ] فقد دلت الآية على التسوية بين الموت على الكفر والتوبة منه ، عند حضور الموت وكقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا [ 40 \ 84 - 85 ] وكقوله في فرعون : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 - 91 ] وقرأ هذا الحرف نافع فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أصله : فتتخطفه الطير بتاءين فحذفت إحداهما وقرأه غيره من السبعة فتخطفه الطير بإسكان الخاء وتخفيف الطاء مضارع خطفه بالكسر .
قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، قد ذكرنا قريبا أنا ذكرنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر لفظ عام ، ثم يصرح في بعض المواضع بدخول بعض أفراد ذلك العام فيه ، فيكون ذلك الفرد قطعي الدخول لا يمكن إخراجه بمخصص ، وواعدنا بذكر بعض أمثلته في هذه الآيات ، ومرادنا بذلك هذه الآية الكريمة ; لأن قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله [ 22 \ 32 ] عام في جميع شعائر الله ، وقد نص تعالى على أن البدن فرد من [ ص: 258 ] أفراد هذا العموم ، داخل فيه قطعا وذلك في قوله : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله [ 22 \ 36 ] فيدخل في الآية تعظيم البدن واستسمانها واستحسانها كما قدمنا عن البخاري : أنهم كانوا يسمنون الأضاحي ، وكانوا يرون أن ذلك من تعظيم شعائر الله ، وقد قدمنا أن الله صرح بأن الصفا والمروة داخلان في هذا العموم بقوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] وأن تعظيمها المنصوص في هذه الآية : يدل على عدم التهاون بالسعي بين الصفا والمروة كما تقدم إيضاحه في مبحث السعي ، وقوله في هذه الآية ذلك فيه ثلاثة أوجه من الإعراب .

الأول : أن يكون في محل رفع بالابتداء والخبر محذوف : أي ذلك حكم الله وأمره .

الثاني : أن يكون خبر مبتدأ محذوف : أي اللازم ذلك أو الواجب ذلك .

الثالث : أن يكون في محل نصب بفعل محذوف ، أي اتبعوا ذلك أو امتثلوا ذلك ، ومما يشبه هذه الإشارة في كلام العرب قال زهير :



هذا وليس كمن يعي بخطته وسط الندى إذا ما قائل نطقا

قاله القرطبي وأبو حيان والضمير المؤنث في قوله : فإنها من تقوى القلوب قال القرطبي : هو عائد إلى الفعلة التي يتضمنها الكلام ، ثم قال : وقيل إنه راجع إلى الشعائر بحذف مضاف أي : فإن تعظيمها أي الشعائر فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه فرجع الضمير إلى الشعائر ، اهـ ، وقال الزمخشري في الكشاف : فإنها من تقوى القلوب أي : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها ، لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى " من ليرتبط به ، اهـ منه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:18 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (375)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 259 إلى صـ 266



قوله تعالى : وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم ، أمر الله - جل وعلا - - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشر المخبتين : أي المتواضعين لله المطمئنين الذين من صفتهم : أنهم إذا سمعوا ذكر الله ، وجلت قلوبهم أي : خافت من الله - جل وعلا - وأن يبشر الصابرين على ما أصابهم من الأذى ، ومتعلق التبشير محذوف لدلالة المقام عليه أي بشرهم بثواب الله وجنته ، وقد بين في موضع آخر : أن الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم : هم المؤمنون حقا وكونهم هم المؤمنين حقا ، يجعلهم جديرين بالبشارة [ ص: 259 ] المذكورة هنا ، وذلك في قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية [ 8 \ 2 ] وأمره في موضع آخر أن يبشر الصابرين على ما أصابهم مع بيان بعض ما بشروا به ، وذلك في قوله تعالى : وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ 2 \ 155 - 157 ] .

واعلم : أن وجل القلوب عند ذكر الله أي : خوفها من الله عند سماع ذكره لا ينافي ما ذكره - جل وعلا - ، من أن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله كما في قوله تعالى : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره - جل وعلا - ، مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره ، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما أوضحناه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وهو أن الطمأنينة بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، وصدق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فطمأنينتهم بذلك قوية ; لأنها لم تتطرقها الشكوك ، ولا الشبه ، والوجل عند ذكر الله تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى ، وعدم تقبل الأعمال ; كما قال تعالى عن الراسخين في العلم ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] وقال تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] وقال تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " .
قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر ، قد قدمنا أنه تعالى أمر بالأكل من بهيمة الأنعام وهي : الإبل والبقر والغنم بأنواعها الثمانية ، وأمر بإطعام البائس الفقير منها ، وأمر بالأكل من البدن وإطعام القانع والمعتر منها ، وما كان من الإبل ، فهو من البدن بلا خلاف .

واختلفوا في البقرة ، هل هي بدنة ، وقد قدمنا الحديث الصحيح : أن البقرة من البدن ، وقدمنا أيضا ما يدل على أنها غير بدنة ، وأظهرهما أنها من البدن ، وللعلماء في تفسير القانع والمعتر أقوال متعددة متقاربة أظهرها عندي : أن القانع هو الطامع الذي يسأل أن يعطى من اللحم ومنه قول الشماخ :



لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع

[ ص: 260 ] يعني أعف من سؤال الناس ، والطمع فيهم ، وأن المعتر هو الذي يعتري متعرضا للإعطاء من غير سؤال وطلب ، والله أعلم . وقد قدمنا حكم الأكل من أنواع الهدايا والضحايا ، وأقوال أهل العلم في ذلك بما أغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ، قوله كذلك : نعت لمصدر أي : البدن لكم تسخيرا كذلك أي : مثل ذلك التسخير الذي تشاهدون أي : ذللناها لكم ، وجعلناها منقادة لكم تفعلون بها ما شئتم من نحر وركوب ، وحلب وغير ذلك من المنافع ، ولولا أن الله ذللها لكم لم تقدروا عليها ; لأنها أقوى منكم ألا ترى البعير ، إذا توحش صار صاحبه غير قادر عليه ، ولا متمكن من الانتفاع به ، وقوله هنا : لعلكم تشكرون قد قدمنا مرارا أن لعل تأتي في القرآن لمعان أقربها ، اثنان : أحدهما : أنها بمعناها الأصلي ، الذي هو الترجي والتوقع ، وعلى هذا فالمراد بذلك خصوص الخلق ; لأنهم هم الذين يترجى منهم شكر النعم من غير قطع ، بأنهم يشكرونها أو لا ينكرونها لعدم علمهم بما تؤول إليه الأمور ، وليس هذا المعنى في حق الله تعالى ; لأنه عالم بما سيكون فلا يجوز في حقه - جل وعلا - إطلاق الترجي والتوقع لتنزيهه عن ذلك ، وإحاطة علمه بما ينكشف عنه الغيب ، وقد قال تعالى لموسى وهارون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] أي على رجائكما وتوقعكما أنه يتذكر أو يخشى ، مع أن الله عالم في سابق أزله أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى ، فمعنى لعل بالنسبة إلى الخلق ، لا إلى الخالق - جل وعلا - ، المعنى الثاني : هو ما قدمنا من أن بعض أهل العلم ، قال : كل لعل في القرآن فهي للتعليل إلا التي في سورة الشعراء وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] قال : فهي بمعنى : كأنكم تخلدون ، وإتيان لفظة لعل للتعليل معروف في كلام العرب ، وقد قدمناه موضحا مرارا وقد قدمنا من شواهده العربية قول الشاعر :



فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق

يعني كفوا الحروب لأجل أن نكف ، وإذا علمت أن هذه الآية الكريمة بين الله فيها أن تسخيره الأنعام لبني آدم نعمة من إنعامه ، تستوجب الشكر لقوله : لعلكم تخلدون .

فاعلم : أنه بين هذا في غير هذا الموضع كقوله تعالى [ ص: 261 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 22 \ 36 ] وقوله في آية " يس " : هذه : أفلا يشكرون كقوله في آية " الحج " : لعلكم تشكرون ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى قريبا : كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم الآية [ 22 \ 37 ] ، وقد قدمنا معنى شكر العبد لربه وشكر الرب لعبده ، مرارا بما أغنى عن إعادته هنا والتسخير : التذليل .
قوله تعالى : إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يدفع السوء عن عباده الذين آمنوا به إيمانا حقا ، ويكفيهم شر أهل السوء ، وقد أشار إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه الآية [ 65 \ 3 ] ، وقوله : أليس الله بكاف عبده [ 39 \ 36 ] وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم [ 9 \ 14 - 15 ] وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] وقوله : وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وأبو عمرو : إن الله يدافع عن الذين آمنوا بفتح الياء والفاء بينهما دال ساكنة مضارع دفع المجرد ، وعلى هذه القراءة ، فالمفعول محذوف أي يدفع عن الذين آمنوا الشر والسوء ، ; لأن الإيمان بالله هو أعظم أسباب دفع المكاره ، وقرأ الباقون : يدافع بضم الياء ، وفتح الدال بعدها ألف ، وكسر الفاء مضارع دافع المزيد فيه ألف بين الفاء والعين على وزن فاعل ، وفي قراءة الجمهور هذه إشكال معروف ، وهو أن المفاعلة تقتضي بحسب الوضع العربي اشتراك فاعلين في المصدر ، والله - جل وعلا - يدفع كل ما شاء من غير أن يكون له مدافع يدفع شيئا .

والجواب : هو ما عرف من أن المفاعلة قد ترد بمعنى المجرد ، نحو : جاوزت المكان بمعنى جزته ، وعاقبت اللص ، وسافرت ، وعافاك الله ، ونحو ذلك ، فإن فاعل في جميع ذلك بمعنى المجرد ، وعليه فقوله : يدافع بمعنى : يدفع ، كما دلت عليه قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، وقال الزمخشري : ومن قرأ يدافع فمعناه : يبالغ في الدفع عنهم كما يبالغ من يغالب فيه ; لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ اهـ منه ، ولا يبعد عندي أن يكون [ ص: 262 ] وجه المفاعلة أن الكفار يستعملون كل ما في إمكانهم لإضرارهم بالمؤمنين ، وإيذائهم ، والله - جل وعلا - يدفع كيدهم عن المؤمنين ، فكان دفعه - جل وعلا - لقوة عظيمة أهلها في طغيان شديد ، يحاولون إلحاق الضرر بالمؤمنين وبهذا الاعتبار كان التعبير بالمفاعلة ، في قوله : يدافع ، وإن كان - جل وعلا - قادرا على إهلاكهم ، ودفع شرهم عن عباده المؤمنين ، ومما يوضح هذا المعنى الذي أشرنا إليه قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - :

زعمت سخينة أن ستغلب ربها

وليغلبن مغالب الغلاب

والعلم عند الله تعالى : ومفعول يدافع : محذوف فعلى القول بأنه بمعنى : يدفع فقد ذكرنا تقديره ، وعلى ما أشرنا إليه أخيرا فتقدير المفعول : يدافع عنهم أعداءهم ، وخصومهم فيرد كيدهم في نحورهم .
وقوله تعالى : إن الله لا يحب كل خوان كفور ، صرح - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : بأنه لا يحب كل خوان كفور ، والخوان والكفور كلاهما صيغة مبالغة ; لأن الفعال بالتضعيف والفعول بفتح الفاء من صيغ المبالغة ، والمقرر في علم العربية أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل ، فلو قلت : زيد ليس بقتال للرجال فقد نفيت مبالغته ، في قتلهم ، ولم يستلزم ذلك أنه لم يحصل منه قتل لبعضهم ولكنه لم يبالغ في القتل ، وعلى هذه القاعدة العربية المعروفة ، فإن الآية قد صرحت بأن الله لا يحب المبالغين في الكفر والمبالغين في الخيانة ، ولم تتعرض لمن يتصف بمطلق الخيانة ومطلق الكفر من غير مبالغة فيهما ، ولا شك أن الله يبغض الخائن مطلقا ، والكافر مطلقا ، وقد أوضح - جل وعلا - ذلك في بعض المواضع ، فقال في الخائن : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين [ 8 \ 58 ] وقال في الكافر : قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ 3 \ 32 ] .
قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، متعلق أذن محذوف في هذه الآية الكريمة أي : أذن لهم في القتال بدليل قوله : يقاتلون ، وقد صرح - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أذن للذين يقاتلون وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ودل قوله : يقاتلون : على أن المراد من يصلح للقتال منهم دون من لا يصلح له ، كالأعمى والأعرج والمريض والضعيف والعاجز عن السفر للجهاد لفقره [ ص: 263 ] بدليل قوله تعالى : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض الآية [ 24 \ 61 ] ، وقوله - جل وعلا - : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل [ 9 \ 91 ] وقوله : بأنهم ظلموا الباء فيه سببية وهي من حروف التعليل ، كما تقرر في مسلك النص الظاهر من مسالك العلة ، وهذه الآية هي أول آية نزلت في الجهاد كما قال به جماعات من العلماء ، وليس فيها من أحكام الجهاد إلا مجرد الإذن لهم فيه ، ولكن قد جاءت آيات أخر دالة على أحكام أخر زائدة على مطلق الإذن فهي مبينة عدم الاقتصار ، على الإذن كما هو ظاهر هذه الآية ، وقد قالت جماعة من أهل العلم : إن الله تبارك وتعالى لعظم حكمته في التشريع ، إذا أراد أن يشرع أمرا شاقا على النفوس كان تشريعه على سبيل التدريج ; لأن إلزامه بغتة في وقت واحد من غير تدريج فيه مشقة عظيمة ، على الذين كلفوا به قالوا فمن ذلك الجهاد ، فإنه أمر شاق على النفوس لما فيه من تعريضها لأسباب الموت ; لأن القتال مع العدو الكافر القوي من أعظم أسباب الموت عادة ، وإن كان الأجل محدودا عند الله تعالى كما قال تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] وقد بين تعالى مشقة إيجاب الجهاد عليهم ، بقوله : ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب [ 4 \ 77 ] ومع تعريض النفوس فيه لأعظم أسباب الموت ، فإنه ينفق فيه المال أيضا كما قال تعالى : وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم [ 61 \ 11 ] قالوا : ولما كان الجهاد فيه هذا من المشقة ، وأراد الله تشريعه شرعه تدريجا ، فأذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية [ 22 \ 39 ] ، ثم لما استأنست به نفوسهم بسبب الإذن فيه ، أوجب عليهم فقال : من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا الآية [ 2 \ 190 ] ، وهذا تدريج من الإذن إلى نوع خاص من الإيجاب ، ثم لما استأنست نفوسهم بإيجابه في الجملة أوجبه عليهم إيجابا عاما جازما في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ 9 \ 5 ] وقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [ 9 \ 36 ] وقوله : [ ص: 264 ] تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 \ 16 ] إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم : أن لبعض أهل العلم في بعض الآيات التي ذكرنا أقوالا غير ما ذكرنا ، ولكن هذا التدريج الذي ذكرنا دل عليه استقراء القرآن في تشريع الأحكام الشاقة ، ونظيره شرب الخمر فإن تركه شاق على من اعتاده ، فلما أراد الله أن يحرم الخمر حرمها تدريجا ، فذكر أولا بعض معائبها كقوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ثم لما استأنست نفوسهم بأن في الخمر إثما أكثر مما فيها من النفع ، حرمها عليهم في أوقات الصلاة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 4 \ 43 ] ، فكانوا بعد نزولها ، لا يشربونها إلا في وقت يزول فيه السكر قبل وقت الصلاة ، وذلك بعد صلاة العشاء وبعد صلاة الصبح ; لأن ما بين العشاء والصبح يصحو فيه السكران عادة ، وكذلك ما بين الصبح والظهر ، وهذا تدريج من عيبها إلى تحريمها في بعض الأوقات ، فلما استأنست نفوسهم بتحريمها حرمها عليهم تحريما عاما جازما بقوله : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إلى قوله : فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] وكذلك الصوم ، فإنه لما كان الإمساك عن شهوة الفرج والبطن شاقا على النفوس ، وأراد تعالى تشريعه شرعه تدريجا فخير أولا بين صوم اليوم وإطعام المسكين في قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين [ 2 \ 184 ] فلما استأنست النفوس به في الجملة ، أوجبه أيضا إيجابا عاما جازما بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 \ 185 ] وقال بعض أهل العلم : التدريج في تشريع الصوم على ثلاثة مراحل كما قبله قالوا : أوجب عليهم أولا صوما خفيفا لا مشقة فيه وهو صوم يوم عاشوراء وثلاثة من كل شهر ، ثم لما أراد فرض صوم رمضان شرعه تدريجا على المرحلتين اللتين ذكرناهما آنفا ، هكذا قالته جماعات من أهل العلم ، وله اتجاه والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وإن الله على نصرهم لقدير يشير إلى معنيين .

أحدهما : أن فيه الإشارة إلى وعده للنبي وأصحابه ، بالنصر على أعدائهم كما قال قبله قريبا : إن الله يدافع عن الذين آمنوا [ 22 \ 38 ] .

والمعنى الثاني : أن الله قادر على أن ينصر المسلمين على الكافرين من غير قتال [ ص: 265 ] لقدرته على إهلاكهم بما شاء ، ونصرة المسلمين عليهم بإهلاكه إياهم ، ولكنه شرع الجهاد لحكم منها : اختبار الصادق في إيمانه ، وغير الصادق فيه ، ومنها تسهيل نيل فضل الشهادة في سبيل الله بقتل الكفار لشهداء المسلمين ، ولولا ذلك لما حصل أحد فضل الشهادة في سبيل الله ، كما أشار تعالى إلى حكمة اختبار الصادق في إيمانه وغيره بالجهاد في آيات من كتابه ، كقوله تعالى : ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض [ 47 \ 4 ] وكقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب الآية [ 3 \ 179 ] وقوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون [ 9 \ 16 ] وقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ 3 \ 142 ] وقوله تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم [ 47 \ 31 ] إلى غير ذلك من الآيات وكقوله تعالى في حكمة الابتلاء المذكور ، وتسهيل الشهادة في سبيله : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين [ 3 \ 140 - 141 ] وقرأ هذا الحرف نافع ، وأبو عمرو وعاصم : " أذن " بضم الهمزة وكسر الذال مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون : بفتح الهمزة مبنيا للفاعل أي : أذن الله للذين يقاتلون ، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ، عن عاصم : " يقاتلون " بفتح التاء مبنيا للمفعول ، وقرأ الباقون بكسر التاء مبنيا للفاعل .
قوله تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، تقدم ما يوضح هذه الآية من الآيات في سورة " براءة " في الكلام على قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله [ 9 \ 74 ] .

قوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أقسم لينصرن من ينصره ، ومعلوم أن نصر الله إنما هو باتباع ما شرعه بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ونصرة رسله وأتباعهم ، ونصرة دينه وجهاد أعدائه وقهرهم حتى تكون كلمته - جل وعلا - هي العليا ، وكلمة أعدائه هي السفلى ، ثم إن الله - جل وعلا - بين صفات الذين وعدهم بنصره لتمييزهم عن غيرهم فقال [ ص: 266 ] مبينا من أقسم أنه ينصره ; لأنه ينصر الله - جل وعلا - : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر الآية [ 22 \ 41 ] وما دلت عليه هذه الآية الكريمة : من أن من نصر الله نصره الله جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم [ 47 \ 7 - 8 ] وقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] وقوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] وقوله : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية [ 24 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات وفي قوله تعالى : الذين إن مكناهم في الأرض الآية [ 22 \ 41 ] ، دليل على أنه لا وعد من الله بالنصر ، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، فالذين يمكن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم ، ومع ذلك لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر فليس لهم وعد من الله بالنصر ; لأنهم ليسوا من حزبه ، ولا من أوليائه الذين وعدهم بالنصر ، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه ، فلو طلبوا النصر من الله بناء على أنه وعدهم إياه ، فمثلهم كمثل الأجير الذي يمتنع من عمل ما أجر عليه ، ثم يطلب الأجرة ، ومن هذا شأنه فلا عقل له ، وقوله تعالى : إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء ، كما قدمناه مرارا بشواهده العربية ، وهذه الآيات تدل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين ; لأن الله نصرهم على أعدائهم ، لأنهم نصروه فأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ، وقد مكن لهم ، واستخلفهم في الأرض كما قال : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية [ 24 \ 55 ] ، والحق أن الآيات المذكورة تشمل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكل من قام بنصرة دين الله على الوجه الأكمل ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:21 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (376)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 267 إلى صـ 274



قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير في هذه الآيات الكريمة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الذي عامله به قومه من التكذيب عومل به غيره من الرسل الكرام ، وذلك يسليه ويخفف عليه كما قال تعالى [ ص: 267 ] وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك الآية [ 11 \ 120 ] ، وقوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ 41 \ 43 ] وقوله : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك الآية [ 35 \ 4 ] إلى غير ذلك من الآيات . وذكر تعالى في هذه الآيات سبع أمم كل واحدة منهم كذبت رسولها .

الأولى : قوم نوح في قوله : فقد كذبت قبلهم قوم نوح [ 22 \ 42 ] والآيات الدالة على تكذيب قوم نوح لا تكاد تحصى في القرآن ، لكثرتها ولنقتصر على الأمثلة لكثرة الآيات الدالة على تكذيب هذه الأمم رسلها كقوله : كذبت قوم نوح المرسلين [ 26 \ 105 ] وقوله : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر [ 54 \ 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الثانية : عاد ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع في آيات كثيرة أنهم كذبوا رسولهم هودا ، كقوله تعالى : كذبت عاد المرسلين [ 26 \ 123 ] وقوله : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين [ 11 \ 53 ] .

الثالثة : ثمود وقد بين تعالى في غير هذا الموضع تكذيبهم لنبيهم صالح في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : كذبت ثمود المرسلين [ 26 \ 141 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الرابعة : قوم إبراهيم ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة كقوله تعالى : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار [ 29 \ 24 ] وقوله : قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم الآية [ 21 \ 68 ] ، وكقوله : أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا [ 19 \ 46 ] إلى غير ذلك من الآيات .

الخامسة : قوم لوط وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أنهم كذبوه في آيات كثيرة ; كقوله : كذبت قوم لوط المرسلين [ 26 \ 160 ] وقوله : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم الآية [ 27 \ 56 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

السادسة : أصحاب مدين ، وقد بين تعالى أنهم كذبوا نبيهم شعيبا في غير هذا الموضع في آيات كثيرة كقوله : ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 95 ] وقوله : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إلى قوله : [ ص: 268 ] قالوا ياشعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد [ 11 \ 84 - 87 ] وقوله : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك الآية [ 11 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

السابعة : من كذبوا موسى وهم فرعون وقومه ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن فرعون وقومه كذبوا موسى في آيات كثيرة ; كقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 \ 29 ] وقوله : ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين [ 26 \ 18 - 19 ] وقوله : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية : فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 22 \ 44 ] قد بين تعالى نوع العذاب الذي عذب به كل أمة من تلك الأمم ، بعد الإملاء لها والإمهال ، فبين أنه أهلك قوم نوح بالغرق في مواضع كثيرة ; كقوله تعالى : فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 29 \ 14 ] وقوله : ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر [ 54 \ 11 - 12 ] وقوله : ثم أغرقنا بعد الباقين [ 26 \ 120 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وبين في مواضع كثيرة أنه بعد الإملاء والإمهال لعاد أهلكهم بالريح العقيم ; كقوله تعالى : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية الآيات [ 69 \ 6 ] وقوله تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 54 \ 41 - 42 ] وقوله : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم [ 46 \ 24 - 25 ] إلى غير ذلك من الآيات وبين أنه أهلك ثمود بصيحة أهلكتهم جميعا ; كقوله فيهم : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [ 11 \ 67 ] وقوله : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون الآية [ 41 \ 17 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوم إبراهيم الذين كذبوه هم نمروذ ، وقومه ، وقد ذكر المفسرون أن العذاب الدنيوي الذي أهلكهم الله به هو المذكور في قوله تعالى في سورة النحل : قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون [ 16 \ 26 ] وقد بين تعالى أنه أهلك قوم لوط بجعل عالي أرضهم سافلها ، وأنه [ ص: 269 ] أرسل عليهم مطرا من حجارة السجيل في مواضع متعددة كقوله ; تعالى : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل [ 11 \ 82 ] ونحو ذلك من الآيات ، وقد بين تعالى أنه أهلك أصحاب مدين بالصيحة في مواضع ; كقوله فيهم : وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 94 - 95 ] إلى غير ذلك من الآيات وقد بين في مواضع كثيرة أنه أهلك الذين كذبوا موسى ، وهم فرعون وقومه بالغرق كقوله : واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون [ 44 \ 24 ] وقوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم الآية [ 20 \ 78 ] وقوله تعالى : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ 10 \ 90 ] إلى غير ذلك من الآيات .

ومعلوم أن الآيات كثيرة في بيان ما أهلكت به هذه الأمم السبع المذكورة ، وقد ذكرنا قليلا منها كالمثال لغيره ، وكل ذلك يوضح معنى قوله تعالى بعد أن ذكر تكذيب الأمم السبع لأنبيائهم فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم [ 22 \ 44 ] أي : بالعذاب ، وهو ما ذكرنا بعض الآيات الدالة على تفاصيله وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكيف كان نكير النكير : اسم مصدر بمعنى الإنكار أي : كيف كان إنكاري عليهم منكرهم ، الذي هو كفرهم بي ، وتكذيبهم رسلي ، وهو ذلك العذاب المستأصل الذي بينا وبعده عذاب الآخرة الذي لا ينقطع نرجو الله لنا ولإخواننا المسلمين العافية من كل ما يسخط خالقنا ، ويستوجب عقوبته ، والجواب إنكارك عليهم بذلك العذاب واقع موقعه على أكمل وجه ; لأن الجزاء من جنس العمل ، فجزاء العمل البالغ غاية القبح بالنكال العظيم جزاء وفاق واقع موقعه ، فسبحان الحكيم الخبير الذي لا يضع الأمر إلا في موضعه ولا يوقعه إلا في موقعه ، وقرأ هذا الحرف ورش وحده عن نافع : فكيف كان نكير بياء المتكلم بعد الراء وصلا فقط وقرأ الباقون بحذفها اكتفاء بالكسرة عن الياء .
قوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أهلك كثيرا من القرى في حال كونها ظالمة أي : بسبب ذلك الظلم ، وهو الكفر بالله وتكذيب رسله ، فصارت بسبب الإهلاك والتدمير ديارها متهدمة وآبارها معطلة ، لا يسقي منها شيء لإهلاك أهلها الذين كانوا يستقون منها . [ ص: 270 ] وهذا المعنى الذي ذكره تعالى في هذه الآية : جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا [ 65 \ 8 - 10 ] وقوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ - صلى الله عليه وسلم - وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهي خاوية على عروشها [ 22 \ 45 ] العروش السقوف والخاوية الساقطة ومنه قول الخنساء :

كان أبو حسان عرشا خوى مما بناه الدهر دان ظليل

والمعنى : أن السقوف سقطت ثم سقطت عليها حيطانها على أظهر التفسيرات ، والقصر المشيد المطلي بالشيد بكسر الشين ، وهو الجص ، وقيل المشيد : الرفيع الحصين ، كقوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] أي : حصون رفيعة منيعة ، والظاهر أن قوله : وبئر معطلة معطوف على قرية أي : وكأين من قرية أهلكناها ، وكم من بئر عطلناها بإهلاك أهلها ، وكم من قصر مشيد أخليناه من ساكنيه ، وأهلكناهم لما كفروا وكذبوا الرسل . وفي هذه الآية وأمثالها : تهديد لكفار قريش الذين كذبوه - صلى الله عليه وسلم - ، وتحذير لهم من أن ينزل بهم ما نزل بتلك القرى من العذاب لما كذبت رسلها .
تنبيه

يظهر لطالب العلم في هذه الآية سؤال : وهو أن قوله : فهي خاوية على عروشها يدل على تهدم أبنية أهلها ، وسقوطها وقوله : وقصر مشيد يدل على بقاء أبنيتها قائمة مشيدة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر لي في جواب هذا السؤال : أن قصور القرى التي أهلكها الله ، وقت نزول هذه الآية منها ما هو متهدم كما دل عليه قوله : فهي خاوية على عروشها ومنها ما هو قائم باق على بنائه ، كما دل عليه قوله تعالى : وقصر مشيد وإنما استظهرنا هذا الجمع ; لأن القرآن دل عليه ، وخير ما يفسر به القرآن [ ص: 271 ] القرآن ، وذلك في قوله - جل وعلا - في سورة هود : ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد [ 11 \ 100 ] فصرح في هذه الآية بأن منها قائما ، ومنها حصيدا .

وأظهر الأقوال وأجراها على ظاهر القرآن : أن القائم هو الذي لم يتهدم ، والحصيد هو الذي تهدم وتفرقت أنقاضه ، ونظيره من كلام العرب قوله :

والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد

وفي معنى القائم والحصيد ، أقوال أخر غير ما ذكرنا ، ولكن ما ذكرنا هو أظهرها ، وذكر الزمخشري ما يفهم منه وجه آخر للجمع ، وهو أن معنى قوله : " خاوية " : خالية من أهلها من قوله : خوى المكان إذا خلا من أهله ، وأن معنى : " على عروشها " : أن الأبنية باقية أي : هي خالية من أهلها مع بقاء عروشها قائمة على حيطانها ، وما ذكرناه أولا هو الصواب إن شاء الله تعالى .

وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن : أن لفظ القرية يطلق تارة على نفس الأبنية ، وتارة على أهلها الساكنين بها ، فالإهلاك في قوله : أهلكناها ، والظلم في قوله : وهي ظالمة : يراد به أهلها الساكنون بها وقوله : فهي خاوية على عروشها يراد به الأبنية كما قال في آية : واسأل القرية التي كنا فيها [ 12 \ 82 ] وقال في أخرى : حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها [ 18 \ 77 ] .

وقد بينا في رسالتنا المسماة منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز : أن ما يسميه البلاغيون مجاز النقص ، ومجاز الزيادة ، ليس بمجاز حتى عند جمهور القائلين بالمجاز من الأصوليين ، وأقمنا الدليل على ذلك ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير : وكائن بألف بعد الكاف ، وبعد الألف همزة مكسورة ، فنون ساكنة وقرأه الباقون : وكأين بهمزة مفتوحة بعد الكاف بعدها ياء مكسورة مشددة فنون ساكنة ، ومعنى القراءتين واحد ، فهما لغتان فصيحتان ، وقراءتان سبعيتان صحيحتان .

وأبو عمرو يقف على الياء ، والباقون يقفون على النون ، وقرأ أبو عمرو : " أهلكتها " بتاء المتكلم المضمومة بعد الكاف من غير ألف ، والباقون بنون مفتوحة بعد الكاف ، وبعد النون ألف ، والمراد بصيغة الجمع ، على قراءة الجمهور التعظيم ، كما هو واضح ، وقرأ ورش والسوسي و ( بير ) بإبدال الهمزة ياء والباقون بالهمزة الساكنة .
[ ص: 272 ] مسألة

اعلم أن كأين فيها لغات عديدة أفصحها الاثنتان اللتان ذكرناهما ، وكأين بفتح الهمزة والياء المكسورة المشددة أكثر في كلام العرب ، وهي قراءة الجمهور كما بينا ، وكائن بالألف والهمزة المكسورة أكثر في شعر العرب ، ولم يقرأ بها من السبعة غير ابن كثير كما بينا ، ومعنى كأين : كمعنى كم الخبرية ، فهي تدل على الإخبار بعدد كثير ومميزها له حالتان :

الأولى : أن يجر بمن وهي لغة القرآن كقوله : وكأين من قرية [ 65 \ 8 ] وقوله وكأين من نبي الآية [ 3 \ 146 ] وكأين من آية في السماوات والأرض الآية [ 12 \ 105 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب في جر مميز كأين بمن قوله :

وكائن بالأباطح من صديق يراني لو أصيب هو المصابا

الحالة الثانية : أن ينصب ومنه قوله :

وكائن لنا فضلا عليكم ومنة قديما ولا تدرون ما من منعم


وقول الآخر :

اطرد اليأس بالرجاء فكائن آلما حم يسره بعد عسر


قال في الخلاصة :

ككم كأين وكذا وينتصب تمييز ذين أو به صل من تصب


أما الاستفهام بكأين فهو نادر ولم يثبته إلا ابن مالك ، وابن قتيبة ، وابن عصفور ، واستدل له ابن مالك بما روي عن أبي بن كعب أنه قال لابن مسعود : كأين تقرأ سورة الأحزاب آية فقال : ثلاثا وسبعين اهـ .

واختلف في كأين هل هي بسيطة أو مركبة وعلى أنها مركبة فهي مركبة من كاف التشبيه ، وأي المنونة ، قال بعضهم : ولأجل تركيبها جاز الوقف عليها بالنون في قراءة الجمهور ; لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ، ولهذا رسم في المصحف نونا وقراءة أبي عمرو بالوقف على الياء لأجل اعتبار حكم التنوين في الأصل ، وهو حذفه في الوقف .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي أن كأين بسيطة ، وأنها كلمة [ ص: 273 ] وضعتها العرب للإخبار بعدد كثير نحو : كم ، إذ لا دليل يجب الرجوع إليه على أن أصلها مركبة ، ومن الدليل على أنها بسيطة : إثبات نونها في الخط ; لأن الأصل في نون التنوين عدم إثباتها في الخط ، ودعوى أن التركيب جعلها كالنون الأصلية دعوى مجردة عن الدليل ، واختار أبو حيان أنها غير مركبة ، واستدل لذلك بتلاعب العرب بها في تعدد اللغات ، فإن فيها خمس لغات اثنتان منها قد قدمناهما ، وبينا أنهما قراءتان سبعيتان ; لأن إحداهما قرأ بها ابن كثير والأخرى قرأ بها الجمهور ، واللغة الثالثة فيها : كأين بهمزة ساكنة فياء مكسورة ، والرابعة كيئن بياء ساكنة وهمزة مكسورة ، الخامسة : كأن بهمزة مفتوحة ونون ساكنة اهـ ، ولقد صدق أبو حيان في أن التلاعب بلفظ هذه الكلمة إلى هذه اللغات يدل على أن أصلها بسيطة لا مركبة .

والله تعالى أعلم .

واعلم : أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة من أن البئر المعطلة ، والقصر المشيد معروفان ، وأنهما بحضرموت ، وأن القصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى إليه بحال ، وأن البئر في سفحه لا تقر الرياح شيئا سقط فيها إلا أخرجته ، وما يذكرونه أيضا من أن البئر هي : الرس ، وأنها كانت بعدن باليمن بحضرموت في بلد يقال له : حضور ، وأنها نزل بها أربعة آلاف ممن آمنوا بصالح ، ونجوا من العذاب ومعهم صالح ، فمات صالح ، فسمي المكان حضرموت ; لأن صالحا لما حضره مات فبنوا حضور وقعدوا على هذه البئر ، وأمروا عليهم رجلا يقال له : العلس بن جلاس بن سويد أو جلهس بن جلاس وكان حسن السيرة فيهم عاملا عليهم ، وجعلوا وزيره سنجاريب بن سوادة ، فأقاموا دهرا ، وتناسلوا حتى كثروا ، وكانت البئر تسقي المدينة كلها وباديتها ، وجميع ما فيها من الدواب والغنم والبقر وغير ذلك ; لأنها كانت لها بكرات كثيرة منصوبة عليها ، ورجال كثيرون موكلون بها ، وحياض كثيرة حولها تملأ للناس وحياض للدواب وحياض للغنم ، وحياض للبقر ، ولم يكن لهم ماء غيرها ، وآل بهم الأمر إلى أن مات ملكهم وطلوا جثته بدهن يمنعها من التغيير ، وأن الشيطان دخل في جثته ، وزعم لهم أنه هو الملك ، وأنه لم يمت ولكنه تغيب عنهم ليرى صنيعهم وأمرهم أن يضربوا بينهم وبين الجثة حجابا ، وكان الشيطان يكلمهم من جثة الملك من وراء حجاب لئلا يطلعوا على الحقيقة أنه ميت ، ولم يزل بهم حتى كفروا بالله تعالى فبعث الله إليهم نبيا اسمه : حنظلة بن صفوان يوحى إليه في النوم دون اليقظة ، فأعلمهم أن الشيطان أضلهم وأخبرهم أن ملكهم قد مات ، ونهاهم عن الشرك بالله ووعظهم ونصح لهم ، وحذرهم عقاب ربهم ، فقتلوا نبيهم المذكور في [ ص: 274 ] السوق ، وطرحوه في بئر فعند ذلك نزل بهم عقاب الله ، فأصبحوا والبئر غار ماؤها ، وتعطل رشاؤها فصاحوا بأجمعهم ، وضج النساء والصبيان حتى مات الجميع من العطش ، وأن تلك البئر هي البئر المعطلة في هذه الآية ، كله لا معول عليه ; لأنه من جنس الإسرائيليات ، وظاهر القرآن يدل على خلافه ، لأن قوله : وكأين من قرية [ 22 \ 48 ] معناه : الإخبار بأن عددا كبيرا من القرى أهلكهم الله بظلمهم ، وأن كثيرا من آبارهم بقيت معطلة بهلاك أهلها ، وأن كثيرا من القصور المشيدة بقيت بعد هلاك أهلها بدونهم ; لأن مميز كأين ، وإن كان لفظه مفردا فمعناه يشمل عددا كثيرا كما هو معلوم في محله .

وقال أبو حيان في " البحر المحيط " وعن الإمام أبي القاسم الأنصاري قال : رأيت قبر صالح بالشام في بلدة يقال لها : عكا فكيف يكون بحضرموت ، ومعلوم أن ديار قوم صالح التي أهلكوا فيها معروفة يمر بها الذاهب من المدينة إلى الشام ، وقد قدمنا في سورة الحجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بها في طريقه إلى تبوك في غزوة تبوك ، ومن المستبعد أن يقطع صالح ، ومن آمن من قومه هذه المسافة الطويلة البعيدة من أرض الحجر إلى حضرموت من غير داع يدعوه ويضطره إلى ذلك ، كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن كفار مكة الذين كذبوا نبينا - صلوات الله وسلامه عليه - ، ينبغي لهم أن يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها ; لأنهم إذا سافروا مروا بأماكن قوم صالح ، وأماكن قوم لوط ، وأماكن قوم هود ، فوجدوا بلادهم خالية وآثارهم منطمسة لم يبق منهم داع ولا مجيب ، لتكذيبهم رسلهم ، وكفرهم بربهم ، فيدركون بعقولهم : أن تكذيبهم نبيهم لا يؤمن أن يسبب لهم من سخط الله مثل ما حل بأولئك الذين مروا بمساكنهم خالية ، قد عم أهلها الهلاك ، وتكون لهم آذان يسمعون بها ما قص الله في كتابه على نبيه من أخبار تلك الأمم ، وما أصابها من الإهلاك المستأصل والتدمير ، فيحذروا أن يحل بهم مثل ما حل بأولئك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:23 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (377)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 275 إلى صـ 282




والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم [ 47 \ 10 ] ثم بين تهديده لكفار مكة بما فعل بالأمم الماضية في قوله : وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] وكقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] [ ص: 275 ] وكقوله فيهم : وإنها لبسبيل مقيم الآية [ 15 \ 76 ] ، وكقوله في قوم لوط وقوم شعيب : أصحاب الأيكة [ 50 \ 14 ] وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ; لأن معنى الآيتين : أن ديارهم على ظهر الطريق الذي يمرون فيه المعبر عنه بالسبيل والإمام ، والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا منها جملا كافية في سورة المائدة وغيرها .

والآية تدل على أن محل العقل : في القلب ، ومحل السمع : في الأذن ، فما يزعمه الفلاسفة من أن محل العقل الدماغ باطل ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وكذلك قول من زعم أن العقل لا مركز له أصلا في الإنسان ; لأنه زماني فقط لا مكاني فهو في غاية السقوط والبطلان كما ترى .

قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ، قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى الآية [ 17 \ 72 ] ، مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - تعجيل العذاب الذي يعدهم به طغيانا وعنادا .

والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة في القرآن ; كقوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] وقوله : يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين [ 29 \ 54 ] وقوله : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب الآية [ 29 \ 53 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في مواضع متعددة ، من هذا الكتاب المبارك في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله : ما عندي ما تستعجلون به [ 6 \ 57 ] وفي يونس في الكلام على قوله : أثم إذا ما وقع آمنتم به [ 10 \ 15 ] إلى غير ذلك من المواضع .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولن يخلف الله وعده الظاهر أن المراد بالوعد هنا : هو ما أوعدهم به من العذاب الذي يستعجلون نزوله .

[ ص: 276 ] والمعنى : هو منجز ما وعدهم به من العذاب ، وإذا جاء الوقت المحدد لذلك كما قال تعالى : ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون [ 29 \ 53 ] وقوله تعالى : ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون [ 11 \ 8 ] وقوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] وبه تعلم أن الوعد يطلق في القرآن على الوعد بالشر .

ومن الآيات الموضحة لذلك قوله تعالى : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ 22 \ 72 ] فإنه قال في هذه الآية في النار : وعدها الله بصيغة الثلاثي الذي مصدره الوعد ، ولم يقل أوعدها وما ذكر في هذه الآية ، من أن ما وعد به الكفار من العذاب واقع لا محالة ، وأنه لا يخلف وعده بذلك ، جاء مبينا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " ق " قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي الآية [ 50 \ 28 ] والصحيح أن المراد بقوله : ما يبدل القول لدي أن ما أوعد الكفار به من العذاب ، لا يبدل لديه ، بل هو واقع لا محالة ، وقوله تعالى : كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] أي : وجب وثبت فلا يمكن عدم وقوعه بحال وقوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] كما أوضحناه في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب ، عن آيات الكتاب " في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية [ 6 \ 128 ] ، وأوضحنا أن ما أوعد به الكفار لا يخلف بحال ، كما دلت عليه الآيات المذكورة ، أما ما أوعد به عصاة المسلمين ، فهو الذي يجوز ألا ينفذه وأن يعفو كما قال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء الآية [ 4 \ 48 ] .

وبالتحقيق الذي ذكرنا : تعلم أن الوعد يطلق في الخير والشر كما بينا ، وإنما شاع على ألسنة كثير من أهل التفسير ، من أن الوعد لا يستعمل إلا في الوعد بخير وأنه هو الذي لا يخلفه الله ، وأما إن كان المتوعد به شرا ، فإنه وعيد وإيعاد ، قالوا : إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما ، وعن الإيعاد كرما ، وذكروا عن الأصمعي أنه قال : كنت عند أبي عمرو بن العلاء ، فجاءه عمرو بن عبيد فقال : يا أبا عمرو ، هل يخلف الله الميعاد ؟ فقال : لا ، فذكر آية وعيد ، فقال له : أمن العجم أنت ؟ إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الإيعاد كرما ، أما سمعت قول الشاعر : [ ص: 277 ]

ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا انثنى عن سطوة المتهدد فإني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

فيه نظر من وجهين .

الأول : هو ما بيناه آنفا من إطلاق الوعد في القرآن على التوعد بالنار ، والعذاب كقوله تعالى : النار وعدها الله الذين كفروا [ 22 \ 72 ] وقوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده [ 22 \ 47 ] ; لأن ظاهر الآية الذي لا يجوز العدول عنه ، ولن يخلف الله وعده في حلول العذاب الذي يستعجلونك به لهم ، لأنه مقترن بقوله : ويستعجلونك بالعذاب [ 22 \ 47 ] فتعلقه به هو الظاهر .

الثاني : هو ما بينا أن ما أوعد الله به الكفار لا يصح أن يخلفه بحال ; لأن ادعاء جواز إخلافه ، لأنه إيعاد وأن العرب تعد الرجوع عن الإيعاد كرما يبطله أمران :

الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر أصلا ، لأن إيعادهم بإدخالهم النار مما زعموا أن الرجوع عنه كرم ، وهذا لا شك في بطلانه .

الثاني : ما ذكرنا من الآيات الدالة : على أن الله لا يخلف ما أوعد به الكفار من العذاب ، كقوله : قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي الآية [ 50 \ 28 - 29 ] وقوله تعالى فيهم : فحق وعيد [ 50 \ 14 ] وقوله فيهم : فحق عقاب [ 38 \ 14 ] ومعنى حق : وجب وثبت ، فلا وجه لانتفائه بحال ، كما أوضحناه هنا وفي غير هذا الموضع .
قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن اليوم عنده - جل وعلا - كألف سنة مما يعده خلقه ، وما ذكره هنا من كون اليوم عنده كألف سنة ، أشار إليه في سورة السجدة بقوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] وذكر في سورة المعارج أن مقدار اليوم خمسون ألف سنة وذلك في قوله : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] ، فآية الحج ، وآية السجدة متوافقتان تصدق كل واحدة منهما الأخرى ، وتماثلها في المعنى ، وآية المعارج تخالف ظاهرهما لزيادتها عليهما بخمسين ضعفا ، وقد ذكرنا وجه الجمع بين هذه الآيات في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وسنذكره إن شاء الله [ ص: 278 ] هنا ملخصا مختصرا ، ونزيد عليه بعض ما تدعو الحاجة إليه .

فقد ذكرنا ما ملخصه : أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، سئل عن هذه الآيات : فلم يدر ما يقوله فيها ، ويقول : لا أدري ، ثم ذكرنا أن للجمع بينهما وجهين : الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك ، عن عكرمة عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة الحج : هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ويوم الألف في سورة السجدة ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ويوم الخمسين ألفا ، هو يوم القيامة .

الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن اختلاف زمن اليوم إنما هو باعتبار حال المؤمن ، وحال الكافر ; لأن يوم القيامة أخف على المؤمن منه على الكافر كما قال تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] اهـ ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان .

وذكرنا أيضا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب ، عن آيات الكتاب " في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ما ملخصه : أن آية الفرقان هذه تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار ; لأن المقيل القيلولة أو مكانها وهي الاستراحة نصف النهار في الحر ، وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار : ابن عباس ، وابن مسعود ، وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية ، على ذلك ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره .

وفي تفسير الجلالين ما نصه : وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار ، كما ورد في حديث انتهى منه ، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] وهو يوم القيامة بلا خلاف في ذلك .

والظاهر في الجواب : أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين : يدل على أن المؤمنين [ ص: 279 ] ليسوا كذلك وقوله تعالى :

فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] يدل بمفهوم مخالفته على أنه يسير على المؤمنين غير عسير كما دل عليه قوله تعالى : مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر .

وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث : أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه : أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين ، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة ، حتى يفرغ من الناس وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ونقله عنه ابن كثير في تفسيره ، وأما على قول من فسر المقيل في الآية بأنه المأوى والمنزل كقتادة - رحمه الله - ، فلا دلالة في الآية لشيء مما ذكرنا ، ومعلوم أن من كان في سرور ونعمة ، أنه يقصر عليه الزمن الطويل قصرا شديدا ، بخلاف من كان في العذاب المهين والبلايا والكروب ، فإن الزمن القصير يطول عليه جدا ، وهذا أمر معروف ، وهو كثير في كلام العرب ، وقد ذكرنا في كتابنا المذكور بعض الشواهد الدالة عليه ، كقول أبي سفيان بن الحارث - رضي الله عنه - يرثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :



أرقت فبات ليلي لا يزول وليل أخي المصيبة فيه طول

وقول الآخر :



فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار


وقول الآخر :



ليلى وليلي نفى نومي اختلافهما في الطول والطول طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلى وإن جادت به بخلا


ونحو هذا كثير جدا في كلام العرب ، ومن أظرف ما قيل فيه ما روي عن يزيد بن معاوية أنه قال :

لا أسأل الله تغييرا لما فعلت نامت وقد أسهرت عيني عيناها
فالليل أطول شيء حين أفقدها والليل أقصر شيء حين ألقاها


وقد ورد بعض الأحاديث بما يدل على ظاهر آية " الحج " ، وآية " السجدة " .

وسنذكر هنا طرفا منه بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية من سورة " الحج " ، قال ابن كثير : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثني عبدة بن سليمان ، عن [ ص: 280 ] محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام " ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد بن عمرو به ، وقال الترمذي : حسن صحيح .

وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفا فقال : حدثني يعقوب ثنا ابن علية ، ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة ، عن سمير بن نهار قال : قال أبو هريرة : يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء ، بمقدار نصف يوم ، قلت : وما مقدار نصف يوم ؟ قال : أو ما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى قال : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه : حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثني صفوان عن شريح بن عبيد ، عن سعد بن أبي وقاص ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم " قيل لسعد : وكم نصف يوم ؟ قال : خمسمائة سنة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن إسرائيل ، عن سماك عن عكرمة ، عن ابن عباس وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] قال : من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ورواه ابن جرير عن ابن بشار ، عن ابن المهدي وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية ، وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] اهـ . محل الغرض من ابن كثير ، وظواهر الأحاديث التي ساق يمكن الجمع بينها وبين ما ذكرنا من أن أصل اليوم كألف سنة ، ولكنه بالنسبة إلى المؤمنين يقصر ويخف ، حتى يكون كنصف نهار ، والله تعالى أعلم ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير ، وحمزة ، والكسائي : ( كألف سنة مما يعدون ) بياء الغيبة ، وقرأه الباقون تعدون بتاء الخطاب ومعنى القراءتين واضح ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ، تقدمت قريبا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية في الكلام على قوله تعالى كذبت قبلهم قوم نوح وإلى قوله وقصر مشيد [ 22 \ 44 - 45 ] .
قوله تعالى : يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين .

[ ص: 281 ] أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية أن يقول للناس إنما أنا لكم نذير مبين أي : إني لست بربكم ، ولا بيدي هدايتكم ولا علي عقابكم يوم القيامة ، ولكني مخوف لكم من عذاب الله وسخطه .

والآيات بهذا المعنى كثيرة جدا ; قوله تعالى فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] وقوله إنما أنت منذر [ 13 \ 7 ] وقوله إن أنا إلا نذير مبين [ 26 \ 115 ] وقوله فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] وقوله إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد [ 34 \ 46 ] وقوله تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : مبين الظاهر أنه الوصف من أبان الرباعية اللازمة التي بمعنى بان ، والعرب تقول : أبان فهو معنى بان ، فهو بين من اللازم الذي ليس بمتعد إلى المفعول ، ومنه قول كعب بن زهير :

قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل

فقوله : عتق مبين أي : كرم ظاهر ومن أبان اللازمة قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :

لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدور


يعني : لظهر وبان من آثارهن ورم ومنه قول جرير :

إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب


أي ظهر : وبان المقرفات من العراب ، ويحتمل أن يكون قوله في هذه الآية : مبين : اسم أبان المتعدية ، والمفعول محذوف للتعميم

أي : مبين لكم في إنذاري كل ما ينفعكم ، وما يضركم لتجتلبوا النفع ، وتجتنبوا الضر ، والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الذين آمنوا به وبرسله ، وكل ما يجب الإيمان به ، وعملوا الفعلات الصالحات من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي لهم من الله مغفرة لذنوبهم ، ورزق كريم أي : حسن ، هو ما يرزقهم من أنواع النعيم في جناته ، وأن [ ص: 282 ] الذين عملوا بخلاف ذلك فهم أصحاب الجحيم أي : النار الشديد حرها ، وفي هذه الآية وعد لمن أطاعه ووعيد لمن عصاه ، والآيات بمثل ذلك في القرآن كثيرة كقوله تعالى نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ 15 \ 49 - 50 ] وقوله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول الآية [ 40 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع وقوله في هذه الآية الكريمة والذين سعوا في آياتنا معاجزين [ 22 \ 51 ] قال مجاهد : معاجزين يثبطون الناس عن متابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذا قال عبد الله بن الزبير : مثبطين ، وقال ابن عباس : معاجزين أي مغالبين ومشاقين ، وعن الفراء معاجزين : معاندين ، وعن الأخفش معاجزين : معاندة مسابقين ، وعن الزجاج معاجزين أي : ظانين أنهم يعجزوننا ; لأنهم ظنوا ألا بعث ، وأن الله لا يقدر عليهم .

واعلم : أن في هذا الحرف قراءتين سبعيتين قرأه الجمهور : معاجزين بألف بين العين والجيم بصيغة المفاعلة اسم فاعل عاجزه ، وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو : معجزين بلا ألف مع تشديد الجيم المكسورة على صيغة اسم الفاعل من عجزه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر بحسب الوضع العربي في قراءة الجمهور معاجزين : هو اقتضاء طرفين ، لأن الظاهر لا يعدل عنه إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، والمفاعلة تقتضي الطرفين إلا لدليل يصرف عن ذلك ، واقتضاء الفاعلة الطرفين في الآية من طريقين .

الأولى : هي ما قاله ابن عرفة من أن معنى معاجزين في الآية أنهم يعاجزون الأنبياء وأتباعهم ، فيحاول كل واحد منهما إعجاز الآخر فالأنبياء وأتباعهم ، يحاولون إعجاز الكفار وإخضاعهم لقبول ما جاء عن الله تعالى ، والكفار يقاتلون الأنبياء ، وأتباعهم ، ويمانعونهم ، ليصيروهم إلى العجز عن أمر الله ، وهذا الوجه ظاهر كما قال تعالى ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [ 2 \ 217 ] وعليه فمفعول معاجزين محذوف : أي معاجزين الأنبياء وأتباعهم ، أي مغالبين لهم ، ليعجزوهم عن إقامة الحق .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:26 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (378)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 283 إلى صـ 290




الطريقة الثانية : هي التي ذكرناها آنفا عن الزجاج أن معنى معاجزين : ظانين أنهم يعجزون ربهم ، فلا يقدر عليهم لزعمهم أنه لا يقدر على بعثهم بعد الموت كما قال تعالى [ ص: 283 ] زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] وكما قال تعالى وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] وقال تعالى عنهم إنهم قالوا وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] وعلى هذا القول فالكفار معاجزين الله في زعمهم الباطل ، وقد بين تعالى في آيات كثيرة أن زعمهم هذا كاذب ، وأنهم لا يعجزون ربهم بحال كقوله تعالى واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] وقوله فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] وقوله وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 22 ] وقوله تعالى في " الجن " وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا [ 72 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا أن مما يوضح هذا الوجه الأخير قول كعب بن مالك - رضي الله عنه - :

زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب

ومراده بسخينة قريش يعني : أنهم يحاولون غلبة ربهم ، والله غالبهم بلا شك والوجه الأول أظهر ، وأما على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو : معجزين بكسر الجيم المشددة ، بلا ألف ، فالأظهر أن المعنى معجزين أي : مثبطين من أراد الدخول في الإيمان عن الدخول فيه ، وقيل معجزين من اتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنى ذلك : أنهم ينسبونهم إلى العجز من قولهم : عجزه بالتضعيف إذا نسبه إلى العجز الذي هو ضد الحزم ، يعنون : أنه يحسبون المسلمين سفهاء لا عقول لهم ، حيث ارتكبوا أمرا غير الحزم والصواب ، وهو اتباع دين الإسلام في زعمهم كما قال تعالى عن إخوانهم المنافقين وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء الآية [ 2 \ 13 ] وقوله في هذه الآية الكريمة والذين سعوا في آياتنا [ 22 \ 51 ] .

اعلم أولا : أن السعي يطلق على العمل في الأمر لإفساده وإصلاحه ، ومن استعماله في الإفساد قوله تعالى هنا والذين سعوا في آياتنا أي : سعوا في إبطالها وتكذيبها بقولهم : إنها سحر وشعر وكهانة وأساطير الأولين ، ونحو ذلك . ومن إطلاق السعي في الفساد أيضا قوله تعالى وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها الآية [ 2 \ 205 ] ومن إطلاق السعي في العمل للإصلاح قوله تعالى إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا [ 76 \ 22 ] [ ص: 284 ] وقوله وأما من جاءك يسعى وهو يخشى الآية [ 80 \ 8 - 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .

ومن إطلاق السعي على الخير والشر معا قوله تعالى إن سعيكم لشتى إلى قوله وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 4 - 11 ] وهذه الآية التي ذكرها هنا في سورة " الحج " التي هي قوله تعالى فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم [ 22

- 51 ] جاء معناها واضحا في سورة سبأ في قوله تعالى ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم [ 38 \ 4 - 5 ] فالعذاب من الرجز الأليم المذكور في " سبأ " هو عذاب الجحيم المذكور في الحج .
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ، معنى قوله تمنى في هذه الآية الكريمة فيه للعلماء وجهان من التفسير معروفان :

الأول : أن تمنى بمعنى : قرأ وتلا ومنه قول حسان في عثمان بن عفان - رضي الله عنه - :

تمنى كتاب الله أول ليله وآخرها لاقى حمام المقادر

وقول الآخر :

تمنى كتاب الله آخر ليله تمني داود الزبور على رسل


فمعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا .

وفي صحيح البخاري ، عن ابن عباس أنه قال : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته : إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، وكون تمنى بمعنى : قرأ وتلا ، هو قول أكثر المفسرين .

القول الثاني : أن تمنى في الآية من التمني المعروف ، وهو تمنيه إسلام أمته وطاعتهم لله ولرسله ، ومفعول ألقى محذوف فعلى أن تمنى بمعنى : أحب إيمان أمته [ ص: 285 ] وعلق أمله بذلك ، فمفعول ألقى يظهر أنه من جنس الوساوس ، والصد عن دين الله حتى لا يتم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو الرسول ما تمنى .

ومعنى كون الإلقاء في أمنيته على هذا الوجه : أن الشيطان يلقي وساوسه وشبهه ليصد بها عما تمناه الرسول أو النبي ، فصار الإلقاء كأنه واقع فيها بالصد عن تمامها والحيلولة دون ذلك .

وعلى أن تمنى بمعنى : قرأ ، ففي مفعول ألقى تقديران :

أحدهما : من جنس الأول أي : ألقى الشيطان في قراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو النبي الشبه والوساوس ليصد الناس عن اتباع ما يقرؤه ، ويتلوه الرسول أو النبي ، وعلى هذا التقدير فلا إشكال .

وأما التقدير الثاني : فهو ألقى الشيطان في أمنيته أي قراءته ما ليس منها ليظن الكفار أنه منها .

وقوله فينسخ الله ما يلقي الشيطان يستأنس به لهذا التقدير .

وقد ذكر كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية قصة الغرانيق قالوا : سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون . وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى رجع المهاجرون من الحبشة ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم .

وقد قدمنا في هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول ، ومثلنا لذلك : بأمثلة متعددة ، وهذا القول الذي زعمه كثير من المفسرين : وهو أن الشيطان ألقى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ، هذا الشرك الأكبر والكفر البواح الذي هو قولهم : تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ، يعنون : اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ، الذي لا شك في بطلانه في نفس سياق آيات " النجم " التي تخللها إلقاء الشيطان المزعوم قرينة قرآنية واضحة على بطلان هذا القول ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ بعد موضع الإلقاء المزعوم بقليل قوله تعالى ، في اللات [ ص: 286 ] والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] وليس من المعقول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يسب آلهتهم هذا السب العظيم في سورة النجم متأخرا عن ذكره لها بخير المزعوم ، إلا وغضبوا ، ولم يسجدوا ; لأن العبرة بالكلام الأخير ، مع أنه قد دلت آيات قرآنية على بطلان هذا القول ، وهي الآيات الدالة على أن الله لم يجعل للشيطان سلطانا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإخوانه من الرسل ، وأتباعهم المخلصين كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] وقوله تعالى :

إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] وقوله تعالى وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة الآية [ 34 \ 21 ] وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان الآية [ 14 \ 22 ] ، وعلى القول المزعوم أن الشيطان ألقى على لسانه - صلى الله عليه وسلم - ذلك الكفر البواح ، فأي سلطان له أكبر من ذلك .

ومن الآيات الدالة على بطلان ذلك القول المزعوم قوله تعالى في النبي - صلى الله عليه وسلم - : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] وقوله هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم [ 26 \ 221 - 222 ] ، وقوله في القرآن العظيم : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقوله تعالى : وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 41 - 42 ] فهذه الآيات القرآنية تدل على بطلان القول المزعوم .
مسألة .

اعلم : أن مسألة الغرانيق مع استحالتها شرعا ، ودلالة القرآن على بطلانها لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج ، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من علماء الحديث كما هو الصواب ، والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، ومعلوم أن الكلبي متروك ، وقد بين البزار - رحمه الله - : أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير ، مع الشك الذي وقع في وصله ، وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره ، لثبوت هذه القصة بأن طرقها كلها إما منقطعة أو ضعيفة إلا طريق سعيد بن جبير .

وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير ، لم يروها بها أحد متصلة إلا [ ص: 287 ] أمية بن خالد ، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها .

فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب ، ثم ساق حديث القصة المذكورة ، وقال البزار : لا يرى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور ، وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، والكلبي متروك .

فتحصل أن قصة الغرانيق ، لم ترد متصلة إلا من هذا الوجه الذي شك راويه في الوصل ، ومعلوم أن ما كان كذلك لا يحتج به لظهور ضعفه ، ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح .

وقال الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا ، ولا يثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته ، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله ; كقوله ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية [ 69 \ 44 ] وقوله وما ينطق عن الهوى الآية [ 53 \ 3 ] ، وقوله ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ 17 \ 74 ] فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون ، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل ، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل ، وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة : أن هذه القصة من وضع الزنادقة وأبطلها ابن العربي المالكي ، والفخر الرازي وجماعات كثيرة ، وقراءته - صلى الله عليه وسلم - سورة النجم وسجود المشركين ثابت في الصحيح ، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق ، وعلى هذا القول الصحيح وهو أنها باطلة فلا إشكال .

وأما على ثبوت القصة كما هو رأي الحافظ ابن حجر فإنه قال في فتح الباري :

إن هذه القصة ثابتة بثلاثة أسانيد كلها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل ، وكذلك من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض ; لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك على أن لها أصلا ، فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة أحسنها ، وأقربها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات ، فلما قرأ ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 20 ] قال الشيطان - لعنه الله - محاكيا لصوته : تلك الغرانيق العلى . . . الخ فظن المشركون أن الصوت صوته - صلى الله عليه وسلم - ، وهو برئ من ذلك براءة الشمس من اللمس ، وقد أوضحنا هذه المسألة في رحلتنا إيضاحا وافيا ، واختصرناها هنا ، وفي كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .

[ ص: 288 ] والحاصل : أن القرآن دل على بطلانها ، ولم تثبت من جهة النقل ، مع استحالة الإلقاء على لسانه - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر شرعا ، ومن أثبتها نسب التلفظ بذلك الكفر للشيطان . فتبين أن نطق النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك الكفر ، ولو سهوا مستحيل شرعا ، وقد دل القرآن على بطلانه ، وهو باطل قطعا على كل حال ، والغرانيق : الطير البيض المعروفة واحدها : غرنوق كزنبور وفردوس ، وفيه لغات غير ذلك ، يزعمون أن الأصنام ترتفع إلى الله كالطير البيض ، فتشفع عنده لعابديها قبحهم الله ما أكفرهم ! ونحن وإن ذكرنا أن قوله فينسخ الله ما يلقي الشيطان يستأنس به لقول من قال : إن مفعول الإلقاء المحذوف تقديره :

ألقى الشيطان في قراءته ما ليس منها ; لأن النسخ هنا هو النسخ اللغوي ، ومعناه الإبطال والإزالة من قولهم : نسخت الشمس الظل ، ونسخت الريح الأثر ، وهذا كأنه يدل على أن الله ينسخ شيئا ألقاه الشيطان ، ليس مما يقرؤه الرسول أو النبي ، فالذي يظهر لنا أنه الصواب ، وأن القرآن يدل عليه دلالة واضحة ، وإن لم ينتبه له من تكلم على الآية من المفسرين : هو أن ما يلقيه الشيطان في قراءة النبي : الشكوك والوساوس المانعة من تصديقها وقبولها ، كإلقائه عليهم أنها سحر أو شعر ، أو أساطير الأولين ، وأنها مفتراة على الله ليست منزلة من عنده .

والدليل على هذا المعنى : أن الله بين أن الحكمة في الإلقاء المذكور امتحان الخلق ، لأنه قال ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض 2 \ 53 ] ثم قال وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم [ 22 \ 54 ] فقوله وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق الآية ، يدل على أن الشيطان يلقي عليهم ، أن الذي يقرؤه النبي ليس بحق فيصدقه الأشقياء ، ويكون ذلك فتنة لهم ، ويكذبه المؤمنون الذين أوتوا العلم ، ويعلمون أنه الحق لا الكذب ; كما يزعم لهم الشيطان في إلقائه : فهذا الامتحان لا يناسب شيئا زاده الشيطان من نفسه في القراءة ، والعلم عند الله تعالى .

وعلى هذا القول ، فمعنى نسخ ما يلقي الشيطان : إزالته وإبطاله ، وعدم تأثيره في المؤمنين الذين أوتوا العلم .

ومعنى يحكم آياته : يتقنها بالإحكام ، فيظهر أنها وحي منزل منه بحق ، ولا يؤثر في ذلك محاولة الشيطان صد الناس عنها بإلقائه المذكور ، وما ذكره هنا من أنه يسلط الشيطان فيلقى في قراءة الرسول والنبي ، فتنة للناس ليظهر مؤمنهم من كافرهم .

[ ص: 289 ] بذلك الامتحان ، جاء موضحا في آيات كثيرة قدمناها مرارا كقوله وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء الآية [ 74 \ 31 ] وقوله تعالى وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه الآية [ 2 \ 143 ] وقوله وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن أي : لأنها فتنة ، كما قال أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية [ 37 \ 62 - 64 ] ; لأنه لما نزلت هذه الآية قالوا : ظهر كذب محمد - صلى الله عليه وسلم - لأن الشجر لا ينبت في الموضع اليابس ، فكيف تنبت شجرة في أصل الجحيم إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه مرارا ، والعلم عند الله تعالى . واللام في قوله ليجعل ما يلقي الشيطان الآية الأظهر أنها متعلقة ، بألقى أي : ألقى الشيطان في أمنية الرسل والأنبياء ، ليجعل الله ذلك الإلقاء فتنة للذين في قلوبهم مرض ، خلافا للحوفي القائل : إنها متعلقة بـ " يحكم " ، وابن عطية القائل : إنها متعلقة بـ " ينسخ " . ومعنى كونه : فتنة لهم أنه سبب لتماديهم في الضلال والكفر ، وقد أوضحنا معاني الفتنة في القرآن سابقا ، وبينا أن أصل الفتنة في اللغة وضع الذهب في النار ، ليظهر بسبكه فيها أخالص هو أم زائف ، وأنها في القرآن تطلق على معان متعددة منها : الوضع في النار ، ومنه قوله تعالى يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] أي : يحرقون بها ، وقوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 \ 10 ] أي : أحرقوهم بنار الأخدود على أظهر التفسيرين ، ومنها : الاختبار وهو أكثر استعمالاتها في القرآن ، كقوله تعالى إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ 64 \ 15 ] وقوله تعالى ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ 21 \ 35 ] وقوله تعالى وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] ومنها : نتيجة الابتلاء إن كانت سيئة كالكفر والضلال ; كقوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 \ 193 ] أي : شرك بدليل قوله ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] وقوله في الأنفال ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] ومما يوضح هذا المعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " الحديث ، فالغاية في الحديث مبينة للغاية في الآية [ ص: 290 ] لأن خير ما يفسر به القرآن بعد القرآن السنة ، ومنه بهذا المعنى قوله هنا ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض وقد جاءت الفتنة في موضع بمعنى الحجة ، وهو قوله تعالى في الأنعام ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] أي حجتهم كما هو الظاهر .

واعلم أن مرض القلب في القرآن يطلق على نوعين :

أحدهما : مرض بالنفاق والشك والكفر ، ومنه قوله تعالى في المنافقين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] وقوله هنا ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض [ 22 \ 53 ] أي : كفر وشك .

والثاني : منهما إطلاق مرض القلب على ميله للفاحشة والزنى ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض [ 33 \ 32 ] أي : ميل إلى الزنى ونحوه ، والعرب تسمي انطواء القلب على الأمور الخبيثة : مرضا وذلك معروف في لغتهم ومنه قول الأعشى :

حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض

وقوله هنا والقاسية قلوبهم [ 22 \ 53 ] قد بينا في سورة البقرة الآيات القرآنية الدالة على سبب قسوة القلوب في الكلام على قوله ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ 2 \ 74 ] وآية الحج هذه تبين أن ما اشتهر على ألسنة أهل العلم .

من أن النبي هو من أوحي إليه وحي ، ولم يؤمر بتبليغه ، وأن الرسول هو النبي الذي أوحي إليه ، وأمر بتبليغ ما أوحي إليه غير صحيح ; لأن قوله تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الآية [ 22 \ 52 ] ، يدل على أن كلا منهما مرسل ، وأنهما مع ذلك بينهما تغاير واستظهر بعضهم أن النبي الذي هو رسول أنزل إليه كتاب وشرع مستقل مع المعجزة التي ثبتت بها نبوته ، وأن النبي المرسل الذي هو غير الرسول ، هو من لم ينزل عليه كتاب وإنما أوحي إليه أن يدعو الناس إلى شريعة رسول قبله ، كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا يرسلون ويؤمرون بالعمل بما في التوراة ; كما بينه تعالى بقوله يحكم بها النبيون الذين أسلموا الآية [ 5 \ 44 ] وقوله في هذه الآية فتخبت له قلوبهم أي : تخشع وتخضع وتطمئن .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:29 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (379)
سُورَةُ الْحَجِّ
صـ 291 إلى صـ 298






[ ص: 291 ] قوله تعالى : ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم ، ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار لا يزالون في مرية ، أي : شك وريب منه أي : من هذا القرآن العظيم كما هو الظاهر ، واختاره ابن جرير وهو قول ابن جريج ، كما نقله عنهم ابن كثير : وقال سعيد بن جبير ، وابن زيد : في مرية منه أي : في شك مما ألقى الشيطان ، وذكر تعالى في هذه الآية : أنهم لا يزالون كذلك ، حتى تأتيهم الساعة ، أي : القيامة بغتة ، أي : فجأة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم . وقد روى مجاهد عن أبي بن كعب : أن اليوم العقيم المذكور يوم بدر ، وكذا قال مجاهد وعكرمة ، وسعيد بن جبير وغير واحد . واختاره ابن جرير كما نقله عنهم ابن كثير في تفسيره ثم قال : وقال مجاهد وعكرمة في رواية عنهما : هو يوم القيامة لا ليل له ، وكذا قال الضحاك والحسن البصري ، ثم قال : وهذا القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به . اهـ ، محل الغرض من ابن كثير .

وقد ذكرنا مرارا أنا بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا لذلك أمثلة كثيرة ، وبه تعلم أن القرينة القرآنية هنا دلت على أن المراد باليوم العقيم : يوم القيامة ، لا يوم بدر ، وذلك أنه تعالى أتبع ذكر اليوم العقيم ، بقوله الملك يومئذ لله يحكم بينهم الآية [ 22 \ 56 ] ، وذلك يوم القيامة وقوله : يومئذ أي : يوم إذ تأتيهم الساعة ، أو يأتيهم عذاب عقيم ، وكل ذلك يوم القيامة . فظهر أن اليوم العقيم : يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر عقيما على الكفار ; لأنهم لا خير لهم فيه ، وقد أصابهم ما أصابهم .
قوله تعالى : الملك يومئذ لله يحكم بينهم ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الملك يوم القيامة له ، وإن كان الملك في الدنيا له أيضا ; لأن في الدنيا ملوكا من المخلوقين ، ويوم القيامة لا يكون فيه اسم الملك إلا لله - جل وعلا - وحده ، وما ذكره في هذه الآية الكريمة من أن الملك يوم القيامة له ، ومعلوم أن الملك هو الذي له الحكم بين الخلق بينه في غير هذا الموضع ; كقوله مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] وقوله الملك يومئذ الحق للرحمن الآية [ 25 \ 26 ] وقوله [ ص: 292 ] لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] وقوله تعالى وله الملك يوم ينفخ في الصور الآية [ 6 \ 73 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين ، إدخال الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة المذكور هنا وكون الكفار المكذبين بآيات الله لهم العذاب المهين : يتضمن تفصيل حكم الله بينهم في قوله يحكم بينهم [ 22 \ 56 ] وما ذكره هنا من الوعد والوعيد قد بينا الآيات الدالة على معناه مرارا بكثرة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية : أن المؤمنين الذين هاجروا في سبيل الله ، ثم قتلوا بأن قتلهم الكفار في الجهاد ; لأن هذا هو الأغلب في قتل من قتل منهم ، أو ماتوا على فرشهم حتف أنفهم في غير جهاد ، أنه تعالى أقسم ليرزقنهم رزقا حسنا وأنه خير الرازقين ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا جاء مبينا في غير هذا الموضع .

أما الذين قتلوا في سبيل الله فقد بين الله - جل وعلا - : أنه يرزقهم رزقا حسنا ، وذلك في قوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون [ 3 \ 169 ] ولا شك أن ذلك الذي يرزقهم رزق حسن ، وأما الذين ماتوا في قتال المذكورين في قوله هنا : أو ماتوا ، فقد قال الله فيهم ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله [ 4 \ 100 ] ولا شك أن من وقع أجره على الله : أن الله يرزقه الرزق الحسن كما لا يخفى .

والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة .

وقد ذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية طرفا منها والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية ثم قتلوا قرأه ابن عامر بتشديد التاء والباقون بتخفيفها .
قوله تعالى : ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير .

[ ص: 293 ] ذكر غير واحد من المفسرين : أن الإشارة في قوله : ذلك راجعة إلى نصرة من ظلم من عباده المؤمنين المذكور قبله في قوله ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله الآية [ 22 \ 60 ] ، أي : ذلك النصر المذكور كائن بسبب أنه قادر لا يعجز عن نصرة من شاء نصرته ، ومن علامات قدرته الباهرة : أنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ، ومصرفهما ، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار ، وأنه سميع لما يقولون ، بصير بما يفعلون أي : وذلك الوصف بخلق النهار والليل والإحاطة بما يجري فيهما ، والإحاطة بكل قول وفعل بسبب أن الله هو الحق أي : الثابت الإلهية والاستحقاق للعبادة وحده ، وأن كل ما يدعى إلها غيره باطل وكفر ، ووبال على صاحبه ، وأنه - جل وعلا - هو العلي الكبير ، الذي هو أعلا من كل شيء وأعظم وأكبر سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

وقد أشار تعالى لأول ما ذكرنا ، بقوله ذلك بأن الله يولج الليل في النهار الآية [ 22 \ 61 ] ، ولآخره بقوله ذلك بأن الله هو الحق الآية [ 22 \ 62 ] .

والأظهر عندي : أن الإشارة في قوله ذلك : راجعة إلى ما هو أعم من نصرة المظلوم ، وأنها ترجع لقوله الملك يومئذ لله يحكم بينهم [ 22 \ 56 ] ، إلى ما ذكره من نصرة المظلوم أي : ذلك المذكور من كون الملك له وحده ، يوم القيامة ، وأنه الحاكم وحده بين خلقه ، وأنه المدخل الصالحين جنات النعيم والمعذب الذين كفروا العذاب المهين ، والناصر من بغي عليه من عباده المؤمنين ، بسبب أنه القادر على كل شيء ، ومن أدلة ذلك : أنه يولج الليل في النهار إلى آخر ما ذكرنا . وهذا الذي وصف به نفسه هنا من صفات الكمال والجلال ذكره في غير هذا الموضع كقوله في سورة لقمان ، مبينا أن من اتصف بهذه الصفات قادر على إحياء الموتى ، وخلق الناس ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة إن الله سميع بصير [ 31 \ 28 ] .

ثم استدل على قدرته على الخلق والبعث ، فقال : ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى وأن الله بما تعملون خبير ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير [ 31 \ 29 - 30 ] فهذه الصفات الدالة على كمال قدرته ، استدل بها على قدرته في " الحج " ، وفي " لقمان " ، وإيلاج كل من الليل والنهار في الآخر فيه معنيان :

[ ص: 294 ] الأول : وهو قول الأكثر هو : أن إيلاج كل واحد منهما في الآخر ، إنما هو بإدخال جزء منه فيه ، وبذلك يطول النهار في الصيف ; لأنه أولج فيه شيء من الليل ويطول الليل في الشتاء ; لأنه أولج فيه شيء من النهار ، وهذا من أدلة قدرته الكاملة .

المعنى الثاني : هو أن إيلاج أحدهما في الآخر ، هو تحصيل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك ، بغيبوبة الشمس ، وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا كما يضيء البيت المغلق بالسراج ، ويظلم بفقده . ذكر هذا الوجه الزمخشري ، وكأنه يميل إليه والأول أظهر ، وأكثر قائلا ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وأن ما يدعون من دونه هو الباطل [ 22 \ 62 ] قرأه حفص وحمزة والكسائي : يدعون بالياء التحتية ، وقرأه الباقون : بتاء الخطاب الفوقية .
قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ، الظاهر : أن " تر " هنا من رأى بمعنى : علم ; لأن إنزال المطر وإن كان مشاهدا بالبصر فكون الله هو الذي أنزله ، إنما يدرك بالعلم لا بالبصر ، فالرؤية هنا علمية على التحقيق .

فالمعنى : ألم تعلم الله منزلا من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة أي : ذات خضرة بسبب النبات الذي ينبته الله فيها بسبب إنزاله الماء من السماء ، وهذه آية من آياته وبراهين قدرته على البعث كما بيناه مرارا .

وهذا المعنى المذكور هنا من كون إنبات نبات الأرض ، بإنزال الماء من آياته الدالة على كمال قدرته جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت [ 41 \ 39 ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله : إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] وكقوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله : إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] ، وقوله : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا [ 50 \ 9 - 11 ] ثم بين أن ذلك من براهين البعث بقوله : كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] أي : [ ص: 295 ] خروجكم من قبوركم أحياء بعد الموت ، كقوله : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] وقوله : وأحيينا به بلدة ميتا [ 50 \ 11 ] ، كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] والآيات بمثل هذا كثيرة .
تنبيه .

في هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان :

الأول : هو ما حكمة عطف المضارع في قوله : فتصبح على الماضي الذي هو أنزل ؟

السؤال الثاني : ما وجه الرفع في قوله : فتصبح مع أن قبلها استفهاما ؟

فالجواب عن الأول : أن النكتة في المضارع هي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول : أنعم على فلان عام كذا وكذا ، فأروح وأغدو شاكرا له ، ولو قلت : فغدوت ورحت ، لم يقع ذلك الموقع ، هكذا أجاب به الزمخشري .

والذي يظهر لي والله أعلم : أن التعبير بالمضارع يفيد استحضار الهيئة التي اتصفت بها الأرض : بعد نزول المطر ، والماضي لا يفيد دوام استحضارها ; لأنه يفيد انقطاع الشيء .

أما الرفع في قوله : فتصبح ; فلأنه ليس مسببا عن الرؤية التي هي موضع الاستفهام ، وإنما هو مسبب الإنزال في قوله : أنزل ، والإنزال الذي هو سبب إصباح الأرض مخضرة ليس فيه استفهام ، ومعلوم أن الفاء التي ينصب بعدها المضارع إن حذفت جاز جعل مدخولها جزاء للشرط ، ولا يمكن أن تقول هنا : إن تر أن الله أنزل من السماء ماء ، تصبح الأرض مخضرة ; لأن الرؤية لا أثر لها ألبتة في اخضرار الأرض ، بل سببه إنزال الماء لا رؤية إنزاله .

وقد قال الزمخشري في " الكشاف " في الجواب عن هذا السؤال : فإن قلت : فما له رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام .

قلت : لو نصب لأعطى ما هو عكس الغرض ; لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار .

مثاله : أن تقول لصاحبك : ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر ، إن تنصبه فأنت ناف لشكره شاك تفريطه ، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر ، وهذا وأمثاله مما يجب أن يرغب له من [ ص: 296 ] اتسم بالعلم في علم الإعراب ، وتوقير أهله ، انتهى منه . وذكر نحوه أبو حيان في البحر ظانا أنه أوضحه ، ولا يظهر لي كل الظهور ، والعلم عند الله تعالى .

فإن قيل : كيف قال : فتصبح مع أن اخضرار الأرض ، قد يتأخر عن صبيحة المطر .

فالجواب : أنه على قول من قال : فتصبح الأرض مخضرة أي : تصير مخضرة فالأمر واضح ، والعرب تقول : أصبح فلان غنيا مثلا بمعنى صار ، وذكر أبو حيان عن بعض أهل العلم : أن بعض البلاد تصبح فيه الأرض مخضرة في نفس صبيحة المطر .

وذكر عكرمة وابن عطية وعلي هذا فلا إشكال . وقال بعضهم : إن الفاء للتعقيب ، وتعقيب كل شيء بحسبه كقوله : ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة [ 23 \ 14 ] مع أن بين ذلك أربعين يوما كما في الحديث ، قاله ابن كثير ، وقوله : لطيف خبير أي : لطيف بعباده ، ومن لطفه بهم إنزاله المطر وإنباته لهم به أقواتهم ، خبير بكل شيء ، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
قوله تعالى : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الله سخر لخلقه ما في الأرض ، وسخر لهم السفن تجري في البحر بأمره ، وهذا الذي ذكره هنا جاء موضحا في مواضع كثيرة كقوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] وقد بينا معنى تسخير ما في السماء بإيضاح في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] ، وكقوله : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة " النحل " وغيرها .
قوله تعالى : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه هو الذي يمسك السماء ويمنعها من أن تقع على الأرض ، فتهلك من فيها ، وأنه لو شاء لأذن للسماء فسقطت على الأرض فأهلكت من عليها ; كما قال : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء الآية [ 34 \ 9 ] ، وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده الآية [ 35 \ 41 ] ، [ ص: 297 ] وكقوله : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] على قول من فسرها : بأنه غير غافل عن الخلق بل حافظ لهم من سقوط السماوات المعبر عنها بالطرائق عليهم .

تنبيه .

هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن كقوله : ويمسك السماء أن تقع على الأرض [ 22 \ 65 ] وقوله : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده [ 35 \ 41 ] وقوله : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء [ 34 \ 9 ] وقوله : وبنينا فوقكم سبعا شدادا ، [ 78 \ 12 ] وقوله : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون [ 51 \ 47 ] ، وقوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا الآية [ 21 \ 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، يدل دلالة واضحة ، على أن ما يزعمه ملاحدة الكفرة ، ومن قلدهم من مطموسي البصائر ممن يدعون الإسلام أن السماء فضاء لا جرم مبني ، أنه كفر وإلحاد وزندقة ، وتكذيب لنصوص القرآن العظيم ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله في هذه الآية الكريمة إن الله بالناس لرءوف رحيم [ 22 \ 65 ] أي : ومن رأفته ورحمته بخلقه أنه أمسك السماء عنهم ، ولم يسقطها عليهم .
قوله تعالى : وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور ، قوله : وهو الذي أحياكم ، أي : بعد أن كنتم أمواتا في بطون أمهاتكم قبل نفخ الروح فيكم فهما إحياءتان ، وإماتتان كما بينه بقوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] وقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين الآية [ 40 \ 11 ] .

ونظير آية " الحج " المذكورة هذه قوله تعالى ، في " الجاثية " : قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 45 \ 26 ] ، وكفر الإنسان المذكور في هذه الآية في قوله : إن الإنسان لكفور مع أن الله أحياه مرتين ، وأماته مرتين ، هو الذي دل القرآن على استعباده وإنكاره مع دلالة الإماتتين والإحياءتين على وجوب الإيمان [ ص: 298 ] بالمحيي المميت ، وعدم الكفر به في قوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الآية [ 2 \ 28 ] .
قوله تعالى : لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه ، الأظهر في معنى قوله منسكا هم ناسكوه [ 22 \ 67 ] ، أي : متعبدا هم متعبدون فيه ; لأن أصل النسك التعبد وقد بين تعالى أن منسك كل أمة فيه التقرب إلى الله بالذبح ، فهو فرد من أفراد النسك صرح القرآن بدخوله في عمومه ، وذلك من أنواع البيان الذي تضمنها هذا الكتاب المبارك .

والآية التي بين الله فيها ذلك هي قوله تعالى : ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلمواالآية [ 22 \ 34 ] وقوله لكل أمة جعلنا منسكا [ 22 \ 34 و 67 ] في الموضعين قرأه حمزة والكسائي بكسر السين والباقون بفتحها .
قوله تعالى : الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى ، أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أن يدعو الناس إلى ربهم ، أي : إلى طاعته ، وأخبره فيها أنه على صراط مستقيم أي : طريق حق واضح لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام الذي أمره أن يدعو الناس إليه وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمرين المذكورين ، جاء واضحا في مواضع أخر ; كقوله في الأول منهما : ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين [ 28 \ 87 ] وقوله تعالى : فلذلك فادع واستقم كما أمرت الآية [ 42 \ 15 ] وقوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ 16 \ 125 ] وأخبر - جل وعلا - أنه امتثل الأمر بدعائهم إلى ربهم في قوله تعالى : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم [ 23 \ 73 ] وقوله : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] وكقوله في الأخير : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] وقوله : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها الآية [ 45 \ 18 ] وقوله تعالى : ويهديك صراطا مستقيما [ 48 \ 2 ] .

والآيات بمثل هذا كثيرة .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-10-21, 11:32 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (380)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 299 إلى صـ 306




قوله تعالى : وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون ، أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة : أنه إن جادله الكفار أي : خاصموه [ ص: 299 ] بالباطل وكذبوه ، أن يقول لهم : الله أعلم بما تعملون .

وهذا القول الذي أمر به تهديد لهم فقد تضمنت هذه الآية أمرين :

أحدهما : أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يهددهم بقوله : الله أعلم بما تعملون أي : من الكفر ، فمجازيكم عليه أشد الجزاء .

الثاني : الإعراض عنهم ، وقد أشار تعالى للأمرين اللذين تضمنتهما هذه الآية في غير هذا الموضع .

أما إعراضه عنهم عند تكذيبهم له بالجدال الباطل فمن المواضع التي أشير له فيها قوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] .

وأما تهديدهم فقد أشار له في مواضع ; كقوله : هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم [ 46 \ 8 ] وقوله : فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين [ 6 \ 147 ] فقوله ولا يرد بأسه الآية ، فيه أشد الوعيد للمكذبين ، كما قال ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] في مواضع متعددة ، وهم إنما يكذبونه بالجدال ، والخصام بالباطل . وقد أمره الله في غير هذا الموضع أن يجادلهم بالتي هي أحسن وذلك في قوله : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] وقوله : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [ 29 \ 46 ] وبين له أنهم لا يأتونه بمثل ليحتجوا عليه به بالباطل ، إلا جاءه الله بالحق الذي يدمغ ذلك الباطل ، مع كونه أحسن تفسيرا وكشفا وإيضاحا للحقائق وذلك في قوله ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا [ 25 \ 33 ] .
قوله تعالى : ما قدروا الله حق قدره ، أي : ما عظموه حق عظمته حين عبدوا معه من لا يقدر على خلق ذباب ، وهو عاجز أن يسترد من الذباب ما سلبه الذباب منه ، كالطيب الذي يجعلونه على أصنامهم ، إن سلبها الذباب منه شيئا لا تقدر على استنقاذه منه ، وكونهم لم يعظموا الله حق عظمته ، ولم يعرفوه حق معرفته ، حيث عبدوا معه من لا يقدر على جلب نفع ، ولا دفع ضر ، ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله في الأنعام : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [ 6 \ 91 ] وكقوله في الزمر : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] .
[ ص: 300 ] قوله تعالى : الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ، بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه يصطفي ، أي : يختار رسلا من الملائكة ، ومن الناس فرسل الناس لإبلاغ الوحي ، ورسل الملائكة لذلك أيضا ، وقد يرسلهم لغيره ، وهذا الذي ذكره هنا من اصطفائه الرسل منهما جاء واضحا في غير هذا الموضع ; كقوله في رسل الملائكة : الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع الآية [ 35 \ 1 ] .

وقوله في جبريل : إنه لقول رسول كريم [ 81 \ 19 ] ومن ذكره إرسال الملائكة بغير الوحي قوله تعالى : وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون [ 6 \ 61 ] وكقوله في رسل بني آدم : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] وقوله : تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض الآية [ 2 \ 253 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] .
قوله تعالى : هو اجتباكم ، أي : اصطفاكم ، واختاركم يا أمة محمد ، ومعنى هذه الآية أوضحه بقوله كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية [ 3 \ 110 ] .

قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج ، الحرج : الضيق كما أوضحناه في أول سورة الأعراف .

وقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن هذه الحنيفية السمحة التي جاء بها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أنها مبنية على التخفيف والتيسير ، لا على الضيق والحرج ، وقد رفع الله فيها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا .

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ذكره - جل وعلا - في غير هذا الموضع كقوله تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ 2 \ 185 ] وقوله : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا [ 4 \ 28 ] وقد ثبت في صحيح مسلم من [ ص: 301 ] حديث أبي هريرة ، وابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ خواتم سورة البقرة : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] قال الله : " قد فعلت " في رواية ابن عباس ، وفي رواية أبي هريرة قال : نعم . ومن رفع الحرج في هذه الشريعة الرخصة في قصر الصلاة في السفر والإفطار في رمضان فيه ، وصلاة العاجز عن القيام قاعدا وإباحة المحظور للضرورة ; كما قال تعالى : وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه الآية [ 6 \ 119 ] إلى غير ذلك من أنواع التخفيف والتيسير ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة والآيات التي ذكرنا معها من رفع الحرج ، والتخفيف في شريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، هو إحدى القواعد الخمس ، التي بني عليها الفقه الإسلامي وهي هذه الخمس .

الأولى : الضرر يزال ومن أدلتها حديث : " لا ضرر ولا ضرار " .

الثانية : المشقة تجلب التيسير : وهي التي دل عليها قوله هنا وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] وما ذكرنا في معناها من الآيات .

الثالثة : لا يرفع يقين بشك ، ومن أدلتها حديث " من أحس بشيء في دبره في الصلاة وأنه لا يقطع الصلاة حتى يسمع صوتا أو يشم ريحا " ; لأن تلك الطهارة المحققة لم تنقض بتلك الريح المشكوك فيها .

الرابعة : تحكيم عرف الناس المتعارف عندهم في صيغ عقودهم ومعاملاتهم ، ونحو ذلك . واستدل لهذه بعضهم بقوله وأمر بالعرف الآية [ 7 \ 199 ] .

الخامسة : الأمور تبع المقاصد ، ودليل هذه حديث " إنما الأعمال بالنيات " الحديث ، وقد أشار في " مراقي السعود " في كتاب الاستدلال إلى هذه الخمس المذكورات بقوله :

قد أسس الفقه على رفع الضرر وأن ما يشق يجلب الوطر ونفى رفع القطع بالشك وأن
يحكم العرف وزاد من فطن كون الأمور تبع المقاصد
مع التكلف ببعض وارد
قوله تعالى : ملة أبيكم إبراهيم ، قال بعضهم : هو منصوب بنزع الخافض ، ومال إليه ابن جرير : أي ما جعل عليكم في دينكم من ضيق ، كملة إبراهيم ، وأعربه بعضهم منصوبا بمحذوف أي : الزموا ملة [ ص: 302 ] أبيكم إبراهيم ، ولا يبعد أن يكون قوله ملة أبيكم إبراهيم [ 22 \ 78 ] شاملا لما ذكر قبله من الأوامر في قوله ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده [ 22 \ 77 - 78 ] ، ويوضح هذا قوله تعالى : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا [ 6 \ 161 ] والدين القيم الذي هو ملة إبراهيم : شامل لما ذكر كله .


قوله تعالى : هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ، اختلف في مرجع الضمير الذي هو لفظ هو من قوله هو سماكم [ 22 \ 78 ] فقال بعضهم : الله هو الذي سماكم المسلمين من قبل في هذا ، وهذا القول مروي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعطاء ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وقتادة ، كما نقله عنهم ابن كثير ، وقال بعضهم هو أي : إبراهيم سماكم المسلمين ، واستدل لهذا بقول إبراهيم وإسماعيل ومن ذريتنا أمة مسلمة لك [ 2 \ 128 ] وبهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، كما نقله عنه ابن كثير .

وقد قدمنا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وجئنا بأمثلة كثيرة في الترجمة ، وفيما مضى من الكتاب ، وفي هذه الآيات قرينتان تدلان على أن قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم غير صواب .

إحداهما : أن الله قال هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ، أي : القرآن ، ومعلوم أن إبراهيم لم يسمهم المسلمين في القرآن ، لنزوله بعد وفاته بأزمان طويلة كما نبه على هذا ابن جرير .

القرينة الثانية : أن الأفعال كلها في السياق المذكور راجعة إلى الله ، لا إلى إبراهيم فقوله هو اجتباكم ، أي : الله وما جعل عليكم في الدين من حرج ، أي : الله هو سماكم المسلمين أي : الله .

فإن قيل : الضمير يرجع إلى أقرب مذكور ، وأقرب مذكور للضمير المذكور : هو إبراهيم .

فالجواب : أن محل رجوع الضمير إلى أقرب مذكور محله ما لم يصرف عنه صارف ، وهنا قد صرف عنه صارف ; لأن قوله " وفي هذا " يعني القرآن ، دليل على أن [ ص: 303 ] المراد بالذي سماهم المسلمين فيه : هو الله لا إبراهيم ، وكذلك سياق الجمل المذكورة قبله نحو هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] يناسبه أن يكون هو سماكم أي : الله ، المسلمين .

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير الآية بعد أن ذكر : أن الذي سماهم المسلمين من قبل وفي هذا : هو الله ، لا إبراهيم ما نصه :

قلت : وهذا هو الصواب ; لأنه تعالى قال : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ثم حثهم وأغراهم على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه ملة إبراهيم أبيهم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها ، والثناء عليها في سالف الدهر ، وقديم الزمان في كتاب الأنبياء ، تتلى على الأحبار والرهبان فقال : هو سماكم المسلمين من قبل أي : من قبل هذا القرآن .

وفي هذا روى النسائي عند تفسير هذه الآية : أنبأنا هشام بن عمار ، حدثنا محمد بن شعيب ، أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام ، أخبره عن أبي سلام أنه أخبره قال : أخبرني الحارث الأشعري ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم " ، قال رجل : يا رسول الله ، وإن صام وإن صلى ؟ قال : " نعم وإن صام وإن صلى ، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله " وقد قدمنا هذا الحديث بطوله عند تفسير قوله : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ 2 \ 21 ] اهـ من تفسير ابن كثير .

وقال ابن كثير في تفسير سورة البقرة : إن الحديث المذكور فيه أن الله هو الذي سماهم المسلمين المؤمنين .
قوله تعالى : ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس ، يعني : إنما اجتباكم ، وفضلكم ونوه باسمكم المسلمين قبل نزول كتابكم ، وزكاكم على ألسنة الرسل المتقدمين ، فسماكم فيها المسلمين ، وكذلك سماكم في هذا القرآن . وقد عرف بذلك أنكم أمة وسط عدول خيار مشهود بعدالتكم ، لتكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، أن الرسل بلغتهم رسالات ربهم ، حين ينكر الكفار ذلك يوم القيامة ، ويكون الرسول عليكم شهيدا ، أنه بلغكم ، وقيل : شهيدا على صدقكم فيما شهدتم به للرسل على أممهم من التبليغ .

[ ص: 304 ] وهذا المعنى المذكور هنا ذكره الله - جل وعلا - في قوله وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ 2 \ 143 ] وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - إنا أرسلناك شاهدا الآية [ 48 \ 8 ] ، والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ

قَوْلُهُ تَعَالَى : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَامَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ فَقَالَ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [ 23 \ 1 ] أَيْ : فَازُوا وَظَفِرُوا بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .

وَفَلَاحُ الْمُؤْمِنِينَ مَذْكُورٌ ذِكْرًا كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [ 33 \ 47 ] وَقَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ 23 \ 2 ] أَصْلُ الْخُشُوعِ : السُّكُونُ ، وَالطُّمَأْنِين َةُ ، وَالِانْخِفَاضُ وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ :

رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ وَنُؤًى كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثَلَمَ خَاشِعِ

وَهُوَ فِي الشَّرْعِ : خَشْيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَكُونُ فِي الْقَلْبِ ، فَتَظْهَرُ آثَارُهَا عَلَى الْجَوَارِحِ .

وَقَدْ عَدَّ اللَّهُ الْخُشُوعَ مِنْ صِفَاتِ الَّذِينَ أَعَدَّ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا فِي قَوْلِهِ فِي الْأَحْزَابِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ إِلَى قَوْلِهِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [ 33 \ 35 ] .

وَقَدْ عُدَّ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُفْلِحِينَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ، وَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا الْخُشُوعِ تَصْعُبُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [ 2 \ 45 ] وَقَدِ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ عَلَى أَنَّ مِنْ خُشُوعِ الْمُصَلِّي : أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ فِي صَلَاتِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، قَالُوا : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فِي الصَّلَاةِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْظُرُ حَيْثُ يَسْجُدُ .

وَقَالَ صَاحِبُ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ : وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ ، وَالْبَيَهْقِيّ ُ فِي سُنَنِهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا صَلَّى رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى [ ص: 306 ] السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [ 23 \ 2 ] فَطَأْطَأَ رَأْسَهُ " اهـ مِنْهُ .

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، وَلَا يَرْفَعُ بَصَرَهُ ، وَخَالَفَ الْمَالِكِيَّةُ الْجُمْهُورَ ، فَقَالُوا : إِنَّ الْمُصَلِّيَ يَنْظُرُ أَمَامَهُ لَا إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [ 2 \ 144 ] قَالُوا : فَلَوْ نَظَرَ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ لَاحْتَاجَ أَنْ يَتَكَلَّفَ ذَلِكَ بِنَوْعٍ مِنَ الِانْحِنَاءِ ، وَذَلِكَ يُنَافِي كَمَالَ الْقِيَامِ ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ; لِأَنَّ الْمُنْحَنِيَ بِوَجْهِهِ إِلَى مَوْضِعِ سُجُودِهِ ، لَيْسَ بِمُوَلٍّ وَجْهَهُ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا .

وَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى أَفْلَحَ : نَالَ الْفَلَاحَ ، وَالْفَلَاحُ يُطْلَقُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ :

الْأَوَّلُ : الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ :

فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقِلَ


أَيْ فَازَ مَنْ رُزِقَ الْعَقْلَ بِالْمَطْلُوبِ الْأَكْبَرِ .

وَالثَّانِي : هُوَ إِطْلَاقُ الْفَلَاحِ عَلَى الْبَقَاءِ السَّرْمَدِيِّ فِي النَّعِيمِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ أَيْضًا فِي رَجَزٍ لَهُ :

لَوْ أَنَّ حَيًّا مُدْرِكُ الْفَلَاحِ لَنَالَهُ مُلَاعِبُ الرِّمَاحِ


يَعْنِي : مُدْرِكَ الْبَقَاءِ ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ ، أَوِ الْأَضْبَطِ بْنِ قُرَيْعٍ :

لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ وَالْمِسَى وَالصُّبْحُ لَا فَلَاحَ مَعَهْ .


أَيْ لَا بَقَاءَ مَعَهُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ دَخَلَ الْجَنَّةَ كَمَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ ، وَأَنَّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ نَالَ الْفَلَاحَ بِمَعْنَيَيْهِ الْمَذْكُورَيْن ِ ، وَالْمَعْنَيَان ِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا لِلْفَلَاحِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَسَّرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ حَدِيثَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فِي لَفْظَةِ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 10:44 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (381)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 307 إلى صـ 314



قوله تعالى : والذين هم عن اللغو معرضون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين إعراضهم عن اللغو ، وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل ، وما توجب المروءة تركه .

وقال ابن كثير عن اللغو معرضون [ 23 \ 3 ] أي : عن الباطل ، وهو يشمل [ ص: 307 ] الشرك كما قال بعضهم ، والمعاصي كما قاله آخرون ، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال اهـ منه .

وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية ، أشار له في غير هذا الموضع كقوله : وإذا مروا باللغو مروا كراما [ 25 \ 72 ] ومن مرورهم به كراما إعراضهم عنه ، وعدم مشاركتهم أصحابه فيه وقوله تعالى وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه الآية [ 28 \ 55 ] .
قوله تعالى : والذين هم للزكاة فاعلون ، في المراد بالزكاة هنا وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم :

أحدهما : أن المراد بها زكاة الأموال ، وعزاه ابن كثير للأكثرين .

الثاني : أن المراد بالزكاة هنا : زكاة النفس أي : تطهيرها من الشرك ، والمعاصي بالإيمان بالله ، وطاعته وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام ، وعلى هذا فالمراد بالزكاة كالمراد بها في قوله قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ 91 \ 9 - 10 ] وقوله قد أفلح من تزكى الآية [ 87 \ 14 ] ، وقوله ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] وقوله خيرا منه زكاة الآية [ 18 \ 81 ] وقوله وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة [ 41 \ 6 - 7 ] على أحد التفسيرين ، وقد يستدل لهذا القول الأخير بثلاث قرائن :

الأولى : أن هذه السورة مكية ، بلا خلاف ، والزكاة إنما فرضت بالمدينة كما هو معلوم ، فدل على أن قوله والذين هم للزكاة فاعلون نزل قبل فرض زكاة الأموال المعروفة ، فدل على أن المراد به غيرها .

القرينة الثانية : هي أن المعروف في زكاة الأموال : أن يعبر عن أدائها بالإيتاء ; كقوله تعالى وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] وقوله وإيتاء الزكاة [ 21 \ 73 ] ونحو ذلك . وهذه الزكاة المذكورة هنا ، لم يعبر عنها بالإيتاء ، بل قال تعالى فيها والذين هم للزكاة فاعلون [ 23 \ 4 ] فدل على أن هذه الزكاة : أفعال المؤمنين المفلحين ، وذلك أولى بفعل الطاعات ، وترك المعاصي من أداء مال .

الثالثة : أن زكاة الأموال تكون في القرآن عادة مقرونة بالصلاة ، من غير فصل [ ص: 308 ] بينهما كقوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 110 ] وقوله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 277 ] وقوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة [ 21 \ 73 ] وهذه الزكاة المذكورة هنا فصل بين ذكرها ، وبين ذكر الصلاة بجملة والذين هم عن اللغو معرضون [ 23 \ 3 ] .

والذين قالوا المراد بها زكاة الأموال ، قالوا : إن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة ، وأن الزكاة التي فرضت بالمدينة سنة اثنتين هي ذات النصب ، والمقادير الخاصة .

وقد أوضحنا هذا القول في الأنعام في الكلام على قوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده [ 141 ] وقد يستدل ; لأن المراد بالزكاة في هذه الآية غير الأعمال التي تزكى بها النفوس من دنس الشرك والمعاصي ، بأنا لو حملنا معنى الزكاة على ذلك ، كان شاملا لجميع صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة ، فيكون كالتكرار معها ، والحمل على التأسيس والاستقلال أولى من غيره ، كما تقرر في الأصول ، وقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 6 \ 97 ] والذين قالوا : هي زكاة الأموال قالوا : فاعلون أي : مؤدون ، قالوا : وهي لغة معروفة فصيحة ، ومنها قول أمية بن أبي الصلت :



المطعمون الطعام في السنة الأز مة والفاعلون للزكوات

وهو واضح ، بحمل الزكاة على المعنى المصدري بمعنى التزكية للمال ; لأنها فعل المزكي كما هو واضح ، ولا شك أن تطهير النفس بأعمال البر ، ودفع زكاة المال كلاهما من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الجنة .

وقد قال ابن كثير - رحمه الله - : وقد يحتمل أن المراد بالزكاة ها هنا : زكاة النفس من الشرك ، والدنس إلى أن قال ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا وهو زكاة النفوس ، وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم ، اهـ منه .
قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآيات الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس ويخلدون فيها حفظهم لفروجهم أي : من اللواط والزنى ، ونحو ذلك ، وبين أن [ ص: 309 ] حفظهم فروجهم ، لا يلزمهم عن نسائهم الذين ملكوا الاستمتاع بهن بعقد الزواج أو بملك اليمين ، والمراد به التمتع بالسراري ، وبين أن من لم يحفظ فرجه عن زوجه أو سريته لا لوم عليه ، وأن من ابتغى تمتعا بفرجه ، وراء ذلك غير الأزواج والمملوكات فهو من العادين أي : المعتدين المتعدين حدود الله ، المجاوزين ما أحله الله إلى ما حرمه .

وبين معنى العادين في هذه الآية قوله تعالى في قوم لوط : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] وهذا الذي ذكره هنا ذكره أيضا في سورة سأل سائل ; لأنه قال فيها في الثناء على المؤمنين والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ 70 \ 29 - 31 ] .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن ما في قوله : أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] من صيغ العموم ، والمراد بها من وهي من صيغ العموم ، فآية قد أفلح المؤمنون [ 23 \ 1 ] وآية سأل سائل [ 70 \ 1 ] تدل بعمومها المدلول عليه بلفظة ما ، في قوله أو ما ملكت أيمانهم في الموضعين على جواز جمع الأختين بملك اليمين في التسري بهما معا لدخولهما في عموم أو ما ملكت أيمانهم وبهذا قال داود الظاهري ، ومن تبعه : ولكن قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ 4 \ 23 ] يدل بعمومه على منع جمع الأختين بملك اليمين ; لأن الألف واللام في الأختين صيغة عموم ، تشمل كل أختين ، سواء كانتا بعقد أو ملك يمين ولذا قال عثمان - رضي الله عنه - ، لما سئل عن جمع الأختين بملك اليمين : أحلتهما آية ، وحرمتهما أخرى يعني بالآية المحللة أو ما ملكت أيمانهم وبالمحرمة وأن تجمعوا بين الأختين .

وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وسنذكر هنا إن شاء الله المهم مما ذكرنا فيه ونزيد ما تدعو الحاجة إلى زيادته .

وحاصل تحرير المقام في ذلك : أن الآيتين المذكورتين بينهما عموم ، وخصوص من وجه ، يظهر للناظر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها كما قال عثمان - رضي الله عنه - : أحلتهما آية ، وحرمتهما أخرى وإيضاحه أن آية : وأن تجمعوا بين الأختين تنفرد عن آية أو ما ملكت أيمانهم في الأختين المجموع بينهما ، بعقد نكاح [ ص: 310 ] وتنفرد آية أو ما ملكت أيمانهم في الأمة الواحدة ، أو الأمتين اللتين ليستا بأختين ، ويجتمعان في الجمع بين الأختين ، فعموم وأن تجمعوا بين الأختين يقتضي تحريمه ، وعموم أو ما ملكت أيمانهم يقتضي إباحته ، وإذا تعارض الأعمان من وجه في الصورة التي يجتمعان فيها وجب الترجيح بينهما ، والراجح منهما ، يقدم ويخصص به عموم الآخر ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :

وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر

وإذا علمت ذلك فاعلم أن عموم وأن تجمعوا بين الأختين مرجح من خمسة أوجه على عموم أو ما ملكت أيمانهم :

الأول : منها أن عموم وأن تجمعوا بين الأختين نص في محل المدرك المقصود بالذات ; لأن السورة سورة النساء : وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ، ومن لا تحل ، وآية أو ما ملكت أيمانهم في الموضعين لم تذكر من أجل تحريم النساء ، ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المؤمنين التي يدخلون بها الجنة ، فذكر من جملتها حفظ الفرج ، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية . وقد تقرر في الأصول : أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها ، لا من مظانها .

الوجه الثاني : أن آية أو ما ملكت أيمانهم ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين ; لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين ، إجماعا للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم وأخواتكم من الرضاعة [ 4 \ 23 ] وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا ، للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية [ 4 \ 22 ] ، والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص ، مع العام الذي لم يدخله التخصيص : هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ، وهذا هو قول جمهور أهل الأصول ، ولم أعلم أحدا خالف فيه ، إلا صفي الدين الهندي ، والسبكي .

وحجة الجمهور أن العام المخصص ، اختلف في كونه حجة في الباقي ، بعد التخصيص ، والذين قالوا : هو حجة في الباقي ، قال جماعة منهم : هو مجاز في الباقي ، وما اتفق على أنه حجة ، وأنه حقيقة ، وهو الذي لم يدخله التخصيص أولى مما اختلف في حجيته ، وهل هو حقيقة ، أو مجاز ؟ وإن كان الصحيح : أنه حجة في الباقي ، وحقيقة فيه ; [ ص: 311 ] لأن مطلق حصول الخلاف فيه يكفي في ترجيح غيره عليه ، وأما حجة صفي الدين الهندي والسبكي ، على تقديم الذي دخله التخصيص فهي أن الغالب في العام التخصيص ، والحمل على الغالب أولى ، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى ، بخلاف الباقي على عمومه .

الوجه الثالث : أن عموم وأن تجمعوا بين الأختين غير وارد في معرض مدح ولا ذم وعموم أو ما ملكت أيمانهم وارد في معرض مدح المتقين ، والعام الوارد في معرض المدح أو الذم .

اختلف العلماء في اعتبار عمومه ، فأكثر العلماء : على أن عمومه معتبر ; كقوله تعالى : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ 82 \ 13 - 14 ] فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح ، وكل فاجر مع أنه للذم قال في مراقي السعود :

وما أتى للمدح أو للذم يعم عند جل أهل العلم


وخالف في ذلك بعض العلماء منهم : الإمام الشافعي - رحمه الله - ، قائلا : إن العام الوارد في معرض المدح ، أو الذم لا عموم له ; لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم ، ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 \ 34 ] في الحلي المباح ; لأن الآية سيقت للذم ، فلا تعم عنده الحلي المباح .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه ، عند بعض العلماء .

الوجه الرابع : أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين ، فالأصل في الفروج التحريم ، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة .

الوجه الخامس : أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام .

فهذه الأوجه الخمسة يرد بها استدلال داود الظاهري ، ومن تبعه على إباحته جمع الأختين بملك اليمين ، محتجا بقوله : أو ما ملكت أيمانهم ولكن داود يحتج بآية أخرى يعسر التخلص من الاحتجاج بها ، بحسب المقرر في أصول الفقه المالكي والشافعي والحنبلي ، وإيضاح ذلك أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين أنه إن ورد استثناء [ ص: 312 ] بعد جمل متعاطفة ، أو مفردات متعاطفة ، أن الاستثناء المذكور يرجع لجميعها خلافا لأبي حنيفة القائل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط ، قال في مراقي السعود :

وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو
دون دليل العقل أو ذي السمع ، إلخ .

وإذا علمت أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين رجوع الاستثناء لكل المتعاطفات ، وأنه لو قال الواقف في صيغة وقفه : هو وقف على بني تميم وبني زهرة والفقراء إلا الفاسق منهم ، أنه يخرج من الوقف فاسق الجميع لرجوع الاستثناء إلى الجميع ، وأن أبا حنيفة وحده هو القائل برجوعه إلى الجملة الأخيرة فقط ، ولذلك لم يقبل شهادة القاذف ، ولو تاب وأصلح ، وصار أعدل أهل زمانه ; لأن قوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ 24 \ 4 - 5 ] يرجع عنده الاستثناء فيه للأخيرة فقط وهي وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا أي : فقد زال عنهم اسم الفسق ، ولا يقبل رجوعه ; لقوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا إلا الذين تابوا ، فاقبلوا شهادتهم بل يقول : لا تقبلوا لهم شهادة أبدا مطلقا بلا استثناء ; لاختصاص الاستثناء عنده بالجملة الأخيرة ، ولم يخالف أبو حنيفة أصوله في قوله والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون إلى قوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا الآية [ 25 \ 68 - 70 ] ، فإن هذا الاستثناء راجع لجميع الجمل المتعاطفة قبله عند أبي حنيفة ، وغيره .

ولكن أبا حنيفة لم يخالف فيه أصله ; لأن الجمل الثلاث المذكورة جمعت في الجملة الأخيرة ، التي هي ومن يفعل ذلك يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ; لأن الإشارة في قوله : ذلك راجعة إلى الشرك ، والقتل والزنى في الجمل المتعاطفة قبله فشملت الجملة الأخيرة معاني الجمل قبلها ، فصار رجوع الاستثناء لها وحدها ، عند أبي حنيفة ، على أصله المقرر : مستلزما لرجوعه للجميع .

وإذا حققت ذلك فاعلم أن داود يحتج لجواز جمع الأختين بملك اليمين أيضا [ ص: 313 ] برجوع الاستثناء في قوله أو ما ملكت أيمانهم لقوله وأن تجمعوا بين الأختين فيقول : قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين وقوله : والمحصنات من النساء [ 4 \ 24 ] يرجع لكل منهما استثناء في قوله : إلا ما ملكت أيمانكم فيكون المعنى : وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين ، إلا ما ملكت أيمانكم فلا يحرم عليكم فيه الجمع بينهما ، وحرمت عليكم المحصنات من النساء ، إلا ما ملكت أيمانكم ، فلا يحرم عليكم .

وقد أوضحنا معنى الاستثناء من المحصنات في محله من هذا الكتاب المبارك ، وبهذا تعلم أن احتجاج داود برجوع الاستثناء في قوله أو ما ملكت أيمانهم إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة ، فيصعب عليهم التخلص من احتجاج داود هذا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن الجواب عن استدلال داود المذكور من وجهين :

الأول منهما : أن في الآية نفسها قرينة مانعة من رجوع الاستثناء ، إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين لما قدمنا من أن قوله إلا ما ملكت أيمانكم أي : بالسبي خاصة مع الكفر ، وأن المعنى والمحصنات من النساء ، إلا ما ملكت أيمانكم أي : وحرمت عليكم المتزوجات من النساء ; لأن المتزوجة لا تحل لغير زوجها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي مع الكفر فإن السبي يرفع حكم الزوجية عن المسبية ، وتحل لسابيها بعد الاستبراء كما قال الفرزدق :

وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق


وإذا كان ملك اليمين في قوله : إلا ما ملكت أيمانكم في السبي خاصة كما هو مذهب الجمهور كان ذلك مانعا من رجوعه إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين ; لأن محل النزاع في ملك اليمين مطلقا ، وقد قدمنا في سورة النساء أن قول من قال : إلا ما ملكت أيمانكم مطلقا ، وأن بيع الأمة طلاقها أنه خلاف التحقيق ، وأوضحنا الأدلة على ذلك .

الوجه الثاني : هو أن استقراء القرآن يدل على أن الصواب في رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله أو بعضها ، يحتاج إلى دليل منفصل ; لأن الدليل قد يدل على [ ص: 314 ] رجوعه للجميع أو لبعضها دون بعض . وربما دل الدليل على عدم رجوعه للأخيرة التي تليه ، وإذا كان الاستثناء ربما كان راجعا لغير الجملة الأخيرة التي تليه ، تبين أنه لا ينبغي الحكم برجوعه إلى الجميع إلا بعد النظر في الأدلة ، ومعرفة ذلك منها . وهذا القول الذي هو الوقف عن رجوع الاستثناء إلى الجميع أو بعضها المعين ، دون بعض ، إلا بدليل مروي عن ابن الحاجب من المالكية ، والغزالي من الشافعية ، والآمدي من الحنابلة ، واستقراء القرآن يدل على أن هذا القول هو الأصح ; لأن الله يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] وإذا رددنا هذه المسألة إلى الله ، وجدنا القرآن دالا على صحة هذا القول ، وبه يندفع أيضا استدلال داود .

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] فالاستثناء راجع للدية ، فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا ; لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ ، ومنها قوله تعالى : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 - 5 ] فالاستثناء لا يرجع لقوله فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ; لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف .

وما يروى عن الشعبي من أنها تسقطه ، خلاف التحقيق الذي هو مذهب جماهير العلماء ومنها قوله تعالى : فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 90 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 10:47 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (382)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 315 إلى صـ 322



فالاستثناء في قوله : إلا الذين يصلون إلى قوم الآية لا يرجع قولا واحدا ، إلى الجملة الأخيرة ، التي تليه أعني قوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [ 4 \ 89 ] ; لأنه لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار أبدا ، ولو وصلوا إلى قوم بينكم ، وبينهم ميثاق ، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله : فخذوهم واقتلوهم [ 4 \ 89 ] والمعنى : فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم ، وبينهم ميثاق ، فليس لكم أخذهم بأسر ، ولا قتلهم ; لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم ، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكروا أن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي ، وفي بني جذيمة بن عامر وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم : الذي هو في الطرف الأعلى [ ص: 315 ] من الإعجاز تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها .

ومن ذلك أيضا قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [ 4 \ 83 ] على ما قاله : جماعات من المفسرين ; لأنه لولا فضل الله ورحمته لاتبعوا الشيطان ، كلا بدون استثناء ، قليل أو كثير كما ترى .

واختلفوا في مرجع هذا الاستثناء ، فقيل : راجع لقوله : أذاعوا به [ 4 \ 83 ] وقيل : راجع لقوله لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ 4 \ 83 ] وإذا لم يرجع للجملة التي تليه ، لم يكن نصا في رجوعه لغيرها .

وقيل : إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليه ، وأن المعنى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - لاتبعتم الشيطان في الاستمرار ، على ملة آبائكم من الكفر ، وعبادة الأوثان إلا قليلا كمن كان على ملة إبراهيم في الجاهلية ، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ، وأمثالهم .

وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله : لاتبعتم الشيطان إلا قليلا معناه : لاتبعتم الشيطان كلا ، قال : والعرب تطلق القلة ، وتريد بها العدم ، واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب :



أشم ندي كثير النوادي قليل المثالب والقادحه


يعني : لا مثلبة فيه ، ولا قادحة . وهذا القول ليس بظاهر كل الظهور ، وإن كانت العرب تطلق القلة في لغتها ، وتريد بها العدم كقولهم : مررت بأرض قليل بها الكراث والبصل ، يعنون لا كراث فيها ولا بصل ، ومنه قول ذي الرمة :

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها


يريد : أن تلك الفلاة لا صوت فيها غير بغام ناقته . وقول الآخر :

فما بأس لو ردت علينا تحية قليلا لدى من يعرف الحق عابها


يعني لا عاب فيها أي : لا عيب فيها عند من يعرف الحق ، وأمثال هذا كثير في كلام العرب . وبالآيات التي ذكرنا تعلم : أن الوقف عن القطع برجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله إلا لدليل ، هو الذي دل عليه القرآن في آيات متعددة ، وبدلالتها يرد استدلال داود المذكور أيضا والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 316 ] المسألة الثانية : اعلم أن أهل العلم أجمعوا على أن حكم هذه الآية الكريمة في التمتع بملك اليمين في قوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 5 - 6 ] خاص بالرجال دون النساء ، فلا يحل للمرأة أن تتسرى عبدها ، وتتمتع به بملك اليمين ، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم ، وهو يؤيد قول الأكثرين : أن النساء لا يدخلن في الجموع المذكرة الصحيحة إلا بدليل منفصل ; كما أوضحنا أدلته في سورة الفاتحة ، وذكر ابن جرير أن امرأة اتخذت مملوكها ، وقالت : تأولت آية من كتاب الله أو ما ملكت أيمانهم فأتي بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وقال له ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : تأولت آية من كتاب الله - عز وجل - على غير وجهها ، قال : فضرب العبد ، وجز رأسه وقال : أنت بعده حرام على كل مسلم ، ثم قال ابن كثير : هذا أثر غريب منقطع ، ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة ، وهو ههنا أليق وإنما حرمها على الرجال ، معاملة لها بنقيض قصدها ، والله أعلم اهـ .

وقال أبو عبد الله القرطبي : قد روى معمر عن قتادة قال : تسررت امرأة غلامها ، فذكر ذلك لعمر فسألها ما حملك على ذلك ؟ قالت : كنت أراه يحل لي بملك يميني ، كما تحل للرجل المرأة بملك اليمين ، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : تأولت كتاب الله - عز وجل - على غير تأويله لا رجم عليها ، فقال عمر : لا جرم ، والله لا أحلك لحر بعده . عاقبها بذلك ، ودرأ الحد عنها ، وأمر العبد ألا يقربها .

وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول : أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضئ ، فقالت : إني استسررته ، فمنعني بنو عمي عن ذلك ، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها ، فإنه عنى بني عمي فقال عمر : أتزوجت قبله ؟ قالت : نعم ، قال : أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة ، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها اهـ ، من القرطبي .
المسألة الثالثة : اعلم أنه لا شك في أن آية قد أفلح المؤمنون هذه التي هي فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ 23 \ 7 ] تدل بعمومها على منع الاستمناء باليد المعروف ، بجلد عميرة ، ويقال له الخضخضة ; لأن من تلذذ بيده حتى أنزل منيه بذلك ، قد ابتغى وراء ما أحله الله ، فهو من العادين بنص هذه الآية الكريمة المذكورة هنا ، وفي سورة سأل سائل [ 70 \ 1 ] وقد ذكر ابن كثير : أن الشافعي ومن تبعه استدلوا بهذه [ ص: 317 ] الآية ، على منع الاستمناء باليد ، وقال القرطبي : قال محمد بن عبد الحكم : سمعت حرملة بن عبد العزيز ، قال : سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه الآية والذين هم لفروجهم حافظون إلى قوله العادون [ 23 \ 5 - 7 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن استدلال مالك ، والشافعي وغيرهما من أهل العلم بهذه الآية الكريمة ، على منع جلد عميرة الذي هو الاستمناء باليد استدلال صحيح بكتاب الله ، يدل عليه ظاهر القرآن ، ولم يرد شيء يعارضه من كتاب ولا سنة ، وما روي عن الإمام أحمد مع علمه ، وجلالته وورعه من إباحة جلد عميرة مستدلا على ذلك بالقياس قائلا : هو إخراج فضلة من البدن تدعو الضرورة إلى إخراجها فجاز ، قياسا على الفصد والحجامة ، كما قال في ذلك بعض الشعراء :

إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا عار ولا حرج

فهو خلاف الصواب ، وإن كان قائله في المنزلة المعروفة التي هو بها ; لأنه قياس يخالف ظاهر عموم القرآن ، والقياس إن كان كذلك رد بالقادح المسمى فساد الاعتبار ، كما أوضحناه في هذا الكتاب المبارك مرارا وذكرنا فيه قول صاحب مراقي السعود :

والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى


فالله - جل وعلا - قال : والذين هم لفروجهم حافظون ولم يستثن من ذلك البتة إلا النوعين المذكورين ، في قوله تعالى : إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وصرح برفع الملامة في عدم حفظ الفرج ، عن الزوجة ، والمملوكة فقط ثم جاء بصيغة عامة شاملة لغير النوعين المذكورين ، دالة على المنع هي قوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ 23 \ 7 ] وهذا العموم لا شك أنه يتناول بظاهره ، ناكح يده ، وظاهر عموم القرآن ، لا يجوز العدول عنه ، إلا لدليل من كتاب أو سنة ، يجب الرجوع إليه ، أما القياس المخالف له فهو فاسد الاعتبار ، كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى .

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ، بعد أن ذكر بعض من حرم جلد عميرة ، واستدلالهم بالآية ما نصه : وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور ، حيث قال : حدثني علي بن ثابت الجزري ، عن مسلمة بن جعفر ، عن حسان بن حميد ، عن أنس بن مالك ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاملين ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله [ ص: 318 ] عليه : الناكح يده ، والفاعل والمفعول ، ومدمن الخمر ، والضارب والديه ، حتى يستغيثا ، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه ، والناكح حليلة جاره " اهـ .

ثم قال ابن كثير : هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم ، انتهى منه . ولكنه على ضعفه يشهد له في نكاح اليد ظاهر القرآن في الجملة ; لدلالته على منع ذلك ، وإنما قيل للاستمناء باليد : جلد عميرة ; لأنهم يكنون بعميرة عن الذكر .

لطيفة : قد ذكر في نوادر المغفلين ، أن مغفلا كانت أمه تملك جارية تسمى عميرة فضربتها مرة ، فصاحت الجارية ، فسمع قوم صياحها ، فجاءوا وقالوا : ما هذا الصياح ؟ فقال لهم ذلك المغفل : لا بأس تلك أمي كانت تجلد عميرة .
المسألة الرابعة : اعلم أنا قدمنا في سورة النساء ، أن هذه الآية التي هي قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم تدل بظاهرها على منع نكاح المتعة ; لأنه - جل وعلا - صرح فيها بما يعلم منه ، وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية ، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون وأن المرأة المستمتع بها في نكاح المتعة ، ليست زوجة ، ولا مملوكة . أما كونها غير مملوكة فواضح ، وأما الدليل على كونها غير زوجة ، فهو انتفاء لوازم الزوجية عنها كالميراث والعدة والطلاق والنفقة ، ونحو ذلك ، فلو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق ، ووجبت لها النفقة ، فلما انتفت عنها لوازم الزوجية علمنا أنها ليست بزوجة ; لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم بإجماع العقلاء .

فتبين بذلك أن مبتغي نكاح المتعة من العادين المجاوزين ما أحل الله إلى ما حرم ، وقد أوضحنا ذلك في سورة النساء بأدلة الكتاب والسنة ، وأن نكاح المتعة ممنوع إلى يوم القيامة ، وقد يخفى على طالب العلم معنى لفظة على في هذه الآية يعني قوله تعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم الآية ; لأن مادة الحفظ ، لا تتعدى إلى المعمول الثاني في هذا الموضوع بعلى فقيل : إن على بمعنى : عن .

والمعنى : أنهم حافظون فروجهم عن كل شيء ، إلا عن أزواجهم ، وحفظ قد تتعدى بعن .

وحاول الزمخشري الجواب عن الإتيان بعلى هنا فقال ما نصه [ ص: 319 ] " على أزواجهم " في موضع الحال ، أي : إلا والين ، على أزواجهم ، أو قوامين عليهن من قولك : كان فلان على فلانة ، فمات عنها ، فخلف عليها فلان ، ونظيره : كان زياد على البصرة أي : واليا عليها ، ومنه قولهم : فلانة تحت فلان ، ومن ثمة سميت المرأة فراشا .

والمعنى : أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال ، إلا في تزوجهم أو تسريهم ، أو تعلق على بمحذوف يدل عليه غير ملومين ، كأنه قيل : يلامون إلا على أزواجهم أي : يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم ، فإنهم غير ملومين عليه ، أو تجعله صلة لحافظين من قولك : احفظ علي عنان فرسي على تضمينه ، معنى النفي كما ضمن قولهم : نشدتك بالله إلا فعلت ، بمعنى : ما طلبت منك إلا فعلك . اهـ منه ، ولا يخفى ما فيه من عدم الظهور .

قال أبو حيان : وهذه الوجوه التي تكلفها الزمخشري ظاهر فيها العجمة ، وهي متكلفة ، ثم استظهر أبو حيان أن يكون الكلام من باب التضمين ، ضمن حافظون معنى : ممسكون أو قاصرون ، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله : أمسك عليك زوجك [ 33 \ 37 ] والظاهر أن قوله هنا أو ما ملكت أيمانهم مع أن المملوكات من جملة العقلاء ، والعقلاء يعبر عنهم بمن لا بما هو أن الإماء لما كن يتصفن ببعض صفات غير العقلاء كبيعهن وشرائهن ، ونحو ذلك ، كان ذلك مسوغا لإطلاق لفظة ما عليهن ، والعلم عند الله تعالى .

وقال بعض أهل العلم : إن وراء ذلك ، هو مفعول ابتغى أي : ابتغى سوى ذلك ، وقال بعضهم : إن المفعول به محذوف ، ووراء ظرف ، أي : فمن ابتغى مستمتعا لفرجه ، وراء ذلك .
قوله تعالى : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس : أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم ، أي : محافظون على الأمانات ، والعهود ، والأمانة تشمل : كل ما استودعك الله ، وأمرك بحفظه ، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله ، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس ، والعهود أيضا تشمل : كل ما أخذ عليك العهد بحفظه ، من حقوق الله ، وحقوق الناس ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من حفظ الأمانات والعهود جاء مبينا في آيات كثيرة ; [ ص: 320 ] كقوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ 4 \ 58 ] وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون [ 8 \ 27 ] وقوله تعالى في سأل سائل : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون [ 70 \ 32 ] وقوله في العهد وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا [ 17 \ 34 ] وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود الآية [ 5 \ 1 ] ، وقوله : ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما [ 48 \ 10 ] وقوله تعالى : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ 16 \ 91 ] وقد أوضحنا هذا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] ، وقوله : راعون : جمع تصحيح للراعي ، وهو القائم على الشيء ، بحفظ أو إصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية ، وفي الحديث " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " الحديث ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وحده : لأمانتهم بغير ألف بعد النون ، على صيغة الإفراد والباقون بألف بعد النون ، على صيغة الجمع المؤنث السالم .
قوله تعالى : والذين هم على صلواتهم يحافظون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس : أنهم يحافظون على صلواتهم والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها ، وشروطها ، وسننها ، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد ، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى الآية [ 2 \ 238 ] ، وقال تعالى في سورة المعارج والذين هم على صلاتهم يحافظون [ 70 \ 34 ] وقال فيها أيضا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون [ 70 \ 22 - 23 ] وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا [ 19 \ 59 ] .

وقد أوضحنا ذلك في سورة " مريم " ، وقوله تعالى : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الآية [ 107 \ 54 ] ، وقال تعالى في ذم المنافقين وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس الآية [ 4 \ 142 ] ، وفي الصحيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال " الصلاة على وقتها " [ ص: 321 ] الحديث ، وقد قدمناه والأحاديث في فضل الصلاة والمحافظة عليها كثيرة جدا ، ولكن موضوع كتابنا بيان القرآن بالقرآن ، ولا نذكر غالبا البيان من السنة ، إلا إذا كان في القرآن بيان غير واف بالمقصود ، فنتمم البيان من السنة كما قدمناه مرارا ، وذكرناه في ترجمة هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المؤمنين المتصفين بالصفات ، التي قدمنا هم الوارثون ، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون ; لدلالة قوله : الذين يرثون الفردوس [ 23 \ 11 ] عليه . والفردوس : أعلى الجنة ، وأوسطها ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن - جل وعلا - ، وعبر تعالى عن نيل الفردوس هنا باسم الوراثة .

وقد أوضحنا معنى الوراثة والآيات الدالة على ذلك المعنى ; كقوله تعالى : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] وقوله : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] وقوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء الآية [ 39 \ 74 ] في سورة مريم في الكلام على قوله : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وقرأ هذا الحرف : حمزة والكسائي : على صلاتهم بغير واو ، بصيغة الإفراد وقرأ الباقون : على صلواتهم [ 23 \ 9 ] بالواو المفتوحة بصيغة الجمع المؤنث السالم والمعنى واحد ; لأن المفرد الذي هو اسم جنس ، إذا أضيف إلى معرفة ، كان صيغة عموم كما هو معروف في الأصول ، وقوله هنا : هم فيها خالدون ، أي : بلا انقطاع أبدا ، كما قال تعالى عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] أي : غير مقطوع ، وقال تعالى : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] وقال تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] كما قدمناه مستوفى .
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أطوار خلقه الإنسان ونقله له ، من حال إلى حال ، ليدل خلقه بذلك على كمال قدرته واستحقاقه للعبادة وحده - جل وعلا - ، وقد أوضحنا في [ ص: 322 ] أول سورة الحج معنى النذطفة ، والعلقة ، والمضغة ، وبينا أقوال أهل العلم في المخلقة ، وغير المخلقة ، والصحيح من ذلك وأوضحنا أحكام الحمل إذا سقط علقة أو مضغة هل تنقضي به عدة الحامل أو لا ؟

وهل تكون الأمة به أم ولد إن كان من سيدها أو لا ؟ إلى غير ذلك من أحكام الحمل الساقط ، ومتى يرث ، ويورث ، ومتى يصلى عليه ، وأقوال أهل العلم في ذلك في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآيات [ 22 \ 5 ] ، وسنذكر هنا ما لم نبينه هنالك مع ذكر الآيات التي لها تعلق بهذا المعنى ، أما معنى السلالة : فهي فعالة من سللت الشيء من الشيء ، إذا استخرجته منه ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

خلق البرية من سلالة منتن وإلى السلالة كلها ستعود

والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه .

ومنه قول حسان - رضي الله عنه - :

فجاءت به عضب الأديم غضنفرا سلالة فرج كان غير حصين


وبناء الاسم على الفعالة ، يدل على القلة كقلامة الظفر ، ونحاتة الشيء المنحوت ، وهي ما يتساقط منه عند النحت ، والمراد بخلق الإنسان من سلالة الطين : خلق أبيهم آدم منه ، كما قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] .

وقد أوضحنا فيما مضى أطوار ذلك التراب ، وأنه لما بل بالماء صار طيبا ولما خمر صار طينا لازبا يلصق باليد ، وصار حمأ مسنونا ، قال بعضهم : طينا أسود منتنا ، وقال بعضهم : المسنون : المصور ، كما تقدم إيضاحه في سورة الحجر ، ثم لما خلقه من طين خلق منه زوجه حواء ، كما قال في أول النساء ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها [ 4 \ 1 ] وقال في الأعراف وجعل منها زوجها [ 7 \ 189 ] وقال في الزمر : ثم جعل منها زوجها [ 39 \ 6 ] كما تقدم إيضاح ذلك كله ، ثم لما خلق الرجل والمرأة ، كان وجود جنس الإنسان منهما عن طريق التناسل ، فأول أطواره : النطفة ، ثم العلقة ، إلخ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 10:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (383)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 323 إلى صـ 330




وقد بينا أغلب ذلك في أول سورة الحج ، وقوله هنا : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ 23 \ 12 ] يعني : بدأه خلق نوع الإنسان بخلق آدم ، وقوله ثم جعلناه نطفة [ 23 \ 13 ] ، أي : بعد خلق آدم وحواء ، فالضمير في قوله : ثم جعلناه [ ص: 323 ] لنوع الإنسان ، الذي هو النسل لدلالة المقام عليه ، كقولهم : عندي درهم ونصفه أي : ونصف درهم آخر ، كما أوضح تعالى هذا المعنى في سورة السجدة في قوله تعالى ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 32 \ 6 - 9 ] وأشار إلى ذلك بقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون [ 30 \ 20 ] وما ذكره هنا من أطوار خلقه الإنسان ، أمر كل مكلف أن ينظر فيه ، والأمر المطلق يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه ، كما أوضحناه مرارا ، وذلك في قوله : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق الآية [ 86 \ 5 - 6 ] ، وقد أشار في آيات كثيرة ، إلى كمال قدرته بنقله الإنسان في خلقه من طور إلى طور ، كما أوضحه هنا ; وكما في قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا وقد خلقكم أطوارا [ 71 \ 13 - 14 ] وبين أن انصراف خلقه عن التفكر في هذا والاعتبار به مما يستوجب التساؤل والعجب ، وأن من غرائب صنعه وعجائب قدرته نقله الإنسان من النطفة ، إلى العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة إلخ ، مع أنه لم يشق بطن أمه بل هو مستتر بثلاث ظلمات : وهي ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة المنطوية على الجنين ، وذلك في قوله - جل وعلا - : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ 39 \ 6 ] فتأمل معنى قوله فأنى تصرفون ، أي : عن هذه العجائب والغرائب ، التي فعلها فيكم ربكم ومعبودكم . وقال تعالى : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء [ 3 \ 6 ] وقال : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة [ 22 \ 5 ] ثم ذكر الحكمة فقال لنبين لكم [ 22 \ 5 ] أي : لنظهر لكم بذلك عظمتنا ، وكمال قدرتنا ، وانفرادنا بالإلهية واستحقاق العبادة ، وقال في سورة المؤمن هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا [ 40 \ 67 ] وقال تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد أبهم هذه الأطوار المذكورة في قوله [ ص: 324 ] كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 39 ] وذلك الإبهام يدل على ضعفهم وعظمة خالقهم - جل وعلا - ، فسبحانه - جل وعلا - ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته ، وما أظهر براهين توحيده ، وقد بين في آية المؤمنون هذه : أنه يخلق المضغة عظاما ، وبين في موضع آخر : أنه يركب بعض تلك العظام مع بعض ، تركيبا قويا ، ويشد بعضها مع بعض ، على أكمل الوجوه وأبدعها ، وذلك في قوله نحن خلقناهم وشددنا أسرهم الآية [ 76 \ 28 ] ، والأسر : شد العظام بعضها مع بعض ، وتآسير السرج ومركب المرأة السيور التي يشد بها ، ومنه قول حميد بن ثور :

وما دخلت في الخدب حتى تنقضت تآسير أعلى قده وتحطما


وفي صحاح الجوهري : أسر قتبه يأسره أسرا شده بالأسار وهو القد ، ومنه سمي الأسير ، وكانوا يشدونه بالقد ، فقول بعض المفسرين واللغويين : أسرهم أي : خلقهم فيه قصور في التفسير ; لأن الأسر هو الشد القوي بالأسار الذي هو القد ، وهو السير المقطوع من جلد البعير ونحوه ، الذي لم يدبغ والله - جل وعلا - يشد بعض العظام ببعض ، شدا محكما متماسكا كما يشد الشيء بالقد ، والشد به قوي جدا ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة في قرار مكين [ 23 \ 13 ] القرار هنا : مكان الاستقرار ، والمكين : المتمكن ، وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال ، أو لتمكن من يحل فيه ، قاله أبو حيان في البحر ، وقال الزمخشري : القرار : المستقر ، والمراد به : الرحم وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها ، أو بمكانتها في نفسها ; لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت ، وقوله تعالى في هذه الآية ثم أنشأناه خلقا آخر [ 23 \ 14 ] قال الزمخشري أي : خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا وكان جمادا ، وناطقا وكان أبكم ، وسميعا وكان أصم ، وبصيرا وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره ، بل كل عضو من أعضائه وجزء من أجزائه عجائب فطرة ، وغرائب حكمة ، لا تدرك بوصف الواصف ، ولا بشرح الشارح ، انتهى منه .

وقال القرطبي : اختلف في الخلق الآخر المذكور ، فقال ابن عباس ، والشعبي وأبو العالية ، والضحاك وابن زيد : " هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا " وعن ابن عباس : " خروجه إلى الدنيا " ، وقال قتادة : عن فرقة نبات شعره ، وقال الضحاك : خروج الأسنان ، ونبات الشعر ، وقال مجاهد : كمال شبابه ، وروي عن ابن عمر والصحيح ، أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك ، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت ، اهـ منه .

[ ص: 325 ] والظاهر أن جميع أقوال أهل العلم في قوله خلقا آخر أنه صار بشرا سويا بعد أن كان نطفة ، ومضغة ، وعلقة ، وعظاما كما هو واضح .
مسألة

وقد استدل بهذه الآية الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - ، على أن من غصب بيضة ، فأفرخت عنده أنه يضمن البيضة ، ولا يرد الفرخ ; لأن الفرخ خلق آخر سوى البيضة ، فهو غير ما غصب ، وإنما يرد الغاصب ما غصب ، وهذا الاستدلال له وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] وقوله فتبارك الله قال أبو حيان في البحر المحيط : تبارك : فعل ماض لا ينصرف ، ومعناه : تعالى وتقدس . اهـ منه .

وقوله في هذه الآية أحسن الخالقين أي : المقدرين والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير ، ومنه قول زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبع ض القوم يخلق ثم لا يفري

فقوله : يخلق ثم لا يفري ، أي : يقدر الأمر ، ثم لا ينفذه لعجزه عنه كما هو معلوم ، ومعلوم أن النحويين مختلفون في صيغة التفضيل إذا أضيفت إلى معرفة ، هل إضافتها إضافة محضة ، أو لفظية غير محضة ، كما هو معروف في محله ؟ فمن قال : هي محضة أعرب قوله أحسن الخالقين نعتا للفظ الجلالة ، ومن قال : هي غير محضة أعربه بدلا ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : هو أحسن الخالقين ، وقرأ هذين الحرفين فخلقنا المضغة عظاما [ 23 \ 13 ] وقوله فكسونا العظام لحما ابن عامر وشعبة عن عاصم عظما : بفتح العين ، وإسكان الظاء من غير ألف بصيغة المفرد فيهما ، وقرأه الباقون : عظاما بكسر العين وفتح الظاء ، وألف بعدها بصيغة الجمع ، وعلى قراءة ابن عامر وشعبة ، فالمراد بالعظم : العظام .

وقد قدمنا بإيضاح في أول سورة الحج وغيرها أن المفرد إن كان اسم جنس ، قد تطلقه العرب ، وتريد به معنى الجمع ، وأكثرنا من أمثلته في القرآن ، وكلام العرب مع تعريفه وتنكيره وإضافته ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
[ ص: 326 ] قوله تعالى : ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ، بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنهم بعد أن أنشأهم خلقا آخر ، فأخرج الواحد منهم من بطن أمه صغيرا ، ثم يكون محتلما ، ثم يكون شابا ، ثم يكون كهلا ، ثم يكون شيخا ، ثم هرما أنهم كلهم صائرون إلى الموت من عمر منهم ومن لم يعمر ، ثم هم بعد الموت يبعثون أحياء ، يوم القيامة للحساب والجزاء ، وهذا الموت والحياة المذكوران هنا كل واحد منهما له نظير آخر ; لأنهما إماتتان وإحياءتان ذكر من كل منهما واحدة هنا ، وذكر الجميع في قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ 2 \ 28 ] وقوله : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين [ 40 \ 11 ] كما قدمنا إيضاحه في سورة الحج والبقرة ، وكل ذلك دليل على كمال قدرته ، ولزوم الإيمان به ، واستحقاقه للعبادة وحده سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
قوله تعالى : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين ( 17 ) ، في قوله تعالى : " طرائق " وجهان من التفسير :

أحدهما : أنها قيل لها طرائق ; لأن بعضها فوق بعض من قولهم : طارق النعل إذا صيرها طاقا فوق طاق ، وركب بعضها على بعض ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - " كأن وجوههم المجان المطرقة " أي : التراس التي جعلت لها طبقات بعضها فوق بعض ، ومنه قول الشاعر يصف نعلا له مطارقة :



وطراق من خلفهن طراق ساقطات تلوي بها الصحراء

يعني : نعال الإبل ، ومنه قولهم : طائر طراق الريش ، ومطرقة إذا ركب بعض ريشه بعضا ، ومنه قول زهير يصف بازيا :



أهوى لها أسفع الخدين مطرق ريش القوادم لم تنصب له الشبك


وقول ذي الرمة يصف بازيا أيضا :



طراق الخوافي واقع فوق ريعه ندى ليله في ريشه يترقرق


وقول الآخر يصف قطاة :

سكاء مخطومة في ريشها طرق سود قوادمها كدر خوافيها


فعلى هذا القول فقوله سبع طرائق يوضح معناه قوله تعالى [ ص: 327 ] ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا الآية [ 71 \ 15 ] وهذا قول الأكثر .

الوجه الثاني : أنها قيل لها طرائق ; لأنها طرق الملائكة في النزول والعروج ، وقيل : لأنها طرائق الكواكب في مسيرها ، وأما قول من قال : قيل لها طرائق ; لأن لكل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى ، وقول من قال : طرائق ؟ أي مبسوطات فكلاهما ظاهر البعد ، وقوله تعالى : وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] قد قدمنا أن معناه كقوله ويمسك السماء أن تقع على الأرض [ 22 \ 65 ] ; لأن من يمسك السماء لو كان يغفل لسقطت فأهلكت الخلق كما تقدم إيضاحه . وقال بعضهم وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] بل نحن القائمون بإصلاح جميع شئونهم ، وتيسير كل ما يحتاجون إليه وقوله : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق يعني : السماوات برهان على قوله قبله ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 23 \ 16 ] ; لأن من قدر على خلق السماوات ، مع عظمها فلا شك أنه قادر على خلق الإنسان كقوله تعالى لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] وقوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها الآية [ 79 \ 27 ] .

وقوله : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم [ 36 \ 81 ] والآيات بمثل هذا متعددة .

وقد قدمنا براهين البعث التي هذا البرهان من جملتها ، وأكثرنا من أمثلتها وهي مذكورة هنا ، ولم نوضحها هنا لأنا أوضحناها فيما سبق في النحل والبقرة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل من السماء ماء معظما نفسه - جل وعلا - بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار ، والعيون ، ونحو ذلك . وأنه - جل وعلا - قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعا وعطشا وبين أنه أنزله " بقدر " أي : بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم ، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم ، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة ، دون المفسدة سبحانه - جل وعلا - ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه ، وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة ، جاءت مبينة في غير هذا الموضع .

[ ص: 328 ] الأولى : التي هي كونه : أنزله بقدر أشار إليها في قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .

والثانية : التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله - جل وعلا - ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض [ 39 \ 21 ] والينبوع : الماء الكثير وقوله : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] على ما قدمنا في الحجر .

والثالثة : التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 ] ويشبه معناها قوله تعالى : لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ; لأنه إذا صار ملحا أجاجا لا يمكن الشرب منه ، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم ، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى : ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله [ 24 \ 43 ] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن ، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلئ من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت الآية [ 7 \ 57 ] فقوله : ثقالا جمع ثقيلة ، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى : وينشئ السحاب الثقال [ 13 \ 12 ] جمع سحابة ثقيلة .

وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن ، ثم يخرجه من خلال السحاب ، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة ، وبين - جل وعلا - أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء ، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة ، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم ، ليبتلي أهلها في شكر النعمة ، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء ، ويقل المطر عليهم في بعض السنين ، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم ، ولا تثمر أشجارهم ، ليبتليهم بذلك ، هل يتوبون إليه ، ويرجعون إلى ما يرضيه .

وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائه في الأرض ليشربوا منه هم ، وأنعامهم ، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به ، وذلك في قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا [ 25 \ 48 - 50 ] .

[ ص: 329 ] ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفورا الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار ، وإنما نزل بطبيعته ، فالمنزل له عندهم : هو الطبيعة ، وأن طبيعة الماء التبخر ، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح ، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته ، ثم يجتمع ، ثم يتقاطر ، وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له ، وأنه هو المطر . فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله ، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده ، فمثل هؤلاء داخلون في قوله فأبى أكثر الناس إلا كفورا بعد قوله : ولقد صرفناه بينهم ليذكروا .

وقد صرح في قوله : ولقد صرفناه أنه تعالى ، هو مصرف الماء ، ومنزله حيث شاء كيف شاء . ومن قبيل هذا المعنى : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - قال " صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال أصبح من عبادي مؤمن بي ، وكافر بي : فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " . هذا لفظ مسلم - رحمه الله - في صحيحه ، ولا شك أن من قال : مطرنا ببخار كذا مسندا ذلك للطبيعة ، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار ، والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر ، إلا أنهم يسندون فعل ذلك للفاعل المختار - جل وعلا - ، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد :



لا تلمني إنها من نسوة رقد الصيف مقاليت نزر كبنات البحر يمأدن إذا
أنبت الصيف عساليج الخضر .

فقوله : بنات البحر يعني : المزن التي أصل مائها من البحر .

وقول أبي ذؤيب الهذلي :

سقى أم عمرو كل آخر ليلة حناتم غر ماؤهن ثجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج
.

ولا شك أن خالق السماوات والأرض - جل وعلا - ، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
[ ص: 330 ] قوله تعالى : فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون ، قد قدمنا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب الآية [ 16 \ 11 ] وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين ، قوله : شجرة : معطوف على : جنات من عطف الخاص على العام ، وقد قدمنا مسوغه مرارا أي : فأنشأنا لكم به جنات ، وأنشأنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون ، كما أشار له تعالى بقوله : يوقد من شجرة مباركة زيتونة الآية [ 24 \ 35 ] ، والدهن الذي تنبت به : هو زيتها المذكور في قوله : يكاد زيتها يضيء [ 24 \ 35 ] ومع الاستضاءة منها ، فهي صبغ للآكلين أي : إدام يأتدمون به ، وقرأ هذا الحرف : نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو : سيناء بكسر السين ، وقرأ الباقون : بفتحها ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : تنبت بضم التاء ، وكسر الباء الموحدة مضارع أنبت الرباعي ، وقرأ الباقون : تنبت بفتح التاء ، وضم الباء مضارع : نبت الثلاثي ، وعلى هذه القراءة ، فلا إشكال في حرف الباء في قوله : بالدهن أي : تنبت مصحوبة بالدهن الذي يستخرج من زيتونها ، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو ، ففي الباء إشكال ، وهو : أن أنبت الرباعي يتعدى بنفسه ، ولا يحتاج إلى الباء وقد قدمنا النكتة في الإتيان بمثل هذه الباء في القرآن ، وأكثرنا من أمثلته في القرآن ، وفي كلام العرب في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة الآية [ 19 \ 25 ] ، ولا يخفى أن أنبت الرباعي ، على قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو هنا : لازمة لا متعدية المفعول ، وأنبت تتعدى ، وتلزم فمن تعديها قوله تعالى : ينبت لكم به الزرع والزيتون الآية [ 16 \ 11 ] وقوله تعالى : فأنبتنا به جنات وحب الحصيد [ 50 \ 9 ] ومن لزومها قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو المذكورة ، ونظيرها من كلام العرب قول زهير :

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا بها حتى إذا أنبت البقل
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 10:51 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (384)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 331 إلى صـ 338




فقوله : أنبت البقل لازم بمعنى : نبت ، وهذا هو الصواب في قراءة : ( تنبت ) بضم التاء ، خلافا لمن قال : إنها مضارع أنبت المتعدي : وأن المفعول محذوف أي : تنبت [ ص: 331 ] زيتونها ، وفيه الزيت . وقال ابن كثير : الطور : هو الجبل ، وقال بعضهم : إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر ، فإن عري عن الشجر ، سمي جبلا لا طورا ، والله أعلم . وطور سيناء : هو طور سنين ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران - عليه السلام - ، وما حوله من الجبال ، التي فيها شجر الزيتون . اهـ محل الغرض من كلام ابن كثير .

وفي حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " رواه أحمد ورواه الترمذي ، وغيره عن عمر ، والظاهر أنه لا يخلو من مقال ، وقال فيه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر وابن ماجه فقط عن أبي هريرة ، وصححه الحاكم على شرطهما ثم قال : وفي الباب عن جماعة من الصحابة - رضي الله عنهم - . اهـ منه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون ، قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية ، وما يستفاد منها من الأحكام الفقهية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه الآية [ 16 \ 66 ] مع بيان أوجه القراءة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وعليها وعلى الفلك تحملون ، الضمير في قوله : " عليها " راجع إلى الأنعام المذكورة في قوله : وإن لكم في الأنعام [ 23 \ 21 ] وقد بين تعالى في هذه الآية : أنه يحمل خلقه على الأنعام ، والمراد بها هنا الإبل ; لأن الحمل عليها هو الأغلب ، وعلى الفلك : وهي السفن ولفظ الفلك ، يطلق على الواحد والجمع من السفن ، وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من الامتنان على خلقه بما يسر لهم من الركوب والحمل ، على الأنعام والسفن جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون [ 40 \ 79 - 80 ] وقوله في الأنعام : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون [ 36 \ 71 - 72 ] وقوله فيها وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 7 ] وقوله في [ ص: 332 ] الفلك والأنعام معا : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] وقوله في السفن : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] وقوله : أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره [ 22 \ 65 ] وقوله تعالى : وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله [ 16 \ 14 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وهذا من نعمه وآياته ، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة ; لأن الإبل سفائن البر ، كما قال ذو الرمة :

ألا خيلت مني وقد نام صحبتي فما نفر التهويم إلا سلامها طروقا وجلب الرحل مشدودة بها
سفينة بر تحت خدي زمامها فتراه سمى ناقته سفينة بر وجلب الرحل بالضم والكسر عيدانه أو الرحل بما فيه :
قوله تعالى : ولقد أرسلنا نوحا إلى قوله وما يستأخرون ، قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه من الآيات ، التي لها بيان في مواضع متعددة فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ، بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى أي : متواترين واحدا بعد واحد ، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواترا ، ومنه قول لبيد في معلقته :

يعلو طريقة متنها متواتر في ليلة كفر النجوم غمامها

يعني : مطرا متتابعا ، أو غبار ريح متتابعا ، وتاء تترى مبدلة من الواو ، وأنه كل ما أرسل رسولا إلى أمة كذبوه فأهلكهم ، وأتبع بعضهم بعضا في الإهلاك المتسأصل بسبب تكذيب الرسل ، وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة ، وقد بينت آية استثناء أمة واحدة من هذا الإهلاك المذكور .

أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جدا ; كقوله تعالى : [ ص: 333 ] وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] ، وقوله تعالى : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة الآية [ 7 \ 94 - 95 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا .

أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا الآية [ 10 \ 98 ] ، وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيمانا حقا ، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين ، وذلك في قوله في الصفات وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 147 - 148 ] لأن ظاهر إطلاق قوله : فآمنوا ، يدل على ذلك والعلم عند الله تعالى .

ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ ; لأنه تعالى قال فيهم : فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق الآية [ 34 \ 19 ] ، وقوله فجعلناهم أحاديث أي : أخبارا وقصصا يسمر بها ، ويتعجب منها ، كما قال ابن دريد في مقصورته :

وإنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسنا لمن وعى


وقرأ هذا الحرف ابن كثير ، وأبو عمرو : تترا بالتنوين : وهي لغة كنانة ، والباقون بألف التأنيث المقصورة من غير تنوين : وهي لغة أكثر العرب ، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو الهمزة الثانية من قوله : جآء أمة ، وقرأها الباقون بالتحقيق ، كما هو معلوم . وقوله فبعدا لقوم لا يؤمنون [ 23 \ 44 ] مصدر لا يظهر عامله ، وقد بعد بعدا بفتحتين ، وبعدا بضم فسكون أي : هلك فقوله : بعدا أي : هلاكا مستأصلا ، كما قال تعالى ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود [ 11 \ 95 ] قال الشاعر :

قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا


وقد قال سيبويه : إن بعدا وسحقا ودفرا أي : نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر . اهـ ومن هذا القبيل قولهم : سقيا ورعيا ، كقول نابغة ذبيان : [ ص: 334 ]

نبئت نعما على الهجران عاتية سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري


والأحاديث في قوله : " وجعلناهم أحاديث " في مفرده وجهان معروفان :

أحدهما : أنه جمع حديث كما تقول : هذه أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، تريد بالأحاديث جمع حديث ، وعلى هذا فهو من الجموع الجارية على غير القياس المشار لها بقول ابن مالك في الخلاصة :

وحائد عن القياس كل ما خالف في البابين حكما رسما


يعني بالبابين : التكسير والتصغير ، كتكسير حديث على أحاديث وباطل على أباطيل ، وكتصغير مغرب ، على مغيربان ، وعشية على عشيشية ، وقال بعضهم : إنها اسم جمع للحديث .

الوجه الثاني : أن الأحاديث جمع أحدوثة التي هي مثل : أضحوكة ، وألعوبة ، وأعجوبة بضم الأول ، وإسكان الثاني : وهي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا . ومنه بهذا المعنى قول توبة بن الحمير

: من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها
وهذا الوجه أنسب هنا لجريان الجمع فيه على القياس ، وجزم به الزمخشري ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ، أمر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة رسله عليهم الصلاة والسلام مع أن الموجود منهم ، وقت نزولها واحد ، وهو نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، بالأكل من الطيبات : وهي الحلال الذي لا شبهة فيه على التحقيق ، وأن يعملوا العمل الصالح ، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح ، وهو كذلك ، وهذا الذي أمر به الرسل في هذه الآية الكريمة ، أمر به المؤمنين من هذه الأمة التي هي خير الأمم ، وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 2 \ 172 ] والآية تدل على أن كل رسول أمر في زمنه بالأكل من الحلال ، والعمل الصالح ، وتأثير الأكل من الحلال في الأعمال معروف ، وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم [ 23 \ 51 ] [ ص: 335 ] وقال : ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم [ 2 \ 172 ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام ، وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء ، يا رب يا رب فأنى يستجاب له " وهو يدل دلالة واضحة أن دعاءه الذي هو أعظم القرب لم ينفعه ; لأنه لم يأكل من الحلال ولم يشرب منه ، ولم يركب منه .
قوله تعالى : وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ، قد أوضحنا معنى هاتين الآيتين ، وفسرنا ما يحتاج منهما إلى تفسير وبينا الآيات الموضحة لمعناهما في سورة الأنبياء في الكلام على قوله : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون [ 21 \ 92 - 93 ] وبينا المراد بالأمة مع بعض الشواهد العربية ، وبينا جمع معاني الأمة في القرآن في أول سورة هود في الكلام على قوله : ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة الآية [ 11 \ 8 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : فذرهم في غمرتهم حتى حين ، أمر - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يذر الكفار أي : يتركهم في غمرتهم إلى حين ، أي : وقت معين عند الله ، والظاهر أنه وقت انقضاء آجالهم بقتل أو موت ، وصيرورتهم إلى ما هم صائرون إليه بعد الموت من العذاب البرزخي ، والأخروي ، وكون المراد بالحين المذكور : وقت قتلهم ، أو موتهم ذكره الزمخشري عن علي - رضي الله عنه - ، بغير سند .

وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجعة إلى شيء واحد ; كقول الكلبي في غمرتهم أي : جهالتهم . وقول ابن بحر : في حيرتهم . وقول ابن سلام : في غفلتهم . وقول بعضهم : في ضلالتهم فمعنى كل هذه الأقوال واحد ، وهو أنه ، أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال ، والغي والمعاصي . قال الزمخشري : الغمرة : الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم ، وعمايتهم أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل ، قال ذو الرمة :



ليالي اللهو يطبيني فأتبعه كأنني ضارب في غمرة لعب

وصيغة الأمر في قوله فذرهم في غمرتهم [ 23 \ 54 ] للتهديد ، وقد تقرر في [ ص: 336 ] فن الأصول في مبحث الأمر وفي فن المعاني في مبحث الإنشاء ، أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من تهديد الكفار الذين كذبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، جاء موضحا في مواضع أخر ، كقوله ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] ، وقوله تعالى : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] وقوله : قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار [ 14 ] وقوله : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار [ 39 \ 8 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل ، الآية [ 15 \ 3 ] وتكلمنا هناك على لفظ ذرهم .
قوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون ، قد أوضحنا الكلام على الآيات الموضحة لهاتين الآيتين في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ولا نكلف نفسا إلا وسعها ، ما تضمنته هذه الآية من التخفيف في هذه الحنيفية السمحة ، التي جاء بها نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد ذكرنا طرفا من الآيات الدالة عليه في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

قوله تعالى : ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ، الحق أن المراد بهذا الكتاب : كتاب الأعمال الذي يحصيها الله فيه ، كما يدل عليه قوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في الكهف ، في الكلام على قوله : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ، الآية [ 18 \ 49 ] وفي سورة الإسراء في الكلام على قوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] .

والظاهر أن معنى نطق الكتاب بالحق : أن جميع المكتوب فيه حق ، فمن قرأ المكتوب فيه ، كأنه لا ينطق في قراءته له إلا بالحق ، وربما أطلقت العرب اسم الكلام على [ ص: 337 ] الخط ، كما روي عن عائشة أنها قالت : ما بين دفتي المصحف كلام الله ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون ، حتى هنا في هذه الآية التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام الجملة الشرطية ، والعذاب الذي أخذهم ربهم به ، قيل : هو عذاب يوم بدر بالقتل والأسر ، وقيل : الجوع والقحط الشديد الذي أصابهم ، لما دعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال " اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فأصابهم بسبب دعوته - صلى الله عليه وسلم - من الجوع الشديد ، عذاب أليم ، وأظهرها عندي أنه أخذهم بالعذاب يوم القيامة . وقد بين تعالى في هاتين الآيتين أنه أخذ مترفيهم بالعذاب ، والمترفون هم أصحاب النعمة والرفاهية في دار الدنيا ، وهذا المعنى أشار له بقوله : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما [ 73 \ 11 - 13 ] فقوله : أولي النعمة يريد بهم : المترفين في الدنيا ، وبين أنه سيعذبهم بعد التهديد بقوله : إن لدينا أنكالا وجحيما الآية ، وقوله : يجأرون ، الجؤار : الصراخ باستغاثة ، والعرب تقول : جأر الثور يجأر : صاح ، فالجؤار كالخوار وفي بعض القراءات " عجلا جسدا له جؤار " [ 7 \ 148 ] ، [ 20 \ 88 ] بالجيم والهمزة ، أي : خوار ، وجأر الرجل إلى الله : تضرع بالدعاء .

فمعنى الآية الكريمة : أن المنعمين في الدنيا من الكفار ، إذا أخذهم الله بالعذاب يوم القيامة ، صاحوا مستصرخين مستغيثين ، يطلبون الخلاص مما هم فيه ، وصراخهم واستغاثتهم المشار له هنا ، جاء في آيات أخر كقوله تعالى : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل [ 35 \ 36 - 37 ] فقوله : يصطرخون : يفتعلون من الصراخ ، مستغيثين يريدون الخروج مما هم فيه ، بدليل قوله تعالى عنهم : ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فهذا الصراخ المذكور في هذه الآية العام للمترفين وغيرهم ، هو الجؤار المذكور عن المترفين هنا ، ومن إطلاق العرب الجؤار على الصراخ والدعاء للاستغاثة قول الأعشى :

[ ص: 338 ]

يراوح من صلوات المليك فطورا سجودا وطورا جؤارا

والجؤار المذكور : هو النداء في قوله كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] ; لأن نداءهم نداء استغاثة واستصراخ وكقوله تعالى : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك الآية [ 43 \ 77 ] ; لأن القضاء عليهم من أعظم الأمور التي يطلبونها ، فيستغيثون بالموت من دوام ذلك العذاب الشديد ، أجارنا الله وإخواننا المسلمين منه وكقوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 13 - 14 ] وذلك الدعاء بالثبور الذي هو أعظم الهلاك ، والويل عن أنواع جؤارهم والعياذ بالله . وقوله تعالى في هذه الآية لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون [ 23 \ 65 ] يدل على أنهم إن استغاثوا لم يغاثوا ، وإن استرحموا لم يرحموا ، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [ 18 \ 29 ] .
قوله تعالى : قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون ، لما بين أن المترفين من الكفار إذا أخذهم ربهم بالعذاب ، ضجوا وصاحوا واستغاثوا ، وبين أنهم لا يغاثون كما أوضحناه آنفا بين سبب ذلك بقوله : قد كانت آياتي ، أي : التي أرسلت بها رسلي تتلى عليكم : تقرأ عليكم واضحة مفصلة ، فكنتم على أعقابكم تنكصون : ترجعون عنها القهقرى ، والعقب : مؤخر القدم ، والنكوص : الرجوع عن الأمر ، ومنه قوله تعالى : فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه [ 8 \ 48 ] ومنه قول الشاعر :

زعموا بأنهم على سبل النجاة وإنما نكص على الأعقاب
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 10:54 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (385)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 339 إلى صـ 346



وهذا المعنى الذي ذكره هنا : أشار له في غير هذا الموضع كقوله تعالى قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 11 - 12 ] فكفرهم عند الله ذكر الله وحده ، من نكوصهم على أعقابهم ، وبين في موضع آخر أنهم إذا تتلى عليهم آياته ، لم يقتصروا على النكوص عنها ، على أعقابهم ، بل يكادون يبطشون بالذي يتلوها عليهم ، لشدة بغضهم لها ، وذلك في قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] [ ص: 339 ] وهذا الذي ذكرنا أن العذاب عذاب يوم القيامة ، أظهر عندنا من قول من قال : إنه يوم بدر أو الجوع ، ومن قول من زعم : أن الذين يجأرون : هم الذين لم يقتلوا يوم بدر وأن جؤارهم من قبل إخوانهم ، فكل ذلك خلاف الظاهر ، وإن قاله من قاله :
قوله تعالى : أفلم يدبروا القول ، يتضمن حضهم ، على تدبر هذا القول الذي هو القرآن العظيم ; لأنهم إن تدبروه تدبرا صادقا ، علموا أنه حق ، وأن اتباعه واجب وتصديق من جاء به لازم ، وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] وقوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] وقوله في هذه الآية الكريمة أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] قال القرطبي :

فأنكروه ، وأعرضوا عنه ، وقيل : أم بمعنى : بل جاءهم ما لا عهد لآبائهم به ، فلذلك أنكروه ، وتركوا التدبر له .

وقال ابن عباس : وقيل المعنى : أم جاءهم أمان من العذاب ، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين ، قال أبو حيان في تفسير هذه الآية : قرعهم أولا بترك الانتفاع بالقرآن ، ثم ثانيا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين ، أي : إرسال الرسل ليس بدعا ، ولا مستغربا ، بل أرسلت الرسل للأمم قبلهم ، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن ، واستئصال من كذب وآباؤهم إسماعيل وأعقابه إلى آخر كلامه ، وهذا الوجه من التفسير له وجه من النظر وعليه فالآية كقوله : قل ما كنت بدعا من الرسل الآية [ 46 \ 9 ] ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ، قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى : فقد لبثت فيكم عمرا من قبله الآية [ 10 \ 16 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ، أم المذكورة في هذه الآية هي المعروفة عند النحويين بأم المنقطعة ، وضابطها ألا تتقدم عليها همزة تسوية نحو سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم الآية [ 2 \ 6 ] أو همزة مغنية ، عن لفظة ، أي : كقولك أزيد عندك أم عمرو ؟ أي : أيهما عندك فالمسبوقة [ ص: 340 ] بإحدى الهمزتين المذكورتين ، هي المعروفة عندهم بأم المتصلة ، والتي لم تسبق بواحدة منهما هي المعروفة بالمنقطعة كما هنا ، وأم المنقطعة تأتي لثلاثة معان .

الأول : أن تكون بمعنى : بل الإضرابية .

الثاني : أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار .

الثالث : أن تكون بمعناهما معا فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار ، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها ، خلافا لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى : بل في قوله :

وبانقطاع وبمعنى بل وفت إن تك مما قيدت به خلت

ومراده بخلوها مما قيدت به : ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين ، فإن سبقتها إحداهما ، فهي المتصلة كما تقدم قريبا ، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمنا للإضراب عما قبله إضرابا انتقاليا ، مع معنى استفهام الإنكار ، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم : أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - به جنة أي : جنون يعنون : أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون ، قبحهم الله ما أجحدهم للحق ! وما أكفرهم ! ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله : بل جاءهم بالحق [ 23 \ 70 ] فالإضراب ببل إبطالي .

والمعنى : ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح ، المؤيد بالمعجزات الذي يعرف كل عاقل ، أنه حق ، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق ، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] وقوله تعالى : فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون [ 52 \ 29 ] وهذا الجنون الذي افتري على آخر الأنبياء ، افتري أيضا على أولهم ، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه : إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين [ 23 \ 25 ] وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولا إلا قال قومه : إنه ساحر ، أو مجنون ، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطؤ أقوالهم لرسلهم عليه ، وذلك في قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ 51 \ 52 - 53 ] فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به ; لاختلاف أزمنتهم ، وأمكنتهم ، ولكن الذي جمعهم على ذلك هو مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان ، وقد أوضح هذا المعنى في سورة [ ص: 341 ] البقرة في قوله كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم ، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان ، وكراهية الحق وقوله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] ذكر نحو معناه في قوله تعالى : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون وقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية [ 22 \ 72 ] وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم ، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق ، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق ، أنهم يمتنعون من سماعه ، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه ، كما قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به ، وهو نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، من الحق ، والدعوة إليه ، وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] فترى بعضهم ينهى بعضا عن سماعه ، ويأمرهم باللغو فيه ، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق ، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل .

وهذه الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال : قوله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] يفهم من مفهوم مخالفته ، أن قليلا من الكفار ، ليسوا كارهين للحق ، وهذا السؤال وارد أيضا على آية الزخرف التي ذكرنا آنفا ، وهي قوله تعالى : ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] .

والجواب عن هذا السؤال : هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلا من الكفار ، كانوا لا يكرهون الحق ، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق ، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم ، وأن يقولوا صبؤوا وفارقوا دين آبائهم ، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق ، الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله :

اصدع بأمرك ما عليك غضاضة

الأبيات وقال فيها : [ ص: 342 ]

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا


وقال فيه - صلى الله عليه وسلم - أيضا :

لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعني بقول الأباطل


وقد بين أبو طالب في شعره : أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق ، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله :
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا

قوله تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ، اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية ، فقال بعضهم : الحق : هو الله تعالى ، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى ، كما في قوله تعالى : ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 25 ] وقوله : ذلك بأن الله هو الحق [ 22 \ 6 ] وكون المراد بالحق في الآية : هو الله عزاه القرطبي للأكثرين ، وممن قال به : مجاهد وابن جريج ، وأبو صالح ، والسدي ، وروي عن قتادة ، وغيرهم .

وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه وإرسال من اقترحوا إرساله ، بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعا لأهوائهم الفاسدة ، لفسدت السماوات والأرض ، ومن فيهن ; لأن أهواءهم الفاسدة وشهواتهم الباطلة ، لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض وذلك لفساد أهوائهم ، واختلافها . فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء والأرض ومن فيهن ، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع .

ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح ; لأن تكون متبعة قوله تعالى : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] ; لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين ، وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك ، وقد رد الله عليهم بقوله : أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 32 ] ، وقال تعالى : قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا [ 7 \ 100 ] وقال تعالى : أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا [ 4 \ 53 ] قال ابن كثير - رحمه الله - : ففي هذا كله تبيين عجز العباد ، واختلاف آرائهم وأهوائهم ، وأنه تعالى هو [ ص: 343 ] الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه سبحانه وتعالى علوا كبيرا .

ومما يوضح أن الحق لو اتبع الأهواء الفاسدة المختلفة لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن قوله تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فسبحان الله رب العرش عما يصفون .

القول الثاني : أن المراد بالحق في الآية : الحق الذي هو ضد الباطل المذكور في قوله قبله : وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] وهذا القول الأخير اختاره ابن عطية ، وأنكر الأول .

وعلى هذا القول فالمعنى : أنه لو فرض كون الحق متبعا لأهوائهم ، التي هي الشرك بالله ، وادعاء الأولاد ، والأنداد له ونحو ذلك لفسد كل شيء ; لأن هذا الفرض يصير به الحق ، هو أبطل الباطل ، ولا يمكن أن يقوم نظام السماء والأرض على شيء ، هو أبطل الباطل ; لأن استقامة نظام هذا العالم لا تمكن إلا بقدرة وإرادة إله هو الحق منفرد بالتشريع ، والأمر والنهي كما لا يخفى على عاقل والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ، اختلف العلماء في الذكر في الآية فمنهم من قال : ذكرهم : فخرهم ، وشرفهم ; لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف ، وعلى هذا ، فالآية كقوله : وإنه لذكر لك ولقومك [ 43 \ 44 ] على تفسير الذكر بالفخر والشرف ، وقال بعضهم : الذكر في الآية : الوعظ والتوصية ، وعليه فالآية كقوله : ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم [ 3 \ 58 ] وقال بعضهم : الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قوله : لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين [ 37 \ 168 - 169 ] وعليه ، فالآية كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم [ 35 \ 42 ] وعلى هذا القول فقوله : فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا الآية [ 35 \ 42 ] كقوله هنا ، فهم عن ذكرهم معرضون ، وكقوله : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم [ 6 \ 157 ] والآيات بمثل هذا على القول الأخير كثيرة والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين [ ص: 344 ] المراد بالخرج والخراج هنا : الأجر والجزاء .

والمعنى : أنك لا تسألهم على ما بلغتهم من الرسالة المتضمنة لخيري الدنيا والآخرة ، أجرة ولا جعلا ، وأصل الخرج والخراج : هو ما تخرجه إلى كل عامل في مقابلة أجره ، أو جعل ، وهذه الآية الكريمة تتضمن أنه - صلى الله عليه وسلم - ، لا يسألهم أجرا ، في مقابلة تبليغ الرسالة .

وقد أوضحنا الآيات القرآنية الدالة على أن الرسل لا يأخذون الأجرة على التبليغ في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى عن نوح : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] وبينا وجه الجمع بين تلك الآيات ، مع آية : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] وبينا هناك حكم أخذ الأجرة ، على تعليم القرآن وغيره ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ هذين الحرفين ابن عامر : خرجا فخرج ربك ، بإسكان الراء فيهما معا ، وحذف الألف فيهما ، وقرأ حمزة والكسائي : خراجا فخراج ربك بفتح الراء بعدها ألف فيهما معا ، وقرأ الباقون : خرجا فخراج ربك بإسكان الراء ، وحذف الألف في الأول ، وفتح الراء وإثبات الألف في الثاني ، والتحقيق : أن معنى الخرج والخراج واحد ، وأنهما لغتان فصيحتان وقراءتان سبعيتان ، خلافا لمن زعم أن بين معناهما فرقا زاعما أن الخرج ما تبرعت به ، والخراج : ما لزمك أداؤه .

ومعنى الآية : لا يساعد على هذا الفرق كما ترى ، والعلم عند الله تعالى ، وصيغة التفضيل في قوله : وهو خير الرازقين [ 23 \ 72 ] نظرا إلى أن بعض المخلوقين يرزق بعضهم كقوله تعالى : وارزقوهم فيها واكسوهم [ 4 \ 5 ] وقوله تعالى : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن الآية [ 2 \ 233 ] ، ولا شك أن فضل رزق الله خلقه ، على رزق بعض خلقه بعضهم كفضل ذاته ، وسائر صفاته على ذوات خلقه ، وصفاتهم .
قوله تعالى : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ، قد قدمنا الآيات الموضحة ، لمعنى هذه الآية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 22 \ 67 ] فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لإنكارهم البعث والجزاء ، ناكبون عن الصراط ، والمراد بالصراط ، الذي هم ناكبون عنه : الصراط المستقيم [ ص: 345 ] الموصل إلى الجنة المذكور في قوله قبله : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم [ 23 \ 73 ] ومن نكب عن هذا الصراط المستقيم ، دخل النار بلا شك .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله تعالى في سورة الروم : وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ 30 \ 16 ] ومعنى قوله : لناكبون : عادلون عنه ، حائدون غير سالكين إياه وهو معنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول نصيب :

خليلي من كعب ألما هديتما بزينب لا تفقدكما أبدا كعب من اليوم زوراها فإن ركابنا
غداة غد عنها وعن أهلها نكب جمع ناكبة ، عنها أي : عادلة عنها متباعدة عنها ، وعن أهلها .
قوله تعالى : ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون ، قد بينا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية من أنه تعالى يعلم المعدوم الذين سبق في علمه أنه لا يوجد أن لو وجد ، كيف يكون في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 28 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وقوله في هذه الآية : للجوا في طغيانهم يعمهون [ 23 \ 75 ] اللجاج هنا : التمادي في الكفر والضلال ، والطغيان : مجاوزة الحد ، وهو كفرهم بالله ، وادعاؤهم له الأولاد والشركاء ، وقوله : يعمهون : يترددون متحيرين لا يميزون حقا ، من باطل ، وقال بعض أهل العلم : العمه : عمى القلب ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه أخذ الكفار بالعذاب ، والظاهر أنه هنا : العذاب الدنيوي كالجوع والقحط والمصائب ، والأمراض والشدائد ، فما استكانوا لربهم أي : ما خضعوا له ، ولا ذلوا وما يتضرعون أي : ما يبتهلون إليه بالدعاء متضرعين له ، ليكشف عنهم ذلك العذاب لشدة قسوة قلوبهم ، وبعدهم من الاتعاظ ، ولو كانوا متصفين بما يستوجب ذلك من إصابة عذاب الله لهم ، وهذا المعنى الذي ذكره هنا جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في سورة الأنعام : ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [ 6 \ 42 - 43 ] وقوله في سورة [ ص: 346 ] الأعراف : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ، قد ذكرنا الآيات التي فيها إيضاح لمعنى هذه الآية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون [ 16 \ 78 ] وبينا هناك وجه إفراد السمع مع الجمع للأبصار والأفئدة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ، ذرأكم معناه : خلقكم ، ومنه قوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية [ 7 \ 179 ] وقوله في الأرض ، أي : خلقكم وبثكم في الأرض ، عن طريق التناسل ، كما قال تعالى : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء الآية [ 4 \ 1 ] وقال : ثم إذا أنتم بشر تنتشرون [ 30 \ 20 ] وقوله : وإليه تحشرون أي : إليه وحده ، تجمعون يوم القيامة أحياء بعد البعث للجزاء والحساب .

وما تضمنته هذه الآية ، من أنه خلقهم ، وبثهم في الأرض ، وأنه سيحشرهم إليه يوم القيامة ، جاء معناه في آيات كثيرة ; كقوله في أول هذه السورة ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين إلى قوله : ثم إنكم يوم القيامة تبعثون [ 23 \ 12 - 16 ] وذكر - جل وعلا - أيضا هاتين الآيتين في سورة الملك في قوله تعالى : قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ 67 \ 23 - 25 ] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
قوله تعالى : وهو الذي يحيي ويميت ، قد قدمنا الآيات الدالة على الإماتتين والإحياءتين ، وأن ذلك من أكبر الدواعي للإيمان به - جل وعلا - في سورة الحج في الكلام على قوله : وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ 22 \ 26 ] وفي سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم [ 2 \ 28 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 10:56 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (386)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 347 إلى صـ 354



[ ص: 347 ] قوله تعالى : وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون ، بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن له اختلاف الليل والنهار ، يعني : أن ذلك هو الفاعل له وهو الذي يذهب بالليل ، ويأتي بالنهار ، ثم يذهب بالنهار ويأتي بالليل ، واختلاف الليل والنهار ، من أعظم آياته الدالة على كمال قدرته ، ومن أعظم مننه على خلقه كما بين الأمرين في سورة القصص في قوله تعالى قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون الآية [ 28 \ 71 - 73 ] ، أي : لتسكنوا في الليل وتطلبوا معايشكم بالنهار . والآيات الدالة على اختلاف الليل والنهار من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله ، واستحقاقه للعبادة وحده كثيرة جدا ; كقوله تعالى : ومن آياته الليل والنهار الآية [ 41 \ 37 ] وقوله : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون [ 36 \ 37 ] وقوله : يغشي الليل النهار الآية [ 7 \ 54 ] وقوله : ولا الليل سابق النهار [ 36 \ 40 ] وقوله تعالى : وسخر لكم الليل والنهار الآية [ 14 \ 33 ] ، وقوله تعالى : إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون [ 10 \ 6 ] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا . وقوله تعالى : أفلا تعقلون أي : تدركون بعقولكم أن الذي ينشئ السمع والأبصار والأفئدة ، ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ، وهو الذي يحيي ويميت ويخالف بين الليل والنهار أنه الإله الحق المعبود وحده - جل وعلا - ، الذي لا يصح أن يسوى به غيره سبحانه وتعالى علوا كبيرا .
قوله تعالى : بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ، لفظة بل هنا للإضراب الانتقالي .

والمعنى : أن الكفار الذين كذبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ، قالوا مثل ما قالت الأمم قبلهم ، من إنكار البعث ; لأن الاستفهام في قوله : أئنا لمبعوثون إنكار منهم للبعث ، والآيات الدالة على إنكارهم للبعث كثيرة ; كقوله تعالى عنهم : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] وكقوله عنهم : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] [ ص: 348 ] وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] وقوله عنهم : أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة [ 79 \ 11 - 12 ] ، والآيات بمثل هذا في إنكارهم البعث كثيرة : وقد بينا في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] ، وفي أول سورة النحل ، وغيرهما الآيات الدالة على البعث بعد الموت ، وأوردنا منها كثيرا كقوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآيات [ 22 \ 5 ] ، وأوضحنا أربعة براهين قرآنية دالة على البعث بعد الموت ، وأكثرنا من ذكر الآيات الدالة على ذلك ، فأغنى ذلك عن التطويل هنا ، وقوله تعالى في هذه الآية أئذا متنا قرأ نافع والكسائي ، بالاستفهام في : أئذا متنا ، وحذف همزة الاستفهام ، في أئنا لمبعوثون ، بل قرأ إنا لمبعوثون بصيغة الخبر لدلالة الاستفهام الأول ، على الاستفهام الثاني المحذوف وقرأه ابن عامر بالعكس ، فحذف همزة الاستفهام ، من أئذا ، وقرأ إذا بدون استفهام ، وأثبت همزة الاستفهام في قوله : أئنا لمبعوثون وقد دل الاستفهام الثاني المثبت في قراءة ابن عامر ، على الاستفهام الأول المحذوف فيها ، وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة بالاستفهام فيهما معا : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون وهم على أصولهم في الهمزتين ، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية ، والباقون يحققونها ، وأدخل قالون ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر ألفا بين الهمزتين ، وقرأ الباقون بالقصر دون الألف ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص ، عن عاصم : متنا بكسر الميم ، والباقون : بضم الميم ، وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : قالت ياليتني مت قبل هذا الآية [ 19 \ 23 ] وجه كسر الميم في إسناد الفعل الذي هو مات إلى تاء الفاعل ، وبينا أنه يخفى على كثير من طلبة العلم ، وأوضحنا وجهة غاية مع بعض الشواهد العربية ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار المنكرين للبعث قالوا : إنهم وعدوا بالبعث ، ووعد به آباؤهم من قبلهم ، والظاهر أنهم يعنون أجدادهم ، الذين جاءتهم الرسل ، وأخبرتهم بأنهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء ، وقالوا : إن البعث الذي وعدوا به [ ص: 349 ] هم وآباؤهم كذب لا حقيقة له ، وأنه ما هو إلا أساطير الأولين أي : ما سطروه وكتبوه من الأباطيل والترهات ، والأساطير : جمع أسطورة ، وقيل : جمع أسطارة ، وهذا الذي ذكره عنهم من إنكارهم البعث ذكر مثله في سورة النمل في قوله : وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين [ 27 \ 67 - 68 ] ، ثم إنه تعالى أقام البرهان على البعث ، الذي أنكروه في هذه الآية بقوله : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون إلى قوله : فأنى تسحرون [ 23 \ 84 - 89 ] ; لأن من له الأرض ، ومن فيها ، ومن هو رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، ومن بيده ملكوت كل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، لا شك أنه قادر على بعث الناس بعد الموت ، كما أوضحنا فيما مر البراهين القرآنية القطعية ، الدالة على ذلك .
قوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون ، قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة ، من كماله وجلاله وأوصاف ربوبيته المستلزمة لإخلاص العبادة له وحده ، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : يفترون قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وأوضحنا دلالة توحيده في ربوبيته ، على توحيده في عبادته وقد ذكرنا كثيرا من الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، مع الإيضاح ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله في هذه الآية الكريمة : من بيده ملكوت كل شيء الملكوت : فعلوت من الملك أي : من بيده ملك كل شيء ، بمعنى : من هو مالك كل شيء كائنا ما كان . وقال بعض أهل العلم : زيادة الواو والتاء في نحو : الملكوت ، والرحموت ، والرهبوت بمعنى الملك والرحمة ، والرهبة : تفيد المبالغة في ذلك ، والله تعالى أعلم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وهو يجير ولا يجار عليه ، أي : هو يمنع من [ ص: 350 ] شاء ممن شاء ، ولا يمنع أحد منه أحدا شاء أن يهلكه أو يعذبه ; لأنه هو القادر وحده ، على كل شيء ، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، ومنه قول الشاعر :

أراك طفقت تظلم من أجرنا وظلم الجار إذلال المجير

وقوله تعالى : فأنى تسحرون أي : كيف تخدعون ، وتصرفون عن توحيد ربكم ، وطاعته مع ظهور براهينه القاطعة وأدلته الساطعة ، وقيل : فأنى تسحرون ، أي : كيف يخيل إليكم : أن تشركوا به ما لا يضر ، ولا ينفع ، ولا يغني عنكم شيئا بناء على أن السحر هو التخييل .

وقد قدمنا الكلام على السحر مستوفى في سورة طه في الكلام على قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 \ 69 ] والظاهر أن معنى تسحرون هنا : تخدعون بالشبه الباطلة فيذهب بعقولكم ، عن الحق كما يفعل بالمسحور ، والله تعالى أعلم .

وقوله : أفلا تذكرون قرأه حفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي بتخفيف الذال بحذف إحدى التاءين ، والباقون بالتشديد لإدغام إحدى التاءين في الذال .

وقوله تعالى : سيقولون لله جاء في هذه الآيات ثلاث مرات ، الأول : سيقولون لله قل أفلا تذكرون ، وهذه اتفق جميع السبعة على قراءتها بلام الجر الداخلة على لفظ الجلالة ; لأنها جواب المجرور بلام الجر ، وهو قوله : قل لمن الأرض ومن فيها فجواب لمن الأرض ، هو أن تقول : لله ، وأما الثاني الذي هو : سيقولون لله قل أفلا تتقون . والثالث : الذي هو قوله : سيقولون لله قل فأنى تسحرون فقد قرأهما أبو عمرو بحذف لام الجر ورفع الهاء من لفظ الجلالة .

والمعنى على قراءة أبي عمرو المذكورة واضح لا إشكال فيه ; لأن الظاهر في جواب من رب السماوات السبع ، ورب العرش العظيم ، أن تقول : الله بالرفع ، أي : رب ما ذكر هو الله ، وكذلك جواب قوله : من بيده ملكوت كل شيء الآية . فالظاهر في جوابه أيضا أن يقال : الله بالرفع ، أي : الذي بيده ملكوت كل شيء ، فقراءة أبي عمرو جارية على الظاهر ، الذي لا إشكال فيه ، وقرأ الحرفين المذكورين غيره من السبعة ، بحرف الجر وخفض الهاء من لفظ الجلالة كالأول .

وفي هذه القراءة التي هي قراءة الجمهور سؤال معروف ، وهو أن يقال : ما وجه الإتيان بلام الجر ، مع أن السؤال لا يستوجب الجواب بها ; لأن قول [ ص: 351 ] من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم الظاهر أن يقال في جوابه : ربهما الله ، وإذا يشكل وجه الإتيان بلام الجر . والجواب عن هذا السؤال معروف واضح ; لأن قوله تعالى : من رب السماوات الآية ، وقوله : من بيده ملكوت كل شيء فيه معنى : من هو مالك السماوات والأرض ، والعرش ، وكل شيء فيحسن الجواب بأن يقال : لله ، أي : كل ذلك ملك لله ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :

إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قلت لخالد


لأن قوله : من رب المزالف فيه معنى من هو مالكها ، فحسن الجواب باللام : أي هي لخالد ، والمزالف : مزلفة كمرحلة ، قال في القاموس : هي كل قرية تكون بين البر والريف ، وجمعها مزالف .

حب
قوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون ، بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

الأولى : أنه لم يتخذ ولدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

والثانية : أنه لم يكن معه إله آخر سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

والثالثة : أنه أقام البرهان على استحالة تعدد الآلهة بقوله :

إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض . أما ادعاؤهم له الأولاد ، فقد بينا الآيات الدالة على عظم فريتهم في ذلك ، وظهور بطلان دعواهم ، ورد الله عليهم في ذلك في مواضع متعددة ، فقد أوضحنا في سورة النحل في الكلام ، على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى الآية [ 16 \ 57 - 58 ] ، وقد ذكرنا طرفا منه في أول الكهف في الكلام على قوله : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا [ 18 \ 4 ] ، وفي مواضع غير ما ذكر ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وأما تفرده تعالى بالألوهية مع إقامة الدليل على ذلك فقد بيناه ، وذكرنا ما يدل عليه من الآيات في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 \ 42 ] ولم نتعرض لما يسميه المتكلمون دليل التمانع ، لكثرة المناقشات الواردة على أهل الكلام فيه ، وإنما بينا الآيات بالقرآن على طريق الاستدلال القرآني بها فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
[ ص: 352 ] قوله تعالى : قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين ، أمر - جل وعلا - نبيه في هاتين الآيتين الكريمتين أن يقول : رب إما تريني ما يوعدون ، أي : أن ترني ما توعدهم من العذاب ، بأن تنزله بهم ، وأنا حاضر شاهد أرى نزوله بهم فلا تجعلني في القوم الظالمين ، أي : لا تجعلني في جملة المعذبين الظالمين ، بل أخرجني منهم ، ونجني من عذابهم ، وقد بين تعالى في مواضع أخر : أنه لا ينزل بهم العذاب ، وهو فيهم وذلك في قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم الآية [ 8 \ 33 ] ، وبين هنا أنه قادر على أن يره العذاب ، الذي وعدهم به في قوله : وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون [ 23 \ 95 ] وبين في سورة الزخرف ، أنه إن ذهب به قبل تعذيبهم ، فإنه معذب لهم ومنتقم منهم لا محالة ، وأنه إن عذبهم ، وهو حاضر فهو مقتدر عليهم ، وذلك في قوله تعالى : فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون [ 43 \ 41 - 42 ] .
قوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ، هذا الذي تضمنته هذه الآيات الثلاث مما ينبغي أن يعامل به شياطين الإنس وشياطين الجن ، قد قدمنا الآيات الدالة عليه بإيضاح في آخر سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ الآية [ 7 \ 199 - 200 ] ، وقوله في هذه الآية : بالتي هي أحسن ، أي : بالخصلة التي هي أحسن الخصال ، والسيئة مفعول ادفع ووزن السيئة ، فيعلة أصلها : سيوئة وحروفها الأصلية السين والواو والهمزة ، وقد زيدت الياء الساكنة بين الفاء والعين ، فوجب إبدال الواو التي هي عين الكلمة ياء وإدغام ياء الفيعلة الزائدة فيها على القاعدة التصريفية المشار إليها بقول ابن مالك في الخلاصة :



إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا فياء الواو اقلبن مدغما
وشذ معطى غير ما قد رسما

كما قدمناه مرارا .

والسيئة في اللغة : الخصلة من خصال السوء ، وقوله تعالى : نحن أعلم بما يصفون ، أي : بما تصفه ألسنتهم من الكذب في تكذيبهم لك ، وادعائهم [ ص: 353 ] الأولاد والشركاء لله ، وقد قدمنا في سورة المائدة أن اللين والصفح المطلوب في آيات القرآن بعد نزول القتال إنما هو بالنسبة إلى المؤمنين ، دون الكافرين في الكلام على قوله تعالى : أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] وبينا الآيات الدالة على ذلك كقوله في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأصحابه أشداء على الكفار رحماء بينهم [ 48 \ 29 ] وقوله : واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] ، وقوله : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ 9 \ 73 ] إلى آخر ما تقدم . وقوله في هذه الآية : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ : جمع همزة وهي المرة من فعل الهمز ، وهو في اللغة : النخس والدفع ، وهمزات الشياطين : نخساتهم لبني آدم ليحثوهم ، ويحضوهم على المعاصي ، كما أوضحنا الكلام عليه في قوله تعالى : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] وكقوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل الآية [ 43 \ 36 - 37 ] .

والظاهر في قوله : وأعوذ بك رب أن يحضرون أن المعنى : أعوذ بك أن يحضرني الشيطان في أمر من أموري كائنا ما كان ، سواء كان ذلك وقت تلاوة القرآن ، كما قال تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ 16 \ 98 ] أو عند حضور الموت أو غير ذلك من جميع الشؤون في جميع الأوقات ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا ، الظاهر عندي : أن " حتى " في هذه الآية : هي التي يبتدأ بعدها الكلام ، ويقال لها : حرف ابتداء ، كما قاله ابن عطية ، خلافا للزمخشري القائل : إنها غاية لقوله : نحن أعلم بما يصفون [ 23 \ 96 ] ولأبي حيان القائل : إن الظاهر له أن قبلها جملة محذوفة هي غاية له يدل عليها ما قبلها ، وقدر الجملة المذكورة بقوله فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم ، حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون . ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر وهو الفرزدق :

فواعجبا حتى كليب تسبني كأن أباها نهشل أو مجاشع

قال : المعنى : يسبني الناس حتى كليب ، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة [ ص: 354 ] وفي الآية دل ما قبلها عليها ، انتهى الغرض من كلام أبي حيان ، ولا يظهر عندي كل الظهور .

بل الأظهر عندي : هو ما قدمته وهو قول ابن عطية ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة ، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة ، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان لذلك ، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو " كلا " جاء موضحا في مواضع أخر كقوله تعالى :

وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 10 - 11 ] ، وقوله تعالى : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] إلى غير ذلك من الآيات . وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت ، ليصلحوا أعمالهم فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 10:59 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (387)
سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
صـ 355 إلى صـ 362



ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 27 - 28 ] وقوله تعالى : وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل [ 42 \ 44 ] وقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل [ 40 \ 11 ] وقوله تعالى : وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير [ 35 \ 37 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل الآية [ 34 \ 51 - 53 ] ، وقد تضمنت هذه الآيات التي ذكرنا ، وأمثالها في القرآن : أنهم يسألون الرجعة فلا [ ص: 355 ] يجابون عند حضور الموت ، ويوم النشور ووقت عرضهم على الله تعالى ، ووقت عرضهم على النار .

وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف : وهو أن يقال : ما وجه صيغة الجمع في قوله : رب ارجعون ولم يقل : رب ارجعني بالإفراد .

وقد أوضحنا الجواب عن هذا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وبينا أنه يجاب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : وهو أظهرها : أن صيغة الجمع في قوله : ارجعون ، لتعظيم المخاطب وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه ، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره :



ألا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل


وقول الآخر يخاطب امرأة :



وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا


والنقاخ : الماء البارد . والبرد : النوم ، وقيل : ضد الحر ، والأول أظهر .

الوجه الثاني : قوله : رب استغاثة به تعالى ، وقوله : ارجعون : خطاب للملائكة ، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير ، عن ابن جريج قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة : " إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ، فيقول : بل قدموني إلى الله . وأما الكافر فيقولون له : نرجعك ؟ فيقول : رب ارجعون " .

الوجه الثالث : وهو قول المازني : إنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب ارجعني ارجعني ارجعني ، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة لعلي أعمل صالحا الظاهر أن لعل فيه للتعليل ، أي : ارجعون ; لأجل أن أعمل صالحا ، وقيل : هي للترجي والتوقع ; لأنه غير جازم ، بأنه إذا رد للدنيا عمل صالحا ، والأول أظهر . والعمل الصالح يشمل جميع الأعمال من الشهادتين والحج الذي كان قد فرط فيه والصلوات والزكاة ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى ، وقوله كلا : كلمة زجر : وهي دالة على أن الرجعة التي طلبها لا يعطاها كما هو واضح .
[ ص: 356 ] قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، في هذه الآية الكريمة ، سؤالان معروفان يحتاجان إلى جواب مبين للمقصود مزيل للإشكال .

السؤال الأول : أنه تعالى ذكر في هذه الآية : أنه إذا نفخ في الصور - والظاهر أنها النفخة الثانية - أنهم لا أنساب بينهم يومئذ ، فيقال : ما وجه نفي الأنساب بينهم ، مع أنها باقية كما دل عليه قوله تعالى : فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه [ 80 \ 33 - 36 ] ففي هذه الآية ثبوت الأنساب بينهم .

السؤال الثاني : أنه قال : ولا يتساءلون مع أنه ذكر في آيات أخر أنهم في الآخرة يتساءلون ، كقوله في سورة الطور وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 52 \ 25 ] وقوله في الصافات وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد ذكرنا الجواب عن هذين السؤالين في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " بما حاصله :

إن الجواب عن السؤال الأول : هو أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها ، التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا ، من التفاخر بالآباء ، والنفع والعواطف والصلات ، فكل ذلك ينقطع يوم القيامة ، ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه ، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب ، من أصلها بدليل قوله : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه الآية [ 80 \ 34 - 35 ] .

وإن الجواب عن السؤال الثاني من ثلاثة أوجه :

الأول : هو قول من قال : إن نفي السؤال بعد النفخة الأولى ، وقبل الثانية ، وإثباته بعدهما معا ، وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر .

الثاني : أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة ، والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي ، من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس .
الثالث : أن السؤال المنفي سؤال خاص ، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض ، فيما [ ص: 357 ] بينهم من الحقوق ، لقنوطهم من الإعطاء ، ولو كان المسؤول أبا أو ابنا أو أما أو زوجة ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب الإتقان .
قوله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ، قد قدمنا الآيات الموضحة ، لمعنى هاتين الآيتين في سورة الأعراف في الكلام على قوله : والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه الآية [ 7 \ 8 - 9 ] ، وقوله في سورة الكهف : فإن الله عدو للكافرين [ 18 \ 105 ] وغير ذلك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ، ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الكفار تلفح وجوههم النار ، أي : تحرقها إحراقا شديدا ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار الآية [ 33 \ 66 ] ، وقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار [ 27 \ 90 ] ، وقوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم الآية [ 21 \ 39 ] ، وقوله تعالى : سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار الآية [ 14 \ 50 ] ، وقوله تعالى : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة [ 39 \ 24 ] وقوله : يشوي الوجوه بئس الشراب الآية [ 18 \ 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله : وهم فيها كالحون [ 23 \ 104 ] الكالح : هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه ، والنار والعياذ بالله تحرق شفاههم ، حتى تتقلص عن أسنانهم ، كما يشاهد مثله في رأس الشاة المشوي في نار شديدة الحر ، ومنه قول الأعشى :
وله المقدم لا مثل له ساعة الشدق عن الناب كلح
وعن ابن عباس : كالحون : عابسون .
قوله تعالى : ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين [ ص: 358 ] ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : من أن أهل النار يسألون يوم القيامة ، فيقول لهم ربهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم ، أي : في دار الدنيا على ألسنة الرسل فكنتم بها تكذبون ، وأنهم اعترفوا بذلك ، وأنهم لم يجيبوا الرسل لما دعوهم إليه من الإيمان ; لأن الله أراد بهم الشقاء وهم ميسرون لما خلقوا له ، فلذلك كفروا ، وكذبوا الرسل .

قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وقوله هنا : قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين الظاهر أن معنى قولهم : غلبت علينا شقوتنا أن الرسل بلغتهم ، وأنذرتهم وتلت عليهم آيات ربهم ، ولكن ما سبق في علم الله من شقاوتهم الأزلية ، غلب عليهم ، فكذبوا الرسل ، ليصيروا إلى ما سبق في علمه - جل وعلا - ، من شقاوتهم ، ونظير الآية على هذا الوجه قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] وقوله عن أهل النار قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] إلى غير ذلك من الآيات ، ويزيد ذلك إيضاحا قوله - صلى الله عليه وسلم - " كل ميسر لما خلق له " وقوله تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] وقوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ 11 \ 118 - 119 ] على أصح التفسيرين وقوله عنهم وكنا قوما ضالين ، اعتراف منهم بضلالهم ، حيث لا ينفع الاعتراف بالذنب ولا الندم عليه ، كقوله تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] ونحو ذلك من الآيات .

وهذا الذي فسرنا به الآية ، هو الأظهر الذي دل عليه الكتاب والسنة ، وبه تعلم أن قول أبي عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية ، وأحسن ما قيل في معناه : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا ، فسمى اللذات والأهواء شقوة ; لأنهما يؤديان إليها كما قال الله - عز وجل - : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا [ 4 \ 10 ] ; لأن ذلك يؤديهم إلى النار . اهـ ، تكلف مخالف للتحقيق .

ثم حكى القرطبي ما ذكرنا أنه الصواب بقيل ثم قال : وقيل حسن الظن بالنفس ، وسوء الظن بالخلق اهـ .

ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى ، وقوله هنا : قوما ضالين [ ص: 359 ] أي : عن الإسلام إلى الكفر ، وعن طريق الجنة إلى طريق النار ، وقرأ هذا الحرف : حمزة ، والكسائي : شقاوتنا بفتح الشين ، والقاف وألف بعدها ، وقرأه الباقون : بكسر الشين ، وإسكان القاف وحذف الألف .
قوله تعالى : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار يدعون ربهم فيها فيقولون : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا إلى ما لا يرضيك بعد إخراجنا منها ، فإنا ظالمون ، وأن الله يجيبهم بقوله : اخسئوا فيها ولا تكلمون ، أي : امكثوا فيها خاسئين ، أي : أذلاء صاغرين حقيرين ; لأن لفظة اخسأ إنما تقال للحقير الذليل ، كالكلب ونحوه ، فقوله : اخسئوا فيها ، أي : ذلوا فيها ماكثين في الصغار والهوان .

وهذا الخروج من النار الذي طلبوه قد بين تعالى أنهم لا ينالونه ; كقوله تعالى يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] وقوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] وقوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها الآية [ 22 \ 22 ] ، وقوله تعالى : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 \ 20 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد جاء في القرآن أجوبة متعددة لطلب أهل النار فهنا قالوا : ربنا أخرجنا منها فأجيبوا اخسئوا فيها ولا تكلمون وفي السجدة ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا [ 32 \ 12 ] فأجيبوا ولكن حق القول مني لأملأن جهنم الآية [ 32 \ 13 ] ، وفي سورة المؤمن قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل [ 40 \ 11 ] فأجيبوا ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] وفي الزخرف ونادوا يامالك ليقض علينا ربك [ 43 \ 77 ] فأجيبوا إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] وفي سورة إبراهيم فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل [ 14 \ 44 ] فيجابون أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] وفي سورة فاطر وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل [ 35 \ 37 ] فيجابون [ ص: 360 ] أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير [ 53 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مثل هذه الأجوبة .

وعن ابن عباس : أن بين كل طلب منها وجوابه ألف سنة والله أعلم . وقوله في هذه الآية : ولا تكلمون أي : في رفع العذاب عنكم ، ولا إخراجكم من النار أعاذنا الله ، وإخواننا المسلمين منها .
قوله تعالى : إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون . قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه ، أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل ، كقولك : عاقبه إنه مسئ ، أي : لأجل إساءته ، وقوله في هذه الآية : إنه كان فريق من عبادي ، يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة ، على أن الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم ، وسخريتهم من الفريق المؤمن الذي يقول : ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ، فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله ، والإيمان به فيدخلون بذلك النار .

وما ذكره تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أشار له في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون [ 83 \ 29 - 30 ] وكقوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الآية [ 6 \ 53 ] وكل ذلك احتقار منهم لهم ، وإنكارهم أن الله يمن عليهم بخير ، وكقوله تعالى : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة الآية [ 7 \ 49 ] ، وقوله تعالى عنهم : لو كان خيرا ما سبقونا إليه [ 46 \ 11 ] وكل ذلك احتقار منهم لهم ، وقوله : فاتخذتموهم سخريا [ 23 \ 110 ] والسخري بالضم والكسر : مصدر سخر منه ، إذا استهزأ به على سبيل الاحتقار ، قال الزمخشري في ياء النسب : زيادة في الفعل ، كما قيل في الخصوصية بمعنى الخصوص ، ومعناه : أن الياء المشددة في آخره تدل على زيادة سخرهم منهم ومبالغتهم في ذلك ، وقرأ نافع وحمزة والكسائي : سخريا بضم السين ، والباقون بكسرها ومعنى القراءتين واحد ، وهو سخرية الكفار واستهزاؤهم بضعفاء المؤمنين ، كما بينا ، وممن قال بأن معناهما واحد : الخليل وسيبويه ، وهو الحق إن شاء الله تعالى . وعن الكسائي والفراء : أن السخري بكسر السين من قبيل ما ذكرنا من الاستهزاء ، وأن السخري بضم السين من التسخير ، الذي هو التذليل والعبودية .

[ ص: 361 ] والمعنى : أن الكفار يسخرون ضعفاء المؤمنين ، ويستعبدونهم كما كان يفعله أمية بن خلف ببلال ، ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى ، وحتى في قوله : حتى أنسوكم ذكري حرف غاية ; لاتخاذهم إياهم سخريا ، أي : لم يزالوا كذلك ، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به ، فكان مأواهم النار ، والعياذ بالله .
قوله تعالى : إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون ، ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه جزى أولئك المؤمنين المستضعفين في الدنيا بالفوز بالجنة في الآخرة ، وقوله : بما صبروا ، أي : بسبب صبرهم في دار الدنيا ، على أذى الكفار الذين اتخذوهم سخريا ، وعلى غير ذلك من امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من أن أولئك المستضعفين الذين كان الكفار يستهزئون بهم ، جزاهم الله يوم القيامة الفوز بجنته ، ورضوانه ، جاء مبينا في مواضع أخر مع بيان أنهم يوم القيامة يهزؤون بالكفار ، ويضحكون منهم ، والكفار في النار ، والعياذ بالله كقوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 34 - 35 ] وقوله تعالى : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 49 ] وقوله : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقرأ حمزة والكسائي : إنهم هم الفائزون بكسر همزة إن ، وعلى قراءتهما فمفعول جزيتهم : محذوف ، أي : جزيتهم جنتي إنهم هم الفائزون ، وعلى هذه القراءة فإن لاستئناف الكلام ، وقرأ الباقون : أنهم هم الفائزون ، بفتح همزة أن ، وعلى قراءة الجمهور هذه فالمصدر المنسبك ، من أن وصلتها مفعول به لجزيتهم ، أي : جزيتهم فوزهم كما لا يخفى ، والفوز نيل المطلوب الأعظم .
قوله تعالى : قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين ، في هذه الآية سؤال معروف : وهو أنهم لما سئلوا يوم القيامة عن قدر مدة لبثهم في الأرض في الدنيا أجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم ، مع أنه قد دلت آيات أخر على أنهم أجابوا بغير هذا الجواب كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 \ 103 ] والعشر أكثر من يوم أو بعضه ، وكقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ 30 \ 55 ]

[ ص: 362 ] والساعة : أقل من يوم أو بعضه ، وقوله : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها [ 79 \ 46 ] وقوله : كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم [ 10 \ 45 ] وقوله تعالى : لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون [ 46 \ 35 ] .

وقد بينا الجواب عن هذا السؤال في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على هذه الآية بما حاصله : أن بعضهم يقول لبثنا يوما أو بعض يوم ، ويقول بعض آخر منهم : لبثنا ساعة ويقول بعض آخر منهم : لبثنا عشرا .

والدليل على هذا الجواب من القرآن أنه تعالى بين أن أقواهم إدراكا ، وأرجحهم عقلا ، وأمثلهم طريقة هو من يقول : إنهم ما لبثوا إلا يوما واحدا ، وذلك في قوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما [ 20 \ 103 - 104 ] فالآية صريحة في اختلاف أقوالهم ، وعلى ذلك فلا إشكال والعلم عند الله تعالى .

وقوله تعالى : فاسأل العادين ، أي : الحاسبين ، الذين يضبطون مدة لبثنا ، وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين ، وحذف الهمزة ، والباقون : فاسأل بغير نقل ، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : قل كم لبثتم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر ، وقرأ الباقون : قال كم لبثتم بفتح القاف بعدها ألف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي .

وقال الزمخشري ما حاصله : إنه على قراءة قال بصيغة الماضي فالفاعل ضمير يعود إلى الله ، أو إلى من أمر بسؤالهم من الملائكة ، وعلى قراءة قل بصيغة الأمر ، فالضمير راجع إلى الملك المأمور بسؤالهم أو بعض رؤساء أهل النار هكذا قال ، والله تعالى أعلم .

وقد صدقهم الله - جل وعلا - في قلة لبثهم في الدنيا بقوله : قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون [ 23 \ 114 ] .

لأن مدة مكثهم في الدنيا قليلة جدا ، بالنسبة إلى طول مدتهم خالدين في النار ، والعياذ بالله . وقرأ حمزة والكسائي : قل إن لبثتم إلا قليلا بصيغة الأمر والباقون بصيغة الماضي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:06 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (388)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 363 إلى صـ 370




[ ص: 363 ] قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ، الاستفهام في قوله : أفحسبتم للإنكار ، والحسبان هنا معناه : الظن ، يعني : أظننتم أنا خلقناكم عبثا لا لحكمة ، وأنكم لا ترجعون إلينا يوم القيامة ، فنجازيكم على أعمالكم ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر ، ثم نزه - جل وعلا - نفسه ، عن أن يكون خلقهم عبثا ، وأنهم لا يرجعون إليه للحساب والجزاء .
وقوله : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم أي تعاظم وتقدس ، وتنزه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، ومنه خلقكم عبثا سبحانه وتعالى ، عن ذلك علوا كبيرا .

وما تضمنته هذه الآية من إنكار الظن المذكور جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] وقوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ 44 \ 38 - 39 ] وقوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 36 - 39 ] وقوله : سدى ، أي : مهملا لا يحاسب ولا يجازى ، وهو محل إنكار ظن ذلك في قوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى وقوله : عبثا : يجوز إعرابه حالا ، لأنه مصدر منكر ، أي : إنما خلقناكم في حال كوننا عابثين ، ويجوز أن يعرب مفعولا من أجله ، أي : إنما خلقناكم ; لأجل العبث لا لحكمة اقتضت خلقنا إياكم ، وأعربه بعضهم مفعولا مطلقا ، وليس بظاهر . قال القرطبي عبثا : أي مهملين ، والعبث في اللغة : اللعب ، ويدل على تفسيره في الآية باللعب قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين [ 44 \ 38 ] وقوله : الملك الحق [ 23 \ 161 ] ، قال بعضهم : أي : الذي يحق له الملك ; لأن كل شيء منه وإليه ، وقال بعضهم : الملك الحق : الثابت الذي لا يزول ملكه ، كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وله الدين واصبا [ 16 \ 52 ] وإنما وصف عرشه بالكرم لعظمته وكبر شأنه والظاهر أن قوله : وأنكم إلينا لا ترجعون معطوف على قوله : أنما خلقناكم عبثا خلافا لمن قال : إنه معطوف على قوله : عبثا ; لأن الأول أظهر منه والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 364 ] قوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون .

البرهان : الدليل الذي لا يترك في الحق لبسا ، وقوله : لا برهان له به كقوله ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا الآية [ 22 \ 71 ] ، والسلطان : هو الحجة الواضحة وهو بمعنى : البرهان ، وقوله في هذه الآية الكريمة فإنما حسابه عند ربه قد بين أن حسابه الذي عند ربه ، لا فلاح له فيه بقوله بعده إنه لا يفلح الكافرون وأعظم الكافرين كفرا هو من يدعو مع الله إلها آخر ، لا برهان له به ، ونفي الفلاح عنه يدل على هلاكه وأنه من أهل النار ، وقد حذر الله من دعاء إله معه في آيات كثيرة كقوله : ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين [ 51 \ 51 ] وقوله : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] وقوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله هنا : لا برهان له به لا مفهوم مخالفة له ، فلا يصح لأحد أن يقول : أما من عبد معه إلها آخر له برهان به فلا مانع من ذلك ; لاستحالة وجود برهان على عبادة إله آخر معه ، بل البراهين القطعية المتواترة ، دالة على أنه هو المعبود وحده - جل وعلا - ولا يمكن أن يوجد دليل على عبادة غيره ألبتة .

وقد تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة ، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكرا لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم ، فتخصيصه بالذكر إذا ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق ، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع .

ومن أمثلته في القرآن هذه الآية ; لأن قوله : لا برهان له به وصف مطابق للواقع ; لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان ، فذكر الوصف لموافقته الواقع ، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق .

ومن أمثلته في القرآن أيضا قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [ 3 \ 28 ] ; لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين ، فقوله من دون المؤمنين ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم ، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ [ ص: 365 ] المؤمنين الكافرين أولياء ، ممنوع على كل حال ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله :

أو امتنان أو وفاق الواقع والجهل والتأكيد عند السامع
وقوله تعالى في خاتمة هذه السورة الكريمة : وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين فيه الدليل على أن ذلك الفريق ، الذين كانوا يقولون : ( ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين ) . موفقون في دعائهم ذلك ولذا أثنى الله عليهم به ، وأمر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - لتقتدي به أمته في ذلك ، ومعمول اغفر وارحم حذف هنا ، لدلالة ما تقدم عليه في قوله : فاغفر لنا وارحمنا [ 7 \ 155 ] والمغفرة : ستر الذنوب بعفو الله وحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها ، والرحمة صفة الله التي اشتق لنفسه منها اسمه الرحمن ، واسمه الرحيم ، وهي صفة تظهر آثارها في خلقه الذين يرحمهم ، وصيغة التفضيل في قوله : وأنت خير الراحمين ; لأن المخلوقين قد يرحم بعضهم بعضا ، ولا شك أن رحمة الله تخالف رحمة خلقه ، كمخالفة ذاته وسائر صفاته لذواتهم ، وصفاتهم كما أوضحناه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 366 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ النُّورِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ زَانِيَةٍ وَكُلَّ زَانٍ يَجِبُ جَلْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ; لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ، إِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمَا مَوْصُولٌ وَصِلَتُهُمَا الْوَصْفُ الَّذِي هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ، فَالْمَوْصُولَا تُ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ .

وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمَا لِلتَّعْرِيفِ لِتَنَاسِي الْوَصْفِيَّةِ ، وَأَنَّ مُرْتَكِبَ تِلْكَ الْفَاحِشَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الزَّانِي ، كَإِطْلَاقِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ ، فَالْعُمُومُ الشَّامِلُ لِكُلِّ زَانِيَةٍ وَكُلِّ زَانٍ ، هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ ، عَلَى جَمِيعِ الِاحْتِمَالَات ِ .

وَظَاهِرُ هَذَا الْعُمُومِ شُمُولُهُ لِلْعَبْدِ ، وَالْحُرِّ ، وَالْأَمَةِ ، وَالْحُرَّةِ ، وَالْبِكْرِ ، وَالْمُحْصَنِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .

وَظَاهِرُهُ أَيْضًا : أَنَّهُ لَا تُغَرَّبُ الزَّانِيَةُ ، وَلَا الزَّانِي عَامًا مَعَ الْجَلْدِ ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ دَلَّ عَلَى أَنَّ عُمُومَ الزَّانِيَةِ يُخَصَّصُ مَرَّتَيْنِ .

إِحْدَاهُمَا : تَخْصِيصُ حُكْمِ جَلْدِهَا مِائَةً بِكَوْنِهَا حُرَّةً ، أَمَّا إِنْ كَانَتْ أَمَةً ، فَإِنَّهَا تُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ وَهُوَ خَمْسُونَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ : فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ 4 \ 25 ] ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَات ِ هُنَا : الْحَرَائِرُ وَالْعَذَابُ الْجَلْدُ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُرَّةِ الزَّانِيَةِ : مِائَةُ جَلْدَةٍ وَالْأَمَةُ عَلَيْهَا نِصْفُهُ بِنَصِّ آيَةِ " النِّسَاءِ " هَذِهِ ، وَهُوَ خَمْسُونَ ; فَآيَةُ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ 4 \ 25 ] ، مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّانِيَةِ الْأُنْثَى .

وَأَمَّا التَّخْصِيصُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ لِعُمُومِ الزَّانِيَةِ فِي آيَةِ " النُّورِ " هَذِهِ فَهُوَ بِآيَةٍ مَنْسُوخَةِ التِّلَاوَةِ ، بَاقِيَةِ الْحُكْمِ ، تَقْتَضِي أَنَّ عُمُومَ الزَّانِيَةِ هُنَا مُخَصَّصٌ بِكَوْنِهَا بِكْرًا .

[ ص: 367 ] أَمَّا إِنْ كَانَتْ مُحْصَنَةً ، بِمَعْنَى أَنَّهَا قَدْ تَزَوَّجَتْ مِنْ قَبْلِ الزِّنَى ، وَجَامَعَهَا زَوْجُهَا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَإِنَّهَا تُرْجَمُ .

وَالْآيَةُ الَّتِي خَصَصَتْهَا بِهَذَا الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ ، هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

وَهَذَا التَّخْصِيصُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : لَا يُجْمَعُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ ، بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ، وَإِنَّمَا يُرْجَمُ فَقَطْ بِدُونِ جَلْدٍ .

أَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَخْصِيصَ ، وَإِنَّمَا فِي آيَةِ الرَّجْمِ زِيَادَتُهُ عَلَى الْجَلْدِ ، فَكِلْتَا الْآيَتَيْنِ أَثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الْأُخْرَى ، وَسَيَأْتِي إِيضَاحُ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَيْرَ بَعِيدٍ وَأَقْوَالُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهِ وَمُنَاقَشَةُ أَدِلَّتِهِمْ .

أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ فَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا ، أَنَّهَا مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ بَاقِيَةُ الْحُكْمِ عَلَى تَخْصِيصِ عُمُومِهِ ، وَأَنَّ الَّذِي يُجْلَدُ الْمِائَةَ مِنَ الذُّكُورِ ، إِنَّمَا هُوَ الزَّانِي الْبِكْرُ ، وَأَمَّا الْمُحْصَنُ فَإِنَّهُ يُرْجَمُ ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ فِي الذَّكَرِ أَيْضًا إِنَّمَا هُوَ عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا فِي الْأُنْثَى .

وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا فَلَا تَخْصِيصَ ، بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْآيَتَيْنِ أَثْبَتَتْ حُكْمًا لَمْ تُثْبِتْهُ الْأُخْرَى .

وَعُمُومُ الزَّانِي فِي آيَةِ " النُّورِ " هَذِهِ ، مُخَصَّصٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى ، بِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ خَاصًّا بِالزَّانِي الْحُرِّ ، أَمَّا الزَّانِي الذَّكَرُ الْعَبْدُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ نِصْفَ الْمِائَةِ ، وَهُوَ الْخَمْسُونَ .

وَوَجْهُ هَذَا التَّخْصِيصِ : إِلْحَاقُ الْعَبْدِ بِالْأَمَةِ فِي تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى بِالرِّقِّ ; لِأَنَّ مَنَاطَ التَّشْطِيرِ الرِّقُّ بِلَا شَكٍّ ; لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحُدُودِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا حُكْمٌ ، فَدَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةِ " النِّسَاءِ " فِي الْإِمَاءِ : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [ 4 \ 25 ] ، أَنَّ الرِّقَّ مَنَاطُ تَشْطِيرِ حَدِّ الزِّنَى ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فِي الْحُدُودِ ، فَالْمُخَصِّصُ لِعُمُومِ الزَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ ، هُوَ مَا أَفَادَتْهُ آيَةُ : فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ، وَإِنْ سَمَّاهُ الْأُصُولِيُّون َ تَخْصِيصًا بِالْقِيَاسِ ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ تَخْصِيصُ آيَةٍ بِمَا فُهِمَ مِنْ آيَةٍ أُخْرَى .
[ ص: 368 ] مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ رَجْمَ الزَّانِيَيْنِ الْمُحْصَنَيْنِ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، إِحْدَاهُمَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا ، وَبَقِيَ حُكْمُهَا ، وَالثَّانِيَةُ : بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ ، أَمَّا الَّتِي نُسِخَتْ تِلَاوَتُهَا ، وَبَقِيَ حُكْمُهَا فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ ) إِلَى آخِرِهَا ; كَمَا سَيَأْتِي ، وَكَوْنُ الرَّجْمِ ثَابِتًا بِالْقُرْآنِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ .

قَالَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ : فِي بَابِ رَجْمِ الْحُبْلَى مِنَ الزِّنَى إِذَا أَحْصَنَتْ :

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ ، عَنْ صَالِحٍ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْتُ أُقْرِئُ رِجَالًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْهُمْ : عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي مَنْزِلِهِ بِمِنًى ، وَهُوَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا ، إِذْ رَجَعَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَقَالَ : لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ : لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ ، فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ : إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ ، الْحَدِيثَ بِطُولِهِ .

وَفِيهِ : إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، فَكَانَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ ، فَقَرَأْنَاهَا ، وَعَقَلْنَاهَا ، وَوَعَيْنَاهَا ، رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : وَاللَّهِ مَا نَجِدُ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، وَالرَّجْمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى ، إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ أَوْ كَانَ الْحَبَلُ أَوْ الِاعْتِرَافُ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ .

وَفِيهِ : أَنَّ الرَّجْمَ نَزَلَ فِي الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَكَوْنُهَا لَمْ تُقْرَأْ فِي الصُّحُفِ ، يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ تِلَاوَتِهَا ، مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهَا ; كَمَا هُوَ ثَابِتٌ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ .

وَفِي رِوَايَةٍ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ : لَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، أَلَا وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى ، وَقَدْ أَحْصَنَ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ كَانَ الْحَمْلُ ، أَوْ الِاعْتِرَافُ .

قَالَ سُفْيَانُ : كَذَا حَفِظْتُ : أَلَا وَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ .

[ ص: 369 ] وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي " ، فِي شَرْحِهِ لِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْإِسْمَاعِيلِ يُّ مِنْ رِوَايَةِ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ شَيْخِ الْبُخَارِيِّ فِيهِ ، فَقَالَ بَعْدَ قَوْلِهِ : أَوْ الِاعْتِرَافُ ، وَقَدْ قَرَأْنَاهَا : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ) ، وَقَدْ رَجَمَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَسَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ : وَقَدْ قَرَأْنَاهَا إِلَى قَوْلِهِ : الْبَتَّةَ ، وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ هُوَ الَّذِي حَذَفَ ذَلِكَ عَمْدًا ، فَقَدْ أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ ، عَنْ سُفْيَانَ كَرِوَايَةِ جَعْفَرٍ ، ثُمَّ قَالَ : لَا أَعْلَمُ أَحَدًا ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ . . . ) غَيْرَ سُفْيَانَ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَهِمَ فِي ذَلِكَ .

قُلْتُ : وَقَدْ أَخْرَجَ الْأَئِمَّةُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ مَالِكٍ ، وَيُونُسَ ، وَمَعْمَرٍ ، وَصَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، وَعَقِيلٍ ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْحُفَّاظِ عَنِ الزُّهْرِيِّ .

وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُوَطَّأِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، قَالَ : لَمَّا صَدَرَ عُمَرُ مِنَ الْحَجِّ ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ سُنَّتْ لَكُمُ السُّنَنُ ، وَفُرِضَتْ لَكُمُ الْفَرَائِضُ ، وَتُرِكْتُمْ عَلَى الْوَاضِحَةِ ، ثُمَّ قَالَ : إِيَّاكُمْ أَنْ تَهْلِكُوا عَنْ آيَةِ الرَّجْمِ ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : لَا نَجِدُ حَدَّيْنِ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَقَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا بِيَدِي : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ ) ، قَالَ مَالِكٌ : الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ : الثَّيِّبُ وَالثَّيِّبَةُ .

وَوَقَعَ فِي الْحِلْيَةِ فِي تَرْجَمَةِ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، عَنْ عُمَرَ : لَكَتَبْتُهَا فِي آخِرِ الْقُرْآنِ .

وَوَقَعَتْ أَيْضًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ أَبِي مَعْشَرٍ الْآتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا ، فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِيهِ فَقَالَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ : قَدْ رَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، وَلَوْلَا أَنْ يَقُولُوا : كَتَبَ عُمَرُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، لَكَتَبْتُهُ قَدْ قَرَأْنَا : ( الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) .

وَأَخْرَجَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ النَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ ، مِنْ حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : وَلَقَدْ كَانَ فِيهَا ، أَيْ سُورَةِ " الْأَحْزَابِ " ، آيَةُ الرَّجْمِ : ( الشَّيْخُ ) ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ .

[ ص: 370 ] وَمِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ " مِثْلَهُ ، إِلَى قَوْلِهِ : " الْبَتَّةَ " .

وَمِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ سَهْلٍ أَنَّ خَالَتَهُ أَخْبَرَتْهُ ، قَالَتْ : لَقَدْ أَقْرَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آيَةَ الرَّجْمِ ، فَذَكَرَهُ إِلَى قَوْلِهِ : " الْبَتَّةَ " ، وَزَادَ " بِمَا قَضَيَا مِنَ اللَّذَّةِ " .

وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ أَيْضًا أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِزَيْدٍ : أَلَا تَكْتُبْهَا فِي الْمُصْحَفِ ؟ قَالَ : لَا أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّابَّيْنِ الثَّيِّبَيْنِ يُرْجَمَانِ وَلَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَنَا أَكْفِيكُمْ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) أَكْتِبْنِي آيَةَ الرَّجْمِ ، فَقَالَ : " لَا أَسْتَطِيعُ " .

وَرُوِّينَا فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ لِابْنِ الضُّرَيْسِ مِنْ طَرِيقِ يَعْلَى وَهُوَ ابْنُ حَكِيمٍ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ النَّاسَ ، فَقَالَ : لَا تَشُكُّوا فِي الرَّجْمِ فَإِنَّهُ حَقٌّ ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَكْتُبَهُ فِي الْمُصْحَفِ ، فَسَأَلْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ أَتَيْتَنِي ، وَأَنَا أَسْتَقْرِئُهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَدَفَعْتَ فِي صَدْرِي ، وَقُلْتَ : اسْتَقْرِئْهُ آيَةَ الرَّجْمِ ، وَهُمْ يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الْحُمُرِ ، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَيَانِ السَّبَبِ فِي رَفْعِ تِلَاوَتِهَا ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ .

وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ الصَّلْتِ ، قَالَ : كَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ يَكْتُبَانِ فِي الْمُصْحَفِ ، فَمَرَّا عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ زَيْدٌ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : " الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ " ، فَقَالَ عُمَرُ : لَمَّا نَزَلَتْ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقُلْتُ : أَكْتُبُهَا ؟ فَكَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْخَ إِذَا زَنَى ، وَلَمْ يُحْصِنْ جُلِدَ ، وَأَنَّ الشَّابَّ إِذَا زَنَى وَقَدْ أَحْصَنَ رُجِمَ .

فَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ السَّبَبُ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا لِكَوْنِ الْعَمَلِ عَلَى غَيْرِ الظَّاهِرِ مِنْ عُمُومِهَا ، انْتَهَى بِطُولِهِ مِنْ فَتْحِ الْبَارِي .

وَفِيهِ الدَّلَالَةُ الظَّاهِرَةُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ آيَةَ الرَّجْمِ مَنْسُوخَةُ التِّلَاوَةِ ، بَاقِيَةُ الْحُكْمِ ، وَأَنَّهَا مُخَصِّصَةٌ لِآيَةِ الْجَلْدِ ، عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَ الرَّجْمِ وَالْجَلَدِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:09 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (389)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 371 إلى صـ 378



وَلَكِنْ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ مِنَ اسْتِفَادَةِ سَبَبِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا مِنْ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ ; لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ يُبَيِّنُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَخْصِيصَ عُمُومِهِ ، وَيُوَضِّحُ الْمَقْصُودَ بِهِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ ، وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَى نَسْخِ تِلَاوَتِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ ، وَالْآيَةُ الْقُرْآنِيَّةُ عِنْدَ نُزُولِهَا تَكُونُ لَهَا أَحْكَامٌ مُتَعَدِّدَةٌ ، كَالتَّعَبُّدِ بِتِلَاوَتِهَا ، [ ص: 371 ] وَكَالْعَمَلِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَالْقِرَاءَةِ بِهَا فِي الصَّلَاةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَنْسَخَهَا بِحِكْمَتِهِ فَتَارَةً يَنْسَخُ جَمِيعَ أَحْكَامِهَا مِنْ تِلَاوَةٍ ، وَتَعَبُّدٍ ، وَعَمَلٍ بِمَا فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ كَآيَةِ عَشْرِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، وَتَارَةً يَنْسَخُ بَعْضَ أَحْكَامِهَا دُونَ بَعْضٍ ، كَنَسْخِ حُكْمِ تِلَاوَتِهَا وَالتَّعَبُّدِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَكَنَسْخِ حُكْمِهَا دُونَ تِلَاوَتِهَا ، وَالتَّعَبُّدِ بِهَا كَمَا هُوَ غَالِبُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ النَّسْخِ .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا جَمِيعَ ذَلِكَ بِأَمْثِلَتِهِ فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ الْآيَةَ [ 16 \ 101 ] ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي جَمِيعِ مَا يَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ .

فَآيَةُ الرَّجْمِ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إِثْبَاتُ حُكْمِهَا ، لَا التَّعَبُّدُ بِهَا ، وَلَا تِلَاوَتُهَا ، فَأُنْزِلَتْ وَقَرَأَهَا النَّاسُ ، وَفَهِمُوا مِنْهَا حُكْمَ الرَّجْمِ ، فَلَمَّا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ نَسَخَ اللَّهُ تِلَاوَتَهَا ، وَالتَّعَبُّدَ بِهَا ، وَأَبْقَى حُكْمَهَا الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ .

فَالرَّجْمُ ثَابِتٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَا سَيَأْتِي عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، لَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ السُّنَّةَ هِيَ الَّتِي بَيَّنَتْ أَنَّ حُكْمَ آيَةِ الرَّجْمِ بَاقٍ بَعْدِ نَسْخِ تِلَاوَتِهَا فَصَارَ حُكْمُهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صَحِيحِهِ : حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى قَالَا : حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ : أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ : قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخُطَّابِ ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحَقِّ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ ، فَكَانَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةُ الرَّجْمِ قَرَأْنَاهَا وَوَعَيْنَاهَا وَعَقَلْنَاهَا ، فَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ ، فَأَخْشَى إِنْ طَالَ بِالنَّاسِ زَمَانٌ ، أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ : مَا نَجِدُ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، فَيَضِلُّوا بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ ، وَإِنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى إِذَا أَحْصَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ ، أَوْ كَانَ الْحَبَلُ ، أَوْ الِاعْتِرَافُ ، اهـ مِنْهُ .

فَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ ، عَنْ هَذَا الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، دَلِيلٌ صَرِيحٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ بِآيَةٍ مِنْ كِتَابِ [ ص: 372 ] اللَّهِ ، أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَرَأَهَا الصَّحَابَةُ ، وَوَعَوْهَا ، وَعَقَلُوهَا وَأَنَّ حُكْمَهَا بَاقٍ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَلَهُ وَالصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَعَلُوهُ بَعْدَهُ .

فَتَحَقَّقْنَا بِذَلِكَ بَقَاءَ حُكْمِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا شَكَّ فِي نَسْخِ تِلَاوَتِهَا مَعَ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا فِيهَا لَفْظُ آيَةِ الرَّجْمِ الْمَذْكُورَةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي هِيَ بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [ 3 \ 23 ] ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْ نِ الزَّانِيَيْنِ بَعْدَ الْإِحْصَانِ ، وَقَدْ رَجَمَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقِصَّةُ رَجْمِهِ لَهُمَا مَشْهُورَةٌ ، ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ : ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ، أَيْ : عَمَّا فِي التَّوْرَاةِ مِنْ حُكْمِ الرَّجْمِ ، وَذَمُّ الْمُعْرِضِ عَنِ الرَّجْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الرَّجْمَ ثَابِتٌ فِي شَرْعِنَا ، وَهِيَ بَاقِيَةُ التِّلَاوَةِ .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : أجمع العلماء على أن الرجم لا يكون إلا على من زنى ، وهو محصن .

ومعنى الإحصان : أن يكون قد جامع في عمره ، ولو مرة واحدة في نكاح صحيح ، وهو بالغ عاقل حر ، والرجل والمرأة في هذا سواء ، وكذلك المسلم ، والكافر ، والرشيد ، والمحجور عليه لسفه ، والدليل على أن الكافر إذا كان محصنا يرجم الحديث الصحيح الذي ثبت فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم يهوديين زنيا بعد الإحصان ، وقصة رجمهما مشهورة مع صحتها ; كما هو معلوم .
الفرع الثاني : أجمع أهل العلم على أن من زنى ، وهو محصن يرجم ، ولم نعلم بأحد من أهل القبلة خالف في رجم الزاني المحصن ، ذكرا كان أو أنثى إلا ما حكاه القاضي عياض وغيره عن الخوارج ، وبعض المعتزلة كالنظام وأصحابه ، فإنهم لم يقولوا بالرجم ، وبطلان مذهب من ذكر من الخوارج ، وبعض المعتزلة واضح من النصوص الصحيحة الصريحة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بعده كما قدمنا من حديث عمر المتفق عليه ، وكما سيأتي إن شاء الله .
الفرع الثالث : أجمع العلماء على أن الزاني ذكرا كان أو أنثى ، إذا قامت عليه البينة [ ص: 373 ] أنهم رأوه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة ، أنه يجب رجمه إذا كان محصنا ، وأجمع العلماء أن بينة الزنى ، لا يقبل فيها أقل من أربعة عدول ذكور ، فإن شهد ثلاثة عدول ، لم تقبل شهادتهم وحدوا ; لأنهم قذفة كاذبون ; لأن الله تعالى يقول : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ، ويقول - جل وعلا - : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم الآية [ 4 \ 15 ] ، وكلتا الآيتين المذكورتين صريحة في أن الشهود في الزنى ، لا يجوز أن يكونوا أقل من أربعة ، وقد قال - جل وعلا - : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون [ 24 \ 13 ] ، وقد بينت هذه الآية اشتراط الأربعة كما في الآيتين المذكورتين قبلها ، وزادت أن القاذفين إذ لم يأتوا بالشهداء الأربعة هم الكاذبون عند الله .

ومن كذب في دعواه الزنى على محصن أو محصنة وجب عليه حد القذف ; كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .

وما ذكره أبو الخطاب من الحنابلة عن أحمد والشافعي من أن شهود الزنى ، إذا لم يكملوا لا حد قذف عليهم ; لأنهم شهود لا قذفة ، لا يعول عليه ، والصواب إن شاء الله هو ما ذكرنا .

ومما يؤيده قصة عمر مع الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة فإن رابعهم لما لم يصرح بالشهادة على المغيرة بالزنى ، جلد عمر الشهود الثلاثة جلد القذف ثمانين ، وفيهم أبو بكرة - رضي الله عنه - ، والقصة معروفة مشهورة ، وقد أوضحناها في غير هذا الموضع .

وجمهور أهل العلم أن العبيد لا تقبل شهادتهم في الزنى ، ولا نعلم خلافا عن أحد من أهل العلم ، في عدم قبول شهادة العبيد في الزنى ، إلا رواية عن أحمد ليست هي مذهبه وإلا قول أبي ثور .

ويشترط في شهود الزنى أن يكونوا ذكورا ولا تصح فيه شهادة النساء بحال ، ولا نعلم أحدا من أهل العلم خالف في ذلك ، إلا شيئا يروى عن عطاء ، وحماد أنه يقبل فيه ثلاثة رجال وامرأتان .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وهو شذوذ لا يعول عليه ; لأن لفظ الأربعة اسم لعدد [ ص: 374 ] المذكورين ، ويقتضي أن يكتفى فيه بأربعة ، ولا خلاف أن الأربعة إذا كان بعضهم نساء لا يكتفى بهم ، وأن أقل ما يجزئ خمسة ، وهذا خلاف النص ; ولأن في شهادتهن شبهة لتطرق الضلال إليهن ، قال الله تعالى : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] ، والحدود تدرأ بالشبهات ، انتهى منه .

ولا خلاف بين أهل العلم أن شهادة الكفار كالذميين لا تقبل على المسلم بالزنى .

واختلف هل تقبل على كافر مثله ؟ فقيل : لا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما رجم اليهوديين باعترافهما بالزنى ، لا بشهادة شهود من اليهود عليهم بالزنى ، والذين قالوا هذا القول زعموا أن شهادة الشهود في حديث جابر أنها شهادة شهود مسلمين ، يشهدون على اعتراف اليهوديين المذكورين بالزنى ، وممن قال هذا القول : ابن العربي المالكي .

وقال بعض أهل العلم : تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض إن تحاكموا إلينا .

وقال القرطبي : الجمهور على أن الكافر لا تقبل شهادته على مسلم ، ولا على كافر لا في حد ولا في غيره ، ولا فرق بين السفر والحضر في ذلك ، وقبل شهادتهم جماعة من التابعين ، وبعض الفقهاء إذا لم يوجد مسلم ، واستثنى أحمد حالة السفر إذا لم يوجد مسلم .

وأجاب القرطبي عن الجمهور عن واقعة اليهوديين بأنه - صلى الله عليه وسلم - نفذ عليهم ما علم أنه حكم التوراة ، وألزمهم العمل به ظاهرا لتحريفهم كتابهم ، وتغييرهم حكمه أو كان ذلك خاصا بهذه الواقعة .

وقال ابن حجر بعد نقله كلام القرطبي المذكور ، كذا قال : والثاني مردود ، ثم قال : وقال النووي : الظاهر أنه رجمهما بالاعتراف ، فإن ثبت حديث جابر فلعل الشهود كانوا مسلمين وإلا فلا عبرة بشهادتهم ، ويتعين أنهما أقرا بالزنى .

ثم قال ابن حجر : قلت : لم يثبت أنهما كانوا مسلمين ، ويحتمل أن يكون الشهود أخبروا بذلك بقية اليهود ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلامهم ، ولم يحكم فيهما إلا مستندا لما أطلعه الله تعالى عليه ، فحكم بالوحي ، وألزمهم الحجة بينهم ; كما قال تعالى : وشهد شاهد من أهلها [ 12 \ 26 ] ، وأن شهودهم شهدوا عليهما عند إخبارهم بما ذكر ، فلما رفعوا الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - استعلم القصة على وجهها فذكر كل من حضره من الرواة ما حفظه في [ ص: 375 ] ذلك ، ولم يكن مستند حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ما أطلعه الله عليه ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر في " فتح الباري " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي رجحانه بالدليل ، هو مذهب الجمهور من عدم قبول شهادة الكفار مطلقا ; لأن الله يقول في المسلمين الفاسقين : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، وإذا نص الله - جل وعلا - في محكم كتابه على عدم قبول شهادة الفاسق ، فالكافر أولى بذلك ، كما لا يخفى ، وقد قال - جل وعلا - في شهود الزنا ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم [ 4 \ 15 ] ، فخص الأربعة بكونهم منا ، ويمكن أن يجيب المانع بأن أول الآية فيه من نسائكم ، فلا نتناول نساء أهل الذمة ونحوهم من الكفار ، وأنه لا تقبل شهادة كافر في شيء إلا بدليل خاص كالوصية في السفر ، إذا لم يوجد مسلم ; لأن الله نص على ذلك بقوله : أو آخران من غيركم الآية [ 5 \ 106 ] .

والتحقيق أن حكمها غير منسوخ ; لأن القرآن لا يثبت نسخ حكمه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، والآيات التي زعم من ادعى النسخ أنها ناسخة لها ; كقوله : ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] ، وقوله : ممن ترضون من الشهداء [ 4 \ 282 ] ، وقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا [ 24 \ 4 ] .

والجمهور على أن الأعم لا ينسخ الأخص ، خلافا لأبي حنيفة .

أما حديث جابر المشار إليه الذي يفهم منه قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض في حد الزنى ، فقد قال فيه أبو داود - رحمه الله - في سننه : حدثنا يحيى بن موسى البلخي ، ثنا أبو أسامة ، قال مجالد : أخبرنا عن عامر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : " ائتوني بأعلم رجلين منكم " ، الحديث ، وفيه : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشهود ، فجاءوا بأربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجمهما ، انتهى محل الغرض منه .

وظاهر المتبادر منه : أن الشهود الذين شهدوا من اليهود كما لا يخفى ، فظاهر الحديث دال دلالة واضحة على قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض ، في حد الزنى ، إن كان صحيحا ، والسند المذكور الذي أخرجه به أبو داود لا يصح ; لأن فيه مجالدا وهو [ ص: 376 ] مجالد بن سعيد بن عمير بن بسطام بن ذي مران بن شرحبيل الهمداني أبو عمرو ، ويقال أبو سعيد الكوفي ، وأكثر أهل العلم على ضعفه ، وعدم الاحتجاج به ، والإمام مسلم بن الحجاج ، إنما أخرج حديثه مقرونا بغيره ، فلا عبرة بقول يعقوب بن سفيان ، إنه صدوق ، ولا بتوثيق النسائي له مرة ; لأنه ضعفه مرة أخرى ، ولا بقول ابن عدي : أن له عن الشعبي ، عن جابر أحاديث صالحة ; لأن أكثر أهل العلم بالرجال على تضعيفه ، وعدم الاحتجاج به ، أما غير مجالد من رجال سند أبي داود فهم ثقات معروفون ; لأن يحيى بن موسى البلخي ثقة ، وأبو أسامة المذكور فيه هو حماد بن أسامة القرشي مولاهم ، وهو ثقة ثبت ، ربما دلس وكان بآخرة يحدث من كتب غيره ، وعامر الذي روى عن مجالد هو الإمام الشعبي ، وجلالته معروفة .

والحاصل : أن مثل هذا السند الذي فيه مجالد المذكور ، لا يجب الرجوع إليه عن عموم النصوص الصحيحة المقتضية ، أن الكفار لا تقبل شهادتهم مطلقا ، والله تعالى أعلم .
الفرع الرابع : اعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في اشتراط اتحاد المجلس لشهادة شهود الزنا ، وعلى اشتراط ذلك لو شهدوا في مجلسين أو مجالس متفرقة ، بطلت شهادتهم ، وحدوا حد القذف ، وعلى عدم اشتراط اتحاد المجلس تصح شهادتهم ولو جاءوا متفرقين ، وأدوا شهادتهم في مجالس متعددة ، وممن قال باشتراط اتحاد المجلس : مالك وأصحابه ، وأبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد وأصحابه ، وممن قال بعدم اشتراط اتحاد المجلس : الشافعي ، وعثمان البتي ، وابن المنذر .

قال في المغني : وإنما قالوا بعدم اشتراط ذلك لقوله تعالى : لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء [ 24 \ 13 ] ، ولم يذكر المجلس . وقال تعالى : فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت [ 4 \ 15 ] ، ولأن كل شهادة مقبولة ، إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات ، ولنا أن أبا بكرة ، ونافعا ، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر - رضي الله عنه - على المغيرة بن شعبة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة ، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم ; لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر ; ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم ، ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته ، ولولا اشتراط اتحاد المجلس لكملت شهادتهم ، وبهذا فارق سائر الشهادات .

[ ص: 377 ] وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط ، ولهذا لم تذكر العدالة ، وصفة الزنى ; ولأن قوله : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم [ 24 \ 4 ] ، لا يخلو من أن يكون مطلقا في الزمان كله أو مقيدا ، ولا يجوز أن يكون مطلقا ; لأنه يمنع من جواز جلدهم ، لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء ، أو بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به ، فيكون تناقضا ، وإذا ثبت أنه مقيد فأولى ما قيد به المجلس ; لأن المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة ، ولهذا ثبت فيه خيار المجلس ، واكتفي فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا ، فإنه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم ولو جاءوا متفرقين واحدا بعد واحد في مجلس واحد ، قبلت شهادتهم .

وقال مالك وأبو حنيفة : إن جاءوا متفرقين فهم قذفة ; لأنهم لم يجتمعوا في مجيئهم ، فلم تقبل شهادتهم ، كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد ولنا قصة المغيرة ، فإن الشهود جاءوا واحدا بعد واحد وسمعت شهادتهم ، وإنما حدوا لعدم كمالها .

وفي حديثه أن أبا بكرة ، قال : أرأيت إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه ؟ قال عمر : إي والذي نفسي بيده ، ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءوا وكانوا مجتمعين ، ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرناه ، وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد ; لأن من شهد بالزنى ، ولم يكمل الشهادة يلزمه الحد ; لقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ، انتهى من " المغني " لابن قدامة .

وقد عرفت أقوال أهل العلم في اشتراط اتحاد المجلس لشهادة شهود الزنى ، وما احتج به كل واحد من الفريقين .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا هو قبول شهادتهم ، ولو جاءوا متفرقين في مجالس متعددة ; لأن الله - جل وعلا - صرح في كتابه بقبول شهادة الأربعة في الزنى ، فإبطالها مع كونهم أربعة بدعوى عدم اتحاد المجلس إبطال لشهادة العدول بغير دليل مقنع يجب الرجوع إليه ، وما وجه من اشتراط اتحاد المجلس قوله به لا يتجه كل الاتجاه ، فإن قال : الشهود معنا من يشهد مثل شهادتنا ، انتظره الإمام ، وقبل شهادته فإن لم يدعو زيادة شهود ولا علم الحاكم بشاهد أقام عليهم الحد ، لعدم كمال [ ص: 378 ] شهادتهم ، هذا هو الظاهر لنا من عموم الأدلة ، وإن كان مخالفا لمذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .

اعلم أن مالكا وأصحابه يشترط عندهم زيادة على أداء شهود الزنى شهادتهم في وقت واحد ، أن يكونوا شاهدين على فعل واحد ، فلو اجتمعوا ونظر واحد بعد واحد ، لم تصح شهادتهم على الأصح من مذهب مالك ; لاحتمال تعدد الوطء وأن يكون الزاني نزع فرجه من فرجها بعد رؤية الأول ، ورأى الثاني إيلاجا آخر غير الإيلاج الذي رآه من قبله ; لأن الأفعال لا يضم بعضها إلى بعض في الشهادة عندهم ، ومتى لم تقبل شهادتهم حدوا حد القذف ، ومشهور مذهب مالك أيضا : وجوب تفرقتهم ، أعني شهود الزنى خاصة ، دون غيرهم من سائر الشهود .

ومعناه عندهم : أنه لا بد من إتيانهم مجتمعين ، فإذا جاءوا مجتمعين فرق بينهم عند أداء الشهادة فيسأل كل واحد منهم دون حضرة الآخرين ، ويشهد كل واحد منهم ، أنه رآه أدخل فرجه في فرجها ، أو أولجه فيه ، ولا بد عندهم من زيادة كالمرود في المكحلة ونحوه ، ويجوز للشهود النظر إلى عورة الزانيين ، ليمكنهم أن يؤدوا الشهادة على وجهها ، ولا إثم عليهم في ذلك ، ولا يقدح في شهادتهم ; لأنه وسيلة إقامة حد من حدود الله ، ومحل هذا إن كانوا أربعة ، فإن كانوا أقل من أربعة لم يجز لهم النظر إلى عورة الزاني إذ لا فائدة في شهادتهم ; ولأنهم يجلدون حد القذف .

وقال بعض المالكية : لا يجوز لهم النظر إلى عورات الزناة ، ولو كانوا أربعة ، لما نبه عليه الشرع من استحسان الستر ، ويندب للحاكم عند المالكية سؤال الشهود في الزنى عما ليس شرطا في صحة الشهادة ، كأن يقول لكل واحد من الشهود بانفراده دون حضرة الآخرين : على أي حال رأيتهما وقت زناهما ، وهل كانت المرأة على جنبها الأيمن ، أو الأيسر ، أو على بطنها ، أو على قفاها ، وفي أي جوانب البيت ونحو ذلك ، فإن اختلفوا بأن قال أحدهم : كانت على قفاها ، وقال الآخر : كانت على جنبها الأيمن ونحو ذلك بطلت شهادتهم ; لدلالة اختلافهم على كذبهم ، وكذلك إن اختلفوا في جانب البيت الذي وقع فيه الزنى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:12 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (390)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 379 إلى صـ 386




ولا شك أن مثل هذا السؤال أحوط في الدفع عن أعراض المسلمين ; لأنهم إن كانوا [ ص: 379 ] صادقين لم يختلفوا ، وإن كانوا كاذبين علم كذبهم باختلافهم ، وقد قدمنا ما يستأنس به لتفرقة شهود الزنى ، وسؤالهم متفرقين في قصة سليمان وداود في المرأة التي شهد عليها أربعة ، أنها زنت بكلبها فرجمها داود فجاء سليمان بالصبيان ، وجعل منهم شهودا ، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به ، فأخبر كل واحد منهم بلون غير اللون الذي أخبر به الآخر ، فأرسل داود للشهود ، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به ، فاختلفوا في لونه ; كما تقدم إيضاحه .

واعلم أن كل ما يثبت به الرجم يثبت به الجلد فطريق ثبوتهما متحدة لا فرق بينهما ، كما لا يخفى .
الفرع الخامس : اعلم أنه إذا شهد اثنان أنه زنى بها في هذا البيت ، واثنان أنه زنى بها في بيت آخر ، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما ، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى ، فقد اختلف أهل العلم هل تقبل شهادتهم ، نظرا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى ، أو لا تقبل ; لأنه لم يشهد أربعة على زنى واحد ، فكل زنى شهد عليه اثنان ، ولا يثبت زنى باثنين .

قال ابن قدامة في " المغني " : الجميع قذفة وعليهم الحد ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم ، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي ، لأنهم كملوا أربعة ، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد ، فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما ، فأما المشهود عليه ، فلا حد عليه في قولهم جميعا ، وقال أبو بكر : عليه الحد ، وحكاه قولا لأحمد ، وهذا بعيد ، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة ، فلم يجب الحد ; ولأن جميع ما تعتبر له البينة يعتبر فيه كمالها في حق واحد ، فالموجب للحد أولى ; لأنه مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات ; وقد قال أبو بكر : إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء ، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة ، ذكره القاضي عنه وهذا ينقض قوله ، انتهى منه ، ثم قال : وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت ، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى ، وكانت الزاويتان متباعدتين ، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم ، وحد المشهود عليه ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا حد عليه ; لأن شهادتهم لم تكمل ، ولأنهم اختلفوا في المكان ، فأشبه ما لو اختلفوا في البيتين ، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم ، سواء تقاربت الزاويتان ، أو تباعدتا ، ولنا أنهما [ ص: 380 ] إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود ، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا ، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين ، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلا واحدا .

فإن قيل : فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين ، فلم أوجبتم الحد مع الاحتمال ، والحد يدرأ بالشبهات ؟

قلنا : ليس هذا بشبهة ، بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد ، فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب ، والقول في الزمان كالقول في هذا ، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه ، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم ، ومتى تقاربا كملت شهادتهم ، انتهى من " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع ، والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متحد ووقت متحد ; فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدوا ; لأنهما فعلان ، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول ، فلم يثبت واحد منهما . والقول بتلفيق شهادتهم ، وضم شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر ، وقد علمت أن مالكا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متحد ، فلو نظروا واحدا بعد واحد مع اتحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة ، وله وجه .
الفرع السادس : إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض ، وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر ، أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان ، وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز .

فقد اختلف أهل العلم هل تكمل شهادتهم أو لا ؟ فقال بعضهم : لا تكمل شهادتهم ; لأن كل اثنين منهما تخالف شهادتهما شهادة الاثنين الآخرين ، وممن روي عنه ذلك الشافعي ، وقال بعضهم : تكمل شهادتهم قائلا : إنه لا تنافي بين الشهادتين ; لإمكان أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين أحد القميصين ، وتركا ذكر الآخر ، فيكون الجميع صادقين ; لأن أحد الثوبين الذي سكت عنه هذان هو الذي ذكره ذانك كعكسه ، فلا تنافي ، ويمكن أن يكون عليها هي قميص أحمر ، وعليه هو قميص أبيض كعكسه ، أو عليه هو ثوب كتان ، وعليها هي ثوب خز كعكسه ، فيمكن صدق الجميع ; وإذا أمكن صدقهم فلا [ ص: 381 ] وجه لرد شهادتهم ، وبهذا جزم صاحب المغني موجها له بما ذكرنا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا في هذا الفرع هو وجوب استفسار الشهود ، فإن جزم اثنان بأن عليه ثوبا واحدا أحمر ، وجزم الآخران أن عليه ثوبا واحدا أبيض لم تكمل شهادتهم لتنافي الشهادتين ، وإن اتفقوا على أن عليه ثوبين مثلا أحدهما أحمر ، والثاني أبيض ، وذكر كل اثنين أحد الثوبين ، فلا إشكال في كمال شهادتهم ; لاتفاق الشهادتين ، وإن لم يمكن استفسار الشهود لموتهم ، أو غيبتهم غيبة يتعذر معها سؤالهم ، فالذي يظهر لي عدم كمال شهادتهم ; لاحتمال تخالف شهادتهما ، ومطلق احتمال اتفاقهما لا يكفي في إقامة الحد ; لأن الحد يدرأ بالشبهات ، فلا يقام بشهادة محتملة البطلان ، بل الظاهر من الصيغة اختلاف الشهادتين والعمل بالظاهر لازم ، ما لم يقم دليل صارف عنه يجب الرجوع إليه .

والذي يظهر أنهم إن لم تكمل شهادتهم يحدون حد القذف . أما في الشهادة المحتملة فإنه قبل إمكان استفسارهم ، فلا إشكال في عدم إمكان حدهم وإن أمكن استفسارهم ، فإن فسروا ، بما يقتضي كمال شهادتهم حد المشهود عليه بشهادتهم ، وإن فسروا بما يوجب بطلان شهادتهم ، فالظاهر أنهم يحدون حد القذف ; كما قدمنا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع السابع : إن شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة ، وشهد اثنان أنه زنى بها مطاوعة ، فلا حد على المرأة إجماعا ; لأن الشهادة عليها لم تكمل على فعل موجب للحد ، وإنما الخلاف في حكم الرجل والشهود .

قال ابن قدامة في " المغني " : وفي الرجل وجهان :

أحدهما : لا حد عليه ، وهو قول أبي بكر ، والقاضي وأكثر الأصحاب ، وقول أبي حنيفة ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي ; لأن البينة لم تكمل على فعل واحد ، فإن فعل المطاوعة غير فعل المكرهة ، ولم يتم العدد على كل واحد من الفعلين ، ولأن كل شاهدين منهما يكذبان الآخرين ، وذلك يمنع قبول الشهادة ، أو يكون شبهة في درء الحد ولا يخرج عن أن يكون قول واحد منهما مكذبا للآخر إلا بتقدير فعلين تكون مطاوعة في أحدهما ، مكرهة في الآخر ، وهذا يمنع كون الشهادة كاملة على فعل واحد ، ولأن شاهدي المطاوعة قاذفان لها ، ولم تكمل البينة عليها ، فلا تقبل شهادتهما على غيرها .

[ ص: 282 ] والوجه الثاني : أنه يجب الحد عليه ، اختاره أبو الخطاب ، وهو قول أبي يوسف ومحمد ، ووجه ثان للشافعي ; لأن الشهادة كملت على وجود الزنى منه ، واختلافهما إنما هو في فعلها لا في فعله ، فلا يمنع كمال الشهادة عليه .

وفي الشهود ثلاثة أوجه :

أحدها : لا حد عليهم ، وهو قول من أوجب الحد على الرجل بشهادتهم .

والثاني : عليهم الحد لأنهم شهدوا بالزنى ، ولم تكمل شهادتهم فلزمهم الحد ، كما لو لم يكمل عددهم .

والثالث : يجب الحد على شاهدي المطاوعة ، لأنهما قذفا المرأة بالزنى ، ولم تكمل شهادتهم عليها ، ولا تجب على شاهدي الإكراه لأنهما لم يقذفا المرأة ، وقد كملت شهادتهم على الرجل ، وإنما انتفى عنه الحد للشبهة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد رأيت خلاف أهل العلم في هذا الفرع ، وأظهر أقوالهم عندي فيه : أن الرجل والمرأة لا حد على واحد منهما ، وأن على الشهود الأربعة حد القذف ، أما نفي الحد عن المرأة ، فلا خلاف فيه ، ووجهه ظاهر ; لأنها لم تكمل عليها شهادة بالزنى ، وأما نفي الحد عن الرجل ; فلأن الاثنين الشاهدين بالمطاوعة يكذبان الشاهدين بالإكراه كعكسه ، وإذا كان كل اثنين من الأربعة يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الفعل لم تكمل شهادتهم على فعل واحد ، فلم تكمل على الرجل شهادة على حالة زنى واحد ; لأن الإكراه والطوع أمران متنافيان ، وإذا لم تكمل عليه شهادة بفعل واحد على حالة واحدة فعدم حده هو الأظهر ، أما وجه حد الشهود ، فلأن الشاهدين على المرأة بأنها زنت مطاوعة للرجل قاذفان لها بالزنى ، ولم تكمل شهادتهما عليها فحدهما لقذفهما المرأة ظاهر جدا ; ولأن الشاهدين بأنه زنى بها مكرهة قاذفان للرجل بأنه أكرهها فزنى بها ، ولم تكمل شهادتهم ; لأن شاهدي الطوع مكذبان لهما في دعواهما الإكراه فحدهما لقذفهما للرجل ولم تكمل شهادتهما عليه ظاهر ، أما كون الأربعة قد اتفقت شهادتهم على أنه زنى بها ، فيرده أن كل اثنين منهما يكذبان الآخرين في الحالة التي وقع عليها الزنى ، هذا هو الأظهر عندنا من كلام أهل العلم في هذا الفرع ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 283 ] ومن المعلوم أن كل ما يثبت به الرجم على المحصن يثبت به الجلد على البكر ، فثبوت الأمرين طريقه واحدة .
الفرع الثامن : اعلم أنه إن شهد أربعة عدول على امرأة أنها زنت وتمت شهادتهم على الوجه المطلوب ، فقالت إنها عذراء ، لم تزل بكارتها ونظر إليها أربع من النساء معروفات بالعدالة ، وشهدن بأنها عذراء لم تزل بكارتها بمزيل . فقد اختلف أهل العلم : هل تدرأ شهادة النساء عنها الحد أو لا ؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أنها يقام عليها الحد ولا يلتفت لشهادة النساء ، وعبارة المدونة في ذلك : إذا شهد عليها بالزنى أربعة عدول ، فقالت : إنها عذراء ونظر إليها النساء ، وصدقنها لم ينظر إلى قولهن وأقيم عليها الحد . انتهى بواسطة نقل المواق في شرحه لقول خليل في مختصره ، وبالبينة فلا يسقط بشهادة أربع نسوة ببكارتها ، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن شهادة النساء ببكارتها تدرأ عنها الحد ، وهو مذهب الإمام أحمد . قال ابن قدامة في " المغني " : وبه قال الشعبي ، والثوري ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ووجه قول مالك وأصحابه بأنها يقام عليها الحد ، هو أن الشهادة على زناها تمت بأربعة عدول ، وأن شهادة النساء لا مدخل لها في الحدود ، فلا تسقط بشهادتهن شهادة الرجال عليها بالزنى ، ووجه قول الآخرين بأنها لا تحد هو أن بكارتها ثبتت بشهادة النساء ، ووجود البكارة مانع من الزنى ظاهرا ; لأن الزنى لا يحصل بدون الإيلاج في الفرج ، ولا يتصور ذلك مع بقاء البكارة ، لأن البكر هي التي لم توطأ في قبلها ، وإذا انتفى الزنى لم يجب الحد ، كما لو قامت البينة بأن المشهود عليه الزنى مجبوب .

وقال ابن قدامة في " المغني " : ويجب أن يكتفى بشهادة امرأة واحدة ; لأنها مقبولة فيما لا يطلع عليه الرجال ، يعني البكارة المذكورة ، انتهى ، وأما الأربعة الذين شهدوا بالزنى فلا حد عليهم لتمام شهادتهم وهي أقوى من شهادة النساء بالبكارة .

وقال صاحب " المغني " : وإنما لم يجب الحد عليهم لكمال عدتهم ، مع احتمال صدقهم لأنه يحتمل أن يكون وطئها ، ثم عادت عذرتها ، فيكون ذلك شبهة في درء الحد عنهم ، وأما إن شهدت بينة على رجل بالزنى فثبت ببينة أخرى أنه مجبوب ، أو شهدت بينة على امرأة بالزنى فثبت ببينة أخرى أنها رتقاء ، فالظاهر وجوب حد القذف على بينة الزنى ، لظهور كذبها ; لأن المجبوب من الرجال والرتقاء من النساء لا يمكن حصول الزنى من واحد منهما ، كما هو معلوم .
[ ص: 284 ] المسألة الثانية : اعلم أن العلماء أجمعوا على ثبوت الزنى ، ووجوب الحد رجما كان أو جلدا بإقرار الزاني والزانية ، ولكنهم اختلفوا هل يثبت الزنى بإقرار الزاني مرة واحدة ، أو لا يكفي ذلك حتى يقر به أربع مرات ؟ فذهب الإمام أحمد ، وأبو حنيفة ، وابن أبي ليلى ، والحكم : إلى أنه لا يثبت إلا إذا أقر به أربع مرات ، وزاد أبو حنيفة وابن أبي ليلى : أن يكون ذلك في أربع مجالس ، ولا تكفي عندهما الإقرارات الأربعة في مجلس واحد ، وذهب مالك ، والشافعي ، والحسن ، وحماد ، وأبو ثور ، وابن المنذر إلى أن الزنى يثبت بالإقرار مرة واحدة .

أما حجج من قال يكفي الإقرار به مرة واحدة ، فمنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأنيس في الحديث الصحيح المشهور : " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، فاعترفت فرجمها ، وفي رواية في الصحيح : فاعترفت فأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجمت ، قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد الجهني - رضي الله عنهما - ظاهر ظهورا واضحا في أن الزنى يثبت بالاعتراف به مرة واحدة ; لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه : " فإن اعترفت فارجمها " ، ظاهر في الاكتفاء بالاعتراف مرة واحدة ، إذ لو كان الاعتراف أربع مرات لا بد منه لقال له - صلى الله عليه وسلم - : فإن اعترفت أربع مرات فارجمها ، فلما لم يقل ذلك عرفنا أن المرة الواحدة تكفي ; لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، كما هو معلوم .

ومن أدلتهم على الاكتفاء بالاعتراف بالزنى مرة واحدة ما ثبت في الصحيح من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنهما - : أن امرأة من جهينة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي حبلى من الزنى ، فقالت : يا نبي الله ، أصبت حدا فأقمه علي ، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - وليها فقال : " أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها " ، ففعل فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها ، فقال له عمر : تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت ؟ فقال : " لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم ، وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى " ، هذا لفظ مسلم في صحيحه ، وهو نص صحيح في أنه - صلى الله عليه وسلم - ، أمر برجمها بإقرارها مرة واحدة ; لأنها قالت : إني أصبت حدا ، مرة واحدة ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر برجمها من غير تعدد الإقرار ; لأن الحديث لم يذكر فيه إلا إقرارها مرة واحدة .

ومن أدلتهم على ذلك أيضا : ما ثبت في الصحيح من قصة الغامدية التي جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : يا رسول - صلى الله عليه وسلم - إني قد زنيت فطهرني ، وأنه ردها ، فلما كان من الغد [ ص: 385 ] قالت : يا رسول الله ، لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، فوالله إني لحبلى ، فقال : " أما لا فاذهبي حتى تلدي " ، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة ، قالت : هذا قد ولدته ، قال : " اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه " ، فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز ، فقالت : هذا يا نبي الله ، قد فطمته وقد أكل الطعام ، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها ، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد ، فسبها ، فسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبه إياها ، فقال : " مهلا يا خالد ، فوالذي نفسي بيده ، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " ، ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت ، هذا لفظ مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، وهو من أصرح الأدلة على الاكتفاء بإقرار الزاني بالزنا مرة واحدة ; لأن الغامدية المذكورة لما قالت له - صلى الله عليه وسلم - : لعلك أن تردني كما رددت ماعزا ، لم ينكر ذلك عليها ، ولو كان الإقرار أربع مرات شرطا في لزوم الحد لقال لها إنما رددته ، لكونه لم يقر أربعا .

وقد قال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، بعد ذكره لهذه الواقعة : وهذه الواقعة من أعظم الأدلة الدالة على أن تربيع الإقرار ، ليس بشرط للتصريح فيها ، بأنها متأخرة عن قضية ماعز ، وقد اكتفى فيها بدون أربع كما سيأتي ، اهـ منه .

وفي صحيح مسلم أيضا من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه ، ما نصه : قال : ثم جاءته امرأة من غامد من الأزد ، فقالت : يا رسول الله طهرني ، فقال : " ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه " ، فقالت : أراك تريد أن تردني كما رددت ماعز بن مالك قال : " وما ذاك " ؟ قالت : إنها حبلى من الزنا ، فقال " : آنت " ؟ قالت : نعم ، فقال لها " : حتى تضعي ما في بطنك " ، قال : فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ، قال : فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : قد وضعت الغامدية ، فقال " : إذا لا نرجمها وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه " ، فقام رجل من الأنصار فقال : إلي رضاعه يا نبي الله ، قال : فرجمها ، اهـ منه .

وهذه الرواية كالتي قبلها في الدلالة على الاكتفاء بالإقرار مرة واحدة إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على عدم اشتراط تكرر الإقرار بالزنا أربعا ، وأما حجة من قالوا : يشترط في ثبوت الإقرار بالزنا ، أن يقر به أربع مرات ، وأنه لا يجب عليه الحد إلا بالإقرار أربعا ، فهي ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتفق عليه ، قال : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من الناس وهو في المسجد ، فناداه : يا رسول الله إني زنيت ، يريد [ ص: 386 ] نفسه ، فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله ، فقال : يا رسول الله إني زنيت ، فأعرض عنه ، فجاء لشق وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أعرض عنه ، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال " : أبك جنون " ؟ قال : لا يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال " : أحصنت " ؟ قال : نعم ، قال " : اذهبوا فارجموه " ، الحديث ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، ولفظ مسلم : فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال " : أبك جنون " ؟ قال : لا ، قال " : فهل أحصنت " ؟ قال : نعم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : اذهبوا به فارجموه " اهـ .

قالوا : فهذا الحديث المتفق عليه فيه ترتيب الرجم على أربع شهادات على نفسه ، أي : أربع إقرارات بصيغة ترتيب الجزاء على الشرط ; لأن لما مضمنة معنى الشرط وترتيب الحد على الأربع ترتيب الجزاء على شرطه ، دليل على اشتراط الأربع المذكورة ، والرجل المذكور في هذا الحديث ، هو ماعز بن مالك وقصته مشهورة صحيحة ، وفي ألفاظ رواياتها ما يدل على أنه لم يرجمه ، حتى شهد على نفسه أربع شهادات ; كما رأيت في الحديث المذكور آنفا ، وقد علمت مما ذكرنا ما استدل به كل واحد من الفريقين .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم في هذه المسألة عندي : هو الجمع بين الأحاديث الدالة على اشتراط الأربع ، والأحاديث الدالة على الاكتفاء بالمرة الواحدة ; لأن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن ، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ووجه الجمع المذكور هو حمل الأحاديث التي فيها التراخي ، عن إقامة الحد بعد صدور الإقرار مرة على من كان أمره ملتبسا في صحة عقله ، واختلاله ، وفي سكره ، وصحوه من السكر ، ونحو ذلك ، وحمل أحاديث إقامة الحد بعد الإقرار مرة واحدة على من عرفت صحة عقله وصحوه من السكر ، وسلامة إقراره من المبطلات ، وهذا الجمع رجحه الشوكاني في " نيل الأوطار " .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:14 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (391)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 387 إلى صـ 394



ومما يؤيده أن جميع الروايات التي يفهم منها اشتراط الأربع كلها في قصة ماعز ، وقد دلت روايات حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدري أمجنون هو أم لا ؟ صاح هو أو سكران ؟ بدليل قوله له في الحديث المتفق عليه المذكور آنفا " : أبك جنون " ؟ وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - لقومه عن عقله ، وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - " : أشرب خمرا " ؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر ، وكل [ ص: 387 ] ذلك ثابت في الصحيح ، وهو دليل قوي على الجمع بين الأحاديث كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن الظاهر اشتراط التصريح بموجب الحد الذي هو الزنى تصريحا ينفي كل احتمال ; لأن بعض الناس قد يطلق اسم الزنى على ما ليس موجبا للحد .

ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لماعز لما قال : إنه زنى ، " لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت " ؟ قال : لا ، قال " : أفنكتها " ؟ - لا يكني - ، قال : نعم ، قال : فعند ذلك أمر برجمه ، وهذا ثابت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عباس ، ويؤخذ منه التعريض للزاني بأن يستر على نفسه ، ويستغفر الله فإنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا .
الفرع الثاني : اعلم أنه إذا تمت شهادة الشهود الأربعة بالزنى فصدقهم الزاني المشهود عليه ، بأن أقر أنه زنى مرة واحدة فصارت الشهادة تامة ، والإقرار غير تام عند من يشترط أربعا .

فأظهر قولي أهل العلم عندي : أن الحد يقام عليه لكمال البينة خلافا لمن زعم أنه لا يقام عليه الحد ; لأن شرط صحة البينة الإنكار ، وهذا غير منكر .

وقال ابن قدامة في " المغني " : إن سقوط الحد بإقراره مرة قول أبي حنيفة اهـ ، وكذلك لو تمت عليه شهادة البينة وأقر على نفسه أربع مرات ، ثم رجع عن إقراره ، فلا ينفعه الرجوع لوجوب الحد عليه بشهادة البينة ، فلا حاجة لإقراره ولا فائدة في رجوعه عنه ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثالث : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي : أنه إذا أقر بزنى قديم قبل إقراره ، ولا يبطل الإقرار بأنه لم يقر إلا بعد زمن طويل ; لأن الظاهر اعتبار الإقرار مطلقا ، سواء تقادم عهده ، أو لم يتقادم ، وكذلك شهادة البينة ، فإنها تقبل ، ولو لم تشهد إلا بعد طول الزمن ; لأن عموم النصوص يقتضي ذلك ، لأنها ليس فيها التفريق بين تعجيل الشهادة وتأخيرها ، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في قولهم : إن الإقرار يقبل بعد زمن طويل والشهادة لا تقبل مع التأخير .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن شهدوا بزنى قديم أو أقر به وجب الحد ، وبهذا [ ص: 388 ] قال مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، واسحاق ، وأبو ثور .

وقال أبو حنيقة : لا أقبل بينة على زنى قديم وأحده بالإقرار به ، وهذا قول ابن حامد ، وذكره ابن أبي موسى مذهبا لأحمد ، اهـ منه .

أما قبول الإقرار بالزنا القديم ووجوب الحد به فلا وجه للعدول عنه بحال ; لأنه مقر على نفسه ، ولا يتهم في نفسه .

وأما شهادة البينة بزنا قديم ، فالأظهر قبولها ، لعموم النصوص كما ذكرنا آنفا ، وحجة أبي حنيفة ، ومن وافقه في رد شهادة البينة على زنا قديم ، هو أن تأخير الشهادة ، يدل على التهمة فيدرأ ذلك الحد .

وقال في " المغني " : ومن حجتهم على ذلك ما روي عن عمر ، أنه قال : أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فهم شهود ضغن ، ثم قال : رواه الحسن مرسلا ، ومراسيل الحسن ليست بالقوية ، اهـ منه .

وقد قدمنا الكلام مستوفى على مراسيل الحسن ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الرابع : اعلم أنه إن أقر بأنه زنى بامرأة وسماها فكذبته ، وقالت : إنه لم يزن بها .

فأظهر أقوال أهل العلم عندي : أنه يجب عليه حد الزنى بإقراره ، وحد القذف أيضا ; لأنه قذف المرأة بالزنا ولم يأت بأربعة شهود فوجب عليه حد القذف .

وقال في " المغني " : وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف : لا حد عليه ، لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكوما بكذبه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وجوب الحد عليه بإقراره لا ينبغي العدول عنه ، ولا يمكن أن يصح خلافه لأمرين :

الأول : أنه أقر على نفسه بالزنا إقرارا صحيحا ، وقولهم إننا صدقناها ليس بصحيح ، بل نحن لم نصدقها ، ولم نقل إنها صادقة ، ولكن انتفاء الحد عنها إنما وقع لأنها لم تقر ، ولم تقم عليها بينة ; فعدم حدها لانتفاء مقتضيه ، لا لأنها صادقة كما ترى .

الأمر الثاني : ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا طلق بن غنام ، [ ص: 389 ] ثنا عبد السلام بن حفص ، ثنا أبو حازم ، عن سهل بن سعد ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن رجلا أتاه ، فأقر عنده أنه زنى بامرأة سماها له ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة فسألها عن ذلك ، فأنكرت أن تكون زنت فجلده الحد وتركها ، اهـ منه ، وعبد السلام المذكور في هذا الإسناد وثقه ابن معين ، وتوثيقه له أولى من قول أبي حاتم الرازي : إنه غير معروف ; لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ .

والحديث المذكور نص في أن المقر يقام عليه الحد وهو واضح ; لأن من أقر على نفسه بالزنا لا نزاع في وجوب الحد عليه ، وأما كونه يحد مع ذلك حد القذف فظاهر أيضا ، ويدل عليه عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ، الآية [ 24 \ 4 ] والأخذ بعموم النصوص واجب ، إلا بدليل مخصص يجب الرجوع إليه ، وكون حديث سهل بن سعد الساعدي الذي ذكرناه آنفا عند أبي داود ليس فيه أن النبي حد الرجل المذكور حد القذف ، بل حد الزنا فقط لا يعارض به عموم النصوص .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحده للزنا والقذف معا هو الظاهر ، لوجهين :

الأول : أن غاية ما في حديث سهل : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحد ذلك الرجل للقذف وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط ; لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب من المرأة أو لوجود مسقط ، إلى أن قال : الوجه الثاني : أن ظاهر القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل ، وقد صدق على كل من كان كذلك أنه قاذف ، اهـ منه ، وهو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، وكذلك ما جاء في بعض روايات حديث ماعز بن مالك أنه عين الجارية التي زنا بها ، ولم يحده النبي - صلى الله عليه وسلم - لقذفها بل حده للزنا فقط ، فإن ترك حده لم يوجه بما قدمنا قريبا .

وعلى كل حال فمن قال : زنيت بفلانة فلا شك أنه مقر على نفسه بالزنا ، وقاذف لها هي به ، وظاهر النصوص مؤاخذته بإقراره على نفسه ، وحده أيضا حد القذف ; لأنه قاذف بلا شك ، كما ترى .

ومما يؤيد هذا المذهب ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، ثنا موسى بن هارون البردي ، ثنا هشام بن يوسف ، عن القاسم بن فياض الأبناوي ، [ ص: 390 ] عن خلاد بن عبد الرحمن ، عن ابن المسيب ، عن ابن عباس : أن رجلا من بني بكر بن ليث أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأقر أنه زنى بامرأة أربع مرات ، فجلده مائة وكان بكرا ، ثم سأله البينة على المرأة ، فقالت : كذب والله يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلده حد الفرية ثمانين، اهـ .

فإن قيل : هذا الحديث ضعيف ، لأن في إسناده القاسم بن فياض الأبناوي الصنعاني ، قال فيه ابن حجر في التقريب : مجهول ، وقال فيه الذهبي في " الميزان " : ضعفه غير واحد منهم عباس عن ابن معين ، فالجواب من وجهين :

الأول : أن القاسم المذكور قال فيه أبو داود : ثقة ، كما نقله عنه الذهبي في الميزان ، والتعديل يقبل مجملا ، والتجريح لا يقبل مجملا ، كما تقدم .

الثاني : أن حديث ابن عباس هذا الذي فيه الجمع بين حد القذف ، وحد الزنا إن قال : أنه زنى بامرأة عينها فأنكرت ، معتضد اعتضادا قويا بظواهر النصوص الدالة على مؤاخذته بإقراره ، والنصوص الدالة على أن من قذف امرأة بالزنى ، فأنكرت ولم يأت ببينة أنه يحد حد القذف .

فالحاصل : أن أظهر الأقوال عندنا أنه يحد حد القذف وحد الزنا ، وهو مذهب مالك ، وقد نص عليه في المدونة خلافا لمن قال يحد حد الزنا فقط ، كأحمد والشافعي ، ولمن قال : يحد حد القذف فقط ، ويؤيد هذا المذهب الذي اخترناه في هذه المسألة ما قاله مالك وأصحابه : من أن الرجل لو قال لامرأة : زنيت ، فقالت له : زنيت بك أنها تحد للقذف وللزنا معا ، ولا يحد الرجل لهما لأنها صدقته ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : اعلم أنه لا يصح إقرار المكره ، فلو أكره الرجل بالضرب أو غيره من أنواع التعذيب ليقر بالزنا فأقر به مكرها لم يلزمه إقراره به فلا يحد ، ولا يثبت عليه الزنا ، ولا نعلم من أهل العلم من خالف في هذا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اعلم أنا قد قدمنا ثبوت الزنا بالبينة والإقرار ، ولا خلاف في ثبوته بكل واحد منهما إن وقع على الوجه المطلوب ، أما ظهور الحمل بامرأة ، لا يعرف لها زوج ولا سيد ، فقد اختلف العلماء في ثبوت الحد به ، فقال بعض أهل العلم : الحبل في التي لا يعرف لها زوج ولا سيد يثبت عليها به الزنا ، ويجب عليها الحد به ، وقد ثبت هذا في حديث عمر - رضي الله عنه - الذي قدمناه في قوله : إذا قامت البينة أو كان الحبل ، [ ص: 391 ] أو الاعتراف . والحديث المذكور في الصحيحين وغيرهما كما تقدم ، وقد صرح فيه أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - ، بأن الحبل الذي هو الحمل يثبت به الزنا كما يثبت بالبينة والإقرار ، وممن ذهب إلى أن الحبل يثبت به الزنا ، عمر - رضي الله عنه - كما رأيت ، ومالك وأصحابه ، وذهب الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وجماهير أهل العلم إلى أنه لا يثبت الزنا ولا يجب الحد بمجرد الحبل ، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد ، وهذا القول عزاه النووي في شرح مسلم للشافعي ، وأبي حنيفة ، وجماهير أهل العلم ، وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، فهذه أدلتهم .

أما الذين قالوا : إن الزنا يثبت بالحمل ، إن لم يكن لها زوج ولا سيد ، فقد احتجوا بحديث عمر المتفق عليه المتقدم وفيه التصريح من عمر بأن الحبل يثبت به الزنا ، كالبينة والإقرار .

وقال ابن قدامة في " المغني " : إنما قال من قال : بوجوب الحد وثبوت الزنا بالحمل ، لقول عمر - رضي الله عنه - ، والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء ، إذا كان محصنا ، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف ، وروي أن عثمان أوتي بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر بها عثمان أن ترجم ، فقال علي : ليس لك عليها سبيل ، قال الله : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ، وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها وعن عمر نحو هذا ، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : يا أيها الناس إن الزنا زناءان : زنا سر ، وزنا علانية ، فزنا السر : أن يشهد الشهود ، فيكون الشهود أول من يرمي ، وزنا العلانية : أن يظهر الحبل أو الاعتراف ، فيكون الإمام أول من يرمي ، وهذا قول سادة الصحابة ولم يظهر في عصرهم مخالف ، فيكون إجماعا ، انتهى محل الغرض من " المغني " .

وانظر أسانيد الآثار التي ذكرها عن الصحابة ، هذا هو حاصل ما احتج به من قال : إن الزنا يثبت بالحمل .

وأما الذين قالوا : إن الحمل وحده لا يثبت به الزنا ، ولا يجب به الحد ، بل لا بد من البينة أو الإقرار ، فقد قال في " المغني " : حجتهم أنه يحتمل أن الحمل من وطء إكراه أو شبهة يسقط بالشبهات ، وقد قيل : إن المرأة تحمل من غير وطء بأن يدخل ماء الرجل في فرجها ، إما بفعلها ، أو فعل غيرها ، ولهذا تصور حمل البكر فقد وجد ذلك .

وأما قول الصحابة ، فقد اختلفت الرواية عنهم فروى سعيد : حدثنا خلف بن خليفة ، [ ص: 392 ] حدثنا هاشم : أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ليس لها زوج ، وقد حملت فسألها عمر ، فقالت : إنني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل ، وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ ، فدرأ عنها الحد ، وروى البراء بن صبرة ، عن عمر أنه أوتي بامرأة حامل ، فادعت أنها أكرهت ، فقال : خل سبيلها ، وكتب إلى أمراء الأجناد ، ألا يقتل أحد إلا بإذنه .

وروي عن علي وابن عباس أنهما قالا : إذا كان في الحد لعل وعسى فهو معطل ، وروى الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن مسعود ، ومعاذ بن جبل ، وعقبة بن عامر - رضي الله عنهم أنهم - قالوا : إذا اشتبه عليك الحد فادرأ ما استطعت ، ولا خلاف في أن الحد يدرأ بالشبهات ، وهي متحققة هنا ، اهـ بلفظه من " المغني " .

وانظر أيضا أسانيد هذه الآثار التي ذكرها عن الصحابة ، وهذا الذي ذكر هو حاصل ما احتج به الجمهور الذين قالوا إن الحبل لا يثبت به الزنا .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم عندي : أن الزنا لا يثبت بمجرد الحبل ، ولو لم يعرف لها زوج ولا سيد ; لأن الحمل قد يقع لا شك من غير وطء في الفرج ، بل قد يطأ الرجل المرأة في فخذيها ، فتتحرك شهوتها فينزل ماؤها وينزل الرجل ، فيسيل ماؤه فيدخل في فرجها ، فيلتقي ماؤه بمائها فتحمل من غير وطء وهذا مشاهد لا يمكن إنكاره .

ولأجل ذلك فالأصح أن الزوج إذا كان يطأ امرأته في الفخذين ، ولم يجامعها في الفرج فظهر بها حمل أنه لا يجوز له اللعان لنفي ذلك الحمل ; لأن ماءه قد يسيل إلى فرجها ، فتحمل منه ، وقول عمر - رضي الله عنه - : إذا كان الحبل أو الاعتراف اجتهاد منه ; لأنه يظهر له - رضي الله عنه - أن الحمل يثبت به الزنا كالاعتراف والبينة .

وإنما قلنا : إن الأظهر لنا خلاف قوله - رضي الله عنه - ، لأنا نعلم أن وجود الحمل لا يستلزم الوطء في الفرج بل قد تحبل بدون ذلك ، وإذا كان الحبل لا يستلزم الوطء في الفرج فلا وجه لثبوت الزنا ، وإقامة الحد بأمر محتمل غير مستلزم لموجب الحد ، كما ترى .
ومن المعلوم أن الحدود تدرأ بالشبهات ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
فروع تتعلق بهذه المسألة .

[ ص: 393 ] الفرع الأول : اعلم أن الذين قالوا : بوجوب الحد بالحمل قالوا : إن تلك الحامل إن كانت طارئة من بلاد أخرى ، وادعت أن حملها من زوج لها تركته في بلدها فلا حد عليها عندهم ، ولا يثبت عليها الزنا بذلك الحمل .

الفرع الثاني : اعلم أنه إن ظهر بها حمل فادعت أنها مكرهة لا يقبل دعواها الإكراه عند من يثبت الزنا بالحمل إلا إذا اعتضدت دعواها بما يقويها من القرائن كإتيانها صارخة مستغيثة ممن فعل بها ذلك ، وكأن تأتي متعلقة برجل تزعم أنه هو الذي أكرهها وكأن تشتكي من الذي فعل بها ذلك قبل ظهور الحمل .

وقال بعض علماء المالكية : إن كانت شكواها من الرجل الذي فعل بها ذلك مشبهة لكون الرجل الذي ادعت عليه غير معروف بالصلاح ، فلا حد عليها ، وإن كان الذي ادعت عليه معروفا بالصلاح ، والعفاف ، والتقوى حدث ولم يقبل قولها عليه .

وقال بعض المالكية : إن لم تسم الرجل الذي ادعت أنه أكرهها تعزر ، ولا تحد إن كانت معروفة بالصلاح والعفاف .
الفرع الثالث : قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي : أو مكرهة ، ما نصه : قال في الطراز أو في أواخر الجزء الثالث في ترجمة تفسير الطلاق ، وما يلزم من ألفاظه ، قال ابن عبد الغفور : ويقال إن عبد الله بن عيسى سئل عن جارية بكر زوجها فابتنى بها زوجها فأتت بولد لأربعة أشهر ، فذكر ذلك لها فقالت : إني كنت نائمة فانتبهت لبلل بين فخذي ، وذكر الزوج أنه وجدها عذراء .

فأجاب فيها : أنها لا حد عليها إذا كانت معروفة بالعفاف ، وحسن الحال ، ويفسخ النكاح ، ولها المهر كاملا ، إلا أن تكون علمت الحمل ، وغرت فلها قدر ما استحل منها ، انتهى من الاستغناء ، انتهى كلام الطراز ، انتهى ما نقله الحطاب ، وهو يؤيد أن الحمل قد يقع من غير وطء يوجب الحد كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة : اعلم أن من ثبت عليه الزنا وهو محصن ، اختلف أهل العلم فيه ، فقال بعضهم : يجلد مائة جلدة أولا ثم يرجم بعد ذلك ، فيجمع له بين الجلد والرجم ، وقال بعضهم : يرجم فقط ولا يجلد ; لأن غير القتل يندرج في القتل ، وممن قال بالجمع بينهما علي - رضي الله عنه - ، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، قال ابن قدامة في [ ص: 394 ] " المغني " : وبه قال ابن عباس ، وأبي بن كعب ، وأبو ذر ، ذكر ذلك عبد العزيز عنهما واختاره ، وبه قال الحسن ، وإسحاق ، وداود ، وابن المنذر ، وممن قال بأنه يرجم فقط ولا يجلد مع الرجم مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والنخعي ، والزهري ، والأوزاعي ، واختاره أبو إسحاق ، الجوزجاني ، وأبو بكر الأثرم ، ونصراه في سننهما وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مروي عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، قال ذلك كله ابن قدامة في " المغني " ، وهذا القول الأخير الذي هو الاقتصار على الرجم عزاه النووي في شرح مسلم لجماهير العلماء .

وفي المسألة قول ثالث : وهو ما حكاه القاضي عياض ، عن طائفة من أهل الحديث ، وهو أنه يجب الجمع بينهما إذا كان الزاني شيخا ثيبا فإن كان شابا ثيبا اقتصر على الرجم .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة فهذه تفاصيل أدلتهم ، أما الذين قالوا : يجمع للزاني المحصن بين الجلد والرجم ، فقد احتجوا بأدلة .

منها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بالجمع بينهما للزاني المحصن تصريحا ثابتا عن ثبوت لا مطعن فيه .

قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، أخبرنا هشيم ، عن منصور ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " ، وهذا تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن الثيب وهو المحصن يجلد مائة ويرجم ، وهذا اللفظ أخرجهمسلم أيضا بإسناد آخر ، وفي لفظ في صحيح مسلم " : الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة " ، وهو تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجمع بينهما ، وفي لفظ عند مسلم أيضا " : والثيب يجلد ويرجم " ، وهذه الروايات الثابتة في الصحيح فيها تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالجمع بين الجلد والرجم .

ومن أدلتهم على الجمع بينهما : أن عليا - رضي الله عنه - جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة ، وقال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:17 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (392)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 395 إلى صـ 402



قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، ثنا سلمة بن كهيل ، [ ص: 395 ] قال : سمعت الشعبي يحدث عن علي - رضي الله عنه - ، حين رجم المرأة يوم الجمعة ، وقال : قد رجمتها بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، انتهى منه .

وقال ابن حجر في " الفتح " في الكلام على هذا الحديث ، ما نصه في رواية علي بن الجعد : أن عليا أتي بامرأة زنت فضربها يوم الخميس ، ورجمها يوم الجمعة إلى آخر ما ذكره من الروايات ، بأن عليا ضربها ورجمها ، وهي شراحة الهمدانية كما تقدم ، وفي رواية : أنها مولاة لسعيد بن قيس ، ومن أدلتهم على الجمع بينهما أن الله تعالى قال : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، واللفظ عام في البكر والمحصن ، ثم جاءت السنة بالرجم في حق المحصن والتغريب سنة في حق البكر ، فوجب الجمع بينهما عملا بدلالة الكتاب والسنة معا ، كما قال علي - رضي الله عنه - ، قالوا : وقد شرع في كل من المحصن والثيب عقوبتان : أما عقوبتا الثيب : فهما الجلد والرجم ، وأما عقوبتا البكر : فهما الجلد والتغريب .

هذا هو حاصل ما احتج به الذين قالوا : إنه يجمع للمحصن بين الجلد والرجم .

وأما الذين قالوا : يرجم فقط ، ولا يجلد فاحتجوا بأدلة .

منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - رجم ماعزا ، ولم يجلده مع الرجم ; لأن جميع الروايات في رجم ماعز بن مالك ليس في شيء منها أنه جلده مع الرجم بل ألفاظها كلها مقتصرة على الرجم ، قالوا : ولو كان الجلد مع الرجم لم ينسخ لأمر بجلد ماعز مع الرجم ، ولو أمر به لنقله بعض رواة القصة ، قالوا : وقصة ماعز متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي فيه التصريح بالجمع بينهما .

والدليل على أن حديث عبادة متقدم وأنه أول نص نزل في حد الزنا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - فيه " : خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا " الحديث ، يشير بجعل الله لهن سبيلا بالحد ، إلى قوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ 4 \ 15 ] ، فالزواني كن محبوسات في البيوت إلى أحد أمرين : وهما الموت ، أو جعل الله لهن سبيلا فلما قال - صلى الله عليه وسلم - " : قد جعل الله لهن سبيلا " ، ثم فسر السبيل بحد الزنا علمنا بذلك أن حديث عبادة أول نص في حد الزنا ، وأن قصة ماعز متأخرة عن ذلك .

[ ص: 396 ] ومن أدلتهم أنه رجم الغامدية كما تقدم ، ولم يقل أحد أنه جلدها ، لو جلدها مع الرجم لنقل ذلك بعض الرواة .

ومن أدلتهم : أنه قال - صلى الله عليه وسلم - " : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، ولم يقل فاجلدها مع الرجم ، فدل ذلك على سقوط الجلد ; لأنه لو وقع لنقله بعض الرواة ، وهذه الوقائع كلها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت كما أشرنا إلى ما يقتضي ذلك آنفا .

ومن أدلتهم على أنه يرجم فقط ، ولا يجلد مع الرجم الروايات الصحيحة التي قدمناها في رجمه - صلى الله عليه وسلم - للمرأة الجهنية ، والغامدية ، فإنها كلها مقتصرة على الرجم ، ولم يذكر فيها جلد . وقال أبو داود : قال الغساني : جهينة وغامد وبارق واحد ، انتهى منه ، وعليه فالجهنية هي الغامدية .

وعلى كل حال فجميع الروايات الواردة في رجم الغامدية ، ورجم الجهنية ليس في شيء منها ذكر الجلد ، وإنما فيها كلها الاقتصار على الرجم ، وكذلك قصة اليهوديين اللذين رجمهما - صلى الله عليه وسلم - ليس فيها إلا الرجم ولم يذكر فيها جلد ، هذا هو حاصل ما احتج به أهل هذا القول .

وأما الذين قالوا : إن الجمع بين الرجم والجلد خاص بالشيخ والشيخة ، وأما الشاب فيجلد إن لم يحصن ويرجم فقط إن أحصن ، فقد احتجوا بلفظ الآية التي نسخت تلاوتها ، وهي قوله تعالى : ( الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ) إلى آخره ، قالوا : فرجم الشيخ والشيخة ثبت بهذه الآية ، وإن نسخت تلاوتها فحكمها باق ، وقال ابن حجر في " الفتح " : وقال عياض : شذت فرقة من أهل الحديث ، فقالت : الجمع على الشيخ الثيب دون الشاب ، ولا أصل له . وقال النووي : هو مذهب باطل كذا قاله ، ونفى أصله ، ووصفه بالبطلان إن أراد به طريقه فليس بجيد ; لأنه ثابت كما سأبينه في باب البكران يجلدان وإن كان المراد دليله ففيه نظر أيضا ; لأن الآية وردت بلفظ : ( الشيخ ) ففهم هؤلاء من تخصيص الشيخ بذلك أن الشاب أعذر منه في الجملة فهو معنى مناسب ، وفيه جمع بين الأدلة فكيف يوصف بالبطلان ، انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .

وقد قال صاحب " فتح الباري " : إن هذا القول حكاه ابن المنذر وابن حزم ، عن أبي بن كعب زاد ابن حزم وأبو ذر وابن عبد البر ، عن مسروق ، انتهى .

[ ص: 397 ] وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وحججهم ، فاعلم أن كل طائفة منهم ترجح قولها على قول الأخرى .

أما الذين قالوا : يجمع بين الجلد والرجم للمحصن ، فقد قالوا هذا القول ، هو أرجح الأقوال ، ولا ينبغي العدول عنه ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن المحصن يجلد ويرجم بالحجارة ، فهو حديث صحيح صريح في محل النزاع ، فلا يعارض بعدم ذكر الجلد في قصة ماعز ، والجهنية ، والغامدية ، واليهوديين ; لأن ما صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعدل عنه بأمر محتمل ، ويجوز أن يكون الجلد وقع لماعز ومن ذكر معه ولم يذكره الرواة ; لأن عدم ذكره لا يدل دلالة قطعية على عدم وقوعه ، لأن الراوي قد يتركه لظهوره ، وأنه معروف عند الناس جلد الزاني ، قالوا : والمحصن داخل قطعا في عموم الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، وهذا العموم القرآني لا يجوز العدول عنه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وعدم ذكر الجلد مع الرجم لا يعارض الأدلة الصريحة في القرآن ، والسنة الصحيحة ، قالوا : وعمل أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - به بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه لم ينسخ ، ولم يعلم أن أحدا من الصحابة أنكر عليه ذلك ، ولا تخفى قوة هذا الاستدلال الذي استدل به أهل هذا القول .

وأما الذين قالوا : بأن المحصن يرجم فقط ولا يجلد ، فقد رجحوا أدلتهم بأنها متأخرة عن حديث عبادة بن الصامت ، الذي فيه التصريح بالجمع بين الرجم والجلد ، والعمل بالمتأخر أولى ، والحق أنها متأخرة عن حديث عبادة المذكور ; كما يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - " : قد جعل الله لهن سبيلا " ، فهو دليل على أن حديث عبادة ، هو أول نص ورد في حد الزنا كما هو ظاهر من الغاية في قوله تعالى : حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا [ 4 \ 15 ] ، قالوا : ومن أصرح الأدلة في أن الجمع بين الجلد والرجم منسوخ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في قصة العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده " : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله " ، وهذا قسم منه - صلى الله عليه وسلم - أنه يقضي بينهما بكتاب الله ، ثم قال في الحديث الذي أقسم على أنه قضاء بكتاب الله " : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، قالوا : إن قوله " : فإن اعترفت " شرط ، وقوله " : فارجمها " جزاء هذا الشرط ، فدل الربط بين الشرط ، وجزائه على أن جزاء اعترافها هو الرجم وحده ، وأن ذلك قضاء بكتاب الله تعالى .

[ ص: 398 ] وهذا دليل من لفظ النبي الصريح على أن جزاء اعترافها بالزنا هو رجمها فقط ، فربط هذا الجزاء بهذا الشرط أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قضاء بكتاب الله وهو متأخر عن حديث عبادة ، لما قدمنا .

وهذا الدليل أيضا قوي جدا ، لأن فيه إقسامه - صلى الله عليه وسلم - بأن الاعتراف بالزنا من المحصن يترتب عليه الرجم ، ولا يخلو هذا الحديث من أحد أمرين : إما أن يكون - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على قوله " : فارجمها " ، أو يكون قال مع ذلك فاجلدها ، وترك الراوي الجلد ، فإن كان قد اقتصر على الرجم ، فذلك يدل على نسخ الجلد ; لأنه جعل جزاء الاعتراف الرجم وحده ; لأن ربط الجزاء بالشرط يدل على ذلك دلالة لفظية لا دلالة سكوت ، وإن كان قال مع الرجم : واجلدها ، وحذف الراوي الجلد ، فإن هذا النوع من الحذف ممنوع ; لأن حذف بعض جزاء الشرط مخل بالمعنى موهم غير المراد ، والحذف إن كان كذلك فهو ممنوع ، ولا يجوز للراوي أن يفعله والراوي عدل فلن يفعله .

وقد أوضحنا في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله : قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية [ 6 \ 145 ] ، أنه لا تعارض بين نصين ، مع اختلاف زمنهما ; كما هو التحقيق .

وأما القول الثالث وهو الفرق بين الشيخ والشاب ، وإن وجهه ابن حجر بما ذكرنا ، لا يخفى سقوطه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : دليل كل منهما قوي ، وأقربهما عندي : أنه يرجم فقط ، ولا يجلد مع الرجم لأمور :

منها : أنه قول جمهور أهل العلم ، ومنها : أن روايات الاقتصار على الرجم في قصة ماعز ، والجهنية ، والغامدية ، واليهوديين ، كلها متأخرة بلا شك عن حديث عبادة ، وقد يبعد أن يكون في كل منها الجلد مع الرجم ، ولم يذكره أحد من الرواة مع تعدد طرقها .

ومنها : أن قوله الثابت في الصحيح " : واغد يا أنيس إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها " ، تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن جزاء اعترافها رجمها ، والذي يوجد بالشرط هو الجزاء ، وهو في الحديث الرجم فقط .

ومنها : أن جميع الروايات المذكورة المقتضية لنسخ الجمع بين الجلد والرجم على أدنى الاحتمالات لا تقل عن شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات .
[ ص: 399 ] ومنها : أن الخطأ في ترك عقوبة لازمة أهون من الخطأ في عقوبة غير لازمة ، والعلم عند الله تعالى .
قال بعضهم : ويؤيده من جهة المعنى أن القتل بالرجم أعظم العقوبات فليس فوقه عقوبة ، فلا داعي للجلد معه ; لاندراج الأصغر في الأكبر .
فروع تتعلق بهذه المسألة .

الفرع الأول : إذا ثبت الزنا على الزاني فظن الإمام أنه بكر فجلده مائة ، ثم ثبت بعد جلده أنه محصن فإنه يرجم ، ولا ينبغي أن يختلف في هذا ، وقد قال أبو داود - رحمه الله - في سننه : حدثنا قتيبة بن سعيد ، قال : ثنا ( ح ) وثنا ابن السرح المعنى ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر - رضي الله عنه - : أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجلد الحد ، ثم أخبر أنه محصن ، فأمر به فرجم . قال أبو داود : روى هذا الحديث محمد بن بكر البرساني ، عن ابن جريج موقوفا على جابر ، ورواه أبو عاصم عن ابن جريج بنحو ابن وهب ، لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : إن رجلا زنى فلم يعلم بإحصانه ، فجلد ثم علم بإحصانه فرجم .

حدثنا محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى البزاز ، أخبرنا أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير ، عن جابر : أن رجلا زنى بامرأة فلم يعلم بإحصانه فجلد ، ثم علم بإحصانه فرجم ، اهـ من سنن أبي داود .

وقال الشوكاني - رحمه الله - في " نيل الأوطار " في حديث أبي داود هذا ، ما نصه : حديث جابر بن عبد الله سكت عنه أبو داود والمنذري ، وقدمنا في أول الكتاب أن ما سكتا عنه ، فهو صالح للاحتجاج به ، وقد أخرجه أبو داود عنه من طريقين ، ورجال إسناده رجال الصحيح ، وأخرجه أيضا النسائي ، اهـ منه .
الفرع الثاني : قد قدمنا في الروايات الصحيحة : أن الحامل من الزنا لا ترجم ، حتى تضع حملها وتفطمه ، أو يوجد من يقوم برضاعه ; لأن رجمها وهي حامل فيه إهلاك جنينها الذي في بطنها وهو لا ذنب له ، فلا يجوز قتله ، وهو واضح مما تقدم .
الفرع الثالث : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن وجب عليه الرجم ، هل يحفر له أو لا يحفر له ؟ فقال بعضهم : لا يحفر له مطلقا ، وقال بعضهم : يحفر لمن زنى مطلقا ، وقيل : [ ص: 400 ] يحفر للمرأة إن كان الزنا ثابتا بالبينة دون الإقرار ، واحتج من قال : بأن المرجوم لا يحفر له بما ثبت في صحيح مسلم وغيره ، عن أبي سعيد الخدري في قصة رجم ماعز ، ولفظ مسلم في صحيحه في المراد من الحديث ، قال : فما أوثقناه ، ولا حفرنا له . . . الحديث ، وفيه التصريح من أبي سعيد في هذا الحديث الصحيح : أنهم لم يحفروا له ، وقال النووي في شرح مسلم في الكلام على قول أبي سعيد :

فما أوثقناه ، ولا حفرنا له ما نصه : وفي الرواية الأخرى في صحيح مسلم ، فلما كان الرابعة حفر له حفرة ثم أمر به فرجم ، وذكر بعده في حديث الغامدية ، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها ، وأمر الناس فرجموها . أما قوله : فما أوثقناه فهكذا الحكم عند الفقهاء ، وأما الحفر للمرجوم والمرجومة ففيه مذاهب للعلماء .

قال مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد - رضي الله عنهم - في المشهور عنهم : لا يحفر لواحد منهما .

وقال قتادة ، وأبو ثور ، وأبو يوسف ، وأبو حنيفة في رواية : يحفر لهما .

وقال بعض المالكية : يحفر لمن يرجم بالبينة لا من يرجم بالإقرار .

وأما أصحابنا فقالوا : لا يحفر للرجل سواء ثبت زناه بالبينة أم بالإقرار .

وأما المرأة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا :

أحدها : يستحب الحفر لها إلى صدرها ، ليكون أستر لها .

والثاني : لا يستحب ولا يكره ، بل هو إلى خيرة الإمام .

والثالث : وهو الأصح إن ثبت زناها بالبينة استحب ، وإن ثبت بالإقرار فلا ، ليمكنها الهرب إن رجعت . فمن قال بالحفر لهما احتج بأنه حفر للغامدية ، وكذا لماعز في رواية ، ويجيب هؤلاء عن الرواية الأخرى في ماعز أنه لم يحفر له ، أن المراد حفيرة عظيمة أو غير ذلك من تخصيص الحفيرة .

وأما من قال : لا يحفر فاحتج برواية من روى : فما أوثقناه ، ولا حفرنا له ، وهذا المذهب ضعيف ; لأنه منابذ لحديث الغامدية ولرواية الحفر لماعز .

وأما من قال بالتخيير فظاهر ، وأما من فرق بين الرجل والمرأة ، فيحمل رواية الحفر لماعز على أنه لبيان الجواز ، وهذا تأويل ضعيف ، ومما احتج به من ترك الحفر حديث [ ص: 401 ] اليهوديين المذكور بعد هذا ، وقوله جعل يجنأ عليها ، ولو حفر لهما لم يجنأ عليها ، واحتجوا أيضا بقوله في حديث ماعز : فلما أذلقته الحجارة هرب ، وهذا ظاهر في أنه لم تكن حفرة والله أعلم ، انتهى كلام النووي ، وقد ذكر فيه أقوال أهل العلم في المسألة ، وبين حججهم ، وناقشها ، وقد ذكر في كلامه ، أن المشهور عن أبي حنيفة عدم الحفر للرجل والمرأة ، والظاهر أن المشهور عند الحنفية الحفر للمرأة دون الرجل ، وأنه لو ترك الحفر لهما معا فلا بأس ، قال صاحب كنز الدقائق في الفقه الحنفي : ويحفر لها في الرجم لا له ، وقال شارحه في تبيين الحقائق : ولا بأس بترك الحفر لهما ; لأنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك اهـ ، وقال ابن قدامة في " المغني " في الفقه الحنبلي : وإن كان الزاني رجلا أقيم قائما ، ولم يوثق بشيء ولم يحفر له ، سواء ثبت الزنا ببينة أو إقرار لا نعلم فيه خلافا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر لماعز .

قال أبو سعيد : لما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجم ماعز ، خرجنا به إلى البقيع فوالله ما حفرنا له ، ولا أوثقناه ، ولكنه قام لنا ، رواه أبو داود ; ولأن الحفر له ، ودفن بعضه عقوبة لم يرد بها الشرع في حقه ، فوجب ألا تثبت ، وإن كان امرأة فظاهر كلام أحمد أنها لا يحفر لها أيضا ، وهو الذي ذكره القاضي في الخلاف ، وذكر في المحرر أنه إن ثبت الحد بالإقرار لم يحفر لها ، وإن ثبت بالبينة حفر لها إلى الصدر .

قال أبو الخطاب : وهذا أصح عندي ، وهو قول أصحاب الشافعي لما روى أبو بكر ، وبريدة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة ، رواه أبو داود ، ولأنه أستر لها ، ولا حاجة لتمكينها من الهرب لكون الحد ثبت بالبينة ، فلا يسقط بفعل من جهتها بخلاف الثابت بالإقرار ، فإنها تترك على حال ، لو أرادت الهرب تمكنت منه ; لأن رجوعها عن إقرارها مقبول ، ولنا أن أكثر الأحاديث على ترك الحفر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحفر للجهنية ولا لماعز ، ولا لليهوديين ، والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ، ولا يقولون به ، فإن التي نقل عنه الحفر لها ثبت حدها بإقرارها ، ولا خلاف بيننا فيها ، فلا يسوغ لهم الاحتجاج به مع مخالفتهم له إذا ثبت هذا فإن ثياب المرأة تشد عليها كيلا تنكشف ، وقد روى أبو داود بإسناده عن عمران بن حصين ، قال : فأمر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - فشدت عليها ثيابها ، ولأن ذلك أستر لها ، اهـ من " المغني " .

[ ص: 402 ] وقد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم وأدلتهم في مسألة الحفر للمرجوم من الرجال والنساء .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أقوى الأقوال المذكورة دليلا بحسب صناعة أصول الفقه ، وعلم الحديث : أن المرجوم يحفر له مطلقا ذكرا كان أو أنثى ، ثبت زناه ببينة أو بإقرار ، ووجه ذلك أن قول أبي سعيد في صحيح مسلم : فما أوثقناه ولا حفرنا له ، يقدم عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث بريدة ، بلفظ : فلما كان الرابعة حفر له حفرة ، ثم أمر به فرجم ، اهـ ، وهو نص صحيح صريح في أن ماعزا حفر له .

وظاهر الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحافر له ، أي بأمره بذلك فبريدة مثبت للحفر ، وأبو سعيد ناف له ، والمقرر في الأصول وعلم الحديث : أن المثبت مقدم على النافي ، وتعتضد رواية بريدة هذه بالحفر لماعز بروايته أيضا في صحيح مسلم بنفس الإسناد : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالحفر للغامدية إلى صدرها ، وهذا نص صحيح صريح في الحفر للذكر والأنثى معا ، أما الأنثى فلم يرد ما يعارض هذه الرواية الصحيحة بالحفر لها إلى صدرها ، وأما الرجل فرواية الحفر له الثابتة في صحيح مسلم مقدمة على الرواية الأخرى في صحيح مسلم بعدم الحفر ; لأن المثبت مقدم على النافي .

وقول ابن قدامة في " المغني " : والحديث الذي احتجوا به غير معمول به ظاهر السقوط ; لأنه حديث صحيح وليس بمنسوخ ، فلا وجه لترك العمل به مع ثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم - كما ترى ، وبالرواية الصحيحة التي في صحيح مسلم من حديث بريدة : أنه - صلى الله عليه وسلم - حفر للغامدية ، وزناها ثبت بإقرارها ، لا ببينة تعلم أن الذين نفوا الحفر لمن ثبت زناها بإقرارها مخالفون لصريح النص الصحيح بلا مستند كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الرابع : اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيمن يبدأ بالرجم فقال بعضهم : إن كان الزنا ثابتا ببينة ، فالسنة أن يبدأ الشهود بالرجم ، وإن كان ثبت بإقرار بدأ به الإمام أو الحاكم ، إن كان ثبت عنده ، ثم يرجم الناس بعده ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، وأحمد ، ومن وافقهما ، واستدلوا لبداءة الشهود ، وبداءة الإمام بما ذكره ابن قدامة في الفقه الحنبلي ، وصاحب تبيين الحقائق في الفقه الحنفي .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:19 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (393)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 403 إلى صـ 410




قال صاحب " المغني " : وروى سعيد بإسناده عن علي - رضي الله عنه - ، أنه قال : [ ص: 403 ] الرجم رجمان ، فما كان منه بإقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس ، وما كان ببينة ، فأول من يرجم البينة ثم الناس ; ولأن فعل ذلك أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه ، اهـ منه .

وحاصل هذا الاستدلال : أثر مروي عن علي ، وكون مباشرتهم الرمي بالفعل أبعد لهم من التهمة في الكذب عليه ، وهذا كأنه استدلال عقلي لا نقلي ، اهـ .

وقال صاحب " تبيين الحقائق " في شرحه لقول صاحب " كنز الدقائق " : يبدأ الشهود به فإن أبوا سقط ثم الإمام ثم الناس ، ويبدأ الإمام ولو مقرا ثم الناس .

ما نصه : أي يبدأ الشهود بالرجم . وقال الشافعي : لا تشترط بداءتهم اعتبارا بالجلد ، ولنا ما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال حين رجم شراحة الهمدانية : إن الرجم سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولو كان شهد على هذه أحد لكان أول من يرمي الشاهد يشهد ، ثم يتبع شهادته حجره ولكنها أقرت فأنا أول من رماها بحجر ، قال الراوي : ثم رمى الناس وأنا فيهم ، ولأن الشاهد ربما يتجاسر على الشهادة ثم يستعظم المباشرة فيأبى أو يرجع ، فكان في بداءته احتيال للدرء بخلاف الجلد ، فإن كل أحد لا يحسنه ، فيخاف أن يقع مهلكا أو متلفا لعضو ، وهو غير مستحق ولا كذلك الرجم ; لأن الإتلاف فيه متعين .

قال - رحمه الله - : فإن أبوا سقط ، أي : إن أبى الشهود من البداءة سقط الحد لأنه دلالة الرجوع ، وكذلك إن امتنع واحد منهم ، أو جنوا ، أو فسقوا ، أو قذفوا فحدوا أو أحدهم ، أو عمي ، أو خرس ، أو ارتد ، والعياذ بالله تعالى ; لأن الطارئ على الحد قبل الاستيفاء كالموجود في الابتداء ، وكذا إذا غابوا أو بعضهم ، أو ماتوا أو بعضهم لما ذكرنا ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - ، وإحدى الروايتين عن أبي يوسف ، وروي عنه أنهم إذا امتنعوا أو ماتوا أو غابوا ، رجم الإمام ، ثم الناس ، وإن كان الشهود مرضى لا يستطيعون أن يرموا أو مقطوعي الأيدي رجم بحضرتهم بخلاف ما إذا قطعت أيديهم بعد الشهادة ، ذكره في النهاية .

قال - رحمه الله - : ثم الإمام ثم الناس لما روينا من أثر علي - رضي الله عنه - ، ويقصدون بذلك مقتله إلا من كان منهم ذا رحم محرم منه ، فإنه لا يقصد مقتله ; لأن بغيره كفاية .

وروي أن حنظلة استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبيه ، وكان كافرا فمنعه من ذلك ، وقال " : دعه يكفيك غيرك " ; ولأنه مأمور بصلة الرحم ، فلا يجوز القطع من غير حاجة .

[ ص: 404 ] قال - رحمه الله - : ويبدأ الإمام ، ولو مقرا ثم الناس ، أي : يبدأ الإمام بالرجم إن كان الزاني مقرا لما روينا من أثر علي - رضي الله عنه - ; ورمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغامدية بحصاة مثل الحمصة ، ثم قال للناس " : ارموا " ، وكانت أقرت بالزنا ، انتهى محل الغرض من " تبيين الحقائق " ممزوجا بنص " كنز الدقائق " .

هذا حاصل ما استدل به من قال ببداءة الشهود أو الإمام .

وذهب مالك وأصحابه ومن وافقهم ، إلى أنه لا تعيين لمن يبدأ من شهود ولا إمام ، ولا غيرهم ، واحتج مالك لهذا بأنه لم يعلم أحدا من الأئمة تولى ذلك بنفسه ، ولا ألزم به البينة .

قال الشيخ المواق في شرحه لقول خليل في مختصره المالكي : ولم يعرف بداءة البينة ، ولا الإمام ، ما نصه : قال مالك : مذ أقامت الأئمة الحدود ، فلم نعلم أحدا منهم تولى ذلك بنفسه ، ولا ألزم ذلك البينة خلافا لأبي حنيفة القائل : إن ثبت الزنا ببينة بدأ الشهود ثم الإمام ثم الناس ، اهـ منه ، واستدل له بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ برجم ماعز ، وأنه قال لأنيس " : فإن اعترفت فارجمها " ، ولم يحضر - صلى الله عليه وسلم - ليبدأ برجمها ، وقول مالك - رحمه الله - إنه لم يعلم أحدا تولى ذلك بنفسه من الأئمة ، ولا ألزم به البينة يدل على أنه لم يبلغه أثر علي أو بلغه ولم يصح عنده . وكذلك الحديث المرفوع الذي استدل به القائلون ببداءة الشهود والإمام ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى الغامدية بحصاة كالحمصة ، ثم قال للناس " : ارموا " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما هذا الحديث المرفوع ، فليس بثابت ، ولا يصلح للاحتجاج ; لأن في إسناده راويا مبهما .

قال أبو داود - رحمه الله - في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع بن الجراح ، عن زكريا أبي عمران ، قال : سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة ، عن أبيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة فحفر لها إلى الثندوة ، ثم قال أبو داود : حدثت عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : حدثنا زكرياء بن سليم بإسناده نحوه زاد :

ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ، ثم قال " : ارموا واتقوا الوجه " الحديث ، وهذا الإسناد الذي فيه زيادة ، ثم رماها بحصاة مثل الحمصة ، هو بعينه الإسناد الذي فيه قال : سمعت شيخا يحدث عن ابن أبي بكرة ، وهذا الشيخ الذي حدث عن ابن أبي بكرة لم يدر أحد من هو ، فهو مبهم ، والمبهم [ ص: 405 ] مجهول العين والعدالة ، فلا يحتج به ، كما ترى . وقال صاحب " نصب الراية " في هذا الحديث بعد أن ذكر رواية أبي داود التي سقناها آنفا : رواه النسائي في الرجم .

حدثنا محمد بن حاتم عن حبان بن موسى ، عن عبد الله ، عن زكريا أبي عمران البصري ، قال : سمعت شيخا يحدث عن عبد الرحمن بن أبي بكرة بهذا الحديث بتمامه ، ورواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه .

قال البزار : ولا نعلم أحدا سمى هذا الشيخ وتراجع ألفاظهم ، وذكره عبد الحق في أحكامه من جهة النسائي ، ولم يعله بغير الانقطاع ، اهـ منه ، وأي علة أعظم من الانقطاع بإبهام الشيخ المذكور .

فتحصل أن الحديث المرفوع ضعيف ليس بصالح للاحتجاج .

أما الأثر المروي عن علي - رضي الله عنه - ، فقد قال البيهقي في سننه الكبرى في باب من اعتبر حضور الإمام والشهود ، وبداءة الإمام بالرجم ، ما نصه : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني ، ثنا أبو الجواب ، ثنا عمار هو ابن رزيق ، عن أبي حصين عن الشعبي ، قال : أتي علي - رضي الله عنه - بشراحة الهمدانية قد فجرت فردها حتى ولدت ، فلما ولدت قال : ائتوني بأقرب النساء منها ، فأعطاها ولدها ثم جلدها ورجمها ، ثم قال : جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بالسنة ، ثم قال : أيما امرأة نعي عليها ولدها أو كان اعتراف ، فالإمام أول من يرجم ، ثم الناس ، فإن نعاها الشهود فالشهود أول من يرجم ، ثم الإمام ، ثم الناس . وأخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي ، أنبأ أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني ، ثنا محمد بن عبد الوهاب ، أنبأ جعفر بن عون ، أنبأ الأجلح عن الشعبي ، قال : جيء بشراحة الهمدانية إلى علي - رضي الله عنه - ، فقال لها : ويلك لعل رجلا وقع عليك وأنت نائمة ؟ قالت : لا ، قال لعلك استكرهت ؟ قالت : لا ، قال : لعل زوجك من عدونا هذا أتاك فأنت تكرهين أن تدلي عليه ، يلقنها لعلها تقول نعم ، قال : فأمر بها فحبست ، فلما وضعت ما في بطنها أخرجها يوم الخميس فضربها مائة ، وحفر لها يوم الجمعة في الرحبة فأحاط الناس بها ، وأخذوا الحجارة ، فقال : ليس هكذا الرجم ، إنما يصيب بعضكم بعضا ، صفوا كصف الصلاة صفا خلف صف ; ثم قال : أيها الناس أيما امرأة جيء بها وبها حبل ، يعني : أو اعترفت ، فالإمام أول من يرجم ، ثم الناس ، وأيما امرأة جيء بها أو رجل زان فشهد عليه أربعة بالزنا [ ص: 406 ] فالشهود أول من يرجم ، ثم الإمام ثم الناس ، ثم أمرهم فرجم صف ثم صف ، ثم قال : افعلوا بها ما تفعلون بموتاكم .

قال الشيخ - رحمه الله - : قد ذكرنا أن جلد الثيب صار منسوخا ، وأن الأمر صار إلى الرجم فقط ، اهـ ، من السنن الكبرى بلفظه ، وذلك يدل على أن المرجوم يغسل ويكفن ويصلى عليه ، وهو كذلك ، وقد جاءت النصوص بالصلاة على المرجوم ; كما هو معلوم .

وقال صاحب " نصب الراية " في أثر علي هذا ، ما نصه : قلت : أخرجه البيهقي في سننه عن الأجلح عن الشعبي ، قال : جيء بشراحة الهمدانية إلى علي - رضي الله عنه - إلى آخر ما ذكرنا ، عن البيهقي باللفظ الذي سقناه به ، والعجب من صاحب نصب الراية ، حيث اقتصر على رواية البيهقي للأثر المذكور من طريق الأجلح عن الشعبي ، ولم يشر إلى الرواية الأولى التي سقناها التي الراوي فيها عن الشعبي أبو حصين فاقتصاره على رواية الأجلح عن الشعبي وتركه للرواية التي ذكرنا أولا لا وجه له .

والأجلح المذكور في الإسناد المذكور ، هو : ابن عبد الله بن حجية بالمهملة والجيم مصغرا ، ويقال : ابن معاوية ، يكنى أبا حجية الكندي ، ويقال : اسمه يحيى ، قال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق شيعي ، وقال عنه في " تهذيب التهذيب " : قال القطان : في نفسي منه شيء ، وقال أيضا : ما كان يفصل بين الحسين بن علي وعلي بن الحسين . وقال أحمد : أجلح ومجالد متقاربان في الحديث ، وقد روى الأجلح غير حديث منكر ، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه : ما أقرب الأجلح من فطر بن خليفة ، وقال ابن معين : صالح ، وقال مرة : ثقة ، وقال مرة : ليس به بأس ، وقال العجلي : كوفي ثقة ، وقال أبو حاتم : ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به ، وقال النسائي : ضعيف ليس بذاك ، وكان له رأي سوء ، وقال الجوزجاني : مفتر ، وقال ابن عدي : له أحاديث صالحة ، ويروي عنه الكوفيون وغيرهم ، ولم أر له حديثا منكرا مجاوزا للحد لا إسنادا ولا متنا إلا أنه يعد في شيعة الكوفة ، وهو عندي مستقيم الحديث صدوق . وقال شريك عن الأجلح : سمعنا أنه ما يسب أبا بكر وعمر أحد إلا مات قتلا أو فقيرا ، وقال عمرو بن علي : مات سنة مائة وخمس وأربعين في أول السنة ، وهو رجل من بجيلة مستقيم الحديث صدوق .

قلت : ليس هو من بجيلة ، وقال أبو داود : ضعيف ، وقال مرة : زكريا أرفع منه بمائة درجة ، وقال ابن سعد : كان ضعيفا جدا ، وقال العقيلي : روى عن الشعبي أحاديث [ ص: 407 ] مضطربة لا يتابع عليها ، وقال يعقوب بن سفيان : ثقة ، حديثه لين ، وقال ابن حبان : كان لا يدري ما يقول جعل أبا سفيان أبا الزبير ، انتهى منه .

وقد رأيت كثرة الاختلاف في الأجلح المذكور إلا أن روايته لهذا الأثر عن الشعبي عن علي تعتضد برواية أبي الحصين له عن الشعبي ، عن علي ، وأبو حصين المذكور ، هو بفتح الحاء ، وهو عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي الكوفي أخرج له الجميع ، وقال فيه في " التقريب " : ثقة ثبت سني وربما دلس ، اهـ .

وإذا علمت أقوال أهل العلم في بداءة الشهود والإمام بالرجم وما احتج به كل منهم .

فاعلم : أن أظهر القولين هو قول من قال ببداءة الشهود أو الإمام ، كما ذكرنا ، وقول الإمام مالك - رحمه الله - : إنه لم يعلم أحدا من الأئمة فعله ، يقتضي أنه لم يبلغه أثر علي - رضي الله عنه - المذكور ، ولو بلغه لعمل به ، والظاهر أن له حكم الرفع ; لأنه لا يظهر أنه يقال من جهة الرأي ، وإن كان الكلام الذي قدمنا عن صاحب " المغني " ، وصاحب " تبيين الحقائق " يقتضي أن مثله يقال بطريق الرأي للتعليل الذي عللوا به القول به ، وقال صاحب " نصب الراية " بعد أن ذكر رواية البيهقي للأثر المذكور عن علي من طريق الأجلح ، عن الشعبي ما نصه : ورواه أحمد في مسنده ، عن يحيى بن سعيد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، ثم ساق متن رواية الإمام أحمد بنحو ما قدمنا ، ثم قال : ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن يزيد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن عليا - رضي الله عنه - ، ثم ساق الأثر بنحو ما قدمنا ، ثم قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن الحسن بن سعيد ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن علي ، ثم ساق الأثر المذكور بنحو ما قدمنا ، اهـ .

وهذه الروايات يعضد بعضها بعضا وهي تدل على أن عليا كان يقول ببداءة الإمام في الإقرار وبداءة الشهود في البينة ، وإن كان له حكم الرفع فالأمر واضح ، وإن كان له حكم الوقف فهي فتوى وفعل من خليفة راشد ، ولم يعلم أن أحدا أنكر عليه ، ولهذا استظهرنا بداءة البينة والإمام في الرجم ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : اعلم أن المرجوم إذا هرب في أثناء الرجم عندما وجد ألم الضرب بالحجارة ، فإن كان زناه ثابتا ببينة ، فلا خلاف في أنهم يتبعونه حتى يدركوه ، فيرجموه [ ص: 408 ] لوجوب إقامة الحد عليه الذي هو الرجم بالبينة ، وإن كان زناه ثابتا بإقرار ، فقد اختلف أهل العلم فيه .

قال النووي في شرح مسلم : اختلف العلماء في المحصن : إذا أقر بالزنا فشرعوا في رجمه ، ثم هرب هل يترك أم يتبع ليقام عليه الحد ؟ فقال الشافعي وأحمد وغيرهما : يترك ، ولا يتبع لكي يقال له بعد ذلك ، فإن رجع عن الإقرار ترك ، وإن أعاد رجم .

وقال مالك في رواية وغيره : إنه يتبع ويرجم ، واحتج الشافعي وموافقوه بما جاء في رواية أبي داود : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : ألا تركتموه حتى أنظر في شأنه " ؟ وفي رواية " : هلا تركتموه فلعله يتوب فيتوب الله عليه " ، واحتج الآخرون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزمهم ذنبه ، مع أنهم قتلوه بعد هربه ، وأجاب الشافعي وموافقوه عن هذا بأنه لم يصرح بالرجوع ، وقد ثبت إقراره فلا يترك حتى يصرح بالرجوع ، قالوا : وإنما قلنا لا يتبع في هربه لعله يريد الرجوع ، ولم نقل إنه سقط الرجم بمجرد الهرب ، والله أعلم ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أنه إن هرب في أثناء الرجم لا يتبع بل يمهل حتى ينظر في أمره ، فإن صرح بالرجوع ترك ، وإن تمادى على إقراره رجم ، ويدل لهذا ما في رواية أبي داود التي أشار لها النووي ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة : اعلم أن البكر من الرجال والنساء ، إذا زنا وجب جلده مائة جلدة كما هو نص الآية الكريمة ، ولا خلاف فيه ، ولكن العلماء اختلفوا هل يغرب سنة مع جلده مائة أو لا يغرب ؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن البكر يغرب سنة مع الجلد . قال ابن قدامة في " المغني " : وهو قول جمهور أهل العلم ، روي ذلك عن الخلفاء الراشدين ، وبه قال أبي وابن مسعود ، وابن عمر - رضي الله عنهم - ، وإليه ذهب عطاء ، وطاوس ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وقال مالك والأوزاعي : يغرب الرجل دون المرأة ، وقال أبو حنيفة ومحمد : لا يجب التغريب على ذكر ولا أنثى ، وقال النووي في شرح مسلم : قال الشافعي والجماهير : ينفى سنة رجلا كان أو امرأة . وقال الحسن : لا يجب النفي ، وقال مالك والأوزاعي : لا نفي على النساء ، وروي مثله عن علي - رضي الله عنه - إلى أن قال : وأما العبد والأمة ففيهما ثلاثة أقوال للشافعي :

[ ص: 409 ] أحدها : يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث ، وبهذا قال سفيان الثوري ، وأبو ثور ، وداود ، وابن جرير .

والثاني : يغرب نصف سنة ; لقوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا ، وهذه الآية مخصصة لعموم الحديث ، والصحيح عند الأصوليين : جواز تخصيص السنة بالكتاب ; لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة به أولى .

والثالث : لا يغرب المملوك أصلا ، وبه قال الحسن البصري ، وحماد ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الأمة إذا زنت " : فليجلدها " ، ولم يذكر النفي ، ولأن نفيه يضر سيده مع أنه لا جناية من سيده ، وأجاب أصحاب الشافعي عن حديث الأمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرض للنفي ، والآية ظاهرة في وجوب النفي ، فوجب العمل بها ، وحمل الحديث على موافقتها ، والله أعلم ، اهـ كلام النووي ، وقوله : إن الآية ظاهرة في وجوب النفي ليس بظاهر ، فانظره .

وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، وأن الأئمة الثلاثة : مالكا ، والشافعي ، وأحمد ، متفقون على تغريب الزاني البكر الحر الذكر ، وإن وقع بينهم خلاف في تغريب الإناث والعبيد ، وعلمت أن أبا حنيفة ، ومن ذكرنا معه يقولون : بأنه لا يجب التغريب على الزاني مطلقا ذكرا كان أو أنثى ، حرا أو عبدا ، فهذه تفاصيل أدلتهم .

أما الذين قالوا : يغرب البكر الزاني سنة ، فاحتجوا بأن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وباقي الجماعة في حديث العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده ، وفيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام " الحديث ، وفيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - برواية صحابيين جليلين أنه أقسم ليقضين بينهما بكتاب الله ، ثم صرح بأن من ذلك القضاء بكتاب الله جلد ذلك الزاني البكر مائة وتغريبه عاما ، وهذا أصح نص وأصرحه في محل النزاع . ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه وغيره وهو حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - الذي قدمناه ، وفيه " : البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة " ، وهو أيضا نص صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريح في محل النزاع ، واحتج الحنفية ومن وافقهم من الكوفيين على عدم التغريب بأدلة :

[ ص: 410 ] منها : أن التغريب سنة زيادة على قوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، والمقرر في أصول الحنفية هو أن الزيادة على النص نسخ له ، وإذا كانت زيادة التغريب على الجلد في الآية تعتبر نسخا للآية فهم يقولون : إن الآية متواترة ، وأحاديث التغريب أخبار آحاد ، والمتواتر عندهم لا ينسخ بالآحاد ، وقد قدمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك أن كلا الأمرين ليس بمسلم ، أما الأول منهما وهو أن كل زيادة على النص ، فهي ناسخة له ليس بصحيح ; لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق ، إلا إن كانت مثبتة شيئا قد نفاه النص أو نافية شيئا أثبته النص ، أما إذا كانت زيادة شيء سكت عنه النص السابق ، ولم يتعرض لنفيه ، ولا لإثباته فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية ، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد دليل ناقل عنه ، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتا بدليل شرعي .

وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا [ 6 \ 145 ] .

وفي سورة " الحج " في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل على آيات " الحج " وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:37 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (394)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 411 إلى صـ 418





وأما الأمر الثاني : وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد ; فقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على آية " الأنعام " المذكورة آنفا ، أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطا لا شك فيه ، وأن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد ; إذا ثبت تأخرها عنه ، ولا منافاة بينهما أصلا ، حتى يرجح المتواتر على الآحاد ، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين ; لأن كلا منهما حق في وقته ، فلو قالت لك جماعة من العدول : إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن ، ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته ، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحق بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة ; لأن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم ، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك فأخبرك ذلك الإنسان بقدومه وهو صادق ، وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور ; فالمتواتر في وقته قطعي ، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي ، [ ص: 411 ] فنسخه بالآحاد إنما نفى استمرار حكمه ، وقد عرفت أنه ليس بقطعي ، كما ترى .

ومن أدلتهم على عدم التغريب : حديث سهل بن سعد الساعدي عند أبي داود ، وقد قدمناه : أن رجلا أقر عنده - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة سماها فأنكرت أن تكون زنت ، فجلده الحد ، وتركها ، وما رواه أبو داود أيضا عن ابن عباس : أن رجلا من بكر بن ليث أقر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة أربع مرات ، وكان بكرا فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ، وسأله - صلى الله عليه وسلم - البينة على المرأة إذ كذبته ، فلم يأت بها ; فجلده حد الفرية ثمانين جلدة ، قالوا : ولو كان التغريب واجبا لما أخل به النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومن أدلتهم أيضا : الحديث الصحيح " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها " الحديث ، وهو متفق عليه ، ولم يذكر فيه التغريب مع الجلد ، فدل ذلك على أن التغريب منسوخ ، وهذا الاستدلال لا ينهض لمعارضة النصوص الصحيحة الصريحة التي فيها إقسامه - صلى الله عليه وسلم - أن الجمع بين جلد البكر ، ونفيه سنة قضاء منه - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله .

وإيضاح ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله ، وهذا النص الصحيح بالغ من الصراحة في محل النزاع ، ما لم يبلغه شيء آخر يعارض به .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين ، وقد أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله ، قال : وخطب بذلك عمر - رضي الله عنه - على رءوس المنابر ، وعمل به الخلفاء الراشدون ، ولم ينكره أحد فكان إجماعا ، اهـ منه .

وذكر مرجحات أخرى متعددة لوجوب التغريب .

والحاصل : أن حديث أبي داود الذي استدلوا به من حديث سهل بن سعد وابن عباس ليس فيه ذكر التغريب ، ولا التصريح بعدمه ، ولم يعلم هل هو قبل حديث الإقسام ، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله أو بعده ؟ فعلى أن المتأخر الإقسام المذكور فالأمر واضح ، وعلى تقدير أن الإقسام هو المتقدم ، فذلك التصريح ، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله مع الإقسام على ذلك لا يصح رفعه بمحتمل ; ولو تكررت الروايات به تكررا كثيرا ، وعلى أنه لا يعرف المتقدم منهما كما هو الحق ، فالحديث المتفق عليه عن صحابيين جليلين هما : أبو هريرة ، وزيد بن خالد الجهني الذي فيه الإقسام بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله ، لا شك في تقديمه على حديث أبي داود الذي هو دونه في السند والمتن . أما [ ص: 412 ] كونه في السند فظاهر ، وأما كونه في المتن فلأن حديث أبي داود ليس فيه التصريح بنفي التغريب ، والصريح مقدم على غير الصريح كما هو معروف في الأصول ، وبه تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه جمع الجلد والتغريب .

وأما الاستدلال بحديث الأمة فليس بوجيه لاختلاف الأمة والأحرار في أحكام الحد ، فهي تجلد خمسين ، ولو محصنة ، ولا ترجم ، والأحرار بخلاف ذلك ، فأحكام الأحرار والعبيد في الحدود قد تختلف .

وقد بينت آية " النساء " اختلاف الحرة والأمة في حكم حد الزنا من جهتين :

إحداهما : أنها صرحت بأنها إن كانت محصنة ، فعليها الجلد لا الرجم .

والثانية : أن عليها نصفه ، وذلك في قوله : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، فتأمل قوله : فإذا أحصن ، وقوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، يظهر لك ما ذكرنا .

ومما ذكرنا تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه هو وجوب تغريب البكر سنة مع جلده مائة لصراحة الأدلة الصحيحة في ذلك ، والعلم عند الله تعالى .


فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن الذين قالوا بالتغريب ، وهم الجمهور ، اختلفوا في تغريب المرأة ، فقال جماعة من أهل العلم : تغرب المرأة سنة لعموم أدلة التغريب ، وممن قال به : الشافعي وأحمد ، وقال بعض أهل العلم : لا تغريب على النساء ، وممن قال به مالك والأوزاعي ، وروي مثله عن علي - رضي الله عنه - .

أما حجة من قال بتغريب النساء فهي عموم أدلة التغريب ، وظاهرها شمول الأنثى ، وأما الذين قالوا : لا تغريب على النساء ، فقد احتجوا بالأحاديث الصحيحة الواردة بنهي المرأة عن السفر ، إلا مع محرم أو زوج .

وقد قدمناها في سورة " النساء " في الكلام على مسافة القصر ، قالوا : لا يجوز سفرها دون محرم ، ولا يكلف محرمها بالسفر معها ; لأنه لا ذنب له يكلف السفر بسببه ، قالوا : ولأن المرأة عورة وفي تغريبها تضييع لها ، وتعريض لها للفتنة ، ولذلك نهيت عن السفر إلا [ ص: 413 ] مع محرم أو زوج ، قالوا : وغاية ما في الأمر ، أن عموم أحاديث التغريب بالنسبة إلى النساء خصصته أحاديث نهي المرأة عن السفر إلا مع محرم أو زوج ، وهذا لا إشكال فيه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أنها إن وجد لها محرم متبرع بالسفر معها إلى محل التغريب مع كون محل التغريب محل مأمن لا تخشى فيه فتنة ، مع تبرع المحرم المذكور بالرجوع معها إلى محلها ، بعد انتهاء السنة ، فإنها تغرب ; لأن العمل بعموم أحاديث التغريب لا معارض له في الحالة المذكورة ، وأما إن لم تجد محرما متبرعا بالسفر معها ، فلا يجبر ; لأنه لا ذنب له ، ولا تكلف هي السفر بدون محرم ، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك .

وقد قدمنا مرارا أن النص الدال على النهي يقدم على الدال على الأمر على الأصح ; لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وهذا التفصيل الذي استظهرنا لم نعلم أحدا ذهب إليه ، ولكنه هو الظاهر من الأدلة ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : اعلم أن العلماء اختلفوا في تغريب العبد والأمة ، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في ذلك .

وأظهر أقوالهم عندنا : أن المملوك لا يغرب ، لأنه مال ، وفي تغريبه إضرار بمالكه ، وهو لا ذنب له ، ويستأنس له بأنه لا يرجم ، ولو كان محصنا ; لأن إهلاكه بالرجم إضرار بمالكه ، ويؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها " الحديث ، ولم يذكر تغريبا ، وقد فهم البخاري - رحمه الله - عدم نفي الأمة من الحديث المذكور ، ولذا قال في ترجمته : باب لا يثرب على الأمة إذا زنت ولا تنفى .

وقد قدمنا اختلاف الأصوليين في العبيد هل يدخلون في عموم نصوص الشرع ، لأنهم من جملة المكلفين ، أو لا يدخلون في عموم النصوص ، إلا بدليل منفصل لكثرة خروجهم من عموم النصوص ، كما تقدم إيضاحه .

وقد قدمنا أن الصحيح هو دخولهم في عموم النصوص إلا ما أخرجهم منه دليل ، واعتمده صاحب " مراقي السعود " ، بقوله :



والعبد والموجود والذي كفر مشمولة له لدى ذوي النظر

وإخراجهم هنا من نصوص التغريب ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بجلد الأمة الزانية وبيعها ، ولم [ ص: 414 ] يذكر تغريبها ، ولأنهم مال ، وفي تغريبهم إضرار بالمالك ، وفي الحديث " : لا ضرر ولا ضرار " ، والعلم عند الله تعالى .

تنبيه .

أظهر القولين عندي : أنه لا بد في التغريب من مسافة تقصر فيها الصلاة ; لأنه فيما دونها له حكم الحاضر بالبلد الذي زنى فيه .

وأظهر القولين أيضا عندي أن المغرب يسجن في محل تغريبه ; لأن السجن عقوبة زائدة على التغريب ، فتحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليها ، والعلم عند الله تعالى .

والأظهر أن الغريب إذا زنى غرب من محل زناه إلى محل آخر غير وطنه الأصلي .
المسألة السادسة : اعلم أن من أقر بأنه أصاب حدا ، ولم يعين ذلك الحد ، فإنه لا يجب عليه الحد ، لعدم التعيين وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ، لما ثبت في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - ، قال : كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل ، فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقمه علي ، قال : ولم يسأله عنه ، قال : وحضرت الصلاة فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة ، قام إليه الرجل ، فقال : يا رسول الله إني أصبت حدا فأقم في كتاب الله ، قال " : أليس صليت معنا " ؟ قال : نعم ، قال " : فإن الله قد غفر لك ذنبك " ، أو قال " : حدك " ، هذا لفظ البخاري في صحيحه ، والحديث متفق عليه ، ولمسلم وأحمد من حديث أبي أمامة نحوه : وهو نص صحيح صريح في أن من أقر بحد ولم يسمه ، لا حد عليه كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة : في حكم رجوع الزاني المقر بالزنى أو رجوع البينة قبل إتمام إقامة الحد عليه .

أما الزاني المقر بزناه إذا رجع عن إقراره ، سقط عنه الحد ، ولو رجع في أثناء إقامة الحد من جلد أو رجم ، هذا هو الظاهر .

قال ابن قدامة : وبه قال عطاء ، ويحيى بن يعمر ، والزهري ، وحماد ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، وقد حكى ابن قدامة خلاف هذا عن جماعة وروايته عن مالك ضعيفة .

والظاهر لنا هو ما ذكرنا من سقوط الحد عنه برجوعه عن إقراره ، ولو في أثناء إقامة [ ص: 415 ] الحد لما قدمنا من حديث أبي داود وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهم لما تبعوا ماعزا بعد هربه " : ألا تركتموه ؟ " ، وفي رواية " : هلا تركتموه ؟ فلعله يتوب فيتوب الله عليه " ، وفي ذلك دليل على قبول رجوعه ، وعليه أكثر أهل العلم ، وهو الحق إن شاء الله تعالى ، وأما رجوع البينة أو بعضهم فلم أعلم فيه بخصوصه نصا من كتاب ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه .

واعلم : أن له حالتين :

إحداهما : أن يكون رجوعهم ، أو رجوع بعضهم قبل إقامة الحد على الزاني بشهادتهم .

والثانية : أن يكون رجوعهم ، أو رجوع بعضهم بعد إقامة الحد عليه ، والحد المذكور قد يكون جلدا ، وقد يكون رجما ، فإذا رجعوا كلهم أو واحد منهم قبل إقامة الحد ، فقد قال في ذلك ابن قدامة في " المغني " : فإن رجعوا عن الشهادة ، أو واحد منهم فعلى جميعهم الحد في أصح الروايتين ، وهو قول أبي حنيفة ، والثانية : يحد الثلاثة دون الراجع ، وهو اختيار أبي بكر ، وابن حامد ; لأنه إذا رجع قبل الحد فهو كالتائب قبل تنفيذ الحكم بقوله ، فسقط عنه الحد ، ولأن في درء الحد عنه تمكينا له من الرجوع الذي يحصل به مصلحة المشهود عليه ، وفي إيجاب الحد زجر له عن الرجوع خوفا من الحد ، فتفوت تلك المصلحة ، وتتحقق المفسدة ، فناسب ذلك نفي الحد عنه ، وقال الشافعي : يحد الراجع دون الثلاثة ; لأنه مقر على نفسه بالكذب في قذفه . وأما الثلاثة فقد وجب الحد بشهادتهم ، وإنما سقط بعد وجوبه برجوع الراجع ، ومن وجب الحد بشهادته لم يكن قاذفا فلم يحد ، كما لو لم يرجع ، ولنا أنه نقص العدد بالرجوع قبل إقامة الحد ، فلزمهم الحد كما لو شهد ثلاثة وامتنع الرابع من الشهادة ، وقولهم : وجب الحد بشهادتهم يبطل بما إذا رجعوا كلهم ، وبالراجع وحده ، فإن الحد وجب ، ثم سقط ، ووجب الحد عليهم بسقوطه ، ولأن الحد إذا وجب على الراجع مع المصلحة في رجوعه ، وإسقاط الحد عن المشهود عليه بعد وجوبه ، وإحيائه المشهود عليه بعد إشرافه على التلف فعلى غيره أولى ، انتهى من " المغني " .

وحاصله : أنهم إن رجعوا كلهم حدوا كلهم ، وإن رجع بعضهم ، ففي ذلك ثلاثة أقوال :

الأول : يحدون كلهم .

[ ص: 416 ] والثاني : يحد من لم يرجع دون من رجع .

والثالث : عكسه ، كما هو واضح من كلامه .

والأظهر : أنهم إن رجعوا بعد الحكم عليه بالرجم أو الجلد بشهادتهم أنه لا يقام عليه الحد ، لرجوع الشهود أو بعضهم ، وقول بعض المالكية : إن الحكم ينفذ عليه ، ولو رجعوا كلهم أو بعضهم قبل التنفيذ خلاف التحقيق ، وإن كان المعروف في مذهب مالك أن الحكم إذا نفذ بشهادة البينة ، أنه لا ينقض برجوعهم وإنما ينقض بظهور كذبهم ; لأن هذا لم يعمموه في الشهادة المفضية إلى القتل لعظم شأنه ، والأظهر أنه لا يقتل بشهادة بينة كذبت أنفسها ، فيما شهدت عليه به ، كما لا يخفى . وأما إن كان رجوع البينة بعد إقامة الحد ، فالأظهر أنه إن لم يظهر تعمدهم الكذب لزمتهم دية المرجوم ، وإن ظهر أنهم تعمدوا الكذب ، فقال بعض أهل العلم : تلزم الدية أيضا ، وقال بعضهم : بالقصاص ، وهو قول أشهب من أصحاب مالك ، وله وجه من النظر ، لأنهم تسببوا في قتله بشهادة زور ، فقتلهم به له وجه ، والعلم عند الله تعالى . وإن كان رجوعهم أو رجوع بعضهم بعد جلد المشهود عليه بالزنى بشهادتهم ، فإن لم يظهر تعمدهم الكذب ، فالظاهر أنهم لا شيء عليهم ، لأنهم لم يقصدوا سوءا ، وإن ظهر تعمدهم الكذب وجب تعزيرهم بقدر ما يراه الإمام رادعا لهم ولأمثالهم ، لأنهم فعلوا معصيتين عظيمتين :

الأولى : تعمدهم شهادة الزور .

والثانية : إضرارهم بالمشهود عليه بالجلد ، وهو أذى عظيم أوقعوه به بشهادة زور ، والعلم عند الله تعالى .

تنبيه .

اعلم : أنا قدمنا حكم من زنى ببهيمة في سورة " الإسراء " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا [ 17 \ 33 ] ، وقدمنا حكم اللواط وأقوال أهل العلم وأدلتهم في ذلك في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 83 ] ، وقد قدمنا الكلام أيضا على أن من زنى مرات متعددة ، قبل أن يقام عليه الحد ، يكفي لجميع ذلك حد واحد في الكلام على آيات " الحج " ، وقد أوضحنا أن الأمة تجلد خمسين ، سواء كانت محصنة أو غير محصنة ; لأن [ ص: 417 ] جلدها خمسين مع الإحصان منصوص في القرآن كما تقدم إيضاحه ، وجلدها مع عدم الإحصان ثابت في الصحيح .

وأظهر الأقوال عندنا : أن الأمة غير المحصنة تجلد خمسين ، وألحق أكثر أهل العلم العبد بالأمة .

والأظهر عندنا : أنه يجلد خمسين مطلقا أحصن أم لا ، وقد تركنا الأقوال المخالفة لما ذكرنا لعدم اتجاهها عندنا مع أنا أوضحناها في سورة " النساء " في الكلام على قوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة الآية [ 4 \ 25 ] ، ولنكتف بما ذكرنا هنا من أحكام الزنى المتعلقة بهذه الآية التي نحن بصددها .
وعادتنا أن الآية إن كان يتعلق بها باب من أبواب الفقه أنا نذكر عيون مسائل ذلك الباب والمهم منه ، وتبيين أقوال أهل العلم في ذلك ونناقشها ، ولا نستقصي جميع ما في الباب ; لأن استقصاء ذلك في كتب فروع المذاهب كما هو معلوم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين

قد قدمنا مرارا أن من أنواع البيان التي تضمنها هذا الكتاب المبارك أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول ، ذكرنا هذا في ترجمة الكتاب ، وذكرنا فيما مضى من الكتاب أمثلة كثيرة لذلك ، ومن أمثلة ذلك هذه الآية الكريمة .

وإيضاح ذلك : أن العلماء اختلفوا في المراد بالنكاح في هذه الآية ، فقال جماعة : المراد بالنكاح في هذه الآية : الوطء الذي هو نفس الزنى ، وقالت جماعة أخرى من أهل العلم : إن المراد بالنكاح في هذه الآية هو عقد النكاح ، قالوا : فلا يجوز لعفيف أن يتزوج زانية كعكسه ، وهذا القول الذي هو أن المراد بالنكاح في الآية التزويج لا الوطء في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحته ، وتلك القرينة هي ذكر المشرك والمشركة في الآية ; لأن الزاني المسلم لا يحل له نكاح مشركة ، لقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] وقوله تعالى : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] ، وقوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ 60 \ 10 ] ، وكذلك الزانية المسلمة لا يحل [ ص: 418 ] لها نكاح المشرك ; لقوله تعالى : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا [ 2 \ 221 ] ، فنكاح المشركة والمشرك لا يحل بحال ، وذلك قرينة على أن المراد بالنكاح في الآية التي نحن بصددها الوطء الذي هو الزنى ، لا عقد النكاح ; لعدم ملاءمة عقد النكاح لذكر المشرك والمشركة ، والقول بأن نكاح الزاني للمشركة ، والزانية للمشرك منسوخ ظاهر السقوط ; لأن سورة " النور " مدنية ، ولا دليل على أن ذلك أحل بالمدينة ثم نسخ ، والنسخ لا بد له من دليل يجب الرجوع إليه .
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة

اعلم أن العلماء اختلفوا في جواز نكاح العفيف الزانية ، ونكاح العفيفة الزاني ، فذهب جماعة من أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة إلى جواز نكاح الزانية مع الكراهة التنزيهية عند مالك وأصحابه ، ومن وافقهم ، واحتج أهل هذا القول بأدلة :

منها عموم قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] وهو شامل بعمومه الزانية والعفيفة ، وعموم قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 \ 32 ] ، وهو شامل بعمومه الزانية أيضا والعفيفة .

ومن أدلتهم على ذلك : حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، قال " : غربها " ، قال : أخاف أن تتبعها نفسي ؟ قال " : فاستمتع بها " ، قال ابن حجر في " بلوغ المرام " في هذا الحديث بعد أن ساقه باللفظ الذي ذكرنا : رواه أبو داود ، والترمذي ، والبزار ورجاله ثقات ، وأخرجه النسائي من وجه آخر ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - بلفظ قال " : طلقها " ، قال : لا أصبر عنها ، قال " : فأمسكها " ، اهـ ، من " بلوغ المرام " ، وفيه تصريح ابن حجر بأن رجاله ثقات ، وبه تعلم أن ذكر ابن الجوزي لهذا الحديث في الموضوعات فيه نظر ، وقد ذكره في الموضوعات مرسلا عن أبي الزبير ، قال : أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن امرأتي . . . الحديث ، ورواه أيضا مرسلا عن عبيد بن عمير ، وحسان بن عطية كلاهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : وقد حمله أبو بكر الخلال على الفجور ، ولا يجوز هذا ; وإنما يحمل على تفريطها في المال لو صح الحديث .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:39 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (395)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 419 إلى صـ 426



قال أحمد بن حنبل : هذا الحديث لا يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس له أصل ، انتهى [ ص: 419 ] من موضوعات ابن الجوزي ، وكثرة اختلاف العلماء في تصحيح الحديث المذكور وتضعيفه معروفة .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : ولا ريب أن العرب تكني بمثل هذه العبارة ، عن عدم العفة عن الزنى ، يعني بالعبارة المذكورة قول الرجل : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، اهـ ، وما قاله الشوكاني وغيره هو الظاهر ; لأن لفظ : لا ترد يد لامس أظهر في عدم الامتناع ممن أراد منها ما لا يحل كما لا يخفى ، فحمله على تفريطها في المال غير ظاهر ; لأن إطلاق لفظ اللامس على أخذ المال ليس بظاهر ، كما ترى .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الحديث المذكور في المرأة التي ظهر عدم عفتها ، وهي تحت زوج ، وكلامنا الآن في ابتداء النكاح لا في الدوام عليه ، وبين المسألتين فرق ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .

ثم اعلم أن الذين قالوا بجواز تزويج الزانية والزاني أجابوا عن الاستدلال بالآية التي نحن بصددها ، وهي قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية [ 24 \ 3 ] من وجهين :

الأول : أن المراد بالنكاح في الآية هو الوطء الذي هو الزنى بعينه ، قالوا : والمراد بالآية تقبيح الزنى وشدة التنفير منه ; لأن الزاني لا يطاوعه في زناه من النساء إلا التي هي في غاية الخسة لكونها مشركة لا ترى حرمة الزنى أو زانية فاجرة خبيثة .

وعلى هذا القول فالإشارة في قوله تعالى : وحرم ذلك على المؤمنين راجعة إلى الوطء الذي هو الزنى ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منه ، كعكسه ، وعلى هذا القول فلا إشكال في ذكر المشركة والمشرك .

الوجه الثاني : هو قولهم : إن المراد بالنكاح في الآية التزويج ، إلا أن هذه الآية التي هي قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، منسوخة بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 \ 32 ] ، وممن ذهب إلى نسخها بها : سعيد بن المسيب ، والشافعي ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية ، ما نصه : هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية ، أو مشركة ، أي : لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة [ ص: 420 ] لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك الزانية لا ينكحها إلا زان ، أي : عاص بزناه ، أو مشرك لا يعتقد تحريمه .

قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة قال : ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك ، وهذا إسناد صحيح عنه ، وقد روي عنه من غير وجه أيضا ، وقد روي عن مجاهد وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، والضحاك ، ومكحول ، ومقاتل بن حيان ، وغير واحد نحو ذلك ، انتهى محل الغرض منه بلفظه .

فتراه صدر بأن المراد بالنكاح في الآية : الجماع ، لا التزويج ، وذكر صحته عن ابن عباس الذي دعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - الله أن يعلمه تأويل القرآن ، وعزاه لمن ذكر معه من أجلاء المفسرين ، وابن عباس - رضي الله عنهما - من أعلم الصحابة بتفسير القرآن العظيم ، ولا شك في علمه باللغة العربية .

فقوله في هذه الآية الكريمة بأن النكاح فيها هو الجماع لا العقد يدل على أن ذلك جار على الأسلوب العربي الفصيح ، فدعوى أن هذا التفسير لا يصح في العربية ، وأنه قبيح ، يرده قول البحر ابن عباس ، كما ترى .

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : وقد روي عن ابن عباس وأصحابه ، أن النكاح في هذه الآية : الوطء .

واعلم أن إنكار الزجاج لهذا القول في هذه الآية ، أعني القول بأن النكاح فيها الجماع ، وقوله : إن النكاح لا يعرف في القرآن ، إلا بمعنى التزويج ، مردود من وجهين :

الأول : أن القرآن جاء فيه النكاح بمعنى الوطء ، وذلك في قوله تعالى : فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر قوله : حتى تنكح زوجا غيره بأن معنى نكاحها له مجامعته لها ، حيث قال " : لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، ومراده بذوق العسيلة : الجماع ، كما هو معلوم .

الوجه الثاني : أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، يطلقون النكاح على الوطء .

[ ص: 421 ] وقد يكون العقد ، اهـ ، وإنما سموا عقد التزويج نكاحا ; لأنه سبب النكاح أي الوطء ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه معروف في القرآن ، وفي كلام العرب ، وهو مما يسميه القائلون بالمجاز ، المجاز المرسل ، كما هو معلوم عندهم في محله ، ومن إطلاق العرب النكاح على الوطء ، قول الفرزدق :

وذات حليل أنكحتها رماحنا حلال لمن يبني بها لم تطلق

لأن الإنكاح في البيت ليس المراد به عقد التزويج ، إذ لا يعقد على المسبيات ، وإنما المراد به الوطء بملك اليمين والسبي مع الكفر ، ومنه قوله أيضا :

وبنت كريم قد نكحنا ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله


فالمراد بالنكاح في هذا البيت هو الوطء بملك اليمين لا العقد ; كما صرح بذلك بقوله : ولم يكن لها خاطب إلا السنان وعامله .

وقوله :

إذا سقى الله قوما صوب غادية فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
التاركين على طهر نساءهم والناكحين بشطي دجلة البقرا


ومعلوم أن نكاح البقر ليس معناه التزويج .

قالوا : ومما يدل على أن النكاح في الآية غير التزويج ، أنه لو كان معنى النكاح فيها التزويج لوجب حد المتزوج بزانية ; لأنه زان ، والزاني يجب حده ، وقد أجمع العلماء على أن من تزوج زانية لا يحد حد الزنى ، ولو كان زانيا لحد حد الزنى ، فافهم ، هذا هو حاصل حجج من قالوا إن النكاح في الآية الوطء ، وأن تزويج العفيف الزانية ليس بحرام ، كعكسه .
وقالت جماعة أخرى من أهل العلم : لا يجوز تزويج الزاني لعفيفة ولا عكسه ، وهو مذهب الإمام أحمد ، وقد روي عن الحسن وقتادة ، واستدل أهل هذا القول بآيات وأحاديث .

فمن الآيات التي استدلوا بها هذه الآية التي نحن بصددها ، وهي قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين [ 24 \ 3 ] قالوا : المراد بالنكاح في هذه الآية : التزويج ، وقد نص الله على [ ص: 422 ] تحريمه في قوله : وحرم ذلك على المؤمنين قالوا : والإشارة بقوله : ذلك راجعة إلى تزويج الزاني بغير الزانية ، أو المشركة وهو نص قرآني في تحريم نكاح الزاني العفيفة ، كعكسه .

ومن الآيات التي استدلوا بها قوله تعالى : والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان [ 5 \ 5 ] قالوا : فقوله محصنين غير مسافحين أي : أعفاء غير زناة ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية أنه لا يجوز نكاح المسافح الذي هو الزاني لمحصنة مؤمنة ، ولا محصنة عفيفة من أهل الكتاب ، وقوله تعالى : فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] ، فقوله : محصنات غير مسافحات أي : عفائف غير زانيات ، ويفهم من مفهوم مخالفة الآية ، أنهن لو كن مسافحات غير محصنات ، لما جاز تزوجهن .

ومن أدلة أهل هذا القول أن جميع الأحاديث الواردة في سبب نزول آية الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة الآية ، كلها في عقد النكاح وليس واحد منها في الوطء ، والمقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وأنه قد جاء في السنة ما يؤيد صحة ما قالوا في الآية ، من أن النكاح فيها التزويج ، وأن الزاني لا يتزوج إلا زانية مثله ، فقد روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله " ، وقال ابن حجر في بلوغ المرام في حديث أبي هريرة هذا : رواه أحمد ، وأبو داود ورجاله ثقات .

وأما الأحاديث الواردة في سبب نزول الآية :

فمنها ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة يقال لها أم مهزول ، كانت تسافح ، وتشترط له أن تنفق عليه ، قال : فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ذكر له أمرها ، فقرأ عليه نبي الله : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك رواه أحمد .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في شرحه لهذا الحديث : وقد عزاه صاحب المنتقى لأحمد وحده ، وحديث عبد الله بن عمرو أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والأوسط ، قال في مجمع الزوائد : ورجال أحمد ثقات .

[ ص: 423 ] ومنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده : أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان يحمل الأسارى بمكة ، وكانت بمكة بغي يقال لها عناق ، وكانت صديقته ، قال : فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله أنكح عناق ؟ قال : فسكت عني ، فنزلت : والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك فدعاني فقرأها علي ، وقال " : لا تنكحها " ، رواه أبو داود ، والنسائي والترمذي .

قال الشوكاني في " نيل الأوطار " في كلامه على حديث عمرو بن شعيب هذا الذي ذكره صاحب المنتقى ، وعزاه لأبي داود والنسائي والترمذي : وحديث عمرو بن شعيب حسنه الترمذي وساق ابن كثير في تفسير هذه الآية الأحاديث التي ذكرنا بأسانيدها ، وقال في حديث عمرو بن شعيب هذا : قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقد رواه أبو داود ، والنسائي في كتاب النكاح من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس به .

قالوا : فهذه الأحاديث وأمثالها تدل على أن النكاح في قوله : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة أنه التزويج لا الوطء ، وصورة النزول قطعية الدخول ; كما تقرر في الأصول ، قالوا : وعلى أن المراد به التزويج ، فتحريم نكاح الزانية والزاني منصوص في قوله تعالى : وحرم ذلك على المؤمنين .

وقال ابن القيم في " زاد المعاد " ما نصه : وأما نكاح الزانية فقد صرح الله - سبحانه وتعالى - بتحريمه في سورة " النور " وأخبر أن من نكحها فهو إما زان أو مشرك ، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ، ويعتقد وجوبه عليه أو لا ، فإن لم يلتزمه ، ولم يعتقده فهو مشرك ، وإن التزمه واعتقد وجوبه ، وخالفه فهو زان ، ثم صرح بتحريمه ، فقال : وحرم ذلك على المؤمنين ولا يخفى أن دعوى النسخ للآية بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم [ 24 \ 32 ] من أضعف ما يقال ، وأضعف منه حمل النكاح على الزنى .

إذ يصير معنى الآية : الزاني لا يزني إلا بزانية أو مشركة ، والزانية لا يزني بها إلا زان أو مشرك ، وكلام الله ينبغي أن يصان عن مثل هذا ، وكذلك حمل الآية على امرأة بغي مشركة في غاية البعد عن لفظها وسياقها ، كيف وهو سبحانه إنما أباح نكاح الحرائر والإماء بشرط الإحصان ، وهو العفة ، فقال : [ ص: 424 ] فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان [ 4 \ 25 ] ، فإنما أباح نكاحها في هذه الحالة دون غيرها ، وليس هذا من دلالة المفهوم ، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم ، فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع ، وما عداه فعلى أصل التحريم ، انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم .

وهذه الأدلة التي ذكرنا هي حجج القائلين بمنع تزويج الزاني العفيفة كعكسه ، وإذا عرفت أقوال أهل العلم ، وأدلتهم في مسألة نكاح الزانية والزاني ، فهذه مناقشة أدلتهم .

أما قول ابن القيم : إن حمل الزنا في الآية على الوطء ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله ، فيرده أن ابن عباس وهو في المعرفة باللغة العربية وبمعاني القرآن صح عنه حمل الزنى في الآية على الوطء ، ولو كان ذلك ينبغي أن يصان عن مثله كتاب الله لصانه عنه ابن عباس ، ولم يقل به ولم يخف عليه أنه ينبغي أن يصان عن مثله .

وقال ابن العربي في تفسير ابن عباس للزنى في الآية بالوطء : هو معنى صحيح ، انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه .

وقول ابن القيم في كلامه هذا الذي ذكرنا عنه : فإن لم يلتزمه ، ولم يعتقده فهو مشرك يقال فيه : نعم هو مشرك ، ولكن المشرك لا يجوز له نكاح الزانية المسلمة ، وظاهر كلامك جواز ذلك ، وهو ليس بجائز فيبقى إشكال ذكر المشرك والمشركة واردا على القول بأن النكاح في الآية التزويج ، كما ترى .

وقول ابن القيم في كلامه هذا : وليس هذا من باب دلالة المفهوم ، فإن الأبضاع في الأصل على التحريم فيقتصر في إباحتها على ما ورد به الشرع وما عداه فعلى أصل التحريم يقال فيه : إن تزويج الزانية وردت نصوص عامة تقتضي جوازه ; كقوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 25 ] وهو شامل بعمومه للزانية والعفيفة والزاني والعفيف ، وقوله : وأنكحوا الأيامى منكم [ 24 \ 32 ] فهو أيضا شامل بعمومه لجميع من ذكر ، ولذا قال سعيد بن المسيب : إن آية وأنكحوا الأيامى الآية ، ناسخة لقوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، وقال الشافعي : القول في ذلك كما قال سعيد من نسخها بها .

وبما ذكرنا يتضح أن دلالة قوله : محصنات غير مسافحات على المقصود من [ ص: 425 ] البحث من باب دلالة المفهوم كما أوضحناه قريبا ; لأن العمومات المذكورة لا يصح تخصيص عمومها إلا بدليل منطوقا كان أو مفهوما ، كما تقدم إيضاحه .

وأما قول سعيد بن المسيب والشافعي بأن آية : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم فهو مستبعد ; لأن المقرر في أصول الشافعي ومالك وأحمد هو أنه لا يصح نسخ الخاص بالعام ، وأن الخاص يقضي على العام مطلقا ، سواء تقدم نزوله عنه أو تأخر ، ومعلوم أن آية وأنكحوا الأيامى منكم أعم مطلقا من آية : الزاني لا ينكح إلا زانية فالقول بنسخها لها ممنوع على المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين ، وإنما يجوز ذلك على المقرر في أصول أبي حنيفة - رحمه الله - كما قدمنا إيضاحه في سورة " الأنعام " ، وقد يجاب عن قول سعيد ، والشافعي بالنسخ بأنهما فهماه من قرينة في الآية ، وهي أنه لم يقيد الأيامى الأحرار بالصلاح ، وإنما قيد بالصلاح في أيامى العبيد والإماء ، ولذا قال بعد الآية : والصالحين من عبادكم وإمائكم [ 24 \ 32 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه الآية الكريمة من أصعب الآيات تحقيقا; لأن حمل النكاح فيها على التزويج ، لا يلائم ذكر المشركة والمشرك ، وحمل النكاح فيها على الوطء لا يلائم الأحاديث الواردة المتعلقة بالآية ، فإنها تعين أن المراد بالنكاح في الآية : التزويج ، ولا أعلم مخرجا واضحا من الإشكال في هذه الآية إلا مع بعض تعسف ، وهو أن أصح الأقوال عند الأصوليين كما حرره أبو العباس ابن تيمية في رسالته في علوم القرآن ، وعزاه لأجلاء علماء المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على معنييه ، أو معانيه ، فيجوز أن تقول : عدا اللصوص البارحة على عين زيد ، وتعني بذلك أنهم عوروا عينه الباصرة وغوروا عينه الجارية ، وسرقوا عينه التي هي ذهبه أو فضته .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن النكاح مشترك بين الوطء والتزويج ، خلافا لمن زعم أنه حقيقة في أحدهما ، مجاز في الآخر كما أشرنا له سابقا ، وإذا جاز حمل المشترك على معنييه ، فيحمل النكاح في الآية على الوطء ، وعلى التزويج معا ، ويكون ذكر المشركة والمشرك على تفسير النكاح بالوطء دون العقد ، وهذا هو نوع التعسف الذي أشرنا له ، والعلم عند الله تعالى .

[ ص: 426 ] وأكثر أهل العلم على إباحة تزويج الزانية ، والمانعون لذلك أقل ، وقد عرفت أدلة الجميع .
فروع تتعلق بهذه المسألة

الفرع الأول : اعلم أن من تزوج امرأة يظنها عفيفة ، ثم زنت وهي في عصمته أن أظهر القولين : أنه نكاح لا يفسخ ، ولا يحرم عليه الدوام على نكاحها ، وقد قال بهذا بعض من منع نكاح الزانية مفرقا بين الدوام على نكاحها ، وبين ابتدائه ، واستدل من قال هذا بحديث عمرو بن الأحوص الجشمي - رضي الله عنه - أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله ، وأثنى عليه وذكر ووعظ ، ثم قال " : استوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " .

قال الشوكاني في حديث عمرو بن الأحوص هذا : أخرجه ابن ماجه ، والترمذي وصححه ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة عمرو بن الأحوص المذكور : وحديثه في الخطبة صحيح ، اهـ ، وحديثه في الخطبة هو هذا الحديث ، بدليل قوله : فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ، وهذا التذكير والوعظ هو الخطبة ; كما هو معروف .

ومن الأدلة على هذا الحديث المتقدم قريبا الذي فيه : أن الرجل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن امرأتي لا ترد يد لامس ، فقال " : طلقها " ، فقال : نفسي تتبعها ، فقال " : أمسكها " ، وبينا الكلام في سنده ، وأنه في الدوام على النكاح ، لا في ابتداء النكاح ، وأن بينهما فرقا ، وبه تعلم أن قول من قال : إن من زنت زوجته فسخ نكاحها وحرمت عليه خلاف التحقيق ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:41 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (396)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 427 إلى صـ 434



الفرع الثاني : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي ، أنه لا يجوز نكاح المرأة الحامل من الزنا قبل وضع حملها بل لا يجوز نكاحها ، حتى تضع حملها ، خلافا لجماعة من أهل العلم ، قالوا : يجوز نكاحها وهي حامل ، وهو مروي عن الشافعي وغيره ، وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن نكاح الرجل امرأة حاملا من غيره فيه سقي الزرع بماء الغير ، وهو لا يجوز ، ويدل لذلك قوله تعالى :وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] ، ولا يخرج من عموم هذه الآية إلا ما أخرجه دليل يجب الرجوع إليه ، فلا يجوز نكاح حامل [ ص: 427 ] حتى ينتهي أجل عدتها ، وقد صرح الله بأن الحوامل أجلهن أن يضعن حملهن ، فيجب استصحاب هذا العموم ، ولا يخرج منه إلا ما أخرجه دليل من كتاب أو سنة .

الفرع الثالث : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي أن الزانية والزاني إن تابا من الزنا وندما على ما كان منهما ونويا أن لا يعودا إلى الذنب ، فإن نكاحهما جائز ، فيجوز له أن ينكحها بعد توبتهما ، ويجوز نكاح غيرهما لهما بعد التوبة ; لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، ويدل لهذا قوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما [ 25 \ 68 - 70 ] ، فقد صرح - جل وعلا - في هذه الآية أن الذين يزنون ، ومن ذكر معهم إن تابوا وآمنوا ، وعملوا عملا صالحا يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وهو يدل على أن التوبة من الزنا تذهب أثره ، فالذين قالوا : إن من زنا بامرأة لا تحل له مطلقا ، ولو تابا وأصلحا فقولهم خلاف التحقيق ، وقد وردت آثار عن الصحابة بجواز تزويجه بمن زنى بها إن تابا ، وضرب له بعض الصحابة مثلا برجل سرق شيئا من بستان رجل آخر ، ثم بعد ذلك اشترى البستان فالذي سرقه منه حرام عليه ، والذي اشتراه منه حلال له ، فكذلك ما نال من المرأة حراما فهو حرام عليه ، وما نال منها بعد التوبة والتزويج حلال له ، والعلم عند الله تعالى .

واعلم أن قول من رد الاستدلال بآية : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية [ 25 \ 68 ] ، قائلا : إنها نزلت في الكفار لا في المسلمين ، يرد قوله : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما أوضحنا أدلته من السنة الصحيحة مرارا ، والعلم عند الله تعالى .

الفرع الرابع : اعلم أن الذين قالوا بجواز نكاح العفيف الزانية ، لا يلزم من قولهم أن يكون زوج الزانية العفيف ديوثا ; لأنه إنما يتزوجها ليحفظها ، ويحرسها ، ويمنعها من ارتكاب ما لا ينبغي منعا باتا بأن يراقبها دائما ، وإذا خرج ترك الأبواب مقفلة دونها ، وأوصى بها من يحرسها بعده فهو يستمتع بها ، مع شدة الغيرة والمحافظة عليها من الريبة ، وإن جرى منها شيء لا علم له به مع اجتهاده في صيانتها وحفظها فلا شيء عليه فيه ، ولا يكون به ديوثا ، كما هو معلوم ، وقد علمت مما مر أن أكثر أهل العلم على جواز نكاح العفيف الزانية كعكسه ، وأن جماعة قالوا بمنع ذلك .

[ ص: 428 ] والأظهر لنا في هذه المسألة أن المسلم لا ينبغي له أن يتزوج إلا عفيفة صينة ، للآيات التي ذكرنا والأحاديث ويؤيده حديث " : فاظفر بذات الدين تربت يداك " ، والعلم عند الله تعالى ،
قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم قوله تعالى في هذه الآية : يرمون معناه : يقذفون المحصنات بالزنا صريحا أو ما يستلزم الزنا كنفي نسب ولد المحصنة عن أبيه ; لأنه إن كان من غير أبيه كان من زنى ، وهذا القذف هو الذي أوجب الله تعالى فيه ثلاثة أحكام :

الأول : جلد القاذف ثمانين جلدة .

والثاني : عدم قبول شهادته .

والثالث : الحكم عليه بالفسق .

فإن قيل : أين الدليل من القرآن على أن معنى يرمون المحصنات في هذه الآية ، هو القذف بصريح الزنى ، أو بما يستلزمه كنفي النسب ؟

فالجواب : أنه دلت عليه قرينتان من القرآن :

الأولى : قوله تعالى : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء بعد قوله : يرمون المحصنات ومعلوم أنه ليس شيء من القذف يتوقف إثباته على أربعة شهداء إلا الزنى ، ومن قال : إن اللواط حكمه حكم الزنى أجرى أحكام هذه الآية على اللائط .

وقد قدمنا أحكام اللائط مستوفاة في سورة " هود " ، كما أشرنا له غير بعيد .

القرينة الثانية : هي ذكر المحصنات بعد ذكر الزواني ، في قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية الآية ، وقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة فذكر المحصنات بعد ذكر الزواني ، يدل على إحصانهن ، أي : عفتهن عن الزنى ، وأن الذين يرمونهن إنما يرمونهن بالزنى ، وقد قدمنا جميع المعاني التي تراد بالمحصنات في القرآن ، ومثلنا لها كلها من القرآن في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 24 ] ، فذكرنا أن من المعاني التي [ ص: 429 ] تراد بالمحصنات كونهن عفائف غير زانيات ; كقوله : محصنات غير مسافحات [ 4 \ 24 ] ، أي : عفائف غير زانيات ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات أي : العفائف ، وإطلاق المحصنات على العفائف معروف في كلام العرب ، ومنه قول جرير :

فلا تأمنن الحي قيسا فإنهم بنو محصنات لم تدنس حجورها

وإطلاق الرمي على رمي الشخص لآخر بلسانه بالكلام القبيح معروف في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن أحمر الباهلي :

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني


فقوله : رماني بأمر يعني : أنه رماه بالكلام القبيح ، وفي شعر امرئ القيس أو غيره : وجرح اللسان كجرح اليد

واعلم أن هذه الآية الكريمة مبينة في الجملة من ثلاث جهات :

الجهة الأولى : هي القرينتان القرآنيتان الدالتان على أن المراد بالرمي في قوله : يرمون المحصنات هو الرمي بالزنى ، أو ما يستلزمه كنفي النسب ; كما أوضحناه قريبا .

الجهة الثانية : هي أن عموم هذه الآية ظاهر في شموله لزوج المرأة إذا رماها بالزنى ، ولكن الله - جل وعلا - بين أن زوج المرأة إذا قذفها بالزنى خارج من عموم هذه الآية ، وأنه إن لم يأت الشهداء تلاعنا ، وذلك في قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم الآية [ 24 \ 6 ] .

ومضمونها : أن الزوج إذا قذف زوجته بالزنى ولم يكن له شاهد غير نفسه ، والمعنى : أنه لم يقدر على الإتيان ببينة تشهد له على الزنى الذي رماها به ، فإنه يشهد أربع شهادات يقول في كل واحدة منها : أشهد بالله إني لصادق فيما رميتها به من الزنى ، ثم يقول في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت كاذبا عليها فيما رميتها به ، ويرتفع عنه الجلد وعدم قبول الشهادة والفسق بهذه الشهادات ، وتشهد هي أربع شهادات بالله ، تقول في كل واحدة منها : أشهد بالله إنه لكاذب فيما رماني به من الزنى ، ثم تقول في الخامسة : غضب الله [ ص: 430 ] علي إن كان صادقا فيما رماني به من الزنى ; كما هو واضح من نص الآية .

الجهة الثالثة : أن الله بين هنا حكم عقوبة من رمى المحصنات في الدنيا ، ولم يبين ما أعد له في الآخرة ، ولكنه بين في هذه السورة الكريمة ما أعد له في الدنيا والآخرة من عذاب الله ، وذلك في قوله : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين [ 24 \ 23 - 25 ] ، وقد زاد في هذه الآية الأخيرة كونهن مؤمنات غافلات لإيضاح صفاتهن الكريمة .

ووصفه تعالى للمحصنات في هذه الآية بكونهن غافلات ثناء عليهن بأنهن سليمات الصدور نقيات القلوب لا تخطر الريبة في قلوبهن لحسن سرائرهن ، ليس فيهن دهاء ولا مكر ; لأنهن لم يجربن الأمر فلا يفطن لما تفطن له المجربات ذوات المكر والدهاء ، وهذا النوع من سلامة الصدور وصفائها من الريبة من أحسن الثناء ، وتطلق العرب على المتصفات به اسم البله مدحا لها لا ذما ، ومنه قول حسان - رضي الله عنه - :

نفج الحقيبة بوصها متنضد بلهاء غير وشيكة الأقسام


وقول الآخر :

ولقد لهوت بطفلة ميالة بلهاء تطلعني على أسرارها


وقول الآخر :

عهدت بها هندا وهند غريرة عن الفحش بلهاء العشاء نئوم


رداح الضحى ميالة بخترية لها منطق يصبي الحليم رخيم


والظاهر أن قوله تعالى : لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [ 24 \ 23 - 24 ] ، محله فيما إذا لم يتوبوا ويصلحوا ، فإن تابوا وأصلحوا ، لم ينلهم شيء من ذلك الوعيد ، ويدل له قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء إلى قوله : إلا الذين تابوا الآية .

وعمومات نصوص الكتاب والسنة دالة على أن من تاب إلى الله من ذنبه توبة نصوحا [ ص: 431 ] تقبلها منه ، وكفر عنه ذنبه ولو من الكبائر ، وبه تعلم أن قول جماعة من أجلاء المفسرين أن آية : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء التي جعل الله فيها التوبة بقوله : إلا الذين تابوا عامة ، وأن آية : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة الآية [ 24 \ 23 ] ، خاصة بالذين رموا عائشة - رضي الله عنها - أو غيرها من خصوص أزواجه - صلى الله عليه وسلم - وأن من رماهن لا توبة له خلاف التحقيق ، والعلم عند الله تعالى .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى : لا يخفى أن الآية إنما نصت على قذف الذكور للإناث خاصة ; لأن ذلك هو صريح قوله : والذين يرمون المحصنات وقد أجمع جميع المسلمين على أن قذف الذكور للذكور ، أو الإناث للإناث ، أو الإناث للذكور لا فرق بينه وبين ما نصت عليه الآية ، من قذف الذكور للإناث ; للجزم بنفي الفارق بين الجميع .

وقد قدمنا إيضاح هذا وإبطال قول الظاهرية فيه ، مع إيضاح كثير من نظائره في سورة " الأنبياء " ، في كلامنا الطويل على آية : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .
المسألة الثانية : اعلم أن المقرر في أصول المالكية ، والشافعية والحنابلة أن الاستثناء إذا جاء بعد جمل متعاطفات ، أو مفردات متعاطفات ، أنه يرجع لجميعها إلا لدليل من نقل أو عقل يخصصه ببعضها ، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ، وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :

وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثنا فكلا يقفو

دون دليل العقل أو ذي السمع والحق الافتراق دون الجمع


ولذا لو قال إنسان : هذه الدار وقف على الفقراء والمساكين ، وبني زهرة ، وبني تميم إلا الفاسق منهم ، فإنه يخرج من الوقف الفاسق من الجميع لرجوع الاستثناء للجميع ، خلافا لأبي حنيفة القائل برجوعه للأخيرة ، فلا يخرج عنده إلا فاسق الأخيرة فقط ، ولأجل ذلك لا يرجع عنده الاستثناء في هذه الآية ، إلا لجملة الأخيرة التي هي : وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا فقد زال عنهم الفسق ، ولا يقول : ولا تقبلوا لهم شهادة [ ص: 432 ] أبدا إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، بل يقول : إن شهادة القاذف لا تقبل أبدا ، ولو تاب وأصلح ، وصار أعدل أهل زمانه لرجوع الاستثناء عنده للجملة الأخيرة .

وممن قال كقول أبي حنيفة من أهل العلم : القاضي شريح ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومكحول ، وعبد الرحمن بن زيد بن جابر ، وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته إلا إذا اعترف على نفسه بالكذب ، قاله ابن كثير .

وقال جمهور أهل العلم ، منهم الأئمة الثلاثة : إن الاستثناء في الآية راجع أيضا لقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأن القاذف إذا تاب وأصلح ، قبلت شهادته ، أما قوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة فلا يرجع له الاستثناء ; لأن القاذف إذا تاب وأصلح ، لا يسقط عنه حد القذف بالتوبة .

فتحصل أن الجملة الأخيرة التي هي قوله : وأولئك هم الفاسقون يرجع لها الاستثناء بلا خلاف ، وأن الجملة الأولى التي هي : فاجلدوهم ثمانين جلدة لا يرجع لها الاستثناء في قول عامة أهل العلم ، ولم يخالف إلا من شذ ، وأن الجملة الوسطى ، وهي قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا يرجع لها الاستثناء في قول جمهور أهل العلم ، منهم الأئمة الثلاثة خلافا لأبي حنيفة ، وقد ذكرنا في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ، أن الذي يظهر لنا في مسألة الاستثناء بعد جمل متعاطفات أو مفردات متعاطفات هو ما ذكره بعض المتأخرين ، كابن الحاجب من المالكية ، والغزالي من الشافعية ، والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ، ولا يحكم برجوعه إلى الجميع ، ولا إلى الأخيرة إلا بدليل .

وإنما قلنا : إن هذا هو الأظهر; لأن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .

وإذا رددنا النزاع في هذه المسألة إلى الله وجدنا القرآن دالا على ما ذكرنا أنه الأظهر عندنا ، وهو الوقف ، وذلك لأن بعض الآيات لم يرجع فيها الاستثناء للأولى ، وبعضها لم يرجع فيه الاستثناء للأخيرة ، فدل ذلك على أن رجوعه لما قبله ليس شيئا مطردا .

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] ، فالاستثناء في هذه الآية راجع للدية فقط ; لأن المطالبة بها تسقط [ ص: 433 ] بتصدق مستحقها بها ، ولا يرجع لتحرير الرقبة إجماعا ، لأن تصدق مستحقي الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ .

ومن أمثلة ذلك آية " النور " هذه ؛ لأن الاستثناء في قوله : إلا الذين تابوا لا يرجع لقوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة كما ذكرناه آنفا .

ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 90 ] ، فالاستثناء في قوله : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق لا يرجع إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل المذكورة إليه ، أعني قوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [ 4 \ 89 ] ، إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ، ولو وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهذا لا خلاف فيه بل الاستثناء راجع إلى الجملتين الأوليين ، أعني قوله تعالى : فخذوهم واقتلوهم [ 4 \ 89 ] ، أي : فخذوهم بالأسر ، واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق ، فليس لكم أخذهم بأسر ، ولا قتلهم ; لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم ، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن هذه الآية نزلت فيه ، وفي سراقة بن مالك المدلجي ، وفي بني جذيمة بن عامر ، وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع إلى أقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز ، تبين أنه لم يلزم رجوعه للجميع ، ولا إلى الأخيرة ، وأن الأظهر الوقف حتى يعلم ما يرجع إليه من المتعاطفات قبله بدليل ، ولا يبعد أنه إن تجرد من القرائن والأدلة ، كان ظاهرا في رجوعه للجميع .

وقد بسطنا الكلام على هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، ولذلك اختصرناه هنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اعلم أن من قذف إنسانا بغير الزنى أو نفي النسب ، كأن يقول له : يا فاسق ، أو يا آكل الربا ، ونحو ذلك من أنواع السب يلزمه التعزير ، وذلك بما يراه الإمام رادعا له ولأمثاله من العقوبة ، من غير تحديد شيء في ذلك من جهة الشرع ، وقال بعض أهل العلم : لا يبلغ بالتعزير قدر الحد ، وقال بعض العلماء : إن التعزير بحسب اجتهاد الإمام فيما يراه رادعا مطلقا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 434 ] المسألة الرابعة : اعلم أن جمهور العلماء على أن العبد إذا قذف حرا يجلد أربعين; لأنه حد يتشطر بالرق كحد الزنى ، قال القرطبي : وروي عن ابن مسعود ، وعمر بن عبد العزيز ، وقبيصة بن ذؤيب : يجلد ثمانين ، وجلد أبو بكر بن محمد عبدا قذف حرا ثمانين ، وبه قال الأوزاعي ، واحتج الجمهور بقوله تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، وقال الآخرون : فهمنا هناك أن حد الزنا لله ، وأنه ربما كان أخف فيمن قلت نعم الله عليه ، وأفحش فيمن عظمت نعم الله عليه .

وأما حد القذف ، فهو حق للآدمي وجب للجناية على عرض المقذوف ، والجناية لا تختلف بالرق والحرية ، وربما قالوا : لو كان يختلف لذكر ، كما في الزنى .

قال ابن المنذر : والذي عليه علماء الأمصار القول الأول وبه أقول ، انتهى كلام القرطبي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي دليلا : أن العبد إذا قذف حرا جلد ثمانين لا أربعين ، وإن كان مخالفا لجمهور أهل العلم ، وإنما استظهرنا جلده ثمانين ; لأن العبد داخل في عموم : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا يمكن إخراجه من هذا العموم ، إلا بدليل ولم يرد دليل يخرج العبد من هذا العموم ، لا من كتاب ، ولا من سنة ، ولا من قياس ، وإنما ورد النص على تشطير الحد عن الأمة في حد الزنى وألحق العلماء بها العبد بجامع الرق ، والزنى غير القذف .

أما القذف فلم يرد فيه نص ولا قياس في خصوصه .

وأما قياس القذف على الزنى فهو قياس مع وجود الفارق ; لأن القذف جناية على عرض إنسان معين ، والردع عن الأعراض حق للآدمي فيردع العبد كما يردع الحر ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:44 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (397)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 435 إلى صـ 442



تنبيه .

قد قدمنا في سورة " المائدة " في الكلام على قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني الآية [ 5 \ 32 ] ، أن الحر إذا قذف عبدا لا يحد له ، وذلك ثابت في [ ص: 435 ] الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : من قذف عبده بالزنى أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال " اهـ ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح " : أقيم عليه الحد يوم القيامة " ، يدل على أنه لا يقام عليه الحد في الدنيا وهو كذلك ، وهذا لا نزاع فيه بين من يعتد به من أهل العلم .

قال القرطبي : قال العلماء : وإنما كان ذلك في الآخرة لارتفاع الملك واستواء الشريف والوضيع والحر والعبد ، ولم يكن لأحد فضل إلا بالتقوى ، ولما كان ذلك تكافأ الناس في الحدود والحرمة ، واقتص لكل واحد من صاحبه إلا أن يعفو المظلوم ، انتهى محل الغرض من كلام القرطبي .
المسألة الخامسة : اعلم أن العلماء أجمعوا على أنه إذا صرح في قذفه له بالزنى ، كان قذفا ورميا موجبا للحد ، وأما إن عرض ولم يصرح بالقذف ، وكان تعريضه يفهم منه بالقرائن أنه يقصد قذفه ; كقوله : أما أنا فلست بزان ، ولا أمي بزانية ، أو ما أنت بزان ما يعرفك الناس بالزنى ، أو يا حلال ابن الحلال ، أو نحو ذلك .

فقد اختلف أهل العلم : هل يلزم القذف بالتعريض المفهم للقذف ، وإن لم يصرح ، أو لا يحد حتى يصرح بالقذف تصريحا واضحا لا احتمال فيه ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أن التعريض لا يوجب الحد ، ولو فهم منه إرادة القذف ، إلا أن يقر أنه أراد به القذف .

قال ابن قدامة في " المغني " : وهذا القول هو رواية حنبل عن الإمام أحمد ، وهو ظاهر كلام الخرقي ، واختيار أبي بكر ، وبه قال عطاء ، وعمرو بن دينار ، وقتادة ، والثوري ، والشافعي ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وابن المنذر ، واحتج أهل هذا القول بكتاب وسنة .

أما الكتاب فقوله تعالى : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء [ 2 \ 235 ] ، ففرق تعالى بين التصريح للمعتدة والتعريض ، قالوا : ولم يفرق الله بينهما في كتابه ، إلا لأن بينهما فرقا ، ولو كانا سواء لم يفرق بينهما في كتابه .

وأما السنة : فالحديث المتفق عليه الذي قدمناه مرارا في الرجل الذي جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له : إن امرأتي ولدت غلاما أسود وهو تعريض بنفيه ، ولم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا قذفا ، ولم يدعهما للعان بل قال للرجل " : ألك إبل " ؟ قال : نعم ، قال " : فما ألوانها " ؟ [ ص: 436 ] قال : حمر ، قال " : هل فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا ، قال " : ومن أين جاءها ذلك " ؟ قال : لعل عرقا نزعه ، قال " : وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه " ، قالوا : ولأن التعريض محتمل لمعنى آخر غير القذف ، وكل كلام يحتمل معنيين لم يكن قذفا ، هذا هو حاصل حجة من قالوا بأن التعريض بالقذف ، لا يوجب الحد ، وإنما يجب الحد بالتصريح بالقذف .

وذهبت جماعة آخرون من أهل العلم إلى أن التعريض بالقذف يجب به الحد ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وقال ابن قدامة في " المغني " : وروى الأثرم وغيره ، عن الإمام أحمد أن عليه الحد ، يعني المعرض بالقذف ، قال : وروي ذلك عن عمر - رضي الله عنه - وبه قال إسحاق إلى أن قال : وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض ، اهـ .

واحتج أهل هذا القول بأدلة منها ما ذكره القرطبي ، قال : والدليل لما قاله مالك : هو أن موضوع الحد في القذف ، إنما هو لإزالة المعرة التي أوقعها القاذف بالمقذوف ، وإذا حصلت المعرة بالتعريض ، وجب أن يكون قذفا كالتصريح والمعول على الفهم ، وقد قال تعالى مخبرا عن قوم شعيب أنهم قالوا له : إنك لأنت الحليم الرشيد [ 11 \ 87 ] ، أي : السفيه الضال ، فعرضوا له بالسب بكلام ظاهره المدح في أحد التأويلات حسب ما تقدم في سورة " هود " ، وقال تعالى في أبي جهل : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 49 ] ، وقال تعالى في الذين قذفوا مريم أنهم قالوا : ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا [ 19 \ 28 ] ، فمدحوا أباها ، ونفوا عن أمها البغاء ، أي : الزنى وعرضوا لمريم بذلك ، ولذلك قال تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] ، وكفرهم معروف والبهتان العظيم هو التعريض لها ، أي : ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا أي : أنت بخلافهما وقد أتيت بهذا الولد ، وقال تعالى : قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين [ 34 \ 24 ] ، فهذا اللفظ قد فهم منه أن المراد به أن الكفار على غير هدى ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهدى ، ففهم من هذا التعريض ما يفهم من صريحه ، اهـ محل الغرض من كلام القرطبي مع تصرف قليل لإيضاح المراد .

وحاصل كلام القرطبي المذكور : أن من أدلة القائلين بوجوب الحد بالتعريض آيات قرآنية ، وبين وجه دلالتها على ذلك كما رأيته ، وذكر أن من أدلتهم أن المعرة اللاحقة [ ص: 437 ] للمقذوف صريحا تلحقه بالتعريض له بالقذف ، ولذلك يلزم استواؤهما ، وذكر أن من أدلتهم أن المعول على الفهم ، والتعريض يفهم منه القذف فيلزم أن يكون كالصريح .

ومن أدلتهم على أن التعريض يجب به الحد بعض الآثار المروية عن بعض الخلفاء الراشدين ، قال ابن قدامة في " المغني " : لأن عمر - رضي الله عنه - حين شاورهم في الذي قال لصاحبه : ما أنا بزان ، ولا أمي بزانية ، فقالوا : قد مدح أباه وأمه ، فقال عمر : قد عرض بصاحبه وجلده الحد ، وقال معمر : إن عمر كان يجلد الحد في التعريض ، وروى الأثرم : أن عثمان - رضي الله عنه - جلد رجلا قال لآخر : يا ابن شامة الوذر ، يعرض له بزنى أمه ، والوذر : غدر اللحم يعرض له بكمر الرجال ، وانظر أسانيد هذه الآثار .

ومن أدلة أهل هذا القول أن الكناية مع القرينة الصارفة إلى أحد محتملاتها ، كالصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية ، فإن لم يكن ذلك في حال الخصومة ، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف ، فلا شك في أنه لا يكون قذفا ، انتهى من " المغني " .

ثم قال صاحب المغني : وذكر أبو بكر عبد العزيز : أن أبا عبد الله رجع عن القول بوجوب الحد في التعريض ، يعني بأبي عبد الله الإمام أحمد - رحمه الله - وقال القرطبي : وقد حبس عمر - رضي الله عنه - الحطيئة ، لما قال :



دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي .

لأنه شبهه بالنساء في أنهن يطعمن ويسقين ويكسون ومثل هذا كثير ، ومنه قول الحطيئة أو النجاشي :



قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل


فإنه يروى أن عمر لما سمع هذا الهجاء حمله على المدح ، وقال : ليت آل الخطاب كانوا كذلك ، ولما قال الشاعر بعد ذلك :



ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل


قال عمر أيضا : ليت آل الخطاب كانوا كذلك ، فظاهر هذا الشعر يشبه المدح ، ولذا ذكروا أن عمر تمنى ما فيه من الهجاء لأهل بيته ; لأنه عنده مدح وصاحبه يريد الذم بلا [ ص: 438 ] نزاع ، ويدل على ذلك أول شعره وآخره ، لأن أول الأبيات قوله :



إذا الله عادى أهل لؤم وذلة فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قبيلة لا يخفرون . . . . . . البيت


وفي آخر شعره :



وما سمي العجلان إلا لقوله خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل


وكون مثل هذا من التعريض بالذم لا شك فيه ، وقول الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

يهجو به الزبرقان بن بدر التميمي ، كما ذكره بعض المؤرخين ، وما ذكره القرطبي - رحمه الله - في الكلام الذي نقلنا عنه من أن البهتان العظيم الذي قالوه على مريم : هو تعريضهم لها بقولهم : ما كان أبوك امرأ سوء الآية [ 19 \ 28 ] ، لا يتعين بانفراده ; لأن الله - جل وعلا - ذكر عنهم أنهم قالوا لها غير ذلك وهو أقرب للتصريح بالفاحشة مما ذكره القرطبي ، وذلك في قوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] ، فقولهم لها : لقد جئت شيئا فريا في وقت مجيئها بالولد تحمله ظاهر جدا في إرادتهم قذفها ، كما ترى ، والكلام الذي ذكر ابن قدامة : أن عثمان جلد الحد فيه وهو قول الرجل لصاحبه : يا ابن شامة الوذر ، قال فيه الجوهري في صحاحه : الوذرة بالتسكين الغدرة ، وهي القطعة من اللحم إذا كانت مجتمعة ، ومنه قولهم : يا ابن شامة الوذرة ، وهي كلمة قذف ، وكانت العرب تتساب بها ، كما كانت تتساب بقولهم : يا ابن ملقي أرحل الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ونحوها ، والجمع وذر مثل : تمرة وتمر ، اهـ من صحاح الجوهري .

والشامة بتشديد الميم اسم فاعل شمه ، وقال صاحب " اللسان " : وفي حديث عثمان - رضي الله عنه - أنه رفع إليه رجل قال لرجل : يا ابن شامة الوذر ، فحده ، وهو من سباب العرب وذمهم ، وإنما أراد يا ابن شامة المذاكير يعنون الزنا ، كأنها كانت تشم كمرا مختلفة فكنى عنه ، والذكر قطعة من بدن صاحبه ، وقيل : أرادوا بها القلف جمع قلفة الذكر ; لأنها تقطع ، انتهى محل الغرض من " لسان العرب " ، وهذا لا يتضح منه قصد الزنا ولم أر من [ ص: 439 ] أوضح معنى شامة الوذر إيضاحا شافيا ; لأن شم كمر الرجال ليس من الأمر المعهود الواضح .

والذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن قائل الكلام المذكور يشبه من عرض لها بالزنا بسفاد الحيوانات ; لأن الذكر من غالب الحيوانات إذا أراد سفاد الأنثى شم فرجها ، واستنشق ريحه استنشاقا شديدا ، ثم بعد ذلك ينزو عليها فيسافدها فكأنهم يزعمون أن المرأة تشم ذكر الرجل كما يشم الفحل من الحيوانات فرج أنثاه ، وشمها لمذاكير الرجال كأنه مقدمة للمواقعة ، فكنوا عن المواقعة بشم المذاكير ، وعبروا عن ذكر الرجل بالوذرة ; لأنه قطعة من بدن صاحبه كقطعة اللحم ، ويحتمل أنهم أرادوا كثرة ملابستها لذلك الأمر ، حتى صارت كأنها تشم ريح ذلك الموضع ، والعلم عند الله تعالى .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد علمت مما ذكرنا أقوال أهل العلم ، وحججهم في التعريض بالقذف ، هل يلزم به الحد أو لا يلزم به .

وأظهر القولين عندي : أن التعريض إذا كان يفهم منه معنى القذف فهما واضحا من القرائن أن صاحبه يحد ; لأن الجناية على عرض المسلم تتحقق بكل ما يفهم منه ذلك فهما واضحا ، ولئلا يتذرع بعض الناس لقذف بعضهم بألفاظ التعريض التي يفهم منها القذف بالزنا ، والظاهر أنه على قول من قال من أهل العلم : إن التعريض بالقذف لا يوجب الحد أنه لا بد من تعزير المعرض بالقذف للأذى الذي صدر منه لصاحبه بالتعريض ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السادسة : قال القرطبي في تفسيره : الجمهور من العلماء على أنه لا حد على من قذف رجلا من أهل الكتاب أو امرأة منهم ، وقال الزهري ، وسعيد بن المسيب ، وابن أبي ليلى : عليه الحد إذا كان لها ولد من مسلم ، وفيه قول ثالث : وهو أنه إذا قذف النصرانية تحت المسلم جلد الحد ، قال ابن المنذر : وجل العلماء مجمعون وقائلون بالقول الأول ، ولم أدرك أحدا ، ولا لقيته يخالف في ذلك ، وإذا قذف النصراني المسلم الحر فعليه ما على المسلم ثمانون جلدة ، لا أعلم في ذلك خلافا ، انتهى منه .
المسألة السابعة : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندي في مسألة ما لو قذف رجل رجلا ، فقال آخر : صدقت ، أن المصدق قاذف فتجب إقامة الحد عليه ; لأن تصديقه للقاذف قذف خلافا لزفر ومن وافقه .

[ ص: 440 ] وقال ابن قدامة في " المغني " : ولو قال : أخبرني فلان أنك زنيت لم يكن قاذفا سواء كذبه المخبر عنه أو صدقه ، وبه قال الشافعي ، وأبو ثور وأصحاب الرأي . وقال أبو الخطاب : فيه وجه آخر أنه يكون قاذفا إذا كذبه الآخر ، وبه قال مالك ، وعطاء ، ونحوه عن الزهري ; لأنه أخبر بزناه ، اهـ منه .

وأظهر القولين عندي : أنه لا يكون قاذفا ولا يحد ، لأنه حكى عن غيره ولم يقل من تلقاء نفسه ، ويحتمل أن يكون صادقا ، وأن الذي أخبره أنكر بعد إخباره إياه كما لو شهد على رجل أنه قذف رجلا وأنكر المشهود عليه ، فلا يكون الشاهد قاذفا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة : أظهر قولي أهل العلم عندي فيمن قذف رجلا بالزنى ، ولم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف أن الحد يسقط عن قاذفه; لأنه تحقق بزناه أنه غير محصن ، ولو كان ذلك لم يظهر إلا بعد لزوم الحد للقاذف; لأنه قد ظهر أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على من قذفه ، فلا يحد لغير عفيف ؛ اعتبارا بالحالة التي يراد أن يقام فيها الحد ، فإنه في ذلك الوقت ثبت عليه أنه غير عفيف .

وهذا الذي استظهرنا عزاه ابن قدامة : لأبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، والقول بأنه يحد هو مذهب الإمام أحمد .

قال صاحب " المغني " : وبه قال الثوري ، وأبو ثور ، والمزني ، وداود ، واحتجوا بأن الحد قد وجب وتم بشروطه فلا يسقط بزوال شرط الوجوب .

والأظهر عندنا هو ما قدمنا ; لأنه تحقق أنه غير عفيف قبل إقامة الحد على قاذفه ، فلا يحد لمن تحقق أنه غير عفيف .

وإنما وجب الحد قبل هذا ، لأن عدم عفته كان مستورا ، ثم ظهر قبل إقامة الحد ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة التاسعة : اعلم أن أظهر قولي أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل : يا من وطئ بين الفخذين ، أنه ليس بقذف ، ولا يحد قائله ; لأنه رماه بفعل لا يعد زنا إجماعا ، خلافا لابن القاسم من أصحاب مالك القائل بوجوب الحد زاعما أنه تعريض به ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 441 ] المسألة العاشرة : اعلم أن حد القذف لا يقام على القاذف إلا إذا طلب المقذوف إقامة الحد عليه ; لأنه حق له ، ولم يكن للقاذف بينة على ما ادعى من زنا المقذوف ; لأن الله يقول : ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ومفهوم الآية : أن القاذف لو جاء بأربعة شهداء على الوجه المقبول شرعا أنه لا حد عليه ، وإنما يثبت بذلك حد الزنا على المقذوف ، لشهادة البينة ، ويشترط لذلك أيضا عدم إقرار المقذوف ، فإن أقر بالزنا ، فلا حد على القاذف ، وإن كان القاذف زوجا اعتبر في حده حد القذف امتناعه من اللعان ، قال ابن قدامة : ولا نعلم خلافا في هذا كله ، ثم قال : وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد ، فلو طلب ثم عفا عن الحد سقط ، وبهذا قال الشافعي ، وأبو ثور . وقال الحسن وأصحاب الرأي : لا يسقط بعفوه ; لأنه حد فلم يسقط بالعفو كسائر الحدود ، ولنا أنه حد لا يستوفى إلا بعد مطالبة الآدمي باستيفائه فسقط بعفوه كالقصاص ، وفارق سائر الحدود ، فإنه لا يعتبر في إقامتها الطلب باستيفائها ، وحد السرقة إنما تعتبر فيه المطالبة بالمسروق لا باستيفاء الحد ، ولأنهم قالوا تصح دعواه ، ويستحلف فيه ، ويحكم الحاكم فيه بعلمه ، ولا يقبل رجوعه عنه بعد الاعتراف ، فدل على أنه حق لآدمي ، اهـ من " المغني " ، وكونه حقا لآدمي هو أحد أقوال فيه .

قال أبو عبد الله القرطبي : واختلف العلماء في حد القذف ، هل هو من حقوق الله ، أو من حقوق الآدميين أو فيه شائبة منهما ؟

الأول : قول أبي حنيفة .

والثاني : قول مالك والشافعي .

والثالث : قاله بعض المتأخرين .

وفائدة الخلاف أنه إن كان حقا لله تعالى وبلغ الإمام أقامه ، وإن لم يطلب ذلك المقذوف ، ونفعت القاذف التوبة فيما بينه وبين الله تعالى ، ويتشطر فيه الحد بالرق كالزنا ، وإن كان حقا للآدمي ، فلا يقيمه الإمام إلا بمطالبة المقذوف ، ويسقط بعفوه ولم تنفع القاذف التوبة حتى يحلله المقذوف ، اهـ كلام القرطبي .

ومذهب مالك وأصحابه كأنه مبني على القول الثالث ، وهو أن الحد يسقط بعفو [ ص: 442 ] المقذوف قبل بلوغ الإمام ، فإن بلغ الإمام ، فلا يسقطه عفوه إلا إذا ادعى أنه يريد بالعفو الستر على نفسه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الظاهر أن القذف حق للآدمي وكل حق لآدمي فيه حق لله .

وإيضاحه : أن حد القذف حق للآدمي من حيث كونه شرع للزجر عن فعله ، ولدفع معرة القذف عنه ، فإذا تجرأ عليه القاذف انتهك حرمة عرض المسلم ، وأن للمسلم عليه حقا بانتهاك حرمة عرضه ، وانتهك أيضا حرمة نهي الله عن فعله في عرض مسلم ، فكان لله حق على القاذف بانتهاكه حرمة نهيه ، وعدم امتثاله ، فهو عاص لله مستحق لعقوبته ، فحق الله يسقط بالتوبة النصوح ، وحق المسلم يسقط بإقامة الحد ، أو بالتحلل منه .

والذي يظهر على هذا التفصيل أن المقذوف إذا عفا وسقط الحد بعفوه أن للإمام تعزير القاذف لحق الله ، والله - جل وعلا - أعلم .
المسألة الحادية عشرة : قال القرطبي : إن تمت الشهادة على الزاني بالزنا ولكن الشهود لم يعدلوا ، فكان الحسن البصري ، والشعبي يريان ألا حد على الشهود ، ولا على المشهود عليه ، وبه قال أحمد ، والنعمان ، ومحمد بن الحسن .

وقال مالك : وإذا شهد عليه أربعة بالزنا وكان أحدهم مسخوطا عليه أو عبدا يجلدون جميعا ، وقال سفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق في أربعة عميان يشهدون على امرأة بالزنى : يضربون ، فإن رجع أحد الشهود ، وقد رجم المشهود عليه في الزنى ، فقالت طائفة : يغرم ربع الدية ، ولا شيء على الآخرين ، وكذلك قال قتادة ، وحماد ، وعكرمة ، وأبو هاشم ، ومالك ، وأحمد ، وأصحاب الرأي ، وقال الشافعي : إن قال عمدت ليقتل ، فالأولياء بالخيار إن شاءوا قتلوا ، وإن شاءوا عفوا ، وأخذوا ربع الدية وعليه الحد ، وقال الحسن البصري : يقتل وعلى الآخرين ثلاثة أرباع الدية ، وقال ابن سيرين : إذا قال أخطأت وأردت غيره ، فعليه الدية كاملة ، وإن قال تعمدت قتل ، وبه قال ابن شبرمة ، اهـ كلام القرطبي ، وقد قدمنا بعضه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (398)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 443 إلى صـ 450





وأظهر الأقوال عندي : أنهم إن لم يعدلوا حدوا كلهم ; لأن من أتى بمجهول غير معروف العدالة ، كمن لم يأت بشيء ، وأنه إن أقر بأنه تعمد الشهادة عليه ; لأجل أن يقتل [ ص: 443 ] يقتص منه ، وإن ادعى شبهة في رجوعه يغرم قسطه من الدية ، والقول بأنه يغرم الدية كاملة له وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية عشرة : قال القرطبي : قال مالك ، والشافعي من قذف من يحسبه عبدا فإذا هو حر فعليه الحد ، وقاله الحسن البصري ، واختاره ابن المنذر ، ومن قذف أم الولد حد ، وروي عن ابن عمر ، وهو قياس قول الشافعي ، وقال الحسن البصري : لا حد عليه ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما حده في قذف أم الولد ، فالظاهر أنه لا يكون إلا بعد موت سيدها ، وعتقها من رأس مال مستولدها ، أما قبل ذلك فلم تتحقق حريتها بالفعل ، ولا سيما على قول من يجيز بيعها من العلماء ، والقاذف لا يحد بقذف من لم يكن حرا حرية كاملة فيما يظهر ، وكذلك لو قيل : إن من قذف من يظنه عبدا ، فإذا هو حر لا يجب عليه الحد لأنه لم ينو قذف حر ، وإنما نوى قذف عبد لكان له وجه من النظر; لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ، ولأن المعرة تزول عن المقذوف بقول القاذف : ما قصدت قذفك ولا أقول : إنك زان ، وإنما قصدت بذلك من كنت أعتقده عبدا فأنت عفيف في نظري ، ولا أقول فيك إلا خيرا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات متعددة ، أو قذف واحدا ، مرات متعددة . وقد قدمنا خلاف أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة في الكلام على آيات " الحج " 0

قال ابن قدامة في " المغني " ، في شرحه لقول الخرقي : وإذا قذف الجماعة بكلمة واحدة ، فحد واحد إذا طالبوا أو واحد منهم ، ما نصه : وبهذا قال : طاوس والشعبي ، والزهري ، والنخعي ، وقتادة ، وحماد ، ومالك ، والثوري ، وأبو حنيفة وصاحباه ، وابن أبي ليلى وإسحاق ، وقال الحسن ، وأبو ثور ، وابن المنذر : لكل واحد حد كامل ، وعن أحمد مثل ذلك ، وللشافعي قولان كالروايتين ، ووجه هذا أنه قذف كل واحد منهم ، فلزمه له حد كامل ; كما لو قذفهم بكلمات ، ولنا قول الله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولم يفرق بين قذف واحد أو جماعة ; ولأن الذين شهدوا على المغيرة قذفوا امرأة ، فلم يحدهم عمر إلا حدا واحدا ، ولأنه قذف واحد فلم يجب إلا حد واحد كما لو قذف واحدا ، ولأن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على [ ص: 444 ] المقذوف بقذفه وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف .

وتزول المعرة ، فوجب أن يكتفي به بخلاف ما إذا قذف كل واحد قذفا منفردا ، فإن كذبه في قذفه لا يلزم منه كذبه في آخر ، ولا تزول المعرة عن أحد المقذوفين بحده للآخر ، فإذا ثبت هذا ، فإنهم إن طلبوه جملة حد لهم ، وإن طلبه واحد أقيم الحد ; لأن الحق ثابت لهم على سبيل البدل ، فأيهم طالب به استوفى ، وسقط فلم يكن لغيره الطلب به كحق المرأة على أوليائها في تزويجها ، إذا قام به واحد سقط عن الباقين ، وإن أسقطه أحدهم فلغيره المطالبة به واستيفاؤه ; لأن المعرة لم تزل عنه بعفو صاحبه ، وليس للعافي الطلب به ، لأنه قد أسقط حقه .

وروي عن أحمد - رحمه الله - رواية أخرى : أنهم إن طلبوه دفعة واحدة فحد واحد ، وكذلك إن طلبوه واحدا بعد واحد إلا أنه لم يقم حتى طلبه الكل فحد واحد ، وإن طلبه واحد فأقيم له ، ثم طلبه آخر أقيم له ، وكذلك جميعهم وهذا قول عروة ; لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه ، وقع استيفاؤه لجميعهم ، وإذا طلبه واحد منفردا كان استيفاؤه له وحده ، فلم يسقط حق الباقين بغير استيفائهم ( في ) إسقاطهم ، وإن قذف الجماعة بكلمات فلكل واحد حد ، وبهذا قال عطاء ، والشعبي ، وقتادة ، وابن أبي ليلى ، وأبو حنيفة والشافعي ، وقال حماد ومالك : لا يجب إلا حد واحد ، لأنها جناية توجب حدا ، فإذا تكررت كفى حد واحد ، كما لو سرق من جماعة أو زنى بنساء ، أو شرب أنواعا من المسكر ، ولنا أنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون والقصاص ، وفارق ما قاسوا عليه فإنه حق لله تعالى ، إلى أن قالا : وإن قذف رجلا مرات فلم يحد ، فحد واحد رواية واحدة ، سواء قذفه بزنا واحد أو بزنيات ، وإن قذفه فحد ثم أعاد قذفه نظرت ، فإن قذفه بذلك الزنا الذي حد من أجله لم يعد عليه الحد في قول عامة أهل العلم ، وحكي عن ابن القاسم : أنه أوجب حدا ثانيا ، وهذا يخالف إجماع الصحابة ، فإن أبا بكرة لما حد بقذف المغيرة أعاد قذفه فلم يروا عليه حدا ثانيا ، فروى الأثرم بإسناده عن ظبيان بن عمارة ، قال : شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة نفر أنه زان ، فبلغ ذلك عمر فكبر عليه ، وقال : شاط ثلاثة أرباع المغيرة بن شعبة ، وجاء زياد ، فقال : ما عندك ؟ فلم يثبت فأمر بجلدهم فجلدوا ، وقال : شهود زور ، فقال أبو بكرة : أليس ترضى إن أتاك رجل عندك يشهد رجمه ؟ قال : نعم ، والذي نفسي بيده ، فقال أبو بكرة : وأنا أشهد أنه زان ، فأراد أن يعيد عليه الحد ، فقال علي : يا أمير المؤمنين إنك إن أعدت عليه الحد ، أوجبت عليه الرجم ، وفي حديث آخر : فلا يعاد فيه فرية جلد مرتين . قال الأثرم : قلت لأبي عبد الله ، قول علي : إن جلدته فارجم صاحبك ، قال : كأنه جعل [ ص: 445 ] شهادته شهادة رجلين ، قال أبو عبد الله : وكنت أنا أفسره على هذا حتى رأيته في هذا الحديث فأعجبني ، ثم قال يقول : إذا جلدته ثانية فكأنك جعلته شاهدا آخر ، فأما إن حد له وقذفه بزنا ثان نظرت ، فإن قذفه بعد طول الفصل فحد ثان ; لأنه لا يسقط حرمة المقذوف بالنسبة إلى القاذف أبدا بحيث يمكن من قذفه بكل حال ، وإن قذفه عقيب حده ففيه روايتان :

إحداهما : يحد أيضا ; لأنه قذف لم يظهر كذبه فيه بحد ، فيلزم فيه حد كما لو طال الفصل ، ولأن سائر أسباب الحد إذا تكررت بعد أن حد للأول ثبت للثاني حكمه ، كالزنا والسرقة وغيرهما من الأسباب .

والثانية : لا يحد ; لأنه قد حد له لمرة فلم يحد له بالقذف عقبه ، كما لو قذفه بالزنا الأول ، انتهى من " المغني " ، وقد رأيت نقله لأقوال أهل العلم ، فيمن قذف جماعة بكلمة واحدة أو بكلمات أو قذف واحدا مرات .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسائل لم نعلم فيها نصا من كتاب ولا سنة .

والذي يظهر لنا فيه ، والله تعالى أعلم : أن من قذف جماعة بكلمة واحدة فعليه حد واحد ، لأنه يظهر به كذبه على الجميع وتزول به المعرة عن الجميع ، ويحصل شفاء الغيظ بحده للجميع .

والأظهر عندنا فيمن رمى جماعة بكلمات أنه يتعدد عليه الحد ، بعدد الكلمات التي قذف بها ; لأنه قذف كل واحد قذفا مستقلا لم يشاركه فيه غيره وحده لبعضهم لا يظهر به كذبه على الثاني الذي قذفه بلفظ آخر ، ولا تزول به عنه المعرة . وهذا إن كان قذف كل واحد منهم قذفا مفردا لم يجمع معه غيره لا ينبغي أن يختلف فيه ، والأظهر أنه إن قذفهم بعبارات مختلفة تكرر عليه الحد بعددهم ، كما اختاره صاحب " المغني " .

والأظهر عندنا أنه إن كرر القذف لرجل واحد قبل إقامة الحد عليه يكفي فيه حد واحد ، وأنه إن رماه بعد حده للقذف الأول بعد طول حد أيضا ، وإن رماه قرب زمن حده بعين الزنا الذي حد له لا يعاد عليه الحد ; كما حكاه صاحب المغني في قصة أبي بكرة والمغيرة بن شعبة ، وإن كان القذف الثاني غير الأول ، كأن قال في الأول : زنيت بامرأة [ ص: 446 ] بيضاء ، وفي الثاني قال : بامرأة سوداء ، فالظاهر تكرره ، والعلم عند الله تعالى .

وعن مالك - رحمه الله - في " المدونة " : إن قذف رجلا فلما ضرب أسواطا قذفه ثانيا أو آخر ابتدئ الحد عليه ثمانين من حين يقذفه ، ولا يعتد بما مضى من السياط .
المسألة الرابعة عشرة : الظاهر أن من قال لجماعة : أحدكم زان أو ابن زانية لا حد عليه ; لأنه لم يعين واحدا فلم تلحق المعرة واحدا منهم ، فإن طلبوا إقامة الحد عليه جميعا لا يحد ، لأنه لم يرم واحدا منهم بعينه ، ولم يعرف من أراد بكلامه ، نقله المواق عن الباجي عن محمد بن المواز ، ووجهه ظاهر كما ترى ، واقتصر عليه خليل في مختصره في قوله عاطفا على ما لا حد فيه ، أو قال لجماعة : أحدكم زان .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وإذا قال من رماني فهو ابن الزانية فرماه رجل ، فلا حد عليه في قول أحد من أهل العلم . وكذلك إن اختلف رجلان في شيء ، فقال أحدهما : الكاذب هو ابن الزانية ، فلا حد عليه ، نص عليه أحمد ; لأنه لم يعين أحدا بالقذف ، وكذلك ما أشبه هذا ، ولو قذف جماعة لا يتصور صدقه في قذفهم مثل أن يقذف أهل بلدة كثيرة بالزنى كلهم ، لم يكن عليه حد ; لأنه لم يلحق العار بأحد غير نفسه للعلم بكذبه ، انتهى منه .
المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندنا فيمن قال لرجل : أنت أزنى من فلان ، فهو قاذف لهما ، وعليه حدان ; لأن قوله أزنى صيغة تفضيل ، وهي تدل على اشتراك المفضل ، والمفضل عليه في أصل الفعل ، إلا أن المفضل أفضل فيه من صاحبه المشارك له فيه ، فمعنى كلامه بدلالة المطابقة في صيغة التفضيل : أنت وفلان زانيان ، ولكنك تفوقه في الزنى ، وكون هذا قذفا لهما واضح ، كما ترى . وبه تعلم أن أحد الوجهين عند الحنابلة أنه يحد للمخاطب فقط ، دون فلان المذكور لا ينبغي أن يعول عليه ، وكذلك ما عزاه ابن قدامة للشافعي ، وأصحاب الرأي من أنه ليس بقذف للأول ، ولا للثاني إلا أن يريد به القذف ، كل ذلك لا يصح ولا ينبغي التعويل عليه ; لأن صيغة : أنت أزنى من فلان قذف صريح لهما بعبارة واضحة ، لا إشكال فيها .

وقال ابن قدامة في " المغني " محتجا للوجه الذي ذكرنا عن الحنابلة : أنه لا حد على الثاني ، ما نصه : والثاني يكون قذفا للمخاطب خاصة ; لأن لفظة أفعل قد تستعمل للمنفرد بالفعل ; كقول الله تعالى [ ص: 447 ] أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما الآية [ 10 \ 35 ] ، وقال تعالى : فأي الفريقين أحق بالأمن [ 6 \ 81 ] ، وقال لوط : بناتي هن أطهر لكم [ 11 \ 78 ] ، أي من أدبار الرجال ، ولا طهارة فيها لا ينبغي التعويل عليه كما أنه هو ساقه ، ولم يعول عليه .

وحاصل الاحتجاج المذكور : أن صيغة التفضيل قد ترد مرادا بها مطلق الوصف لا حصول التفضيل بين شيئين ، ومثل له هو بكلمة : أحق أن يتبع وكلمة : أحق بالأمن وكلمة : أطهر لكم ; لأن صيغة التفضيل في الآيات المذكورة لمطلق الوصف لا للتفضيل .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا يخفى أن صيغة التفضيل قد ترد لمطلق الوصف ، كما هو معلوم ، ومن أمثلته الآيات التي ذكرها صاحب " المغني " ، ولكنها لا تحمل على غير التفضيل ، إلا بدليل خارج يقتضي ذلك ، والآيات التي ذكر معلوم أنها لا يمكن أن تكون للتفضيل ; لأن الأصنام لا نصيب لها من أحقية الاتباع أصلا في قوله : أحق أن يتبع أمن لا يهدي ولأن الكفار لا نصيب لهم في الأحقية بالأمن ، ولأن أدبار الرجال لا نصيب لها في الطهارة .

ومن أمثلة ورود صيغة التفضيل لمطلق الوصف أيضا قوله تعالى : وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، أي : هين سهل عليه ، وقول الشنفرى :



وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

أي : لم أكن بالعجل منهم ، وقول الفرزدق :



إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول


أي : عزيزة طويلة ، وقول معن بن أوس :



لعمرك ما أدري وإني لأوجل على أينا تعدو المنية أول


أي : لوجل ، وقول الأحوص بن محمد الأنصاري :



إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل


أي : لمائل ، وقول الآخر :

[ ص: 448 ] تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
.

أي : بواحد ، وقال الآخر :

لعمرك إن الزبرقان لباذل لمعروفه عند السنين وأفضل


أي : وفاضل ، إلى غير ذلك من الشواهد ، ولكن قدمنا أنها لا تحمل على مطلق الوصف ، إلا لدليل خارج ، أو قرينة واضحة تدل على ذلك .

وقوله له : أنت أزنى من فلان ، ليس هناك قرينة ، ولا دليل صارف لصيغة التفضيل عن أصلها ، فوجب إبقاؤها على أصلها ، وحد القاذف لكل واحد منهما ، والإتيان بلفظة من في قوله : أنت أزنى من فلان ، يوضح صراحة الصيغة في التفضيل ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السادسة عشرة : اعلم أنه لا يجوز رمي الملاعنة بالزنى ، ولا رمي ولدها بأنه ابن زنى ، ومن رمى أحدهما فعليه الحد ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ; لأنه لم يثبت عليها زنى ، ولا على ولدها أنه ابن زنى ، وإنما انتفى نسبه عن الزوج بلعانه .

وفي سنن أبي داود : حدثنا الحسن بن علي ، ثنا يزيد بن هارون ، ثنا عباد بن منصور عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، فجاء من أرضه عشيا فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينه وسمع بأذنه . . ، الحديث ، وفيه : ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ، ولا ترمى ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد . . إلى آخر الحديث ، وفي هذا الحديث التصريح بأن من رماها أو رمى ولدها فعليه الحد .

واعلم : أن ما نقله الشيخ الحطاب عن بعض علماء المالكية من أن من قال لابن ملاعنة : لست لأبيك الذي لاعن أمك ، فعليه الحد خلاف التحقيق ; لأن الزوج الملاعن ينتفي عنه نسب الولد باللعان ، فنفيه عنه حق مطابق للواقع ، ولذا لا يتوارثان ، ومن قال كلاما حقا ، فإنه لا يستوجب الحد بذلك ; كما لو قال له : يا من نفاه زوج أمه ، أو يا ابن ملاعنة ، أو يا ابن من لوعنت ; وإنما يجب الحد على قاذفه ، فيما لو قال : أنت ابن زنى ونحوها من صريح القذف ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 449 ] المسألة السابعة عشرة : في حكم ما لو قال لرجل : يا زانية بتاء الفرق ، أو قال لامرأة : يا زاني ، بلا تاء ، قال ابن قدامة في " المغني " : هو قذف صريح لكل منهما ، قال : واختار هذا أبو بكر ، وهو مذهب الشافعي ، واختار ابن حامد أنه ليس بقذف إلا أن يفسره به ، وهو قول أبي حنيفة ; لأنه يحتمل أن يريد بقوله : يا زانية ، أي : يا علامة في الزنا ; كما يقال للعالم : علامة ، ولكثير الرواية : راوية ، ولكثير الحفظ : حفظة ، ولنا أن ما كان قذفا لأحد الجنسين كان قذفا للآخر ; كقوله : زنيت بفتح التاء وكسرها لهما جميعا ، ولأن هذا اللفظ خطاب لهما وإشارة إليهما بلفظ الزنا ، وذلك يغني عن التمييز بتاء التأنيث وحذفها ، ولذلك لو قال للمرأة : يا شخصا زانيا ، وللرجل : يا نسمة زانية ، كان قاذفا ، وقولهم : إنه يريد بذلك أنه علامة في الزنا لا يصح فإنما كان اسما للفعل ، إذا دخلته الهاء كانت للمبالغة ; كقولهم : حفظة للمبالغ في الحفظ ، وراوية للمبالغ في الرواية ، وكذلك همزة لمزة وصرعة ; ولأن كثيرا من الناس يذكر المؤنث ويؤنث المذكر ، ولا يخرج بذلك عن كون المخاطب به مرادا بما يراد باللفظ الصحيح ، انتهى كلام صاحب " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي فيمن قال لذكر : يا زانية بصيغة التأنيث ، أو قال لامرأة : يا زاني بصيغة التذكير ، أنه يلزمه الحد .

وإيضاحه أن القاذف بالعبارتين المذكورتين لا يخلو من أحد أمرين ، إما أن يكون عاميا لا يعرف العربية ، أو يكون له علم باللغة العربية ، فإن كان عاميا فقد يكون غير عالم بالفرق بين العبارتين ، ونداؤه للشخص بلفظ الزنى ظاهر في قصده قذفه .

وإن كان عالما باللغة ، فالله يكثر فيها إطلاق وصف الذكر على الأنثى باعتبار كونها شخصا .

وقد قدمنا بعض أمثلة ذلك في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، ومما ذكرنا من الشواهد هناك قول حسان - رضي الله عنه - :

منع النوم بالعشاء الهموم وخيال إذا تغار النجوم من حبيب أصاب قلبك منه
سقم فهو داخل مكتوم

ومراده بالحبيب أنثى ، بدليل قوله بعده :



لم تفتها شمس النهار بشيء غير أن الشباب ليس يدوم


[ ص: 450 ] وقول كثير :



لئن كان يرد الماء هيمان صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب


ومن أمثلة ذلك قول مليح بن الحكم الهذلي :



ولكن ليلى أهلكتني بقولها نعم ثم ليلى الماطل المتبلح


يعني ليلى الشخص الماطل المتبلح .

وقول عروة بن حزام العذري :

وعفراء أرجى الناس عندي مودة وعفراء عني المعرض المتواني


أي : الشخص المعرض .

وإذا كثر في كلام العرب تذكير وصف الأنثى باعتبار الشخص كما رأيت أمثلته ، فكذلك لا مانع من تأنيثهم صفة الذكر باعتبار النسمة أو النفس ، وورود ذلك لتأنيث اللفظ مع تذكير المعنى معروف ; كقوله :



أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال


المسألة الثامنة عشرة : اعلم أن من رمى رجلا قد ثبت عليه الزنى سابقا أو امرأة ، قد ثبت عليها الزنى سابقا ببينة ، أو إقرار ، فلا حد عليه ; لأنه صادق ، ولأن إحصان المقذوف قد زال بالزنى ، ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله : والذين يرمون المحصنات الآية ، فهو يدل بمفهومه أن من رمى غير محصنة لا حد عليه ، وهو كذلك ، ولكنه يلزم تعزيره ; لأنه رماه بفاحشة ولم يثبتها ، ولا يترك عرض من ثبت عليه الزنى سابقا مباحا لكل من شاء أن يرميه بالزنى دون عقوبة رادعة ، كما ترى .
المسألة التاسعة عشرة : اعلم أن الإنسان إذا كان مشركا وزنى في شركه ، أو كان مجوسيا ونكح أمه أو ابنته مثلا في حال كونه مجوسيا ، ثم أسلم بعد ذلك فرماه أحد بالزنى بعد إسلامه ، فله ثلاث حالات :

الأولى : أن يقول له : يا من زنى في أيام شركه أو يا من نكح أمه مثلا في أيامه مجوسيا ، وهذه الصورة لا حد فيها ; لأن صاحبها أخبر بحق والإسلام يجب ما قبله .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (399)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 451 إلى صـ 458




[ ص: 451 ] الثانية : أن يقول له : يا من زنى بعد إسلامه أو نكح أمه بعد إسلامه ، فعليه الحد ; كما لا يخفى .

الثالثة : أن يقول له : يا زاني ، ولم يتعرض لكون ذلك قبل إسلامه أو بعده ، فإن فسره بأنه أراد أنه زنى بعد إسلامه ، فعليه الحد ، وإن قال : أردت بذلك زناه في زمن شركه ، فهل يقبل منه هذا التفسير ، ويسقط عنه الحد ، أو لا يقبل ذلك منه ، ويقام عليه الحد ، اهـ ، اختلف العلماء في ذلك ، وممن قال بأنه يحد ولا يلتفت إلى تفسيره ذلك : مالك وأصحابه ، وصرح به الخرقي من الحنابلة ، وقال ابن قدامة في " المغني " : لا حد عليه ، وخالف في ذلك الخرقي في شرحه لقول الخرقي : ومن قذف من كان مشركا ، وقال : أردت أنه زنى وهو مشرك لم يلتفت إلى قوله ، وحد القاذف إذا طالب المقذوف ، وكذلك من كان عبدا ، انتهى .
المسألة العشرون : اعلم أن من قذف بنتا غير بالغة بالزنى ، أو قذف به ذكرا غير بالغ ، فقد اختلف أهل العلم : هل يجب على القاذف الحد أو لا يجب عليه ؟ وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير الآية التي نحن بصددها : إذا رمى صبية يمكن وطؤها قبل البلوغ بالزنى كان قذفا عند مالك ، وقال أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور : ليس بقذف ; لأنه ليس بزنى إذ لا حد عليها ويعزر ، قال ابن العربي : والمسألة محتملة مشكلة لكن مالكا غلب حماية عرض المقذوف ، وغيره راعى حماية ظهر القاذف ، وحماية عرض المقذوف أولى ; لأن القاذف كشف ستره بطرف لسانه فلزمه الحد ، قال ابن المنذر : وقال أحمد في الجارية بنت تسع ، يحد قاذفها ، وكذلك الصبي إذا بلغ عشرا ضرب قاذفه ، قال إسحاق : إذا قذف غلاما يطأ مثله فعليه الحد ، والجارية إذا جاوزت تسعا مثل ذلك ، قال ابن المنذر : لا يحد من قذف من لم يبلغ ; لأن ذلك كذب ، ويعزر على الأذى ، اهـ محل الغرض منه بلفظه .

وإذا عرفت مما ذكرنا أقوال أهل العلم في المسألة ، فاعلم أن أظهرها عندنا قول ابن المنذر : إنه لا يحد ولكن يعزر ، ووجه ذلك أن من لم يبلغ من الذكور والإناث مرفوع عنه القلم ، ولا معرة تلحقه بذنب ; لأنه غير مؤاخذ ، ولو جاء قاذف الصبي بأربعة يشهدون على الصبي بالزنى فلا حد عليه إجماعا ، ولو كان قذفه قذفا على الحقيقة للزمه الحد بإقامة القاذف البينة على زناه ، وإن خالف في هذا جمع من أجلاء العلماء ، ولكنه يعزر التعزير البالغ الرادع له ، ولغيره عن قذف من لم يبلغ ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 452 ] المسألة الحادية والعشرون : اعلم أن الظاهر فيما لو قال رجل لآخر زنأت بالهمزة ، أن القاذف إن كان عاميا لا يفرق بين المعتل والمهموز أنه يحد لظهور قصده لقذفه بالزنى ، وإن كان عالما بالعربية ، وقال : إنما أردت بقولي : زنأت بالهمزة معناه اللغوي ، ومعنى زنأت بالهمزة : لجأت إلى شيء ، أو صعدت في جبل ، ومنه قول قيس بن عاصم المنقري يرقص ابنه حكيما وهو صغير :



أشبه أبا أمك أو أشبه حمل ولا تكونن كهلوف وكل يصبح في مضجعه قد انجدل
وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل

ومحل الشاهد منه قوله : زنأ في الجبل أي صعودا فيه ، والهلوف الثقيل الجافي العظيم اللحية ، والوكل الذي يكل أمره إلى غيره ، وزعم الجوهري أن هذا الرجز لأم الصبي المذكور ترقصه به وهي منفوسة ابنة زيد الفوارس ، ورد ذلك على الجوهري أبو محمد بن بري ، ورواه هو وغيره على ما ذكرنا ، قال : وقالت أمه ترد على أبيه :

أشبه أخي أو أشبهن أباكا أما أبي فلن تنال ذاكا
تقصر أن تناله يداكا

قاله في اللسان .
المسألة الثانية والعشرون : فمن نفى رجلا عن جده أو عن أمه أو نسبه إلى شعب غير شعبه ، أو قبيلة غير قبيلته ، فذهب مالك : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه ; لأنه لم يدع عليها الزنا ، ولم ينف نسبه عن أبيه ، وإن نفاه عن جده لزمه الحد ، ولا حد عنده في نسبة جنس لغيره ، ولو أبيض لأسود ، قال في " المدونة " : إن قال لفارسي : يا رومي أو يا حبشي ، أو نحو هذا لم يحد ، وقال ابن القاسم : اختلف عن مالك في هذا ، وإني أرى ألا حد عليه ، إلا أن يقول : يا ابن الأسود ، فإن لم يكن في آبائه أسود فعليه الحد ، وأما إن نسبه إلى حبشي ; كأن قال : يا ابن الحبشي وهو بربري ، فالحبشي والرومي في هذا سواء ، إذا كان بربريا .

وقال ابن يونس : وسواء قال : يا حبشي أو يا ابن الحبشي والرومي ، أو يا ابن الرومي ، فإنه لا يحد ، وكذلك عنه في كتاب محمد ، قال الشيخ المواق : هذا ما ينبغي أن تكون به الفتوى على طريقة ابن يونس ، فانظره أنت ، اهـ .

وهذا الذي ذكرنا من عدم حد من نسب جنسا إلى غيره هو مشهور مذهب مالك ، وقد [ ص: 453 ] نص عليه في المدونة ، ومحل هذا عنده إن لم يكن من العرب .

قال مالك في " المدونة " : من قال لعربي : يا حبشي ، أو يا فارسي ، أو يا رومي ، فعليه الحد ; لأن العرب تنسب إلى آبائها وهذا نفي لها عن آبائها .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الفرق بين العربي وغيره المذكور عن مالك لا يتجه كل الاتجاه ، ووجه كون من قال لرومي : يا حبشي مثلا لا يحد ، أن الظاهر أن مراده أنه يشبه الحبشي في بعض أخلاقه أو أفعاله ، وهو استعمال معروف في العربية ، اهـ ، ومذهب أبي حنيفة أنه إن نفاه عن جده لا حد عليه ، بأن قال له : لست ابن جدك أنه لا حد عليه ; لأنه صادق إذ هو ابن أبيه لا جده ، وكذلك لو نسب جنسا إلى غيره ; كقوله لعربي : يا نبطي ، فلا حد عليه عنده على المشهور ، وكذلك عنده إذا نسبه لقبيلة أخرى غير قبيلته أو نفاه عن قبيلته ; لأنه يراد به التشبيه بتلك القبيلة التي نسبه لها في الأخلاق أو الأفعال ، أو عدم الفصاحة ، ونحو ذلك ، فلا يتعين قصد القذف .

وقال صاحب " تبيين الحقائق " : وروي عن ابن عباس أنه سئل عن رجل قال لرجل من قريش : يا نبطي ، فقال : لا حد عليه ، اهـ ، وكذلك لا يحد عند أبي حنيفة من قال لرجل : يا ابن ماء السماء ، أو نسبه إلى عمه أو خاله خلافا للمالكية ومن وافقهم القائلين بحد من نسبه لعمه ونحوه ، أو زوج أمه الذي هو ربيبه ; لأن العم والخال كلاهما كالأب في الشفقة ، وقد يريد التشبيه بالأب في المحبة والشفقة ، وقوله : ابن ماء السماء ، فإنه قد يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء ، قالوا : وكان عامر بن حارثة : يلقب بماء السماء لكرمه ، وأنه يقيم ماله في القحط مقام المطر ، قالوا : وسميت أم المنذر بن امرئ القيس بماء السماء ، لحسنها وجمالها ، وقيل لأولادها بني ماء السماء وهم ملوك العراق ، اهـ ، وإن نسبه لجده فلا حد عليه عند أبي حنيفة ، ولا ينبغي أن يختلف في ذلك لصحة نسبته إلى جده ; كما هو واقع بكثرة على مر الأزمنة من غير نكير ، اهـ ، ومذهب الإمام أحمد : أنه إن نفاه عن أمه فلا حد عليه .

واختلف عنه فيمن نفى رجلا عن قبيلته أو نسب جنسا لغيره ، قال ابن قدامة في " المغني " : وإذا نفى رجلا عن أبيه ، فعليه الحد ، نص عليه أحمد ، وكذلك إذا نفاه عن قبيلته ، وبهذا قال إبراهيم النخعي ، وإسحاق ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، وحماد ، اهـ .

وقد علمت الخلاف عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه بما ذكرناه قريبا ، ثم قال ابن قدامة [ ص: 454 ] في " المغني " : والقياس يقتضي ألا يجب الحد بنفي الرجل عن قبيلته ; ولأن ذلك لا يتعين فيه الرمي بالزنا ، فأشبه ما لو قال لأعجمي : إنك عربي ، ولو قال للعربي : أنت نبطي أو فارسي فلا حد عليه ، وعليه التعزير ، نص عليه أحمد ; لأنه يحتمل أنك نبطي اللسان أو الطبع ، وحكي عن أحمد رواية أخرى أن عليه الحد كما لو نفاه عن أبيه ، والأول أصح ، وبه قال مالك ، والشافعي ; لأنه يحتمل غير القذف احتمالا كثيرا فلا يتعين صرفه إليه ، ومتى فسر شيئا من ذلك بالقذف فهو قاذف ، اهـ من " المغني " .

وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذا ، فاعلم أن المسألة ليست فيها نصوص من الوحي ، والظاهر أن ما احتمل غير القذف من ذلك لا يحد صاحبه ; لأن الحدود تدرأ بالشبهات واحتمال الكلام غير القذف لا يقل عن شبهة قوية . وقد ذكر ابن قدامة في " المغني " : أن الأشعث بن قيس روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول " : لا أوتى برجل يقول : إن قريشا ليست من كنانة إلا جلدته " ، اهـ ، وانظر إسناده .
المسألة الثالثة والعشرون : في أحكام كلمات متفرقة كمن قال لرجل : يا قرنان ، أو يا ديوث ، أو يا كشخان ، أو يا قرطبان ، أو يا معفوج ، أو يا قواد ، أو يا ابن منزلة الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ، أو يا مخنث ، أو قال لامرأة : يا قحبة .

اعلم أن أهل العلم اختلفوا في هذه العبارات المذكورة ، فمذهب مالك : هو أن من قال لرجل : يا قرنان ، لزمه حد القذف لزوجته إن طلبته ; لأن القرنان عند الناس زوج الفاعلة ، وكذلك من قال لامرأة : يا قحبة ، لزمه الحد عند المالكية ، وكذلك من قال : يا ابن منزلة الركبان ، أو يا ابن ذات الرايات ، كل ذلك فيه حد القذف عند المالكية ، كما تقدمت الإشارة إليه ، قالوا : لأن الزانية في الجاهلية كانت تنزل الركبان ، وتجعل على بابها راية ، وكذلك لو قال له : يا مخنث ، لزمه الحد إن لم يحلف أنه لم يرد قذفا ، فإن حلف أنه لم يرده أدب ، ولم يحد . قاله في " المدونة " ، وإن قال له : يا ابن الفاسقة ، أو يا ابن الفاجرة ، أو يا فاسق ، أو يا فاجر أو يا حمار ابن الحمار ، أو يا كلب ، أو يا ثور ، أو يا خنزير ، ونحو ذلك فلا حد عليه ، ولكنه يعزر تعزيرا رادعا حسبما يراه الإمام ، ومذهب أبي حنيفة : أنه لو قال له : يا فاسق ، يا كافر ، يا خبيث ، يا لص ، يا فاجر ، يا منافق ، يا لوطي ، يا من يلعب بالصبيان ، يا آكل الربا ، يا شارب الخمر ، يا ديوث ، يا مخنث ، يا خائن ، يا ابن القحبة ، يا زنديق ، يا قرطبان ، يا مأوى الزواني أو اللصوص ، يا حرام ، [ ص: 455 ] أنه لا حد عليه في شيء من هذه الألفاظ ، وعليه التعزير ، وآكد التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون سوطا ، وأما لو قال له : يا كلب ، يا تيس ، يا حمار ، يا خنزير ، يا بقر ، يا حية ، يا حجام ، يا ببغاء ، يا مؤاجر ، يا ولد الحرام ، يا عيار ، يا ناكس ، يا منكوس ، يا سخرة ، يا ضحكة ، يا كشخان ، يا أبله ، يا مسوس ; فلا شيء عليه في شيء من هذه الألفاظ عند الحنفية ، ولا يعزر بها ، قال صاحب " تبيين الحقائق " : لا يعزر بهذه الألفاظ كلها ; لأن من عادتهم إطلاق الحمار ونحوه بمعنى البلادة والحرص أو نحو ذلك ، ولا يريدون به الشتيمة ، ألا ترى أنهم يسمون به ويقولون : عياض بن حمار ، وسفيان الثوري ، وأبو ثور وجمل ; ولأن المقذوف لا يلحقه شين بهذا الكلام ، وإنما يلحق بالقاذف ، وكل أحد يعلم أنه آدمي ، وليس بكلب ولا حمار وأن القاذف كاذب في ذلك ، وحكى الهندواني أنه يعزر في زماننا في مثل قوله : يا كلب ، يا خنزير ; لأنه يراد به الشتم في عرفنا .

وقال شمس الأئمة السرخسي : الأصح عندي أنه لا يعزر ، وقيل : إن كان المنسوب إليه من الأشراف كالفقهاء والعلوية يعزر ; لأنه يعد شينا في حقه ، وتلحقه الوحشة بذلك ، وإن كان من العامة لا يعزر ، وهذا أحسن ما قيل فيه ، ومن الألفاظ التي لا توجب التعزير قوله : يا رستاقي ، ويا ابن الأسود ، ويا ابن الحجام ، وهو ليس كذلك ، اهـ من " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق في الفقه الحنفي " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها توجب التعزير فوجوب التعزير بها كما ذكروا واضح لا إشكال فيه ، وأما الألفاظ التي ذكرنا عنهم أنها لا تعزير فيها ، فالأظهر عندنا أنها يجب فيها التعزير ; لأنها كلها شتم وعيب ، ولا يخفى أن من قال لإنسان : يا كلب ، يا خنزير ، يا حمار ، يا تيس ، يا بقر ، إلى آخره ، أن هذا شتم واضح لا خفاء به وليس مراده أن الإنسان كلب أو خنزير ، ولكن مراده تشبيه الإنسان بالكلب والخنزير في الخسة والصفات الذميمة كما لا يخفى ، فهو من نوع التشبيه الذي يسميه البلاغيون تشبيها بليغا ولا شك أن عاقلا قيل له : يا كلب ، أو يا خنزير مثلا أن ذلك يؤذيه ، ولا يشك أنه شتم ، فهو أذى ظاهر ، وعليه فالظاهر التعزير في الألفاظ المذكورة ، وكونهم يسمون الرجل حمارا أو كلبا لا ينافي ذلك ; لأن من الناس من يسمي ابنه باسم قبيح لا يرضى غيره أن يعاب به ، والظاهر أنه إن قال لرجل : يا ابن الأسود ، وليس أبوه ولا أحد من أجداده بأسود ، أنه يلزمه الحد لأنه نفي لنسبه ، وكذلك قوله : يا ابن الحجام إن لم يكن أبوه ولا أحد من أجداده حجاما فهو قذف ; لأنه نفي لنسبه وإلصاق له بأسود أو حجام ليس [ ص: 456 ] بينه وبينه نسب ; كما هو قول المالكية ومن وافقهم .

وقال صاحب " تبيين الحقائق " : وتفسير القرطبان هو الذي يرى مع امرأته أو محرمه رجلا ، فيدعه خاليا بها ، وقيل : هو السبب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح ، وقيل : هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة ، أو يأذن لهما بالدخول عليها في غيبته ، اهـ منه .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن قال لرجل : يا ديوث ، أو يا كشخان ، فقال أحمد : يعزر ، وقال إبراهيم الحربي : الديوث الذي يدخل الرجال على امرأته ، وقال ثعلب : القرطبان الذي يرضى أن يدخل الرجال على امرأته ، وقال : القرنان والكشخان لم أرهما في كلام العرب ، ومعناه عند العامة مثل معنى الديوث ، أو قريب منه ، فعلى القاذف به التعزير على قياس قوله في الديوث ; لأنه قذفه بما لا حد فيه ، وقال خالد بن يزيد ، عن أبيه في الرجل يقول للرجل : يا قرنان إذا كان له أخوات ، أو بنات في الإسلام ضرب الحد ، يعني أنه قاذف لهن ، وقال خالد عن أبيه : القرنان عند العامة من له بنات ، والكشخان : من له أخوات ، يعني والله أعلم إذا كان يدخل الرجال عليهن ، والقواد عند العامة : السمسار في الزنى ، والقذف بذلك كله يوجب التعزير ; لأنه قذف بما لا يوجب الحد ، اهـ من " المغني " ، وقال في " المغني " أيضا المنصوص عن أحمد فيمن قال : يا معفوج أن عليه الحد ، وظاهر كلام الخرقي يقتضي أن يرجع إلى تفسيره ، فإن فسر بغير الفاحشة مثل أن يقول : أردت يا مفلوج ، أو يا مصابا دون الفرج ونحو هذا ، فلا حد عليه ; لأنه فسره بما لا حد فيه ، وإن فسره بعمل قوم لوط فعليه الحد ; كما لو صرح به . وقال صاحب " القاموس " : القرنان : الديوث المشارك في قرينته لزوجته ، اهـ منه ، وقال في " القاموس " أيضا : القرطبان بالفتح الديوث ، والذي لا غيرة له أو القواد ، اهـ منه ، وقال في " القاموس " : والتديث القيادة ، وفي " القاموس " تحت الخط لا بين قوسين الكشخان ويكسر : الديوث ، وكشخه تكشيخا ، وكشخنه ، قال له : يا كشخان ، اهـ منه ، وهو بالخاء المعجمة ، وقال الجوهري في " صحاحه " : والديوث القنذع وهو الذي لا غيرة له ، اهـ منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر أن التحقيق في جميع الألفاظ المذكورة التي ذكرنا كلام العلماء فيها أنها تتبع العرف الجاري في البلد الذي قيلت فيه ، [ ص: 457 ] فإن كان من عرفهم أن المراد بها الشتم بما لا يوجب الحد وجب التعزير ; لأجل الأذى ولا حد ، وإن كان عرفهم أنها يراد بها الشتم بالزنى ، أو نفي النسب ، وكان ذلك معروفا أنه هو المقصود عرفا ، وجب الحد ; لأن العرف متبع في نحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة والعشرون : في حكم من قذف محصنا بعد موته ، ومذهب مالك في ذلك هو قوله في " المدونة " : من قذف ميتا فلولده وإن سفل وأبيه وإن علا القيام بذلك ، ومن قام منهم أخذه بحده ، وإن كان ثم من هو أقرب منه ; لأنه عيب ، وليس للإخوة ، وسائر العصبة مع هؤلاء قيام ، فإن لم يكن من هؤلاء واحد فللعصبة القيام ، اهـ بواسطة نقل المواق .

وحاصله : أن الميت المقذوف يحد قاذفه بطلب من وجد من فروعه ، وإن سفلوا أو واحد من أصوله ، وإن علوا ، ولا كلام في حال وجود الأصول أو الفروع لغيرهم من الإخوة والعصبة ، فإن لم يوجد من الأصول والفروع أحد ، فللإخوة والعصبة القيام ، ويحد للمقذوف بطلبهم ، هذا حاصل مذهب مالك في المسألة ، وظاهره عدم الفرق بين كون المقذوف الميت أبا أو أما ، وبعض أهل العلم يفرق بين قذف الأب والأم ; لأن قذف الأم بالزنى فيه قدح في نسب ولدها ; لأن ابن الزانية قد يكون لغير أبيه من أجل زنا أمه .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن قذف أمه وهي ميتة مسلمة كانت أو كافرة حرة أو أمة ، حد القاذف إذا طلب الابن وكان حرا مسلما ، أما إذا قذفت وهي في الحياة ، فليس لولدها المطالبة ; لأن الحق لها ، فلا يطالب به غيرها ، ولا يقوم غيرها مقامها ، سواء كانت محجورا عليها أو غير محجور عليها ، لأنه حق يثبت للتشفي فلا يقوم فيه غير المستحق مقامه كالقصاص ، وتعتبر حصانتها ; لأن الحق لها فتعتبر حصانتها كما لو لم يكن لها ولد ، وأما إن قذفت وهي ميتة ، فإن لولدها المطالبة ; لأنه قدح في نسبه ، ولأنه يقذف أمه بنسبته إلى أنه ابن زنى ، ولا يستحق ذلك بطريق الإرث ، ولذلك تعتبر الحصانة فيه ، ولا تعتبر الحصانة في أمه ; لأن القذف له ، وقال أبو بكر : لا يجب الحد بقذف ميتة بحال ، وهو قول أصحاب الرأي ; لأنه قذف لمن لا تصح منه المطالبة ، فأشبه قذف المجنون ، وقال الشافعي : إن كان الميت محصنا فلوليه المطالبة ، وينقسم بانقسام الميراث ، وإن لم يكن محصنا فلا حد على قاذفه ; لأنه ليس بمحصن ، فلا يجب الحد بقذفه كما لو كان حيا ، وأكثر أهل العلم لا يرون الحد على من يقذف من ليس محصنا حيا ولا ميتا ; لأنه إذا لم [ ص: 458 ] يحد بقذف غير المحصن إذا كان حيا فلأن لا يحد بقذفه ميتا أولى ، ولنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الملاعنة " : ومن رمى ولدها فعليه الحد " ، يعني : من رماه بأنه ولد زنى ، وإذا وجب بقذف ولد الملاعنة بذلك ، فبقذف غيره أولى ; ولأن أصحاب الرأي أوجبوا الحد على من نفى رجلا عن أبيه إذا كان أبواه حرين مسلمين ، ولو كانا ميتين ، والحد إنما وجب للولد ; لأن الحد لا يورث عندهم ، فأما إن قذفت أمه بعد موتها ، وهو مشرك أو عبد ، فلا حد عليه في ظاهر كلام الخرقي ، سواء كانت الأم حرة مسلمة أو لم تكن ، وقال أبو ثور وأصحاب الرأي : إذا قال لكافر أو عبد : لست لأبيك ، وأبواه حران مسلمان فعليه الحد ، وإن قال لعبد أمه حرة وأبوه عبد : لست لأبيك فعليه الحد ، وإن كان العبد للقاذف عند أبي ثور ، وقال أصحاب الرأي : يصح أن يحد المولى لعبده ، واحتجوا بأن هذا قذف لأمه فيعتبر إحصانها دون إحصانه ; لأنها لو كانت حية كان القذف لها فكذلك إذا كانت ميتة ، ولأن معنى هذا : أن أمك زنت فأتت بك من الزنى ، فإذا كان من الزنى منسوبا إليها كانت هي المقذوفة دون ولدها ، ولنا ما ذكرناه ; ولأنه لو كان القذف لها لم يجب الحد ، لأن الكافر لا يرث المسلم ، والعبد لا يرث الحر ؛ ولأنهم لا يوجبون الحد لقذف ميتة بحال ، فيثبت أن القذف له فيعتبر إحصانه دون إحصانها ، والله أعلم ، اهـ بطوله من " المغني " .

وقد رأيت في كلامه أقوال أهل العلم في رمي المرأة الميتة ، إن كان لها أولاد ، ورمي المرأة الحية التي لها أولاد ، وبه نعلم أن الحد يورث عند المالكية والشافعية ، إلا أنه عند المالكية لا يطلبه إلا الفروع والأصول ، ويحد بطلب كل منهم ، وإن كان يوجد منهم من هو أقرب من طالب الحد ، وأنه عند عدم الفروع والأصول يطالب به الإخوة والعصبة ، وكل ذلك يدل على أنهم ورثوا ذلك الحق في الجملة عن المقذوف الميت ، وأن الشافعية يقولون : إنه ينقسم بانقسام الميراث ، كما نقله عنهم صاحب المغني في كلامه المذكور ، وأن الحنفية يقولون : إن الحد لا يورث ، وهو ظاهر المذهب الحنبلي ، وأن بعض أهل العلم قال : لا يحد من قذف ميتة بحال .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-11, 11:50 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (400)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 459 إلى صـ 466



قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي ، والله تعالى أعلم في هذه المسألة : أن قذف الأم إن كان يستلزم نفي نسب ولدها فلها القيام حية ، ولولدها القيام إذا لم تطالب هي ; لأنه مقذوف بقذفها ، خلافا لما في كلام صاحب " المغني " ، وكذلك إن كانت ميتة فله القيام ، ويحد له القاذف ، وقول صاحب " المغني " : تعتبر حصانته هو دون حصانتها هي لم يظهر له معنى; لأن نفي نسب إنسان لا تشترط فيه حصانة المنفي نسبه ، [ ص: 459 ] لأنا لو فرضنا أنها جاءت به من زنى ، فإنه هو لا ذنب له ، ولا يعتبر زانيا ، كما ترى .

والحاصل أن قذف الأم إن كان يستلزم قذف ولدها ، فالأظهر إقامة الحد على القاذف بطلب الأم ، وبطلب الولد ، وإن كانت حية ; لأنه مقذوف وأحرى إن كانت ميتة ، وإن كانت الأم لا ولد لها ، أو لها ولد لا يستلزم قذفها قذفه فهي مسألة : هل يحد من قذف ميتا أو لا ؟ وقد رأيت خلاف العلماء فيها ، ولكل واحد من القولين وجه من النظر ; لأن الظاهر أن حرمة عرض الإنسان لا تسقط بالموت ، وهذا يقتضي حد من قذف ميتة ، ووجه الثاني : أن الميتة لا يصح منها الطلب ، فلا يحد بدون طلب ; ولأن من مات لا يتأذى بكلام القاذف ، وإن كان كذبا بل يفرح به ; لأنه يكون له فيه حسنات ، وإن كان حقا ما رماه به ، فلا حاجة له بحده بعد موته ، لأنه لم يقل إلا الحق وحده وهو صادق لا حاجة للميت فيه ، اهـ .

وأقربهما عندي أنه يعزر تعزيرا رادعا ولا يقام عليه الحد .

واعلم أن الحي إذا قذفه آخر بالزنا ، وهو يعلم في نفسه أن القاذف صادق ، فقد قال بعض أهل العلم : إن له المطالبة بحده مع علمه بصدقه فيما رماه به ، وهو مذهب مالك ، ومن وافقه .

والأظهر عندي أنه إن كان يعلم أنما قذفه به حق أنه لا تنبغي له المطالبة بحده ; لأنه يتسبب في إيذائه بضرب الحد ، وهو يعلم أنه محق فيما قال ، والعلم عند الله تعالى .

وذكر غير واحد من أهل العلم أن من قذف أم النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قذفه هو - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك ردة ، وخروج من دين الإسلام ، وهو ظاهر لا يخفى ، وأن حكمه القتل ، ولكنهم اختلفوا إذا تاب هل تقبل توبته ؟ فذهبت جماعة من أهل العلم إلى أنه لا تقبل توبته ويقتل على كل حال . وقال بعض أهل العلم : تقبل توبته إن تاب ، وهذا الأخير أقرب لكثرة النصوص الدالة على قبول توبة من تاب ، ولو من أعظم أنواع الكفر ، والله تعالى أعلم .
المسألة الخامسة والعشرون : في حكم من قذف ولده .

وقد اختلف أهل العلم في ذلك قال في " المغني " : وإذا قذف ولده وإن نزل لم يجب الحد عليه ، سواء كان القاذف رجلا أو امرأة وبهذا قال عطاء ، والحسن ، والشافعي ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي . وقال مالك ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبو ثور ، وابن المنذر : عليه الحد لعموم الآية ; ولأنه حد فلا تمنع من وجوبه قرابة الولادة كالزنى .

[ ص: 460 ] وأظهر القولين دليلا : أنه لا يحد الوالد لولده ; لعموم قوله : وبالوالدين إحسانا [ 2 \ 83 ] ، وقوله : فلا تقل لهما أف [ 7 \ 23 ] ، فلا ينبغي للولد أن يطلب حد والده للتشفي منه ، وقول المالكية في هذه المسألة في غاية الإشكال ، لأنهم يقولون : إن الولد يمكن من حد والده القاذف له وأنه يعد بحده له فاسقا بالعقوق ; كما قال خليل في " مختصره " : وله حد أبيه وفسق ، ومعلوم أن الفسق لا يكون إلا بارتكاب كبيرة ، والشرع لا يمكن أحدا من ارتكاب كبيرة ; كما ترى مع أن الروايات عن مالك نفسه ظاهرها عدم الحد وقاله غير واحد من أهل مذهبه .
المسألة السادسة والعشرون : في حكم من قتل أو أصاب حدا خارج الحرم ، ثم لجأ إلى الحرم هل يستوفى منه الحق في الحرم ، أو لا يستوفى منه حتى يخرج من الحرم ؟

اعلم أن هذه المسألة فيها للعلماء ثلاثة مذاهب :

الأول : أنه يستوفى منه الحق قصاصا كان أو حدا قتلا كان أو غيره .

الثاني : أنه لا يستوفى منه حد ولا قصاص ما دام في الحرم ، سواء كان قتلا أو غيره .

الثالث : أنه يستوفى منه كل شيء من الحدود إلا القتل ، فإنه لا يقتل في الحرم في حد كالرجم ، ولا في قصاص ، والخلاف في هذه المسألة مشهور عند أهل العلم .

قال ابن قدامة في " المغني " : وجملته أن من جنى جناية توجب قتلا خارج الحرم ، ثم لجأ إليه لم يستوف منه فيه ، وهذا قول ابن عباس ، وعطاء ، وعبيد بن عمير ، والزهري ، وإسحاق ، ومجاهد ، والشعبي ، وأبي حنيفة وأصحابه .

وأما غير القتل من الحدود كلها والقصاص فيما دون النفس ، فعن أحمد فيه روايتان :

إحداهما : لا يستوفى من الملتجئ إلى الحرم فيه .

والثانية : يستوفى وهو مذهب أبي حنيفة ; لأن المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن القتل لقوله عليه الصلاة والسلام " : فلا يسفك فيها دم " ، وحرمة النفس أعظم فلا يقاس غيرها عليها ، ولأن الحد بالجلد جرى مجرى التأديب ، فلم يمنع كتأديب السيد عبده والأولى ظاهر كلام الخرقي ، وهي ظاهر المذهب .

قال أبو بكر : هذه مسألة وجدتها مفردة لحنبل عن عمه : أن الحدود كلها تقام في [ ص: 461 ] الحرم إلا القتل والعمل على أن كل جان دخل الحرم لم يقم عليه حد جنايته ، حتى يخرج منه إلى أن قال : وقال مالك والشافعي وابن المنذر : يستوفى منه فيه لعموم الأمر بجلد الزاني ، وقطع السارق ، واستيفاء القصاص من غير تخصيص بمكان دون مكان ، اهـ محل الغرض منه .

وقال ابن حجر في " فتح الباري " : وقال أبو حنيفة : لا يقتل في الحرم ، حتى يخرج إلى الحل باختياره ولكن لا يجالس ولا يكلم ، ويوعظ ، ويذكر حتى يخرج ، وقال أبو يوسف : يخرج مضطرا إلى الحل ، وفعله ابن الزبير .

وروى ابن أبي شيبة من طريق طاوس عن ابن عباس : من أصاب حدا ثم دخل الحرم لم يجالس ولم يبايع ، وعن مالك ، والشافعي : يجوز إقامة الحد مطلقا فيها ; لأن العاصي هتك حرمة نفسه فأبطل ما جعل الله له من الأمن ، اهـ محل الغرض منه .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " مشيرا إلى إقامة الحدود واستيفاء القصاص في الحرم ، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وهو اختيار ابن المنذر ، ويؤيد ذلك عموم الأدلة القاضية باستيفاء الحدود في كل مكان وزمان ، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، والحنفية ، وسائر أهل العراق ، وأحمد ومن وافقه من أهل الحديث والعترة : إلى أنه لا يحل لأحد أن يسفك بالحرم دما ، ولا يقيم به حدا حتى يخرج منه من لجأ إليه ، اهـ محل الغرض منه .

وإذا عرفت من هذه النقول أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، فهذه أدلتهم ومناقشتها ، أما الذين قالوا : يستوفى منه كل حد في الحرم إن لجأ إليه كمالك ، والشافعي ، وابن المنذر ومن وافقهم ، فقد استدلوا بأدلة :

منها أن نصوص الكتاب والسنة الدالة على إقامة الحدود واستيفاء القصاص ، ليس في شيء منها تخصيص مكان دون مكان ، ولا زمان دون زمان ، وظاهرها شمول الحرم وغيره ، قالوا : والعمل بظواهر النصوص واجب ، ولا سيما إذا كثرت .

ومنها أن استيفاء القصاص وإقامة الحدود حق واجب بتشريع الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفعل الواجب الذي هو عين طاعة الله في الحرم ليس فيه أي انتهاك لحرمة [ ص: 462 ] الحرم ; لأن أحق البلاد بأن يطاع فيها الله بامتثال أوامره هي حرمه ، وطاعة الله في حرمه ليس فيها انتهاك له كما ترى .

أما استدلال هؤلاء بما في الصحيحين بلفظ " إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخزية ، فهو استدلال في غاية السقوط; لأن من ظن أنه حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط غلط غلطا فاحشا ; لأنه من كلام عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق كما هو صريح في الصحيحين وغيرهما ، قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة : ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغد من يوم الفتح ، فسمعته أذناي ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به أنه حمد الله وأثنى عليه ، ثم قال " : إن مكة حرمها الله ، ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا له : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، وليبلغ الشاهد الغائب " ، فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو ؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، وهذا صريح في أنه من كلام عمرو بن سعيد الأشدق يعارض به أبا شريح لما ذكر له كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أنه لا حجة البتة في كلام الأشدق ، ولا سيما في حال معارضته به لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان كلامه لا يطابق الجواب عن الحديث الذي ذكره أبو شريح - رضي الله عنه - وفي صحيح مسلم - رحمه الله - مثل ما في البخاري من حديث أبي شريح إسنادا ومتنا .

وإذا تقرر أن القائل : إن الحرم لا يعيذ عاصيا إلى آخره ، هو الأشدق علمت أنه لا دلالة فيه وكذلك احتجاجهم بما ثبت في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ; لأن أمره بقتله وهو متعلق بأستار الكعبة في نفس الوقت الذي أحل الله له فيه الحرم ، وقد صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - أن حرمتها عادت كما كانت ، ففعله - صلى الله عليه وسلم - في وقت إحلال الحرم له ساعة من نهار ، لا دليل فيه بعد انقضاء وقت الإحلال ورجوع الحرمة ، كما ترى .

وأما الذين منعوا القتل في الحرم دون ما سواه من الحدود التي لا قتل فيها والقصاص [ ص: 463 ] في غير النفس ، فقد احتجوا بأن الحديث الصحيح الذي هو حديث أبي شريح المتفق عليه فيه " : فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما " الحديث ، قالوا : تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن سفك الدم دون غيره دليل على أنه ليس كغيره ، ولا يقاس غيره عليه ; لأن النفس أعظم حرمة مما لا يستوجب القتل من حد أو قصاص في غير النفس ، فيبقى غير القتل داخلا في عموم النصوص المقتضية له في كل مكان وزمان ، ويخرج خصوص القتل من تلك العمومات بهذا الحديث الصحيح ، ويؤيده أن قوله " : دما " نكرة في سياق النفي ، وهي من صيغ العموم ، فيشمل العموم المذكور إراقة الدم في قصاص أو حد ، أو غير ذلك .

واستدلوا أيضا بقول ابن عمر - رضي الله عنهما - : لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته ، قال المجد في المنتقى : حكاه أحمد في رواية الأثرم .

وأما الذين قالوا بأن الحرم لا يستوفى فيه شيء من الحدود ، ولا من القصاص قتلا كان أو غيره ، فقد استدلوا بقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، قالوا : وجملة ومن دخله كان آمنا خبر أريد به الإنشاء فهو أمر عام ، يستوجب أمن من دخل الحرم ، وعدم التعرض له بسوء ، وبعموم النصوص الدالة على تحريم الحرم .

واستدلوا أيضا بآثار عن بعض الصحابة ، كما روي عن ابن عباس ، أنه قال في الذي يصيب حدا ، ثم يلجأ إلى الحرم : يقام عليه الحد ، إذا خرج من الحرم ، قال المجد في " المنتقى " : حكاه أحمد في رواية الأثرم ، وهذا ملخص أقوال أهل العلم وأدلتهم في هذه المسألة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن أجرى هذه الأقوال على القياس قول من قال : يستوفى من اللاجئ إلى الحرم كل حق وجب عليه شرعا ، قتلا كان أو غيره ; لأن إقامة الحدود واستيفاء القصاص مما أوجبه الله ، وفعل ذلك طاعة ، وتقرب إليه وليس في طاعة الله وامتثال أمره انتهاك لحرمة حرمه ، وأجراها على الأصول ، وهو أولاها ، هو الجمع بين الأدلة ، وذلك بقول من قال : يضيق على الجاني اللاجئ إلى الحرم ، فلا يباع له ، ولا يشترى منه ، ولا يجالس ، ولا يكلم حتى يضطر إلى الخروج ، فيستوفى منه حق الله إذا خرج من الحرم ; لأن هذا القول جامع بين النصوص ، فقد جمع بين استيفاء الحق ، وكون ذلك ليس في الحرم ، وفي هذا خروج من الخلاف ، [ ص: 464 ] والعلم عند الله تعالى ، ولنكتف بما ذكرنا من أحكام هذه الآية .
قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله الآية ، معنى : ويدرأ : يدفع ، والمراد بالعذاب هنا : الحد ، والمصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله : العذاب أن تشهد فاعل يدرأ ، أي : يدفع عنها الحد شهادتها أربع شهادات .

والدليل على أن المراد بالعذاب في قوله : ويدرأ عنها العذاب الحد من أوجه :

الأول : منها سياق الآية ، فهو يدل على أن العذاب الذي تدرؤه عنها شهاداتها هو الحد .

والثاني : أنه أطلق اسم العذاب في مواضع أخر ، على الحد مع دلالة السياق فيها على أن المراد بالعذاب فيها الحد ; كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] ، فقوله : وليشهد عذابهما أي : حدهما بلا نزاع ، وذلك قوله تعالى في الإماء : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، أي : نصف ما على الحرائر من الجلد .

وهذه الآية تدل على أن الزوج إذا رمى زوجته وشهد شهاداته الخمس المبينة في الآية أن المرأة يتوجه عليها الحد بشهاداته ، وأن ذلك الحد المتوجه إليها بشهادات الزوج تدفعه عنها شهاداتها هي الموضحة في الآية .

ومفهوم مخالفة الآية يدل على أنها لو نكلت عن شهاداتها ، لزمها الحد بسبب نكولها مع شهادات الزوج ، وهذا هو الظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه ، فشهادات الزوج القاذف تدرأ عنه هو حد القذف ، وتوجه إليها هي حد الزنى ، وتدفعه عنها شهاداتها .

وظاهر القرآن أيضا أنه لو قذف زوجته ، وامتنع من اللعان أنه يحد حد القذف ، فكل من امتنع من الزوجين من الشهادات الخمس وجب عليه الحد ، وهذا هو الظاهر من الآيات [ ص: 465 ] القرآنية; لأن الزوج القاذف داخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ 24 \ 4 ] ; ولكن الله بين خروج الزوج من هذا العموم بشهاداته ، حيث قال : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين [ 24 \ 6 - 7 ] ، فلم يجعل له مخرجا من جلد ثمانين ، وعدم قبول الشهادة ، والحكم بالفسق إلا بشهاداته التي قامت له مقام البينة المبرئة له من الحد ، فإن نكل عن شهاداته فالظاهر وجوب الحد عليه ; لأنه لم تدرأ عنه أربعة عدول يشهدون بصدقه ، ولا شهادات تنوب عن الشهود ، فتعين أنه يحد لأنه قاذف ، ولم يأت بما يدفع عنه حد القذف ، وكذلك الزوجة إذا نكلت عن أيمانها فعليها الحد ; لأن الله نص على أن الذي يدرأ عنها الحد هو شهاداتها في قوله تعالى : ويدرأ عنها العذاب الآية ، وممن قال إن الزوج يلزمه الحد إن نكل عن الشهادات الأئمة الثلاثة ، خلافا لأبي حنيفة القائل بأنه يحبس حتى يلاعن ، أو يكذب نفسه ، فيقام عليه حد القذف ، ومن قال بأنها إن شهد هو ، ونكلت هي أنها تحد بشهاداته ونكولها : مالك ، والشافعي ، والشعبي ، ومكحول ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ; كما نقله عنهم صاحب " المغني " .

وهذا القول أصوب عندنا ; لأنه ظاهر قوله : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله الآية ، ولا ينبغي العدول عن ظاهر القرآن إلا لدليل يجب الرجوع إليه من كتاب أو سنة ، وقال أبو حنيفة ، وأحمد : لا حد عليها بنكولها عن الشهادات ، وتحبس أيضا حتى تلاعن أو تقر فيقام عليها الحد .

قال في " المغني " : وبهذا قال الحسن ، والأوزاعي ، وأصحاب الرأي ، وروي ذلك عن الحارث العكلي ، وعطاء الخراساني ، واحتج أهل هذا القول بحجج يرجع جميعها إلى أن المانع من حدها أن زناها لم يتحقق ثبوته ; لأن شهادات الزوج ونكولها هي لا يتحقق بواحد منهما ، ولا بهما مجتمعين ثبوت الزنى عليها .

وقول الشافعي ومالك ومن وافقهما في هذه المسألة أظهر عندنا ; لأن مسألة اللعان أصل مستقل لا يدخله القياس على غيره ، فلا يعدل فيه عن ظاهر النص إلى القياس على مسألة أخرى ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 466 ] مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن اللعان لا يلزم بين الزوجين ، إلا بقذف الرجل زوجته قذفا يوجب عليه الحد لو قاله لغير زوجة كرميها بالزنى ، ونفي ولدها عنه ، وقول الجمهور هنا : إنه يكفي في وجوب اللعان قذفها بالزنى من غير اشتراط أن يقول : رأيت بعيني ، أظهر عندي مما روي عن مالك من أنه لا يلزم اللعان ، حتى يصرح برؤية العين ; لأن القذف بالزنى كاف دون التصريح برؤية العين .

وقول الملاعن في زمنه - صلى الله عليه وسلم - : رأت عيني وسمعت أذني ، لا يدل على أنه لو اقتصر على أنها زنت أن ذلك لا يكفي ، دون اشتراط رؤية العين ، وسماع الأذن كما لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:45 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (401)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 467 إلى صـ 474



المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في شهادات اللعان المذكورة في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ 24 \ 6 ] إلى آخر الآيات ، هل هي شهادات أو أيمان على أربعة أقوال :

الأول : أنها شهادات ; لأن الله سماها في الآية شهادات .

والثاني : أنها أيمان .

والثالث : أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة .

والرابع : عكسه ، وينبني على الخلاف في ذلك أن من قال : إنها شهادات لا يصح عنده اللعان ، إلا ممن تجوز شهادته ، فيشترط في الملاعن والملاعنة العدالة وغيرها من شروط قبول الشهادة ، ومن قال : إنها أيمان صح عنده اللعان من كل زوجين ، ولو كانا لا تصح شهادتهما لفسق أو غيره من مسقطات قبول الشهادة ، وينبني على الخلاف المذكور ما لو شهد مع الزوج ثلاثة عدول ، فعلى أنها شهادة يكون الزوج رابع الشهود ، فيجب عليها حد الزنى ، وعلى أنها أيمان يحد الثلاثة ويلاعن الزوج ، وقيل : لا يحدون ، وممن قال : بأنها شهادات وأن اللعان لا يصح إلا ممن تقبل شهادته ، وأنها تحد بشهادة الثلاثة مع الزوج أبو حنيفة - رحمه الله - ومن تبعه ، والأكثرون على أنها أيمان مؤكدة بلفظ الشهادة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي : أنها أيمان مؤكدة بالشهادة ، وأن لفظ الشهادة ربما أطلق في القرآن ، مرادا بها اليمين ، مع دلالة القرائن على ذلك ، وإنما استظهرنا أنها أيمان لأمور :

الأول : التصريح في الآية بصيغة اليمين في قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [ ص: 467 ] لأن لفظة بالله يمين فدل قوله : بالله على أن المراد بالشهادة اليمين للتصريح بنص اليمين ، فقوله : أشهد بالله في معنى : أقسم بالله .

الثاني : أن القرآن جاء فيه إطلاق الشهادة وإرادة اليمين في قوله : فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما [ 5 \ 107 ] ، ثم بين أن المراد بتلك الشهادة اليمين في قوله : ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم [ 5 \ 108 ] ، فقوله : أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم دليل على أن المراد بلفظ الشهادة في الآية اليمين ، وهو واضح كما ترى .

وقال القرطبي : ومنه قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية [ 63 \ 1 ] ; لأن قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة [ 63 \ 2 ] ، يدل على أن المراد بشهادتهم الأيمان ، هكذا قال ، ولا يتعين عندي ما ذكره من الاستدلال بهذه الآية ، والعلم عند الله تعالى .

الثالث : ما قاله ابن العربي ، قال : والفيصل أنها يمين لا شهادة أن الزوج يحلف لنفسه في إثبات دعواه وتخليصه من العذاب ، وكيف يجوز لأحد أن يدعي في الشريعة أن شاهدا يشهد لنفسه بما يوجب حكما على غيره هذا بعيد في الأصل ، معدوم في النظر ، اهـ منه بواسطة نقل القرطبي .

وحاصل استدلاله هذا : أن استقراء الشريعة استقراء تاما يدل على أنه لم يوجد فيها شهادة إنسان لنفسه بما يوجب حكما على غيره ، وهو استدلال قوي ; لأن المقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة ; كما أوضحناه مرارا ، ودعوى الحنفية ومن وافقهم أن الزوج غير متهم لا يسوغ شهادته لنفسه ; لإطلاق ظواهر النصوص في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه مطلقا .

الرابع : ما جاء في بعض روايات حديث اللعان أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لما جاءت الملاعنة بالولد شبيها بالذي رميت به " : لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " ، عند أحمد وأبي داود ، وقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذه الرواية شهادات اللعان أيمانا ، وفي إسناد الرواية المذكورة عباد بن منصور ، تكلم فيه غير واحد ، ويقال : إنه كان قدريا إلى غير ذلك من أدلتهم .

وأما الذين قالوا : إنها شهادات لا أيمان ، فاحتجوا بأن الله سماها شهادات في قوله : [ ص: 468 ] ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم وفي قوله : فشهادة أحدهم أربع شهادات الآية ، وقوله : ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات الآية ، واستدلوا أيضا بحديث " : أربعة لا لعان بينهم وبين أزواجهم : اليهودية والنصرانية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، اهـ ، قالوا : إنما منع لعان اليهودية والنصرانية والعبد والأمة ؛ لأنهم ليسوا ممن تقبل شهادتهم ، ولو كانت شهادات اللعان أيمانا لصح لعانهم ; لأنهم ممن تقبل يمينه ، وقال الزيلعي في " نصب الراية " ، في الحديث المذكور : قلت : أخرجه ابن ماجه في سننه عن ابن عطاء ، عن أبيه عطاء الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : أربع من النساء لا ملاعنة بينهن وبين أزواجهن : النصرانية تحت المسلم ، واليهودية تحت المسلم ، والمملوكة تحت الحر ، والحرة تحت المملوك " ، انتهى .

وأخرجه الدارقطني في سننه ، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن عمرو بن شعيب به ، وقال : عن جده عبد الله بن عمرو مرفوعا " : أربعة ليس بينهم لعان : ليس بين الحر والأمة لعان ، وليس بين العبد والحرة لعان ، وليس بين المسلم واليهودية لعان ، وليس بين المسلم والنصرانية لعان " ، انتهى ، وقال الدارقطني : والوقاصي متروك الحديث ، ثم أخرجه عن عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب به ، قال : وعثمان بن عطاء الخراساني ضعيف الحديث جدا ، وتابعه يزيد بن زريع عن عطاء وهو ضعيف أيضا ، وروي عن الأوزاعي ، وابن جريج وهما إمامان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قوله ، ولم يرفعاه ، ثم أخرجه كذلك موقوفا ، ثم أخرجه عن عمار بن مطر ، ثنا حماد بن عمرو ، عن زيد بن رفيع ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عتاب بن أسيد " : ألا لعان بين أربع " فذكر نحوه ، قال : وعمار بن مطر ، وحماد بن عمرو ، وزيد بن رفيع ضعفاء ، انتهى ، وقال البيهقي في " المعرفة " : هذا حديث رواه عثمان بن عطاء ، ويزيد بن زريع الرملي ، عن عطاء الخراساني ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : أربعة لا ملاعنة بينهم : النصرانية تحت المسلم " إلى آخره ، قال : وعطاء الخراساني معروف بكثرة الغلط ، وابنه عثمان وابن زريع ضعيفان ، ورواه عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي ، عن عمرو بن شعيب به ، وهو متروك الحديث ضعفه يحيى بن معين وغيره من الأئمة ، ورواه عمار بن مطر ، عن حماد بن عمرو ، عن زيد بن رفيع ، عن عمرو بن شعيب ، وعمار بن مطر ، وحماد بن عمرو ، وزيد بن رفيع ضعفاء . [ ص: 469 ] وروي عن ابن جريج والأوزاعي ، وهما إمامان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده موقوفا ، وفي ثبوته موقوفا أيضا نظر ، فإن راويه عن ابن جريج والأوزاعي عمرو بن هارون ، وليس بالقوي ، ورواه يحيى بن أبي أنيسة أيضا ، عن عمرو بن شعيب به موقوفا ، وهو متروك ، ونحن إنما نحتج بروايات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، إذا كان الراوي عنه ثقة وانضم إليه ما يؤكده ، ولم نجد لهذا الحديث طريقا صحيحا إلى عمرو ، والله أعلم ، انتهى كلامه ، انتهى كلام صاحب " نصب الراية " .

وقال صاحب " الجوهر النقي " : إن الحديث المذكور جيد الإسناد ، ولو فرضنا جودة إسناده كما ذكره لم يلزم من ذلك أن شهادات اللعان شهادات لا أيمان ; لاحتمال كون عدم الملاعنة من بين من ذكر في الحديث لعدم المكافأة .

والأظهر عندنا أنها أيمان أكدت بلفظ الشهادة ، للأدلة التي ذكرنا ، وهو قول أكثر أهل العلم ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اعلم أنه لا يجوز في اللعان ، الاعتماد على إتيان المرأة بالولد أسود ، وإن كانت بيضاء وزوجها أبيض ; لقصة الرجل الذي ولدت امرأته غلاما أسود ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه يعرض بنفي الولد الأسود باللعان ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " : هل لك من إبل " ؟ قال : نعم ، قال " : ما ألوانها " ؟ قال : حمر ، قال " : هل فيها من أورق " ؟ قال : إن فيها لورقا ، قال " : ومن أين جاءتها الورقة " ؟ قال : لعل عرقا نزعها ، قال " : وهذا الغلام الأسود لعل عرقا نزعه " ، والقصة مشهورة ثابتة في الصحيحين ، وقد قدمناها مرارا ، وفيها الدلالة على أن سواد الولد لا يجوز أن يكون مستندا للرجل في اللعان ، كما ترى .
المسألة الرابعة : اعلم أن التحقيق أن من قذف امرأة بالزنى قبل أن يتزوجها ثم تزوجها أنه إن لم يأت بأربعة شهداء على زناها أنه يجلد حد القذف ، ولا يقبل منه اللعان ; لأنها وقت القذف أجنبية محصنة داخلة في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة الآية [ 24 \ 4 ] ، والزواج الواقع بعد ذلك لا يغير الحكم الثابت قبله ، فما يروى عن الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - من أنه إن قذفها قبل الزواج ، ثم تزوجها بعد القذف أنهما يلتعنان ، خلاف الظاهر عندنا من نص الآية الكريمة ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة : اعلم أن التحقيق أن الزوج إن قذف زوجته وأمها بالزنا ، ولم يأت [ ص: 470 ] بالبينة أنه يحد للأم حد القذف ; لأنه قذفها بالزنى وهي محصنة غير زوجة ، فهي داخلة في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، وأما البنت فإنه يلاعنها ; لأنه قذفها ، وهي زوجة له ، فتدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين إلى آخر آيات اللعان .

وبما ذكرنا تعلم أن قول بعض الأئمة : إنه إن حد للأم سقط حد البنت ، وإن لاعن البنت لم يسقط حد الأم ، أنه خلاف التحقيق الذي دلت عليه آيات القرآن ، وقد قال ابن العربي في القول المذكور : وهذا باطل جدا ، فإنه خصص عموم الآية في البنت وهي زوجة بحد الأم من غير أثر ولا أصل قاسه عليه ، اهـ ، وهو ظاهر .
المسألة السادسة : اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب : أن من قذف زوجته بالزنى ، ثم زنت قبل لعانه لها أنه لا حد عليه ولا لعان ; لأنه تبين بزناها قبل اللعان أنها غير محصنة ، ولا لعان في قذف غير المحصنة ، كما قدمنا أنه إن قذف أجنبية بالزنى ، ثم زنت قبل أن يقام عليه الحد أن الظاهر لنا سقوط الحد ; لأنه قد تبين بزناها أنها غير محصنة قبل استيفاء الحد ، فلا يحد بقذف من ظهر أنها غير محصنة ، وذكرنا الخلاف في ذلك .

وحجة من قال : يحد إن كانت أجنبية ويلاعن إن كانت زوجة أن الحد واللعان قد وجبا وقت القذف فلا يسقطان بالزنى الطارئ ، وبينا أن الأظهر سقوط الحد واللعان ، لتبين عدم الإحصان قبل الحد وقبل اللعان ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة : اعلم أن من رمى زوجته الكبيرة التي لا تحمل لكبر سنها أنهما يلتعنان هو لدفع الحد ، وهي لدرء العذاب ، وأما إن رمى زوجته الصغيرة التي لا تحمل لصغرها ، فقد قدمنا خلاف العلماء : هل يلزمه حد القذف إن كانت صغيرة تطيق الوطء ، ولم تبلغ ؟ فعلى أنه يلزمه الحد يجب عليه أن يلتعن لدفع الحد ، وأما على القول : بأنه لا حد في قذف الصغيرة مطلقا فلا لعان عليه في قذفها ، وقد قدمنا الأظهر عندنا في ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة : اعلم أنه إن نفى حمل زوجته فقد اختلف أهل العلم ، هل له أن يلاعنها ، وهي حامل لنفي ما في بطنها ، أو لا يجوز له اللعان حتى تضع الولد ؟ فذهب جمهور أهل العلم : إلى أنه يلاعنها وهي حامل وينتفي عنه حملها باللعان ، وقال ابن حجر [ ص: 471 ] في " الفتح " ، بعد أن ساق أحاديث اللعان ، وفيه أن الحامل تلاعن قبل الوضع ; لقوله في الحديث " : انظروا فإن جاءت " إلخ ، كما تقدم في حديث سهل ، وفي حديث ابن عباس ، وعند مسلم من حديث ابن مسعود ، فجاء ، يعني الرجل هو وامرأته فتلاعنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " : لعلها أن تجيء به أسود جعدا " ، فجاءت به أسود جعدا ، وبه قال الجمهور ، خلافا لمن أبى ذلك من أهل الرأي معتلا بأن الحمل لا يعلم ; لأنه قد يكون نفخة .

وحجة الجمهور : أن اللعان شرع لدفع حد القذف عن الرجل ، ودفع حد الرجم عن المرأة ، فلا فرق بين أن تكون حاملا أو حائلا ، ولذلك شرع اللعان مع الآيسة .

وقد اختلف في الصغيرة ، والجمهور على أن الرجل إذا قذفها فله أن يلتعن لدفع حد القذف عنه دونها ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر .

وقد قدمنا أن التعان قاذف الصغيرة مبني على أنه يحد لقذفها ، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في حد قاذف الصغيرة المطيقة للوطء ، وذكرنا ما يظهر لنا رجحانه من ذلك .

وأما الذين قالوا : لا تلاعن الحامل حتى تضع ولدها ، فقد استدلوا بأمرين :

الأول : أن الحمل لا يتيقن وجوده قبل الوضع ; لأنه قد يكون انتفاخا وقد يكون ريحا .

والثاني : هو ما جاء في بعض الروايات في أحاديث اللعان ، مما يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أخر لعان الحامل حتى وضعت . ففي البخاري من حديث ابن عباس ، ما نصه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : اللهم بين " ، فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها فلاعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، الحديث . قالوا : فترتيبه فلاعن بالفاء على قوله : فوضعت شبيها بالرجل ، إلخ . دليل على أن اللعان كان بعد الوضع كما هو مدلول الفاء ، وأجيب من قبل الجمهور عن هذه الرواية بما ذكر ابن حجر في " فتح الباري " ، فإنه قال في كلامه على الرواية المذكورة : ظاهره أن الملاعنة تأخرت إلى وضع المرأة لكن أوضحت أن رواية ابن عباس هذه هي في القصة في حديث سهل بن سعد ، وتقدم قبل من حديث سهل أن اللعان وقع بينهما قبل أن تضع ، فعلى هذا تكون الفاء في قوله : فلاعن معقبة لقوله فأخبره بالذي وجد عليه امرأته ، وهذه الجملة التي ذكر ابن حجر أن جملة " فلاعن " معطوفة عليها مذكورة [ ص: 472 ] في حديث ابن عباس الذي ذكرنا محل الغرض منه .

والذي يظهر لنا أن الحامل تلاعن قبل الوضع لتصريح الأحاديث الصحيحة بذلك ، ولما ذكره ابن حجر في كلامه الذي نقلناه آنفا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة التاسعة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن طلق امرأته ثم قذفها بعد الطلاق ، أنه إن كان قذفه لها بنفي حمل لم يعلم به إلا بعد الطلاق ، أنه يلاعنها لنفي ذلك الحمل عنه ، وإن كانت بائنا ، وأنه إن قذفها بالزنى بعد الطلاق حد ، ولم يلاعن لأن تأخيره القذف واللعان إلى زمن بعد الطلاق دليل على أنه قاذف ، والأظهر ولو كان الطلاق رجعيا ، ولم تنقض العدة ، وإن كانت الرجعية في حكم الزوجة ; لأن طلاقه إياها قبل القذف دليل على أنه لا يريد اللعان ويجلد ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : يلاعن الرجعية قبل انقضاء العدة ، لأنها في حكم الزوجة ، وهو مذهب أحمد المشهور ، ورواية أبي طالب عنه ، وبه قال ابن عمر ، وجابر ، وزيد ، والنخعي ، والزهري ، والشافعي ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي وله وجه من النظر ، والله أعلم .

وقال القرطبي : لا ملاعنة بين الرجل وزوجته بعد انقضاء العدة إلا في مسألة واحدة ، وهي أن يكون الرجل غائبا فتأتي امرأته بولد في مغيبه ، وهو لا يعلم فيطلقها فتنقضي عدتها ثم يقدم فينفيه ، فله أن يلاعنها هنا بعد العدة ، وكذلك لو قدم بعد وفاتها ونفى الولد لاعن لنفسه وهي ميتة بعد مدة من العدة ويرثها ; لأنها ماتت قبل وقوع الفرقة بينهما ، اهـ منه ، ولا نص فيه ، وله وجه من النظر .

وقال القرطبي أيضا : إذا قذفها بعد الطلاق نظرت ، فإن كان هناك نسب يريد أن ينفيه ، أو حمل يريد أن يتبرأ منه لاعن ، وإلا لم يلاعن ، وقال عثمان البتي : لا يلاعن بحال ، وقال أبو حنيفة : لا يلاعن في الوجهين ; لأنها ليست بزوجة ، وهذا ينتقض عليه بالقذف قبل الزوجية كما ذكرناه آنفا بل هذا أولى ; لأن النكاح قد تقدم ، وهو يريد الانتفاء من النسب ، وتبرئته من ولد يلحق به ، فلا بد من اللعان ، وإذا لم يكن هناك حمل يرجى ، ولا نسب يخاف تعلقه لم يكن للعان فائدة فلم يحكم به ، وكان قذفا مطلقا داخلا تحت عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية ، فوجب عليه الحد ، وبطل ما قاله البتي لظهور فساده ، انتهى كلام القرطبي .

وقد قدمنا أن القول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر; لأنها في حكم [ ص: 473 ] الزوجة ، وذكرنا ما يظهر لنا أنه أظهر الأقوال في ذلك ، وأقوال العلماء ، وفائدة لعانه أن يدفع عنه حد القذف ، وكون الرجعية كالزوجة قبل انقضاء العدة فيتوارثان ، ولا يجوز له تزوج أختها ، قبل انقضاء العدة ، ولا تزويج رابعة غيرها ; لأنها تكون كالخامسة نظرا إلى أن الرجعية كالزوجة ، يقتضي أن يقول بلعان الرجعية قبل انقضاء العدة له وجه من النظر ، وقد رأيت كثرة من قال به من أهل العلم ، ووجه القول بعدمه أنه لما طلقها عالما بزناها في زعمه ، دل ذلك على أنه تارك للعان ، وينبني على الخلاف المذكور ، ما لو ادعى أنها زنت بعد الطلاق الرجعي ، وقبل انقضاء العدة ، هل يحكم عليه بأنه قاذف ; لأنه رماها بزنى واقع بعد الفراق أو له أن يلاعنها لنفي الحد عنه بناء على أن الرجعية في حكم الزوجة .

أما إن قذفها قبل أن يطلقها ثم طلقها بعد القذف ، فالأظهر أن له لعانها مطلقا ، ولو كان الطلاق بائنا ; لأن القذف وقع وهي زوجة غير مطلقة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال الحسن ، والقاسم بن محمد ، ومكحول ، ومالك ، والشافعي ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وقال الحارث العكلي ، وجابر بن زيد ، وقتادة والحكم : يجلد ، وقال حماد بن أبي سليمان وأصحاب الرأي : لا حد ولا لعان ; لأن اللعان إنما يكون بين الزوجين وليس هذان بزوجين ، ولا يحد ; لأنه لم يقذف أجنبية .
المسألة العاشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي فيمن ظهر بامرأته حمل ، وهو قائل إنه ليس منه إذا سكت عن نفي ذلك الحمل حتى وضعته ، ثم قال : إنه إنما سكت عن نفيه مدة الحمل رجاء أن يكون ريحا أو انتفاخا فينفش أو يسقط ميتا ، فيستريح بذلك من اللعان أنه يمكن من نفيه بلعان بعد الوضع ; لأن العذر الذي أبدى وجيه جدير بالقبول ، فإن بادر بنفيه فورا عند وضعه ، فلا ينبغي أن يختلف في أن له أن ينفيه بلعان ، وإن سكت عن نفيه بعد الوضع ، ثم أراد أن ينفيه بعد السكوت ، فهل له ذلك أو ليس له ؟ لأن سكوته بعد الوضع يعد رضى منه بالولد ، فلا يمكن من اللعان بعده .

لم أعلم في هذه المسألة نصا من كتاب ، ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه ، قال القرطبي : قد اختلف في ذلك ونحن نقول : إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام ، فهو راض به وليس له نفيه ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أيضا : متى أمكنه نفيه على ما جرت به العادة من تمكنه من الحاكم ، فلم يفعل لم يكن له نفيه من بعد ذلك ، وقال أبو حنيفة : لا أعتبر مدة ، وقال أبو يوسف ، ومحمد : يعتبر فيه أربعون يوما مدة النفاس ، قال [ ص: 474 ] ابن القصار : والدليل لقولنا هو أن نفي ولده محرم عليه واستلحاق ولد ليس منه محرم عليه ، فلا بد أن يوسع عليه لكي ينظر فيه ، ويفكر هل يجوز له نفيه أو لا ؟ وإنما جعلنا الحد ثلاثة ; لأنه أول حد الكثرة ، وآخر حد القلة ، وقد جعلت ثلاثة أيام يختبر فيها حال المصراة ، وكذلك ينبغي أن يكون هنا .

وأما أبو يوسف ومحمد فليس اعتبارهما بأولى من اعتبار مدة الولادة والرضاع ، إذ لا شاهد لهما في الشريعة ، وقد ذكرنا نحن شاهدا في الشريعة من مدة المصراة ، انتهى كلام القرطبي ، ولا يخفى ضعف ما استدل به ابن القصار من علماء المالكية للتحديد بثلاثة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة مبنية على الاختلاف في قاعدة أصولية ، وهي : هل ينزل السكوت منزلة الإقرار أو لا ؟ وقد أشار إلى ذلك صاحب " مراقي السعود " ، بقوله :



وجعل من سكت مثل من أقر فيه خلاف بينهم قد اشتهر فالاحتجاج بالسكوتي نمى
تفريعه عليه من تقدما وهو بفقد السخط والضد حري
مع مضي مهلة للنظر



فمن قال : إن السكوت لا يعد رضى ، قال : لأن الساكت قد يسكت عن الإنكار مع أنه غير راض ، ومن قال : إنه يعد رضى ، قال : لأن سكوته قرينة دالة على رضاه واستأنسوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في البكر " : إذنها صماتها " ، وبعضهم يقول : تخصيص البكر بذلك ، يدل على أن غيرها ليس كذلك ، والخلاف في هذه المسألة معروف في فروع الأئمة وأصولهم ، ومن تتبع فروعهم وجدهم في بعض الصور يجعلون السكوت كالرضى ، كالسكوت عن اللعان زمنا بعد العلم بموجبه ، وكالسكوت عن القيام بالشفعة ونحو ذلك ، ويكثر في فروع مذهب مالك جعل السكوت كالرضى .

ومن أمثلة ذلك ما قاله ابن عاصم في رجزه في أحكام القضاء في مذهب مالك :



وحاضر لواهب من ماله ولم يغير ما رأى من حاله
الحكم منعه القيام بانقضا مجلسه إذ صمته عين الرضى



ولكل واحد من القولين وجه من النظر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (402)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 475 إلى صـ 482




والذي يظهر لنا في مسألة السكوت عن اللعان أنه إن سكت زمنا يغلب على الظن فيه [ ص: 475 ] عادة أنه لا يسكت فيه إلا راض عد رضى ، وإلا فلا ; لأن العرف محكم ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الحادية عشرة : اعلم أنه إن كان النكاح فاسدا ، وقذفها زوجها بالزنى إن كان لنفي نسب يلحق به في ذلك النكاح الفاسد ، فلا ينبغي أن يختلف في أنه يلاعن لنفي النسب عنه ، وإن كان النكاح الفاسد يلحق فيه الولد ولكنه قذفها بالزنى ، وأراد اللعان لنفي الحد عنه ، فالأظهر أن له ذلك ; لأنها لما صارت يلحق به ولدها صارت في حكم الفراش ، قاله مالك في " المدونة " .

وقال القرطبي : يلاعن في النكاح الفاسد زوجته ، لأنها صارت فراشا ويلحق النسب فيه مجرى اللعان فيه ، اهـ منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي أن النكاح الفاسد إن كان مجمعا على فساده ولا يلحق الولد فيه أن الزوج القاذف فيه لا يمكن من اللعان ، بل يحد حد القذف إن لم يأت بأربعة شهداء ، وهذا ظاهر لا يخفى ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية عشرة : اعلم أن أظهر أقوال أهل العلم عندي في الذي يقذف زوجته الحامل بالزنى ، ثم يأتي بأربعة شهداء على زناها أن له أن يلاعن لنفي الحمل مع الشهود ; لأن شهادة البينة لا تفيد الزوج إلا درأ الحد عنه ، أما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان .

وقال القرطبي - رحمه الله - : اختلفوا أيضا هل للزوج أن يلاعن مع شهوده ؟ قال مالك والشافعي : يلاعن كان له شهود أو لم يكن ; لأن الشهود ليس لهم عمل في غير درء الحد ، وأما رفع الفراش ونفي الولد ، فلا بد فيه من اللعان .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : إنما جعل اللعان إذا لم يكن له شهود غير نفسه ; لقوله تعالى : ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم اهـ منه .
المسألة الثالثة عشرة : قال القرطبي أيضا في تفسيره : يفتقر اللعان إلى أربعة أشياء : عدد الألفاظ ، وهو أربع شهادات على ما تقدم ، والمكان : وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان ، إن كان بمكة فبين الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كانت ببيت المقدس فعند الصخرة ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها ، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ، إن كانا يهوديين فالكنيسة ، وإن كانا مجوسيين ففي [ ص: 476 ] بيت النار ، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين ، فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه ، والوقت : وذلك بعد صلاة العصر ، وجمع الناس : وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا ، فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والزمان والمكان مستحبان ، اهـ منه ، مع أن مشهور مذهب مالك الذي هو مذهب القرطبي أنه لا ملاعنة بين كافرين وبعض ما ذكره لا يخلو من خلاف .
المسألة الرابعة عشرة : اعلم أن الزوج لا يجوز له نفي الولد بلعان ، إلا بموجب يقتضي أن ذلك الولد ليس منه كأن تكون الزوجة زنت ، قبل أن يمسها الزوج أصلا ، أو زنت بعد أن وضعت ، ولم يمسها الزوج بعد الوضع حتى زنت ، أو زنت في طهر لم يمسها فيه ; لأن الحيضة قبل الزنى تدل على أن الحمل من الزنى الواقع بعد الحيض ، ولا يجوز له الاعتماد في نفي الحمل باللعان على شبه الولد بغيره ولا بسواد الولد ; كما قدمنا ، ولا بعزل لأن الماء قد يسبق نزعه فتحبل منه ، ولا بوطء في فخذين ; لأن الماء يسيل إلى الفرج فتحمل منه ، كما قدمنا .
المسألة الخامسة عشرة : اعلم أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر فهما توأمان ، فلا يجوز نفي أحدهما ، دون الآخر ، فإن أقر الزوج بأحدهما لزمه قبول الآخر ، والظاهر أنه إن نفى أحدهما مع اعترافه بالثاني حد لقذفه ; كما قاله مالك وأصحابه ، ومن وافقهم .

وقد أوضحنا في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] ، أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك ، ويعلم منه أن كل ولدين بينهما أقل من ستة أشهر ، فهما توأمان .

وقال ابن قدامة في " المغني " : وإن ولدت امرأته توأمين وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر ، فاستحلق أحدهما ، ونفى الآخر لحقا به ; لأن الحمل الواحد ، لا يجوز أن يكون بعضه منه ، وبعضه من غيره ، فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت نسب الآخر ضرورة ، فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه ، ولم نجعل ما أقر به تابعا لما نفاه ; لأن النسب يحتاط لإثباته لا لنفيه ، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن أن يكون منه ، ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا ، ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه ، إلى أن قال : وإن استلحق أحد التوأمين ، وسكت عن الآخر لحقه ; لأنه لو نفاه للحقه ، فإذا سكت عنه كان أولى ، ولأن امرأته متى [ ص: 477 ] أتت بولد لحقه ما لم ينفه عنه بلعان ، وإن نفى أحدهما وسكت عن الآخر ، لحقاه جميعا .

فإن قيل : ألا نفيتم المسكوت عنه ; لأنه قد نفى أخاه ، وهما حمل واحد .

قلنا : لحوق النسب مبني على التغليب ، وهو يثبت لمجرد الإمكان ، وإن كان لم يثبت الوطء ولا ينتفي الإمكان للنفي فافترقا ، فإن أتت بولد فنفاه ولاعن لنفيه ، ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر لم ينتف الثاني باللعان الأول ; لأن اللعان تناول الأول وحده ، ويحتاج في نفي الثاني إلى لعان ثان ، ويحتمل أن ينتفي بنفيه من غير حاجة إلى لعان ثان ; لأنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة ، فلا يحتاج إلى لعان ثان ، ذكره القاضي ، اهـ .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وهذا الأخير هو الأظهر ; لأن الحمل الواحد لا يحتاج إلى لعانين ، ثم قال في " المغني " متصلا بكلامه الأول : فإن أقر بالثاني لحقه هو والأول لما ذكرناه ، وإن سكت عن نفيه لحقاه أيضا ، فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر ، فإنه لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل ، ولو أمكن لم تكن هذه مدة حمل كامل ، فإن نفى هذا الولد باللعان انتفى ، ولا ينتفي بغير اللعان ; لأنه حمل منفرد ، وإن استلحقه أو ترك نفيه لحقه ، وإن كانت قد بانت باللعان ; لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول ، وإن لاعنها قبل وضع الأول ، فأتت بولد ثم ولدت آخر بعد ستة أشهر لم يلحقه الثاني ; لأنها بانت باللعان ، وانقضت عدتها بوضع الأول ، وكان حملها الثاني بعد انقضاء العدة في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه ، ثم قال في " المغني " أيضا : وإن مات أحد التوأمين فله أن يلاعن لنفي نسبهما ، وبهذا قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلزمه نسب الحي ، ولا يلاعن إلا لنفي الحد ; لأن الميت لا يصح نفيه باللعان ، فإن نسبه قد انقطع بموته ، فلا حاجة إلى نفيه باللعان ، كما لو ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لكون النكاح قد انقطع ، وإذا لم ينتف الميت لم ينتف الحي ; لأنهما حمل واحد ولنا أن الميت ينسب إليه ، ويقال ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه ، فكان له نفي نسبه وإسقاط مؤنته كالحي ، وكما لو كان للميت ولد ، اهـ كلام صاحب " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر أنه إن كان للولد الميت الذي يراد نفيه بعد الموت ولد كان حكمه في اللعان كحكم الحي ; لأن ولده الحي لا ينتفي إلا بنفي أبيه ، فله اللعان لنفي نسب الميت لينتفي عنه ولده ، وهذا إن قلنا إن له أن يلاعن بعد هذه [ ص: 478 ] المدة الطويلة ; لأنه لم ينف الولد الميت إلا بعد أن عاش عمرا يولد له فيه ، وقد يكون معذورا بالغيبة زمنا طويلا ، وكذلك عند من يقول : إن السكوت لا يسقط اللعان مطلقا كما تقدم ، وكذلك إن أريد إلزامه بتكفين الولد الميت وتجهيزه ، فالأظهر أن له أن ينفيه عنه بلعان ليتخلص من مئونة تجهيزه وتكفينه ، والظاهر أنه إن نفى ولدا بعد موته ، فإن كانت أمه حية فلا بد من اللعان ; لأنه قاذف أمه ، وإن كانت الأم ميتة جرى على الخلاف في حد من قذف ميتة ، فعلى القول بالحد فله اللعان ، وعلى القول بعدمه فلا لعان ، وقد قدمنا الخلاف في ذلك ، ويعتضد ما ذكرنا بما تقدم قريبا من أن له اللعان لنفي الولد ; لأنه يجتمع به موجبان للعان ، وهما إسقاط الحد ونفي الولد ، وبه تعلم أن الأظهر عدم النظر إلى الولد الميت هل ترك مالا أو لا ؟ والعلم عند الله تعالى .

تنبيه .

اعلم أن أهل العلم اختلفوا في توأمي الملاعنة المنفيين باللعان ، هل يتوارثان توارث الشقيقين أو الأخوين لأم ؟ وقال ابن الحاجب من المالكية : هما شقيقان ، وقال خليل في " التوضيح " ، وهو شرحه لمختصر ابن الحاجب في الفقه المالكي : إن كونهما شقيقين هو مشهور مذهب مالك ، وقال المغيرة من المالكية : يتوارثان توارث الأخوين لأم ، كالمشهور عند المالكية في توأمي الزانية والمغتصبة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لنا أن توأمي الملاعنة يتوارثان توارث الأخوين لأم ، وأنهما لا يحكم لهما بحكم الشقيقين ; لأنهما لا يلحقان بأب معروف ، وإذا لم يكن لهما أب معروف فلا وجه لكونهما شقيقين ، ويوضح ذلك أنهما إنما ينسبان لأمهما ، وبه تعلم أن مشهور مذهب مالك في هذه المسألة خلاف الأظهر . وأما قول ابن نافع من المالكية : إن توأمي الزانية شقيقان ، فهو خلاف التحقيق ; لأن الزاني لا يلحق به نسب حتى يكون أبا لابنه من الزنى ، والرواية عن ابن القاسم بنحو قول ابن نافع ظاهرها السقوط ، كما ترى . وأما ما قاله ابن رشد في " البيان " من أن توأمي المسبية ، والمستأمنة شقيقان ، فوجهه ظاهر ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة عشرة : اعلم أنه إن تزوجها ثم قذفها بعد النكاح قائلا : إنها زنت قبل أن يتزوجها . فإن أهل العلم اختلفوا هل له لعانها نظرا إلى أن القذف وقع وهي زوجته أو [ ص: 479 ] يحد لقذفها ولا يمكن من اللعان نظرا إلى أنها وقت الزنى الذي قذفها به أجنبية منه ، وليست بزوجة .

قال ابن قدامة في " المغني " : وإن قذفها بعد تزوجها بزنى أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم يلاعن ، سواء كان ثم ولد أو لم يكن ، وهو قول مالك وأبي ثور ، وروي ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبي ، وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي : له أن يلاعن ; لأنه قذف امرأته ، فيدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون أزواجهم الآية ، ولأنه قذف امرأته فأشبه ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح ، وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد رواية أخرى كذلك ، وقال الشافعي : إن لم يكن ثم ولد لم يلاعن ، وإن كان بينهما ولد ففيه وجهان ، ولنا أنه قذفها قذفا مضافا إلى حال البينونة فأشبه ما لو قذفها وهي بائن وفارق قذف الزوجة ; لأنه محتاج إليه ، لأنها غاظته وخانته ، وإن كان بينهما ولد فهو محتاج إلى نفيه ، وهاهنا إذا تزوجها وهو يعلم زناها فهو المفرط في نكاح حامل من الزنى ، فلا يشرع له طريق إلى نفيه ، اهـ من " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر الأقوال عندي في هذه المسألة أنه إن لم يكن ولد ، فلا يمكن الزوج من اللعان ، ويحد لقذفها إن لم يأت بأربعة شهداء ; لأنه قذفها وهي أجنبية ، فيدخل في عموم قوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء الآية ، لأنه قاذف محصنة ليست بزوجة ، والنكاح الطارئ لا يغير الحكم الذي تقرر قبله كما ترى ، وإن كان هناك ولد يلحق به لو سكت ، وهو يعلم أنه ليس منه استنادا إلى بعض الأمور المسوغة لنفي الولد التي قدمناها أن له أن يلاعن لنفي الولد .

والحاصل : أنه له اللعان لنفي الولد لا لدفع الحد فيما يظهر لنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السادسة عشرة : فيما لو قال لامرأته : أنت طالق ثلاثا يا زانية ، فقيل : يلاعن ، وقيل : لا يلاعن ; لأن القذف إنما وقع بعد البينونة بالثلاث على القول بالبينونة بها ، وهو قول جمهور أهل العلم منهم الأئمة الأربعة وأصحابهم .

قال ابن قدامة في " المغني " : نقل مهنأ قال : سألت أحمد عن رجل قال لامرأته : أنت طالق يا زانية ثلاثا ، فقال : يلاعن ، قلت : إنهم يقولون يحد ، ولا يلزمها إلا واحدة ، قال : بئس ما يقولون فهذا يلاعن ; لأنه قذفها قبل الحكم ببينونتها ، فأشبه قذف الرجعية ، اهـ منه [ ص: 480 ] وله وجه من النظر ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة عشرة : فيما لو جاءت زوجته بولد فنفاه فصدقته الزوجة في أن الولد من غيره ، فعلى الزوجة حد الزنى .

واختلف أهل العلم هل ينتفي نسب الولد بتصادقهما بدون لعان ، أو لا ينتفي إلا بلعان ، وكلا القولين مروي عن مالك ، وأكثر الرواة عنه أنه لا ينتفي إلا بلعان .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين عندي أنه لا ينتفي عن الزوج إلا بلعانه ، ولا يسقط حقه من لحوق نسبه بتصديق أمه للزوج ; لأن للولد حقا في لحوق نسبه فلا يسقط إلا بلعان الزوج ، وأما الزوجة فلا يصح منها اللعان في هذه الصورة ; لأنها مقرة بصدق الزوج في دعواه .
المسألة الثامنة عشرة : اعلم أن الأظهر عندنا فيمن قذف امرأته فطالبت بحده لقذفها فأقام شاهدين على إقرارها بالزنى الذي قذفها به أن حكم هذه المسألة مبني على الاختلاف في الإقرار بالزنى ، هل يثبت بشاهدين كغيره من سائر الأقارير أو لا يثبت إلا بأربعة شهود ، فمن قال : يثبت بشاهدين يلزم قوله : أن الرجل لا يحد لقذفها ; لأن إقرارها بالزنى ثبت بالشاهدين ، وعلى القول الآخر يحد ; لأن إقرارها لم يثبت ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة التاسعة عشرة : اعلم أن الأظهر أنهما إن شهدا عليه بأنه قذف امرأته وقذفهما أعني الشاهدين لم تقبل شهادتهما بقذف المرأة ; لأنهما لما ادعيا عليه أنه قذفهما صارا له عدوين ; لأن القذف يستوجب العداوة . قال ابن قدامة في " المغني " : فإن شهد شاهدان أنه قذف فلانة ، وقذفنا لم تقبل شهادتهما لاعترافهما بعداوته لهما ، وشهادة العدو لا تقبل على عدوه ، فإن أبرآه وزالت العداوة ثم شهدا عليه بذلك القذف لم تقبل لأنها ردت للتهمة ، فلم تقبل بعد كالفاسق إذا شهد فردت شهادته لفسقه ، ثم تاب وأعادها ، ولو أنهما ادعيا عليه أنه قذفهما ، ثم أبرآه وزالت العداوة ، ثم شهدا عليه بقذف زوجته قبلت شهادتهما ; لأنهما لم يردا في هذه الشهادة ، ولو شهدا أنه قذف امرأته ، ثم ادعيا بعد ذلك أنه قذفهما فإن أضافا دعواهما إلى ما قبل شهادتهما ، بطلت شهادتهما لاعترافهما أنه كان عدوا لهما حين شهدا عليه ، وإن لم يضيفاها إلى ذلك الوقت ، وكان ذلك قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها ; لأنه لا يحكم عليه بشهادة عدوين ، وإن كانت بعد الحكم لم يبطل ; لأن الحكم تم قبل [ ص: 481 ] وجود المانع كظهور الفسق ، وإن شهدا أنه قذف امرأته وأمنا لم تقبل شهادتهما ، لأنها ردت في البعض للتهمة ، فوجب أن ترد للكل ، وإن شهدا على أبيهما أنه قذف ضرة أمهما قبلت شهادتهما ، وبهذا قال مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد ، وقال في القديم : لا تقبل ; لأنهما يجران إلى أمهما نفعا ، وهو أنه يلاعنها فتبين ويتوفر على أمهما وليس بشيء ; لأن لعانه لها ينبني على معرفته بزناها لا على الشهادة عليه بما لا يعترف به ، وإن شهدا بطلاق الضرة ، ففيه وجهان : أحدهما : لا تقبل ؛ لأنهما يجران إلى أمهما نفعا وهو توفيره على أمهما .

والثاني : تقبل ؛ لأنهما لا يجران إلى نفسهما نفعا ، اهـ من " المغني " ، وكله لا نص فيه ولا يخلو بعضه من خلاف ، والأظهر عدم قبول شهادتهما بطلاق ضرة أمهما ; لأنهما متهمان بجر النفع لأمهما ، لأن طلاق الضرة فيه نفع لضرتها كما لا يخفى وشهادة الإنسان بما ينفع أمه لا تخلو من تهمة كما ترى ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة العشرون : في اختلاف اللغات أو الأزمنة في القذف أو الإقرار به .

قال ابن قدامة في " المغني " : ولو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها وشهد آخر أنه أقر بذلك بالعجمية ، تمت الشهادة; لأن الاختلاف في العربية والعجمية عائد إلى الإقرار دون القذف ، ويجوز أن يكون القذف واحدا والإقرار به في مرتين ، وكذلك لو شهد أحدهما أنه أقر يوم الخميس بقذفها ، وشهد آخر أنه أقر بذلك يوم الجمعة تمت الشهادة لما ذكرناه ، وإن شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية ، أو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة أو شهد أحدهما أنه أقر أنه قذفها بالعربية أو بالعجمية ، أو شهد أحدهما أنه أقر بأنه قذفها بالعربية ، أو يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر أنه قذفها بالعجمية أو يوم الجمعة ، أو يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة ، ففيه وجهان :

أحدهما : تكمل الشهادة وهو قول أبي بكر ومذهب أبي حنيفة ; لأن الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة ، وكذلك اللسان فلم يؤثر الاختلاف ; كما لو شهد أحدهما أنه أقر بقذفها يوم الخميس بالعربية ، وشهد الآخر أنه أقر بقذفها يوم الجمعة بالعجمية ، والآخر : لا تكمل الشهادة ، وهو مذهب الشافعي ; لأنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم يثبت ، كما لو شهد أحدهما أنه تزوجها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة [ ص: 482 ] وفارق الإقرار بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين ، انتهى من " المغني " .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه المسألة هي المعروفة عند العلماء بالشهادة هل تلفق في الأفعال والأقوال ، أو لا تلفق ؟ وبعضهم يقول تلفق في الأقوال دون الأفعال ، وبعضهم يقول : تلفق فيهما ، والفرق بينهما ليس بظاهر ، وقولهم : هما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما قد يقال فيه ، وكذلك الإقرار المختلف وقته أو لسانه هما إقراران لم تتم الشهادة على واحد منهما ، وهذه المسألة لا نص فيها وكل من الأقوال فيها له وجه من النظر ، والخلاف المذكور وعدم النص لا يبعد أن يكون شبهة تدرأ الحد ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الواحدة والعشرون : اعلم أن الذي يظهر لنا أنه الصواب أن من نفى حمل امرأته بلعان أنه ينتفي عنه ، ولا يلزمه لعان آخر بعد وضعه ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله تعالى ، وبه تعلم أن قول أبي حنيفة - رحمه الله - ومن وافقه من أهل الكوفة ، وقول الخرقي ومن وافقه من الحنابلة أن الحمل لا يصح نفيه باللعان ، فلا بد من اللعان بعد الوضع ; لأن الحمل قبل الوضع غير محقق ; لاحتمال أن يكون ريحا خلاف التحقيق فيما يظهر لنا من انتفاء الحمل باللعان ، كما هو قول مالك والشافعي ومن وافقهم من أهل الحجاز ، كما نقله عنهم ابن قدامة في " المغني " ، وقصة هلال بن أمية - رضي الله عنه - صريحة في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى عنه حمل امرأته باللعان ، ولم يلزمه بإعادة اللعان بعد الوضع ، والرواية التي توهم أن لعانه كان بعد الوضع أوضحنا الجواب عنها فيما تقدم بما أجاب به عنها ابن حجر في " الفتح " ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية والعشرون : في حكم من قذف امرأته باللواط ، وقد أوضحنا في سورة " هود " ، في الكلام على قصة قوم لوط أقوال أهل العلم في عقوبة اللائط وبينا أن أقواها دليلا قتل الفاعل والمفعول به ، وعليه فلا حد بالقذف باللواط وإنما فيه التعزير ، وذكرنا قول من قال من أهل العلم : إن اللواط حكمه حكم الزنى وعلى هذا القول يلاعن القاذف باللواط ، وإن امتنع من اللعان حد ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg








(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (403)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 483 إلى صـ 490




المسألة الثالثة والعشرون : في حكم من ولدت امرأته ولدا لا يمكن أن يكون منه ، فإن الولد لا يلحقه ولا يحتاج إلى نفيه بلعان ; لأنه معلوم أنه ليس منه كما لو تزوج امرأة [ ص: 483 ] فجاءت بولد كامل لأقل من ستة أشهر ; لأن أقل أمد الحمل ستة أشهر ، كما أوضحناه في سورة " الرعد " ، ولا خلاف في ذلك بين أهل العلم ، وككون الزوج صبيا لا يولد لمثله عادة لصغره ونحو ذلك .

واعلم أن الذي يظهر لنا أنه هو الصواب أن كل ولد جاءت به امرأة الصغير قبل بلوغه أنه لا يلحق به ، ولا يحتاج إلى لعان ، وبه تعل م أن قول من قال من الحنابلة ، ومن وافقهم : إن الزوج إن كان ابن عشر سنين لحقه الولد وكذلك تسع سنين ونصف ، كما قاله القاضي من الحنابلة أنه خلاف التحقيق ، واستدلالهم على لحوق الولد بالزوج الذي هو ابن عشر سنين بحديث " : واضربوهم على الصلاة لعشر ، وفرقوا بينهم في المضاجع " ظاهر السقوط ، وإن اعتمده ابن قدامة مع علمه ، وغيره من الحنابلة .

فالتحقيق إن شاء الله تعالى هو ما قاله أبو بكر من الحنابلة من أنه لا يلحق به الولد حتى يبلغ وهو ظاهر لا يخفى ، وكما لو تزوج امرأة في مجلس ، ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم ، ثم أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي مغربية ، أو عكسه ، ثم مضت ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه ، قال ابن قدامة في " المغني " : وبذلك قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : يلحقه نسبه ; لأن الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان الإمكان لحق الولد ، وإن علم أنه لم يحصل منه الوطء ، انتهى منه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق إن شاء الله عدم لحوق الولد فيما ذكر للعلم بأنه ليس منه ولا حاجة لنفيه ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة والعشرون : اعلم أن أظهر الأقوال وأقواها دليلا ، أن المتلاعنين يتأبد التحريم بينهما ، فلا يجتمعان أبدا ، وقد جاءت بذلك أحاديث منها ما رواه أبو داود من حديث سهل بن سعد ، وفيه : فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ، ثم لا يجتمعان أبدا ، انتهى .

وقال في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، ورجاله رجال الصحيح ، ومنها ما رواه الدارقطني عن سهل أيضا ، وفيه : ففرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما ، وقال " : لا يجتمعان أبدا " ، انتهى منه بواسطة نقل المجد في " المنتقى " ، وقال فيه [ ص: 484 ] صاحب " نيل الأوطار " : وفي إسناده عياض بن عبد الله ، قال في " التقريب " : فيه لين ، ولكنه قد أخرج له مسلم ، اهـ .

ومنها ما رواه الدارقطني عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا " ، انتهى منه بواسطة نقل المجد أيضا .

ومنها ما رواه الدراقطني أيضا ، عن علي - رضي الله عنه - قال : مضت السنة في المتلاعنين أن لا يجتمعا أبدا ، وما رواه الدارقطني أيضا ، عن علي ، وابن مسعود ، قالا : مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان ، وقال صاحب " نيل الأوطار " في حديث ابن عباس : أخرج نحوه أبو داود في قصة طويلة ، وفي إسنادها عباد بن منصور وفيه مقال ، وقال في حديث علي وابن مسعود : أخرجهما أيضا عبد الرزاق وابن أبي شيبة ، انتهى منه .

وبه تعلم أن تأبيد التحريم أصوب من قول من قال من العلماء إن أكذب نفسه حد ، ولا يتأبد تحريمها عليه ، ويكون خاطبا من الخطاب وهو مروي عن أبي حنيفة ، ومحمد ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، والأظهر أنه إن أكذب نفسه لحق به الولد وحد خلافا لعطاء القائل : إنه لا يحد .

تنبيه .

اعلم أن أقوال أهل العلم في فرقة اللعان قدمناها مستوفاة في سورة " البقرة " .

في كلامنا الطويل على آية : الطلاق مرتان الآية [ 2 \ 229 ] ، وقد قدمنا كلام أهل العلم واختلافهم في لعان الأخرس في سورة " مريم " ، ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية ، ومن أراد استقصاء مسائل اللعان فلينظر كتب فروع المذاهب الأربعة ،قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم

بين - جل وعلا - في هذه الآية ، أنه لولا فضله ورحمته ، ما زكا أحد من خلقه ولكنه بفضله ورحمته يزكي من يشاء تزكيته من خلقه .

ويفهم من الآية أنه لا يمكن أحدا أن يزكي نفسه بحال من الأحوال ، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : [ ص: 485 ] ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء الآية [ 4 \ 49 ] ، وقوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] .

والزكاة في هذه الآية : هي الطهارة من أنجاس الشرك ، والمعاصي .

وقوله : ولكن الله يزكي من يشاء [ 4 \ 21 ] أي يطهره من أدناس الكفر والمعاصي بتوفيقه وهدايته إلى الإيمان والتوبة النصوح والأعمال الصالحة .

وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات المذكورة لا يعارضه قوله تعالى : قد أفلح من زكاها [ 91 \ 9 ] ولا قوله : قد أفلح من تزكى [ 87 \ 14 ] على القول بأن معنى تزكى تطهر من أدناس الكفر والمعاصي ، لا على أن المراد بها خصوص زكاة الفطر ، ووجه ذلك في قوله : من زكاها أنه لا يزكيها إلا بتوفيق الله وهدايته إياه للعمل الصالح ، وقبوله منه .

وكذلك الأمر في قوله : قد أفلح من تزكى كما لا يخفى .

والأظهر أن قوله : ما زكا منكم من أحد الآية [ 24 \ 21 ] : جواب لولا التي تليه خلافا لمن زعم أنه جواب لولا في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم الآية [ 24 \ 20 ] وقد تكرر في الآيات التي قبل هذه الآية حذف جواب لولا ، لدلالة القرائن عليه ،
قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم

نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر - رضي الله عنه - ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب ، وكان مسطح المذكور من المهاجرين وهو فقير ، وكانت أمه ابنة خالة أبي بكر - رضي الله عنه - وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وقرابته وهجرته ، وكان ممن تكلم في أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بالإفك المذكور في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم الآية [ 24 \ 11 ] ، وهو ما رموها به من أنها فجرت مع صفوان بن المعطل السلمي - رضي الله عنه - .

[ ص: 486 ] وقصة الإفك معروفة مشهورة ثابتة في عشر آيات من هذه السورة الكريمة ، وفي الأحاديث الصحاح ، فلما نزلت براءة عائشة - رضي الله عنها - في الآيات المذكورة ، حلف أبو بكر ألا ينفق على مسطح ، ولا ينفعه بنافعة بعد ما رمى عائشة بالإفك ظلما وافتراء ، فأنزل الله في ذلك : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله الآية ، وقوله : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أي : لا يحلف ، فقوله : " يأتل " وزنه يفتعل من الألية وهي اليمين ، تقول العرب آلى يؤلي وائتلى يأتلي إذا حلف ، ومنه قوله تعالى : للذين يؤلون من نسائهم [ 2 \ 226 ] ، أي : يحلفون مضارع آلى يؤلي إذا حلف ، ومنه قول امرئ القيس :



ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل


أي حلفت حلفة ، وقول عاتكة بنت زيد العدوية ترثي زوجها عبد الله بن أبي بكر - رضي الله عنهم - :



فآليت لا تنفك عيني حزينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا



والألية اليمين ، ومنه قول الآخر يمدح عمر بن عبد العزيز :



قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت



أي : لا يحلف أصحاب الفضل والسعة ، أي : الغنى كأبي بكر - رضي الله عنه - أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح بن أثاثة ، وقوله : أن يؤتوا ، أي : لا يحلفوا عن أن يؤتوا ، أو لا يحلفوا ألا يؤتوا وحذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من أن وصلتهما مطرد . وكذلك حذف لا النافية قبل المضارع بعد القسم ، ولا يؤثر في ذلك هنا كون القسم منهيا عنه ، ومفعول يؤتوا الثاني محذوف ، أي : أن يؤتوا أولي القربى النفقة والإحسان ، كما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - .

وقال بعض أهل العلم : قوله : ولا يأتل ، أي : لا يقصر أصحاب الفضل ، والسعة كأبي بكر في إيتاء أولى القربى كمسطح ، وعلى هذا فقوله يأتل يفتعل من ألا يألو في الأمر إذا قصر فيه وأبطأ .

ومنه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا [ ص: 487 ] [ 3 \ 118 ] ، أي لا : يقصرون في مضرتكم ، ومنه بهذا المعنى قول الجعدي :

وأشمط عريانا يشد كتافه يلام على جهد القتال وما ائتلا



وقول الآخر :

وإن كنائني لنساء صدق فما آلى بني ولا أساءوا



فقوله : فما آلى بني : يعني ما قصروا ، ولا أبطئوا والأول هو الأصح ، لأن حلف أبي بكر ألا ينفع مسطحا بنافعة ، ونزول الآية الكريمة في ذلك الحلف معروف . وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الحلف عن فعل البر من إيتاء أولى القربى والمساكين والمهاجرين ، جاء أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس [ 2 \ 224 ] ، أي : لا تحلفوا بالله عن فعل الخير ، فإذا قيل لكم : اتقوا وبروا ، وأصلحوا بين الناس قلتم : حلفنا بالله لا نفعل ذلك ، فتجعلوا الحلف بالله سببا للامتناع من فعل الخير على الأصح في تفسير الآية .

وقد قدمنا دلالة هاتين الآيتين على المعنى المذكور ، وذكرنا ما يوضحه من الأحاديث الصحيحة في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ 6 \ 89 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وليعفوا وليصفحوا فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا وأصل العفو : من عفت الريح الأثر إذا طمسته .

والمعنى : فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم ، والصفح : قال بعض أهل العلم مشتق من صفحة العنق ، أي : أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق ، معرضين عنها . وما تضمنته هذه الآية من العفو والصفح جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 133 - 134 ] وقد دلت هذه الآية على أن كظم الغيط والعفو عن الناس من صفات أهل الجنة ، وكفى بذلك حثا على ذلك ، ودلت أيضا : على أن ذلك من الإحسان الذي يحب الله المتصفين به ، وكقوله تعالى [ ص: 488 ] إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] وقد بين تعالى في هذا الآية أن العفو مع القدرة من صفاته تعالى ، وكفى بذلك حثا عليه ، وكقوله تعالى : فاصفح الصفح الجميل [ 15 \ 85 ] وكقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ألا تحبون أن يغفر الله لكم دليل على أن العفو والصفح على المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب ، والجزاء من جنس العمل ، ولذا لما نزلت قال أبو بكر : بلى والله نحب أن يغفر لنا ربنا ، ورجع للإنفاق في مسطح ، ومفعول " أن يغفر الله " محذوف للعلم به : أي يغفر لكم ذنوبكم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أولي القربى أي : أصحاب القرابة ، ولفظة أولى اسم جمع لا واحد له من لفظه يعرب إعراب الجمع المذكر السالم .
فائدة

في هذه الآية الكريمة دليل على أن كبائر الذنوب لا تحبط العمل الصالح ; لأن هجرة مسطح بن أثاثة من عمله الصالح ، وقذفه لعائشة من الكبائر ولم يبطل هجرته ; لأن الله قال فيه بعد قذفه لها والمهاجرين في سبيل الله فدل ذلك على أن هجرته في سبيل الله ، لم يحبطها قذفه لعائشة - رضي الله عنها - .

قال القرطبي : في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال ; لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان ، وكذلك سائر الكبائر ، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله ، قال تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] اهـ .

وما ذكر من أن في الآية وصف مسطح بالإيمان لم يظهر من الآية ، وإن كان معلوما .

وقال القرطبي أيضا : قال عبد الله بن المبارك : هذه أرجى آية في كتاب الله ، ثم قال بعد هذا : قال بعض العلماء ، هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ . وقيل : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - قوله تعالى : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] وقد قال تعالى في آية أخرى والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ ص: 489 ] [ 42 \ 22 ] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية ، وبشر به المؤمنين في تلك .

ومن آيات الرجاء قوله تعالى : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا الآية [ 39 \ 53 ] ، وقوله تعالى : الله لطيف بعباده [ 42 \ 19 ] . وقال بعضهم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار ، انتهى كلام القرطبي .

وقال بعض أهل العلم : أرجى آية في كتاب الله - عز وجل - آية الدين : وهي أطول آية في القرآن العظيم ، وقد أوضح الله تبارك وتعالى فيها الطرق الكفيلة بصيانة الدين من الضياع ، ولو كان الدين حقيرا كما يدل عليه قوله تعالى فيها : ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله الآية [ 2 \ 282 ] ، قالوا : هذا من المحافظة في آية الدين على صيانة مال المسلم ، وعدم ضياعه ، ولو قليلا يدل على العناية التامة بمصالح المسلم ، وذلك يدل على أن اللطيف الخبير لا يضيعه يوم القيامة عند اشتداد الهول ، وشدة حاجته إلى ربه .

قال مقيده عفا الله وغفر له : من أرجى آيات القرآن العظيم قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 32 - 35 ] .

فقد بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن إيراث هذه الأمة لهذا الكتاب دليل على أن الله اصطفاها في قوله : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا وبين أنهم ثلاثة أقسام :

الأول : الظالم لنفسه وهو الذي يطيع الله ، ولكنه يعصيه أيضا فهو الذي قال الله فيه خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم [ 9 \ 102 ] .

[ ص: 490 ] والثاني : المقتصد وهو الذي يطيع الله ، ولا يعصيه ، ولكنه لا يتقرب بالنوافل من الطاعات .

والثالث : السابق بالخيرات : وهو الذي يأتي بالواجبات ويجتنب المحرمات ويتقرب إلى الله بالطاعات والقربات التي هي غير واجبة ، وهذا على أصح الأقوال في تفسير الظالم لنفسه ، والمقتصد والسابق ، ثم إنه تعالى بين أن إيراثهم الكتاب هو الفضل الكبير منه عليهم ، ثم وعد الجميع بجنات عدن وهو لا يخلف الميعاد في قوله : جنات عدن يدخلونها إلى قوله : ولا يمسنا فيها لغوب والواو في يدخلونها شاملة للظالم ، والمقتصد والسابق على التحقيق ، ولذا قال بعض أهل العلم : حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين ، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه الأمة ، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن ، ولم يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة ، فالوعد الصادق بالجنة في الآية شامل لجميع المسلمين ؛ ولذا قال بعدها متصلا بها والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور إلى قوله : فما للظالمين من نصير [ 35 \ 36 - 37 ] .

واختلف أهل العلم في سبب تقديم الظالم في الوعد بالجنة على المقتصد والسابق ، فقال بعضهم : قدم الظالم لئلا يقنط ، وأخر السابق بالخير لئلا يعجب بعمله فيحبط ، وقال بعضهم : قدم الظالم لنفسه ; لأن أكثر أهل الجنة الظالمون لأنفسهم ، لأن الذين لم تقع منهم معصية أقل من غيرهم ; كما قال تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم [ 38 \ 24 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:47 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (404)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 491 إلى صـ 498



قوله تعالى : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، أنهم ملعونون في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم ، يوم تشهد عليهم ألسنتهم ، وأيديهم ، وأرجلهم بما كانوا يعملون ، وبين في غير هذا الموضع أن بعض أجزاء الكافر تشهد عليه يوم القيامة غير اللسان ; كقوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] وقوله تعالى : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ ص: 491 ] إلى قوله تعالى : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 41 \ 20 - 23 ] .
قوله تعالى : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق المراد بالدين هنا الجزاء ، ويدل على ذلك قوله : يوفيهم ; لأن التوفية تدل على الجزاء كقوله تعالى : ثم يجزاه الجزاء الأوفى [ 53 \ 41 ] ، وقوله تعالى : وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ 3 \ 185 ] وقوله ، توفى كل نفس ما كسبت [ 3 \ 161 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله : " دينهم " ، أي : جزاءهم الذي هو في غاية العدل والإنصاف ، وقال الزمخشري : دينهم الحق ، أي : جزاءهم الواجب الذي هم أهله ، والأول أصح ; لأن الله يجازي عباده بإنصاف تام ، وعدل كامل ، والآيات القرآنية في ذلك كثيرة كقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] وقوله : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه ، ومن إتيان الدين بمعنى الجزاء في القرآن قوله تعالى : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون اعلم أن هذه الآية الكريمة أشكلت على كثير من أهل العلم ، وذلك من أجل التعبير عن الاستئذان بالاستئناس ، مع أنهما مختلفان في المادة والمعنى . وقال ابن حجر في الفتح : وحكى الطحاوي : أن الاستئناس في لغة اليمن : الاستئذان . وفي تفسير هذه الآية الكريمة بما يناسب لفظها وجهان ، ولكل منهما شاهد من كتاب الله تعالى .

الوجه الأول : أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو ضد الاستيحاش ; لأن الذي يقرع باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه ، فإذا أذن له [ ص: 492 ] استأنس وزال عنه الاستيحاش ، ولما كان الاستئناس لازما للإذن أطلق اللازم ، وأريد ملزومه الذي هو الإذن ، وإطلاق اللازم ، وإرادة الملزوم أسلوب عربي معروف ، والقائلون بالمجاز يقولون : إن ذلك من المجاز المرسل ، وعلى أن هذه الآية أطلق فيها اللازم الذي هو الاستئناس وأريد ملزومه الذي هو الإذن يصير المعنى : حتى تستأذنوا ، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم [ 33 \ 53 ] ، وقوله تعالى بعده : فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم [ 24 \ 28 ] ، وقال الزمخشري في هذا الوجه بعد أن ذكره : وهذا من قبيل الكناية ، والإرداف ; لأن هذا النوع من الاستئناس يردف الإذن فوضع موضع الإذن .

الوجه الثاني في الآية : هو أن يكون الاستئناس بمعنى الاستعلام ، والاستكشاف ، فهو استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا أو علمه .

والمعنى : حتى تستعملوا وتستكشفوا الحال ، هل يؤذن لكم أو لا ؟ وتقول العرب : استأنس هل ترى أحدا ، واستأنست فلم أر أحدا ، أي : تعرفت واستعلمت ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم [ 4 \ 6 ] ، أي : علمتم رشدهم وظهر لكم ، وقوله تعالى عن موسى : إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس [ 20 \ 10 ] وقوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا الآية [ 28 \ 29 ] فمعنى آنس نارا : رآها مكشوفة ، ومن هذا المعنى قول نابغة ذبيان :



كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد من وحش وجرة موشي أكارعه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد



فقوله على مستأنس ، يعني : حمار وحش شبه به ناقته ، ومعنى كونه مستأنسا أنه يستكشف ، ويستعمل القانصين بشمه ريحهم وحدة بصره في نظره إليهم ، ومنه أيضا قول الحارث بن حلزة اليشكري يصف نعامة شبه بها ناقته :



آنست نبأة وأفزعها القنا ص عصرا وقد دنا الإمساء



فقوله : آنست نبأة ، أي : أحست بصوت خفي ، وهذا الوجه الذي هو أن معنى تستأنسوا تستكشفوا وتستعلوا ، هل يؤذن لكم ، وذلك الاستعلام والاستكشاف إنما يكون [ ص: 493 ] بالاستئذان أظهر عندي ، وإن استظهر بعض أهل العلم الوجه الأول ، وهناك وجه ثالث في تفسير الآية تركناه لعدم اتجاهه عندنا .

وبما ذكرنا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية : حتى تستأذنوا وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم ، فكتبوا تستأنسوا غلطا بدل تستأذنوا لا يعول عليه ، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس ، وإن صحح سنده عنه بعض أهل العلم ، ولو فرضنا صحته فهو من القراءات التي نسخت وتركت ، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك ; لأن جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على كتابة تستأنسوا في جميع نسخ المصحف العثماني ، وعلى تلاوتها بلفظ : تستأنسوا ، ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير ، والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير ، كما قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] وقال فيه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 42 ] وقال تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه الآية [ 75 \ 16 - 17 ] .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى : اعلم أن هذه الآية الكريمة دلت بظاهرها على أن دخول الإنسان بيت غيره بدون الاستئذان والسلام لا يجوز ; لأن قوله : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم الآية [ 24 \ 27 ] ، نهي صريح ، والنهي المتجرد عن القرائن يفيد التحريم على الأصح ، كما تقرر في الأصول .
المسألة الثانية : اعلم أن الاستئذان ثلاث مرات ، يقول المستأذن في كل واحدة منها : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له عند الثالثة ، فليرجع ، ولا يزد على الثلاث ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه ، لأنه ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور ، فقال : استأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي ، فرجعت ، قال : ما منعك ؟ قلت : استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت ، وقال [ ص: 494 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال : والله لتقيمن عليه بينة أمنكم أحد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبي بن كعب : والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم ، فكنت أصغر القوم فقمت معه ، فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك .

وقال ابن المبارك : أخبرني ابن عيينة : حدثني يزيد بن خصيفة عن بسر ، سمعت أبا سعيد بهذا ، اهـ بلفظه من صحيح البخاري . وهو نص صحيح صريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الاستئذان ثلاث مرات ، فإن لم يؤذن له بعد الثالثة رجع . وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عمرو بن محمد بن بكير الناقد ، حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا والله يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد قال : سمعت أبا سعيد الخدري - رضي الله عنه - يقول : كنت جالسا بالمدينة في مجلس الأنصار ، فأتانا أبو موسى فزعا أو مذعورا قلنا : ما شأنك ؟ قال : إن عمر أرسل إلي أن آتيه فأتيت بابه ، فسلمت ثلاثا فلم يرد علي فرجعت فقال : ما منعك أن تأتينا ؟ فقلت : إنني أتيتك ، فسلمت على بابك ثلاثا ، فلم يردوا علي فرجعت ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع " فقال عمر : أقم عليها البينة ، وإلا أوجعتك ، فقال أبي بن كعب : لا يقوم معه إلا أصغر القوم : قال أبو سعيد : قلت : أنا أصغر القوم ، قال : فاذهب به . حدثنا قتيبة بن سعيد ، وابن أبي عمر قالا : حدثنا سفيان ، عن يزيد بن خصيفة بهذا الإسناد ، وزاد ابن أبي عمر في حديثه : قال أبو سعيد : فقمت معه فذهبت إلى عمر فشهدت ، اهـ بلفظه من صحيح مسلم . وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد قال : فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا ، فقال أبي بن كعب : فوالله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا ، قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت : قد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا .

وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي سعيد فقال : إن كان هذا شيئا حفظته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فها ، وإلا فلأجعلنك عظة ، قال أبو سعيد : فأتانا فقال : ألم تعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : الاستئذان ثلاث ، قال فجعلوا يضحكون ، قال فقلت : أتاكم أخوكم المسلم قد أفزع ، تضحكون انطلق فأنا شريكك في هذه العقوبة فأتاه ، فقال هذا أبو سعيد .

وفي لفظ عند مسلم من حديث عبيد بن عمير أن أبا موسى استأذن على عمر ثلاثا إلى قوله : قال لتقيمن على هذا بينة ، أو لأفعلن فخرج فانطلق إلى مجلس من الأنصار ، [ ص: 495 ] فقالوا : لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا ، فقام أبو سعيد ، فقال : كنا نؤمر بهذا ، فقال عمر : خفي علي هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألهاني عنه الصفق في الأسواق ، وفي لفظ عند مسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : لتأتيني على هذا وإلا فعلت وفعلت ، فذهب أبو موسى قال عمر : إن وجد بينة تجدوه عند المنبر عشية ، وإن لم يجد بينة فلم تجدوه ، فلما أن جاء العشي وجدوه ، قال يا أبا موسى : ما تقول أقد وجدت ؟ قال : نعم أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال عدل ، يا أبا الطفيل ما يقول هذا ؟ قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سبحان الله : إنما سمعت شيئا فأحببت أن أتثبت ، وفي لفظ لمسلم : أن عمر قال لأبي : يا أبا المنذر آنت سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : نعم ، فلا تكن يا ابن الخطاب عذابا على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وليس في هذه الرواية قول عمر : سبحان الله ، وما بعده .

فهذه الروايات الصحيحة عن أبي سعيد وأبي موسى ، وأبي بن كعب - رضي الله عنهم - تدل دلالة صحيحة صريحة على أن الاستئذان ثلاث ، وقال النووي في شرح مسلم : وأما قوله لا يقوم معه إلا أصغر القوم ، فمعناه أن هذا حديث مشهور بيننا معروف لكبارنا ، وصغارنا ، حتى إن أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اهـ منه ، والظاهر منه كما قال ، وهذه الروايات الصحيحة الصريحة تبين أن هذا الاستئذان المعبر عنه في الآية بالاستئناس ، والسلام المذكور فيها لا يزاد فيه على ثلاث مرات ، وأن الاستئناس المذكور في الآية ، هو الاستئذان المكرر ثلاثا ; لأن خير ما يفسر به كتاب الله بعد كتاب الله سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه ، وبذلك تعلم أن ما قاله ابن حجر في فتح الباري : من أن المراد بالاستئناس في قوله تعالى : " حتى تستأنسوا " : الاستئذان بتنحنح ، ونحوه عند الجمهور خلاف التحقيق ، وما استدل به لذلك من رواية الطبري من طريق مجاهد تفسير الآية بما ذكر إلى آخر ما ذكر من الأدلة لا يعول عليه ، وأن الحق هو ما جاءت به الروايات الصحيحة من الاستئذان والتسليم ثلاثا كما رأيت .

وأن الصواب في ذلك هو ما نقله ابن حجر عن الطبري من طريق قتادة قال : الاستئناس هو الاستئذان ثلاثا إلى آخره ، والرواية الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الاستئذان ثلاث يؤيدها أنه - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل .

قال ابن حجر في الفتح : وفي رواية عبيد بن حنين ، التي أشرت إليها في الأدب المفرد ، زيادة مفيدة ، وهي أن أبا سعيد ، أو أبا [ ص: 496 ] مسعود قال لعمر : خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يريد سعد بن عبادة ، حتى أتاه فسلم ، فلم يؤذن له ، ثم سلم الثانية فلم يؤذن له ، ثم سلم الثالثة ، فلم يؤذن له ، فقال : " قضينا ما علينا " ، ثم رجع فأذن له سعد ، الحديث ، فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله ، وقصة سعد بن عبادة هذه أخرجها أبو داود من حديث قيس بن سعد بن عبادة مطولة بمعناه ، وأحمد من طريق ثابت ، عن أنس أو غيره كذا فيه ، وأخرجه البزار عن أنس بغير تردد ، وأخرجه الطبراني من حديث أم طارق مولاة سعد ، اهـ محل الغرض منه ، وقوله : فثبت ذلك من قوله - صلى الله عليه وسلم - ومن فعله : يدل على أن قصة استئذانه - صلى الله عليه وسلم - على سعد بن عبادة صحيحة ثابتة ، وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عمر عن ثابت ، عن أنس أو غيره " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استأذن على سعد بن عبادة ، فقال : " السلام عليك ورحمة الله " ، فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم يسمعه فرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي أنت وأمي ، ما سلمت تسيلمة إلا وهي بأذني ولقد رددت عليك ولم أسمعك ، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيبا فأكل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما فرغ قال " : أكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون " وقد روى أبو داود والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي ، سمعت يحيى بن أبي كثير يقول : حدثني محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة ، عن قيس بن سعد - هو ابن عبادة - قال " : زارنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلنا فقال : " السلام عليكم ورحمة الله " فرد سعد ردا خفيا فقلت ألا تأذن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : دعه يكثر علينا من السلام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " السلام عليكم ورحمة الله " ، فرد سعد ردا خفيا ، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " السلام عليكم ورحمة الله " ، ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتبعه سعد ، فقال : يا رسول الله إني كنت أسمع سلامك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام فانصرف معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وذكر ابن كثير القصة إلى آخرها ، ثم قال : وقد روى هذا من وجوه أخرى ، فهو حديث جيد قوي والله أعلم .

وبما ذكرنا تعلم أن الاستئناس في الآية الاستئذان ثلاثا ، وليس المراد به التنحنح ونحوه ، كما عزاه في فتح الباري للجمهور ، واختلف هل يقدم السلام أو الاستئذان ؟ وقال النووي في شرح مسلم : أجمع العلماء على أن الاستئذان مشروع ، وتظاهرت به دلائل القرآن والسنة وإجماع الأمة ، والسنة : أن يسلم ويستأذن ثلاثا فيجمع بين السلام [ ص: 497 ] والاستئذان ، كما صرح به في القرآن ، واختلفوا في أنه هل يستحب تقديم السلام ، ثم الاستئذان أو تقديم الاستئذان ثم السلام والصحيح الذي جاءت به السنة ، وقاله المحققون : أنه يقدم السلام ، فيقول : السلام عليكم أأدخل ؟ والثاني يقدم الاستئذان ، والثالث وهو اختيار الماوردي من أصحابنا إن وقعت عين المستأذن على صاحب المنزل قبل دخوله قدم السلام ، وإلا قدم الاستئذان ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثان في تقديم السلام ، انتهى محل الغرض منه بلفظه . ولا يخفى أن ما صح فيه حديثان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على غيره ، فلا ينبغي العدول عن تقديم السلام على الاستئذان ، وتقديم الاستئناس الذي هو الاستئذان على السلام في قوله : حتى تستأنسوا وتسلموا [ 24 \ 27 ] لا يدل على تقديم الاستئذان ; لأن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب ، وإنما يقتضي مطلق التشريك ، فيجوز عطف الأول على الأخير بالواو كقوله تعالى : يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين [ 3 \ 43 ] والركوع قبل السجود ، وقوله تعالى : ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] ونوح قبل نبينا - صلى الله عليه وسلم - وهذا معروف ولا ينافي ما ذكرنا أن الواو ربما عطف بها مرادا بها الترتيب; كقوله تعالى : إن الصفا والمروة الآية [ 2 \ 158 ] وقد قال - صلى الله عليه وسلم - " : أبدأ بما بدأ الله به " وفي رواية " ابدءوا بما بدأ الله به " بصيغة الأمر ، وكقول حسان - رضي الله عنه - :



هجوت محمدا وأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء


على رواية الواو في هذا البيت .

وإيضاح ذلك أن الواو عند التجرد من القرائن والأدلة الخارجية لا تقتضي إلا مطلق التشريك بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، ولا ينافي ذلك أنه إن قام دليل على إرادة الترتيب في العطف ، كالحديث المذكور في البدء بالصفا ، أو دلت على ذلك قرينة كالبيت المذكور ; لأن جواب الهجاء لا يكون إلا بعده ، أنها تدل على الترتيب لقيام الدليل أو القرينة على ذلك ، والآية التي نحن بصددها لم يقم دليل راجح ، ولا قرينة على إرادة الترتيب فيها بالواو ، اهـ .

وذكر ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنن وغيرها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكرر منه تعليم الاستئذان لمن لا يعلمه ، بأن يقول : السلام عليكم ، أأدخل ؟ فانظره ، وقد قدمنا أن النووي ذكر أنه صح فيه حديثان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والمختار أن [ ص: 498 ] صيغة الاستئذان التي لا ينبغي العدول عنها أن يقول المستأذن : السلام عليكم أأدخل ؟ فإن لم يؤذن له بعد الثالثة انصرف ، كما دلت عليه الأدلة .

واعلم أن الأحاديث الواردة في قصة عمر مع أبي موسى في الصحيح في سياقها تغاير ; لأن في بعضها : أن عمر أرسل إلى أبي موسى بعد انصرافه ، فرده من حينه ، وفي بعضها أنه لم يأته إلا في اليوم الثاني ، وجمع بينها ابن حجر في الفتح قال : وظاهر هذين السياقين التغاير ، فإن الأول يقتضي أنه لم يرجع إلى عمر إلا في اليوم الثاني ، وفي الثاني أنه أرسل إليه في الحال إلى أن قال ويجمع بينهما : بأن عمر لما فرغ من الشغل الذي كان فيه تذكره فسأل عنه فأخبر برجوعه ، فأرسل إليه ، فلم يجده الرسول في ذلك الوقت ، وجاء هو إلى عمر في اليوم الثاني ، اهـ . منه ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيهات تتعلق بهذه المسألة .

الأول : اعلم أن المستأذن إن تحقق أن أهل البيت سمعوه لزمه الانصراف بعد الثالثة ; لأنهم لما سمعوه ، ولم يأذنوا له دل ذلك على عدم الإذن ، وقد بينت السنة الصحيحة عدم الزيادة على الثلاثة ، خلافا لمن قال من أهل العلم : إن له أن يزيد على الثلاث مطلقا ، وكذلك إذا لم يدر هل سمعوه أو لا ، فإنه يلزمه الانصراف بعد الثالثة ، كما أوضحنا أدلته ولم يقيد شيء منها بعلمه بأنهم سمعوه .

التنبيه الثاني : اعلم أن الذي يظهر لنا رجحانه من الأدلة ، أنه إن علم أن أهل البيت ، لم يسمعوا استئذانه لا يزيد على الثالثة ، بل ينصرف بعدها لعموم الأدلة ، وعدم تقييد شيء منها بكونهم لم يسمعوه خلافا لمن قال له الزيادة ، ومن فصل في ذلك ، وقال النووي في شرح مسلم : أما إذا استأذن ثلاثا ، فلم يؤذن له ، وظن أنه لم يسمعه ، ففيه ثلاثة مذاهب أشهرها أنه ينصرف ، ولا يعيد الاستئذان . والثاني : يزيد فيه . والثالث : إن كان بلفظ الاستئذان المتقدم لم يعده ، وإن كان بغيره أعاده ، فمن قال بالأظهر فحجته قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فلم يؤذن له فليرجع " ومن قال بالثاني حمل الحديث على من علم ، أو ظن أنه سمعه ، فلم يأذن والله أعلم .

والصواب إن شاء الله تعالى هو ما قدمنا من عدم الزيادة على الثلاث ; لأنه ظاهر النصوص ولا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، كما هو مقرر في الأصول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (405)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 499 إلى صـ 506



[ ص: 499 ] التنبيه الثالث : قال بعض أهل العلم : إن المستأذن ينبغي له ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكنه يقف جاعلا الباب عن يمينه أو يساره ، ويستأذن وهو كذلك ، قال ابن كثير : ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه ، أو يساره لما رواه أبو داود : حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين ، قالوا : حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال " : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول " السلام عليكم : السلام عليكم " وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور ، انفرد به أبو داود . وقال أبو داود أيضا : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا جرير ، ح ، وثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا حفص عن الأعمش ، عن طلحة عن هزيل قال : جاء رجل قال عثمان : سعد [ بن أبي وقاص ] ، فوقف على باب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذن فقام على الباب ، قال عثمان : مستقبل الباب ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " : هكذا عنك أو هكذا فإنما الاستئذان من النظر " ورواه أبو داود الطيالسي عن سفيان الثوري ، عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - رواه أبو داود ، من حديثه انتهى من ابن كثير ، والحديثان اللذان ذكرهما عن أبي داود نقلناهما من سنن أبي داود لأن نسخة ابن كثير التي عندنا فيها تحريف فيهما .

وفيما ذكرنا دلالة على ما ذكرنا من أن المستأذن لا يقف مستقبل الباب خوفا أن يفتح له الباب ، فيرى من أهل المنزل ما لا يحبون أن يراه ، بخلاف ما لو كان الباب عن يمينه أو يساره فإنه وقت فتح الباب لا يرى ما في داخل البيت ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة : اعلم أن المستأذن إذا قال له رب المنزل : من أنت ، فلا يجوز له أن يقول له : أنا بل يفصح باسمه وكنيته إن كان مشهورا به ; لأن لفظة أنا يعبر بها كل أحد عن نفسه فلا تحصل بها معرفة المستأذن ، وقد ثبت معنى هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، قال : سمعت جابرا - رضي الله عنه - يقول " : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين كان على أبي ، فدققت الباب ، فقال من ذا ؟ فقلت : أنا ، فقال : " أنا أنا " ، كأنه كرهها " انتهى منه ، وتكريره - صلى الله عليه وسلم - لفظة أنا دليل على أنه لم يرضها من جابر ; لأنها لا يعرف بها المستأذن فهي جواب له - صلى الله عليه وسلم - بما لا يطابق سؤاله ، وظاهر الحديث أن جواب [ ص: 500 ] المستأذن بأنا ، لا يجوز لكراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك وعدم رضاه به خلافا لمن قال : إنه مكروه كراهة تنزيه ، وهو قول الجمهور .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن شعبة عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال " : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعوت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من هذا ؟ قلت أنا فخرج وهو يقول : أنا أنا " .

حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، واللفظ لأبي بكر قال : قال يحيى : أخبرنا ، وقال أبو بكر : حدثنا وكيع عن شعبة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر بن عبد الله قال " : استأذنت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من هذا ؟ فقلت : أنا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أنا " .

وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا النضر بن شميل ، وأبو عامر العقدي " ح " وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثني وهب بن جرير " ح " وحدثني عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا بهز كلهم عن شعبة بهذا الإسناد ، وفي حديثهم كأنه كره ذلك انتهى منه . وقول جابر ، كأنه كره ذلك فيه أنه لا يخفى من تكريره - صلى الله عليه وسلم - لفظة أنا أنه كره ذلك ولم يرضه ، وحديث جابر هذا أخرجه غير الشيخين من باقي الجماعة .
المسألة الرابعة : اعلم أن الأظهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن الرجل يلزمه أن يستأذن على أمه وأخته ، وبنيه وبناته البالغين ; لأنه إن دخل على من ذكر بغير استئذان فقد تقع عينه على عورات من ذكر ، وذلك لا يحل له .

وقال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث : " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ما نصه : ويؤخذ منه أنه يشرع الاستئذان على كل أحد حتى المحارم ; لئلا تكون منكشفة العورة . وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن نافع : كان ابن عمر إذا بلغ بعض ولده الحلم لم يدخل عليه إلا بإذن ، ومن طريق علقمة جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : أستأذن على أمي ؟ فقال ما على كل أحيانها تريد أن تراها . ومن طريق مسلم بن نذير بالنون مصغرا : سأل رجل حذيفة : أستأذن على أمي ؟ فقال : إن لم تستأذن عليها رأيت ما تكره ، ومن طريق موسى بن طلحة ، دخلت مع أبي على أمي فدخل ، واتبعته فدفع في صدري ، وقال : تدخل بغير إذن ؟ ومن طريق عطاء سألت ابن عباس استأذن على أختي ؟ [ ص: 501 ] قال نعم ، قلت إنها في حجري ؟ قال : أتحب أن تراها عريانة ؟ وأسانيد هذه الآثار كلها صحيحة ، انتهى من فتح الباري .

وهذه الآثار عن هؤلاء الصحابة تؤيد ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا ، ويفهم من الحديث الصحيح " : إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، فوقوع البصر على عورات من ذكر لا يحل ، كما ترى ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره للآية التي نحن بصددها : وقال هشيم : أخبرنا أشعث بن سوار ، عن كردوس ، عن ابن مسعود ، قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم . وقال أشعث ، عن عدي بن ثابت : أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهل بيتي ، وأنا على تلك الحال ، فنزلت : ياأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا الآية ، وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : ثلاث آيات جحدهن الناس ، قال الله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ 49 \ 13 ] ، قال ويقولون : إن أكرمكم عند الله أعظمكم بيتا ، إلى أن قال : والأدب كله قد جحده الناس ، قال : قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد ؟ قال : نعم ، فرددت عليه ليرخص لي فأبى ، فقال : تحب أن تراها عريانة ؟ قلت : لا ، قال : فاستأذن ، قال : فراجعته ، فقال : أتحب أن تطيع الله ؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاستأذن ، قال ابن جريج : وأخبرني ابن طاوس عن أبيه ، قال : ما من امرأة أكره إلي أن أرى عورتها من ذات محرم ، قال : وكان يشدد في ذلك ، وقال ابن جريج عن الزهري : سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الأعمى أنه سمع ابن مسعود يقول : عليكم الإذن على أمهاتكم ، اهـ محل الغرض منه ، وهو يدل على ما ذكرنا من الاستئذان على من ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة : اعلم أنه إن لم يكن مع الرجل في بيته إلا امرأته أن الأظهر أنه لا يستأذن عليها ، وذلك يفهم من ظاهر قوله تعالى : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم ولأنه لا حشمة بين الرجل وامرأته ، ويجوز بينهما من الأحوال والملابسات ما لا يجوز لأحد غيرهما ، ولو كان أبا أو أما أو ابنا ، كما لا يخفى ، ويدل له الأثر الذي ذكرناه آنفا عن موسى بن طلحة : أنه دخل مع أبيه طلحة على أمه فزجره طلحة عن أن يدخل على أمه بغير إذن ، مع أن طلحة زوجها دخل بغير إذن .

[ ص: 502 ] وقال ابن كثير في " تفسيره " : وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أيستأذن الرجل على امرأته ؟ قال : لا ، ثم قال ابن كثير : وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ; لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها ، ثم نقل ابن كثير عن ابن جرير بسنده عن زينب امرأة ابن مسعود ، قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة ، فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه ، قال : وإسناده صحيح ، اهـ محل الغرض منه . والأول أظهر ولا سيما عند من يرى إباحة نظر الزوج إلى فرج امرأته كمالك وأصحابه ومن وافقهم ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السادسة : إذا قال أهل المنزل للمستأذن : ارجع ، وجب عليه الرجوع ; لقوله تعالى : وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم [ 24 \ 28 ] ، وكان بعض أهل العلم يتمنى إذا استأذن على بعض أصدقائه أن يقولوا له : ارجع ، ليرجع ، فيحصل له فضل الرجوع المذكور في قوله : هو أزكى لكم ; لأن ما قال الله إنه أزكى لنا لا شك أن لنا فيه خيرا وأجرا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة : اعلم أن أقوى الأقوال دليلا وأرجحها فيمن نظر من كوة إلى داخل منزل قوم ففقئوا عينه التي نظر إليهم بها ، ليطلع على عوراتهم أنه لا حرج عليهم في ذلك من إثم ولا غرم دية العين ولا قصاص ، وهذا لا ينبغي العدول عنه لثبوته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه ، ولذا لم نذكر هنا أقوال من خالف في ذلك من أهل العلم لسقوطها عندنا ، لمعارضتها النص الثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري - رحمه الله - في " صحيحه " : باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له ، ثم ذكر من أحاديث هذه الترجمة : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا أبو الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - " : لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح " ، اهـ منه ، والجناح الحرج ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث الصحيح " : لم يكن عليك جناح " ، لفظ جناح فيه نكرة في سياق النفي فهي تعم رفع كل حرج من إثم ودية وقصاص ، كما ترى .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في " صحيحه " : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه " ، اهـ منه .

[ ص: 503 ] وهذا الحديث الصحيح فيه التصريح منه - صلى الله عليه وسلم - أنهم يحل لهم أن يفقئوا عينه ، وكون ذلك حلالا لهم مستلزم أنهم ليس عليهم فيه شيء من إثم ، ولا دية ، ولا قصاص ; لأن كل ما أحله الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا مؤاخذة على فعله البتة بنوع من أنواع المؤاخذة ، كما لا يخفى .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - تعالى في " صحيحه " متصلا بكلامه هذا الذي نقلنا عنه : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ، ما كان عليك من جناح " ، اهـ منه .

وقد بينا وجه دلالته على أنه لا شيء في عين المذكور ، وثبوت هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما رأيت يدل على أنه لما تعدى وانتهك الحرمة ، ونظر إلى بيت غيره دون استئذان ، أن الله أذن على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في أخذ عينه الخائنة ، وأنها هدر لا عقل فيها ، ولا قود ، ولا إثم ، ويزيد ما ذكرنا توكيدا وإيضاحا ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - منه أنه هم أن يفعل ذلك .

قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه تحت الترجمة المذكورة آنفا ، وهي قوله : باب من اطلع في بيت قوم ففقئوا عينه فلا دية له : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن أنس - رضي الله عنه - : أن رجلا اطلع في بعض جحر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمشقص أو مشاقص ، وجعل يختله ليطعنه .

حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ليث ، عن ابن شهاب ، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك به رأسه ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أعلم أنك تنتظرني لطعنت به في عينيك " ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إنما جعل الإذن من قبل البصر " ، اهـ منه ، وقد ذكر البخاري هذه الأحاديث التي ذكرناها عنه هنا في كتاب الديات .

وقد قال في كتاب الاستئذان : باب الاستئذان من أجل البصر : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، قال الزهري : حفظته كما أنك هاهنا عن سهل بن سعد ، قال : اطلع رجل من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ، فقال " : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " .

[ ص: 504 ] حدثنا مسدد ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - : أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشقص أو بمشاقص ، فكأني أنظر إليه يختل الرجل ليطعنه ، وهذه النصوص الصحيحة تؤيد ما ذكرنا ، فلا التفات لمن خالفها من أهل العلم ، ومن أولها ; لأن النص لا يجوز العدول عنه ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه .

واعلم أن المشقص بكسر أوله وسكون ثانيه ، وفتح ثالثه هو نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض ، وقوله في الحديث المذكور : من جحر في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجحر الأول : بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وهو كل ثقب مستدير في أرض أو حائط ، والثاني : بضم الحاء المهملة وفتح الجيم جمع حجرة : وهي ناحية البيت .

وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى ، وأبو كامل فضيل بن الحسين وقتيبة بن سعيد ، واللفظ ليحيى ، وأبي كامل ، قال يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدثنا حماد بن زيد ، عن عبيد الله بن أبي بكر ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام إليه بمشقص أو مشاقص ، فكأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختله ليطعنه ، وفي لفظ عند مسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي : أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدرى يحك بها رأسه ، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لو أعلم أنك تنظرني لطعنت به في عينك " ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إنما جعل الاستئذان من أجل البصر " ، وفي مسلم روايات أخر بهذا المعنى قد اكتفينا منها بما ذكرنا .

وهذه النصوص الصحيحة التي ذكرنا لا ينبغي العدول عنها ، ولا تأويلها بغير مستند صحيح من كتاب أو سنة ، ولذلك اخترنا ما جاء فيها من أن تلك العين الخائنة يحل أخذها ، وتكون هدرا ، ولم نلتفت إلى قول من أقوال من خالف ذلك ، ولا لتأويلهم للنصوص بغير مستند يجب الرجوع إليه ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة : اعلم أن صاحب المنزل إذا أرسل رسولا إلى شخص ليحضر عنده ، فإن أهل العلم قد اختلفوا : هل يكون الإرسال إليه إذنا ; لأنه طلب حضوره بإرساله إليه ، وعلى هذا القول إذا جاء منزل من أرسل إليه فله الدخول بلا إذن جديد اكتفاء بالإرسال إليه ، أو لا بد من أن يستأذن إذا أتى المنزل استئذانا جديدا ، ولا يكتفي بالإرسال ؟ وكل من [ ص: 505 ] القولين قال به بعض أهل العلم ، واحتج من قال : إن الإرسال إليه إذن يكفي عن الاستئذان عند إتيان المنزل بما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد ، عن حبيب ، وهشام عن محمد عن أبي هريرة : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، حدثنا حسين بن معاذ ، ثنا عبد الأعلى ، ثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن " ، قال أبو علي اللؤلؤي : سمعت أبا داود يقول : قتادة لم يسمع من أبي رافع شيئا ، اهـ من أبي داود .

قال ابن حجر في " فتح الباري " : وقد ثبت سماعه منه في الحديث الذي سيأتي في البخاري في كتاب التوحيد من رواية سليمان التيمي ، عن قتادة : أن أبا رافع حدثه ، اهـ .

ويدل لصحة ما رواه أبو داود ، ورواه البخاري تعليقا : باب إذا دعي الرجل فجاء هل يستأذن ؟ وقال سعيد عن قتادة ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : هو إذنه " اهـ ، ومعلوم أن البخاري لا يعلق بصيغة الجزم ، إلا ما هو صحيح عنده ، كما قدمناه مرارا . وقال ابن حجر في " الفتح " : في حديث كون " رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، وله متابع أخرجه البخاري في الأدب المفرد من طريق محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، بلفظ " : رسول الرجل إلى الرجل إذنه " ، وأخرج له شاهدا موقوفا على ابن مسعود ، قال " : إذا دعي الرجل فهو إذنه " ، وأخرجه ابن أبي شيبة مرفوعا ، انتهى محل الغرض منه .

فهذه جملة أدلة من قالوا : بأن من دعي لا يستأذن إذا قدم .

وأما الذين قالوا : يستأذن إذا قدم إلى منزل المرسل ، ولا يكتفي بإرسال الرسول ، فقد احتجوا بما رواه البخاري في " صحيحه " : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عمر بن ذر ، وحدثني محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا عمر بن ذر ، أخبرنا مجاهد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد لبنا في قدح ، فقال " : أبا هر الحق أهل الصفة فادعهم إلي " ، قال : فأتيتهم فدعوتهم ، فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم فدخلوا ، اهـ منه ، قال : هذا الحديث الصحيح صريح في أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل أبا هر لأهل الصفة ، ولم يكتفوا بالإرسال عن الاستئذان ولو كان يكفي عنه لبينه صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة .

ومن أدلة أهل هذا القول ظاهر عموم قوله تعالى : [ ص: 506 ] لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية ; لأن ظاهرها يشمل من أرسل إليه وغيره ، وقد جمع بعض أهل العلم بين أدلة القولين . قال ابن حجر في " فتح الباري " : وجمع المهلب وغيره بتنزيل ذلك على اختلاف حالين إن طال العهد بين الطلب والمجيء احتاج إلى استئناف الاستئذان ، وكذا إن لم يطل لكن كان المستدعي في مكان يحتاج معه إلى الإذن في العادة ، وإلا لم يحتج إلى استئناف إذن ، وقال ابن التين : لعل الأول فيمن علم أنه ليس عنده من يستأذن لأجله ، والثاني بخلافه . قال : والاستئذان على كل حال أحوط . وقال غيره : إن حضر صحبة الرسول أغناه استئذان الرسول ، ويكفيه سلام الملاقاة ، وإن تأخر عن الرسول احتاج إلى الاستئذان ، وبهذا جمع الطحاوي ، واحتج بقوله في الحديث " : فأقبلوا فاستأذنوا " فدل على أن أبا هريرة لم يكن معهم ، وإلا لقال : فأقبلنا ، كذا قال ، اهـ كلام ابن حجر . وأقربها عندي الجمع الأخير ، ويدل له الحديث المذكور فيه ، وقوله في حديث أبي داود المتقدم : فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن أمر الله - جل وعلا - المؤمنين والمؤمنات بغض البصر ، وحفظ الفرج ، ويدخل في حفظ الفرج : حفظه من الزنى ، واللواط ، والمساحقة ، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم ، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية ، وذلك في قوله تعالى في سورة " المؤمنون " و " سأل سائل " ، والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] و [ 70 \ 29 - 30 ] .

فقد بينت هذه الآية أن حفظ الفرج من الزنى ، واللواط لازم ، وأنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والموطوءة بالملك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (406)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 507 إلى صـ 514





وقد بينا في سورة " البقرة " أن الرجل يجب عليه حفظ فرجه عن وطء زوجته في الدبر ، وذكرنا لذلك أدلة كثيرة ، وقد أوضحنا الكلام على آية : والذين هم لفروجهم [ 23 \ 5 ] ، في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، وقد وعد الله تعالى من امتثل أمره في هذه الآية من الرجال والنساء بالمغفرة والأجر العظيم ، إذا عمل معها الخصال المذكورة معها في سورة " الأحزاب " ، وذلك في قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات إلى [ ص: 507 ] قوله تعالى : والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ 33 \ 35 ] ، وأوضح تأكيد حفظ الفرج عن الزنى في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، وقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب الآية [ 25 \ 68 - 70 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وأوضح لزوم حفظ الفرج عن اللواط ، وبين أنه عدوان في آيات متعددة في قصة قوم لوط ; كقوله : أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون [ 26 \ 165 - 166 ] ، وقوله تعالى : ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر [ 29 \ 28 - 29 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد أوضحنا كلام أهل العلم وأدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط في سورة " هود " ، وعقوبة الزاني في أول هذه السورة الكريمة .

واعلم أن الأمر بحفظ الفرج يتناول حفظه من انكشافه للناس ، وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى ; كما قال تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون الآية [ 23 \ 5 ] ، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن " : احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " ، اهـ منه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم قال الزمخشري في الكشاف : من للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة ، وأباه سيبويه ، فإن قلت : كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج ؟ قلت : دلالة على أن أمر النظر أوسع ، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن ، وصدورهن ، وثديهن ، وأعضادهن ، وأسوقهن ، وأقدامهن ، وكذلك الجواري المستعرضات ، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين ، وأما أمر الفرج فمضيق ، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه ، وحظر الجماع إلا ما استثني منه ، ويجوز أن يراد مع حفظها من الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإبداء .

[ ص: 508 ] وعن ابن زيد : كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار ، اهـ كلام الزمخشري .

وما نقل عن ابن زيد من أن المراد بحفظ الفرج في هذه الآية الاستتار فيه نظر ، بل يدخل فيه دخولا أوليا حفظه من الزنى واللواط ، ومن الأدلة على ذلك تقديمه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج ; لأن النظر بريد الزنى ، كما سيأتي إيضاحه قريبا إن شاء الله تعالى ، وما ذكر جواز النظر إليه من المحارم لا يخلو بعضه من نظر ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى وتفصيله في سورة " الأحزاب " ، كما وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أنا نوضح مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " .

وقول الزمخشري : إن من في قوله : يغضوا من أبصارهم للتبعيض ، قاله غيره ، وقواه القرطبي بالأحاديث الواردة في أن نظرة الفجاءة لا حرج فيها ، وعليه أن يغض بصره بعدها ، ولا ينظر نظرا عمدا إلى ما لا يحل ، وما ذكره الزمخشري عن الأخفش ، وذكره القرطبي وغيرهما من أن من زائدة ، لا يعول عليه . وقال القرطبي : وقيل الغض : النقصان ، يقال : غض فلان من فلان ، أي : وضع منه ، فالبصر إذا لم يمكن من عمله ، فهو موضوع منه ومنقوص ، فـ من صلة للغض ، وليست للتبعيض ، ولا للزيادة ، اهـ منه .

والأظهر عندنا أن مادة الغض تتعدى إلى المفعول بنفسها وتتعدى إليه أيضا بالحرف الذي هو من ومثل ذلك كثير في كلام العرب ، ومن أمثلة تعدي الغض للمعقول بنفسه قول جرير :



فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا


وقول عنترة :



وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها



وقول الآخر :



وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مذحج غربان



لأن قوله : غض الطرف مصدر مضاف إلى مفعوله بدون حرف .

[ ص: 509 ] ومن أمثلة تعدي الغض بـ من قوله تعالى : يغضوا من أبصارهم و يغضضن من أبصارهن وما ذكره هنا من الأمر بغض البصر قد جاء في آية أخرى تهديد من لم يمتثله ، ولم يغض بصره عن الحرام ، وهي قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين [ 40 \ 19 ] .

وقد قال البخاري - رحمه الله - : وقال سعيد بن أبي الحسن ، للحسن : إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورءوسهن ، قال : اصرف بصرك عنهن ، يقول الله - عز وجل - : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم قال قتادة : عما لا يحل لهم ، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن خائنة الأعين النظر إلى ما نهي عنه ، اهـ محل الغرض منه بلفظه .

وبه تعلم أن قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له ، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحا في أحاديث كثيرة .

منها : ما ثبت في الصحيح ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إياكم والجلوس بالطرقات " ، قالوا : يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ، قال " : فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " ، قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال " : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر " ، انتهى ، هذا لفظ البخاري في " صحيحه " .

ومنها ما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال : أردف النبي - صلى الله عليه وسلم - الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلا وضيئا فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها ، فالتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، الحديث .

ومحل الشاهد منه : أنه - صلى الله عليه وسلم - صرف وجه الفضل عن النظر إليها ، فدل ذلك على أن نظره إليها لا يجوز ، واستدلال من يرى أن للمرأة الكشف عن وجهها بحضرة الرجال الأجانب بكشف الخثعمية وجهها في هذا الحديث ، سيأتي إن شاء الله الجواب عنه في [ ص: 510 ] الكلام على مسألة الحجاب في سورة " الأحزاب " .

ومنها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما : من أن نظر العين إلى ما لا يحل لها تكون به زانية ، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ، أنه قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة ، فزنى العين : النظر ، وزنى اللسان : المنطق ، والنفس تتمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه " ، اهـ ، هذا لفظ البخاري ، والحديث متفق عليه ، وفي بعض رواياته زيادة على ما ذكرنا هنا .

ومحل الشاهد منه قوله - صلى الله عليه وسلم - " : فزنى العين النظر " ، فإطلاق اسم الزنى على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه ، والأحاديث بمثل هذا كثيرة معلومة .

ومعلوم أن النظر سبب الزنى فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه ، والعياذ بالله ، فالنظر بريد الزنى ، وقال مسلم بن الوليد الأنصاري :



كسبت لقلبي نظرة لتسره عيني فكانت شقوة ووبالا
ما مر بي شيء أشد من الهوى سبحان من خلق الهوى وتعالى



وقال آخر :

ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف



وقال آخر :

وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر



وقال أبو الطيب المتنبي :

وأنا الذي اجتلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل



وقد ذكر ابن الجوزي - رحمه الله - في كتابه " ذم الهوى " فصولا جيدة نافعة أوضح فيها الآفات التي يسببها النظر وحذر فيها منه ، وذكر كثيرا من أشعار الشعراء ، والحكم النثرية [ ص: 511 ] في ذلك وكله معلوم ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها اعلم أولا أن كلام العلماء في هذه الآية يرجع جميعه إلى ثلاثة أقوال :

الأول : أن الزينة هنا نفس شيء من بدن المرأة ; كوجهها وكفيها .

الثاني : أن الزينة هي ما يتزين به خارجا عن بدنها .

وعلى هذا القول ففي الزينة المذكورة الخارجة عن بدن المرأة قولان :

أحدهما : أنها الزينة التي لا يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن ; كالملاءة التي تلبسها المرأة فوق القميص والخمار والإزار .

والثاني : أنها الزينة التي يتضمن إبداؤها رؤية شيء من البدن كالكحل في العين .

فإنه يتضمن رؤية الوجه أو بعضه ، وكالخضاب والخاتم ، فإن رؤيتهما تستلزم رؤية اليد ، وكالقرط والقلادة والسوار ، فإن رؤية ذلك تستلزم رؤية محله من البدن ; كما لا يخفى .

وسنذكر بعض كلام أهل العلم في ذلك ، ثم نبين ما يفهم من آيات القرآن رجحانه .

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية ، وقوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أي : لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب ، إلا ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود كالرداء والثياب ، يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها ، وما يبدو من أسافل الثياب ، فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها ، وما لا يمكن إخفاؤه ، وقال بقول ابن مسعود : الحسن ، وابن سيرين ، وأبو الجوزاء ، وإبراهيم النخعي وغيرهم ، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : وجهها وكفيها والخاتم ، وروي عن ابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، والضحاك ، وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك . وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها ; كما قال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال في قوله : ولا يبدين زينتهن الزينة : القرط ، والدملوج ، والخلخال ، والقلادة ، وفي رواية عنه بهذا الإسناد ، قال : الزينة زينتان ، فزينة لا يراها إلا الزوج الخاتم والسوار ، وزينة يراها [ ص: 512 ] الأجانب ، وهي الظاهر من الثياب ، وقال الزهري : لا يبدو لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر ، وأما عامة الناس ، فلا يبدو منها إلا الخواتم . وقال مالك ، عن الزهري إلا ما ظهر منها : الخاتم والخلخال ، ويحتمل أن ابن عباس ، ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها : بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في " سننه " :

حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ، ومؤمل بن الفضل الحراني ، قالا : حدثنا الوليد ، عن سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن خالد بن دريك ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال " : يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه ، لكن قال أبو داود ، وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة - رضي الله عنها - والله أعلم ، اهـ كلام ابن كثير .

وقال القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : إلا ما ظهر منها : واختلف الناس في قدر ذلك ، فقال ابن مسعود : ظاهر الزينة هو الثياب ، وزاد ابن جبير : الوجه ، وقال سعيد بن جبير أيضا ، وعطاء ، والأوزاعي : الوجه والكفان والثياب ، وقال ابن عباس ، وقتادة ، والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ ونحو هذا ، فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس . وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر آخر عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا " ، وقبض على نصف الذراع .

قال ابن عطية : ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بأن لا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة ، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه ، أو إصلاح شأن ونحو ذلك ، فما ظهر على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء ، فهو المعفو عنه .

قلت : وهذا قول حسن إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة ، وعبادة وذلك في الصلاة والحج ، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما يدل لذلك ما رواه أبو داود عن عائشة - رضي الله عنها - ثم ذكر القرطبي حديث عائشة المذكور الذي [ ص: 513 ] قدمناه قريبا ، ثم قال : وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا : إن المرأة إذا كانت جميلة ، وخيف من وجهها وكفيها الفتنة ، فعليها ستر ذلك ، وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها ، اهـ محل الغرض من كلام القرطبي .

وقال الزمخشري : الزينة ما تزينت به المرأة من حلي أو كحل أو خضاب ، فما كان ظاهرا منها كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب ، فلا بأس به ، وما خفي منها كالسوار ، والخلخال ، والدملج ، والقلادة ، والإكليل ، والوشاح ، والقرط ، فلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين ، وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصون والتستر ; لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها لغير هؤلاء ، وهي الذراع ، والساق ، والعضد ، والعنق ، والرأس ، والصدر ، والأذن ، فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع ، بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله ، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الحظر ، ثابت القدم في الحرمة ، شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله في الكشف عنها ، إلى آخر كلامه .

وقال صاحب " الدر المنثور " : وأخرج عبد الرزاق والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن قال : الزينة السوار والدملج والخلخال ، والقرط ، والقلادة إلا ما ظهر منها قال : الثياب والجلباب .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : الزينة زينتان ، ، زينة ظاهرة ، وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج . فأما الزينة الظاهرة : فالثياب ، وأما الزينة الباطنة : فالكحل ، والسوار والخاتم ، ولفظ ابن جرير : فالظاهرة منها الثياب ، وما يخفى : فالخلخالان والقرطان والسواران .

وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الكحل والخاتم .

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الكحل والخاتم والقرط والقلادة .

[ ص: 514 ] وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : هو خضاب الكف ، والخاتم .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : وجهها ، وكفاها والخاتم .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إلا ما ظهر منها قال : رقعة الوجه ، وباطن الكف .

وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن عائشة - رضي الله عنها - : أنها سئلت عن الزينة الظاهرة ؟ فقالت : القلب والفتخ ، وضمت طرف كمها .

وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الوجه وثغرة النحر .

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الوجه والكف .

وأخرج ابن جرير عن عطاء في قوله : إلا ما ظهر منها قال : الكفان والوجه .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، عن قتادة ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : المسكتان والخاتم والكحل .

قال قتادة : وبلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إلا إلى هاهنا " ويقبض نصف الذراع . وأخرج عبد الرزاق وابن جرير ، عن المسور بن مخرمة في قوله : إلا ما ظهر منها قال : القلبين ، يعني السوار والخاتم والكحل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (407)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 515 إلى صـ 522



وأخرج سعيد ، وابن جرير ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس في قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها قال : الخاتم والمسكة . قال ابن جريج : وقالت عائشة - رضي الله عنها - : القلب والفتخة ، قالت عائشة : دخلت علي ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مزينة ، فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعرض ، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : إنها ابنة أخي وجارية ، فقال " : إذا عركت المرأة لم يحل لها أن تظهر إلا وجهها وإلا ما دون [ ص: 515 ] هذا " ، وقبض على ذراعه نفسه ، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى ، اهـ محل الغرض من كلام صاحب " الدر المنثور " .

وقد رأيت في هذه النقول المذكورة عن السلف أقوال أهل العلم في الزينة الظاهرة والزينة الباطنة ، وأن جميع ذلك راجع في الجملة إلى ثلاثة أقوال ; كما ذكرنا :

الأول : أن المراد بالزينة ما تتزين به المرأة خارجا عن أصل خلقتها ، ولا يستلزم النظر إليه رؤية شيء من بدنها ; كقول ابن مسعود ، ومن وافقه : إنها ظاهر الثياب ; لأن الثياب زينة لها خارجة عن أصل خلقتها وهي ظاهرة بحكم الاضطرار ، كما ترى .

وهذا القول هو أظهر الأقوال عندنا وأحوطها ، وأبعدها من الريبة وأسباب الفتنة .

القول الثاني : أن المراد بالزينة : ما تتزين به ، وليس من أصل خلقتها أيضا ، لكن النظر إلى تلك الزينة يستلزم رؤية شيء من بدن المرأة ، وذلك كالخضاب والكحل ، ونحو ذلك ; لأن النظر إلى ذلك يستلزم رؤية الموضع الملابس له من البدن ، كما لا يخفى .

القول الثالث : أن المراد بالزينة الظاهرة بعض بدن المرأة الذي هو من أصل خلقتها ; كقول من قال : إن المراد بما ظهر منها الوجه والكفان ، وما تقدم ذكره عن بعض أهل العلم .

وإذا عرفت هذا ، فاعلم أننا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في نفس الآية قرينة دالة على عدم صحة ذلك القول ، وقدمنا أيضا في ترجمته أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون الغالب في القرآن إرادة معنى معين في اللفظ ، مع تكرر ذلك اللفظ في القرآن ، فكون ذلك المعنى هو المراد من اللفظ في الغالب ، يدل على أنه هو المراد في محل النزاع ; لدلالة غلبة إرادته في القرآن بذلك اللفظ ، وذكرنا له بعض الأمثلة في الترجمة .

وإذا عرفت ذلك ، فاعلم أن هذين النوعين من أنواع البيان للذين ذكرناهما في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، ومثلنا لهما بأمثلة متعددة كلاهما موجود في هذه الآية ، التي نحن بصددها .

أما الأول منهما ، فبيانه أن قول من قال في معنى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها أن المراد بالزينة : الوجه والكفان مثلا ، توجد في الآية قرينة تدل على عدم صحة [ ص: 516 ] هذا القول ، وهي أن الزينة في لغة العرب ، هي ما تتزين به المرأة مما هو خارج عن أصل خلقتها : كالحلي ، والحلل . فتفسير الزينة ببعض بدن المرأة خلاف الظاهر ، ولا يجوز الحمل عليه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وبه تعلم أن قول من قال : الزينة الظاهرة : الوجه ، والكفان خلاف ظاهر معنى لفظ الآية ، وذلك قرينة على عدم صحة هذا القول ، فلا يجوز الحمل عليه إلا بدليل منفصل يجب الرجوع إليه .

وأما نوع البيان الثاني المذكور ، فإيضاحه : أن لفظ الزينة يكثر تكرره في القرآن العظيم مرادا به الزينة الخارجة عن أصل المزين بها ، ولا يراد بها بعض أجزاء ذلك الشيء المزين بها ; كقوله تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [ 7 \ 31 ] ، وقوله تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده [ 7 \ 32 ] ، وقوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها [ 18 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها [ 28 \ 60 ] ، وقوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] ، وقوله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة الآية [ 16 \ 8 ] ، وقوله تعالى : فخرج على قومه في زينته الآية [ 28 \ 79 ] ، وقوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا الآية [ 18 \ 46 ] ، وقوله تعالى : أنما الحياة الدنيا لعب ولهو الآية [ 57 \ 20 ] ، وقوله تعالى : قال موعدكم يوم الزينة [ 20 \ 59 ] ، وقوله تعالى عن قوم موسى : ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم [ 20 \ 87 ] ، وقوله تعالى : ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن [ 24 \ 31 ] ، فلفظ الزينة في هذه الآيات كلها يراد به ما يزين به الشيء وهو ليس من أصل خلقته ، كما ترى ، وكون هذا المعنى هو الغالب في لفظ الزينة في القرآن ، يدل على أن لفظ الزينة في محل النزاع يراد به هذا المعنى ، الذي غلبت إرادته في القرآن العظيم ، وهو المعروف في كلام العرب ; كقول الشاعر :

يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل


وبه تعلم أن تفسير الزينة في الآية بالوجه والكفين ، فيه نظر .

وإذا علمت أن المراد بالزينة في القرآن ما يتزين به مما هو خارج عن أصل الخلقة ، وأن من فسروها من العلماء بهذا اختلفوا على قولين ، فقال بعضهم : هي زينة لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة كظاهر الثياب . وقال بعضهم : هي زينة يستلزم النظر [ ص: 517 ] إليها رؤية موضعها من بدن المرأة ; كالكحل والخضاب ، ونحو ذلك .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر القولين المذكورين عندي قول ابن مسعود - رضي الله عنه - : أن الزينة الظاهرة هي ما لا يستلزم النظر إليها رؤية شيء من بدن المرأة الأجنبية ، وإنما قلنا إن هذا القول هو الأظهر ; لأنه هو أحوط الأقوال ، وأبعدها عن أسباب الفتنة ، وأطهرها لقلوب الرجال والنساء ، ولا يخفى أن وجه المرأة هو أصل جمالها ورؤيته من أعظم أسباب الافتتان بها ; كما هو معلوم والجاري على قواعد الشرع الكريم ، هو تمام المحافظة ، والابتعاد من الوقوع فيما لا ينبغي .

واعلم أن مسألة الحجاب وإيضاح كون الرجل لا يجوز له النظر إلى شيء من بدن الأجنبية ، سواء كان الوجه والكفين أو غيرهما قد وعدنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك وغيرها من المواضع ، بأننا سنوضح ذلك في سورة " الأحزاب " ، في الكلام على آية الحجاب ، وسنفي إن شاء الله تعالى بالوعد في ذلك بما يظهر به للمنصف ما ذكرنا .

واعلم أن الحديث الذي ذكرنا في كلام ابن كثير عند أبي داود ، وهو حديث عائشة في دخول أسماء على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثياب رقاق ، وأنه قال لها " : إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " ، وأشار إلى وجهه وكفيه ، حديث ضعيف عند أهل العلم بالحديث ; كما قدمنا عن ابن كثير أنه قال فيه : قال أبو داود ، وأبو حاتم الرازي : هو مرسل ، وخالد بن دريك لم يسمع من عائشة .

والأمر كما قال ، وعلى كل حال فسنبين هذه المسألة إن شاء الله بيانا شافيا مع مناقشة أدلة الجميع في سورة " الأحزاب " ، ولذلك لم نطل الكلام فيها هاهنا .
تنبيه .

قد ذكرنا في كلام أهل العلم في الزينة أسماء كثير من أنواع الزينة ، ولعل بعض الناظرين في هذا الكتاب ، لا يعرف معنى تلك الأنواع من الزينة ، فأردنا أن نبينها هاهنا تكميلا للفائدة .

أما الكحل والخضاب فمعروفان ، وأشهر أنواع خضاب النساء الحناء ، والقرط ما يعلق في شحمة الأذن ، ويجمع على قرطة كقردة ، وقراط ، وقروط ، وأقراط ، ومنه قول الشاعر :

[ ص: 518 ]

أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر


والخاتم معروف ، وهو حلية الأصابع ، والفتخ : جمع فتخة بفتخات وهي حلقة من فضة لا فص فيها ، فإذا كان فيها فص ، فهو الخاتم ، وقيل : قد يكون للفتخة فص ، وعليه فهي نوع من الخواتم ، والفتخة تلبسها النساء في أصابع أيديهن ، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها ، ومن ذلك قول الراجزة ، وهي الدهناء بنت مسحل زوجة العجاج :



والله لا تخدعني بضم ولا بتقبيل ولا بشم
إلا بزعزاع يسلي همي تسقط منه فتخي في كمي



والخلخال ، ويقال له :

الخلخل حلية معروفة تلبسها النساء في أرجلهن كالسوار في المعصم ، والمخلخل : موضع الخلخال من الساق ، ومنه قول امرئ القيس :



إذا قلت هاتي نوليني تمايلت علي هضيم الكشح ريا المخلخل



والدملج : ويقال له الدملوج : هو المعضد ، وهو ما شد في عضد المرأة من الخرز وغيره ، والعضد من المرفق إلى المنكب ، ومنه قول الشاعر :



ما مركب وركوب الخيل يعجبني كمركب بين دملوج وخلخال



والسوار : حلية من الذهب ، أو الفضة مستديرة كالحلقة تلبسها المرأة في معصمها ، وهو ما بين مفصل اليد والمرفق ، وهو القلب بضم القاف .

وقال بعض أهل اللغة : إن القلب هو السوار المفتول من طاق واحد لا من طاقين أو أكثر ، ومنه قول خالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام - رضي الله عنه - :

تجول خلاخيل النساء ولا أرى لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
أحب بني العوام من أجل حبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا .



والمسكة بفتحات : السوار من عاج أو ذبل ، والعاج سن الفيل ، والذبل بالفتح شيء كالعاج ، وهو ظهر السلحفاة البحرية ، يتخذ منه السوار ، ومنه قول جرير يصف امرأة :

ترى العبس الحولي جونا بكوعها لها مسكا في غير عاج ولا ذبل



[ ص: 519 ] قاله الجوهري في " صحاحه " ، والمسك بفتحتين : جمع مسكة .

وقال بعض أهل اللغة : المسك أسورة من عاج أو قرون أو ذبل ، ومقتضى كلامهم أنها لا تكون من الذهب ، ولا الفضة ، وقد قدمنا في سورة " التوبة " ، في الكلام على قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية [ 9 \ 34 ] ، في مبحث زكاة الحلي المباح من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عند أبي داود والنسائي : أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعها ابنتها وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، الحديث . وهو دليل على أن المسكة تكون من الذهب ، كما تكون من العاج ، والقرون ، والذبل ، وهذا هو الأظهر خلافا لكلام كثير من اللغويين في قولهم : إن المسك لا يكون من الذهب ، والفضة ، والقلادة معروفة ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون لما أمر الله تعالى بهذه الآداب المذكورة في الآيات المتقدمة ، وكان التقصير في امتثال تلك الأوامر قد يحصل علم خلقه ما يتداركون به ، ما وقع منهم من التقصير في امتثال الأمر ، واجتناب النهي ، وبين لهم أن ذلك إنما يكون بالتوبة ، وهي الرجوع عن الذنب ، والإنابة إلى الله بالاستغفار منه ، وهي ثلاثة أركان :

الأول : الإقلاع عن الذنب إن كان متلبسا به .

والثاني : الندم على ما وقع منه من المعصية .

والثالث : النية ألا يعود إلى الذنب أبدا ، والأمر في قوله في هذه الآية : وتوبوا إلى الله جميعا الظاهر أنه للوجوب وهو كذلك ، فالتوبة واجبة على كل مكلف ، من كل ذنب اقترفه ، وتأخيرها لا يجوز فتجب منه التوبة أيضا .

وقوله : لعلكم تفلحون قد قدمنا مرارا أن أشهر معاني لعل في القرآن اثنان :

الأول : أنها على بابها من الترجي ، أي : توبوا إلى الله رجاء أن تفلحوا ، وعلى هذا فالرجاء بالنسبة إلى العبد ، أما الله - جل وعلا - فهو عالم بكل شيء ، فلا يجوز في حقه إطلاق الرجاء ، وعلى هذا فقوله تعالى لموسى وهارون في مخاطبة فرعون : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] [ ص: 520 ] وهو - جل وعلا - عالم بما سبق في الأزل من أنه لا يتذكر ولا يخشى .

معناه : فقولا له قولا لينا رجاء منكما بحسب عدم علمكما بالغيب أن يتذكر أو يخشى .

والثاني : هو ما قاله بعض أهل العلم بالتفسير من أن كل لعل في القرآن للتعليل ، إلا التي في سورة " الشعراء " ، وهي في قوله تعالى : وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 129 ] ، قالوا : فهي بمعنى كأنكم ، وقد قدمنا أن إطلاق لعل للتعليل معلوم في العربية ، ومنه قول الشاعر :

فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق


أي : كفوا الحروب ، لأجل أن نكف ; كما تقدم .

وعلى هذا القول ، فالمعنى : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون ، لأجل أن تفلحوا ، أي : تنالوا الفلاح ، والفلاح في اللغة العربية : يطلق على معنيين :

الأول : الفوز بالمطلوب الأعظم ، ومن هذا المعنى قول لبيد :

فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل



أي : فاز بالمطلوب الأعظم من رزقه الله العقل .

المعنى الثاني : هو البقاء الدائم في النعيم والسرور ، ومنه قول الأضبط بن قريع ، وقيل : كعب بن زهير :

لكل هم من الهموم سعه والمسا والصبح لا فلاح معه



يعني : أنه لا بقاء لأحد في الدنيا مع تعاقب المساء والصباح عليه . وقول لبيد بن ربيعة أيضا :

لو أن حيا مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح



يعني : لو كان أحد يدرك البقاء ، ولا يموت لناله ملاعب الرماح ، وهو عمه عامر بن [ ص: 521 ] مالك بن جعفر المعروف بملاعب الأسنة ، وقد قال فيه الشاعر يمدحه ، ويذم أخاه الطفيل والد عامر بن الطفيل المشهور :



فررت وأسلمت ابن أمك عامرا يلاعب أطراف الوشيج المزعزع



وبكل من المعنيين اللذين ذكرناهما في الفلاح فسر حديث الأذان والإقامة :

حي على الفلاح ; كما هو معروف . ومن تاب إلى الله - كما أمره الله - نال الفلاح بمعنييه ، فإنه يفوز بالمطلوب الأعظم وهو الجنة ، ورضا الله تعالى ، وكذلك ينال البقاء الأبدي في النعيم والسرور ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره - جل وعلا - لجميع المسلمين بالتوبة ، مشيرا إلى أنها تؤدي إلى فلاحهم في قوله : لعلكم تفلحون أوضحه في غير هذا الموضع ، وبين أن التوبة التي يمحو الله بها الذنوب ، ويكفر بها السيئات ، أنها التوبة النصوح ، وبين أنها يترتب عليها تكفير السيئات ، ودخول الجنة ، ولا سيما عند من يقول من أهل العلم : إن عسى من الله واجبة ، وله وجه من النظر ; لأنه عز وجل جواد كريم ، رحيم غفور ، فإذا أطمع عبده في شيء من فضله ، فجوده وكرمه تعالى وسعة رحمته يجعل ذلك الإنسان الذي أطمعه ربه في ذلك الفضل يثق بأنه ما أطمعه فيه إلا ليتفضل به عليه .

ومن الآيات التي بينت هذا المعنى هنا ، قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار [ 66 \ 8 ] ، فقوله في آية " التحريم " هذه : ذلك بأن الذين كفروا ; كقوله في آية " النور " : أيها المؤمنون لأن من كفرت عنه سيئاته وأدخل الجنة ، فقد نال الفلاح بمعنييه ، وقوله في آية " التحريم " : توبوا إلى الله توبة نصوحا موضح لقوله في " النور " : وتوبوا إلى الله جميعا ونداؤه لهم بوصف الإيمان في الآيتين فيه تهييج لهم ، وحث على امتثال الأمر ; لأن الاتصاف بصفة الإيمان بمعناه الصحيح ، يقتضي المسارعة إلى امتثال أمر الله ، واجتناب نهيه ، والرجاء المفهوم من لفظة عسى في آية " التحريم " ، هو المفهوم من لفظة لعل في آية " النور " ، كما لا يخفى .
تنبيهات .

الأول : التوبة النصوح : هي التوبة الصادقة .

وحاصلها أن يأتي بأركانها الثلاثة على الوجه الصحيح ، بأن يقلع عن الذنب إن كان [ ص: 522 ] ملتبسا به ، ويندم على ما صدر منه من مخالفة أمر ربه - جل وعلا - وينوي نية جازمة ألا يعود إلى معصية الله أبدا .

وأظهر أقوال أهل العلم أنه إن تاب توبة نصوحا وكفر الله عنه سيئاته بتلك التوبة النصوح ، ثم عاد إلى الذنب بعد ذلك أن توبته الأولى الواقعة على الوجه المطلوب لا يبطلها الرجوع إلى الذنب ، بل تجب عليه التوبة من جديد لذنبه الجديد خلافا لمن قال : إن عوده للذنب نقض لتوبته الأولى .

الثاني : اعلم أنه لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا تصح توبة من ذنب إلا بالندم على فعل الذنب ، والإقلاع عنه ، إن كان ملتبسا به كما قدمنا أنهما من أركان التوبة ، وكل واحد منهما فيه إشكال معروف ، وإيضاحه في الأول الذي هو الندم أن الندم ليس فعلا ، وإنما هو انفعال ، ولا خلاف بين أهل العلم في أن الله لا يكلف أحدا إلا بفعل يقع باختيار المكلف ، ولا يكلف أحدا بشيء إلا شيئا هو في طاقته ; كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الندم انفعال ليس داخلا تحت قدرة العبد ، فليس بفعل أصلا ، وليس في وسع المكلف فعله ، والتكليف لا يقع بغير الفعل ، ولا بما لا يطاق ، كما بينا ، قال في " مراقي السعود " :



ولا يكلف بغير الفعل باعث الأنبيا ورب الفضل


وقال أيضا :



والعلم والوسع على المعروف شرط يعم كل ذي تكليف



واعلم أن كلام الأصوليين في مسألة التكليف بما لا يطاق ، واختلافهم في ذلك إنما هو بالنسبة إلى الجوار العقلي ، والمعنى هل يجيزه العقل أو يمنعه ؟ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg








(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (408)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 523 إلى صـ 530






أما وقوعه بالفعل فهم مجمعون على منعه ; كما دلت عليه آيات القرآن والأحاديث النبوية ، وبعض الأصوليين يعبر عن هذه المسألة بالتكليف بالمحال هل يجوز عقلا ، أو لا ؟ أما وقوع التكليف بالمحال عقلا ، أو عادة ، فكلهم مجمعون على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله تعالى بعدم وقوعه أزلا ، ومثال المستحيل عقلا أن يكلف بالجمع بين الضدين كالبياض والسواد ، أو النقيضين كالعدم والوجود ، والمستحيل عادة كتكليف المقعد [ ص: 523 ] بالمشي وتكليف الإنسان بالطيران ، ونحو ذلك ، فمثل هذا لا يقع التكليف به إجماعا .

وأما المستحيل لأجل علم الله في الأزل بأنه لا يقع ، فهو جائز عقلا ولا خلاف في التكليف به فإيمان أبي لهب مثلا كان الله عالما في الأزل بأنه لا يقع ; كما قال الله تعالى عنه : سيصلى نارا ذات لهب [ 11 \ 3 ] ، فوقوعه محال عقلا لعلم الله في الأزل ، بأنه لا يوجد ; لأنه لو وجد لاستحال العلم بعدمه جهلا ، وذلك مستحيل في حقه تعالى ، ولكن هذا المستحيل للعلم بعدم وقوعه جائز عقلا ، إذ لا يمنع العقل إيمان أبي لهب ، ولو كان مستحيلا لما كلفه الله بالإيمان ، على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - فالإمكان عام ، والدعوة عامة ، والتوفيق خاص .

وإيضاح مسألة الحكم العقلي أنه عند جمهور النظار ثلاثة أقسام :

الأول : الواجب عقلا .

الثاني : المستحيل عقلا .

الثالث : الجائز عقلا ، وبرهان الحصر الحكم العقلي في الثلاثة المذكورة ، أن الشيء من حيث هو شيء ، لا يخلو من واحدة من ثلاث حالات : إما أن يكون العقل يقبل وجوده ، ولا يقبل عدمه بحال . وإما أن يكون يقبل عدمه ولا يقبل وجوده بحال . وإما أن يكون يقبل وجوده وعدمه معا ، فإن كان العقل يقبل وجوده دون عدمه ، فهو الواجب عقلا ، وذلك كوجود الله تعالى متصفا بصفات الكمال والجلال ، فإن العقل السليم لو عرض عليه وجود خالق هذه المخلوقات لقبله ، ولو عرض عليه عدمه وأنها خلقت بلا خالق ، لم يقبله ، فهو واجب عقلا ، وأما إن كان يقبل عدمه ، دون وجوده ، فهو المستحيل عقلا ; كشريك الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فلو عرض على العقل السليم عدم شريك لله في ملكه ، وعبادته لقبله ، ولو عرض عليه وجوده لم يقبله بحال ; كما قال تعالى : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، وقال : إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] ، فهو مستحيل عقلا . وأما إن كان العقل يقبل وجوده وعدمه معا ، فهو الجائز العقلي ، ويقال له الجائز الذاتي ، وذلك كإيمان أبي لهب ، فإنه لو عرض وجوده على العقل السليم لقبله ، ولو عرض عليه عدمه بدل وجوده لقبله أيضا ، كما لا يخفى ، فهو جائز عقلا جوازا ذاتيا ، ولا خلاف في التكليف بهذا النوع الذي هو الجائز العقلي الذاتي .

[ ص: 524 ] وقالت جماعات من أهل الأهواء : إن الحكم العقلي قسمان فقط ، وهما : الواجب عقلا ، والمستحيل عقلا ، قالوا : والجائز عقلا لا وجود له أصلا ، وزعموا أن دليل الحصر في الواجب والمستحيل أن الأمر إما أن يكون الله عالما في أزله ، بأنه سيوجد فهو الواجب الوجود لاستحالة عدم وجوده مع سبق العلم الأزلي بوجوده ، كإيمان أبي بكر فهو واجب عندهم عقلا لعلم الله بأنه سيقع ، إذ لو لم يقع لكان علمه جهلا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وذلك محال .

وإما أن يكون الله عالما في أزله ، بأنه لا يوجد كإيمان أبي لهب ، فهو مستحيل عقلا ، إذ لو وجد لانقلب العلم جهلا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وهذا القول لا يخفى بطلانه ، ولا يخفى أن إيمان أبي لهب ، وأبي بكر كلاهما يجيز العقل وجوده وعدمه ، فكلاهما جائز إلا أن الله تعالى شاء وجود أحد هذين الجائزين فأوجده ، وشاء عدم الآخر ، فلم يوجده .

والحاصل أن المستحيل لغير علم الله السابق بعدم وجوده ; لأنه مستحيل استحالة ذاتية كالجمع بين النقيضين لا يقع التكليف به إجماعا ، وكذلك المستحيل عادة ، كما لا يخفى .

أما الجائز الذاتي فالتكليف به جائز ، وواقع إجماعا كإيمان أبي لهب فإنه جائز عقلا ، وإن استحال من جهة علم الله بعدم وقوعه ، وهم يسمون هذا الجائز الذاتي مستحيلا عرضيا ، ونحن ننزه صفة علم الله عن أن نقول إن الاستحالة بسببها عرضية .

فإذا علمت هذا ، فاعلم أن علماء الأصول وجميع أهل العلم مجمعون على وقوع التكليف بالجائز العقلي الذاتي ، كإيمان أبي لهب ، وإن كان وقوعه مستحيلا لعلم الله بأنه لا يقع .

أما المستحيل عقلا لذاته كالجمع بين النقيضين ، والمستحيل عادة كمشي المقعد ، وطيران الإنسان بغير آلة ، فلا خلاف بين أهل العلم في منع وقوع التكليف بكل منهما ; كما قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 282 ] ، وقال تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - " : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " .

وأما المستحيل العقلي : فقالت جماعة من أهل الأصول : يجوز التكليف بالمستحيل الذاتي عادة وعقلا ، وبالمستحيل عادة ، وقال بعضهم : لا يجوز عقلا مع إجماعهم على أنه [ ص: 525 ] لا يصح وقوعه بالفعل ، وحجة من يمنعه عقلا أنه عبث لا فائدة فيه ; لأن المكلف به لا يمكن أن يقدر عليه بحال ، فتكليفه بما هو عاجز عنه محققا عبث لا فائدة فيه ، قالوا فهو مستحيل ; لأن الله حكيم خبير . وحجة من قال بجوازه أن فائدته امتحان المكلف ، هل يتأسف على عدم القدرة ، ويظهر أنه لو كان قادرا لامتثل ، والامتحان سبب من أسباب التكليف ، كما كلف الله إبراهيم بذبح ولده ، وهو عالم أنه لا يذبحه ، وبين أن حكمة هذا التكليف هي ابتلاء إبراهيم ، أي : اختباره ، هل يمتثل ؟ فلما شرع في الامتثال فداه الله بذبح عظيم ; كما قال تعالى عنه : فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ 37 \ 103 - 107 ] .

وقد أشار صاحب " مراقي السعود " إلى مسألة التكليف بالمحال ، وأقوال الأصوليين فيها ، وهي اختلافهم في جواز ذلك عقلا ، مع إجماعهم على منعه إن كانت الاستحالة لغير علم الله ، بعدم الوقوع كالاستحالة الذاتية ، بقوله :

وجوز التكليف بالمحال في الكل من ثلاثة الأحوال
وقيل بالمنع لما قد امتنع لغير علم الله أن ليس يقع
وليس واقعا إذا استحالا لغير علم ربنا تعالى



وقوله : وجوز التكليف ، يعني : الجواز العقلي .

وقوله : وقيل بالمنع ، أي : عقلا ، ومراده بالثلاثة الأحوال ما استحال عقلا وعادة ، كالجمع بين النقيضين ، وما استحال عادة كمشي المقعد ، وطيران الإنسان ، وإبصار الأعمى ، وما استحال لعلم الله بعدم وقوعه .

وإذا عرفت كلام أهل الأصول في هذه المسألة ، فاعلم أن التوبة تجب كتابا وسنة وإجماعا من كل ذنب اقترفه الإنسان فورا ، وأن الندم ركن من أركانها ، وركن الواجب واجب ، والندم ليس بفعل ، وليس باستطاعة المكلف ; لأنه انفعال لا فعل ، والانفعالات ليست بالاختيار ، فما وجه التكليف بالندم ، وهو غير فعل للمكلف ، ولا مقدور عليه .

والجواب عن هذا الإشكال : هو أن المراد بالتكليف بالندم التكليف بأسبابه التي يوجد بها ، وهي في طوق المكلف ، فلو راجع صاحب المعصية نفسه مراجعة صحيحة ، [ ص: 526 ] ولم يحابها في معصية الله لعلم أن لذة المعاصي كلذة الشراب الحلو الذي فيه السم القاتل ، والشراب الذي فيه السم القاتل لا يستلذه عاقل لما يتبع لذته من عظيم الضرر ، وحلاوة المعاصي فيها ما هو أشد من السم القاتل ، وهو ما تستلزمه معصية الله - جل وعلا - من سخطه على العاصي ، وتعذيبه له أشد العذاب ، وعقابه على المعاصي قد يأتيه في الدنيا فيهلكه ، وينغص عليه لذة الحياة ، ولا شك أن من جعل أسباب الندم على المعصية وسيلة إلى الندم ، أنه يتوصل إلى حصول الندم على المعصية ، بسبب استعماله الأسباب التي يحصل بها .

فالحاصل أنه مكلف بالأسباب المستوجبة للندم ، وأنه إن استعملها حصل له الندم ، وبهذا الاعتبار كان مكلفا بالندم ، مع أنه انفعال لا فعل .

ومن أمثلة استعمال الأسباب المؤدية إلى الندم على المعصية قول الشاعر وهو الحسين بن مطير :



فلا تقرب الأمر الحرام فإنه حلاوته تفنى ويبقى مريرها



ونقل عن سفيان الثوري - رحمه الله - أنه كان كثيرا ما يتمثل بقول الشاعر :



تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار



وأما الإشكال الذي في الإقلاع عن الذنب ، فحاصله أن من تاب من الذنب الذي هو متلبس به ، مع بقاء فساد ذلك الذنب ، أي : أثره السيئ هل تكون توبته صحيحة ، نظرا إلى أنه فعل في توبته كل ما يستطيعه ، وإن كان الإقلاع عن الذنب لم يتحقق للعجز عن إزالة فساده في ذلك الوقت ، أو لا تكون توبته صحيحة ; لأن الإقلاع عن الذنب الذي هو ركن التوبة لم يتحقق .

ومن أمثلة هذا من كان على بدعة من البدع السيئة المخالفة للشرع المستوجبة للعذاب إذا بث بدعته ، وانتشرت في أقطار الدنيا ، ثم تاب من ارتكاب تلك البدعة ، فندم على ذلك ونوى ألا يعود إليه أبدا ، مع أن إقلاعه عن بدعته لا قدرة له عليه ، لانتشارها في أقطار الدنيا ; ولأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ففساد بدعته باق .

[ ص: 527 ] ومن أمثلته : من غصب أرضا ، ثم سكن في وسطها ، ثم تاب من ذلك الغصب نادما عليه ، ناويا ألا يعود إليه ، وخرج من الأرض المغصوبة بسرعة ، وسلك أقرب طريق للخروج منها ، فهل تكون توبته صحيحة ، في وقت سيره في الأرض المغصوبة قبل خروجه منها ; لأنه فعل في توبته كل ما يقدر عليه ، أو لا تكون صحيحة ; لأن إقلاعه عن الغصب ، لم يتم ما دام موجودا في الأرض المغصوبة ، ولو كان يسير فيها ، ليخرج منها .

ومن أمثلته : من رمى مسلما بسهم ، ثم تاب فندم على ذلك ، ونوى ألا يعود قبل إصابة السهم للإنسان الذي رماه به بأن حصلت التوبة والسهم في الهواء في طريقه إلى المرمي ، هل تكون توبته صحيحة ; لأنه فعل ما يقدر عليه ، أو لا تكون صحيحة ; لأن إقلاعه عن الذنب لم يتحقق وقت التوبة ، لأن سهمه في طريقه إلى إصابة مسلم ، فجمهور أهل الأصول على أن توبته في كل الأمثلة صحيحة ; لأن التوبة واجبة عليه ، وقد فعل من هذا الواجب كل ما يقدر عليه ، وما لا قدرة له عليه معذور فيه ; لقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، إلى آخر الأدلة التي قدمناها قريبا .

وقال أبو هاشم ، وهو من أكابر المعتزلة كابنه أبي علي الجبائي : إن التائب الخارج من الأرض المغصوبة آت بحرام ; لأن ما أتى به من الخروج تصرف في ملك الغير بغير إذن ، كالمكث ، والتوبة إنما تحقق عند انتهائه إذ لا إقلاع إلا حينئذ ، والإقلاع ترك المنهي عنه ، فالخروج عنده قبيح ; لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وهو مناف للإقلاع ، فهو منهي عنه ، مع أن الخروج المذكور مأمور به عنده أيضا ، لأنه انفصال عن المكث في الأرض المغصوبة ، وهذا بناه على أصله الفاسد ، وهو القبح العقلي ، لكنه أخل بأصل له آخر ، وهو منع التكليف بالمحال فإنه قال : إن خرج عصى ، وإن مكث عصى ، فقد حرم عليه الضدين كليهما ، اهـ ، قاله في " نشر البنود " .

وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " مقتصرا على مذهب الجمهور ، بقوله :

من تاب بعد أن تعاطى السببا فقد أتى بما عليه وجبا
وإن بقي فساده كمن رجع عن بث بدعة عليها يتبع
أو تاب خارجا مكان الغصب أو تاب بعد الرمي قبل الضرب



[ ص: 528 ] قوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله الإنكاح هنا معناه : التزويج ، وأنكحوا الأيامى أي : زوجوهم ، والأيامى : جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة ، والأيم : هو من لا زوج له من الرجال والنساء ، سواء كان قد تزوج قبل ذلك ، أو لم يتزوج قط ، يقال : رجل أيم ، وامرأة أيم ، وقد فسر الشماخ بن ضرار في شعره : الأيم الأنثى بأنها التي لم تتزوج في حالتها الراهنة ، وذلك في قوله :

يقر بعيني أن أنبأ أنها وإن لم أنلها أيم لم تزوج


فقوله : " لم تزوج " تفسير لقوله : أنها أيم ، ومن إطلاق الأيم على الذكر الذي لا زوج له قول أمية بن أبي الصلت الثقفي :

لله در بني علي أيم منهم وناكح



ومن إطلاقه على الأنثى قول الشاعر :

أحب الأيامى إذ بثينة أيم وأحببت لما أن غنيت الغوانيا



والعرب تقول : آم الرجل يئيم ، وآمت المرأة تئيم ، إذا صار الواحد منهما أيما ، وكذلك تقول : تأيم إذا كان أيما .

ومثاله في الأول قول الشاعر :

لقد إمت حتى لامني كل صاحب رجاء بسلمى أن تئيم كما إمت



ومن الثاني قوله :

فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم



ومن الأول أيضا ، قول يزيد بن الحكم الثقفي :

كل امرئ ستئيم منه العرس أو منها يئيم



وقول الآخر :

[ ص: 529 ]

نجوت بقوف نفسك غير أني إخال بأن سييتم أو تئيم



يعني : ييتم ابنك وتئيم امرأتك .

فإذا علمت هذا ، فاعلم أن قوله تعالى في هذه الآية : وأنكحوا الأيامى شامل للذكور والإناث ، وقوله في هذه الآية : منكم أي : من المسلمين ، ويفهم من دليل الخطاب أي مفهوم المخالفة في قوله : منكم أن الأيامى من غيركم ، أي : من غير المسلمين ، وهم الكفار ليسوا كذلك .

وهذا المفهوم الذي فهم من هذه الآية جاء مصرحا به في آيات أخر ; كقوله تعالى في أيامى الكفار الذكور : ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا [ 2 \ 221 ] ، وقوله في أياماهم الإناث : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] ، وقوله فيهما جميعا : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] .

وبهذه النصوص القرآنية الصريحة الموضحة لمفهوم هذه الآية ، تعلم أنه لا يجوز تزويج المسلمة للكافر مطلقا وأنه لا يجوز تزويج المسلم للكافرة إلا أن عموم هذه الآيات خصصته آية " المائدة " ، فأبانت أن المسلم يجوز له تزوج المحصنة الكتابية خاصة ; وذلك في قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ 5 \ 5 ] ، فقوله تعالى عاطفا على ما يحل للمسلمين : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب صريح في إباحة تزويج المسلم للمحصنة الكتابية ، والظاهر أنها الحرة العفيفة .

فالحاصل أن التزويج بين الكفار والمسلمين ممنوع في جميع الصور ، إلا صورة واحدة ، وهي تزوج الرجل المسلم بالمرأة المحصنة الكتابية ، والنصوص الدالة على ذلك قرآنية ، كما رأيت .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والصالحين من عبادكم وإمائكم يدل على لزوم تزويج الأيامى من المملوكين الصالحين ، والإماء المملوكات ، وظاهر هذا الأمر الوجوب ; لما تقرر في الأصول .

[ ص: 530 ] وقد بينا مرارا من أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب ، وبذلك تعلم أن الخالية من زوج إذا خطبها كفء ورضيته ، وجب على وليها تزويجها إياه ، وأن ما يقوله بعض أهل العلم من المالكية ومن وافقهم ، من أن السيد له منع عبده وأمته من التزويج مطلقا غير صواب لمخالفته لنص القرآن في هذه الآية الكريمة .

واعلم أن قوله في هذه الآية الكريمة : وإمائكم بينت آية " النساء " أن الأمة لا تزوج للحر إلا بالشروط التي أشارت إليها الآية ، فآية " النساء " المذكورة مخصصة بعموم آية " النور " هذه بالنسبة إلى الإماء ، وآية " النساء " المذكورة هي قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله تعالى : ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم [ 4 \ 25 ] ، فدلت آية " النساء " هذه على أن الحر لا يجوز له أن يتزوج المملوكة المؤمنة ، إلا إذا كان غير مستطيع تزويج حرة لعدم الطول عنده ، وقد خاف الزنى فله حينئذ تزوج الأمة بإذن أهلها المالكين لها ، ويلزمه دفع مهرها ، وهي مؤمنة عفيفة ليست من الزانيات ولا متخذات الأخدان ، ومع هذا كله فصبره عن تزويجها خير له ، وإذا كان الصبر عن تزويجها مع ما ذكرنا من الاضطرار خيرا له فمع عدمه أولى بالمنع ، وبما ذكرنا تعلم أن الصواب قول الجمهور من منع تزويج الحر الأمة ، إلا بالشروط المذكورة في القرآن ; كقوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا [ 4 \ 25 ] ، وقوله : ذلك لمن خشي العنت منكم [ 4 \ 25 ] ، أي : الزنى إلى آخر ما ذكر في الآية خلافا لأبي حنيفة القائل بجواز نكاحها مطلقا ، إلا إذا تزوجها على حرة .

والحاصل أن قوله تعالى في آية " النور " هذه : وإمائكم خصصت عمومه آية " النساء " كما أوضحناه آنفا ، والعلماء يقولون : إن علة منع تزويج الحر الأمة ، أنها إن ولدت منه كان ولدها مملوكا ; لأن كل ذات رحم فولدها بمنزلتها ، فيلزمه ألا يتسبب في رق أولاده ما استطاع ، ووجهه ظاهر كما ترى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg








(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:50 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (409)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 531 إلى صـ 538





وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله فيه وعد من الله للمتزوج الفقير من الأحرار ، والعبيد بأن الله يغنيه ، والله لا يخلف الميعاد ، وقد وعد الله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقراء باليسر بعد ذلك العسر ، وأنجز لهم ذلك ، وذلكم في قوله تعالى : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] ، أي : ضيق عليه رزقه إلى قوله [ ص: 531 ] تعالى : سيجعل الله بعد عسر يسرا [ 65 \ 7 ] ، وهذا الوعد منه - جل وعلا - وعد به من اتقاه في قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب الآية [ 65 \ 2 - 3 ] ، ووعد بالرزق أيضا من يأمر أهله بالصلاة ويصطبر عليها ، وذلك في قوله : وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى [ 20 \ 132 ] ، وقد وعد المستغفرين بالرزق الكثير على لسان نبيه نوح في قوله تعالى عنه : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] ، وعلى لسان نبيه هود في قوله تعالى عنه : ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم الآية [ 11 \ 52 ] ، وعلى لسان نبينا - صلى الله عليه وعليهما جميعا وسلم - : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى [ 11 \ 3 ] .

ومن الآيات الدالة على أن طاعة الله تعالى سبب للرزق ، قوله تعالى : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض الآية [ 7 \ 96 ] ، ومن بركات السماء المطر ، ومن بركات الأرض النبات مما يأكل الناس والأنعام ، وقوله تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم الآية [ 5 \ 66 ] ، وقوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] ، أي : في الدنيا ; كما قدمنا إيضاحه في سورة " النحل " ، وكما يدل عليه قوله بعده في جزائه في الآخرة : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، وقد قدمنا أنه - جل وعلا - وعد بالغنى عند التزويج وعند الطلاق .

أما التزويج ، ففي قوله هنا : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله .

وأما الطلاق ففي قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته الآية [ 4 \ 130 ] ، والظاهر أن المتزوج الذي وعده الله بالغنى ، هو الذي يريد بتزويجه الإعانة على طاعة الله بغض البصر ، وحفظ الفرج ; كما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح " : يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج " الحديث ، وإذا كان قصده بالتزويج طاعة الله بغض البصر وحفظ الفرج ، فالوعد بالغنى إنما هو على طاعة الله بذلك .

[ ص: 532 ] وقد رأيت ما ذكرنا من الآيات الدالة على وعد الله بالرزق من أطاعه سبحانه - جل وعلا - ما أكرمه ، فإنه يجزي بالعمل الصالح في الدنيا والآخرة ، وما قاله أهل الظاهر من أن هذه الآية الكريمة تدل على أن العبد يملك ماله ; لأن قوله : إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله بعد قوله : والصالحين من عبادكم وإمائكم يدل على وصف العبيد بالفقر والغنى ، ولا يطلق الغنى إلا على من يملك المال الذي به صار غنيا ، ووجهه قوي ولا ينافي أن لسيده أن ينتزع منهم ذلك المال الذي ملك له ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله .

هذا الاستعفاف المأمور به في هذه الآية الكريمة ، هو المذكور في قوله : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون [ 24 \ 30 ] ، وقوله تعالى : ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ 17 \ 32 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

قوله تعالى : ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم قيل : غفور لهن ، وقيل : غفور لهم ، وقيل : غفور لهن ولهم .

وأظهرها أن المعنى غفور لهن لأن المكره لا يؤاخذ بما أكره عليه ، بل يغفره الله له لعذره بالإكراه ; كما يوضحه قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان الآية [ 16 \ 106 ] ، ويؤيده قراءة ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، وابن جبير ، فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم ، ذكره عنه القرطبي ، وذكره الزمخشري عن ابن عباس - رضي الله عنهم جميعا - .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنا لا نبين القرآن بقراءة شاذة ، وربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادا بها لقراءة سبعية كما هنا ، فزيادة لفظة لهن في قراءة من ذكرنا استشهاد بقراءة شاذة لبيان بقراءة غير شاذة أن الموعود بالمغفرة والرحمة ، هو المعذور بالإكراه دون المكره ; لأنه غير معذور في فعله القبيح ، وذلك بيان المذكور بقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ 16 \ 106 ] .

[ ص: 533 ] وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ; لأن المكرهة على الزنى ، بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة .

قلت : لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل ، أو بما يخاف منه التلف ، أو ذهاب العضو من ضرب عنيف أو غيره ، حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة ، انتهى منه .

والذي يظهر أنه لا حاجة إليه ، لأن إسقاط المؤاخذة بالإكراه يصدق عليه أنه غفران ورحمة من الله بعبده ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ذكر الله - جلا وعلا - في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل إلينا على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - آيات مبينات ، ويدخل فيها دخولا أوليا الآيات التي بينت في هذه السورة الكريمة ، وأوضحت في معاني الأحكام والحدود ، ودليل ما ذكر من القرآن قوله تعالى :

سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون [ 24 \ 1 ] ولا شك أن هذه الآيات المبينات المصرح بنزولها في هذه السورة الكريمة ، داخلة في قوله تعالى هنا ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات الآية .

وبذلك تعلم أن قوله تعالى هنا ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات معناه : أنزلناها إليكم لعلكم تذكرون ، أي : تتعظون بما فيها من الأوامر والنواهي ، والمواعظ ، ويدل لذلك قوله تعالى : وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون فقد صرح في هذه الآية الكريمة بأن من حكم إنزالها ، أن يتذكر الناس ، ويتعظوا بما فيها ، ويدل لذلك عموم قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] وقوله تعالى : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ومثلا من الذين خلوا من قبلكم معطوف على آيات ، أي : أنزلنا إليكم آيات ، وأنزلنا إليكم مثلا من الذين خلوا من قبلكم .

[ ص: 534 ] قال أبو حيان في البحر المحيط : ومثلا معطوف على آيات ، فيحتمل أن يكون المعنى ومثلا من أمثال الذين من قبلكم ، أي : قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ، ومريم في براءتهما .

وقال الزمخشري : ومثلا من أمثال من قبلكم ، أي : قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ، ومريم يعني قصة عائشة - رضي الله عنها - وما ذكرنا عن أبي حيان والزمخشري ذكره غيرهما .

وإيضاحه : أن المعنى : وأنزلنا إليكم مثلا ، أي : قصة عجيبة غريبة في هذه السورة الكريمة ، وتلك القصة العجيبة من أمثال " الذين خلوا من قبلكم " ، أي : من جنس قصصهم العجيبة ، وعلى هذا الذي ذكرنا فالمراد بالقصة العجيبة التي أنزل إلينا ، وعبر عنها بقوله : ومثلا هي براءة عائشة - رضي الله عنها - مما رماها به أهل الإفك ، وذلك مذكور في قوله تعالى : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم [ 24 \ 11 ] إلى قوله تعالى : أولئك مبرءون مما يقولون الآية [ 24 \ 26 ] ، فقد بين في الآيات العشر المشار إليها أن أهل الإفك رموا عائشة ، وأن الله برأها في كتابه مما رموها به ، وعلى هذا :

فمن الآيات المبينة لبعض أمثال من قبلنا قوله تعالى في رمي امرأة العزيز يوسف بأنه أراد بها سوءا تعني الفاحشة قالت : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم [ 12 \ 25 ] وقوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين [ 12 \ 35 ] ; لأنهم سجنوه بضع سنين ، بدعوى أنه كان أراد الفاحشة من امرأة العزيز ، وقد برأه الله من تلك الفرية التي افتريت عليه بإقرار النسوة وامرأة العزيز نفسها وذلك في قوله تعالى : فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين [ 12 \ 50 - 51 ] ، وقال تعالى عن امرأة العزيز في كلامها مع النسوة اللاتي قطعن أيديهن قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم الآية [ 12 \ 32 ] .

فقصة يوسف هذه مثل من أمثال من قبلنا ; لأنه رمى بإرادة الفاحشة وبرأه الله من [ ص: 535 ] ذلك ، والمثل الذي أنزله إلينا في هذه السورة ، شبيه بقصة يوسف ; لأنه هو وعائشة كلاهما رمي بما لا يليق ، وكلاهما برأه الله تعالى ، وبراءة كل منهما نزل بها هذا القرآن العظيم ، وإن كانت براءة يوسف وقعت قبل نزول القرآن بإقرار امرأة العزيز ، والنسوة كما تقدم قريبا بشهادة الشاهد من أهلها ، إن كان قميصه قد من قبل إلى قوله : فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن الآية [ 12 \ 26 - 28 ] .

ومن الآيات المبينة لبعض أمثال الذين من قبلنا ما ذكرنا تعالى عن قوم مريم من أنهم رموها بالفاحشة ، لما ولدت عيسى من غير زوج ; كقوله تعالى : وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما [ 4 \ 156 ] يعني فاحشة الزنى ، وقوله تعالى : فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا [ 19 \ 27 ] يعنون الفاحشة ، ثم بين الله تعالى براءتها مما رموها به في مواضع من كتابه; كقوله تعالى : فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا إلى قوله : ويوم أبعث حيا [ 19 \ 29 - 33 ] فكلام عيسى ، وهو رضيع ببراءتها ، يدل على أنها بريئة ، وقد أوضح الله براءتها مع بيان سبب حملها بعيسى ، من غير زوج ، وذلك في قوله تعالى : واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا [ 19 \ 16 - 22 ] إلى آخر الآيات .

ومن الآيات التي بين الله فيها براءتها قوله تعالى في الأنبياء : والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين [ 21 \ 91 ] وقوله تعالى في التحريم : ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين [ 66 \ 12 ] وقوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب .

فهذه الآيات التي ذكرنا التي دلت على قذف يوسف وبراءته وقذف مريم وبراءتها [ ص: 536 ] من أمثال من قبلنا فهي ما يبين بعض ما دل عليه قوله : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم .

والآيات التي دلت على قذف عائشة وبراءتها بينت المثل الذي أنزل إلينا ، وكونه من نوع أمثال من قبلنا واضح ; لأن كلا من عائشة ، ومريم ، ويوسف رمي بما لا يليق ، وكل منهم برأه الله ، وقصة كل منهم عجيبة ، ولذا أطلق عليها اسم المثل في قوله : ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة وموعظة للمتقين .

قال الزمخشري : و " موعظة " ما وعظ به في الآيات والمثل من نحو قوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله [ 24 \ 2 ] ، لولا إذ سمعتموه [ 24 \ 12 ] ، ولولا إذ سمعتموه [ 24 \ 16 ] ، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا [ 24 \ 17 ] ، اهـ كلام الزمخشري ، والظاهر أن وجه خصوص الموعظة بالمتقين دون غيرهم أنهم هم المنتفعون بها .

ونظيره في القرآن قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب [ 35 \ 18 ] وقوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] فخص الإنذار بمن ذكر في الآيات ; لأنهم هم المنتفعون به مع أنه - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة منذر لجميع الناس كما قال تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] ونظيره أيضا قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] ونحوها من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وشعبة بن عاصم : مبينات بفتح الياء المثناة التحتية المشددة بصيغة اسم المفعول ، وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم : مبينات بكسر الياء المشددة بصيغة اسم الفاعل : فعلى قراءة من قرأ بفتح الياء فلا إشكال في الآية ; لأن الله بينها ، وأوضحها ، وعلى قراءة من قرأ مبينات بكسر الياء بصيغة اسم الفاعل ، ففي معنى الآية وجهان معروفا .

أحدهما : أن قوله : مبينات : اسم فاعل بين المتعدية وعليه فالمفعول محذوف ، أي : مبينات الأحكام والحدود .

والثاني : أن قوله : مبينات : وصف من " بين " اللازمة ، وهو صفة مشبهة ، وعليه [ ص: 537 ] فالمعنى آيات مبينات أي بينات واضحات ، ويدل لهذا الوجه الأخير قوله تعالى : سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا [ 24 \ 1 ] ، وذكر الوجهين المذكورين الزمخشري ، وأبو حيان وغيرهما ومثلوا لبين اللازمة بالمثل المعروف ، وهو قول العرب : قد بين الصبح لذي عينين .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : من المعروف في العربية أن بين مضعفا ، وأبان كلتاهما تأتي متعدية للمفعول ولازمة ، فتعدي بين للمفعول مشهور واضح كقوله تعالى : قد بينا لكم الآيات [ 3 \ 118 ] وتعدي أبان للمفعول مشهود واضح أيضا كقولهم : أبان له الطريق ، أي : بينها له ، وأوضحها ، وأما ورود بين لازمة بمعنى تبين ووضح فمنه المثل المذكور : قد بين الصبح لذي عينين ، أي : تبين وظهر ، ومنه قولجرير :

وجوه مجاشع طليت بلؤم يبين في المقلد والعذار


فقوله : يبين بكسر الياء بمعنى : يظهر ، ويتضح وقول جرير أيضا :

رأى الناس البصيرة فاستقاموا وبينت المراض من الصحاح
.


ومنه أيضا قول قيس بن ذريح :

وللحب آيات تبين بالفتى شحوب وتعرى من يديه الأشاجع



على الرواية المشهورة برفع " شحوب " .

والمعنى : للحب علامات تبين بالكسر ، أي : تظهر وتتضح بالفتى ، وهي شحوب إلخ ، وأنشد ثعلب هذا البيت ، فقال : شحوبا بالنصب ، وعليه فلا شاهد في البيت ; لأن شحوبا على هذا مفعول تبين فهو على هذا من بين المتعدية ، وأما ورود أبان لازمة بمعنى بان وظهر ، فهو كثير في كلام العرب أيضا ومنه قول جرير :



إذا آباؤنا وأبوك عدوا أبان المقرفات من العراب



أي : ظهرت المقرفات وتبينت ، وقول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :



لو دب ذر فوق ضاحي جلدها لأبان من آثارهن حدود



أي : لظهر وبان من آثارهن حدود ، أي : ورم ، وقول كعب بن زهير :

[ ص: 538 ]

قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل

فقوله : مبين وصف من أبانت اللازمة : أي عتق بين واضح ، أي كرم ظاهر .
قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله .

قرأ هذا الحرف جميع السبعة غير ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح له فيها بكسر الباء الموحدة المشددة ، مبنيا للفاعل ، وفاعله رجال والمعنى واضح على هذه القراءة . وقرأه ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح له فيها بفتح الباء الموحدة المشددة ، مبنيا للمفعول ، وعلى هذه القراءة فالفاعل المحذوف قد دلت القراءة الأولى على أن تقديره : رجال فكأنه لما قال يسبح له فيها ، قيل : ومن يسبح له فيها ؟ قال رجال ، أي : يسبح له فيها رجال .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ما لفظه ، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلا بقراءة سبعية ، سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها ، أو آية أخرى غيرها إلى آخره ، وإنما ذكرنا أن الآية يبين بعض القراءات فيها معنى بعض ; لأن المقرر عند العلماء أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين .

وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة الجمهور : يسبح بكسر الباء وفاعله رجال مبينة أن الفاعل المحذوف في قراءة ابن عامر ، وشعبة ، عن عاصم : يسبح بفتح الباء مبنيا للمفعول لحذف الفاعل هو رجال كما لا يخفى . والآية على هذه القراءة حذف فيها الفاعل لـ " يسبح " ، وحذف أيضا الفعل الرافع للفاعل الذي هو رجال على حد قوله في الخلاصة :



ويرفع الفاعل فعل أضمرا


كمثل زيد في جواب من قرا


ونظير ذلك من كلام العرب قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره :



ليبك يزيد ضارع لخصومة



ومختبط مما تطيح الطوائح

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg







(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:51 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (410)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 539 إلى صـ 546





فقوله : ليبك يزيد بضم الياء التحتية ، وفتح الكاف مبنيا للمفعول ، فكأنه قيل : ومن [ ص: 539 ] يبكيه ؟ فقال : يبكيه ضارع لخصومة إلخ ، وقراءة ابن عامر ، وشعبة هنا كقراءة ابن كثير : كذلك يوحى إليك بفتح الحاء مبنيا للمفعول فقوله : الله فاعل يوحى المحذوفة ، ووصفه تعالى لهؤلاء الرجال الذين يسبحون له بالغدو والآصال ، بكونهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة على سبيل مدحهم ، والثناء عليهم ، يدل على أن تلك الصفات لا ينبغي التساهل فيها بحال; لأن ثناء الله على المتصف بها يدل على أن من أخل بها يستحق الذم الذي هو ضد الثناء ، ويوضح ذلك أن الله نهى عن الإخلال بها نهيا جازما في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 63 \ 9 ] وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع الآية [ 62 \ 9 ] إلى غير ذلك من الآيات .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى : اعلم أنه على قراءة ابن عامر ، وشعبة : يسبح سن الوقف على قوله : بالآصال ، وأما على قراءة الجمهور يسبح بالكسر ، فلا ينبغي الوقف على قوله : بالآصال ; لأن فاعل يسبح رجال ، والوقف دون الفاعل لا ينبغي كما لا يخفى .

المسألة الثانية : اعلم أن الضمير المؤنث في قوله : يسبح له فيها راجع إلى المساجد المعبر عنها بالبيوت في قوله : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه والتحقيق : أن البيوت المذكورة ، هي المساجد .

وإذا علمت ذلك فاعلم أن تخصيصه من يسبح له فيها بالرجال في قوله يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال يدل بمفهومه على أن النساء يسبحن له في بيوتهن لا في المساجد ، وقد يظهر للناظر أن مفهوم قوله : رجال مفهوم لقب ، والتحقيق عند الأصوليين أنه لا يحتج به .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لا شك أن مفهوم لفظ الرجال ، مفهوم لقب بالنظر إلى مجرد لفظه ، وأن مفهوم اللقب ليس بحجة على التحقيق ، كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، ولكن مفهوم الرجال هنا معتبر ، وليس مفهوم لقب على التحقيق ، وذلك لأن [ ص: 540 ] لفظ الرجال ، وإن كان بالنظر إلى مجرده اسم جنس جامد وهو لقب بلا نزاع ، فإنه يستلزم من صفات الذكورة ما هو مناسب لإناطة الحكم به ، والفرق بينه وبين النساء ; لأن الرجال لا تخشى منهم الفتنة ، وليسوا بعورة بخلاف النساء ، ومعلوم أن وصف الذكورة وصف صالح لإناطة الحكم به الذي هو التسبيح في المساجد ، والخروج إليها دون وصف الأنوثة .

والحاصل : أن لفظ الرجال في الآية ، وإن كان في الاصطلاح لقبا فإنما يشتمل عليه من أوصاف الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث ، يقتضي اعتبار مفهوم المخالفة في لفظ رجال ، فهو في الحقيقة مفهوم صفة لا مفهوم لقب ; لأن لفظ الرجال مستلزم لأوصاف صالحة لإناطة الحكم به ، والفرق في ذلك بين الرجال والنساء كما لا يخفى .
المسألة الثالثة : إذا علمت أن التحقيق أن مفهوم قوله : رجال ، مفهوم صفة باعتبار ما يستلزمه من صفات الذكورة المناسبة للفرق بين الذكور والإناث ، في حكم الخروج إلى المساجد لا مفهوم لقب ، وأن مفهوم الصفة معتبر عند الجمهور خلافا لأبي حنيفة .

فاعلم أن مفهوم قوله هنا : رجال فيه إجمال ; لأن غاية ما يفهم منه أن النساء لسن كالرجال في الخروج للمساجد ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن البيان القرآني إذا كان غير واف بالمقصود من تمام البيان ، فإنا نتمم البيان من السنة من حيث إنها تفسير للمبين باسم الفاعل ، وتقدمت أمثلة لذلك .

وإذا علمت ذلك فاعلم أن السنة النبوية بينت مفهوم المخالفة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : رجال ، فبينت أن المفهوم المذكور معتبر ، وأن النساء لسن كالرجال في حكم الخروج إلى المساجد ، وأوضحت أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لهن من الخروج إلى المساجد والصلاة فيها في الجماعة ، بخلاف الرجال ، وبينت أيضا أنهن يجوز لهن الخروج إلى المساجد بشروط سيأتي إيضاحها إن شاء الله تعالى ، وأنهن إذا استأذن أزواجهن في الخروج إلى المساجد فهم مأمورون شرعا بالإذن لهن في ذلك مع التزام الشروط المذكورة .

أما أمر أزواجهن بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد إذا طلبن ذلك فقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه في كتاب النكاح : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا الزهري عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا استأذنت [ ص: 541 ] امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها " وقال البخاري أيضا في صحيحه في كتاب الصلاة : باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد : حدثنا مسدد ، حدثنا يزيد بن زريع ، عن معمر عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " : إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها " وقال البخاري - رحمه الله - في صحيحه أيضا ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن حنظلة ، عن سالم بن عبد الله ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن " تابعه شعبة عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني عمرو الناقد ، وزهير بن حرب جميعا عن ابن عيينة ، قال زهير : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن الزهري سمع سالما يحدث عن أبيه يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : إذا استأذنت أحدكم امرأته إلى المسجد فلا يمنعها " وفي لفظ عند مسلم ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها " وفي لفظ عند مسلم أيضا ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " وفي لفظ له عنه أيضا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " : إذا استأذنكم نساؤكم إلى المسجد فأذنوا لهن " وفي لفظ عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا النساء من الخروج إلى المساجد بالليل " وفي رواية له عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد " وفي لفظ له عنه أيضا ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد إذا استأذنكم " وفي رواية " إذا استأذنوكم " ، قال النووي في شرح مسلم : وهو صحيح وعوملن معاملة الذكور لطلبهن الخروج إلى مجلس الذكور ، وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - هذا الذي ذكرناه عن الشيخين بروايات متعددة ، أخرجه أيضا غيرهما وهو صريح في أن أزواج النساء مأمورون على لسانه - صلى الله عليه وسلم - بالإذن لهن في الخروج إلى المساجد ، إذا طلبن ذلك ، ومنهيون عن منعهن من الخروج إليها .

وذكر بعض أهل العلم أن أمر الأزواج بالإذن لهن في الروايات المذكورة ليس للإيجاب ، وإنما هو للندب ، وكذلك نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن منعهن ، قالوا : هو لكراهة التنزيه لا للتحريم .

قال ابن حجر في فتح الباري : وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الوجوب ; [ ص: 542 ] لأنه لو كان واجبا لانتفى معنى الاستئذان ; لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة أو الرد .

وقال النووي في شرح المذهب : فإن منعها لم يحرم عليه ، هذا مذهبنا ، قال البيهقي : وبه قال عامة العلماء ، ويجاب عن حديث " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " بأنه نهي تنزيه ; لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب ، فلا تتركه لفضيلة اهـ .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في هذه المسألة : أن الزوج إذا استأذنته امرأته في الخروج إلى المسجد ، وكانت غير متطيبة ، ولا متلبسة بشيء يستوجب الفتنة مما سيأتي إيضاحه إن شاء الله ، أنه يجب عليه الإذن لها ، ويحرم عليه منعها للنهي الصريح منه - صلى الله عليه وسلم - عن منعها من ذلك ، وللأمر الصريح بالإذن لها وصيغة الأمر المجردة عن القرائن تقتضي الوجوب ، كما أوضحناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك ، وصيغة النهي كذلك تقتضي التحريم ، وقد قال تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ 24 \ 63 ] وقال - صلى الله عليه وسلم - " : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه " إلى غير ذلك من الأدلة ، كما قدمنا . وقول ابن حجر : إن الإذن لا يتحقق إلا إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة ، والرد غير مسلم ، إذ لا مانع عقلا ، ولا شرعا ولا عادة من أن يوجب الله عليه الإذن لامرأته في الخروج إلى المسجد من غير تخيير ، فإيجاب الإذن لا مانع منه ، وكذلك تحريم المنع . وقد دل النص الصحيح على إيجابه فلا وجه لرده بأمر محتمل كما ترى . وقول النووي : لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب ، فلا تتركه للفضيلة لا يصلح ; لأن يرد به النص الصريح منه - صلى الله عليه وسلم - فأمره - صلى الله عليه وسلم - الزوج بالإذن لها يلزمه ذلك ، ويوجبه عليه ، فلا يعارض بما ذكره النووي كما ترى . وما ذكره النووي عن البيهقي : من أن عدم الوجوب قال به عامة العلماء غير مسلم أيضا ، فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه لما حدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الذي ذكرنا عنه في أمر الأزواج بالإذن للنساء في الخروج إلى المساجد ، وقال ابنه : لا ندعهن يخرجن ، غضب وشتمه ودفع في صدره منكرا عليه مخالفته لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك دليل واضح على اعتقاده وجوب امتثال ذلك الأمر بالإذن لهن .

قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثني حرملة بن يحيى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن [ ص: 543 ] عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " : لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنكم إليها " فقال بلال بن عبد الله : والله لنمنعهن ، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ما سمعته سبه مثله قط ، وقال : أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : والله لنمنعهن ، وفي لفظ عند مسلم : فزبره ابن عمر ، وقال : أقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : لا ندعهن ، وفي لفظ لمسلم أيضا : فضرب في صدره .

واعلم أن ابن عبد الله بن عمر الذي زعم أنه لم يمتثل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإذن للنساء إلى المساجد جاء في صحيح مسلم أنه بلال بن عبد الله بن عمر .

وفي رواية عند مسلم : أنه واقد بن عبد الله بن عمر ، والحق تعدد ذلك فقد قاله كل من بلال ، وواقد ابني عبد الله بن عمر ، وقد أنكر ابن عمر على كل منهما ، كما جاءت به الروايات الصحيحة عند مسلم وغيره ، فكون ابن عمر - رضي الله عنهما - أقبل على ابنه بلال وسبه سبا سيئا وقال منكرا عليه ، أخبرك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقول : لنمنعهن فيه دليل واضح أن ابن عمر يرى لزوم الإذن لهن ، وأن منعهن لا يجوز ، ولو كان يراه جائزا ما شدد النكير على ابنيه كما لا يخفى .

وقال النووي في شرح مسلم : قوله : فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا سيئا ، وفي رواية فزبره ، وفي رواية : فضرب في صدره ، فيه تعزير المعترض على السنة والمعارض لها برأيه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : وكلام النووي هذا الذي رأيت اعتراف منه بأن مذهبه وهو مذهب الشافعي ، ومن قال بقوله ، كما نقل عن البيهقي أنه قول عامة العلماء ، أن جميع القائلين بذلك مستحقون للتعزير ، معترضون على السنة ، معارضون لها برأيهم ، والعجب منه كيف يقر بأن بلال بن عبد الله بن عمر مستحق للتعزير لاعتراضه على السنة ، ومعارضته لها برأيه ، مع أن مذهبه الذي ينصره وينقل أنه قول عامة العلماء عن البيهقي هو بعينه قول بلال بن عبد الله بن عمر الذي صرح هو بأنه يستحق به التعزير ، وأنه اعتراض على السنة ومعارضة لها بالرأي ، وقال النووي : قوله : فزبره ، أي : نهره ، وقال ابن حجر في فتح الباري : ففي رواية بلال عند مسلم ، فأقبل عليه عبد الله فسبه سبا شديدا ما سمعته سبه مثله قط ، وفسر عبد الله بن هبيرة في رواية الطبراني السب المذكور باللعن ثلاث مرات وفي رواية زائدة عن الأعمش : فانتهره وقال : أف لك ، وله عن ابن [ ص: 544 ] الأعمش : فعل الله بك وفعل ، ومثله للترمذي من رواية عيسى بن يونس ، ولمسلم من رواية أبي معاوية : فزبره ، ولأبي داود من رواية جرير : فسبه وغضب عليه ، إلى أن قال : وأخذ من إنكار عبد الله على ولده تأديب المعترض على السنن برأيه ، وهو اعتراف منه أيضا بأن من خالف الحديث المذكور معترض على السنن برأيه .

وبه تعلم أن ما قدمنا عنه من كون الأمر بالإذن لهن إلى المساجد ليس للوجوب اعتراض على السنن بالرأي كما ترى .

وبما ذكرنا تعلم أن الدليل قد دل من السنة الصحيحة على وجوب الإذن للنساء في الخروج إلى المساجد كما ذكرنا ، ويؤيده أن ابن عمر لم ينكر عليه أحد من الصحابة تشنيعه على ولديه كما أوضحناه آنفا ، والعلم عند الله تعالى .

وإذا علمت أن ما ذكرنا من النصوص الصريحة في الأمر بالإذن لهن يقتضي جواز خروجهن إلى المساجد ، فاعلم أنه ثبت في الصحيح أنهن كن يخرجن إلى المسجد ، فيصلين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البخاري - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا يحيى بن بكير قال : أخبرنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته قالت : كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ، ثم ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس اهـ ، وهذا الحديث أخرجه أيضا مسلم وغيره ، وقد جاءت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما دالة على ما دل عليه حديث عائشة هذا المتفق عليه من كون النساء كن يشهدن الصلاة في المسجد معه - صلى الله عليه وسلم -

تنبيه .

قد علمنا مما ذكرنا في روايات حديث ابن عمر المتفق عليه : أن في بعض رواياته المتفق عليها تقييد أمر الرجال بالإذن للنساء في الخروج إلى المسجد بالليل ، وفي بعضها الإطلاق وعدم التقييد بالليل ، وهو أكثر الروايات كما أشار له ابن حجر في الفتح .

وقد يتبادر للناظر أن الأزواج ليسوا مأمورين بالإذن للنساء إلا في خصوص الليل ; لأنه أستر ، ويترجح عنده هذا بما هو مقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد ، فتحمل روايات الإطلاق على التقييد بالليل ، فيختص الإذن المذكور بالليل .

[ ص: 545 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الأظهر عندي تقديم روايات الإطلاق وعدم التقييد بالليل لكثرة الأحاديث الصحيحة الدالة على حضور النساء الصلاة معه - صلى الله عليه وسلم - في غير الليل ، كحديث عائشة المتفق عليه المذكور آنفا الدال على حضورهن معه - صلى الله عليه وسلم - الصبح ، وهي صلاة نهار لا ليل ، ولا يكون لها حكم صلاة الليل ، بسبب كونهن يرجعن لبيوتهن ، لا يعرفن من الغلس ; لأن ذلك الوقت من النهار قطعا ، لا من الليل ، وكونه من النهار مانع من التقييد بالليل ، والعلم عند الله تعالى ، وأما ما يشترط في جواز خروج النساء إلى المساجد فهو :
المسألة الرابعة :

اعلم أن خروج المرأة إلى المسجد يشترط فيه عند أهل العلم شروط يرجع جميعها إلى شيء واحد ، وهو كون المرأة وقت خروجها للمسجد ليست متلبسة بما يدعو إلى الفتنة مع الأمن من الفساد .

قال النووي في شرح مسلم في الكلام على قوله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " ما نصه : هذا وما أشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد ، ولكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث ، وهي ألا تكون متطيبة ، ولا متزينة ، ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ، ولا ثياب فاخرة ، ولا مختلطة بالرجال ، ولا شابة ونحوها ، ممن يفتن بها ، وألا يكون في الطريق ما يخاف منه مفسدة ونحوها ، انتهى محل الغرض من كلام النووي .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذه الشروط التي ذكرها النووي وغيره منها ما هو ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنها ما لا نص فيه ، ولكنه ملحق بالنصوص لمشاركته له في علته ، وإلحاق بعضها لا يخلو من مناقشة ; كما سترى إيضاح ذلك كله إن شاء تعالى ، أما ما هو ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من تلك الشروط ، فهو عدم التطيب ، فشرط جواز خروج المرأة إلى المسجد ألا تكون متطيبة .

قال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا مروان بن سعيد الأيلي ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني مخرمة ، عن أبيه عن بسر بن سعيد أن زينب الثقفية كانت تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " : إذا شهدت إحداكن العشاء ، فلا تطيب تلك الليلة " .

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن محمد بن عجلان [ ص: 546 ] حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج ، عن بسر بن سعيد ، عن زينب امرأة عبد الله قالت : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا " .

حدثنا يحيى بن يحيى وإسحاق بن إبراهيم ، قال يحيى : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة ، عن يزيد بن خصيفة ، عن بسر بن سعيد ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة " اهـ .

فهذا الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن صحابيين ، وهما : أبو هريرة ، وزينب امرأة عبد الله بن مسعود - رضي الله عن الجميع - صريح في أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد ، ويؤيد ذلك ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا موسى بن إسماعيل ، ثنا حماد عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " : لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات " اهـ ، وقوله : وهن تفلات ، أي : غير متطيبات ، وقال النووي في شرح المهذب ، في هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم ، وتفلات بفتح التاء المثناة فوق وكسر الفاء ، أي : تاركات الطيب اهـ ، ومنه قول امرئ القيس :

إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها


تميل عليه هونة غير متفالي


وهذا الحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد ، وابن خزيمة ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - وأخرجه ابن حبان من حديث زيد بن خالد ، قاله الشوكاني وغيره .

وإذا علمت أن هذه الأحاديث دلت على أن المتطيبة ليس لها الخروج إلى المسجد ; لأنها تحرك شهوة الرجال بريح طيبها .

فاعلم أن أهل العلم ألحقوا بالطيب ما في معناه كالزينة الظاهرة ، وصوت الخلخال والثياب الفاخرة ، والاختلاط بالرجال ، ونحو ذلك بجامع أن الجميع سبب الفتنة بتحريك شهوة الرجال ، ووجهه ظاهر كما ترى . وألحق الشافعية بذلك الشابة مطلقا ; لأن الشاب مظنة الفتنة ، وخصصوا الخروج إلى المساجد بالعجائز ، والأظهر أن الشابة إذا خرجت مستترة غير متطيبة ، ولا متلبسة بشيء آخر من أسباب الفتنة أن لها الخروج إلى المسجد لعموم النصوص المتقدمة ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg








(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:52 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (411)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 547 إلى صـ 554



[ ص: 547 ] المسألة الخامسة : اعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من الصلاة في المساجد ، ولو كان المسجد مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وبه تعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - " : صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " خاص بالرجال ، أما النساء فصلاتهن في بيوتهن خير لهن من الصلاة في الجماعة في المسجد .

قال أبو داود في سننه : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا العوام بن حوشب ، حدثني حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن " وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : وحديث ابن عمر صحيح رواه أبو داود بلفظه هذا ، بإسناد صحيح على شرط البخاري اهـ .

وهذا الحديث أخرجه أيضا الإمام أحمد ، وقال ابن حجر في فتح الباري : وقد ورد في بعض روايات هذا الحديث وغيره ، ما يدل على أن صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد ، وذلك في رواية حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عمر بلفظ " : لا تمنعوا نساءكم المساجد وبيوتهن خير لهن " أخرجه أبو داود ، وصححه ابن خزيمة ، ولأحمد والطبراني من حديث أم حميد الساعدية أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إني أحب الصلاة معك ، فقال " : قد علمت ، وصلاتك في بيتك خير لك من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجد الجماعة " وإسناد أحمد حسن وله شاهد من حديث ابن مسعود عند أبي داود ، ووجه كون صلاتها في الإخفاء أفضل تحقق الأمن فيه من الفتنة ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر .

وحديث ابن مسعود الذي أشار له هو ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ابن المثنى ، أن عمرو بن عاصم حدثهم قال : ثنا همام عن قتادة ، عن مورق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " : صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها " ، اهـ .

وقال النووي في شرح المهذب في هذا الحديث : رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم ، وقد روى أحمد عن أم سلمة عنه - صلى الله عليه وسلم - " : خير مساجد النساء قعر بيوتهن " .

[ ص: 548 ] وبما ذكرنا من النصوص تعلم أن صلاة النساء في بيوتهن أفضل لهن من صلاتهن في الجماعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من المساجد لثبوت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومما يؤكد صلاتهن في بيوتهن ما أحدثنه من دخول المسجد في ثياب قصيرة هي مظنة الفتنة ، ومزاحمتهن للرجال في أبواب المسجد عند الدخول والخروج ، وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى من النساء ما رأينا ، لمنعهن من المسجد كما منعت بنو إسرائيل نساءها .

وقد علمت مما ذكرنا من الأحاديث أن مفهوم المخالفة في قوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال الآية ، معتبر وأنه ليس مفهوم لقب ، وقد أوضحنا المفهوم المذكور بالسنة كما رأيت ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن الرجال الذين يسبحون له في المساجد بالغدو والآصال ، إلى آخر ما ذكر من صفاتهم : أنهم يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وهو يوم القيامة لشدة هوله ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من عظم هول ذلك اليوم ، وتأثيره في القلوب والأبصار ، جاء في آيات كثيرة من كتاب الله العظيم كقوله تعالى : قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة [ 79 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] وقوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر الآية [ 40 \ 18 ] ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على عظم ذلك اليوم كقوله تعالى : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به الآية [ 73 \ 17 - 18 ] ، وقوله تعالى : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ 76 \ 9 - 10 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وفي معنى تقلب القلوب والأبصار أقوال متعددة لأهل التفسير ، ذكرها القرطبي وغيره .

وأظهرها عندي : أن تقلب القلوب هو حركتها من أماكنها من شدة الخوف ; كما قال تعالى : إذ القلوب لدى الحناجر وأن تقلب الأبصار هو زيغوغتها ودورانها بالنظر في جميع الجهات من شدة الخوف ، كما قال تعالى [ ص: 549 ] فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت الآية [ 33 \ 19 ] ، وكقوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر [ 33 \ 10 ] فالدوران والزيغوغة المذكوران يعلم بهما معنى تقلب الأبصار ، وإن كانا مذكورين في الخوف من المكروه في الدنيا .
قوله تعالى : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله .

الظاهر أن اللام في قوله : " ليجزيهم " متعلقة بقوله : " يسبح " ، أي : يسبحون له ، ويخافون يوما ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ، وقوله في هذه الآية الكريمة : ويزيدهم من فضله ، الظاهر أن هذه الزيادة من فضله تعالى ، هي مضاعفة الحسنات ، كما دل عليه قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] ، وقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : والله يضاعف لمن يشاء [ 2 \ 261 ] .

وقال بعض أهل العلم : الزيادة هنا كالزيادة في قوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] والأصح : أن الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم ، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ 50 \ 35 ] .

وقد قدمنا قول بعض أهل العلم : أن قوله تعالى : ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ونحوها من الآيات يدل على أن المباح حسن; لأن قوله : " أحسن ما عملوا " صيغة تفضيل ، وصيغة التفضيل المذكورة تدل على أن من أعمالهم حسنا لم يجزوه وهو المباح ، قال في مراقي السعود :



ما ربنا لم ينه عنه حسن


وغيره القبيح والمستهجن



قوله تعالى : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أعمال الكفار باطلة ، وأنها لا شيء ; لأنه قال في السراب الذي مثلها به : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا وما دلت عليه هذه الآية [ ص: 550 ] الكريمة من بطلان أعمال الكفار ، جاء موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء الآية [ 14 \ 18 ] ، وقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا أن عمل الكافر إذا كان على الوجه الصحيح أنه يجزى به في الدنيا ; كما أوضحناه في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] .

وقد دلت آيات من كتاب الله على انتفاع الكافر بعمله في الدنيا ، دون الآخرة ; كقوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 - 16 ] ، وهذا الذي دلت عليه هذه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا ، دون الآخرة ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أنس - رضي الله عنه - ; كما أوضحناه في الكلام على آية " النحل " المذكورة ، وهو أحد التفسيرين في قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي : : وفاه حسابه في الدنيا على هذا القول ، وقد بين الله - جل وعلا - في سورة " بني إسرائيل " أن ما دلت عليه الآيات من انتفاع الكافر بعمله الصالح في الدنيا ، أنه مقيد بمشيئة الله تعالى ، وذلك في قوله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا [ 17 \ 18 ] .

تنبيه .

في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ذكرناه وذكرنا الجواب عنه في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وذلك في قولنا فيه : لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن الضمير في قوله : جاءه يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء ; لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل ، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضايفين ، فلا تدرك إلا بإدراكهما ، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل ، إلا بإدراك فاعل واقع منه المجيء ، ومفعول به [ ص: 551 ] واقع عليه المجيء ، وقوله تعالى : لم يجده شيئا يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى : جاءه .

والجواب عن هذا من وجهين ، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة .

قال : فإن قال قائل كيف قيل : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فإن لم يكن السراب شيئا فعلام دخلت الهاء في قوله : حتى إذا جاءه ؟ قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد ، فإذا قرب منه رق وصار كالهواء ، وقد يحتمل أن يكون معناه حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه ، انتهى منه .

والوجه الأول أظهر عندي ، وعنده بدليل قوله : وقد يحتمل أن يكون معناه ، إلخ ، انتهى كلامنا في " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وقد رأيت فيه جواب ابن جرير الطبري عن السؤال المذكور ، وقوله تعالى في هذه الآية : بقيعة قيل : جمع قاع ، كجار وجيرة ، وقيل : القيعة والقاع بمعنى ، وهو المنبسط المستوي المتسع من الأرض ، وعلى هذا فالقاع واحد القيعان ، كجار وجيران .
قوله تعالى : ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون

اعلم أن الضمير المحذوف الذي هو فاعل علم قال بعض أهل العلم : إنه راجع إلى الله في قوله : ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات وعلى هذا فالمعنى كل من المسبحين والمصلين ، قد علم الله صلاته وتسبيحه ، وقال بعض أهل العلم : إن الضمير المذكور راجع إلى قوله : كل أي : كل من المصلين والمسبحين ، قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه ، وقد قدمنا في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] ، كلام الأصوليين في أن اللفظ إن احتمل التوكيد والتأسيس حمل على التأسيس ، وبينا أمثلة متعددة لذلك من القرآن العظيم .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الأظهر على مقتضى ما ذكرنا عن الأصوليين ، أن يكون ضمير الفاعل المحذوف في قوله : كل قد علم صلاته وتسبيحه راجعا إلى قوله : [ ص: 552 ] كل أي : كل من المصلين قد علم صلاة نفسه ، وكل من المسبحين قد علم تسبيح نفسه ، وعلى هذا القول فقوله تعالى : والله عليم بما يفعلون تأسيس لا تأكيد ، أما على القول بأن الضمير راجع إلى الله ، أي : قد علم الله صلاته يكون قوله : والله عليم بما يفعلون كالتكرار مع ذلك ، فيكون من قبيل التوكيد اللفظي .

وقد علمت أن المقرر في الأصول أن الحمل على التأسيس أرجح من الحمل على التوكيد ; كما تقدم إيضاحه . والظاهر أن الطير تسبح وتصلي صلاة وتسبيحا يعلمهما الله ، ونحن لا نعلمهما ; كما قال تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] .

ومن الآيات الدالة على أن غير العقلاء من المخلوقات لها إدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه ، قوله تعالى في الحجارة : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] ، فأثبت خشيته للحجارة ، والخشية تكون بإدراك ، وقوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [ 59 \ 21 ] ، وقوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها الآية [ 33 \ 72 ] ، والإباء والإشفاق إنما يكونان بإدراك ، والآيات والأحاديث واردة بذلك ، وهو الحق ، وظاهر الآية أن للطير صلاة وتسبيحا ، ولا مانع من الحمل على الظاهر ، ونقل القرطبي عن سفيان : أن للطير صلاة ليس فيها ركوع ولا سجود ، اهـ .

ومعلوم أن الصلاة في اللغة الدعاء ، ومنه قول الأعشى :

تقول بنتي وقد غربت مرتحلا


يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا


عليك مثل الذي صليت فاغتبطي


نوما فإن لجنب المرء مضطجعا


فقوله : مثل الذي صليت ، أي : دعوت ، يعني قولها : يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا .

وقوله : صافات أي : صافات أجنحتها في الهواء ، وقد بين تعالى في غير هذا الموضع أن إمساكه الطير صافات أجنحتها في الهواء وقابضات لها من آيات قدرته ، واستحقاقه العبادة وحده ، وذلك في قوله تعالى : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن الآية [ 67 \ 19 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 553 ] ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [ 16 \ 79 ] .
قوله تعالى : وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هذه الأمة : ليستخلفنهم في الأرض أي : ليجعلنهم خلفاء الأرض ، الذين لهم السيطرة فيها ، ونفوذ الكلمة ، والآيات تدل على أن طاعة الله بالإيمان به ، والعلم الصالح سبب للقوة والاستخلاف في الأرض ونفوذ الكلمة ; كقوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره الآية [ 8 \ 26 ] ، وقوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ 22 \ 40 - 41 ] ، وقوله تعالى : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [ 47 \ 7 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كما استخلف الذين من قبلهم أي : كبني إسرائيل .

ومن الآيات الموضحة لذلك ، قوله تعالى : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون [ 28 \ 5 - 6 ] ، وقوله تعالى عن موسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون [ 7 \ 129 ] ، وقوله تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها الآية [ 7 \ 137 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى : ليستخلفنهم اللام موطئة لقسم محذوف ، أي : وعدهم الله ، وأقسم في وعده ليستخلفنهم .

قوله تعالى : وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم هذا الدين الذي ارتضاه لهم هو دين الإسلام بدليل قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 554 ] إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، وقوله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ 3 \ 85 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وليمكنن لهم دينهم قال الزمخشري : تمكينه هو تثبيته وتوطيده .
قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون هذه الآية الكريمة تدل على أن إقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لرحمة الله تعالى سواء قلنا إن لعل في قوله : لعلكم ترحمون حرف تعليل أو ترج ; لأنها إن قلنا : إنها حرف تعليل فإقامة الصلاة وما عطف عليه سبب لرحمة الله ; لأن العلل أسباب شرعية ، وإن قلنا : إن لعل للترجي ، أي : أقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة على رجائكم أن الله يرحمكم بذلك ; لأن الله ما أطمعهم بتلك الرحمة عند علمهم بموجبها إلا ليرحمهم لما هو معلوم من فضله وكرمه ، وكون لعل هنا للترجي ، إنما هو بحسب علم المخلوقين ; كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنهم إن أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وأطاعوا الرسول رحمهم الله بذلك جاء موضحا في آية أخرى ، وهي قوله تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الآية [ 9 \ 71 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية : وأطيعوا الرسول بعد قوله : وإذ أخذنا من عطف العام على الخاص ; لأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة داخلان في عموم قوله : وأطيعوا الرسول وقد قدمنا مرارا أن عطف العام على الخاص وعكسه كلاهما من الإطناب المقبول إذا كان في الخاص مزية ليست في غيره من أفراد العام .
قوله تعالى : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض نهى الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحسب ، أي : يظن الذين كفروا معجزين في الأرض ، ومفعول معجزين محذوف ، أي : لا يظنهم معجزين ربهم ، بل قادر على عذابهم لا يعجز عن فعل ما أراد بهم ; لأنه قادر على كل شيء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg








(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:53 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الخامس
الحلقة (412)
سُورَةُ النُّورِ
صـ 555 إلى صـ 561





وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين [ 9 \ 2 ] ، وقوله تعالى : وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم [ 9 \ 3 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 555 ] أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون [ 29 \ 4 ] ، وقوله تعالى : قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ 10 \ 53 ] ، وقوله تعالى : يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء الآية [ 29 \ 21 - 22 ] ، وقوله في " الشورى " : وما أنتم بمعجزين في الأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير [ 42 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا تحسبن الذين كفروا [ 24 \ 57 ] ، قرأه ابن عامر وحمزة : لا يحسبن بالياء المثناة التحتية على الغيبة ، وقرأه باقي السبعة : لا تحسبن بالتاء الفوقية ، وقرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة بفتح السين ، وباقي السبعة بكسرها .

والحاصل أن قراءة ابن عامر وحمزة بالياء التحتية وفتح السين ، وقراءة عاصم بالتاء الفوقية وفتح السين ، وقراءة الباقين من السبعة بالتاء الفوقية وكسر السين ، وعلى قراءة من قرأ بالتاء الفوقية فلا إشكال في الآية مع فتح السين وكسرها ; لأن الخطاب بقوله : لا تحسبن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله : الذين كفروا هو المفعول الأول ، وقوله : معجزين هو المفعول الثاني لـ : تحسبن وأما على قراءة : ولا يحسبن بالياء التحتية ، ففي الآية إشكال معروف ، وذكر القرطبي الجواب عنه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن قوله الذين كفروا في محل رفع فاعل يحسبن والمفعول الأول محذوف ، تقديره : أنفسهم ، و معجزين مفعول ثان ، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض ، وعزا هذا القول للزجاج ، والمفعول المحذوف قد تدل عليه قراءة من قرأ بالتاء الفوقية ، كما لا يخفى ، ومفعولا الفعل القلبي يجوز حذفهما أو حذف أحدهما إن قام عليه دليل ; كما أشار له ابن مالك في " الخلاصة " ، بقوله :

ولا تجز هنا بلا دليل


سقوط مفعولين أو مفعول


ومثال حذف المفعولين معا مع قيام الدليل عليهما ، قوله تعالى : أين شركائي الذين كنتم تزعمون [ 28 \ 62 ] أي : تزعمونهم شركائي ، وقول الكميت :

بأي كتاب أم بأية سنة


ترى حبهم عارا علي وتحسب


[ ص: 556 ] أي : وتحسب حبهم عارا علي ، ومثال حذف أحد المفعولين قول عنترة :

ولقد نزلت فلا تظني غيره


مني بمنزلة المحب المكرم


أي : لا تظني غيره واقعا .

الجواب الثاني : أن فاعل يحسبن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه مذكور في قوله قبله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي : لا يحسبن محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كفروا معجزين ، وعلى هذا فـ : الذين كفروا مفعول أول ، و معجزين مفعول ثان ، وعزا هذا القول للفراء ، وأبي علي .

الجواب الثالث : أن المعنى : لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض وعزا هذا القول لعلي بن سليمان ، وهو كالذي قبله ، إلا أن الفاعل في الأول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي الثاني الكافر ، وقال الزمخشري : وقرئ لا يحسبن بالياء ، وفيه أوجه أن يكون معجزين في الأرض هما المفعولان .

والمعنى : لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض ، حتى يطمعوا هم في مثل ذلك ، وهذا معنى قوي جيد ، وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأن يكون الأصل : لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول ، وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد ، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث ، اهـ .

وما ذكره النحاس وأبو حاتم وغيرهما من أن قراءة من قرأ : لا يحسبن بالياء التحتية خطأ أو لحن ، كلام ساقط لا يلتفت إليه; لأنها قراءة سبعية ثابتة ثبوتا لا يمكن الطعن فيه ، وقرأ بها من السبعة : ابن عامر ، وحمزة ; كما تقدم .

وأظهر الأجوبة عندي : أن معجزين في الأرض هما المفعولان ، فالمفعول الأول معجزين والمفعول الثاني دل عليه قوله : في الأرض أي : لا تحسبن معجزين الله موجودين أو كائنين في الأرض ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا لأهل العلم في هذه الآية أقوال ، راجعة إلى قولين :

[ ص: 556 ] أحدهما : أن المصدر الذي هو : دعاء مضاف إلى مفعوله ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا فالرسول مدعو .

الثاني : أن المصدر المذكور مضاف إلى فاعله ، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا : فالرسول داع .

وإيضاح معنى قول من قال : إن المصدر مضاف إلى مفعوله ، أن المعنى : لا تجعلوا دعاءكم إلى الرسول إذا دعوتموه كدعاء بعضكم بعضا ، فلا تقولوا له : يا محمد مصرحين باسمه ، ولا ترفعوا أصواتكم عنده كما يفعل بعضكم مع بعض ، بل قولوا له : يا نبي الله ، يا رسول الله ، مع خفض الصوت احتراما له - صلى الله عليه وسلم - .

وهذا القول هو الذي تشهد له آيات من كتاب الله تعالى; كقوله : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى الآية [ 49 \ 2 - 3 ] ، وقوله تعالى : إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم [ 49 \ 4 - 5 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا الآية [ 2 \ 104 ] ، وهذا القول في الآية مروي عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ; كما ذكره عنهم القرطبي ، وذكره ابن كثير عن الضحاك ، عن ابن عباس ، وذكره أيضا عن سعيد بن جبير ، ومجاهد ، ومقاتل ، ونقله أيضا عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، ثم قال : إن هذا القول هو الظاهر ، واستدل له بالآيات التي ذكرنا .

وأما على القول الثاني : وهو أن المصدر مضاف إلى فاعله ، ففي المعنى وجهان :

الأول : ما ذكره الزمخشري في " الكشاف " قال : إذا احتاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه ، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضا ، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي .

والوجه الثاني : هو ما ذكره ابن كثير في تفسيره ، قال : والقول الثاني في ذلك أن المعنى في لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا أي : لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره ، فإن دعاءه مستجاب ، فاحذروا أن يدعو عليكم ، فتهلكوا . [ ص: 558 ] حكاه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وعطية العوفي ، والله أعلم ، انتهى كلام ابن كثير .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - :

هذا الوجه الأخير يأباه ظاهر القرآن ; لأن قوله تعالى : كدعاء بعضكم بعضا يدل على خلافه ، ولو أراد دعاء بعضهم على بعض ، لقال : لا تجعلوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض ، فدعاء بعضهم بعضا ، ودعاء بعضهم على بعض متغايران ، كما لا يخفى . والظاهر أن قوله : لا تجعلوا من جعل التي بمعنى اعتقد ، كما ذكرنا عن ابن كثير آنفا .
قوله تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم الضمير في قوله : عن أمره راجع إلى الرسول ، أو إلى الله والمعنى واحد ; لأن الأمر من الله ، والرسول مبلغ عنه ، والعرب تقول : خالف أمره وخالف عن أمره : وقال بعضهم : يخالفون : مضمن معنى يصدون ، أي : يصدون عن أمره .

وهذه الآية الكريمة قد استدل بها الأصوليون على أن الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب ; لأنه - جل وعلا - توعد المخالفين عن أمره بالفتنة أو العذاب الأليم ، وحذرهم من مخالفة الأمر ، وكل ذلك يقتضي أن الأمر للوجوب ، ما لم يصرف عنه صارف ؛ لأن غير الواجب لا يستوجب تركه الوعيد الشديد والتحذير .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ، دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ 77 \ 48 ] فإن قوله : اركعوا أمر مطلق ، وذمه تعالى للذين لم يمتثلوه بقوله : لا يركعون يدل على أن امتثاله واجب ، وكقوله تعالى لإبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، فإنكاره تعالى على إبليس موبخا له بقوله : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك يدل على أنه تارك واجبا . وأن امتثال الأمر واجب مع أن الأمر المذكور مطلق ، وهو قوله تعالى : اسجدوا لآدم [ 2 \ 34 ] ، وكقوله تعالى عن موسى : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فسمى مخالفة الأمر معصية ، وأمره المذكور مطلق ، وهو قوله : اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين [ 7 \ 142 ] ، وكقوله تعالى : [ ص: 559 ] لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] ، وإطلاق اسم المعصية على مخالفة الأمر يدل على أن مخالفه عاص ، ولا يكون عاصيا إلا بترك واجب ، أو ارتكاب محرم ; وكقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ 33 \ 36 ] فإنه يدل على أن أمر الله ، وأمر رسوله مانع من الاختيار موجب للامتثال ، وذلك يدل على اقتضائه الوجوب ، كما ترى ، وأشار إلى أن مخالفته معصية بقوله بعده : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا [ 33 \ 36 ] .

واعلم أن اللغة تدل على اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ، بدليل أن السيد لو قال لعبده : اسقني ماء مثلا ، ولم يمتثل العبد أمر سيده فعاقبه السيد ، فليس للعبد أن يقول عقابك لي ظلم ; لأن صيغة الأمر في قولك : اسقني ماء لم توجب علي الامتثال ، فقد عاقبتني على ترك ما لا يلزمني ، بل يفهم من نفس الصيغة أن الامتثال يلزمه ، وأن العقاب على عدم الامتثال واقع موقعه ، والفتنة في قوله : أن تصيبهم فتنة قيل : هي القتل ، وهو مروي عن ابن عباس ، وقيل : الزلازل والأهوال ، وهو مروي عن عطاء ، وقيل : السلطان الجائر ، وهو مروي عن جعفر بن محمد ، قال بعضهم : هي الطبع على القلوب بسبب شؤم مخالفة أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وقال بعض العلماء : فتنة محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم في الآخرة .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : قد دل استقراء القرآن العظيم أن الفتنة فيه أطلقت على أربعة معان :

الأول : أن يراد بها الإحراق بالنار ; كقوله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] ، وقوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات الآية [ 85 \ 10 ] ، أي : أحرقوهم بنار الأخدود على القول بذلك .

الثاني وهو أشهرها : إطلاق الفتنة على الاختبار ; كقوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة الآية [ 21 \ 35 ] ، وقوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] .

والثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختيار إن كانت سيئة ; كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] ، وفي " الأنفال " : [ ص: 560 ] ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] ، فقوله : حتى لا تكون فتنة أي : حتى لا يبقى شرك على أصح التفسيرين ، ويدل على صحته قوله بعده : ويكون الدين لله ; لأن الدين لا يكون كله لله حتى لا يبقى شرك ، كما ترى . ويوضح ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " ، كما لا يخفى .

والرابع : إطلاق الفتنة على الحجة في قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، أي : لم تكن حجتهم ، كما قال به بعض أهل العلم .

والأظهر عندي : أن الفتنة في قوله هنا : أن تصيبهم فتنة أنه من النوع الثالث من الأنواع المذكورة .

وأن معناه أن يفتنهم الله ، أي : يزيدهم ضلالا بسبب مخالفتهم عن أمره ، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ; كقوله - جل وعلا - : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، وقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقوله تعالى : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 125 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قد يعلم ما أنتم عليه بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يعلم ما عليه خلقه ، أي : من الطاعة والمعصية وغير ذلك .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية مع أنه معلوم بالضرورة من الدين ، جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] وقوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] أي : هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر . وقوله [ ص: 561 ] تعالى : وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم [ 26 \ 217 - 220 ] ، وقوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار [ 13 \ 10 ] وقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] ، وقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [ 11 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ 67 \ 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وفي هذه الآيات وما في معناها أحسن وعد للمطيعين ، وأشد وعيد للعصاة المجرمين ، ولفظة قد في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : قد يعلم ما أنتم عليه للتحقيق ، وإتيان قد للتحقيق مع المضارع كثير جدا في القرآن العظيم ; كقوله تعالى : قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا [ 24 \ 63 ] ، وقوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم الآية [ 33 \ 18 ] ، وقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون الآية [ 6 \ 33 ] ، وقوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية [ 2 \ 144 ] .
قوله تعالى : ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم قوله تعالى في هذه الآية : ويوم يرجعون إليه الظاهر أنه ليس بظرف ، بل هو معطوف على المفعول به الذي هو ما من قوله : قد يعلم ما أنتم عليه أي : ويعلم يوم يرجعون إليه ، وقد ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة ينبئ الخلائق بكل ما عملوا ، أي : يخبرهم به ثم يجازيهم عليه .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه - جل وعلا - يخبرهم يوم القيامة بما عملوا جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg







(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:54 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (413)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 3 إلى صـ 10


سُورَةُ الْفُرْقَانِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْفُرْقَانَ ، وَهُوَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ عَلَى عَبْدِهِ ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ; لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا أَيْ : مُنْذِرًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْإِنْذَارَ هُوَ الْإِعْلَامُ الْمُقْتَرَنُ بِتَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ ، وَأَنَّ كُلَّ إِنْذَارِ إِعْلَامٌ ، وَلَيْسَ كُلُّ إِعْلَامٍ إِنْذَارًا ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " .

وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ رِسَالَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ ، لِدُخُولِ الْجَمِيعِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا .

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [ 7 \ 158 ] أَيْ : أَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ كَافَّةً ، أَيْ : جَمِيعًا . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [ 6 \ 19 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [ 55 \ 33 - 43 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 46 \ 29 - 32 ] . وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : تَبَارَكَ أَقْوَالٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : تَبَارَكَ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ ، فَقَالَ [ ص: 4 ] الْفَرَّاءُ : هُوَ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِمَعْنَى : تَقَدَّسَ وَهُمَا لِلْعَظَمَةِ ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ : تَبَارَكَ : تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ . قَالَ : وَمَعْنَى الْبَرَكَةِ : الْكَثْرَةُ مِنْ كُلِّ ذِي خَيْرٍ ، وَقِيلَ : تَبَارَكَ : تَعَالَى ، وَقِيلَ : تَعَالَى عَطَاؤُهُ ، أَيْ : زَادَ وَكَثُرَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى دَامَ وَثَبَتَ إِنْعَامُهُ . قَالَ النَّحَّاسُ : وَهَذَا أَوْلَاهَا فِي اللُّغَةِ وَالِاشْتِقَاقِ مِنْ بَرَكَ الشَّيْءُ إِذَا ثَبَتَ ، وَمِنْهُ بَرَكَ الْجَمَلُ وَالطَّيْرُ عَلَى الْمَاءِ ، أَيْ : دَامَ وَثَبَتَ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ .

وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي " الْبَحْرِ الْمُحِيطِ " : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : تَبَارَكَ : لَمْ يَزَلْ ، وَلَا يَزُولُ . وَقَالَ الْخَلِيلُ : تَمَجَّدَ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : تَعَظَّمَ . وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ : تَبَارَكْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ قَوْلِ عَرَبِيٍّ صَعِدَ رَابِيَةً ، فَقَالَ ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ ، أَيْ : تَعَالَيْتُ وَارْتَفَعْتُ . فَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ صِفَةَ ذَاتٍ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا ، وَالْحَسَنُ ، وَالنَّخَعِيُّ : هُوَ مِنَ الْبَرَكَةِ ، وَهُوَ التَّزَايُدُ فِي الْخَيْرِ مِنْ قِبَلِهِ . فَالْمَعْنَى زَادَ خَيْرُهُ وَعَطَاؤُهُ وَكَثُرَ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ - : الْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى تَبَارَكَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ أَنَّهُ تَفَاعَلَ مِنَ الْبَرَكَةِ ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى تَبَارَكَ : تَكَاثَرَتِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ مِنْ قِبَلِهِ ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ عَظَمَتَهُ وَتَقَدُّسَهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ; لِأَنَّ مَنْ تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ الْبَرَكَاتُ وَالْخَيْرَاتُ وَيَدِرُّ الْأَرْزَاقَ عَلَى النَّاسِ هُوَ وَحْدَهُ الْمُتَفَرِّدُ بِالْعَظَمَةِ ، وَاسْتِحْقَاقِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ ، وَالَّذِي لَا تَأْتِي مِنْ قِبَلِهِ بَرَكَةٌ وَلَا خَيْرٌ ، وَلَا رِزْقٌ كَالْأَصْنَامِ ، وَسَائِرِ الْمَعْبُودَاتِ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَصِحُّ أَنَّ يُعْبَدَ ، وَعِبَادَتُهُ كُفْرٌ مُخَلِّدٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ : إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ 29 \ 17 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ [ 16 \ 73 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ [ 6 \ 14 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ 51 \ 57 - 58 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [ 40 \ 13 - 14 ] .
تنبيه .

اعلم أن قوله : تبارك فعل جامد لا يتصرف ، فلا يأتي منه مضارع ، ولا مصدر ، [ ص: 5 ] ولا اسم فاعل ، ولا غير ذلك ، وهو مما يختص به الله تعالى ، فلا يقال لغيره تبارك خلافا لما تقدم عن الأصمعي ، وإسناده تبارك إلى قوله : الذي نزل الفرقان ، يدل على أن إنزاله الفرقان على عبده من أعظم البركات والخيرات والنعم التي أنعم بها على خلقه ، كما أوضحناه في أول سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] وذكرنا الآيات الدالة على ذلك ، وإطلاق العرب تبارك مسندا إلى الله تعالى معروف في كلامهم ، ومنه قول الطرماح :

تباركت لا معط لشيء منعته وليس لما أعطيت يا رب مانع


وقول الآخر :

فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أورق السلم النضر
.

ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر



وقد قدمنا الشاهد الأخير في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] . وقوله : الفرقان ، يعني هذا القرآن العظيم ، وهو مصدر زيدت فيه الألف والنون كالكفران والطغيان والرجحان ، وهذا المصدر أريد به اسم الفاعل ; لأن معنى كونه فرقانا أنه فارق بين الحق والباطل ، وبين الرشد والغي ، وقال بعض أهل العلم : المصدر الذي هو الفرقان بمعنى اسم المفعول ; لأنه نزل مفرقا ، ولم ينزل جملة .

واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث [ 17 \ 106 ] وقوله : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : نزل بالتضعيف يدل على كثرة نزوله أنجما منجما . قال بعض أهل العلم : ويدل على ذلك قوله في أول سورة " آل عمران " : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل [ 3 \ 3 ] قالوا : عبر في نزول القرآن بـ : نزل بالتضعيف لكثرة نزوله . وأما التوراة والإنجيل ، فقد عبر في نزولهما بـ : أنزل التي لا تدل على تكثير ; لأنهما نزلا جملة في وقت واحد ، وبعض الآيات لم يعتبر فيها كثرة نزول القرآن ; [ ص: 6 ] كقوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] وقوله في هذه الآية : على عبده قال فيه بعض العلماء : ذكره صفة العبودية مع تنزيل الفرقان ، يدل على أن العبودية لله هي أشرف الصفات ، وقد بينا ذلك في أول سورة " بني إسرائيل " .
قوله تعالى الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا قوله : الذي له ملك السماوات والأرض ، بدل من الذي في قوله تعالى : تبارك الذي نزل ، وقال بعضهم : هو مرفوع على المدح ، وقال بعضهم : هو منصوب على المدح . وقد أثنى جل وعلا على نفسه في هذه الآية الكريمة بخمسة أمور ، هي أدلة قاطعة على عظمته ، واستحقاقه وحده لإخلاص العبادة له : الأول منها : أنه هو الذي له ملك السماوات والأرض .

والثاني : أنه لم يتخذ ولدا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

والثالث : أنه لا شريك له في ملكه .

والرابع : أنه هو خالق كل شيء .

والخامس : أنه قدر كل شيء خلقه تقديرا ، وهذه الأمور الخمسة المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في آيات أخر .

أما الأول منها : وهو أنه له ملك السماوات والأرض ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى في سورة " المائدة " : ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض الآية [ 5 \ 40 ] وقوله تعالى في سورة " النور " : ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير [ 24 \ 42 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير الآية [ 35 \ 13 ] وجميع الآيات التي ذكر فيها جل وعلا أن له الملك ، فالملك فيها شامل لملك السماوات والأرض وما بينهما ، وغير ذلك . كقوله تعالى : قل اللهم مالك الملك الآية [ 3 \ 26 ] وقوله تعالى : تبارك الذي بيده الملك الآية [ 67 \ 1 ] وقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] وقوله تعالى : وله الملك يوم ينفخ في الصور الآية [ 6 \ 73 ] وقوله تعالى : مالك [ ص: 7 ] يوم الدين [ 1 \ 4 ] والآيات الدالة على أن له ملك كل شيء كثيرة جدا معلومة .

وأما الأمر الثاني : وهو كونه تعالى لم يتخذ ولدا ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 3 - 4 ] وقوله تعالى : وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا الآية [ 72 \ 3 ] وقوله تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة الآية [ 6 \ 101 ] وقوله تعالى : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] وقوله تعالى : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 4 - 5 ] وقوله تعالى : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] وقوله تعالى : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله ، إلى قوله : سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمنا ذلك في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " الكهف " وغيرها .

وأما الأمر الثالث : وهو كونه تعالى لم يكن له شريك في الملك ، فقد جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في آخر سورة " بني إسرائيل " : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 13 \ 111 ] وقوله تعالى في سورة " سبأ " : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] وقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] ; لأن قوله : الواحد القهار يدل على تفرده بالملك ، والقهر ، واستحقاق إخلاص العبادة ، كما لا يخفى ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأما الأمر الرابع : وهو أنه تعالى خلق كل شيء ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على [ ص: 8 ] كل شيء وكيل [ 6 \ 101 - 102 ] وقوله تعالى : ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون [ 40 \ 62 - 63 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وأما الأمر الخامس : وهو أنه قدر كل شيء خلقه تقديرا ، فقد جاء أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [ 87 \ 2 - 3 ] ، وقوله تعالى : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] وقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقال ابن عطية : تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة ، والأزمان ، والمقادير ، والمصلحة ، والإتقان ، انتهى بواسطة نقل أبي حيان في " البحر " .
تنبيه .

في هذه الآية الكريمة سؤال معروف ، وهو أن يقال : الخلق في اللغة العربية ، معناه التقدير . ومنه قول زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ـض القوم يخلق ثم لا يفري
قال بعضهم : ومنه قوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] قال : أي أحسن المقدرين ، وعلى هذا فيكون معنى الآية وخلق كل شيء ، أي : قدر كل شيء فقدره تقديرا ، وهذا تكرار كما ترى ، وقد أجاب الزمخشري عن هذا السؤال ، وذكر أبو حيان جوابه في " البحر " ، ولم يتعقبه .

والجواب المذكور هو قوله : فإن قلت في الخلق معنى التقدير ، فما معنى قوله : وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] كأنه قال : وقدر كل شيء فقدره .

قلت : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعيا فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له .

مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى ، الذي تراه فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابي الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد جاء به على الحيلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير ، فقدره لأمر ما ومصلحة مطابقا لما قدر له غير [ ص: 9 ] متجاف عنه ، أو سمى إحداث الله خلقا ; لأنه لا يحدث شيئا لحكمته إلا على وجه التقدير غير متفاوت ، فإذا قيل : خلق الله كذا ، فهو بمنزلة قولك : أحدث وأوجد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق ، فكأنه قيل : وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا . وقيل : فجعل له غاية ومنتهى ، ومعناه : فقدره للبقاء إلى أمد معلوم ، انتهى كلام صاحب " الكشاف " وبعضه له اتجاه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الآلهة التي يعبدها المشركون من دونه ، متصفة بستة أشياء ، كل واحد منها برهان قاطع ، أن عبادتها مع الله ، لا وجه لها بحال ، بل هي ظلم متناه ، وجهل عظيم ، وشرك يخلد به صاحبه في نار جهنم ، وهذا بعد أن أثنى على نفسه جل وعلا بالأمور الخمسة المذكورة في الآية التي قبلها التي هي براهين قاطعة ، على أن المتصف بها هو المعبود وحده ، والأمور الستة التي هي من صفات المعبودات من دون الله : الأول منها : أنها لا تخلق شيئا ، أي : لا تقدر على خلق شيء .

والثاني منها : أنها مخلوقة كلها ، أي : خلقها خالق كل شيء .

والثالث : أنها لا تملك لأنفسها ضرا ولا نفعا .

الرابع والخامس والسادس : أنها لا تملك موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا ، أي : بعثا بعد الموت ، وهذه الأمور الستة المذكورة في هذه الآية الكريمة ، جاءت مبينة في مواضع أخر من كتاب الله تعالى .

أما الأول منها : وهو كون الآلهة المعبودة من دون الله لا تخلق شيئا ، فقد جاء مبينا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له الآية [ 22 \ 73 ] وقوله تعالى : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون [ 16 \ 20 - 21 ] وقوله تعالى في سورة " فاطر " : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا [ 35 \ 40 ] [ ص: 10 ] وقوله تعالى في سورة " لقمان " : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] وقوله تعالى في " الأحقاف " : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] وقوله تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] وقد بين تعالى في آيات من كتابه الفرق بين من يخلق ، ومن لا يخلق ; لأن من يخلق هو المعبود ، ومن لا يخلق لا تصح عبادته ; كقوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم الآية [ 2 \ 21 ] أي : وأما من لم يخلقكم ، فليس برب ، ولا بمعبود لكم ، كما لا يخفى . وقوله تعالى : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] وقوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] أي : ومن كان كذلك ، فهو المعبود وحده جل وعلا ، وقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] .

وأما الأمر الثاني منها : وهو كون الآلهة المعبودة من دونه مخلوقة ، فقد جاء مبينا في آيات من كتاب الله ; كآية " النحل " ، و " الأعراف " ، المذكورتين آنفا .

أما آية " النحل " ، فهي قوله تعالى : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 16 \ 20 ] فقوله : وهم يخلقون صريح في ذلك . وأما آية " الأعراف " ، فهي قوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:54 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (414)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 11 إلى صـ 18



وأما الأمر الثالث منها : وهو كونهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، فقد جاء مبينا في مواضع من كتاب الله ; كقوله تعالى : قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا [ 13 \ 16 ] وكقوله تعالى : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون [ 7 \ 191 - 192 ] ومن لا ينصر نفسه فهو لا يملك لها ضرا ولا نفعا . وقوله تعالى : والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون [ 7 \ 197 ] [ ص: 11 ] وقوله تعالى : وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها الآية [ 7 \ 195 - 197 ] .

وفيها الدلالة الواضحة على أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا ، وقوله تعالى : وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه الآية [ 22 \ 73 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وأما الرابع والخامس والسادس من الأمور المذكورة : أعني كونهم لا يملكون موتا ، ولا حياة ، ولا نشورا . فقد جاءت أيضا مبينة في آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] .

فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء سبحانه وتعالى عما يشركون يدل دلالة واضحة على أن شركاءهم ليس واحد منهم يقدر أن يفعل شيئا من ذلك المذكور في الآية ، ومنه الحياة المعبر عنها بـ : خلقكم ، والموت المعبر عنه بقوله : ثم يميتكم ، والنشور المعبر بقوله : ثم يحييكم ، وبين أنهم لا يملكون نشورا بقوله : أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون [ 21 \ 21 ] . وبين أنهم لا يملكون حياة ولا نشورا ، في قوله تعالى : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ 10 \ 34 ] . وبين أنه وحده الذي بيده الموت والحياة في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] وقوله تعالى : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها الآية [ 63 \ 11 ] وقوله تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 31 \ 4 ] وقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم الآية [ 2 \ 28 ] وقوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين الآية [ 40 \ 11 ] إلى غير ذلك من الآيات . وهذا الذي ذكرنا من بيان هذه الآيات بعضها لبعض معلوم بالضرورة من الدين .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، أظهر الأقوال فيه أن المعنى : لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع ; كما قاله القرطبي [ ص: 12 ] وغيره . وغاية ما في هذا التفسير حذف مضاف دل المقام عليه ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وقد أشار إليه في " الخلاصة " بقوله :

وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا
وقيل المعنى : لا يقدرون أن يضروا أنفسهم ، أو ينفعوها بشيء ، والأول هو الأظهر ، أي : وإذا عجزوا عن دفع ضر عن أنفسهم وجلب نفع لها فهم عن الموت والحياة والنشور أعجز ; لأن ذلك لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولا نشورا ، اعلم أن النشور يطلق في العربية إطلاقين :

الأول : أن يكون مصدر نشر الثلاثي المتعدي ، تقول : نشر الله الميت ينشره نشرا ونشورا .

والثاني : أن يكون مصدر نشر الميت ينشر نشورا لازما ، والميت فاعل نشر .

والحاصل أن في المادة ثلاث لغات ، الأولى : أنشره رباعيا بالهمزة ينشره بضم الياء إنشارا ، ومنه قوله تعالى : ثم إذا شاء أنشره [ 80 \ 22 ] وقوله تعالى : وانظر إلى العظام كيف ننشزها [ 2 \ 259 ] بضم النون وبالراء المهملة في قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبي عمرو ، وهو مضارع أنشره . والثانية : نشر الله الميت ينشره بصيغة الثلاثي المتعدي ، والمصدر في هذه اللغة النشر والنشور ، ومنه قوله هنا : حياة ولا نشورا ، أي لا يملكون أن ينشروا أحدا ، بفتح الياء وضم الشين . والثالثة : نشر الميت بصيغة الثلاثي اللازم ، ومعنى أنشره ونشره متعديا : أحياه بعد الموت ، ومعنى نشر الميت لازما : حيي الميت وعاش بعد موته ، وإطلاق النشر والنشور على الإحياء بعد الموت ، وإطلاق النشور على الحياة بعد الموت معروف في كلام العرب ، ومن إطلاقهم نشر الميت لازما فهو ناشر ، أي : عاش بعد الموت ، قول الأعشى :

لو أسندت ميتا إلى نحرها عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر



ومن إطلاق النشور بمعنى الإحياء بعد الموت ، مصدر الثلاثي المتعدي ، قوله هنا : [ ص: 13 ] ولا نشورا ، أي : بعثا بعد الموت ، ومن إطلاقهم النشور بمعنى الحياة بعد الموت مصدر الثلاثي اللازم ، قول الآخر :

إذا قبلتها كرعت بفيها كروع العسجدية في الغدير
فيأخذني العناق مبرد فيها بموت في عظامي
أو فتور فنحيا تارة ونموت أخرى ونخلط ما نموت بالنشور



فقد جعل الغيبوبة من شدة اللذة موتا ، والإفاقة منها نشورا ، أي : حياة بعد الموت .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : واتخذوا من دونه آلهة ، حذف فيه أحد المفعولين ، أي : اتخذوا من دونه أصناما آلهة ; كقوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة الآية [ 6 \ 74 ] والآلهة جمع إله ، فهو فعال مجموع على أفعلة ، لأن الألف التي بعد الهمزة مبدلة من همزة ساكنة هي فاء الكلمة ، كما قال في " الخلاصة " :

ومدا أبدل ثاني الهمزين من كلمة إن يسكن كآثر وأتمن



والإله المعبود فهو فعال بمعنى مفعول ، وإتيان الفعال بمعنى المفعول جاءت منه أمثلة في اللغة العربية كالإلاه بمعنى المألوه ، أي : المعبود ، والكتاب بمعنى المكتوب ، واللباس بمعنى الملبوس ، والإمام بمعنى المؤتم به ، ومعلوم أن المعبود بحق واحد ، وغيره من المعبودات أسماء سماها الكفار ما أنزل الله بها من سلطان : وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان الآية 53 \ 23 ] .
قوله تعالى وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين كفروا وكذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا في هذا القرآن العظيم ، الذي أوحاه الله إليه : إن هذا إلا إفك افتراه ، أي : ما هذا القرآن إلا كذب اختلقه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأعانه عليه على الإفك الذي افتراه قوم آخرون ، قيل : اليهود ، وقيل : عداس مولى حويطب بن عبد العزى ، ويسار مولى العلاء بن الحضرمي ، وأبو فكيهة الرومي ، قال ذلك النضر بن الحر العبدري .

[ ص: 14 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار كذبوه وادعوا عليه أن القرآن كذب اختلقه ، وأنه أعانه على ذلك قوم آخرون جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ 38 \ 4 ] وقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون [ 16 \ 101 ] وقوله تعالى : بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ، وقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق الآية [ 6 \ 66 ] والآيات في ذلك كثيرة معلومة .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنهم افتروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه أعانه على افتراء القرآن قوم آخرون جاء أيضا موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ 16 \ 103 ] وقوله تعالى : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر [ 74 \ 24 ] أي : يرويه محمد - صلى الله عليه وسلم - عن غيره إن هذا إلا قول البشر [ 74 \ 25 ] وقوله تعالى : وليقولوا درست [ 6 \ 105 ] كما تقدم إيضاحه في " الأنعام " ، وقد كذبهم الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة فيما افتروا عليه من البهتان بقوله : فقد جاءوا ظلما وزورا ، قال الزمخشري : ظلمهم أن جعلوا العربي يتلقن من الأعجمي الرومي كلاما عربيا أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب ، والزور هو أن بهتوه بنسبة ما هو بريء منه إليه ، انتهى . وتكذيبه جل وعلا لهم في هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] كما تقدم إيضاحه في سورة " النحل " ، وقوله : وكذب به قومك وهو الحق [ 6 \ 66 ] وقوله تعالى : فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر سأصليه سقر وما أدراك ما سقر الآية [ 74 \ 24 - 27 ] لأن قوله : سأصليه سقر بعد ذكر افترائه على القرآن العظيم يدل على عظم افترائه وأنه سيصلى بسببه عذاب سقر ، أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل .

واعلم : أن العرب تستعمل جاء وأتى بمعنى : فعل ، فقوله : فقد جاءوا ظلما ، أي : فعلوه ، وقيل : بتقدير الباء ، أي : جاءوا بظلم ، ومن إتيان أتى بمعنى فعل قوله تعالى : لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ، أي : بما فعلوه . وقول زهير بن أبي سلمى : [ ص: 15 ]

فما يك من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل


واعلم بأن الإفك هو أسوأ الكذب ، لأنه قلب للكلام عن الحق إلى الباطل ، والعرب تقول : أفكه بمعنى قلبه ، ومنه قوله تعالى في قوم لوط : والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات ، وقوله : والمؤتفكة أهوى [ 53 \ 53 ] وإنما قيل لها مؤتفكات ; لأن الملك أفكها ، أي : قلبها ; كما أوضحه تعالى بقوله : جعلنا عاليها سافلها [ 11 \ 82 ] .
قوله تعالى : وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما . ذكر جل وعلا في الأولى من هاتين الآيتين أن الكفار ، قالوا : إن هذا القرآن أساطير الأولين ، أي : مما كتبه وسطره الأولون كأحاديث رستم وأسفنديار ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمعه ، وأخذه من تلك الأساطير ، وأنه اكتتب تلك الأساطير ، قال الزمخشري : أي كتبها لنفسه وأخذها ، كما تقول : استكب الماء واصطبه إذا سكبه وصبه لنفسه وأخذه ، وقوله : فهي تملى عليه ، أي : تلقى إليه ، وتقرأ عليه عند إرادته كتابتها ليكتبها ، والإملاء إلقاء الكلام على الكاتب ليكتبه ، والهمزة مبدلة من اللام تخفيفا ، والأصل في الإملاء الإملال باللام ، ومنه قوله تعالى : فليكتب وليملل الذي عليه الحق الآية [ 2 \ 28 ] .

وقوله : بكرة وأصيلا ، البكرة : أول النهار ، والأصيل : آخره .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية من أن الكفار ، قالوا : إن القرآن أساطير الأولين ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلمه من غيره وكتبه جاء موضحا في آيات متعددة ; كقوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين [ 18 \ 31 ] .

وقد ذكرنا آنفا الآيات الدالة على أنهم افتروا عليه أنه تعلم القرآن من غيره ، وأوضحنا تعنتهم وكذبهم في ذلك في سورة " النحل " ، ودلالة الآيات على ذلك في الكلام على قوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

[ ص: 16 ] ومن الآية الدالة على كذبهم في قوله : اكتتبها فهي تملى عليه ، قوله تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون [ 29 \ 84 ] وقوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ، إلى قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي [ 7 \ 157 - 158 ] والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، وما ذكر جل وعلا في الآية الأخيرة من قوله : قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض الآية ، جاء أيضا موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك الآية [ 16 \ 102 ] وقوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] وقوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] وقوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] وقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] وقوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 \ 38 - 43 ] وقوله تعالى : تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [ 20 \ 4 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله هنا : الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أي : ومن يعلم السر ، فلا شك أنه يعلم الجهر .

ومن الآيات الدالة على ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من كونه تعالى يعلم السر في السماوات والأرض ، قوله تعالى : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] وقوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور [ 67 \ 13 ] وقوله تعالى : ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب [ 9 \ 78 ] وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] وقوله تعالى : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم [ 32 \ 6 ] وقوله تعالى : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله الآية [ 2 \ 235 ] وقوله تعالى : وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [ ص: 17 ] [ 27 \ 75 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه كان غفورا رحيما ، قال فيه ابن كثير : هو دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة ، وأن حلمه عظيم ، وأن من تاب إليه تاب عليه ، فهؤلاء مع كذبهم ، وافترائهم ، وفجورهم ، وبهتانهم ، وكفرهم ، وعنادهم ، وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ; كما قال تعالى : لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 73 - 74 ] ، وقال تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [ 85 \ 10 ] .

قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه ، وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة ، انتهى كلام ابن كثير - رحمه الله تعالى - وما ذكره واضح .

والآيات الدالة على مثله كثيرة ; كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا الآية [ 20 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار قالوا في نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ما لهذا الذي يدعي أنه رسول ، وذلك كقول فرعون في موسى : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 26 \ 27 ] أي : ما له يأكل الطعام كما نأكله ، فهو محتاج إلى الأكل كاحتياجنا إليه ، ويمشي في الأسواق أي لاحتياجه إلى البيع والشراء ، ليحصل بذلك قوته ، يعنون أنه لو كان رسولا من عند الله لكان ملكا من الملائكة لا يحتاج إلى الطعام ، ولا إلى المشي في الأسواق ، وادعاء الكفار أن الذي يأكل كما يأكل الناس ، ويحتاج إلى المشي في الأسواق ، لقضاء حاجته منها ، لا يمكن أن يكون رسولا ، وأن الله لا يرسل إلا ملكا لا يحتاج للطعام ولا للمشي في الأسواق ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، وجاء في آيات أيضا تكذيب الكفار في دعواهم هذه الباطلة .

[ ص: 18 ] فمن الآيات الدالة على قولهم مثل ما ذكر عنهم في هذه الآية ، قوله تعالى : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] وقوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] وقوله تعالى عنهم : فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا الآية [ 23 \ 47 ] وقوله تعالى : أبشرا منا واحدا نتبعه الآية [ 54 \ 24 ] وقوله : فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله الآية [ 64 \ 6 ] وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا [ 14 \ 10 ] . ومن الآيات التي كذبهم الله بها في دعواهم هذه الباطلة ، وبين فيها أن الرسل يأكلون ويمشون في الأسواق ويتزوجون ويولد لهم ، وأنهم من جملة البشر ، إلا أنه فضلهم بوحيه ورسالته ، وأنه لو أرسل للبشر ملكا لجعله رجلا ، وأنه لو كانت في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ، لنزل عليهم ملكا رسولا ، لأن المرسل من جنس المرسل إليهم ، قوله تعالى في هذه السورة الكريمة : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] أي ولم نجعلهم ملائكة ، لأن كونهم رجالا وكونهم من أهل القرى ، صريح في أنهم ليسوا ملائكة ، وقوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 9 ] وقد أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للكفار : إنه بشر ، وإنه رسول . وذلك لأن البشرية لا تنافي الرسالة في قوله تعالى : قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [ 17 \ 93 ] وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] وقوله تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه الآية [ 41 \ 6 ] . وبين جل وعلا أن الرسل قالوا مثل ذلك في قوله : لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده الآية [ 14 \ 11 ] وقال تعالى : قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 95 ]
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:55 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (415)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 19 إلى صـ 26



وقوله تعالى : ويمشي في الأسواق [ ص: 19 ] [ 25 \ 7 ] جمع سوق وهي مؤنثة ، وقد تذكر . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها .

اعلم أولا أن لولا في هذه الآية الكريمة حرف تحضيض على التحقيق ، والتحضيض . هو الطلب بحث وشدة ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله :

وبهما التحضيض مز وهلا ألا ألا وأولينها الفعلا


وبه تعلم أن المضارع في قوله : فيكون معه نذيرا منصوب بأن مستترة وجوبا ، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

وبعد فا جواب نفي أو طلب محضين أن وسترها حتم نصب



ونظير هذا من النصب بأن المستترة بعد الفاء التي هي جواب التحضيض . قوله تعالى : فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين [ 63 \ 10 ] لأن قوله : لولا أخرتني طلب منه للتأخير بحث وشدة ، كما دل عليه حرف التحضيض الذي هو لولا ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :

لولا تعوجين يا سلمى على دنف فتخمدي نار وجد كاد يفنيه



فقوله تعالى في الآية الكريمة : فأصدق بالنصب ، وقول الشاعر : فتخمدي منصوب أيضا ، بحذف النون ، لأن الفاء في جواب الطلب المحض الذي هو التحضيض .

واعلم أن جزم الفعل المعطوف على الفعل المنصوب أعني قوله : وأكن من الصالحين إنما ساغ فيه الجزم ، لأنه عطف على المحل ؛ لأن الفاء لو حذفت مع قصد جواب التحضيض لجزم الفعل ، وجواز الجزم المذكور عند الحذف المذكور ، هو الذي سوغ عطف المجزوم على المنصوب ، وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :

وبعد غير النفي جزما اعتمد إن تسقط الفا والجزاء قد قصد



وبما ذكرنا تعلم أن ما ذكره القرطبي وغيره ، وأشار له الزمخشري من أن لولا في الآية للاستفهام ، ليس بصحيح .

[ ص: 20 ] واعلم أن الكفار في هذه الآية الكريمة اقترحوا بحث وشدة عليه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمور : الأول : أن ينزل إليه ملك ، فيكون معه نذيرا ، أي يشهد له بالصدق ، ويعينه على التبليغ .

الثاني : أن يلقى إليه كنز ، أي ينزل عليه كنز من المال ينفق منه ويستغني به عن المشي في الأسواق .

الثالث : أن تكون له جنة يأكل منها ، والجنة في لغة العرب البستان ومنه قول زهير :

كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا



فقوله : تسقي جنة أي بستانا ، وقوله : سحقا يعني أن نخله طوال .

وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة التي اقترحها الكفار وطلبوها بشدة وحث ، تعنتا منهم وعنادا ، جاءت مبينة في غير هذا الموضع ، فبين جل وعلا في سورة هود اقتراحهم لنزول الكنز ، ومجيء الملك معه ، وأن ذلك العناد والتعنت قد يضيق به صدره - صلى الله عليه وسلم - وذلك في قوله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير [ 11 \ 12 ] وبين جل وعلا في سورة بني إسرائيل اقتراحهم الجنة ، وأوضح أنهم يعنون بها بستانا من نخيل وعنب ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا [ 17 \ 90 - 91 ] واقتراحهم هذا شبيه بقول فرعون في موسى : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 \ 53 ] تشابهت قلوبهم فتشابهت أقوالهم .

وقد قدمنا في الكلام على آية سورة بني إسرائيل ، هذه الآيات الدالة على كثرة اقتراح الكفار وشدة تعنتهم وعنادهم ، وأن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا كما قال تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 6 \ 7 ] وقال تعالى : ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [ 15 \ 14 - 15 ] وقال تعالى : ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [ ص: 21 ] الآية [ 6 \ 111 ] وقال تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية الآية [ 10 \ 96 - 97 ] . إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم .

وقال الزمخشري في تفسير آية الفرقان هذه : يأكل الطعام كما نأكل ، ويتردد في الأسواق كما نتردد . يعنون أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك ، حتى يتساعدا في الإنذار والتخويف ، ثم نزلوا أيضا فقالوا : إن لم يكن مرفودا بذلك ، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء يستظهر به ، ولا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ، ويرتزق كالدهاقين أو يأكلون هم من ذلك البستان ، فينتفعون به في دنياهم ومعاشهم . انتهى منه ، وكل تلك الاقتراحات لشدة تعنتهم وعنادهم . وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي ( يأكل منها ) بالمثناة التحتية ، وقرأ حمزة والكسائي : ( جنة نأكل منها ) بالنون ، وهذه القراءة هي مراد الزمخشري بقوله : أو يأكلون هم من ذلك البستان .
قوله تعالى : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الظالمين وهم الكفار قالوا للذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا يعنون أنه أثر فيه السحر فاختلط عقله فالتبس عليه أمره ، وقال مجاهد : مسحورا : أي مخدوعا كقوله : فأنى تسحرون : أي من أين تخدعون ، وقال بعضهم : مسحورا : أي له سحر ، أي رئة فهو لا يستغني عن الطعام والشراب ، فهو بشر مثلكم ، وليس بملك ، وقد قدمنا كلام أهل العلم في قوله : مسحورا بشواهده العربية في سورة طه في الكلام على قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 \ 69 ] ولما ذكر الله هذا الذي قاله الكفار في نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، من الإفك والبهتان خاطب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ، وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قولهم : إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وما قاله الكفار في هذه الآية أعني قوله : انظر كيف ضربوا لك الأمثال الآية . جاء كله مصرحا به في سورة بني إسرائيل في قوله تعالى : [ ص: 22 ] نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا [ 17 \ 47 - 48 ] .

قال الزمخشري : ضربوا لك الأمثال : قالوا فيك تلك الأقوال ، واقترحوا لك تلك الصفات والأحوال النادرة من نبوة مشتركة بين إنسان وملك ، وإلقاء كنز عليك من السماء ، وغير ذلك ، فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون قولا يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق ، فلا يجدون طريقا إليه ا ه .

والأظهر عندي في معنى الآية ما قاله غير واحد من أن معنى : ضربوا لك الأمثال : أنها تارة يقولون إنك ساحر ، وتارة مسحور ، وتارة مجنون ، وتارة شاعر ، وتارة كاهن ، وتارة كذاب ، ومن ذلك ما ذكر الله عنهم من قوله هنا : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه الآية [ 25 \ 5 ] وقوله : وقالوا أساطير الأولين وقوله : وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا وقوله تعالى : فضلوا أي عن طريق الحق ، لأن الأقوال التي قالوها ، والأمثال التي ضربوها كلها كذب وافتراء وكفر مخلد في نار جهنم ، فالذين قالوها هم أضل الضالين ، وقوله تعالى : فلا يستطيعون سبيلا فيه أقوال كثيرة متقاربة .

وأظهرها أن معنى : فلا يستطيعون سبيلا : أي طريقا إلى الحق والصواب ، ونفي الاستطاعة المذكورة هنا كقوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] وقوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا [ 18 \ 101 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] وقد قدمنا أيضا معنى الظلم والضلال وما فيهما من الإطلاقات في اللغة مع الشواهد العربية في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار كذبوا بالساعة أي أنكروا القيامة من أصلها لإنكارهم البعث بعد الموت والجزاء ، وأنه جل وعلا اعتد أي هيأ وأعد لمن كذب بالساعة : أي أنكر يوم القيامة سعيرا : أي نارا شديدة الحر يعذبه بها يوم القيامة .

[ ص: 23 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا يدل على أن التكذيب بالساعة كفر مستوجب لنار جهنم ، كما سترى الآيات الدالة على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى . وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما تكذيبهم بالساعة ، ووعيد الله لمن كذب بها بالسعير جاءا موضحين في آيات أخر ، أما تكذيبهم بيوم القيامة لإنكارهم البعث والجزاء بعد الموت ، فقد جاء في آيات كثيرة عن طوائف الكفار كقوله تعالى : إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين [ 44 \ 34 - 35 ] وقوله تعالى : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وأما كفر من كذب بيوم القيامة ووعيده بالنار ، فقد جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى : وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ 45 \ 32 ] إلى قوله : ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 45 \ 34 ] فقوله : ومأواكم النار بعد قوله : قلتم ما ندري ما الساعة الآية ، يدل على أن قولهم : ما ندري ما الساعة هو سبب كون النار مأواهم ، وقوله بعده ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 35 ] لا ينافي ذلك ؛ لأن من اتخاذهم آيات الله هزوا تكذيبهم بالساعة ، وإنكارهم البعث كما لا يخفى ، وكقوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 15 ] فقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة من سورة الرعد أن إنكارهم البعث الذي عبروا عنه باستفهام الإنكار في قوله تعالى عنهم : أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد جامع بين أمرين : الأول منهما : أنه عجب من العجب لكثرة البراهين القطعية الواضحة الدالة على ما أنكروه .

والثاني منهما : وهو محل الشاهد من الآية ، أن إنكارهم البعث المذكور كفر مستوجب للنار وأغلالها والخلود فيها ، وذلك في قوله تعالى مشيرا إلى الذين أنكروا البعث أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 5 ] ومعلوم أن إنكار البعث إنكار للساعة ، وكقوله تعالى : [ ص: 24 ] فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى [ 20 \ 16 ] أي لا يصدنك من لا يؤمن بالساعة عن الإيمان بها ، فتردى : أي تهلك لعدم إيمانك بها ، والردى الهلاك ، وهو هنا عذاب النار بسبب التكذيب بالساعة ، وقد قال تعالى : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] وقوله تعالى في آية " طه " هذه : ( فتردى ) ، يدل دلالة واضحة على أنه إن صده من لا يؤمن بالساعة عن التصديق بها ، أن ذلك يكون سببا لرداه أي هلاكه بعذاب النار كما لا يخفى ، وكقوله تعالى : وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون فآية الروم هذه ، تدل على أن الذين كذبوا بلقاء الآخرة وهم الذين كذبوا بالساعة معدودون مع الذين كفروا وكذبوا بآيات الله ، وأنهم في العذاب محضرون . وهو عذاب النار . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل كذبوا بالساعة [ 25 \ 11 ] أظهر الأقوال فيه عندي أنه متصل بما يليه ، وأن بل فيه للإضراب الانتقالي ، وقد أوضحنا معنى السعير مع بعض الشواهد العربية في أول سورة الحج ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن النار يوم القيامة ، إذا رأت الكفار من مكان بعيد : أي في عرصات المحشر اشتد غيظها على من كفر بربها وعلا زفيرها فسمع الكفار صوتها من شدة غيظها ، وسمعوا زفيرها .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة بين بعضه في سورة الملك ، فأوضح فيها شدة غيظها على من كفر بربها ، وأنهم يسمعون لها أيضا شهيقا مع الزفير الذي ذكره في آية الفرقان هذه ، وذلك في قوله تعالى : إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ [ 67 \ 7 - 8 ] أي يكاد بعضها ينفصل عن بعض من شدة غيظها ، على من كفر بالله تعالى .

وللعلماء أقوال في معنى الزفير والشهيق ، وأقربها أنهما يمثلهما معا صوت الحمار في نهيقه ، فأوله زفير ، وآخره الذي يردده في صدره شهيق .

والأظهر أن معنى قوله تعالى : سمعوا لها تغيظا أي سمعوا غليانها من شدة غيظها ، ولما كان سبب الغليان التغيظ أطلقه عليه ، وذلك أسلوب عربي معروف . وقال [ ص: 25 ] بعض أهل العلم : سمعوا لها تغيظا : أي أدركوه ، والإدراك يشمل الرؤية والسمع ، وعلى هذا فالسمع مضمن معنى الإدراك ، وما ذكرنا أظهر .

وقال القرطبي : قيل المعنى إذا رأتهم جهنم سمعوا لها صوت التغيظ عليهم ، ثم ذكر في آخر كلامه أن هذا القول هو الأصح .
مسألة .

اعلم أن التحقيق أن النار تبصر الكفار يوم القيامة ، كما صرح الله بذلك في قوله هنا : إذا رأتهم من مكان بعيد ورؤيتها إياهم من مكان بعيد ، تدل على حدة بصرها كما لا يخفى ، كما أن النار تتكلم كما صرح الله به في قوله : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد [ 50 \ 30 ] والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة ، كحديث محاجة النار مع الجنة ، وكحديث اشتكائها إلى ربها ، فأذن لها في نفسين ، ونحو ذلك ، ويكفي في ذلك أن الله جل وعلا صرح في هذه الآية ، أنها تراهم وأن لها تغيظا على الكفار ، وأنها تقول : هل من مزيد .

واعلم أن ما يزعمه كثير من المفسرين وغيرهم ، من المنتسبين للعلم من أن النار لا تبصر ، ولا تتكلم ، ولا تغتاظ . وأن ذلك كله من قبيل المجاز ، أو أن الذي يفعل ذلك خزنتها ، كله باطل ولا معول عليه لمخالفته نصوص الوحي الصحيحة بلا مستند ، والحق هو ما ذكرنا .

وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم على أن النصوص من الكتاب والسنة ، لا يجوز صرفها عن ظاهرها إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، كما هو معلوم في محله .

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : إن القول بأن النار تراهم هو الأصح ، ثم قال لما روي مرفوعا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا . قيل : يا رسول الله أولها عينان ؟ قال : أوما سمعتم الله - عز وجل - يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا ، يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول : وكلت بكل من جعل مع الله إلها آخر ، فهو أبصر بهم من الطير بحب السمسم فيلتقطه " وفي رواية " يخرج عنق من النار فيلتقط الكفار لقط الطائر حب السمسم " ذكره رزين في كتابه ، وصححه ابن العربي في قبسه ، وقال : أي تفصلهم عن [ ص: 26 ] الخلق في المعرفة ، كما يفصل الطائر حب السمسم عن التربة ، وخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول : إني وكلت بثلاث : بكل جبار عنيد ، وبكل من دعا مع الله إلها آخر ، وبالمصورين " وفي الباب عن أبي سعيد قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي .

وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطبراني ، وابن مردويه من طريق مكحول ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعدا من بين عيني جهنم . قالوا : يا رسول الله وهل لجهنم من عين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول : إذا رأتهم من مكان بعيد . فهل تراهم إلا بعينين " وأخرج عبد الله بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طريق خالد بن دريك ، عن رجل من الصحابة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من يقل علي ما لم أقل ، أو ادعى إلى غير والديه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل : يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال : نعم أما سمعتم الله يقول : " إذا رأتهم من مكان بعيد " إلى آخر كلامه ، وفيه شدة هول النار ، وأنها تزفر زفرة يخاف منها جميع الخلائق .
نرجو الله جل وعلا أن يعيذنا وإخواننا المسلمين منها ، ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل .
قوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار إذا ألقوا : أي طرحوا في مكان ضيق من النار ، في حال كونهم مقرنين ، دعوا هنالك : أي في ذلك المكان الضيق ثبورا ، فيقال لهم : لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ، فقوله : ( مكانا ) منصوب على الظرف ، كما قال أبو حيان في البحر المحيط .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:55 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (416)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 27 إلى صـ 34




وما ذكره هنا من أنهم يلقون في مكان ضيق من النار ، جاء مذكورا أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة [ 104 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة [ 90 \ 19 - [ ص: 27 ] 20 ] ومعنى مؤصدة في الموضعين بهمز ، وبغير همز : مطبقة أبوابها ، مغلقة عليهم كما أوضحناه بشواهده العربية في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد [ 18 \ 18 ] ومن كان في مكان مطبق مغلق عليه ، فهو في مكان ضيق ، والعياذ بالله ، وقد ذكر أن الواحد منهم يجعل في محله من النار بشدة كما يدق الوتد في الحائط ، وعن ابن مسعود : أن جهنم تضيق على الكافر كتضييق الزج على الرمح . والزج بالضم : الحديدة التي في أسفل الرمح .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : مقرنين : أي في الأصفاد بدليل قوله تعالى في سورة إبراهيم : وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد [ 14 \ 49 ] والأصفاد : القيود . والأظهر أن معنى مقرنين : أن الكفار يقرن بعضهم إلى بعض في الأصفاد والسلاسل ، وقال بعض أهل العلم : كل كافر يقرن هو وشيطانه ، وقد قال تعالى : حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 43 \ 38 ] .

وهذا أظهر من قول من قال : مقرنين مكتفين ، ومن قول من قال : مقرنين : أي قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ، والثبور : الهلاك والويل والخسران .

وقال ابن كثير : والأظهر أن الثبور يجمع الخسار والهلاك والويل والدمار . كما قال موسى لفرعون : وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] أي هالكا ، قال عبد الله بن الزبعرى السهمي :

إذا جارى الشيطان في سنن الغسـ ـى ومن مال ميله مثبور
ا هـ .

وقال الجوهري في صحاحه : والثبور الهلاك والخسران أيضا ، قال الكميت :

ورأت قضاعة في الأيا من رأي مثبور وثابر



أي مخسور وخاسر يعني في انتسابها لليمن . ا هـ منه .

وقوله تعالى : دعوا هنالك ثبورا معنى دعائهم الثبور هو قولهم : واثبوراه ، يعنون : يا ويل ، ويا هلاك ، تعال ، فهذا حينك وزمانك .

وقال الزمخشري : ومعنى وادعوا ثبورا كثيرا أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا ، إنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان ، كل نوع منها ثبور ، لشدته [ ص: 28 ] وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لهلاكهم . ا ه .
تنبيه .

اعلم أنه تعالى في هذه الآية الكريمة قال : مكانا ضيقا ، وكذلك في الأنعام في قوله تعالى : يجعل صدره ضيقا حرجا [ 6 \ 125 ] وقال في هود وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] فما وجه التعبير في سورة هود ، بقوله : ضائق على وزن فاعل ، وفي الفرقان والأنعام بقوله : ضيقا على وزن فيعل ، مع أنه في المواضع الثلاثة هو الوصف من ضاق يضيق ، فهو ضيق .

والجواب عن هذا هو أنه تقرر في فن الصرف أن جميع أوزان الصفة المشبهة باسم الفاعل إن قصد بها الحدوث والتجدد جاءت على وزن فاعل مطلقا ، كما أشار له ابن مالك في لاميته بقوله :

وفاعل صالح للكل إن قصد الـ حدوث نحو غدا ذا فارح جذلا


وإن لم يقصد به الحدوث والتجدد بقي على أصله .

وإذا علمت ذلك فاعلم أن قوله تعالى في سورة هود : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك [ 11 \ 12 ] أريد به أنه يحدث له ضيق الصدر ، ويتجدد له بسبب عنادهم وتعنتهم في قولهم : لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك ولما كان كذلك ، قيل فيه : ضائق بصيغة اسم الفاعل ، أما قوله : ضيقا في الفرقان والأنعام فلم يرد به حدوث ، ولذلك بقي على أصله .

ومن أمثلة إتيان الفيعل على فاعل إن قصد به الحدوث قوله تعالى : وضائق به صدرك وقول قيس بن الخطيم الأنصاري :

أبلغ خداشا أنني ميت كل امرئ ذي حسب مائت



فلما أراد حدوث الموت قال : مائت بوزن فاعل ، وأصله ميت على وزن فيعل .

ومن أمثلته في فعل بفتح فكسر قول أبي عمرو أشجع بن عمرو السلمي يرثي قتيبة بن مسلم : [ ص: 29 ]

فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح



فلما نفى أن يحدث له في المستقبل فرح ولا جزع قال جازع وفارح ، والأصل : جزع وفرح .

ومثاله في فعيل قول لبيد :

حسبت التقى والجود خير تجارة رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا



فلما أراد حدوث الثقل قال : ثاقلا والأصل ثقيل ، وقول السمهري العكلي :

بمنزلة أما اللئيم فسامن بها وكرام الناس باد شحوبها



فلما أراد حدوث السمن قال : فسامن والأصل سمين .

واعلم أن قراءة ابن كثير " ضيقا " بسكون الياء في الموضعين راجعة في المعنى إلى قراءة الجمهور بتشديد الياء لأن إسكان الياء تخفيف كهين ولين ، في هين ولين . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا . التحقيق أن الإشارة في قوله : أذلك راجعة إلى النار ، وما يلقاه الكفار فيها من أنواع العذاب كما ذكره جل وعلا بقوله : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] إلى قوله تعالى : وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 14 ] وغير هذا من الأقوال لا يعول عليه ، كقول من قال : إن الإشارة راجعة إلى الكنز والجنة في قوله تعالى : أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة الآية [ 25 \ 8 ] وكقول من قال : إنها راجعة إلى الجنات والقصور المعلقة على المشيئة في قوله تعالى : تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا [ 25 \ 10 ] والتحقيق إن شاء الله أنه لما ذكر شدة عذاب النار وفظاعته قال : " أذلك العذاب خير أم جنة الخلد الآية " .

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، جاء أيضا في غير هذا الموضع [ ص: 30 ] كقوله تعالى في سورة " الصافات " إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون إلى قوله : يهرعون [ 37 \ 60 - 70 ] وكقوله تعالى : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة الآية [ 41 \ 40 ] .

وفي هذه الآيات وأمثالها في القرآن إشكال معروف ، وهو أن يقال : لفظة خير في الآيات المذكورة صيغة تفضيل كما قال في الكافية :

وغالبا أغناهم خير وشر عن قولهم أخير منه وأشر


كما قدمناه موضحا في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير الآية [ 16 \ 30 ] .

والمعروف في علم العربية أن صيغة التفضيل تقتضي المشاركة بين المفضل والمفضل عليه فيما فيه التفضيل ، إلا أن المفضل أكثر فيه وأفضل من المفضل عليه ، ومعلوم أن المفضل عليه في الآيات المذكورة الذي هو عذاب النار لا خير فيه البتة ، وإذن فصيغة التفضيل فيها إشكال .

والجواب عن هذا الإشكال من وجهين : الأول : أن صيغة التفضيل قد تطلق في القرآن ، وفي اللغة مرادا بها مطلق الاتصاف ، لا تفضيل شيء على شيء . وقدمناه مرارا وأكثرنا من شواهده العربية في سورة " النور " وغيرها .

الثاني : أن من أساليب اللغة العربية أنهم إذا أرادوا تخصيص شيء بالفضيلة ، دون غيره جاءوا بصيغة التفضيل ، يريدون بها خصوص ذلك الشيء بالفضل ، كقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :

أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء



وكقول العرب : الشقاء أحب إليك ، أم السعادة ؟ وقوله تعالى : قال رب السجن أحب إلي الآية [ 12 \ 32 ] .

[ ص: 31 ] قال أبو حيان في البحر المحيط في قوله تعالى : أذلك خير الآية ، وخير هنا ليست تدل على الأفضلية ، بل هي على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء ، وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقوله :

فشركما لخيركما الفداء
وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادة ، وكقوله : السجن أحب إلي مما يدعونني إليه [ 12 \ 32 ] وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ . ا ه . الغرض من كلام أبي حيان .

وعلى كل حال فعذاب النار شر محض لا يخالطه خير البتة كما لا يخفى ، والوجهان المذكوران في الجواب متقاربان .

وقوله تعالى في هذه الآية : أم جنة الخلد التي وعد المتقون العائد محذوف : أي وعدها المتقون ، والآية تدل على أن الوعد الصادق بالجنة ، يحصل بسبب التقوى .

وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك بإيضاح في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] وقوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون العائد أيضا محذوف كالذي قبله : أي ما يشاءونه ، وحذف العائد المنصوب بالفعل أو الوصف كثير ، كما قال في الخلاصة :

والحذف عندهم كثير منجلي في عائد متصل إن انتصب
بفعل أو وصـــــــف كمن نرجـــو يهــب



وهذه الآية الكريمة ، تدل على أن أهل الجنة يجدون كل ما يشاءونه من أنواع النعيم .

وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون [ 16 \ 31 ] والآيات المذكورة تدل على أن حصول كل ما يشاءه الإنسان لا يكون إلا في الجنة ، وقوله : كانت لهم جزاء ومصيرا المصير مكان الصيرورة ، وقد مدح الله جزاءهم ومحله كقوله تعالى : نعم الثواب وحسنت مرتفقا [ 18 \ 31 ] لأن حسن المكان وجودته من أنواع النعيم .

[ ص: 32 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : كان على ربك وعدا مسئولا فيه وجهان معروفان .

أحدهما : أن معنى كونه مسئولا أن المؤمنين كانوا يسألونه ، وكانت الملائكة أيضا تسأله لهم ، أما سؤال المسلمين له فقد ذكره تعالى بقوله عنهم : ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد [ 3 \ 194 ] وسؤال الملائكة لهم إياه ذكره تعالى أيضا في قوله : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم الآية [ 40 \ 47 ] وقال بعض العلماء : مسئولا : أي واجبا ؛ لأن ما وعد الله به واجب الوقوع ، لأنه لا يخلف الميعاد ، وهو جل وعلا يوجب على نفسه بوعده الصادق ما شاء لا معقب لحكمه ، ويستأنس لهذا القول بلفظة " على " في قوله : كان على ربك وعدا مسئولا كقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] وقال بعض أهل العلم : إن المسلمين يوم القيامة يقولون : قد فعلنا في دار الدنيا كل ما أمرتنا به فأنجز لنا ما وعدتنا ، والقولان الأولان أقرب من هذا . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا . قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير وحفص عن عاصم : ( نحشرهم ) ، بالنون الدالة على العظمة ، وقرأ ابن كثير ، وحفص ، عن عاصم : ( يحشرهم ) بالياء المثناة التحتية ، وقرأ عامة السبعة غير ابن عامر : ( فيقول ) بالياء المثناة التحتية ، وقرأ ابن عامر : ( فنقول ) بنون العظمة .

فتحصل أن ابن كثير وحفصا يقرآن بالياء التحتية فيهما ، وأن ابن عامر يقرأ بالنون فيهما ، وأن باقي السبعة يقرءون : ( نحشرهم ) بالنون ، ( فيقول ) بالياء ، وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يحشر الكفار يوم القيامة ، وما كانوا يعبدون من دونه : أن يجمعهم جميعا فيقول للمعبودين : أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء فزينتم لهم أن يعبدوكم من دوني ، أم هم ضلوا السبيل : أي كفروا وأشركوا بعبادتهم إياكم من دوني من تلقاء أنفسهم من غير أن تأمروهم بذلك ولا أن تزينوه لهم ، وأن المعبودين يقولون : سبحانك أي تنزيها لك عن [ ص: 33 ] الشركاء وكل ما لا يليق بجلالك وعظمتك ، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ليس للخلائق كلهم ، أن يعبدوا أحدا سواك لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم ، من غير أمرنا ، ونحن برآء منهم ، ومن عبادتهم ، ثم قال : ولكن متعتهم وآباءهم [ 25 \ 18 ] أي طال عليهم العمر ، حتى نسوا الذكر أي نسوا ما أنزلته عليهم على ألسنة رسلك ، من الدعوة إلى عبادتك وحدك ، لا شريك لك ، وكانوا قوما بورا . قال ابن عباس : أي هلكى ، وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم ا ه . الغرض من كلام ابن كثير .

وقال أبو حيان في البحر : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء : أي ما كان يصح لنا ولا يستقيم إلى آخر كلامه .

وإذا عرفت ما ذكره جل وعلا في هذه الآية من سؤاله للمعبودين وجوابهم له ، فاعلم أن العلماء اختلفوا في المعبودين . فقال بعضهم : المراد بهم الملائكة وعيسى وعزير قالوا : هذا القول يشهد له القرآن ، لأن فيه سؤال عيسى والملائكة عن عبادة من عبدهم ، كما قال في الملائكة : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 40 - 41 ] وقال في عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب [ 5 \ 116 ] وجواب الملائكة وجواب عيسى كلاهما شبيه بجواب المعبودين في آية الفرقان هذه ، ولذلك اختار غير واحد من العلماء أن المعبودين الذين يسألهم الله في سورة الفرقان هذه هم خصوص العقلاء ، دون الأصنام .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي شمول المعبودين المذكورين للأصنام ، مع الملائكة وعيسى وعزير ؛ لأن ذلك تدل عليه قرينتان قرآنيتان : الأولى : أنه عبر عن المعبودين المذكورين بـ : " ما " التي هي لغير العاقل في قوله : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله الآية . فلفظة ( ما ) تدل على شمول غير العقلاء ، وأنه غلب غير العاقل لكثرته .

[ ص: 34 ] القرينة الثانية : هي دلالة آيات من كتاب الله ، على أن المعبودين غافلون عن عبادة من عبدهم : أي لا يعلمون بها لكونهم غير عقلاء كقوله تعالى في سورة يونس وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين [ 10 \ 28 - 29 ] وإنما كانوا غافلين عنها لأنهم جماد لا يعقلون . وإطلاق اللفظ المختص بالعقلاء عليهم ، نظرا إلى أن المشركين نزلوهم منزلة العقلاء كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وكقوله تعالى في الأحقاف : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 5 - 6 ] فقد دل قوله تعالى : وهم عن دعائهم غافلون على أنهم لا يعقلون ، ومع ذلك قال : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وكقوله تعالى في العنكبوت : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا الآية [ 29 \ 25 ] . فصرح بأنهم أوثان ، ثم ذكر أنهم هم وعبدتهم يلعن بعضهم بعضا . وكقوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله في هذه الآية الكريمة حتى نسوا الذكر الظاهر أن معنى ( نسوا ) تركوا . والأظهر أن الذكر هو ما جاءت به الرسل من التوحيد ، وقيل : ذكر الله بشكر نعمه ، والأصح أن قوله بورا معناه هلكى ، وأصله اسم مصدر يقع على الواحد وعلى الجماعة ، فمن إطلاقه على الجماعة قوله هنا : وكانوا قوما بورا وقوله في سورة الفتح : وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا [ 48 \ 12 ] ومن إطلاقه على المفرد قول عبد الله بن الزبعرى السهمي رضي الله عنه :

يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور



ويطلق البور على الهلاك . وعن ابن عباس أنها لغة أهل عمان ، وهم من أهل اليمن ، ومنه قول الشاعر

: فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم وكافوا به فالكفر بور لصانعه
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg









(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:56 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (417)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 35 إلى صـ 422




واعلم أن ما ذكره الزمخشري في هذه الآية ، وأطنب فيه من أن الله لا يضل أحدا [ ص: 35 ] مذهب المعتزلة ، وهو مذهب باطل وبطلانه في غاية الوضوح من كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فإياك أن تغتر به ، وما ذكر عن الحسن البصري ، ومالك ، عن الزهري من أن معنى بورا لا خير فيهم له وجه في اللغة العربية ، ولكن التحقيق أنه ليس معنى الآية ، وأن معنى بورا هلكى كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقد كذبوكم بما تقولون .

ذكر جل وعلا في هذه الآية : أن المعبودين كذبوا العابدين وذلك في قوله عنهم : قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء [ 25 \ 18 ] .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تكذيب المعبودين للعابدين ، جاء في آيات أخر كقوله تعالى : وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين [ 46 \ 6 ] وكقوله تعالى : وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون [ 16 \ 86 ] وقوله : فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون [ 10 \ 28 ] وقوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله تعالى : ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا . قال ابن كثير : ومن يظلم منكم أي يشرك بالله ، وذكره القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنهما . وهذا التفسير تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] وقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] وقوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الظلم في قوله تعالى : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] فقال : أي بشرك كما قدمناه موضحا .
قوله تعالى : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه جعل بعض الناس فتنة لبعض .

وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية ذكره في قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا الآية [ 6 \ 53 ] .

[ ص: 36 ] وقال القرطبي في تفسير قوله : وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ومعنى هذا : أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغني ممتحن بالفقير عليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغني عليه أن لا يحسده ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق ، كما قال الضحاك في معنى : أتصبرون [ 25 \ 20 ] : أي على الحق ، وأصحاب البلايا يقولون : لم لم نعاف ؟ والأعمى يقول لم لم أجعل كالبصير ؟ وهكذا صاحب كل آفة ، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار في عصره وكذلك العلماء ، وحكام العدل ، ألا ترى إلى قولهم : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى ، ويحقر المعافى المبتلى ، والصبر أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر ، وذلك عن الضجر . انتهى محل الغرض من كلام القرطبي .

وإذا علمت معنى كون بعضهم فتنة لبعض . فاعلم أن قوله تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض الآية [ 6 \ 53 ] . فيه فتنة أغنياء الكفار بفقراء المسلمين ، حيث احتقروهم وازدروهم ، وأنكروا أن يكون الله من عليهم دونهم لأنهم في زعمهم لفقرهم ، ورثاثة حالهم ، لا يمكن أن يرحمهم الله ويعطيهم من فضله الواسع كما قال تعالى عنهم أنهم قالوا فيهم : لو كان خيرا ما سبقونا إليه [ 46 \ 11 ] وقال : أؤنزل عليه الذكر من بيننا [ 38 \ 8 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وسيوبخهم الله يوم القيامة على احتقارهم لهم في الدنيا كما قال تعالى : أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 49 ] وقوله تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون . . . . إلى قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] وقوله تعالى : ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] وقوله تعالى : ( أتصبرون ) ، أي على الحق أم لا تصبرون . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا .

[ ص: 37 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين لا يرجون لقاء الله قالوا : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، ولولا في هذه الآية للتحضيض .

والمعنى أنهم طلبوا بحث وشدة أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون ربهم ، وهذا التعنت الذي ذكره الله عنهم هنا من طلبهم إنزال الملائكة عليهم ، أو رؤيتهم ربهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى :أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 17 \ 92 ] وقولهم : لولا أنزل علينا الملائكة قيل : فتوحى إلينا كما أوحت إليك ، وهذا القول يدل له قوله تعالى : قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الآية [ 6 \ 124 ] وقيل : لولا أنزل علينا الملائكة فنراهم عيانا ، وهذا يدل له قوله تعالى : أو تأتي بالله والملائكة قبيلا [ 17 \ 92 ] أي معاينة على القول بذلك ، وقد قدمنا الأقوال في ذلك في سورة بني إسرائيل .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ( لا يرجون ) قال بعض العلماء : لا يرجون أي لا يخافون لقاءنا لعدم إيمانهم بالبعث . والرجاء يطلق على الخوف كما يطلق على الطمع . قال بعض العلماء : ومنه قوله تعالى : ما لكم لا ترجون لله وقارا قال أي لا تخافون لله عظمة ، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وخالفها في بيت نوب عواسل


فقوله لم يرج لسعها : أي لم يخف لسعها ، وقال بعض أهل العلم : إطلاق الرجاء على الخوف لغة تهامة ، وقال بعض العلماء : لا يرجون لقاءنا لا يأملون ، وعزاه القرطبي لابن شجرة وقال : ومنه قول الشاعر :

أترجو أمة قتلت حسينا شفاعة جده يوم الحساب



أي أتأمل أمة إلخ . والذي لا يؤمن بالبعث لا يخاف لقاء الله ، لأنه لا يصدق بالعذاب ، ولا يأمل الخير من تلقائه ، لأنه لا يؤمن بالثواب .

وقوله جل وعلا : لقد استكبروا في أنفسهم أي أضمروا التكبر عن الحق في قلوبهم ، واعتقدوه عنادا وكفرا ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه [ 40 \ 56 ] وقوله تعالى : وعتوا عتوا كبيرا أي تجاوزوا الحد [ ص: 38 ] في الظلم والطغيان يقال : عتا علينا فلان : أي تجاوز الحد في ظلمنا ، ووصفه تعالى عتوهم المذكور بالكبر ، يدل على أنه بالغ في إفراطه ، وأنهم بلغوا غاية الاستكبار ، وأقصى العتو ، وهذه الآية الكريمة تدل على أن تكذيب الرسل بعد دلالة المعجزات ، ووضوح الحق وعنادهم والتعنت عليهم بطلب إنزال الملائكة ، أو رؤية استكبار عن الحق عظيم وعتو كبير يستحق صاحبه النكال ، والتقريع ، ولذا شدد الله النكير على من تعنت ذلك التعنت واستكبر عن قبول الحق ، كما في قوله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل [ 2 \ 108 ] وقوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم الآية [ 4 \ 153 ] وقوله تعالى : وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون [ 2 \ 55 ] واستدلال المعتزلة بهذه الآية ، وأمثالها على أن رؤية الله مستحيلة استدلال باطل ومذهبهم والعياذ بالله من أكبر الضلال ، وأعظم الباطل ، وقول الزمخشري في كلامه على هذه الآية : إن الله لا يرى ، قول باطل ، وكلام فاسد .

والحق الذي لا شك فيه : أن المؤمنين يرون الله بأبصارهم يوم القيامة كما تواترت به الأحاديث عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ، ودلت عليه الآيات القرآنية منطوقا ومفهوما . كما أوضحناه في غير هذا الموضع .

وقد قدمنا في هذه السورة وفي سورة بني إسرائيل الآيات الدالة على أن الله لو فعل لهم كل ما اقترحوا لما آمنوا ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار الذين طلبوا إنزال الملائكة عليهم ، أنهم يوم يرون الملائكة لا بشرى لهم ، أي لا تسرهم رؤيتهم ولا تكون لهم في ذلك الوقت بشارة بخير ، ورؤيتهم للملائكة تكون عند احتضارهم ، وتكون يوم القيامة ولا بشرى لهم في رؤيتهم في كلا الوقتين .

أما رؤيتهم الملائكة عند حضور الموت فقد دلت آيات من كتاب الله أنهم لا بشارة لهم فيها لما يلاقون من العذاب من الملائكة عند الموت ، كقوله تعالى : [ ص: 39 ] ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم الآية [ 8 \ 50 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون [ 6 \ 93 ] وقوله تعالى : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] وأما رؤيتهم الملائكة يوم القيامة فلا بشرى لهم فيها أيضا ، ويدل لذلك قوله تعالى : ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون [ 6 \ 8 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا بشرى يومئذ للمجرمين [ 25 \ 22 ] يدل بدليل خطابه : أي مفهوم مخالفته ، أن غير المجرمين يوم يرون الملائكة تكون لهم البشرى ، وهذا المفهوم من هذه الآية جاء مصرحا به في قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم [ 41 \ 30 - 32 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة . ويقولون حجرا محجورا أظهر القولين فيه عندي أنه من كلام الكفار ، يوم يرون الملائكة . لا من كلام الملائكة ، وإيضاحه : أن الكفار الذين اقترحوا إنزال الملائكة إذا رأوا الملائكة توقعوا العذاب من قبلهم ، فيقولون حينئذ للملائكة : حجرا محجورا : أي حراما محرما عليكم أن تمسونا بسوء أي لأننا لم نرتكب ذنبا نستوجب به العذاب ، كما أوضحه تعالى بقوله عنهم : الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون [ 16 \ 28 ] فقولهم : ما كنا نعمل من سوء : أي لم نستوجب عذابا ، فتعذيبنا حرام محرم ، وقد كذبهم الله في دعواهم هذه بقوله : بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون وعادة العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، أنهم يقولون هذا الكلام ، أي حجرا محجورا عند لقاء عدو موتور أو هجوم نازلة أو نحو ذلك .

وقد ذكر سيبويه هذه الكلمة أعني : حجرا محجورا في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها نحو : معاذ الله ، وعمرك الله ، ونحو ذلك .

[ ص: 40 ] وقوله : حجرا محجورا ، أصله من حجره بمعنى منعه ، والحجر : الحرام ، لأنه ممنوع ومنه قوله : وقالوا هذه أنعام وحرث حجر أي حرام لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم [ 6 \ 138 ] ومنه قول المتلمس :

حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس


فقوله حرام تأكيد لقوله حجر لأن معناه حرام وقول الآخر :

ألا أصبحت أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما



وقول الآخر :

قــــالت وفيها حـيرة وذعـر عـوذ بربي منكم وحجر



وقوله : محجورا توكيد لمعنى الحجر . قال الزمخشري : كقول العرب : ذيل ذائل . والذيل الهوان ، وموت مائت ، وأما على القول بأن حجرا محجورا من قول الملائكة ، فمعناه : أنهم يقولون للكفار حجرا محجورا . أي حراما محرما أن تكون للكفار اليوم بشرى ، أو أن يغفر لهم ، أو يدخلون الجنة وهذا القول اختاره ابن جرير ، وابن كثير وغير واحد .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يوم يرون الملائكة قال الزمخشري : " يوم " منصوب بأحد شيئين ، إما بما دل عليه بلا بشرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى ، أو يعدمونها ، ويومئذ للتكرير ، وإما بإضمار اذكر : أي اذكر يوم يرون الملائكة ، ثم قال لا بشرى يومئذ للمجرمين .
قوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن الآية [ 17 \ 19 ] . وفي سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن الآية [ 16 \ 97 ] . وغير ذلك فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .

[ ص: 41 ] استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة : أن حساب أهل الجنة يسير ، وأنه ينتهي في نصف نهار ، ووجه ذلك أن قوله : مقيلا : أي مكان قيلولة وهي الاستراحة في نصف النهار ، قالوا : وهذا الذي فهم من هذه الآية الكريمة ، جاء بيانه في قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 7 - 9 ] .

ويفهم من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا الآية ، أن أصحاب النار ليسوا كذلك وأن حسابهم غير يسير .

وهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر كقوله تعالى قريبا من هذه الآية : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فقوله : ( على الكافرين ) يدل على أنه على المؤمنين غير عسير ، كما قال تعالى : لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية [ 21 \ 103 ] . وقوله تعالى : مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 8 ] وإذا علمت مما ذكرنا ما جاء من الآيات فيه بيان لقوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ، فهذه أقوال بعض المفسرين في المعنى الذي ذكرنا في الآية .

قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : خير مستقرا وأحسن مقيلا قال في الغرف من الجنة ، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وذلك مثل قوله : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 7 - 9 ] وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن مسعود . قال : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا وقرأ : ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إنما هي ضحوة . فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين .

وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر ، وأبو نعيم في [ ص: 42 ] الحلية ، عن إبراهيم النخعي : كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة ، نصف النهار . فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، فذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .

وأخرج ابن جرير ، عن سعيد بن الصواف قال : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن ، حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وإنهم ليقيلون في رياض الجنة ، حين يفرغ الناس من الحساب ، وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا إلى أن قال : وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، الساعة التي يكون فيها ارتفاع الضحى الأكبر ، إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة ، فينصرف أهل النار إلى النار ، وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة ، فكانت قيلولتهم في الجنة ، وأطعموا كبد الحوت فأشبعهم كلهم فذلك قوله . أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .

وذكر نحوه القرطبي مرفوعا وقال : ذكره المهدوي . والظاهر أنه لا يصح مرفوعا ، وقال القرطبي أيضا : " وذكر قاسم بن أصبغ من حديث أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] فقلت ما أطول هذا اليوم . فقال - صلى الله عليه وسلم - : والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة " وهو ضعيف أيضا ، وما ذكره عن ابن مسعود من أنه قرأ ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم معلوم أن ذلك شاذ لا تجوز القراءة به ، وأن القراءة الحق ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم [ 37 \ 68 ] .

واعلم أن قول قتادة في هذه الآية معروف مشهور ، وعليه فلا دليل في الآية لما ذكرنا ، وقول قتادة هو أن معنى قوله : وأحسن مقيلا أي منزلا ومأوى ، وهذا التفسير لا دليل فيه على القيلولة في نصف النهار كما ترى .

وقد بينا في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) وجه الجمع بين ما دل عليه قوله هنا وأحسن مقيلا من انقضاء الحساب في نصف نهار ، وبين ما دل عليه قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وذكرنا الآيات المشيرة إلى الجمع ، وبعض الشواهد العربية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:57 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (418)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 43 إلى صـ 50



[ ص: 43 ] واعلم أن المشهور في كلام العرب أن المقيل القيلولة أو مكانها ، وهي الاستراحة نصف النهار زمن الحر مثلا ، وإن لم يكن معها نوم ، ومنه قوله :

جزى الله خير الناس خير جزائه رفيقين قالا خيمتي أم معبد


أي نزلا فيها وقت القائلة ، كما قاله صاحب اللسان ، وما فسر به قتادة الآية ، من أن المقيل المنزل والمأوى ، معروف أيضا في كلام العرب . ومنه قول ابن رواحة :

اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله



فقوله : يزيل الهام عن مقيله ، يعني : يزيل الرءوس عن مواضعها من الأعناق ، ومعلوم أن المقيل فيه المحل الذي تسكن فيه الرءوس ، والظاهر أن من هذا القبيل قول أحيحة بن الجلاح الأنصاري :

وما تدري وإن أجمعت أمرا بأي الأرض يدركك المقيل



وعليه فالمعنى : بأي الأرض يدركك الثواب والإقامة بسبب الموت أو غيره من الأسباب ، وصيغة التفضيل في قوله هنا : خير مستقرا وأحسن مقيلا تكلمنا على مثلها قريبا في الكلام على قوله تعالى : قل أذلك خير أم جنة الخلد الآية [ 25 \ 15 ] .
قوله تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن السماء تتشقق يوم القيامة بالغمام ، وأن الملائكة تنزل تنزيلا . وقال القرطبي : تتشقق السماء بالغمام أي عن الغمام . قال : والباء وعن يتعاقبان كقولك : رميت بالقوس ، وعن القوس انتهى . ويستأنس لمعنى عن بقوله تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا الآية [ 50 \ 44 ] .

وهذه الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية الكريمة من تشقق السماء يوم القيامة ووجود الغمام ، وتنزيل الملائكة كلها جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما تشقق السماء يوم القيامة فقد بينه جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه كقوله تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان [ 55 \ 37 ] وقوله تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية [ 69 \ 15 - 16 ] وقوله : [ ص: 44 ] إذا السماء انشقت الآية [ 84 \ 1 ] وقوله تعالى : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت الآية [ 77 \ 8 - 9 ] فقوله : فرجت : أي شقت ، فكان فيها فروج أي شقوق كقوله ، إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] وقوله تعالى : وفتحت السماء فكانت أبوابا [ 78 \ 19 ] وأما الغمام ونزول الملائكة ، فقد ذكرهما معا في قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة الآية [ 2 \ 210 ] . وقد ذكر جل وعلا نزول الملائكة في آيات أخرى كقوله : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] وقوله تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك الآية [ 6 \ 158 ] وقوله تعالى : ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 115 \ 8 ] .

قال الزمخشري : والمعنى : أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها ، وفي الغمام الملائكة ينزلون ، وفي أيديهم صحف أعمال العباد . انتهى منه .

وقرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر : ( تشقق ) بتشديد الشين ، والباقون بتخفيفها بحذف إحدى التاءين ، وقرأ ابن كثير : ( وننزل الملائكة ) بنونين الأولى مضمومة ، والثانية ساكنة مع تخفيف الزاي ، وضم اللام ، مضارع أنزل ، والملائكة بالنصب مفعول به ، والباقون بنون واحدة وكسر الزاي المشددة ماضيا مبنيا للمفعول ، والملائكة مرفوعا نائب فاعل نزل ، والأظهر أن يوم منصوب بـ اذكر مقدرا ، كما قاله القرطبي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الملك الحق يوم القيامة له جل وعلا دون غيره ، وأن يوم القيامة كان عسيرا على الكافرين .

وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله ، أما كون الملك له يوم القيامة ، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله جل وعلا : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] وقوله : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] وقوله تعالى : وله الملك يوم ينفخ في الصور الآية [ 6 \ 73 ] إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 45 ] وأما كون يوم القيامة عسيرا على الكافرين ، فقد قدمنا الآيات الدالة عليه قريبا في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا الآية .
قوله تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا . من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية ، هو عقبة بن أبي معيط ، وأن فلانا الذي أضله عن الذكر أمية بن خلف ، أو أخوه أبي بن خلف ، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة . ليتني لم أتخذ أبيا خليلا ، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير ، لا القراءة ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر ، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى لابن أبي معيط .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحا في غيرها . فقوله : ويوم يعض الظالم على يديه كناية عن شدة الندم والحسرة ، لأن النادم ندما شديدا ، يعض على يديه ، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى في سورة يونس : وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط الآية [ 10 \ 54 ] وقوله تعالى في سورة سبأ : وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا الآية [ 34 \ 33 ] وقوله تعالى : قالوا ياحسرتنا على ما فرطنا فيها الآية [ 6 \ 31 ] . والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا ، واتخذ معه سبيلا : أي طريقا إلى الجنة في قوله هنا : يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول [ 33 \ 66 ] وقوله تعالى : يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 24 ] وقوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين [ 15 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 46 ] والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية ، ذكرت أيضا في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] وقوله تعالى : إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا [ 76 \ 29 و 33 \ 19 ] في المزمل والإنسان ، ويقرب من معناه المآب المذكور في قوله تعالى : ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا [ 78 \ 39 ] وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل ، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلا ، ذكره في غير هذا الموضع ، أما دعاء الكفار بالويل : فقد تقدم في قوله تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا [ 25 \ 13 - 14 ] وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم ، فقد ذكره أيضا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [ 2 \ 176 ] فلفظة لو في قوله لو أن لنا كرة للتمني ، ولذلك نصب الفعل المضارع بعد الفاء في قوله فنتبرأ منهم الآية . وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم ، وطاعتهم في الدنيا ، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن ، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] وقوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم الآية [ 41 \ 25 ] وقوله تعالى : : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس الآية [ 6 \ 128 ] ; وقوله تعالى : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل [ 33 \ 67 ] وقوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين الآية [ 34 \ 31 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى هنا : وكان الشيطان للإنسان خذولا الأظهر أنه من كلام الله ، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة ، والخذول صيغة مبالغة ، والعرب تقول : خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه ، ومنه قوله تعالى : وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده [ 3 \ 160 ] وقول الشاعر : [ ص: 47 ]

إن المرء ميتا بانقضاء حياته ولكن بأن يبغى عليه فيخذلا


وقول الآخر :

إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا



ومن الآيات الدالة على أن الشيطان يخذل الإنسان قوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 22 ] وقوله تعالى : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون الآية [ 8 \ 48 ] . وقوله تعالى في هذه الآية : لقد أضلني عن الذكر الأظهر أن الذكر القرآن ، وقوله : لم أتخذ فلانا العرب تطلق لفظة فلان كناية عن العلم : أي لم أتخذ أبيا أو أمية خليلا ، ويكنون عن علم الأنثى بفلانة ، ومنه قول عروة بن حزام العذري :

ألا قاتل الله الوشاة وقولهم فلانة أضحت خلة لفلان



وقوله : يعض الظالم من عضض بكسر العين في الماضي ، يعض بفتحها في المضارع على القياس ، ومنه قول الحارث بن وعلة الدهلي :

الآن لما ابيض مسربتي وعضضت من نابي على جذم



فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي ، والكسر أشهر ، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت الحارث بن وعلة المذكورين ، وربما عديت بالباء ومنه قول ابن أبي ربيعة :

فقالت وعضت بالبنان فضحتني وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر



وهذه الآية الكريمة تدل على أن قرين السوء قد يدخل قرينه النار ، والتحذير من قرين السوء مشهور معروف ، وقد بين جل وعلا في سورة الصافات أن رجلا من أهل الجنة أقسم بالله أن قرينه كاد يرديه أي يهلكه بعذاب النار ، ولكن لطف الله به فتداركه برحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار ، وذلك في قوله تعالى : قال قائل منهم إنى كان لي [ ص: 48 ] قرين يقول أئنك لمن المصدقين إلى قوله تعالى : فاطلع فرآه في سواء الجحيم قال تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين [ 37 \ 51 - 57 ] .
قوله تعالى : وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا .

معنى هذه الآية الكريمة ظاهر ، وهو أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - شكا إلى ربه هجر قومه ، وهم كفارقريش لهذا القرآن العظيم ، أي : تركهم لتصديقه والعمل به ، وهذه شكوى عظيمة ، وفيها أعظم تخويف لمن هجر هذا القرآن العظيم ، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم ، ولم يعتقد ما فيه من العقائد ، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال .

واعلم أن السبكي قال : إنه استنبط من هذه الآية الكريمة من سورة " الفرقان " مسألة أصولية ، وهي أن الكف عن الفعل فعل . والمراد بالكف الترك ، قال في طبقاته : لقد وقفت على ثلاثة أدلة تدل على أن الكف فعل لم أر أحدا عثر عليها .

أحدها : قوله تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ، فإن الأخذ : التناول ، والمهجور : المتروك ، فصار المعنى تناولوه متروكا ، أي : فعلوا تركه ، انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل صاحب " نشر البنود ، شرح مراقي السعود " ، في الكلام على قوله :

فكفنا بالنهي مطلوب النبي


قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : استنباط السبكي من هذه الآية أن الكف فعل وتفسيره لها بما يدل على ذلك ، لم يظهر لي كل الظهور ، ولكن هذا المعنى الذي زعم أن هذه الآية الكريمة دلت عليه ، وهو كون الكف فعلا دلت عليه آيتان كريمتان من سورة " المائدة " ، دلالة واضحة لا لبس فيها ، ولا نزاع . فعلى تقدير صحة ما فهمه السبكي من آية " الفرقان " هذه ، فإنه قد بينته بإيضاح الآيتان المذكورتان من سورة " المائدة " . أما الأولى منهما ، فهي قوله تعالى : لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون [ 5 \ 63 ] فترك الربانيين والأحبار نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت سماه الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة صنعا في قوله : لبئس ما كانوا يصنعون ، أي : وهو تركهم النهي المذكور ، والصنع أخص من مطلق الفعل ، فصراحة [ ص: 49 ] دلالة هذه الآية الكريمة على أن الترك فعل في غاية الوضوح كما ترى .

وأما الآية الثانية ، فهي قوله تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 \ 79 ] فقد سمى جل وعلا في هذه الآية الكريمة تركهم التناهي عن المنكر فعلا ، وأنشأ له الذم بلفظة بئس التي هي فعل جامد لإنشاء الذم في قوله : لبئس ما كانوا يفعلون [ 5 \ 97 ] أي : وهو تركهم التناهي ، عن كل منكر فعلوه ، وصراحة دلالة هذه الآية أيضا على ما ذكر واضحة ، كما ترى .

وقد دلت أحاديث نبوية على ذلك ; كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ، فقد سمى - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث ترك أذى المسلمين إسلاما ، ومما يدل من كلام العرب على أن الترك فعل قول بعض الصحابة في وقت بنائه - صلى الله عليه وسلم - لمسجده بالمدينة :

لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل



فسمى قعودهم عن العمل ، وتركهم له عملا مضللا ، وقد أشار صاحب " مراقي السعود " ، إلى أن الكف فعل على المذهب ، أي : وهو الحق . وبين فروعا مبنية على ذلك نظمها الشيخ الزقاق في نظمه المسمى بالمنهج المنتخب ، وأورد أبيات الزقاق في ذلك ، وقال : وجلبتها هنا على سبيل التضمين ، وهذا النوع يسمى استعانة ، وهو تضمين بيت فأكثر بقوله :

فكفنا بالنهي مطلوب النبي والكف فعل في صحيح المذهب
له فروع ذكرت في المنهج وسردها من بعد ذا البيت يجي
من شرب أو خيط ذكاة فضل ما وعمد رسم شهادة وما
عطل ناظر وذو الرهن كذا مفرط في العلف فادر المأخذا
وكالتي ردت بعيب وعدم وليها وشبهها مما علم



فالأبيات الثلاثة الأخيرة من نظم الشيخ الزقاق المسمى بالمنهج المنتخب ، وفيها بعض الفروع المبنية على الخلاف في الكف ، هل هو فعل ، وهو الحق أو لا ؟ وقول الزقاق في الأول من أبياته من شرب متعلق بقوله قبله :

وهل كمن فعل تارك كمن له بنفع قدرة لكن كمن



من شرب . . إلخ .

[ ص: 50 ] فقوله : من شرب بيان للنفع الكامن في قوله :

له بنفع قدرة لكن كمن
، أي : لكنه ترك النفع مع قدرته عليه ، فتركه له كفعله لما حصل بسبب تركه من الضرر على القول بأن الترك فعل ، ومراده بقوله : من شرب أن من عنده فضل شراب ، وترك إعطاءه لمضطر حتى مات عطشا ، فعلى أن الترك فعل يضمن ديته ، وعلى أنه ليس بفعل ، فلا ضمان عليه ، وفضل الطعام كفضل الشراب في ذلك ، وقوله : أو خيط يعني أن من منع خيطا عنده ممن شق بطنه ، أو كانت به جائفة ، حتى مات ضمن الدية على القول بأن الترك فعل ، وعلى عكسه فلا ضمان ، وقوله : ذكاة ، يعني : أن من مر بصيد لم ينفذ مقتله وأمكنته تذكيته فلم يذكه حتى مات ، هل يضمنه أو لا ؟ على الخلاف المذكور .

وقوله : فضل ما ، يعني : أن من عنده ماء فيه فضل عن سقي زرعه ولجاره زرع ولا ماء له إذا منع منه الماء حتى هلك زرعه ، هل يضمنه أو لا ؟ على الخلاف المذكور ، وقوله : وعمد ، يعني : أنه إذا كانت عنده عمد جمع عمود ، فمنعها من جار له جدار يخاف سقوطه حتى سقط ، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : رسم شهادة ، يعني : أن من منع وثيقة فيها الشهادة بحق حتى ضاع الحق ، هل يضمنه أو لا ؟ وقوله : وما عطل ناظر ، يعني : أن الناظر على مال اليتيم مثلا إذا عطل دوره فلم يكرها ، حتى فات الانتفاع بكرائها زمنا أو ترك الأرض حتى تبورت هل يضمن أو لا ؟ وقوله : وذو الرهن : يعني إذا عطل المرتهن كراء الرهن ، حتى فات الانتفاع به زمنا ، وكان كراؤه له أهمية ، هل يضمن أو لا ؟ وقوله : كذا مفرط في العلف : يعني أن من ترك دابة عند أحد ومعها علفها ، وقال له : قدم لها العلف ، فترك تقديمه لها حتى ماتت ، هل يضمن أو لا ؟ والعلف في البيت بسكون الثاني ، وهو تقديم العلف بفتح الثاني .

وقوله :

وكالتي ردت بعيب وعدم
وليها : يعني أن الولي القريب إذا زوج وليته ، وفيها عيب يوجب رد النكاح وسكتت الزوجة ، ولم تبين عيب نفسها وفلس الولي هل يرجع الزوج على الزوجة بالصداق أو لا ؟ فهذه الفروع وما شابهها مبنية على الخلاف في الكف هل هو فعل أو لا ؟ والصحيح أن الكف فعل ، كما دل عليه الكتاب والسنة واللغة ; كما تقدم إيضاحه . وعليه : فالصحيح لزوم الضمان ، فيما ذكر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg








(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 09:57 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (419)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 51 إلى صـ 58



قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا .

لما شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه في قوله : وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا [ ص: 51 ] القرآن مهجورا ، أنزل الله قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا الآية [ 25 \ 31 ] تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ، أي : كما جعلنا الكفار أعداء لك يكذبونك ، ويتخذون القرآن الذي أنزل إليك مهجورا ، كذلك الجعل : جعلنا لكل نبي عدوا ، أي : جعلنا لك أعداء ، كما جعلنا لكل نبي عدوا .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا الآية ، قد قدمنا إيضاحه في " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس الآية [ 6 \ 112 ] وقوله تعالى : وكفى بربك هاديا ونصيرا ، قد قدمنا الكلام مستوفى على كفى اللازمة والمتعدية بشواهده العربية في سورة " الإسراء " ، في الكلام على قوله : كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 41 ] وقوله : وكفى بربك هاديا ، جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله : من يهد الله فهو المهتدي [ 17 \ 97 ] وقوله تعالى : قل إن هدى الله هو الهدى [ 6 \ 71 ] وقوله : ونصيرا ، أي : وكفى بربك نصيرا ، جاء معناه أيضا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده [ 3 \ 160 ] .
قوله تعالى : كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا .

تقدمت الآيات التي بمعناه في آخر سورة " الإسراء " ، في الكلام على قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث الآية [ 17 \ 106 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كذلك لنثبت به فؤادك ، أي : كذلك الإنزال مفرقا بحسب الوقائع أنزلناه لا جملة كما اقترحوا ، وقوله : لنثبت به فؤادك ، أي : أنزلناه مفرقا ، لنثبت فؤادك بإنزاله مفرقا .
قال بعضهم : معناه لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه ; لأن حفظه شيئا فشيئا أسهل من حفظه مرة واحدة ، ولو نزل جملة واحدة .
وقال بعضهم : ومما يؤكد ذلك أنه صلوات الله وسلامه عليه أمي لا يقرأ ولا يكتب .
قوله تعالى : الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا .

[ ص: 52 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار يحشرون على وجوههم إلى جهنم يوم القيامة ، وأنهم شر مكانا وأضل سبيلا . وبين في مواضع أخر أنهم تكب وجوههم في النار ويسحبون على وجوههم فيها ; كقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار [ 27 \ 90 ] وقوله تعالى : يوم تقلب وجوههم في النار الآية [ 33 \ 66 ] وقوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر [ 54 \ 48 ] وبين جل وعلا في سورة " بني إسرائيل " أنهم يحشرون على وجوههم ، وزاد مع ذلك أنهم يحشرون عميا وبكما وصما ، وذكر في سورة " طه " ، أن الكافر يحشر أعمى ، قال في سورة " بني إسرائيل " : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] وقال في سورة " طه " : ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها الآية [ 20 \ 124 - 126 ] .

وقد بينا وجه الجمع في آية " بني إسرائيل " ، وآية " طه " المذكورتين مع الآيات الدالة على أن الكفار يوم القيامة يبصرون ويتكلمون ويسمعون ; كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] وقوله تعالى : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : ونحشره يوم القيامة أعمى ، وكذلك بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في الكلام على آية " بني إسرائيل " المذكورة .

وصيغة التفضيل في قوله : أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ، قد قدمنا الكلام في مثلها في الكلام على قوله : أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون [ 25 \ 15 ] والمكان محل الكينونة . والظاهر أنه يكون حسيا ومعنويا . فالحسي ظاهر ، والمعنوي ; كقوله تعالى : قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا الآية [ 12 \ 77 ] والسبيل الطريق وتذكر وتؤنث كما تقدم ، ومن تذكير السبيل قوله تعالى : وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا [ 7 \ 146 ] ومن تأنيثها قوله تعالى : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة الآية [ 12 \ 108 ] .
[ ص: 53 ] قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [ 19 \ 52 ] .
قوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية . قد قدمنا بعض الآيات الدالة على كيفية إغراقهم في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا [ 7 \ 64 ] .
قوله تعالى : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا . الأظهر عندي أن قوله : وعادا وثمود معطوف على قوله : وقوم نوح ، وأن قوم نوح مفعول به لأغرقنا محذوفة دل عليها قوله بعده : أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ، على حد قوله في " الخلاصة " :

فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد ذكرا



أي : أهلكنا قوم نوح بالغرق ، وأهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرس ، وقرونا بين ذلك كثيرا ، أي : وأهلكنا قرونا كثيرة بين ذلك المذكور من قوم نوح ، وعاد وثمود .

والأظهر أن القرون الكثير المذكور بعد قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقبل أصحاب الرس وقد دلت آية من سورة " إبراهيم " على أن بعد عاد ، وثمود ، خلقا كفروا وكذبوا الرسل ، وأنهم لا يعلمهم إلا الله جل وعلا .

وتصريحه بأنهم بعد عاد وثمود يوضح ما ذكرنا ، وذلك في قوله تعالى : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .

وقد قدمنا كلام أهل العلم في معنى قوله : فردوا أيديهم في أفواههم ، والإشارة في قوله : بين ذلك ، راجعة إلى عاد وثمود وأصحاب الرس ، أي : بين ذلك المذكور [ ص: 54 ] ورجوع الإشارة ، أو الضمير بالإفراد مع رجوعهما إلى متعدد باعتبار المذكور أسلوب عربي معروف ، ومنه في الإشارة قوله تعالى : قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] أي : ذلك المذكور من الفارض والبكر ، وقوله تعالى : وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] أي : بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر ، وقول عبد الله بن الزبعرى السهمي :

إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل



أي : وكلا ذلك المذكور من الخير والشر ، ومنه في الضمير قول رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق



أي : كأنه ، أي : ما ذكر من خطوط السواد والبلق ، وقد قدمنا هذا البيت .

أما عاد وثمود فقد جاءت قصة كل منهما مفصلة في آيات متعددة . وأما أصحاب الرس فلم يأت في القرآن تفصيل قصتهم ولا اسم نبيهم ، وللمفسرين فيهم أقوال كثيرة تركناها لأنها لا دليل على شيء منها .

والرس في لغة العرب : البئر التي ليست بمطوية ، وقال الجوهري في " صحاحه " : إنها البئر المطوية بالحجارة ، ومن إطلاقها على البئر قول الشاعر :

وهم سائرون إلى أرضهم فيا ليتهم يحفرون الرساسا



وقول النابغة الجعدي :

سبقت إلى فرط ناهل تنابلة يحفرون الرساسا



والرساس في البيتين جمع رس ، وهي البئر ، والرس واد في قول زهير في معلقته :

بكرن بكورا واستحرن بسحرة فهن لوادي الرس كاليد للفم

وقوله في هذه الآية : وقرونا بين ذلك كثيرا ، جمع قرن ، وهو هنا الجيل من الناس الذي اقترنوا في الوجود في زمان من الأزمنة .
قوله تعالى وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كلا من الماضين المهلكين من قوم نوح ، [ ص: 55 ] وعاد ، وثمود ، وأصحاب الرس ، والقرون الكثيرة بين ذلك : أنه ضرب لكل منهم الأمثال ليبين لهم الحق بضرب المثل ; لأنه يصير به المعقول كالمحسوس ، وأنه جل وعلا تبر كلا منهم تتبيرا ، أي : أهلكهم جميعا إهلاكا مستأصلا ، والتتبير : الإهلاك والتكسير ، ومنه قوله تعالى : وليتبروا ما علوا تتبيرا [ 17 \ 7 ] وقوله تعالى : إن هؤلاء متبر ما هم فيه [ 7 \ 139 ] أي : باطل ، وقوله تعالى : ولا تزد الظالمين إلا تبارا [ 71 \ 28 ] أي : هلاكا ، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما أنه جل وعلا ضرب لكل منهم الأمثال ، وأنه تبرهم كلهم تتبيرا جاءا مذكورين في غير هذا الموضع .

أما ضربه الأمثال للكفار ، فقد ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " إبراهيم " : أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال [ 14 \ 44 - 45 ] . وأما تتبيره جميع الأمم لتكذيبها رسلها ، فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى في سورة " الأعراف " : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] وقوله تعالى في سورة " سبأ " : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] وقوله في " الزخرف " : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] وقوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث الآية [ 23 \ 44 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع الأمم كذبوا رسلهم ، وأن الله أهلكهم بسبب ذلك ، وقد بين جل وعلا في آية أخرى أن هذا العموم لم يخرج منه إلا قوم يونس دون غيرهم ، وذلك في قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 148 ] وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه ضرب الأمثال لكل منهم ، لم يبين فيه هنا هل ضرب الأمثال أيضا لهذه الأمة الكريمة التي هي آخر الأمم في هذا القرآن ، كما ضربها لغيرهم من الأمم ، ولكنه تعالى بين في آيات كثيرة أنه [ ص: 56 ] ضرب لهذه الأمة الأمثال في هذا القرآن العظيم ، ليتفكروا بسببها ، وبين أنها لا يعقلها إلا أهل العلم ، وأن الله يهدي بها قوما ، ويضل بها آخرين .

وهذه الآيات الدالة على ذلك كله ، فمنها قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] وقوله تعالى : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون [ 39 \ 27 ] وقوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] وقوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] وقوله تعالى : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له الآية [ 22 \ 73 ] والآيات الدالة على ذلك كثيرة معلومة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا .

أقسم جل وعلا في هذه الآية ، أن الكفار الذين كذبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - قد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء ، وهو أن الله أمطر عليها حجارة من سجيل ، وهي سذوم قرية قوم لوط ، وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة ، وهما أن الله أمطر هذه القرية مطر السوء الذي هو حجارة السجيل ، وأن الكفار أتوا عليها ، ومروا بها جاء موضحا في آيات أخرى .

أما كون الله أمطر عليها الحجارة المذكورة ، فقد ذكره جل وعلا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 \ 74 ] وبين في سورة " الذاريات " ، أن السجيل المذكور نوع من الطين ، وذلك في قوله تعالى : إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين [ 51 \ 32 - 33 ] ولا شك أن هذا الطين وقعه أليم ، شديد مهلك ; وكقوله تعالى : وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين [ 26 \ 173 ] وقوله تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل الآية [ 15 \ 72 - 74 ] .

[ ص: 57 ] وأما كونهم قد أتوا على تلك القرية المذكورة ، فقد جاء موضحا أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] والمراد بأنهم مروا على قرية قوم لوط ، وأن مرورهم عليها ، ورؤيتهم لها خالية من أهلها ليس فيها داع ، ولا مجيب ; لأن الله أهلك أهلها جميعا لكفرهم وتكذيبهم رسوله لوطا ، فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن تكذيب نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، لئلا ينزل بالذين كذبوه مثل ما نزل بقوم لوط من العذاب والهلاك ، وبذا وبخهم على عدم الاعتبار بما أنزل بها من العذاب ; كقوله في آية " الصافات " المذكورة : أفلا تعقلون ، وكقوله تعالى في آية " الفرقان " هذه : أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا ، فقوله : أفلم يكونوا يرونها توبيخ لهم على عدم الاعتبار ; كقوله في الآية الأخرى : أفلا تعقلون ، ومعلوم أنهم يمرون عليها مصبحين ، وبالليل وأنهم يرونها ; وكقوله تعالى : وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 74 - 76 ] يعني : أن ديار قوم لوط بسبيل مقيم ، أي : بطريق مقيم ، يمرون فيه عليها في سفرهم إلى الشام ، وقوله تعالى : بل كانوا لا يرجون نشورا ، أي : لا يخافون بعثا ولا جزاء ، أو لا يرجون بعثا وثوابا .
قوله تعالى : وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها . تقدم إيضاحه في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله تعالى : وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون [ 14 \ 36 ] وما قالوه هنا من أنهم صبروا على آلهتهم ، بين في سورة " ص " أن بعضهم أمر به بعضا ، في قوله تعالى : وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم الآية [ 38 \ 6 ] .
قوله تعالى : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا . قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، أي : مهما استحسن من شيء ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه ، إلى أن قال : قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا ، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول ، اه منه .

[ ص: 58 ] وذكر صاحب " الدر المنثور " : أن ابن أبي حاتم وابن مردويه أخرجا عن ابن عباس أن عبادة الكافر للحجر الثاني مكان الأول هي سبب نزول هذه الآية ، ثم قال صاحب " الدر المنثور " : وأخرج ابن مردويه عن أبي رجاء العطاردي ، قال : كانوا في الجاهلية يأكلون الدم بالعلهز ويعبدون الحجر ، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه ، رموا به وعبدوا الآخر ، فإذا فقدوا الآخر أمروا مناديا فنادى : أيها الناس إن إلهكم قد ضل فالتمسوه ، فأنزل الله هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، وأخرج ابن منذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، قال : ذلك الكافر اتخذ دينه بغير هدى من الله ولا برهان .

وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن الحسن : أرأيت من اتخذ إلهه هواه قال : لا يهوى شيئا إلا تبعه .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن قتادة : أرأيت من اتخذ إلهه هواه ، قال : كلما هوى شيئا ركبه ، وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ، ولا تقوى .

وأخرج عبد بن حميد عن الحسن ، أنه قيل له : أفي أهل القبلة شرك ؟ قال : نعم ، المنافق مشرك ، إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله ، وإن المنافق عبد هواه ، ثم تلا هذه الآية : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا .

وأخرج الطبراني عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله أعظم عند الله من هوى متبع " ، انتهى محل الغرض من كلام صاحب " الدر المنثور " .

وإيضاح أقوال العلماء المذكورة في هذه الآية أن الواجب الذي يلزم العمل به ، هو أن يكون جميع أفعال المكلف مطابقة لما أمره به معبوده جل وعلا ، فإذا كانت جميع أفعاله تابعة لما يهواه ، فقد صرف جميع ما يستحقه عليه خالقه من العبادة والطاعة إلى هواه ، وإذن فكونه اتخذ إلهه هواه في غاية الوضوح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-11-25, 10:03 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (420)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 59 إلى صـ 66



وإذا علمت هذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فاعلم : أن الله جل وعلا بينه في غير هذا الموضع ، في قوله : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله الآية [ 45 \ 23 ] [ ص: 59 ] وقوله تعالى : أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء الآية [ 35 \ 8 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أفأنت تكون عليه وكيلا ، استفهام إنكار فيه معنى النفي .

والمعنى : أن من أضله الله فاتخذ إلهه هواه ، لا تكون أنت عليه وكيلا ، أي : حفيظا تهديه وتصرف عنه الضلال الذي قدره الله عليه ; لأن الهدى بيد الله وحده لا بيدك ، والذي عليك إنما هو البلاغ ، وقد بلغت .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] وقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] وقوله تعالى : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار [ 39 \ 19 ] وقوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله الآية [ 10 \ 99 - 100 ] وقوله في آية " فاطر " المذكورة آنفا : فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 \ 8 ] وقوله تعالى في آية " الجاثية " المذكورة آنفا أيضا : فمن يهديه من بعد الله الآية [ 45 \ 23 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا . أم ، في هذه الآية الكريمة هي المنقطعة وأشهر معانيها أنها جامعة بين معنى بل الإضرابية ، واستفهام الإنكار معا ، والإضراب المدلول عليه بها هنا إضراب انتقالي .

والمعنى : بل تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ، أي : لا تعتقد ذلك ولا تظنه ، فإنهم لا يسمعون الحق ولا يعقلونه ، أي : لا يدركونه بعقولهم : إن هم إلا كالأنعام ، أي : ما هم إلا كالأنعام ، التي هي الإبل والبقر والغنم في عدم سماع الحق وإدراكه ، بل هم أضل من الأنعام ، أي : أبعد عن فهم الحق وإدراكه .

[ ص: 60 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل هم أضل سبيلا ، قال الزمخشري : فإن قلت : كيف جعلوا أضل من الأنعام ؟

قلت : لأن الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهدها ، وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها ، وتجتنب ما يضرها ، وتهتدي لمراعيها ومشاربها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إسارة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي ، اه منه .

وإذا علمت ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فاعلم أن الله بينه في غير الموضع ، ; كقوله تعالى في سورة " الأعراف " : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [ 7 \ 179 ] وقوله تعالى في " البقرة " : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون [ 2 171 ] .
قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي جعل لخلقه الليل لباسا ، والنوم سباتا ، وجعل لهم النهار نشورا ، أما جعله لهم الليل لباسا ، فالظاهر أنه لما جعل الليل يغطي جميع من في الأرض بظلامه صار لباسا لهم ، يسترهم كما يستر اللباس عورة صاحبه ، وربما انتفعوا بلباس الليل كهروب الأسير المسلم من الكفار في ظلام الليل ، واستتاره به حتى ينجو منهم ، ونحو ذلك من الفوائد التي تحصل بسبب لباس الليل ; كما قال أبو الطيب المتنبي :

وكم لظلام الليل عندي من يد تخبر أن المانوية تكذب وقاك ردى الأعداء تسري إليهم
وزارك فيه ذو الدلال المحجب


وأما جعله لهم النوم سباتا ، فأكثر المفسرين على أن المراد بالسبات : الراحة من تعب العمل بالنهار ; لأن النوم يقطع العمل النهاري ، فينقطع به التعب ، وتحصل الاستراحة ، كما هو معروف .

وقال الجوهري في " صحاحه " : السبات النوم وأصله الراحة ، ومنه قوله تعالى : [ ص: 61 ] وجعلنا نومكم سباتا [ 78 \ 9 ] وقال الزمخشري في " الكشاف " : والسبات : الموت ، والمسبوت : الميت ; لأنه مقطوع الحياة ، وهذا كقوله : وهو الذي يتوفاكم بالليل .

فإن قلت : هلا فسرته بالراحة ؟ .

قلت : النشور في مقابلته يأباه إباء العيوف الورد ، وهو مرنق ، اه محل الغرض منه .

وإيضاح كلامه : أن النشور هو الحياة بعد الموت ، كما تقدم إيضاحه . وعليه فقوله : وجعل النهار نشورا ، أي : حياة بعد الموت ، وعليه فالموت هو المعبر عنه بالسبات في قوله : والنوم سباتا ، وإطلاق الموت على النوم معروف في القرآن العظيم ; كقوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه [ 6 \ 60 ] وقوله : ثم يبعثكم فيه فيه دليل على ما ذكره الزمخشري ; لأن كلا من البعث والنشور يطلق على الحياة بعد الموت ; وكقوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى [ 39 \ 42 ] وقال الجوهري في " صحاحه " : والمسبوت الميت والمغشي عليه ، اه .

والذين قالوا : إن السبات في الآية الراحة بسبب النوم من تعب العمل بالنهار ، قالوا : إن معنى قوله تعالى : وجعل النهار نشورا ، أنهم ينشرون فيه لمعايشهم ، ومكاسبهم ، وأسبابهم . والظاهر أن هذا التفسير فيه حذف مضاف ، أو هو من النعت بالمصدر ، وهذا التفسير يدل عليه قوله تعالى : وجعلنا النهار معاشا [ 78 \ 11 ] وقوله تعالى في " القصص " : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [ 28 \ 73 ] أي : لتسكنوا في الليل ، ولتبتغوا من فضله بالنهار في السعي للمعاش .

وإذا علمت هذا ، فاعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا [ 28 \ 9 - 11 ] وقوله تعالى : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 28 \ 71 - 73 ] .

[ ص: 62 ] وقوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب الآية [ 17 \ 12 ] .

وقد أوضحنا هذا في الكلام على هذه الآية .

وكقوله تعالى : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [ 92 \ 1 - 2 ] وقوله تعالى : والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها [ 91 \ 3 - 4 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وفي الآيات المذكورة بيان أن الليل والنهار آيتان من آياته ، ونعمتان من نعمه جل وعلا .
قوله تعالى : وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته .

قد قدمنا الآية الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] على قراءة من قرأ بشرا بالباء .

وآية " الأعراف " ، وآية " الفرقان " المذكورتان تدلان على أن المطر رحمة من الله لخلقه .

وقد بين ذلك في مواضع أخر ; كقوله تعالى : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] وقوله تعالى : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته الآية [ 42 \ 28 ] .
قوله تعالى : ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا .

التحقيق : أن الضمير في قوله : ولقد صرفناه ، راجع إلى ماء المطر المذكور في قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا ، كما روي عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة وغير واحد ، خلافا لمن قال : إن الضمير المذكور [ ص: 63 ] راجع إلى القرآن ، كما روي عن عطاء الخراساني وصدر به القرطبي ، وصدر الزمخشري بما يقرب منه .

وإذا علمت أن التحقيق أن الضمير في : صرفناه ، عائد إلى ماء المطر .

فاعلم أن المعنى : ولقد صرفنا ماء المطر بين الناس فأنزلنا مطرا كثيرا في بعض السنين على بعض البلاد ، ومنعنا المطر في بعض السنين عن بعض البلاد ، فيكثر الخصب في بعضها ، والجدب في بعضها الآخر ، وقوله : ليذكروا ، أي : صرفناه بينهم لأجل أن يتذكروا ، أي : يتذكر الذين أخصبت أرضهم لكثرة المطر نعمة الله عليهم ، فيشكروا له ، ويتذكر الذين أجدبت أرضهم ما نزل بهم من البلاء ، فيبادروا بالتوبة إلى الله جل وعلا ليرحمهم ويسقيهم ، وقوله : فأبى أكثر الناس إلا كفورا ، أي : كفرا لنعمة من أنزل عليهم المطر ، وذلك بقولهم : مطرنا بنوء كذا .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، أشار له جل وعلا في سورة " الواقعة " ، في قوله تعالى : وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون [ 56 \ 82 ] فقوله : رزقكم ، أي : المطر ; كما قال تعالى : وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] وقوله : أنكم تكذبون ، أي : بقولكم : مطرنا بنوء كذا ، ويزيد هذا إيضاحا الحديث الثابت في صحيح مسلم ، وقد قدمناه بسنده ومتنه مستوفى ، وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل : " أتدرون ماذا قال ربكم " ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " قال : أصبح عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب . وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب " .

وقد قدمنا أن قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فأبى أكثر الناس إلا كفورا ، يدخل فيه من قال : مطرنا بنوء كذا . ومن قال : مطرنا بالبخار ، يعني أن البحر يتصاعد منه بخار الماء ، ثم يتجمع ثم ينزل على الأرض بمقتضى الطبيعة لا بفعل فاعل ، وأن المطر منه ; كما تقدم إيضاحه فسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
قوله تعالى : ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا .

[ ص: 64 ] المعنى : لو شئنا لخففنا عنك أعباء الرسالة ، وبعثنا في كل قرية نذيرا يتولى مشقة إنذارها عنك ، أي : ولكننا اصطفيناك ، وخصصناك بعموم الرسالة لجميع الناس تعظيما لشأنك ، ورفعا من منزلتك ، فقابل ذلك بالاجتهاد والتشدد التام في إبلاغ الرسالة ، و لا تطع الكافرين الآية .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من اصطفائه - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة لجميع الناس ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] وقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس [ 34 \ 28 ] وقوله : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] وقوله : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده الآية [ 11 \ 17 ] .

وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] وقوله : فلا تطع الكافرين ، ذكره أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : ولا تطع الكافرين والمنافقين الآية [ 33 \ 48 ] وقوله : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] وقوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه الآية [ 18 \ 28 ] وقوله تعالى : ولا تطع كل حلاف مهين [ 68 \ 10 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : وجاهدهم به ، أي : بالقرآن ، كما روي عن ابن عباس .

والجهاد الكبير المذكور في هذه الآية هو المصحوب بالغلظة عليهم ; كما قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة الآية [ 9 \ 123 ] وقال تعالى : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ 9 \ 73 ] وقوله تعالى : فلا تطع الكافرين ، من المعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يطيع الكافرين ، ولكنه يأمر وينهى ليشرع لأمته على لسانه ، كما أوضحناه في سورة " بني إسرائيل " .
قوله تعالى : وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا .

[ ص: 65 ] اعلم أن لفظة : مرج ، تطلق في اللغة إطلاقين :

الأول : مرج بمعنى : أرسل وخلى ، من قولهم : مرج دابته إذا أرسلها إلى المرج ، وهو الموضع الذي ترعى فيه الدواب ; كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :

وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء


وعلى هذا ، فالمعنى : أرسل البحرين وخلاهما لا يختلط أحدهما بالآخر .

والإطلاق الثاني : مرج بمعنى : خلط ، ومنه قوله تعالى : في أمر مريج ، أي : مختلط ، فعلى القول الأول : فالمراد بالبحرين الماء العذب في جميع الدنيا ، والماء الملح في جميعها .

وقوله : هذا عذب فرات ، يعني : به ماء الآبار والأنهار والعيون في أقطار الدنيا .

وقوله : وهذا ملح أجاج ، أي : البحر الملح ، كالبحر المحيط وغيره من البحار التي هي ملح أجاج ، وعلى هذا التفسير فلا إشكال .

وأما على القول الثاني بأن مرج بمعنى خلط ، فالمعنى : أنه يوجد في بعض المواضع اختلاط الماء الملح والماء العذب في مجرى واحد ، ولا يختلط أحدهما بالآخر ، بل يكون بينهما حاجز من قدرة الله تعالى ، وهذا محقق الوجود في بعض البلاد ، ومن المواضع التي هو واقع فيها المحل الذي يختلط فيه نهر السنغال بالمحيط الأطلسي بجنب مدينة سان لويس ، وقد زرت مدينة سان لويس عام ست وستين وثلاثمائة وألف هجرية ، واغتسلت مرة في نهر السنغال ، ومرة في المحيط ، ولم آت محل اختلاطهما ، ولكن أخبرني بعض المرافقين الثقات أنه جاء إلى محل اختلاطهما ، وأنه جالس يغرف بإحدى يديه عذبا وفراتا ، وبالأخرى ملحا أجاجا ، والجميع في مجرى واحد ، لا يختلط أحدهما بالآخر ، فسبحانه جل وعلا ما أعظمه ، وما أكمل قدرته .

وهذا الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " فاطر " : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج [ 35 \ 12 ] وقوله تعالى : مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان [ ص: 66 ] [ 55 \ 19 - 20 ] أي : لا يبغي أحدهما على الآخر فيمتزج به ، وهذا البرزخ الفاصل بين البحرين المذكور في سورة " الفرقان " و سورة " الرحمن " ، قد بين تعالى في سورة " النمل " أنه حاجز حجز به بينهما ، وذلك في قوله جل وعلا : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 27 \ 61 ] وهذا الحاجز هو اليبس من الأرض الفاصل بين الماء العذب ، والماء الملح على التفسير الأول .

وأما على التفسير الثاني : فهو حاجز من قدرة الله غير مرئي للبشر ، وأكد شدة حجزه بينهما بقوله هنا : وحجرا محجورا ، والظاهر أن قوله هنا : حجرا ، أي : منعا وحراما قدريا ، وأن محجورا توكيد له ، أي : منعا شديدا للاختلاط بينهما ، وقوله : هذا عذب ، صفة مشبهة من قولهم : عذب الماء بالضم فهو عذب . وقوله : فرات صفة مشبهة أيضا ، من فرت الماء بالضم ، فهو فرات ، إذا كان شديد العذوبة ، وقوله : وهذا ملح ، صفة مشبهة أيضا من قولهم : ملح الماء بالضم والفتح ، فهو ملح .

قال الجوهري في " صحاحه " : ولا يقال مالح إلا في لغة ردية ، اه .

وقد أجاز ذلك بعضهم ، واستدل له بقول القائل :

ولو تفلت في البحر والبحر مالح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا

وقوله : أجاج ، صفة مشبهة أيضا ، من قولهم : أج الماء يؤج أجوجا فهو أجاج ، أي : ملح مر ، فالوصف بكونه أجاجا يدل على زيادة المرارة على كونه ملحا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا .

قال الزمخشري في " الكشاف " ، في تفسير هذه الآية الكريمة : فقسم البشر قسمين ، ذوي نسب ، أي : ذكورا ينسب إليهم ، فيقال : فلان بن فلان وفلانة بنت فلان ، وذوات صهر ، أي : إناثا يطاهر بهن ; كقوله : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 39 ] وكان ربك قديرا ، حيث خلق من النطفة الواحدة بشرا نوعين ذكرا وأنثى ، انتهى منه .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg







(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)

ابو وليد البحيرى
2022-12-28, 11:19 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (421)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 67 إلى صـ 74



[ ص: 67 ] وهذا التفسير الذي فسر به الآية ، يدل له ما استدل عليه به ، وهو قوله تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 37 - 39 ] وهو دليل على أن آية " الفرقان " هذه بينتها آية " القيامة " المذكورة ، وفي هذه الآية الكريمة أقوال أخر غير ما ذكره الزمخشري .

منها ما ذكر ابن كثير ، قال : فجعله نسبا وصهرا ، فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصهر صهرا ، وانظر بقية الأقوال في الآية في تفسير القرطبي و " الدر المنثور " للسيوطي .
مسألة .

استنبط بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن بنت الرجل من الزنى ، لا يحرم عليه نكاحها . قال ابن العربي المالكي في هذه الآية : والنسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى ، على وجه الشرع ، فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ، ولم يكن نسبا محققا ، ولذلك لم يدخل تحت قوله : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] بنته من الزنى ; لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا ، وأصح القولين في الدين ، وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا ، فلا يحرم الزنى بنت أم ، ولا أم بنت ، وما يحرم من الحلال ، لا يحرم من الحرام ; لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما ، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما ، فلا يلحق الباطل بهما ، ولا يساويهما ، انتهى منه بواسطة نقل القرطبي عنه .

وقال القرطبي : اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى ، أو أخته ، أو بنت ابنه من زنى فحرم ذلك قوم ، منهم : ابن القاسم وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، وأجاز ذلك آخرون ، منهم : عبد الملك بن الماجشون ، وهو قول الشافعي ، وقد مضى هذا في " النساء " مجودا ، انتهى منه .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الخلاف في هذه المسألة مشهور معروف ، وأرجح القولين دليلا فيما يظهر أن الزنى لا يحرم به حلال ، فبنته من الزنى ليست بنتا له شرعا ، وقد أجمع أهل العلم أنها لا تدخل في قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] فالإجماع على أنها لا ترث ، ولا تدخل في آيات [ ص: 68 ] المواريث ، دليل صريح على أنها أجنبية منه ، وليست بنتا شرعا ، ولكن الذي يظهر لنا أنه لا ينبغي له أن يتزوجها بحال ، وذلك لأمرين : الأول : أن كونها مخلوقة من مائه ، يجعلها شبيهة شبها صوريا بابنته شرعا ، وهذا الشبه القوي بينهما ينبغي أن يزعه عن تزويجها .

الأمر الثاني : أنه لا ينبغي له أن يتلذذ بشيء سبب وجوده معصيته لخالقه جل وعلا ، فالندم على فعل الذنب الذي هو ركن من أركان التوبة ، لا يلائم التلذذ بما هو ناشئ عن نفس الذنب ، وما ذكره عن الشافعي من أنه يقول : إن البنت من الزنى لا تحرم ، هو مراد الزمخشري بقوله :

وإن شافعيا قلت قالوا بأنني أبيح نكاح البنت والبنت تحرم
تنبيه .

اعلم أن ما ذكره صاحب " الدر المنثور " عن قتادة مما يقتضي أنه استنبط من قوله تعالى في هذه الآية : فجعله نسبا وصهرا ، أن الصهر كالنسب في التحريم ، وأن كل واحد منهما تحرم به سبع نساء لم يظهر لي وجهه ، ومما يزيده عدم ظهور ضعف دلالة الاقتران عند أهل الأصول ; كما تقدم إيضاحه مرارا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم .

تقدم إيضاحه في سورة " الحج " ، وغيرها . قوله تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا . الظهير في اللغة : المعين ، ومنه قوله تعالى : والملائكة بعد ذلك ظهير [ 66 \ 4 ] وقوله تعالى : قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [ 28 \ 17 ] .

ومعنى قوله في هذه الآية الكريمة : وكان الكافر على ربه ظهيرا ، على أظهر الأقوال : وكان الكافر معينا للشيطان ، وحزبه من الكفرة على عداوة الله ورسله ، فالكافر من حزب الشيطان يقاتل في سبيله أولياء الله ، الذين يقاتلون في سبيل الله ، فالكافر يعين الشيطان وحزبه في سعيهم ; لأن تكون كلمة الله ليست هي العليا ، وهذا المعنى دلت عليه [ ص: 69 ] آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] ومعلوم أن الذي يقاتل في سبيل الطاغوت ، المقاتلين في سبيل الله ، أنه على ربه ظهير .

وقوله تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون [ 36 \ 74 - 75 ] على قول من قال : إن الجند المحضرون هم الكفار ، يقاتلون عن آلهتهم ويدافعون عنها ، ومن قاتل عن الأصنام مدافعا عن عبادتها ، فهو على ربه ظهير ، وكونه ظهيرا على ربه ، أي : معينا للشيطان وحزبه على عداوة الله ورسله ; ككونه عدوا له المذكور في قوله تعالى : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [ 2 \ 98 ] وقوله تعالى : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون [ 41 \ 19 ] ومعلوم بالضرورة أن جميع الخلق لو تعاونوا على عداوة الله لا يمكن أن يضروه بشيء ، وإنما يضرون بذلك أنفسهم : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] .
قوله تعالى : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا .

قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " الأعراف " ، وأول سورة " الكهف " .

قوله تعالى : وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : وتوكل على الحي الذي لا يموت .

قد قدمنا الآيات الموضحة لمثله في سورة " الفاتحة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإياك نستعين [ 1 \ 5 ] .

قوله تعالى : وكفى به بذنوب عباده خبيرا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : [ ص: 70 ] وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا [ 17 \ 17 ] .
قوله تعالى : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام .

قد قدمنا الآية التي فيها تفصيل ذلك في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام [ 7 \ 54 ] .

قوله تعالى : ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا .

قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش الآية [ 7 \ 54 ] .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن ، أي : قال لهم ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون ، تجاهلوا الرحمن ، وقالوا : وما الرحمن ، وأنكروا السجود له تعالى ، وزادهم ذلك نفورا عن الإيمان والسجود للرحمن ، وما ذكره هنا من أنهم أمروا بالسجود له وحده جل وعلا مذكورا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [ 41 \ 37 ] .

وقوله تعالى : فاسجدوا لله واعبدوا [ 53 \ 62 ] وقد وبخهم تعالى على عدم امتثال ذلك في قوله تعالى : وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون [ 84 \ 21 ] وقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون [ 77 \ 48 ] وتجاهلهم للرحمن هنا أجابهم عنه تعالى بقوله : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [ 55 \ 1 - 4 ] .

وقوله تعالى : قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 \ 110 ] وقد قدمنا طرفا من هذا في الكلام على هذه الآية ، وقد قدمنا أيضا أنهم يعلمون أن الرحمن هو الله ، وأن تجاهلهم له تجاهل عارف ، وأدلة ذلك . وقوله هنا : وزادهم نفورا ، جاء معناه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا [ ص: 71 ] القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا [ 17 \ 41 ] وقوله تعالى : بل لجوا في عتو ونفور [ 67 \ 21 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا .

قد قدمنا كلام أهل العلم في معنى تبارك ، في أول هذه السورة الكريمة .

والبروج في اللغة : القصور العالية ، ومنه قوله تعالى : ولو كنتم في بروج مشيدة .

واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآية ، فقال بعضهم : هي الكواكب العظام . قال ابن كثير : وهو قول مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي صالح ، والحسن ، وقتادة ، ثم قال : وقيل هي قصور في السماء للحرس . ويروى هذا عن علي ، وابن عباس ، ومحمد بن كعب ، وإبراهيم النخعي ، وسليمان بن مهران الأعمش ، وهو رواية عن أبي صالح أيضا ، والقول الأول أظهر ، اللهم إلا أن تكون الكواكب العظام ، هي قصور للحرس فيجتمع القولان ; كما قال تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح [ 67 \ 5 ] اه محل الغرض من كلام ابن كثير .

وقال الزمخشري في " الكشاف " : البروج منازل الكواكب السبعة السيارة : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، سميت البروج التي هي القصور العالية ; لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها ، واشتقاق البرج من التبرج لظهور ، اه منه .

وما ذكره جل وعلا هنا من أنه جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وهو الشمس ، وقمرا منيرا ، بينه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين [ 15 \ 16 ] وقوله تعالى : والسماء ذات البروج [ 85 \ 1 ] وقوله تعالى : وجعلنا سراجا وهاجا [ 78 \ 13 ] وقوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا [ 71 \ 15 - 16 ] وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي : وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا ، بكسر السين وفتح الراء بعدها ألف على الإفراد ، وقرأه حمزة والكسائي : سرجا بضم السين والراء جمع سراج ، فعلى قراءة الجمهور بإفراد السراج ، فالمراد [ ص: 72 ] به الشمس ، بدليل قوله تعالى : وجعل الشمس سراجا [ 71 \ 16 ] وعلى قراءة حمزة والكسائي بالجمع ، فالمراد بالسرج : الشمس والكواكب العظام .

وقد قدمنا في سورة " الحجر " ، أن ظاهر القرآن أن القمر في السماء المبنية لا السماء التي هي مطلق ما علاك ; لأن الله بين في سورة " الحجر " ، أن السماء التي جعل فيها البروج هي المحفوظة ، والمحفوظة هي المبنية في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون [ 51 \ 47 ] وقوله : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] وليست مطلق ما علاك ، والبيان المذكور في سورة " الحجر " في قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها الآية [ 15 \ 16 - 17 ] فآية " الحجر " هذه دالة على أن ذات البروج هي المبنية المحفوظة ، لا مطلق ما علاك .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أنه جل وعلا في آية " الفرقان " هذه ، بين أن القمر في السماء التي جعل فيها البروج ; لأنه قال هنا : تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] وذلك دليل على أنها ليست مطلق ما علاك ، وهذا الظاهر لا ينبغي للمسلم العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم .

فإن قيل : يوجد في كلام بعض السلف ، أن القمر في فضاء بعيد من السماء ، وأن علم الهيئة دل على ذلك ، وأن الأرصاد الحديثة بينت ذلك .

قلنا : ترك النظر في علم الهيئة عمل بهدي القرآن العظيم ; لأن الصحابة رضي الله عنهم لما تاقت نفوسهم إلى تعلم هيئة القمر منه - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا له : يا نبي الله ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم لم يزل يكبر حتى يستدير بدرا ؟ نزل القرآن بالجواب بما فيه فائدة للبشر ، وترك ما لا فائدة فيه ، وذلك في قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ 2 \ 189 ] وهذا الباب الذي أرشد القرآن العظيم إلى سده لما فتحه الكفرة كانت نتيجة فتحه الكفر ، والإلحاد وتكذيب الله ورسوله من غير فائدة دنيوية ، والذي أرشد الله إليه في كتابه هو النظر في غرائب صنعه وعجائبه في السماوات والأرض ، ليستدل بذلك على كمال قدرته تعالى ، واستحقاقه للعبادة وحده ، وهذا المقصد الأساسي لم يحصل للناظرين في الهيئة من الكفار .

وعلى كل حال ، فلا يجوز لأحد ترك ظاهر القرآن العظيم إلا لدليل مقنع يجب الرجوع إليه ، كما هو معلوم في محله .

[ ص: 73 ] ولا شك أن الذين يحاولون الصعود إلى القمر بآلاتهم ، ويزعمون أنهم نزلوا على سطحه ، سينتهي أمرهم إلى ظهور حقارتهم ، وضعفهم ، وعجزهم ، وذلهم أمام قدرة خالق السماوات والأرض جل وعلا .

وقد قدمنا في سورة " الحجر " ، أن ذلك يدل عليه قوله تعالى : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب [ 38 \ 10 - 11 ] .

فإن قيل : الآيات التي استدللت بها على أن القمر في السماء المحفوظة فيها احتمال على أسلوب عربي معروف ، يقتضي عدم دلالتها على ما ذكرت ، وهو عود الضمير إلى اللفظ وحده ، دون المعنى .

وإيضاحه أن يقال في قوله : جعل في السماء بروجا ، هي السماء المحفوظة ، ولكن الضمير في قوله : وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، راجع إلى مطلق لفظ السماء الصادق بمطلق ما علاك في اللغة ، وهذا أسلوب عربي معروف وهو المعبر عنه عند علماء العربية ، بمسألة : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، ومنه قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] أي : ولا ينقص من عمر معمر آخر .

قلنا : نعم ، هذا محتمل ، ولكنه لم يقم عليه عندنا دليل يجب الرجوع إليه ، والعدول عن ظاهر القرآن العظيم لا يجوز إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، وظاهر القرآن أولى بالاتباع والتصديق من أقوال الكفرة ومقلديهم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [ 17 \ 37 ] .

قوله تعالى : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : قال سلام عليك سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] .
[ ص: 74 ] قوله تعالى : والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من أن عباده الصالحين ، يبيتون لربهم سجدا وقياما يعبدون الله ويصلون له ، بينه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه [ 39 \ 9 ] وقوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا [ 32 \ 16 ] وقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون [ 51 \ 16 - 18 ] وقوله تعالى : يبيتون ، قال الزجاج : بات الرجل يبيت ، إذا أدركه الليل ، نام أو لم ينم ، قال زهير :

فبتنا قياما عند رأس جوادنا يزاولنا عن نفسه ونزاوله قوله تعالى : والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما .

الأظهر أن معنى قوله : كان غراما ، أي : كان لازما دائما غير مفارق ، ومنه سمي الغريم لملازمته ، ويقال : فلان مغرم بكذا ، أي : لازم له ، مولع به .

وهذا المعنى دلت عليه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : ولهم عذاب مقيم [ 9 \ 68 ] وقوله : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 \ 75 ] وقوله : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] وقوله تعالى : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 \ 30 ] وقوله : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 3 \ 88 ] وقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 36 ] وقوله تعالى : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] وقوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 \ 56 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقال الزجاج : الغرام أشد العذاب . وقال ابن زيد : الغرام الشر . وقال أبو عبيدة : الهلاك ، قاله القرطبي . وقول الأعشى :

إن يعاقب يكن غراما وإن يع ط جزيلا فإنه لا يبال
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-28, 11:22 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (422)
سُورَةُ الْفُرْقَانِ .
صـ 75 إلى صـ 82



[ ص: 75 ] يعني : يكن عذابه دائما لازما ، وكذلك قول بشر بن أبي حازم :

ويوم النسار ويوم الجفا ر كانا عذابا وكانا غراما


وذلك هو الأظهر أيضا في قول الآخر :

وما أكلة إن نلتها بغنيمة ولا جوعة إن جعتها بغرام


قوله تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما .

قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر : ولم يقتروا بضم الياء المثناة التحتية وكسر التاء ، مضارع أقتر الرباعي ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية ، وكسر المثناة الفوقية ، مضارع قتر الثلاثي كضرب ، وقرأه عاصم وحمزة ، والكسائي ، ولم يقتروا بفتح المثناة التحتية ، وضم المثناة الفوقية ، مضارع قتر الثلاثي كنصر ، والإقتار على قراءة نافع وابن عامر ، والقتر على قراءة الباقين معناهما واحد ، وهو التضييق المخل بسد الخلة اللازم ، والإسراف في قوله تعالى : لم يسرفوا ، مجاوزة الحد في النفقة .

واعلم أن أظهر الأقوال في هذه الآية الكريمة ، أن الله مدح عباده الصالحين بتوسطهم في إنفاقهم ، فلا يجاوزون الحد بالإسراف في الإنفاق ، ولا يقترون ، أي : لا يضيقون فيبخلون بإنفاق القدر اللازم .

وقال بعض أهل العلم : الإسراف في الآية : الإنفاق في الحرام والباطل ، والإقتار منع الحق الواجب ، وهذا المعنى وإن كان حقا فالأظهر في الآية هو القول الأول .

قال ابن كثير - رحمه الله - : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية ، أي : ليسوا مبذرين في إنفاقهم ، فيصرفوا فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم ، فيقصروا في حقهم فلا يكفوهم بل عدلا خيارا ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا ، انتهى محل الغرض منه .

وقوله تعالى : وكان بين ذلك قواما ، أي : بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر قواما أي : عدلا وسطا سالما من عيب الإسراف والقتر .

وأظهر أوجه الإعراب عندي في الآية هو ما ذكره القرطبي ، قال : قواما خبر [ ص: 76 ] كان ، واسمها مقدر فيها ، أي : كان الإنفاق بين الإسراف والقتر قواما ، ثم قال : قاله الفراء ، وباقي أوجه الإعراب في الآية ليس بوجيه عندي ; كقول من قال : إن لفظة بين هي اسم كان ، وأنها لم ترفع لبنائها بسبب إضافتها إلى مبني ، وقول من قال : إن بين هي خبر كان ، و قواما حال مؤكدة له ، ومن قال : إنهما خبران ، كل ذلك ليس بوجيه عندي ، والأظهر الأول . والظاهر أن التوسط في الإنفاق الذي مدحهم به شامل لإنفاقهم على أهليهم ، وإنفاقهم المال في أوجه الخير .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; فمن ذلك أن الله أوصى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالعمل بمقتضاه في قوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط الآية [ 17 \ 29 ] فقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، أي : ممسكة عن الإنفاق إمساكا كليا ، يؤدي معنى قوله هنا : ولم يقتروا . وقوله : ولا تبسطها كل البسط ، يؤدي معنى قوله هنا : لم يسرفوا ، وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله : وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا [ 17 \ 26 ] وقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو الآية [ 2 \ 219 ] على أصح التفسيرين .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في أول سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون [ 2 \ 3 ] .
مسألة .

هذه الآية الكريمة التي هي قوله تعالى : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا الآية ، والآيات التي ذكرناها معها ، قد بينت أحد ركني ما يسمى الآن بالاقتصاد .

وإيضاح ذلك أنه لا خلاف بين العقلاء أن جميع مسائل الاقتصاد على كثرتها واختلاف أنواعها راجعة بالتقسيم الأول إلى أصلين ، لا ثالث لهما .

الأول منهما : اكتساب المال .

والثاني منهما : صرفه في مصارفه ، وبه تعلم أن الاقتصاد عمل مزدوج ، ولا فائدة في واحد من الأصلين المذكورين إلا بوجود الآخر ، فلو كان الإنسان أحسن الناس نظرا في [ ص: 77 ] أوجه اكتساب المال ، إلا أنه أخرق جاهل بأوجه صرفه ، فإن جميع ما حصل من المال يضيع عليه بدون فائدة ، وكذلك إذا كان الإنسان أحسن الناس نظرا في صرف المال في مصارفه المنتجة إلا أنه أخرق جاهل بأوجه اكتسابه ، فإنه لا ينفعه حسن نظره في الصرف مع أنه لم يقدر على تحصيل شيء يصرفه ، والآيات المذكورة أرشدت الناس ونبهتهم على الاقتصاد في الصرف .

وإذا علمت أن مسائل الاقتصاد كلها راجعة إلى الأصلين المذكورين ، وأن الآيات المذكورة دلت على أحدهما ، فاعلم أن الآخر منهما وهو اكتساب المال أرشدت إليه آيات أخر دلت على فتح الله الأبواب إلى اكتساب المال بالأوجه اللائقة ، كالتجارات وغيرها ; كقوله تعالى : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم [ 2 \ 198 ] وقوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ 62 \ 10 ] وقوله تعالى : علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] والمراد بفضل الله في الآيات المذكورة ربح التجارة ; وكقوله تعالى : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] وقد قدمنا في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية [ 18 \ 19 ] أنواع الشركات وأسماءها ، وبينا ما يجوز منها ، وما لا يجوز عند الأئمة الأربعة ، وأوضحنا ما اتفقوا على منعه ، وما اتفقوا على جوازه ، وما اختلفوا فيه ، وبه تعلم كثرة الطرق التي فتحها الله لاكتساب المال بالأوجه الشرعية اللائقة .

وإذا علمت مما ذكرنا أن جميع مسائل الاقتصاد راجعة إلى أصلين ، هما : اكتساب المال ، وصرفه في مصارفه ، فاعلم أن كل واحد من هذين الأصلين ، لا بد له من أمرين ضروريين له : الأول منهما : معرفة حكم الله فيه ، لأن الله جل وعلا لم يبح اكتساب المال بجميع الطرق التي يكتسب بها المال ، بل أباح بعض الطرق ، وحرم بعضها ; كما قال تعالى : وأحل الله البيع وحرم الربا [ 2 \ 275 ] ولم يبح الله جل وعلا صرف المال في كل شيء ، بل أباح بعض الصرف وحرم بعضه ; كما قال تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة [ 2 \ 261 ] وقال تعالى في الصرف الحرام : إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة [ ص: 78 ] الآية [ 8 \ 36 ] فمعرفة حكم الله في اكتساب المال وفي صرفه في مصارفه أمر ضروري لا بد منه ، لأن من لم يعلم ذلك قد يكتسب المال من وجه حرام ، والمال المكتسب من وجه حرام ، لا خير فيه البتة ، وقد يصرف المال في وجه حرام ، وصرفه في ذلك حسرة على صاحبه .

الأمر الثاني : هو معرفة الطريق الكفيلة باكتساب المال ، فقد يعلم الإنسان مثلا أن التجارة في النوع الفلاني مباحة شرعا ، ولكنه لا يعلم أوجه التصرف بالمصلحة الكفيلة بتحصيل المال من ذلك الوجه الشرعي ، وكم من متصرف يريد الربح ، فيعود عليه تصرفه بالخسران ، لعدم معرفته بالأوجه التي يحصل بها الربح . وكذلك قد يعلم الإنسان أن الصرف في الشيء الفلاني مباح ، وفيه مصلحة ، ولكنه لا يهتدي إلى معرفة الصرف المذكور ، كما هو مشاهد في المشاريع الكثيرة النفع إن صرف فيها المال بالحكمة والمصلحة ، فإن جواز الصرف فيها معلوم ، وإيقاع الصرف على وجه المصلحة لا يعلمه كل الناس .

وبهذا تعلم أن أصول الاقتصاد الكبار أربعة : الأول : معرفة حكم الله في الوجه الذي يكتسب به المال ، واجتناب الاكتساب به ، إن كان محرما شرعا .

الثاني : حسن النظر في اكتساب المال بعد معرفة ما يبيحه خالق السماوات والأرض ، وما لا يبيحه .

الثالث : معرفة حكم الله في الأوجه التي يصرف فيها المال ، واجتناب المحرم منها .

الرابع : حسن النظر في أوجه الصرف ، واجتناب ما لا يفيد منها ، فكل من بنى اقتصاده على هذه الأسس الأربعة كان اقتصاده كفيلا بمصلحته ، وكان مرضيا لله جل وعلا ، ومن أخل بواحد من هذه الأسس الأربعة كان بخلاف ذلك ; لأن من جمع المال بالطرق التي لا يبيحها الله جل وعلا فلا خير في ماله ، ولا بركة ; كما قال تعالى : يمحق الله الربا ويربي الصدقات [ 2 \ 276 ] وقال تعالى : قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث الآية [ 5 \ 100 ] .

وقد تكلمنا على مسائل الربا في آية الربا في سورة " البقرة " ، وتكلمنا على أنواع [ ص: 79 ] الشركات وأسمائها ، وبينا ما يجوز منها وما لا يجوز في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة الآية [ 18 \ 19 ] .

ولا شك أنه يلزم المسلمين في أقطار الدنيا التعاون على اقتصاد يجيزه خالق السماوات والأرض ، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويكون كفيلا بمعرفة طرق تحصيل المال بالأوجه الشرعية ، وصرفه في مصارفه المنتجة الجائزة شرعا ; لأن الاقتصاد الموجود الآن في أقطار الدنيا لا يبيحه الشرع الكريم ، لأن الذين نظموا طرقه ليسوا بمسلمين ، فمعاملات البنوك والشركات لا تجد شيئا منها يجوز شرعا ، لأنها إما مشتملة على زيادات ربوية ، أو على غرر ، لا تجوز معه المعاملة كأنواع التأمين المتعارفة عند الشركات اليوم في أقطار الدنيا ، فإنك لا تكاد تجد شيئا منها سالما من الغرر ، وتحريم بيع الغرر ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن المعلوم أن من يدعي إباحة أنواع التأمين المعروفة عند الشركات ، من المعاصرين أنه مخطئ في ذلك ، ولأنه لا دليل معه ، بل الأدلة الصحيحة على خلاف ما يقول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذا مروا باللغو مروا كراما .

أي : إذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنهم كراما مكرمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم ، وهو كل كلام لا خير فيه ، كما تقدم .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، أوضحه جل وعلا بقوله : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] وقد قدمنا الآيات الدالة على معاملة عباد الرحمن للجاهلين ، في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى :قال سلام عليك سأستغفر لك ربي الآية [ 19 \ 47 ] .
قوله تعالى : والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا .

قال الزمخشري : لم يخروا عليها ليس بنفي للخرور ، وإنما هو إثبات له ، ونفي للصمم والعمى ; كما تقول : لا يلقاني زيد مسلما ، وهو نفي للسلام لا للقاء .

والمعنى : أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها ، حرصا على استماعها وأقبلوا على المذكر [ ص: 80 ] بها ، وهم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية مبصرون بعيون راعية ، انتهى محل الغرض منه .

ولا يخفى أن لهذه الآية الكريمة دلالتين : دلالة بالمنطوق ، ودلالة بالمفهوم ، فقد دلت بمنطوقها على أن من صفات عباد الرحمن ، أنهم إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها ، لم يكبوا عليها في حال كونهم صما عن سماع ما فيها من الحق ، وعميانا عن إبصاره ، بل هم يكبون عليها سامعين ما فيها من الحق مبصرين له .

وهذا المعنى دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا الآية [ 8 \ 2 ] ومعلوم أن من تليت عليه آيات هذا القرآن ، فزادته إيمانا أنه لم يخر عليها أصم أعمى ; وكقوله تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [ 9 \ 124 ] وقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد دلت الآية المذكورة أيضا بمفهومها أن الكفرة المخالفين ، لعباد الرحمن الموصوفين في هذه الآيات : إذا ذكروا بآيات ربهم خروا عليها صما وعميانا ، أي : لا يسمعون ما فيها من الحق ، ولا يبصرونه ، حتى كأنهم لم يسمعوها أصلا .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة بمفهومها ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى في سورة " لقمان " : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ 31 \ 7 ] وقوله تعالى في " الجاثية " : ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين [ 45 \ 7 - 9 ] وقوله تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم الآية [ 9 \ 124 - 125 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والظاهر : أن معنى خرور الكفار على الآيات ، في حال كونهم صما وعميانا ، هو إكبابهم على إنكارها والتكذيب بها ، خلافا لما ذكره الزمخشري في " الكشاف " ، والصم في [ ص: 81 ] الآية جمع أصم ، والعميان جمع أعمى ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا . الظاهر أن المراد بالغرفة في هذه الآية الكريمة جنسها الصادق بغرف كثيرة ; كما يدل عليه قوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] وقوله تعالى : لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار الآية [ 39 \ 20 ] .

وقد أوضحناه هذا في أول سورة " الحج " ، وفي غيرها .

قوله تعالى : ويلقون فيها تحية وسلاما .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : وتحيتهم فيها سلام [ 10 \ 10 ] .
قوله تعالى : خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : نعم الثواب وحسنت مرتفقا [ 18 \ 31 ] .
قوله تعالى : قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما .

العرب الذين نزل القرآن بلغتهم ، يقولون : ما عبأت بفلان ، أي : ما باليت به ، ولا اكترثت به ، أي : ما كان له عندي وزن ، ولا قدر يستوجب الاكتراث والمبالاة به ، وأصله من العبء وهو الثقل ، ومنه قول أبي زيد يصف أسدا :

كان بنحره وبمنكبيه عبيرا بات يعبؤه عروس

وقوله : يعبؤه ، أي : يجعل بعضه فوق بعض لمبالاته به واكتراثه به .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن كلام أهل التفسير في هذه الآية الكريمة يدور على أربعة أقوال .

واعلم أولا أن العلماء اختلفوا في المصدر في قوله : لولا دعاؤكم ، هل هو مضاف إلى فاعله ، أو إلى مفعوله ، وعلى أنه مضاف إلى فاعله فالمخاطبون بالآية داعون ، [ ص: 82 ] لا مدعوون ، أي : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ، أي : عبادتكم له . وأما على أن المصدر مضاف إلى مفعوله فالمخاطبون بالآية مدعوون لا داعون ، أي : ما يعبؤا بكم لولا دعاؤه إياكم إلى توحيده وعبادته على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .

واعلم أيضا أن ثلاثة من الأقوال الأربعة المذكورة في الآية مبنية على كون المصدر فيها مضافا إلى فاعله . والرابع : مبني على كونه مضافا إلى مفعوله .

أما الأقوال الثلاثة المبنية على كونه مضافا إلى فاعله .

فالأول منها أن المعنى : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ، أي : عبادتكم له وحده جل وعلا ، وعلى هذا القول فالخطاب عام للكافرين والمؤمنين ، ثم أفرد الكافرين دون المؤمنين بقوله : فقد كذبتم الآية .

والثاني منها : أن المعنى : لولا دعاؤكم أيها الكفار له وحده عند الشدائد والكروب ، أي : ولو كنتم ترجعون إلى شرككم ، إذا كشف الضر عنكم .

والثالث : أن المعنى ما يعبأ بكم ربي ، أي : ما يصنع بعذابكم ، لولا دعاؤكم معه آلهة أخرى ، ولا يخفى بعد هذا القول ، وأن فيه تقدير ما لا دليل عليه ، ولا حاجة إليه .

أما القول الرابع المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله فهو ظاهر ، أي : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤه إياكم على ألسنة رسله .

وإذا عرفت هذه الأقوال ، فاعلم أن كل واحد منها ، قد دل عليه قرآن ، وسنبين هنا إن شاء الله تعالى دليل كل قول منها من القرآن مع ذكر ما يظهر لنا أنه أرجحها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-28, 11:25 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (423)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 83 إلى صـ 90



أما هذا القول الأخير المبني على أن المصدر في الآية مضاف إلى مفعوله ، وأن المعنى : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الإيمان به وتوحيده وعبادته على ألسنة رسله ، فقد دلت عليه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى في أول سورة " هود " : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 1 \ 7 ] وقوله تعالى في أول سورة " الكهف " : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] وقوله في أول سورة " الملك " : [ ص: 83 ] الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .

فهذه الآيات قد أوضحت أن الحكمة في خلقه السماوات والأرض ، وجميع ما على الأرض ، والموت والحياة ، هي أن يدعوهم على ألسنة رسله ويبتليهم ، أي : أن يختبرهم أيهم أحسن عملا .

وهذه الآيات تبين معنى قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] .

وفي هذه الآيات إيضاح لأن معنى قوله : لولا دعاؤكم ، أي : دعاؤه إياكم على ألسنة رسله ، وابتلاؤكم أيكم أحسن عملا ، وعلى هذا فلا إشكال في قوله : فقد كذبتم ، أي : ( ما يعبأ بكم لولا ) دعاؤه إياكم ، أي : وقد دعاكم فكذبتم ، وهذا القول هو وحده الذي لا إشكال فيه ، فهو قوي بدلالة الآيات المذكورة عليه .

وأما القول بأن معنى : لولا دعاؤكم ، أي : إخلاصكم الدعاء له أيها الكفار عند الشدائد والكروب ، فقد دلت على معناه آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين [ 29 \ 65 ] وقوله تعالى : جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين [ 20 \ 22 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه الآية [ 17 \ 67 ] وهذا القول وإن دلت عليه آيات كثيرة ، فلا يظهر كونه هو معنى آية " الفرقان " هذه .

وأما على القول بأن المعنى : ما يصنع بعذابكم ، لولا دعاؤكم معه آلهة أخرى ; فقد دل على معناه قوله تعالى : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم الآية [ 4 \ 147 ] .

والقول الأول الذي هو أشهر الأقوال وأكثرها قائلا ، وهو أن المعنى : لولا دعاؤكم ، أي : عبادتكم له وحده ، قد دل عليه جميع الآيات الدالة على ما يعطيه الله لمن أطاعه ، وما أعده لمن عصاه ، وكثرتها معلومة لا خفاء بها .

واعلم أن لفظة ( ما ) ، في قوله : قل ما يعبأ بكم ربي ، قال بعض أهل [ ص: 84 ] العلم : هي استفهامية ، وقال بعضهم : هي نافية وكلاهما له وجه من النظر .

واعلم أن قول من قال : لولا دعاؤكم ، أي : دعاؤكم إياي لأغفر لكم ، وأعطيكم ما سألتم ، راجع إلى القول الأول ; لأن دعاء المسألة داخل في العبادة ، كما هو معلوم . وقوله : فقد كذبتم ، أي : بما جاءكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

وقد قدمنا في الكلام على قوله تعالى : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] أن معنى قوله تعالى : فسوف يكون لزاما ، أي : سوف يكون العذاب ملازما لهم غير مفارق ، كما تقدم إيضاحه .

وقال جماعة من أهل العلم : إن المراد بالعذاب اللازم لهم المعبر عن لزومه لهم ، بقوله : فسوف يكون لزاما ، أنه ما وقع من العذاب يوم بدر ، لأنهم قتل منهم سبعون وأسر سبعون ، والذين قتلوا منهم أصابهم عذاب القتل ، واتصل به عذاب البرزخ والآخرة فهو ملازم لا يفارقهم بحال ، وكون اللزام المذكور في هذه الآية العذاب الواقع يوم بدر ، نقله ابن كثير عن عبد الله بن مسعود ، وأبي بن كعب ، ومحمد بن كعب القرظي ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم ، ثم قال : وقال الحسن البصري : فسوف يكون لزاما ، أي : يوم القيامة ولا منافاة بينهما ، انتهى من ابن كثير ، ونقله صاحب " الدر المنثور " عن أكثر المذكورين وغيرهم .

وقال جماعة من أهل العلم : إن يوم بدر ذكره الله تعالى في آيات من كتابه ، قالوا هو المراد بقوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى [ 32 \ 21 ] أي : يوم بدر ، دون العذاب الأكبر [ 32 \ 21 ] أي : يوم القيامة ، وأنه هو المراد بقوله : فسوف يكون لزاما ، وأنه هو المراد بالبطش والانتقام ، في قوله تعالى : يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون [ 44 \ 16 ] وأنه هو الفرقان الفارق بين الحق والباطل في قوله تعالى : إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان [ 8 \ 41 ] وهو يوم بدر ، وأنه هو الذي فيه النصر في قوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر الآية [ 3 \ 123 ] وكون المراد بهذه الآيات المذكورة يوم بدر ثبت بعضه في الصحيح ، عن ابن مسعود ، وهو المراد بقول الشيخ أحمد البدوي الشنقيطي في نظمه للمغازي في الكلام على بدر ، وقد أتى منوها في الذكر : [ ص: 85 ]

لأنه العذاب واللزام وأنه البطش والانتقام
وأنه الفرقان بين الكفر والحق والنصر سجيس الدهر
.

ومعنى سجيس الدهر ، أي : مدته .

وأظهر الأقوال في الآية عندي ، هو القول بأن المصدر فيها مضاف إلى مفعوله لجريانه على اللغة الفصيحة من غير إشكال ولا تقدير ، وممن قال به قتادة ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 86 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الشُّعَرَاءِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ( 3 ) .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْكَهْفِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [ 18 \ 6 ] وَفِي آخِرِ سُورَةِ " الْحِجْرِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [ 15 \ 88 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [ 15 \ 97 ] .
قوله تعالى : أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( 7 ) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( 8 ) .

أشار جل وعلا في هذه الآية الكريمة إلى أن كثرة ما أنبت في الأرض ، من كل زوج كريم ، أي ; صنف حسن من أصناف النبات ، فيه آية دالة على كمال قدرته .

وقد أوضحنا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك أن إحياء الأرض بعد موتها ، وإنبات النبات فيها بعد عدمه من البراهين القاطعة على بعث الناس بعد الموت .

وقد أوضحنا دلالة الآيات القرآنية على ذلك في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم ، إلى قوله : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 21 - 22 ] وفي أول سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الآية [ 16 \ 10 - 11 ] .
قوله تعالى : وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ( 10 ) قوم فرعون ألا يتقون ( 11 ) .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا [ 19 \ 52 ] .
قوله تعالى : قال رب إني أخاف أن يكذبون ( 12 ) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني .

[ ص: 87 ] قوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : إنى أخاف أن يكذبون ، أي : بسبب أني قتلت منهم نفسا ، وفررت منهم لما خفت أن يقتلوني بالقتيل الذي قتلته منهم ، ويوضح هذا المعنى الترتيب بالفاء في قوله تعالى : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون [ 28 \ 33 ] ; لأن من يخاف القتل فهو يتوقع التكذيب ، وقوله : ولا ينطلق لساني ، أي : من أجل العقدة المذكورة في قوله تعالى عن موسى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي [ 20 \ 27 - 28 ] قدمنا في الكلام على آية " طه " ، هذه بعض الآيات الدالة على ما يتعلق بهذا المبحث .

قوله تعالى : فأرسل إلى هارون ( 13 ) .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا [ 19 \ 53 ] .
قوله تعالى عن نبيه موسى : ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون ( 14 ) . لم يبين هنا هذا الذنب الذي لهم عليه الذي يخاف منهم أن يقتلوه بسببه ، وقد بين في غير هذا الموضع أن الذنب المذكور هو قتله لصاحبهم الغبطي ، فقد صرح تعالى بالقتل المذكور في قوله تعالى : قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون [ 28 \ 33 ] فقوله : قتلت منهم نفسا مفسر لقوله : ولهم علي ذنب [ 26 \ 14 ] ولذا رتب بالفاء على كل واحد منهما . قوله : فأخاف أن يقتلون ، وقد أوضح تعالى قصة قتل موسى له بقوله في " القصص " : ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه [ 28 \ 15 ] وقوله : فقضى عليه ، أي : قتله ، وذلك هو الذنب المذكور في آية " الشعراء " هذه .

وقد بين تعالى أنه غفر لنبيه موسى ذلك الذنب المذكور ، وذلك في قوله تعالى : قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له الآية [ 28 \ 16 ] .
قوله تعالى : قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون . صيغة الجمع في قوله : إنا معكم مستمعون ، للتعظيم ، وما ذكره جل وعلا في [ ص: 88 ] هذه الآية من رده على موسى خوفه القتل من فرعون وقومه ، بحرف الزجر الذي هو كلا ، وأمره أن يذهب هو وأخوه بآياته مبينا لهما أن الله معهم ، أي : وهي معية خاصة بالنصر والتأييد ، وأنه مستمع لكل ما يقول لهم فرعون ، أوضحه أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] وقوله تعالى : قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 \ 35 ] .
قوله تعالى : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، و " طه " ، وبينا في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : فقولا إنا رسولا ربك [ 20 \ 47 ] وجه تثنيته الرسول في " طه " ، وإفراده هنا في " الشعراء " ، مع شواهده العربية .
قوله تعالى : قال ألم نربك فينا وليدا .

تربية فرعون لموسى هذه التي ذكرها له هي التي ذكر مبدؤها في قوله تعالى : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون [ 28 \ 9 ] وقوله تعالى : وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني الآية [ 20 \ 39 ] .
قوله تعالى في كلام فرعون لموسى : وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين .

أبهم جل وعلا هذه الفعلة التي فعلها لتعبيره عنها بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله : التي فعلت ، وقد أوضحها في آيات أخر ، وبين أن الفعلة المذكورة هي قتله نفسا منهم ; كقوله تعالى : فوكزه موسى فقضى عليه [ 28 \ 15 ] وقوله تعالى : قال رب إني قتلت منهم نفسا الآية [ 28 \ 33 ] وقوله عن الإسرائيلي الذي استغاث بموسى مرتين : قال ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين [ 28 \ 19 ] .

وأظهر الأقوال عندي في معنى قوله : وأنت من الكافرين ، أن المراد به كفر [ ص: 89 ] النعمة ، يعني أنعمنا عليك بتربيتنا إياك صغيرا ، وإحساننا إليك تتقلب في نعمتنا فكفرت نعمتنا ، وقابلت إحساننا بالإساءة لقتلك نفسا منا ، وباقي الأقوال تركناه ; لأن هذا أظهرها عندنا .

وقال بعض أهل العلم : رد موسى على فرعون امتنانه عليه بالتربية ، بقوله : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 26 \ 25 ] يعني : تعبيدك لقومي ، وإهانتك لهم لا يعتبر معه إحسانك إلي لأني رجل واحد منهم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين . أي : قال موسى مجيبا لفرعون : قال فعلتها إذا ، أي : إذ فعلتها وأنا في ذلك الحين من الضالين ، أي : قبل أن يوحي الله إلي ، ويبعثني رسولا ، وهذا هو التحقيق إن شاء الله في معنى الآية .

وقول من قال من أهل العلم : وأنا من الضالين ، أي : من الجاهلين ، راجع إلى ما ذكرنا ; لأنه بالنسبة إلى ما علمه الله من الوحي يعتبر قبله جاهلا ، أي : غير عالم بما أوحى الله إليه .

وقد بينا مرارا في هذا الكتاب المبارك أن لفظ الضلال يطلق في القرآن ، وفي اللغة العربية ثلاثة إطلاقات : الإطلاق الأول : يطلق الضلال مرادا به الذهاب عن حقيقة الشيء ، فتقول العرب في كل من ذهب عن علم حقيقة شيء ضل عنه ، وهذا الضلال ذهاب عن علم شيء ما ، وليس من الضلال في الدين .

ومن هذا المعنى قوله هنا : وأنا من الضالين ، أي : من الذاهبين عن علم حقيقة العلوم ، والأسرار التي لا تعلم إلا عن طريق الوحي ، لأني في ذلك الوقت لم يوح إلي ، ومنه على التحقيق : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 3 ] أي : ذاهبا عما علمك من العلوم التي لا تدرك إلا بالوحي .

ومن هذا المعنى قوله تعالى : قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] فقوله : لا يضل ربي ، أي : لا يذهب عنه علم شيء كائنا [ ص: 90 ] ما كان ، وقوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] فقوله : أن تضل إحداهما ، أي : تذهب عن علم حقيقة المشهود به بدليل قوله بعده : فتذكر إحداهما الأخرى ، وقوله تعالى عن أولاد يعقوب : إن أبانا لفي ضلال مبين [ 22 \ 8 ] وقوله : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] على التحقيق في ذلك كله . ومن هذا المعنى قول الشاعر :

وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم

والإطلاق الثاني : وهو المشهور في اللغة ، وفي القرآن هو إطلاق الضلال على الذهاب عن طريق الإيمان إلى الكفر ، وعن طريق الحق إلى الباطل ، وعن طريق الجنة إلى النار ، ومنه قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] .

والإطلاق الثالث : هو إطلاق الضلال على الغيبوبة والاضمحلال ، تقول العرب : ضل الشيء إذا غاب واضمحل ، ومنه قولهم : ضل السمن في الطعام ، إذا غاب فيه واضمحل ، ولأجل هذا سمت العرب الدفن في القبر إضلالا ; لأن المدفون تأكله الأرض فيغيب فيها ويضمحل .

ومن هذا المعنى قوله تعالى : وقالوا أئذا ضللنا في الأرض الآية [ 32 \ 10 ] يعنون : إذا دفنوا وأكلتهم الأرض ، فضلوا فيها ، أي : غابوا فيها واضمحلوا .

ومن إطلاقهم الإضلال على الدفن ، قول نابغة ذبيان يرثي النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني :

فإن تحي لا أملك حياتي وإن تمت فما في حياة بعد موتك طائل
فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل


وقول المخبل السعدي يرثي قيس بن عاصم :
أضلت بنو قيس بن سعد عميدها وفارسها في الدهر قيس بن عاصم

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-28, 11:45 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (424)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 91 إلى صـ 98



فقول الذبياني : فآب مضلوه ، يعني : فرجع دافنوه ، وقول السعدي : أضلت ، أي : دفنت ، ومن إطلاق الضلال أيضا على الغيبة والاضمحلال قول الأخطل : [ ص: 91 ]

كنت القذى في موج أكدر مزيد قذف الأتي به فضل ضلالا


وقول الآخر :

ألم تسأل فتخبرك الديار عن الحي المضلل أين ساروا


وزعم بعض أهل العلم أن للضلال إطلاقا رابعا ، قال : ويطلق أيضا على المحبة ، قال : ومنه قوله : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] قال : أي في حبك القديم ليوسف ، قال : ومنه قول الشاعر :

هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا
عجبا لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا


قوله تعالى : ففررت منكم لما خفتكم . خوفه منهم هذا الذي ذكر هنا أنه سبب لفراره منهم ، قد أوضحه تعالى وبين سببه في قوله : وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين [ 28 \ 20 - 21 ] وبين خوفه المذكور بقوله تعالى : فأصبح في المدينة خائفا يترقب الآية [ 28 \ 18 ] .

قوله تعالى : فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين . قد قدمنا الآيات الموضحة لابتداء رسالته المذكورة هنا في سورة " مريم " ، وغيرها .

وقوله : فوهب لي ربي حكما ، قال بعضهم : الحكم هنا هو النبوة ، وممن يروى عنه ذلك السدي .

والأظهر عندي : أن الحكم هو العلم الذي علمه الله إياه بالوحي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال فرعون وما رب العالمين .

[ ص: 92 ] ظاهر هذه الآية الكريمة أن فرعون لا يعلم شيئا عن رب العالمين ، وكذلك قوله تعالى عنه : قال فمن ربكما ياموسى [ 20 \ 49 ] وقوله : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 \ 38 ] وقوله : لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [ 26 \ 29 ] ولكن الله جل وعلا بين أن سؤال فرعون في قوله : وما رب العالمين ، وقوله : فمن ربكما ياموسى ، تجاهل عارف أنه عبد مربوب لرب العالمين ، بقوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] وقوله تعالى عن فرعون وقومه : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 \ 14 ] .

وقد أوضحنا هذا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وفي سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : قال فمن ربكما ياموسى [ 20 \ 49 ] .
قوله تعالى : قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه ، إلى آخر القصة .

قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " طه " و " الأعراف " .

قوله تعالى : واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ، - إلى قوله - إلا رب العالمين [ 26 \ 69 - 77 ] .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم الآيات [ 19 \ 41 ] .
قوله تعالى : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا [ 17 \ 63 ] وفي " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 43 - 44 ] .
[ ص: 93 ] قوله تعالى : قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين .

ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن أهل النار يختصمون فيها ، جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم ، إلى قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 59 - 64 ] .

وقد قدمنا إيضاح هذا بالآيات القرآنية في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] وفي سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا الآية [ 2 \ 166 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ 6 \ 1 ] .
قوله تعالى : فما لنا من شافعين . قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يقبل منها شفاعة [ 2 \ 48 ] وفي سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا الآية [ 7 \ 53 ] .
قوله تعالى فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين . دلت هذه الآية الكريمة على أمرين : الأول منهما : أن الكفار يوم القيامة ، يتمنون الرد إلى الدنيا ، لأن ( لو ) في قوله هنا : فلو أن لنا للتمني ، والكرة هنا : الرجعة إلى الدنيا ، وإنهم زعموا أنهم إن ردوا إلى الدنيا كانوا من المؤمنين المصدقين للرسل ، فيما جاءت به ، وهذان الأمران قد قدمنا الآيات الموضحة لكل واحد منهما .

أما تمنيهم الرجوع إلى الدنيا ، فقد أوضحناه بالآيات القرآنية في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] . وأما زعمهم [ ص: 94 ] أنهم إن ردوا إلى الدنيا آمنوا ، فقد بينا الآيات الموضحة له في " الأعراف " ، في الكلام على الآية المذكورة ، وفي " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون [ 6 \ 28 ] .

قوله تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين الآيات .

قد قدمنا الكلام عليها في سورة " الحج " وفي غيرها ، وتكلمنا على قوله تعالى : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 - 127 - 145 - 164 - 180 ] في قصة نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب . وبينا الآيات الموضحة لذلك في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى عن قوم نوح : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا [ 11 \ 27 ] .
قوله تعالى : وما أنا بطارد المؤمنين . قد قدمنا ما يدل عليه من القرآن في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى عن نوح : وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم [ 11 \ 29 - 30 ] .

وأوضحناه بالآيات القرآنية في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، إلى قوله : فتطردهم فتكون من الظالمين [ 6 \ 25 ] وفي سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه [ 18 \ 28 ] .
قوله تعالى : قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين . قوله تعالى هنا عن نوح : قال رب إن قومي كذبون ، أوضحه في غير هذا الموضع ; كقوله : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا [ ص: 95 ] وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 5 - 7 ] وقوله هنا : فافتح بيني وبينهم فتحا ، أي : احكم بيني وبينهم حكما ، وهذا الحكم الذي سأل ربه إياه هو إهلاك الكفار ، وإنجاؤه هو ومن آمن معه ، كما أوضحه تعالى في آيات أخر ; كقوله تعالى : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [ 54 \ 10 ] وقوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا [ 71 \ 26 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله هنا عن نوح : ونجني ومن معي من المؤمنين ، قد بين في آيات كثيرة أنه أجاب دعاءه هذا ; كقوله هنا : فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ، وقوله تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة الآية [ 29 \ 15 ] وقوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم [ 37 \ 75 - 76 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقوله هنا : ثم أغرقنا بعد الباقين ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 29 \ 14 ] وقوله تعالى : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ 11 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والمشحون : المملوء ، ومنه قول عبيد بن الأبرص :

شحنا أرضهم بالخيل حتى تركناهم أذل من الصراط

والفلك : يطلق على الواحد والجمع ، فإن أطلق على الواحد جاز تذكيره ; كقوله هنا : في الفلك المشحون ، وإن جمع أنث ، والمراد بالفلك هنا السفينة ; كما صرح تعالى بذلك في قوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة الآية [ 29 \ 15 ] .
قوله تعالى : كذب أصحاب الأيكة المرسلين . قال أكثر أهل العلم : إن أصحاب الأيكة هم مدين . قال ابن كثير : وهو الصحيح ، وعليه فتكون هذه الآية بينتها الآيات الموضحة قصة شعيب مع مدين ، ومما استدل به أهل هذا القول ، أنه قال هنا لأصحاب الأيكة : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين [ 26 \ 181 - 183 ] وهذا الكلام ذكر الله عنه أنه قاله لمدين في مواضع متعددة ; كقوله في " هود " : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا [ ص: 96 ] المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين [ 11 \ 84 - 86 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا في سورة " الأعراف " ، قولنا : فإن قيل الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر الله جل وعلا في " الأعراف " أنه رجفة ، وذكر في " هود " أنه صيحة ، وذكر في " الشعراء " ، أنه عذاب يوم الظلة .

فالجواب ما قاله ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره ، قال : وقد اجتمع عليهم ذلك كله ، أصابهم عذاب يوم الظلة ، وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام ، انتهى . وعلى القول بأن شعيبا أرسل إلى أمتين : مدين وأصحاب الأيكة ، وأن مدين ليسوا هم أصحاب الأيكة ، فلا إشكال . وقد جاء ذلك في حديث ضعيف عن عبد الله بن عمرو ، وممن روي عنه هذا القول : قتادة ، وعكرمة وإسحاق بن بشر .

وقد قدمنا بعض الآيات الموضحة لهذا في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم [ 25 \ 78 - 79 ] وأوضحنا هنالك أن نافعا ، وابن عامر ، وابن كثير قرأوا ليكة في سورة " الشعراء " ، وسورة " ص " ، بلام مفتوحة أول الكلمة ، وتاء مفتوحة آخرها من غير همز ، ولا تعريف على أن اسم القرية غير منصرف ، وأن الباقين قرأوا : ( الأيكة ) بالتعريف والهمز وكسر التاء ، وأن الجميع اتفقوا على ذلك في " ق " و " الحجر " ، وأوضحنا هنالك توجيه القراءتين في " الشعراء " و " ص " ، ومعنى ( الأيكة ) في اللغة مع بعض الشواهد العربية .
قوله تعالى : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين . الجبلة : الخلق ، ومنه قوله تعالى : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 62 ] وقد استدل بآية " يس " ، المذكورة على آية " الشعراء " هذه ابن زيد نقله عنه ابن كثير ، ومن ذلك قول الشاعر :

والموت أعظم حادث مما يمر على الجبله


[ ص: 97 ] قوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين .

أكد جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم تنزيل رب العالمين ، وأنه نزل به الروح الأمين ، الذي هو جبريل على قلب نبينا - صلى الله عليهما وسلم - ليكون من المنذرين به ، وأنه نزل عليه بلسان عربي مبين ، وما ذكره جل وعلا هنا أوضحه في غير هذا الموضع . أما كون هذا القرآن تنزيل رب العالمين ، فقد أوضحه جل وعلا في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين [ 56 \ 77 - 79 ] وقوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين [ 69 \ 41 - 43 ] وقوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا [ 20 \ 1 - 4 ] وقوله تعالى : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم [ 45 \ 2 ] وقوله : حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا الآية [ 41 \ 1 - 3 ] وقوله تعالى : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون [ 36 \ 1 - 6 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقوله : نزل به الروح الأمين ، بينه أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] وقوله : لتكون من المنذرين ، أي : نزل به عليك لأجل أن تكون من المنذرين به ، جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 1 - 2 ] أي : أنزل إليك لتنذر به ، وقوله تعالى : تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الآية [ 36 \ 5 - 6 ] . وقوله : بلسان عربي مبين ، ذكره أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] وقوله تعالى : كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا الآية [ 41 \ 3 ] .

وقد بينا معنى اللسان العربي بشواهده في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] وقد أوضحنا معنى إنزال جبريل القرآن [ ص: 98 ] على قلبه - صلى الله عليه وسلم - بالآيات القرآنية في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] .
قوله تعالى ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين . قد قدمنا هذه الآية الكريمة ، مع ما يوضحها من الآيات في " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي الآية [ 16 \ 103 ] .

واعلم أن كل صوت غير عربي تسميه العرب أعجم ، ولو من غير عاقل ، ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة :
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ولا عربيا شاقه صوت أعجما

قوله تعالى : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم .

قوله : سلكناه ، أي : أدخلناه ، كما قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية والشواهد العربية في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 11 \ 40 ] والضمير في سلكناه ، قيل : للقرآن ، وهو الأظهر . وقيل : للتكذيب والكفر المذكور في قوله : ما كانوا به مؤمنين [ 26 \ 199 ] وهؤلاء الكفار الذين ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم ، هم الذين حقت عليهم كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنهم أشقياء ; كما يدل لذلك قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] وقد أوضحنا شدة تعنت هؤلاء ، وأنهم لا يؤمنون بالآيات في سورة " الفرقان " ، وفي سورة " بني إسرائيل " وغيرهما . وقوله : كذلك سلكناه نعت لمصدر محذوف ، أي : كذلك السلك ، أي : الإدخال ، سلكناه ، أي : أدخلناه في قلوب المجرمين ، وإيضاحه على أنه القرآن : أن الله أنزله على رجل عربي فصيح بلسان عربي مبين ، فسمعوه وفهموه لأنه بلغتهم ، ودخلت معانيه في قلوبهم ، ولكنهم لم يؤمنوا به ; لأن كلمة العذاب حقت عليهم ، وعلى أن الضمير في سلكناه للكفر والتكذيب ، فقوله عنهم : ما كانوا به مؤمنين ، يدل على إدخال الكفر والتكذيب في قلوبهم ، أي : كذلك السلك سلكناه ، إلخ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-28, 11:48 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (425)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 99 إلى صـ 106



[ ص: 99 ] قوله تعالى : فيقولوا هل نحن منظرون .

لفظة : هل هنا يراد بها التمني ، والآية تدل على أنهم تمنوا التأخير والإنظار ، أي : الإمهال ، وقد دلت آيات أخر على طلبهم ذلك صريحا ، وأنهم لم يجابوا إلى ما طلبوا ; كقوله تعالى : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ 14 \ 44 ] وأوضح أنهم لا ينظرون في آيات من كتابه ; كقوله تعالى : فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون [ 21 \ 40 ] وقوله تعالى : وما كانوا إذا منظرين [ 44 \ 29 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفبعذابنا يستعجلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية [ 13 \ 6 ] وذكرنا طرفا منه في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 50 - 51 ] .
قوله تعالى : أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون .

قد قدمنا إيضاحه في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر [ 2 \ 96 ] .
قوله تعالى : وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : ذكرى وما كنا ظالمين . قد قدمنا الآيات الدالة عليه ; كقوله تعالى : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] وقوله تعالى : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] [ ص: 100 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : ذكرى ، أعربه بعضهم مرفوعا ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هذه ذكرى ، وأعربه بعضهم منصوبا ، وفي إعرابه على أنه منصوب أوجه : منها أنه ما ناب عن المطلق ، من قوله : منذرون ، لأن أنذر وذكر متقاربان .

ومنها أنه مفعول من أجله ، أي : منذرون من أجل الذكرى بمعنى التذكرة .

ومنها أنها حال من الضمير في منذرون ، أي : ينذرونهم في حال كونهم ذوي تذكرة .
قوله تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها الآية [ 15 \ 16 - 17 ] .
قوله تعالى : فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين . قد أوضحنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] بالدليل القرآني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بمثل هذا الخطاب ، والمراد التشريع لأمته مع بعض الشواهد العربية ، وقوله هنا : فلا تدع مع الله إلها آخر الآية ، جاء معناه في آيات كثيرة ; كقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] وقوله تعالى : ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] وقوله تعالى : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وأنذر عشيرتك الأقربين . هذا الأمر في هذه الآية الكريمة بإنذاره خصوص عشيرته الأقربين ، لا ينافي الأمر بالإنذار العام ، كما دلت على ذلك الآيات القرآنية ; كقوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] وقوله تعالى : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .
[ ص: 101 ] قوله تعالى : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] وفي " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] وقد وعدنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] بأنا نوضح معنى خفض الجناح ، وإضافته إلى الذل في سورة " الشعراء " ، في هذا الموضع ، وهذا وفاؤنا بذلك الوعد ، ويكفينا في الوفاء به أن ننقل كلامنا في رسالتنا المسماة : " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " .

فقد قلنا فيها ، ما نصه : والجواب عن قوله تعالى : واخفض لهما جناح الذل [ 17 \ 24 ] أن الجناح هنا مستعمل في حقيقته ; لأن الجناح يطلق لغة حقيقة على يد الإنسان وعضده وإبطه . قال تعالى : واضمم إليك جناحك من الرهب [ 28 \ 32 ] والخفض مستعمل في معناه الحقيقي ، الذي هو ضد الرفع ; لأن مريد البطش يرفع جناحيه ، ومظهر الذل والتواضع يخفض جناحيه ، فالأمر بخفض الجناح للوالدين كناية عن لين الجانب لهما ، والتواضع لهما ; كما قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، وإطلاق العرب خفض الجناح كناية عن التواضع ولين الجانب أسلوب معروف ، ومنه قول الشاعر :
وأنت الشهير بخفض الجنا ح فلا تك في رفعه أجدلا

وأما إضافة الجناح إلى الذل ، فلا تستلزم المجاز كما يظنه كثير ; لأن الإضافة فيه كالإضافة في قولك : حاتم الجود .

فيكون المعنى : واخفض لهما الجناح الذليل من الرحمة ، أو الذلول على قراءة الذل بالكسر ، وما يذكر عن أبي تمام من أنه لما قال :

لا تسقني ماء الملام فإنني صب قد استعذبت ماء بكائي


جاءه رجل فقال له : صب لي في هذا الإناء شيئا من ماء الملام ، فقال له : إن أتيتني [ ص: 102 ] بريشة من جناح الذل صببت لك شيئا من ماء الملام ، فلا حجة فيه ; لأن الآية لا يراد بها أن للذل جناحا ، وإنما يراد بها خفض الجناح المتصف بالذل للوالدين من الرحمة بهما ، وغاية ما في ذلك إضافة الموصوف إلى صفته كحاتم الجود ، ونظيره في القرآن الإضافة في قوله : مطر السوء [ 25 \ 40 ] و عذاب الهون [ 6 \ 93 ] أي : مطر حجارة السجيل الموصوف بسوئه من وقع عليه ، وعذاب أهل النار الموصوف بهون من وقع عليه ، والمسوغ لإضافة خصوص الجناح إلى الذل مع أن الذل من صفة الإنسان لا من صفة خصوص الجناح ، أن خفض الجناح كني به عن ذل الإنسان ، وتواضعه ولين جانبه لوالديه رحمة بهما ، وإسناد صفات الذات لبعض أجزائها من أساليب اللغة العربية ، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية في قوله تعالى : ناصية كاذبة خاطئة [ 96 \ 16 ] وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه في قوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة [ 88 \ 2 - 3 ] وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، وفي كلام العرب . وهذا هو الظاهر في معنى الآية ، ويدل عليه كلام السلف من المفسرين .

وقال ابن القيم في " الصواعق " : إن معنى إضافة الجناح إلى الذل أن للذل جناحا معنويا يناسبه لا جناح ريش ، والله تعالى أعلم ، انتهى . وفيه إيضاح معنى خفض الجناح .

والتحقيق أن إضافة الجناح إلى الذل من إضافة الموصوف إلى صفته ; كما أوضحنا ، والعلم عند الله تعالى . وقال الزمخشري في " الكشاف " ، في تفسير قوله تعالى : لمن اتبعك من المؤمنين ، فإن قلت : المتبعون للرسول هم المؤمنون ، والمؤمنون هم المتبعون للرسول ، فما قوله : لمن اتبعك من المؤمنين .

قلت : فيه وجهان ، أن يسميهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين ، لمشارفتهم ذلك . وأن يريد بالمؤمنين المصدقين بألسنتهم ، وهم صنفان : صنف صدق واتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به ، وصنف لم يوجد منهم إلا التصديق فحسب ، ثم إما أن يكونوا منافقين أو فاسقين ، والمنافق والفاسق ، لا يخفض لهما الجناح .

والمعنى : المؤمنين من عشيرتك وغيرهم ، أي : أنذر قومك فإن اتبعوك وأطاعوك ، فاخفض لهم جناحك ، وإن عصوك ولم يتبعوك فتبرأ منهم ومن أعمالهم من الشرك بالله وغيره ، انتهى منه .

[ ص: 103 ] والأظهر عندي في قوله : لمن اتبعك من المؤمنين ، أنه نوع من التوكيد يكثر مثله في القرآن العظيم ; كقوله : يقولون بأفواههم الآية [ 3 \ 167 ] ومعلوم أنهم إنما يقولون بأفواههم . وقوله تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم [ 2 \ 79 ] ومعلوم أنهم إنما يكتبونه بأيديهم ، وقوله تعالى : ولا طائر يطير بجناحيه [ 6 \ 38 ] وقوله تعالى : حسدا من عند أنفسهم [ 2 \ 109 ] إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في الآية قرينة تدل على عدم صحته ، وذكرنا أمثلة متعددة لذلك في الترجمة ، وفيما مضى من الكتاب .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قوله هنا : وتقلبك في الساجدين ، قال فيه بعض أهل العلم المعنى : وتقلبك في أصلاب آبائك الساجدين ، أي : المؤمنين بالله كآدم ونوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل .

واستدل بعضهم لهذا القول فيمن بعد إبراهيم من آبائه ، بقوله تعالى عن إبراهيم : وجعلها كلمة باقية في عقبه [ 43 \ 28 ] وممن روي عنه هذا القول ابن عباس نقله عنه القرطبي ، وفي الآية قرينة تدل على عدم صحة هذا القول ، وهي قوله تعالى قبله مقترنا به : الذي يراك حين تقوم ، فإنه لم يقصد به أن يقوم في أصلاب الآباء إجماعا ، وأول الآية مرتبط بآخرها ، أي : الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك ، وحين تقوم من فراشك ومجلسك ، ويرى وتقلبك في الساجدين ، أي : المصلين ، على أظهر الأقوال ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - يتقلب في المصلين قائما ، وساجدا وراكعا ، وقال بعضهم : الذي يراك حين تقوم ، أي : إلى الصلاة وحدك ، و وتقلبك في الساجدين ، أي : المصلين إذا صليت بالناس .

وقوله هنا : الذي يراك حين تقوم الآية ، يدل على الاعتناء به - صلى الله عليه وسلم - ، ويوضح ذلك قوله تعالى : واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا الآية [ 52 \ 48 ] .

[ ص: 104 ] وقوله : وتوكل قرأه عامة السبع غير نافع وابن عامر : وتوكل بالواو ، وقرأه نافع وابن عامر : فتوكل بالفاء ، وبعض نسخ المصحف العثماني فيها الواو وبعضها فيها الفاء ، وقوله هنا : وتوكل على العزيز الرحيم ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفاتحة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإياك نستعين [ 1 \ 5 ] وبسطنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع بيان معنى التوكل في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني ‎وكيلا [ 17 \ 2 ] .
قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون . الشعراء : جمع شاعر ، كجاهل وجهلاء ، وعالم وعلماء . و يتبعهم الغاوون : جمع غاو وهو الضال ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يتبعهم الغاوون يدل على أن اتباع الشعراء من اتباع الشيطان ، بدليل قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] وقرأ هذا الحرف نافع وحده : يتبعهم بسكون التاء المثناة ، وفتح الباء الموحدة ، وقرأه الباقون يتبعهم بتشديد المثناة ، وكسر الموحدة ، ومعناهما واحد .

وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة ، في قوله : والشعراء يتبعهم الغاوون ، يدل على تكذيب الكفار في دعواهم ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاعر ; لأن الذين يتبعهم الغاوون ، لا يمكن أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم .

ويوضح هذا المعنى ما جاء من الآيات ، مبينا أنهم ادعوا عليه - صلى الله عليه وسلم - أنه شاعر وتكذيب الله لهم في ذلك ، أما دعواهم أنه - صلى الله عليه وسلم - شاعر ، فقد ذكره تعالى في قوله عنهم : بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر الآية [ 21 \ 5 ] وقوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون [ 37 \ 36 ] وقوله تعالى : أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون [ 52 \ 30 ] . وأما تكذيب الله لهم في ذلك ، فقد ذكره في قوله تعالى : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون الآية [ 69 \ 41 ] وقوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين [ 36 \ 96 ] وقوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون بل جاء بالحق وصدق المرسلين [ 37 \ 36 - 37 ] ; لأن [ ص: 105 ] قوله تعالى : بل جاء بالحق الآية ، تكذيب لهم في قولهم إنه شاعر مجنون .مسألتان تتعلقان بهذه الآية الكريمة .

المسألة الأولى : اعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبت عنه أنه قال : " لأن يمتلئ جوف رجل قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا " ، رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وقوله في الحديث : " يريه " بفتح المثناة التحتية وكسر الراء بعدها ياء ، مضارع ورى القيح جوفه ، يريه ، وريا إذا أكله وأفسده ، والأظهر أن أصل وراه أصاب رئته بالإفساد .

واعلم أن التحقيق لا ينبغي العدول عنه أن الشعر كلام حسنه حسن ، وقبيحه قبيح .

ومن الأدلة القرآنية على ذلك أنه تعالى لما ذم الشعراء ، بقوله : يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد وأنهم يقولون ما لا يفعلون [ 26 \ 224 - 226 ] استثنى من ذلك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، في قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا الآية [ 26 \ 227 ] .

وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق أن الحديث الصحيح المصرح بأن امتلاء الجوف من القيح المفسد له خير من امتلائه من الشعر ، محمول على من أقبل على الشعر ، واشتغل به عن الذكر ، وتلاوة القرآن ، وطاعة الله تعالى ، وعلى الشعر القبيح المتضمن للكذب ، والباطل كذكر الخمر ومحاسن النساء الأجنبيات ، ونحو ذلك .المسألة الثانية : اعلم أن العلماء اختلفوا في الشاعر إذا اعترف في شعره بما يستوجب حدا ، هل يقام عليه الحد ؟ على قولين : أحدهما : أنه يقام عليه لأنه أقر به ، والإقرار تثبت به الحدود .

والثاني : أنه لا يحد بإقراره في الشعر ; لأن كذب الشاعر في شعره أمر معروف معتاد ، واقع لا نزاع فيه .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر القولين عندي : أن الشاعر إذا أقر في شعره بما يستوجب الحد ، لا يقام عليه الحد ; لأن الله جل وعلا صرح هنا بكذبهم في شعرهم في قوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، فهذه الآية الكريمة تدرأ عنهم الحد ، [ ص: 106 ] ولكن الأظهر أنه إن أقر بذلك استوجب بإقراره به الملام والتأديب وإن كان لا يحد به ، كما ذكره جماعة من أهل الأخبار في قصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه المشهورة مع النعمان بن عدي بن نضلة .

قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية الكريمة : وقد ذكر عن محمد بن إسحاق ، ومحمد بن سعد في " الطبقات " ، والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان من أرض البصرة ، وكان يقول الشعر ، فقال :

ألا هل أتى الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية
ورقاصة تجذو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني
ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه
تنادمنا بالجوسق المتهدم

فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : إي والله إنه ليسوءني ذلك ، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته ، وكتب إليه عمر : بسم الله الرحمن الرحيم ، حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير [ 40 \ 1 - 3 ] أما بعد : فقد بلغني قولك :

لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم


وايم الله إنه ليسوءني ، وقد عزلتك . فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر ، فقال : والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط ، وما ذلك الشعر إلا شيء طفح على لساني ، فقال عمر : أظن ذلك ، ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا ، وقد قلت ما قلت ، فلم يذكر أنه حده على الشراب ، وقد ضمنه شعره لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ولكنه ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به ، انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير ، وهذه القصة يستأنس بها لما ذكرنا .

وقد ذكر غير واحد من المؤرخين أن سليمان بن عبد الملك ، لما سمع قول الفرزدق :
فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-28, 11:51 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (426)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 107 إلى صـ 114

قال له : قد وجب عليك الحد ، فقال الفرزدق : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني [ ص: 107 ] الحد ، بقوله : وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، فلم يحده مع إقراره بموجب الحد .
قوله تعالى : وأنهم يقولون ما لا يفعلون . هذا الذي ذكره هنا عن " الشعراء " من أنهم يقولون ما لا يفعلون ، بين في آية أخرى أنه من أسباب المقت عنده جل وعلا ، وذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ 61 \ 2 - 3 ] والمقت في لغة العرب : البغض الشديد ، فقول الإنسان ما لا يفعل ، كما ذكر عن الشعر يبغضه الله ، وإن كان قوله ما لا يفعل فيه تفاوت ، والعلم عند الله تعالى .قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا الآية [ 18 \ 2 ] مع شواهده العربية .قوله تعالى : وذكروا الله كثيرا . أثنى الله تعالى في هذه الآية الكريمة على الذين آمنوا وعملوا الصالحات بذكرهم الله كثيرا ، وهذا الذي أثنى عليهم به هنا من كثرة ذكر الله ، أمر به في آيات أخر ، وبين جزاءه ; قال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ 8 \ 45 ] وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ 33 \ 41 - 42 ] وقال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم الآية [ 3 \ 191 - 192 ] وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ 33 \ 35 ] .قوله تعالى : وانتصروا من بعد ما ظلموا . قد قدمنا الآيات الموضحة له ; كقوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس [ 42 \ 41 - 42 ] في آخر سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] .[ ص: 108 ] قوله تعالى : وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . المنقلب هنا المرجع والمصير ، والأظهر أنه هنا مصدر ميمي ، وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إذا زاد على ثلاثة أحرف كان كل من مصدره الميمي ، واسم مكانه ، واسم زمانه على صيغة اسم المفعول .

والمعنى : وسيعلم الذين ظلموا أي مرجع يرجعون ، وأي مصير يصيرون ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من أن الظالمين سيعلمون يوم القيامة المرجع الذي يرجعون ، أي : يعلمون العاقبة السيئة التي هي مآلهم ومصيرهم ومرجعهم ، جاء في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 3 - 7 ] وقوله تعالى : وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا [ 25 \ 42 ] وقوله تعالى : وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار [ 13 \ 42 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .

وقوله : أي منقلب ، ما ناب عن المطلق من قوله : ينقلبون ، وليس مفعولا به ، لقوله : وسيعلم ، قال القرطبي : و أي منصوب ينقلبون ، وهو بمعنى المصدر ، ولا يجوز أن يكون منصوبا بـ سيعلم ، لأن أيا وسائر أسماء الاستفهام لا يعمل فيها ما قبلها فيما ذكره النحويون ، قال النحاس : وحقيقة القول في ذلك أن الاستفهام معنى وما قبله معنى آخر ، فلو عمل فيه ما قبله لدخل بعض المعاني في بعض ، انتهى منه . والعلم عند الله تعالى . [ ص: 109 ] بسم الله الرحمن الرحيم سورة النمل قوله تعالى : هدى وبشرى للمؤمنين . تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] .قوله تعالى : إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا . إلى آخر القصة ، تقدم إيضاحه في " مريم " و " طه " ، و " الأعراف " .قوله تعالى : وورث سليمان داود . قد قدمنا أنها وراثة علم ودين ، لا وراثة مال في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب الآية [ 19 \ 6 ] وبينا هناك الأدلة على أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يورث عنهم المال .قوله تعالى : ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون . تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] وقوله : ألا يسجدوا لله ، كقوله تعالى : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [ 41 \ 37 ] وقوله تعالى : فاسجدوا لله واعبدوا [ 53 \ 62 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : الذي يخرج الخبء ، قال بعض أهل العلم : الخبء في السماوات : المطر ، والخبء في الأرض : النبات ، والمعادن ، والكنوز ، وهذا المعنى ملائم لقوله : يخرج الخبء ، وقال بعض أهل العلم : الخبء : السر والغيب ، أي : [ ص: 110 ] يعلم ما غاب في السماوات والأرض ; كما يدل عليه قوله بعده : ويعلم ما تخفون وما تعلنون ، وكقوله في هذه السورة الكريمة : وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين [ 27 \ 75 ] وقوله : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] كما أوضحناه في سورة " هود " ، وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير الكسائي : ألا يسجدوا لله بتشديد اللام في لفظة ( ألا ) ، ولا خلاف على هذه القراءة أن يسجدوا فعل مضارع منصوب بأن المدغمة في لفظة لا ، فالفعل المضارع على هذه القراءة ، وأن المصدرية المدغمة في لا ينسبك منهما مصدر في محل نصب على الأظهر ، وقيل في محل جر وفي إعرابه أوجه : الأول : أنه منصوب على أنه مفعول من أجله ، أي : وزين لهم الشيطان أعمالهم ، من أجل ألا يسجدوا لله ، أي : من أجل عدم سجودهم لله ، أو فصدهم عن السبيل ، لأجل ألا يسجدوا لله ، وبالأول قال الأخفش . وبالثاني قال الكسائي ، وقال اليزيدي وغيره : هو منصوب على أنه بدل من أعمالهم ، أي : وزين لهم الشيطان أعمالهم ألا يسجدوا ، أي : عدم سجودهم ، وعلى هذا فأعمالهم هي عدم سجودهم لله ، وهذا الإعراب يدل على أن الترك عمل ; كما أوضحناه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 \ 30 ] وقال بعضهم : إن المصدر المذكور في محل خفض على أنه بدل من السبيل ، أو على أن العامل فيه فهم لا يهتدون ، وعلى هذين الوجهين فلفظة ( لا ) صلة ، فعلى الأول منهما . فالمعنى : فصدهم عن السبيل سجودهم لله ، وعلى هذا فسبيل الحق الذي صدوا عنه هو السجود لله ، ( ولا ) زائدة للتوكيد . وعلى الثاني ، فالمعنى : فهم لا يهتدون ؛ لأن يسجدوا لله ، أي : للسجود له ، ( ولا ) زائدة أيضا للتوكيد ، ومعلوم في علم العربية أن المصدر المنسبك من فعل ، وموصول حرفي إن كان الفعل منفيا ذكرت لفظة ( عدم ) قبل المصدر ، ليؤدى بها معنى النفي الداخل على الفعل ، فقولك مثلا : عجبت من أن لا تقوم ، إذا سبكت مصدره لزم أن تقول : عجبت من عدم قيامك ، وإذا كان الفعل مثبتا لم تذكر مع المصدر لفظة ( عدم ) ، فلو قلت : عجبت من أن تقوم ، فإنك تقول في سبك مصدره : عجبت من قيامك ; كما لا يخفى . وعليه : فالمصدر [ ص: 111 ] المنسبك من قوله : ألا يسجدوا يلزم أن يقال فيه عدم السجود إلا إذا اعتبرت لفظة ( لا ) زائدة ، وقد أشرنا في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] إلى أنا أوضحنا الكلام على زيادة ( لا ) لتوكيد الكلام في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في أول سورة " البلد " ، في الكلام على قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 \ 1 ] وسنذكر طرفا من كلامنا فيه هنا .

فقد قلنا فيه : الأول وعليه الجمهور : أن ( لا ) هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت بلفظة لا من غير قصد معناها الأصلي بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده ; كقوله تعالى : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] يعني أن تتبعني ، وقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد ، أي : أن تسجد على أحد القولين . ويدل له قوله تعالى في سورة " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] وقوله تعالى : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] وقوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون الآية [ 4 \ 65 ] أي : فوربك ، وقوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ 41 \ 34 ] أي : والسيئة ، وقوله تعالى : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] على أحد القولين . وقوله تعالى : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] على أحد القولين . وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا الآية [ 6 \ 151 ] على أحد الأقوال الماضية ; وكقول أبي النجم :

فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندر

يعني : أن تسخر ، وقول الآخر :

وتلحينني في اللهو ألا أحبه وللهو داع دائب غير غافل


يعني : أن أحبه ، و ( لا ) زائدة . وقول الآخر :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله


يعني : أبى جوده البخل ، ولا زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ، ولا سيما على رواية البخل بالجر ; لأن لا عليها مضاف بمعنى لفظة لا ، فليست زائدة على رواية الجر ، وقول امرئ القيس : [ ص: 112 ]

فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أني أفر


يعني : وأبيك ، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، قول الشاعر :

ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر


يعني : عمر و ( لا ) صلة ، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :

في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر


والحور : الهلكة ، يعني : في بئر هلكة و ( لا ) صلة ، قاله أبو عبيدة وغيره . وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي :

أفعنك لا برق كان وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب


ويروى : أفمنك وتشيمه ، بدل أفعنك وتسنمه ، يعني : أفعنك برق ، و ( لا ) صلة ، ومن شواهد زيادتها قول الشاعر :

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع


يعني : كاد يتقطع ، وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ :

أعائش ما لقومك لا أراهم يضيعون الهجان مع المضيع


فغلط منه ، لأن لا في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ، ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله ، مع أن أهلها يحفظون مالهم ، أي : لا أرى قومك يضيعون مالهم وأنت تعاتبينني في حفظ مالي ، وما ذكره الفراء من أن لفظة لا ، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، فهو أغلبي لا يصح على الإطلاق ، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها كهذه الآية ، على القول بأن لا فيها صلة ، وكبيت ساعدة الهذلي ، وما ذكره الزمخشري من زيادة لا في أول الكلام دون غيره ، فلا دليل عليه ، انتهى محل الغرض من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .

وقرأ هذا الحرف الكسائي وحده من السبعة : ألا يسجدوا بتخفيف اللام من قوله : ( ألا ) ، وعلى قراءة الكسائي هذه ، فلفظة ( ألا ) حرف استفتاح ، وتنبيه ويا [ ص: 113 ] حرف نداء ، والمنادى محذوف تقديره : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، واسجدوا فعل أمر ومعلوم في علم القراءات ، أنك إذا قيل لك : قف على كل كلمة بانفرادها في قراءة الكسائي ، أنك تقف في قوله : ألا يسجدوا ، ثلاث وقفات ، الأولى : أن تقف على ألا . والثانية : أن تقف على يا . والثالثة : أن تقف على اسجدوا ، وهذا الوقف وقف اختبار لا وقف اختيار ، وأما على قراءة الجمهور ، فإنك تقف وقفتين فقط : الأولى : على ( ألا ) ، ولا تقف على أن لأنها مدغمة في لا ، والثانية : أنك تقف على يسجدوا .

واعلم أنه على قراءة الكسائي قد حذف في الخط ألفان ، الأولى : الألف المتصلة بياء النداء ، والثانية : ألف الوصل في قوله : ( اسجدوا ) ، ووجه بعض أهل العلم إسقاطهما في الخط ، بأنهما لما سقطتا في اللفظ ، سقطتا في الكتابة ، قالوا : ومثل ذلك في القرآن كثير .

واعلم أن جمهور أهل العلم على ما ذكرنا في قراءة الكسائي من أن لفظة ( ألا ) للاستفتاح والتنبيه ، وأن يا حرف نداء حذف منه الألف في الخط ، واسجدوا فعل أمر ، قالوا : وحذف المنادى مع ذكر أداة النداء أسلوب عربي معروف ، ومنه قول الأخطل :

ألا يا اسلمي يا هند هند بني بكر وإن كان حيانا عدى آخر الدهر


وقول ذي الرمة :

ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر


فقوله في البيتين : ألا يا اسلمي ، أي : يا هذه اسلمي ، وقول الآخر :

لا يا اسلمي ذات الدماليج والعقد

وقول الشماخ :

ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجالي وقبل منايا قد حضرن وآجالي


يعني : ألا يا صحبي اصبحاني ، ونظيره قول الآخر :

ألا يا اسقياني قبل خيل أبي بكر

ومنه قول الآخر : [ ص: 114 ]

فقالت ألا يا اسمع أعظك بخطبة فقلت سمعنا فانطقي وأصيبي


يعني : ألا يا هذا اسمع ، وأنشد سيبويه لحذف المنادى مع ذكر أداته ، قول الشاعر :

يا لعنة الله والأقوام كلهم والصالحين على سمعان من جار


بضم التاء من قوله : لعنة الله ، ثم قال : فيا لغير اللعنة ، يعني أن المراد : يا قوم لعنة الله ، إلى آخره . وأنشد صاحب اللسان لحذف المنادى ، مع ذكر أداته مستشهدا لقراءة الكسائي المذكورة ، قول الشاعر :

يا قاتل الله صبيانا تجيء بهم أم الهنينين من زندلها وارى


ثم قال : كأنه أراد : يا قوم قاتل الله صبيانا ، وقول الآخر :

يا من رأى بارقا أكفكفه بين ذراعي وجبهة الأسد


ثم قال : كأنه دعا يا قوم يا إخوتي ، فلما أقبلوا عليه قال : من رأى . وأنشد بعضهم لحذف المنادى مع ذكر أداته ، قول عنترة في معلقته :

يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت علي وليتها لم تحرم


قالوا : التقدير : يا قوم انظروا شاة ما قنص .

واعلم أن جماعة من أهل العلم ، قالوا : إن يا على قراءة الكسائي ، وفي جميع الشواهد التي ذكرنا ليست للنداء ، وإنما هي للتنبيه فكل من ألا ويا : حرف تنبيه كرر للتوكيد ، وممن روي عنه هذا القول : أبو الحسن بن عصفور ، وهذا القول اختاره أبو حيان في " البحر المحيط " ، قال فيه : والذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء ، وحذف المنادى ; لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه ، لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء ، وانحذف فاعله لحذفه ، ولو حذف المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء ، وحذف متعلقه ، وهو المنادى ، فكان ذلك إخلالا كبيرا ، وإذا أبقينا المنادى ولم نحذفه كان ذلك دليلا على العامل فيه جملة النداء ، وليس حرف النداء حرف جواب كنعم ، ولا ، وبلى ، وأجل ، فيجوز حذف الجمل بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجمل المحذوفة ، فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به ألا التي للتنبيه ، وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد ، وإذا كان قد وجد التوكيد في اجتماع [ ص: 115 ] الحرفين المختلفي اللفظ ، العاملين في قوله : فأصبحن لا يسألنني عن بما به ، والمتفقي اللفظ العاملين في قوله : ولا للما بهم أبدا دواء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-28, 11:54 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (427)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 115 إلى صـ 122






وجاز ذلك ، وإن عدوه ضرورة أو قليلا ، فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزا ، وليس يا في قوله : يا لعنة الله والأقوام كلهم .

حرف نداء عندي ، بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ ، وليس مما حذف منه المنادى ، لما ذكرناه . انتهى الغرض من كلام أبي حيان ، وما اختاره له وجه من النظر .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ومما له وجه من النظر عندي في قراءة الكسائي ، أن يكون قوله : يا اسجدوا فعل مضارع حذفت منه نون الرفع ، بلا ناصب ، ولا جازم ، ولا نون توكيد ، ولا نون وقاية .

وقد قال بعض أهل العلم : إن حذفها لا لموجب مما ذكر لغة صحيحة .

قال النووي في " شرح مسلم " ، في الجزء السابع عشر في صفحة 702 ، ما نصه : قوله : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ، كذا هو في عامة النسخ ، كيف يسمعوا ، وأنى يجيبوا من غير نون ، وهي لغة صحيحة ، وإن كانت قليلة الاستعمال ، وسبق بيانها مرات . ومنها الحديث السابق في " الإيمان " : " لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا " ، انتهى منه . وعلى أن حذف نون الرفع لغة صحيحة ، فلا مانع من أن يكون قوله تعالى : يسجدوا ، في قراءة الكسائي فعلا مضارعا ، ولا شك أن هذا له وجه من النظر ، وقد اقتصرنا في سورة " الحجر " ، على أن حذفها مقصور على السماع ، وذكرنا بعض شواهده ، والعلم عند الله تعالى .تنبيهان .

الأول : اعلم أن التحقيق أن آية " النمل " هذه ، محل سجدة على كلتا القراءتين ; لأن قراءة الكسائي فيها الأمر بالسجود ، وقراءة الجمهور فيها ذم تارك السجود وتوبيخه ، وبه تعلم أن قول الزجاج ومن وافقه أنها ليست محل سجدة على قراءة الجمهور ، وإنما هي [ ص: 116 ] محل سجود على قراءة الكسائي خلاف التحقيق ، وقد نبه على هذا الزمخشري وغيره .التنبيه الثاني : اعلم أنه على قراءة الجمهور ، لا يحسن الوقف على قوله : لا يهتدون ، وعلى قراءة الكسائي ، يحسن الوقف عليه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ويعلم ما تخفون وما تعلنون [ 27 \ 25 ] قرأه حفص والكسائي بالتاء الفوقية على الخطاب ، وقرأه الباقون : يخفون ، ويعلنون بالتحتية على الغيبة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ومن شكر فإنما يشكر لنفسه . جاء معناه موضحا في آيات متعددة ; كقوله تعالى : من عمل صالحا فلنفسه [ 41 \ 46 ] وقوله : ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون [ 30 \ 44 ] وقوله تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم [ 17 \ 7 ] .

قوله تعالى : ومن كفر فإن ربي غني كريم . جاء معناه موضحا أيضا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] وقوله تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 64 \ 6 ] وقوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ 47 \ 38 ] إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أرسل نبيه صالحا إلى ثمود ، فإذا هم فريقان يختصمون ، ولم يبين هنا خصومة الفريقين ، ولكنه بين ذلك في سورة " الأعراف " ، في قوله تعالى : قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون [ 7 \ 75 - 76 ] فهذه خصومتهم وأعظم أنواع الخصومة ، الخصومة في الكفر والإيمان .[ ص: 117 ] قوله تعالى : قال ياقوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] .قوله تعالى : قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون . قوله : اطيرنا بك ، أي : تشاءمنا بك ، وكان قوم صالح إذا نزل بهم قحط أو بلاء أو مصائب ، قالوا : ما جاءنا هذا إلا من شؤم صالح ، ومن آمن به . والتطير : التشاؤم ، وأصل اشتقاقه من التشاؤم بزجر الطير .

وقد بينا كيفية التشاؤم والتيامن بالطير في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] وقوله تعالى : قال طائركم عند الله ، قال بعض أهل العلم : أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عند الله ، فالشر الذي أصابكم بذنوبكم لا بشؤم صالح ، ومن آمن به من قومه .

وقد قدمنا معنى طائر الإنسان في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه [ 17 \ 13 ] وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من تشاؤم الكفار بصالح ومن معه من المؤمنين ، جاء مثله موضحا في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى في تشاؤم فرعون وقومه بموسى : فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 7 \ 131 ] وقوله تعالى في تطير كفار قريش بنبينا - صلى الله عليه وسلم - : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ 4 \ 78 ] والحسنة في الآيتين : النعمة كالرزق والخصب والعافية ، والسيئة : المصيبة بالجدب والقحط ، ونقص الأموال ، والأنفس ، والثمرات ; وكقوله تعالى : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم [ 36 \ 18 - 19 ] أي : بليتكم جاءتكم من ذنوبكم وكفركم .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بل أنتم قوم تفتنون ، قال بعض العلماء : [ ص: 118 ] تختبرون . وقال بعضهم : تعذبون ; كقوله : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] وقد قدمنا أن أصل الفتنة في اللغة ، وضع الذهب في النار ليختبر بالسبك أزائف هو أم خالص ؟ وأنها أطلقت في القرآن على أربعة معان : الأول : إطلاقها على الإحراق بالنار ; كقوله تعالى : يوم هم على النار يفتنون [ 51 \ 13 ] وقوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات [ 85 \ 10 ] أي : حرقوهم بنار الأخدود على أحد التفسيرين ، وقد اختاره بعض المحققين . .

المعنى الثاني : إطلاق الفتنة على الاختبار ، وهذا هو أكثرها استعمالا ; كقوله تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ 21 \ 35 ] وقوله تعالى : لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه [ 72 \ 16 - 17 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

الثالث : إطلاق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة ، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر والضلال ; كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 \ 193 ] أي : لا يبقى شرك ، وهذا التفسير الصحيح ، دل عليه الكتاب والسنة .

أما الكتاب ، فقد دل عليه قوله بعده في " البقرة " : ويكون الدين لله [ 2 \ 193 ] وفي " الأنفال " : ويكون الدين كله لله [ 8 \ 39 ] فإنه يوضح أن معنى : لا تكون فتنة ، أي : لا يبقى شرك ; لأن الدين لا يكون كله لله ، ما دام في الأرض شرك ، كما ترى .

وأما السنة : ففي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " ، الحديث . فقد جعل - صلى الله عليه وسلم - الغاية التي ينتهي إليها قتاله للناس ، هي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو واضح في أن معنى : لا تكون فتنة : لا يبقى شرك ، فالآية والحديث كلاهما دال على أن الغاية التي ينتهي إليها قتال الكفار هي ألا يبقى في الأرض شرك ، إلا أنه تعالى في الآية عبر عن هذا المعنى بقوله : حتى لا تكون فتنة ، وقد عبر - صلى الله عليه وسلم - عنه بقوله : " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " ، فالغاية في الآية والحديث واحدة في المعنى ، كما ترى .

الرابع : هو إطلاق الفتنة على الحجة ، في قوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ ص: 119 ] [ 6 \ 23 ] أي : لم تكن حجتهم ، كما قاله غير واحد ، والعلم عند الله تعالى .قوله تعالى : قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون . قد دلت هذه الآية الكريمة على أن نبي الله صالحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام نفعه الله بنصرة وليه ، أي : أوليائه ; لأنه مضاف إلى معرفة ، ووجه نصرتهم له : أن التسعة المذكورين في قوله تعالى : وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تقاسموا [ 27 \ 48 - 49 ] أي : تحالفوا بالله ، لنبيتنه ، أي : لنباغتنه بياتا ، أي : ليلا فنقتله ونقتل أهله معه ، ثم لنقولن لوليه ، أي : أوليائه وعصبته ، ما شهدنا مهلك أهله ، أي : ولا مهلكه هو ، وهذا يدل على أنهم لا يقدرون أن يقتلوه علنا ، لنصرة أوليائه له ، وإنكارهم شهود مهلك أهله دليل على خوفهم من أوليائه ، والظاهر أن هذه النصرة عصبية نسبية لا تمت إلى الدين بصلة ، وأن أولياءه ليسوا مسلمين .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك الآية [ 11 \ 91 ] وفي سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 19 ] . وقوله تعالى في هذه الآية : تقاسموا ، التحقيق أنه فعل أمر محكي بالقول . وأجاز الزمخشري ، وابن عطية أن يكون ماضيا في موضع الحال ، والأول هو الصواب إن شاء الله ، ونسبه أبو حيان للجمهور ، وقوله في هذه الآية : وإنا لصادقون ، التحقيق فيه أنهم كاذبون في قولهم : وإنا لصادقون ، كما لا يخفى ، وبه تعلم أن ما تكلفه الزمخشري في " الكشاف " ، من كونهم صادقين لا وجه له ، كما نبه عليه أبو حيان وأوضحه ، وقرأ عامة السبعة غير حمزة والكسائي لنبيتنه بالنون المضمومة بعد اللام ، وفتح الفوقية المثناة التي بعد التحتية المثناة ، وقرأ حمزة والكسائي : لتبيتنه بالتاء الفوقية المضمومة بعد اللام ، وضم التاء الفوقية التي بعد الياء التحتية ، وقرأ عامة السبعة أيضا غير حمزة والكسائي : ثم لنقولن ، بالنون المفتوحة موضع التاء ، وفتح اللام الثانية ، وقرأ حمزة والكسائي : ثم لتقولن ، بفتح التاء الفوقية بعد [ ص: 120 ] اللام الأولى ، وضم اللام الثانية ، وقرأ عاصم : مهلك أهله بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وقرأ حفص عن عاصم : مهلك بكسر اللام ، والباقون بفتحها .

فتحصل أن حفصا عن عاصم قرأ مهلك بفتح الميم وكسر اللام ، وأن أبا بكر أعني شعبة قرأ عن عاصم : مهلك بفتح الميم واللام ، وأن غير عاصم قرأ : مهلك أهله ، بضم الميم وفتح اللام ، فعلى قراءة من قرأ مهلك بفتح الميم ، فهو مصدر ميمي من هلك الثلاثي ، ويحتمل أن يكون اسم زمان أو مكان ، وعلى قراءة من قرأ مهلك بضم الميم ، فهو مصدر ميمي من أهلك الرباعي ، ويحتمل أن يكون أيضا اسم مكان أو زمان .قوله تعالى : فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون . ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة ، ثلاثة أمور : الأول : أنه دمر جميع قوم صالح ، ومن جملتهم تسعة رهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، وذلك في قوله : أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ، أي : وهم قوم صالح ثمود ، فتلك بيوتهم خاوية ، أي : خالية من السكان لهلاك جميع أهلها ، بما ظلموا ، أي : بسبب ظلمهم الذي هو كفرهم وتمردهم وقتلهم ناقة الله التي جعلها آية لهم ، وقال بعضهم : خاوية ، أي : ساقطا أعلاها على أسفلها .

الثاني : أنه جل وعلا جعل إهلاكه قوم صالح آية ، أي : عبرة يتعظ بها من بعدهم ، فيحذر من الكفر ، وتكذيب الرسل ، لئلا ينزل به ما نزل بهم من التدمير ، وذلك في قوله : إن في ذلك لآية لقوم يعلمون .

الثالث : أنه تعالى أنجى الذين آمنوا وكانوا يتقون من الهلاك والعذاب ، وهو نبي الله صالح ومن آمن به من قومه ، وذلك في قوله تعالى : وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهذه الأمور الثلاثة التي ذكرها جل وعلا هنا ، جاءت موضحة في آيات أخر .

أما إنجاؤه نبيه صالحا ، ومن آمن به وإهلاكه ثمود ، فقد أوضحه جل وعلا في [ ص: 121 ] مواضع من كتابه ; كقوله في سورة " هود " : فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ 11 \ 66 ] - 68 ] . وآية " هود " هذه ، قد بينت أيضا التدمير المجمل في آية " النمل " هذه ، فالتدمير المذكور في قوله تعالى : أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ، بينت آية " هود " أنه الإهلاك بالصيحة ، في قوله تعالى : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين [ 11 \ 67 ] أي : وهم موتى . وأما كونه جعل إهلاكه إياهم آية ، فقد أوضحه أيضا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى فيهم : فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم [ 26 \ 157 - 159 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ، قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : إنا دمرناهم بكسرة همزة إنا على الاستئناف ، وقرأه الكوفيون وهم : عاصم وحمزة والكسائي : أنا دمرناهم ، بفتح همزة أنا . وفي إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها على قراءة الكوفيين أوجه ، منها : أنه بدل من عاقبة مكرهم ، ومنها : أنه خبر مبتدأ محذوف ، وتقديره هي ، أي : عاقبة مكرهم تدميرنا إياهم .

وهذان الوجهان هما أقرب الأوجه عندي للصواب ، ولذا تركنا غيرهما من الأوجه ، والضمير في قوله : مكرهم ، وفي قوله : دمرناهم ، راجع إلى التسعة المذكورين في قوله : وكان في المدينة تسعة رهط الآية [ 27 \ 48 ] وقوله : خاوية حال في بيوتهم ، والعامل فيه الإشارة الكامنة في معنى تلك .
قوله تعالى : ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون إلى قوله تعالى فساء مطر المنذرين . قد قدمنا الآيات التي فيها إيضاح قصة لوط وقومه في سورة " هود " ، في الكلام على قصة لوط وقومه ، وبينا هناك كلام أهل العلم ومناقشة أدلتهم في عقوبة فاعل فاحشة اللواط ، وذكرنا الآيات المبينة لها أيضا في سورة " الحجر " ، في الكلام على قصة لوط وقومه ، وذكرنا بعض ذلك في سورة " الفرقان " . [ ص: 122 ] وقوله تعالى : أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما . وقوله تعالى : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا الآيات . قد أوضحنا ما تضمنته من البراهين على البعث في أول سورة " البقرة " ، وأول سورة " النحل " .قوله تعالى : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية [ 6 \ 59 ] وفي مواضع أخر .


وزعم أيضا أن منه قوله : ووجدك ضالا [ 93 \ 7 ] قال : أي محب للهداية فهداك ، ولا يخفى سقوط هذا القول ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 12:12 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (428)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 123 إلى صـ 130


قوله تعالى : بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون . أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى : بل ادارك علمهم ، أي : تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها ، أي : يعلمون في الآخرة علما كاملا ، ما كانوا يجهلونه في الدنيا ، وقوله : بل هم في شك منها بل هم منها عمون ، أي : في دار الدنيا ، فهذا الذي كانوا يشكون فيه في دار الدنيا ، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل ، يعلمونه في الآخرة علما كاملا لا يخالجه شك ، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه من البعث والجزاء .

وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسرين في الآية ، لأن القرآن دل عليه دلالة واضحة في آيات متعددة ; كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] فقوله : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ، بمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا ، أي : يوم القيامة ، وهذا يوضح معنى قوله : بل ادارك علمهم في الآخرة ، أي : تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت ، وقوله : لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] يوضح معنى قوله : بل هم في شك منها بل هم منها عمون ، لأن ضلالهم المبين اليوم ، أي : في دار الدنيا ، هو شكهم في الآخرة ، وعماهم [ ص: 123 ] عنها ; وكقوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] أي : علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد ، أي : قوي كامل .

وقد بينا في كتابنا " دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " الشورى " ، في الجواب عما يتوهم من التعارض بين قوله تعالى : ينظرون من طرف خفي [ 42 \ 45 ] وقوله تعالى : فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] أن المراد بحدة البصر في ذلك اليوم : كمال العلم وقوة المعرفة . وقوله تعالى : ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] فقوله : إنا موقنون أي : يوم القيامة ، يوضح معنى قوله هنا : بل ادارك علمهم في الآخرة ، وكقوله تعالى : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع [ 18 \ 48 ] فعرضهم على ربهم صفا يتدارك به علمهم ، لما كانوا ينكرونه ، وقوله : بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شك وعمى عن البعث والجزاء كما ترى ، إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم أن قوله : بل ادارك ، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيتان ، فقد قرأه عامة السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو : بل ادارك بكسر اللام من بل وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل ، وأصله : تدارك بوزن : تفاعل ، وقد قدمنا وجه الإدغام ، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرآن ، وبعض شواهده العربية في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 \ 117 ] وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : بل أدرك بسكون اللام من بل ، وهمزة قطع مفتوحة ، مع سكون الدال على وزن : أفعل .

والمعنى على قراءة الجمهور : بل ادارك علمهم ، أي : تدارك بمعنى تكامل ; كقوله : حتى إذا اداركوا فيها جميعا [ 7 \ 38 ] وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو : بل أدرك .

قال البغوي : أي بلغ ولحق ، كما يقال : أدرك علمي إذا لحقه وبلغه ، والإضراب في قوله تعالى : بل ادارك ، بل هم في شك ، بل هم منها عمون ، إضراب انتقالي ، والظاهر أن من في قوله تعالى : بل هم منها عمون ، بمعنى : عن ، [ ص: 124 ] و عمون جمع عم ، وهو الوصف من عمي يعمى فهو أعمى وعم ، ومنه قوله تعالى : إنهم كانوا قوما عمين [ 7 \ 64 ] وقول زهير في معلقته :

وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم قوله تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون . ومن ذلك اختلافهم في عيسى ، فقد قدمنا في سورة " مريم " ، ادعاءهم على أمه الفاحشة ، مع أن طائفة منهم آمنت به ; كما يشير إليه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة [ 61 \ 41 ] والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى ، والتي كفرت افترت عليه وعلى أمه ، كما تقدم إيضاحه في سورة " مريم " .

وقد قص الله عليهم في سورة " مريم " وسورة " النساء " وغيرهما ، حقيقة عيسى ابن مريم ، وهي أنه عبد الله [ 19 \ 30 ] ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 \ 171 ] ولما بين لهم حقيقة أمره مفصلة في سورة " مريم " قال : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون [ 19 \ 34 ] وذلك يبين بعض ما دل عليه قوله تعالى هنا : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون .
قوله تعالى : وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] .
قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين . اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن أن معنى قوله : إنك لا تسمع الموتى ، لا يصح فيه من أقوال العلماء ، إلا تفسيران : الأول : أن المعنى : إنك لا تسمع الموتى ، أي : لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم ، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع ; لأن الله كتب عليهم الشقاء ، فختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، [ ص: 125 ] وعلى أبصارهم الغشاوة ، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع . ومن القرائن القرآنية الدالة على ما ذكرنا ، أنه جل وعلا قال بعده : وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع [ 27 \ 81 ] .

فاتضح بهذه القرينة أن المعنى : إنك لا تسمع الموتى ، أي : الكفار الذين هم أشقياء في علم الله إسماع هدى وقبول للحق ، ما تسمع ذلك الإسماع وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ، فمقابلته جل وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها لمن يؤمن بآياته ، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء ، لا موت مفارقة الروح للبدن ، ولو كان المراد بالموت في قوله : إنك لا تسمع الموتى ، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله : إنك لا تسمع الموتى بقوله : إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا بل لقابله بما يناسبه ، كأن يقال : إن تسمع إلا من لم يمت ، أي : يفارق روحه بدنه ، كما هو واضح .

وإذا علمت أن هذه القرينة القرآنية دلت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء ، الذين لا يسمعون الحق سماع هدى وقبول .

فاعلم أن استقراء القرآن العظيم يدل على هذا المعنى ; كقوله تعالى : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون [ 6 \ 36 ] وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله : والموتى يبعثهم الله : الكفار ، ويدل له مقابلة الموتى في قوله : والموتى يبعثهم الله بالذين يسمعون في قوله : إنما يستجيب الذين يسمعون ، ويوضح ذلك قوله تعالى قبله : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية [ 6 \ 35 ] أي : فافعل ، ثم قال : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون الآية [ 6 \ 35 - 36 ] وهذا واضح فيما ذكرنا . ولو كان يراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم ; كأن يقال : إنما يستجيب الأحياء ، أي : الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم ، وكقوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون [ 6 \ 122 ] .

[ ص: 126 ] فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أومن كان ميتا ، أي : كافرا فأحييناه ، أي : بالإيمان والهدى ، وهذا لا نزاع فيه ، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف ; وكقوله : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 \ 70 ] وكقوله تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] أي : لا يستوي المؤمنون والكافرون .

ومن أوضح الأدلة على هذا المعنى ، أن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى الآية ، وما في معناها من الآيات كلها ، تسلية له - صلى الله عليه وسلم - لأنه يحزنه عدم إيمانهم ، كما بينه تعالى في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] وقوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون الآية [ 15 \ 97 ] وقوله : ولا تحزن عليهم الآية [ 16 \ 127 ] وقوله تعالى : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] وكقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 \ 8 ] وقوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] وقوله تعالى : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه . ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم ، أنزل الله آيات كثيرة تسلية له - صلى الله عليه وسلم - بين له فيها أنه لا قدرة له - صلى الله عليه وسلم - على هدى من أضله الله ، فإن الهدى والإضلال بيده جل وعلا وحده ، وأوضح له أنه نذير ، وقد أتى بما عليه فأنذرهم على أكمل الوجوه وأبلغها ، وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم .

ومن الآيات النازلة تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ، قوله هنا : إنك لا تسمع الموتى ، أي : لا تسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ، يعني : ما تسمع إسماع هدى وقبول إلا من هديناهم للإيمان بآياتنا فهم مسلمون .

والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ; كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] وقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] وقوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] وقوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 99 ] إلى غير [ ص: 127 ] ذلك من الآيات . ولو كان معنى الآية وما شابهها : إنك لا تسمع الموتى ، أي : الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له - صلى الله عليه وسلم - كما ترى .

واعلم : أن آية " النمل " هذه جاءت آيتان أخريان بمعناها : الأولى منهما : قوله تعالى في سورة " الروم " : فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون [ 30 \ 52 - 53 ] ولفظ آية " الروم " هذه كلفظ آية " النمل " التي نحن بصددها ، فيكفي في بيان آية " الروم " ، ما ذكرنا في آية " النمل " .

والثانية منهما : قوله تعالى في سورة " فاطر " : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور [ 35 \ 22 ] وآية " فاطر " هذه كآية " النمل " و " الروم " المتقدمتين ، لأن المراد بقوله فيها : من في القبور الموتى ، فلا فرق بين قوله : إنك لا تسمع الموتى ، وبين قوله : وما أنت بمسمع من في القبور ; لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد ; كقوله تعالى : وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 7 ] أي : يبعث جميع الموتى من قبر منهم ومن لم يقبر ، وقد دلت قرائن قرآنية أيضا على أن معنى آية " فاطر " هذه كمعنى آية " الروم " ، منها قوله تعالى قبلها : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة الآية [ 35 \ 18 ] لأن معناها : لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه فصار ممن يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة ، وما أنت بمسمع من في القبور ، أي : الموتى ، أي : الكفار الذين سبق لهم الشقاء كما تقدم . ومنها قوله تعالى أيضا : وما يستوي الأعمى والبصير [ 35 \ 19 ] أي : المؤمن والكافر . وقوله تعالى بعدها : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] أي : المؤمنون والكفار . ومنها قوله تعالى بعده : إن أنت إلا نذير [ 52 \ 23 ] أي : ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير ، أي : وقد بلغت .

التفسير الثاني : هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل ، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله : إنك لا تسمع الموتى خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به ، وأن هذا مثل ضرب للكفار ، والكفار يسمعون الصوت ، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع ; كما قال تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء [ ص: 128 ] ونداء [ 2 \ 171 ] فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع ، كما لم ينف ذلك عن الكفار ، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به ، وأما سماع آخر فلا ، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث .

وهذا التفسير الأخير دلت عليه أيضا آيات من كتاب الله ، جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندا إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون ، والمراد بصممهم صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره ، فهم يسمعون غيره ، وكذلك في البصر والكلام ، وذلك كقوله تعالى في المنافقين : صم بكم عمي فهم لا يرجعون [ 2 \ 18 ] فقد قال فيهم : صم بكم مع شدة فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم ، كما صرح به في قوله تعالى فيهم : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] أي : لفصاحتهم ، وقوله تعالى : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم ، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد ، هم الذين قال الله فيهم : صم بكم عمي ، وما ذلك إلا أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص ، وهو ما ينتفع به من الحق ، فهذا وحده هو الذي صموا عنه فلم يسمعوه ، وبكموا عنه فلم ينطقوا به ، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه ، وينطقون به ; كما قال تعالى : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء الآية [ 46 \ 26 ] وهذا واضح كما ترى .

وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " البقرة " في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين : صم بكم عمي [ 2 \ 18 ] مع قوله فيهم : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] وقوله فيهم : سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] وقوله فيهم أيضا : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] وقد أوضحنا هناك أن العرب تطلق الصمم وعدم السماع على السماع ، الذي لا فائدة فيه ، وذكرنا بعض الشواهد العربية على ذلك .
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة .

اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من [ ص: 129 ] كلمهم ، وأن قول عائشة - رضي الله عنها - ومن تبعها : إنهم لا يسمعون ، استدلالا بقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي الله عنها ، وممن تبعها .

وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبني على مقدمتين :

الأولى منهما : أن سماع الموتى ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث متعددة ثبوتا لا مطعن فيه ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت .

والمقدمة الثانية : هي أن النصوص الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم - في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها ، وتأويل عائشة رضي الله عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة ، لا يجب الرجوع إليه ; لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه ، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتأول بعض الصحابة بعض الآيات ، وسنوضح هنا إن شاء الله صحة المقدمتين المذكورتين ، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من غير معارض صريح ، علم بذلك رجحان ما ذكرنا ، أن الدليل يقتضي رجحانه .

أما المقدمة الأولى ، وهي ثبوت سماع الموتى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد قال البخاري في صحيحه : حدثني عبد الله بن محمد ، سمع روح بن عبادة ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفة الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ، قال قتادة : أحياهم الله له حتى أسمعهم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما .

فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول - صلى الله عليه وسلم - من أولئك الموتى بعد ثلاث ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - في ذلك [ ص: 130 ] تخصيصا ، وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاد منه ، فيما يظهر .

وقال البخاري في " صحيحه " أيضا : حدثني عثمان ، حدثني عبدة عن هشام عن أبيه ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قليب بدر ، فقال : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ ثم قال : " إنهم الآن يسمعون ما أقول " ، فذكر لعائشة ، فقالت : إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ، ثم قرأت : إنك لا تسمع الموتى ، حتى قرأت الآية ، انتهى من صحيح البخاري .

وقد رأيته أخرج عن صحابيين جليلين هما : ابن عمر ، وأبو طلحة ، تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أولئك الموتى يسمعون ما يقول لهم ، ورد عائشة لرواية ابن عمر بما فهمت من القرآن مردود ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .

وقد أوضحنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 17 \ 15 ] ، أن ردها على ابن عمر أيضا روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يعذب ببكاء أهله بما فهمت من الآية - مردود أيضا ، وأوضحنا أن الحق مع ابن عمر في روايته لا معها فيما فهمت من القرآن .

وقال البخاري في " صحيحه " أيضا : حدثنا عياش ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، قال : وقال لي خليفة : حدثنا ابن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا في الجنة " الحديث ، وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الميت في قبره ، يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - فيه تخصيصا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 12:16 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (429)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 131 إلى صـ 138



وقال مسلم بن الحجاج - رحمه الله - في " صحيحه " : حدثني إسحاق بن عمر بن سليط الهذلي ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، قال : قال أنس : كنت مع عمر [ ح ] ، وحدثنا شيبان بن فروخ ، واللفظ له : حدثنا سليمان بن المغيرة بن ثابت ، عن أنس بن مالك ، قال : كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال ، الحديث . وفيه : فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس ، يقول : " هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله " ، قال : فقال عمر : فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعلوا في بئر [ ص: 131 ] بعضهم على بعض ، فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتهى إليهم فقال : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا " ، قال عمر : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟ قال : " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا " .

حدثنا هداب بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم ، فقام عليهم فناداهم ، فقال : " يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، أليس قد وجدتم ما وعدكم الله حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فسمع عمر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله كيف يسمعوا وأنى يجيبوا وقد جيفوا ؟ قال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ، ثم أمر بهم فسحبوا ، فألقوا في قليب بدر .

ثم ذكر مسلم بعد هذا رواية أنس عن أبي طلحة ، التي ذكرناها عن البخاري ، فترى هذه الأحاديث الثابتة في الصحيح عن عمر وابنه ، وأنس ، وأبي طلحة رضي الله عنهم ، فيها التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع من أولئك الموتى لما يقوله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أقسم - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولم يذكر تخصيصا ، وقال مسلم رحمه الله في " صحيحه " أيضا : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن قتادة ، حدثنا أنس بن مالك ، قال : قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم " ، قال : " يأتيه ملكان فيعقدانه " الحديث ، وفيه تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بسماع الميت في قبره قرع النعال ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، وظاهره العموم في كل من دفن وتولى عنه قومه ، كما ترى .

ومن الأحاديث الدالة على عموم سماع الموتى ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي ، ويحيى بن أيوب ، وقتيبة بن سعيد ، قال يحيى بن يحيى : أخبرنا ، وقال الآخران : حدثنا إسماعيل بن جعفر عن شريك ، وهو ابن أبي نمر ، عن عطاء بن يسار ، عن عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كان ليلتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع ، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وأتاكم ما توعدون غدا مؤجلون ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد " ، ولم يقم قتيبة قوله : " وأتاكم ما توعدون " ، وفي رواية في صحيح مسلم عنها ، قالت : كيف أقول لهم يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : " قولي : السلام على أهل [ ص: 132 ] الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون " ، ثم قال مسلم رحمه الله : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، قالا : حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر ، فكان قائلهم يقول في رواية أبي بكر : " السلام على أهل الديار " ، وفي رواية زهير : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية " ، انتهى من " صحيح مسلم " .

وخطابه - صلى الله عليه وسلم - لأهل القبور بقوله : " السلام عليكم " ، وقوله : " وإنا إن شاء الله بكم " ، ونحو ذلك يدل دلالة واضحة على أنهم يسمعون سلامه لأنهم لو كانوا لا يسمعون سلامه وكلامه لكان خطابه لهم من جنس خطاب المعدوم ، ولا شك أن ذلك ليس من شأن العقلاء ، فمن البعيد جدا صدوره منه - صلى الله عليه وسلم - ، وسيأتي إن شاء الله ذكر حديث عمرو بن العاص الدال على أن الميت في قبره يستأنس بوجود الحي عنده .

وإذا رأيت هذه الأدلة الصحيحة الدالة على سماع الموتى ، فاعلم أن الآيات القرآنية ; كقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، وقوله : وما أنت بمسمع من في القبور [ 35 \ 22 ] لا تخالفها ، وقد أوضحنا الصحيح من أوجه تفسيرها ، وذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه ، وأن استقراء القرآن يدل عليه .

وممن جزم بأن الآيات المذكورة لا تنافي الأحاديث الصحيحة التي ذكرنا أبو العباس ابن تيمية ، فقد قال في الجزء الرابع من " مجموع الفتاوي " من صحيفة خمس وتسعين ومائتين ، إلى صحيفة تسع وتسعين ومائتين ، ما نصه : وقد تعاد الروح إلى البدن في غير وقت المسألة ، كما في الحديث الذي صححه ابن عبد البر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " ما من رجل يمر بقبر الرجل الذي كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام " . وفي سنن أبي داود وغيره عن أوس بن أبي أوس الثقفي ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن خير أيامكم يوم الجمعة ، فأكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة وليلة الجمعة ، فإن صلاتكم معروضة علي " ، قالوا : يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء " ، وهذا الباب فيه من الأحاديث والآثار ، ما يضيق هذا الوقت عن استقصائه ، مما يبين أن الأبدان التي في القبور تنعم وتعذب إذا شاء الله ذلك كما يشاء ، وأن الأرواح باقية بعد مفارقة البدن ومنعمة أو معذبة ، ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسلام على الموتى ، كما ثبت في الصحيح والسنن أنه كان يعلم [ ص: 133 ] أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم ، واغفر لنا ولهم " . وقد انكشف لكثير من الناس ذلك حتى سمعوا صوت المعذبين في قبورهم ، ورأوهم بعيونهم يعذبون في قبورهم في آثار كثيرة معروفة ، ولكن لا يجب أن يكون دائما على البدن في كل وقت ، بل يجوز أن يكون في حال .

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قتلى بدر ثلاثا ثم أتاهم فقام عليهم ، فقال : " يا أبا جهل بن هشام ، يا أمية بن خلف ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فسمع عمر - رضي الله عنه - قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول الله كيف يسمعون وقد جيفوا ؟ فقال : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا " ، ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في قليب بدر ، وقد أخرجاه في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف على قليب بدر ، فقال : " هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا " ؟ وقال : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " ، فذكر ذلك لعائشة فقالت : وهم ابن عمر ، إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليعلمون الآن أن الذي قلت لهم هو الحق " ، ثم قرأت قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، حتى قرأت الآية .

وأهل العلم بالحديث اتفقوا على صحة ما رواه أنس وابن عمر ، وإن كانا لم يشهدا بدرا ، فإن أنسا روى ذلك عن أبي طلحة ، وأبو طلحة شهد بدرا كما روى أبو حاتم في صحيحه ، عن أنس ، عن أبي طلحة رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر ، وكان إذا ظهر على قوم أحب أن يقيم في عرصتهم ثلاث ليال ، فلما كان اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها فحركها ، ثم مشى وتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نراه ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفاء الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا " ، قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلم من أجساد ولا أرواح فيها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ، قال قتادة : أحياهم الله [ ص: 134 ] حتى أسمعهم توبيخا ، وتصغيرا ، ونقمة ، وحسرة ، وتنديما ، وعائشة قالت فيما ذكرته كما تأولت .

والنص الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدم على تأويل من تأول من أصحابه وغيره ، وليس في القرآن ما ينفي ذلك ، فإن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، إنما أراد به السماع المعتاد الذي ينفع صاحبه ، فإن هذا مثل ضربه الله للكفار ، والكفار تسمع الصوت ، لكن لا تسمع سماع قبول بفقه واتباع ; كما قال تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء [ 2 \ 171 ] ، فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع ، بل السماع المعتاد كما لم ينف ذلك عن الكفار ، بل انتفى عنهم السماع المعتاد الذي ينتفعون به .

وأما سماع آخر فلا ينفى عنهم ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن الميت يسمع خفق نعالهم إذا ولوا مدبرين ، فهذا موافق لهذا فكيف يرفع ذلك ، انتهى محل الغرض من كلام أبي العباس ابن تيمية . وقد تراه صرح فيه بأن تأول عائشة لا يرد به النص الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - ، وأنه ليس في القرآن ما ينفي السماع الثابت للموتى في الأحاديث الصحيحة .

وإذا علمت به أن القرآن ليس فيه ما ينفي السماع المذكور ، علمت أنه ثابت بالنص الصحيح ، من غير معارض .

والحاصل أن تأول عائشة - رضي الله عنها - بعض آيات القرآن ، لا ترد به روايات الصحابة العدول الصحيحة الصريحة عنه - صلى الله عليه وسلم - ، ويتأكد ، ذلك بثلاثة أمور :

الأول : هو ما ذكرناه الآن من أن رواية العدل لا ترد بالتأويل .

الثاني : أن عائشة - رضي الله عنها - لما أنكرت رواية ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليسمعون الآن ما أقول " ، قالت : إن الذي قاله - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم ليعلمون الآن أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ، فأنكرت السماع ونفته عنهم ، وأثبتت لهم العلم ، ومعلوم أن من ثبت له العلم صح منه السماع ، كما نبه عليه بعضهم .

الثالث : هو ما جاء عنها مما يقتضي رجوعها عن تأويلها ، إلى الروايات الصحيحة .

ب قال ابن حجر في " فتح الباري " : ومن الغريب أن في المغازي لابن إسحاق رواية يونس بن بكير بإسناد جيد ، عن عائشة مثل حديث أبي طلحة ، وفيه : " ما أنتم بأسمع لما [ ص: 135 ] أقول منهم " ، وأخرجه أحمد بإسناد حسن ، فإن كان محفوظا فكأنها رجعت عن الإنكار لما ثبت عندها من رواية هؤلاء الصحابة ; لكونها لم تشهد القصة ، انتهى منه . واحتمال رجوعها لما ذكر قوي ، لأن ما يقتضي رجوعها ثبت بإسنادين .

قال ابن حجر : إن أحدهما جيد ، والآخر حسن . ثم قال ابن حجر : قال الإسماعيلي : كان عند عائشة من الفهم والذكاء وكثرة الرواية والغوص على غوامض العلم ، ما لا مزيد عليه ، لكن لا سبيل إلى رد رواية الثقة إلا بنص مثله يدل على نسخه أو تخصيصه ، أو استحالته ، انتهى محل الغرض من كلام ابن حجر .

وقال ابن القيم في أول " كتاب الروح " : المسألة الأولى : وهي هل تعرف الأموات زيارة الأحياء وسلامهم أم لا ؟ قال ابن عبد البر : ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " ما من مسلم يمر على قبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام " ، فهذا نص في أنه يعرفه بعينه ، ويرد عليه السلام .

وفي الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - من وجوه متعددة : أنه أمر بقتلى بدر فألقوا في قليب ، ثم جاء حتى وقف عليهم وناداهم بأسمائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " ، فقال له عمر : يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا ، فقال : " والذي بعثني بالحق ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون جوابا " .

وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - : أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له إذا انصرفوا عنه ، وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته إذا سلموا على أهل القبور ، أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه ، فيقول : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين " ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولولا ذلك لكان هذا الخطاب بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم أن الميت يعرف زيارة الحي له ، ويستبشر له ، قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيا في " كتاب القبور " :
باب في معرفة الموتى بزيارة الأحياء .

حدثنا محمد بن عون ، حدثنا يحيى بن يمان ، عن عبد الله بن سمعان ، عن زيد بن أسلم ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه ، حتى يقوم " .

حدثنا محمد بن قدامة الجوهري ، حدثنا معن بن عيسى القزاز ، أخبرنا هشام بن سعد ، حدثنا زيد بن أسلم ، عن أبي هريرة [ ص: 136 ] - رضي الله تعالى عنه - قال : إذا مر الرجل بقبر أخيه يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وعرفه ، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام .

وذكر ابن القيم في كلام أبي الدنيا وغيره آثارا تقتضي سماع الموتى ، ومعرفتهم لمن يزورهم ، وذكر في ذلك مرائي كثيرا جدا ، ثم قال : وهذه المرائي ، وإن لم تصلح بمجردها لإثبات مثل ذلك ، فهي على كثرتها ، وأنها لا يحصيها إلا الله قد تواطأت على هذا المعنى ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر " ، يعني ليلة القدر ، فإذا تواطأت رؤيا المؤمنين على شيء ، كان كتواطؤ روايتهم له ، ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور ، وقد ثبت في الصحيح أن الميت يستأنس بالمشيعين لجنازته بعد دفنه ، فروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الرحمن بن شماسة المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياق الموت ، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار . . الحديث ، وفيه : فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار ، فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور ، ويقسم لحمها ، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي ، فدل على أن الميت يستأنس بالحاضرين عند قبره ويسر بهم ، ا هـ .

ومعلوم أن هذا الحديث له حكم الرفع ، لأن استئناس المقبور بوجود الأحياء عند قبره لا مجال للرأي فيه .

ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل المذكور : ويكفي في هذا تسمية المسلم عليهم زائرا ، ولولا أنهم يشعرون به لما صح تسميته زائرا ، فإن المزور إن لم يعلم بزيارة من زاره ، لم يصح أن يقال : زاره ، وهذا هو المعقول من الزيارة عند جميع الأمم ، وكذلك السلام عليهم أيضا ، فإن السلام على من لا يشعر ولا يعلم بالمسلم محال ، وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا زاروا القبور أن يقولوا : " السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية " ، وهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ، ويخاطب ، ويعقل ، ويرد ، وإن لم يسمع المسلم الرد .

ومما قاله ابن القيم في كلامه الطويل قوله : وقد ترجم الحافظ أبو محمد عبد الحق الأشبيلي على هذا ، فقال : ذكر ما جاء أن الموتى يسألون عن الأحياء ، ويعرفون أقوالهم وأعمالهم ، ثم قال : ذكر أبو عمر بن عبد البر من حديث ابن عباس ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما من [ ص: 137 ] رجل يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه فيسلم عليه ، إلا عرفه ورد عليه السلام " .

ويروى من حديث أبي هريرة مرفوعا ، قال : " فإن لم يعرفه وسلم عليه رد عليه السلام " ، قال : ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من رجل يزور قبر أخيه فيجلس عنده ، إلا استأنس به حتى يقوم " ، واحتج الحافظ أبو محمد في هذا الباب بما رواه أبو داود في سننه ، من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام " .

ثم ذكر ابن القيم عن عبد الحق وغيره مرائي وآثارا في الموضوع ، ثم قال في كلامه الطويل : ويدل على هذا أيضا ما جرى عليه عمل الناس قديما وإلى الآن ، من تلقين الميت في قبره ولولا أنه يسمع ذلك وينتفع به لم يكن فيه فائدة ، وكان عبثا . وقد سئل عنه الإمام أحمد رحمه الله ، فاستحسنه واحتج عليه بالعمل .

ويروى فيه حديث ضعيف : ذكر الطبراني في معجمه من حديث أبي أمامة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا مات أحدكم فسويتم عليه التراب ، فليقم أحدكم على رأس قبره ، فيقول : يا فلان بن فلانة " ، الحديث . وفيه : " اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأنك رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما " ، الحديث . ثم قال ابن القيم : فهذا الحديث وإن لم يثبت ، فاتصال العمل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار كاف في العمل به ، وما أجرى الله سبحانه العادة قط بأن أمة طبقت مشارق الأرض ومغاربها ، وهي أكمل الأمم عقولا ، وأوفرها معارف تطبق على مخاطبة من لا يسمع ، وتستحسن ذلك لا ينكره منها منكر بل سنه الأول للآخر ، ويقتدي فيه الآخر بالأول ، فلولا أن الخطاب يسمع لكان ذلك بمنزلة الخطاب للتراب ، والخشب والحجر والمعدوم ، وهذا وإن استحسنه واحد فالعلماء قاطبة على استقباحه واستهجانه .

وقد روى أبو داود في سننه بإسناد لا بأس به : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر جنازة رجل ، فلما دفن قال : " سلوا لأخيكم التثبيت ، فإنه الآن يسأل " ، فأخبر أنه يسأل حينئذ ، وإذا كان يسأل فإنه يسمع التلقين ، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يسمع قرع نعالهم إذا ولوا مدبرين .

ثم ذكر ابن القيم قصة الصعب بن جثامة ، وعوف بن مالك ، وتنفيذ عوف لوصية الصعب له في المنام بعد موته ، وأثنى على عوف بن مالك بالفقه في تنفيذه وصية الصعب بعد موته ، لما [ ص: 138 ] علم صحة ذلك بالقرائن ، وكان في الوصية التي نفذها عوف إعطاء عشرة دنانير ليهودي من تركة الصعب كانت دينا له عليه ، ومات قبل قضائها .

قال ابن القيم : وهذا من فقه عوف بن مالك رضي الله عنه ، وكان من الصحابة حيث نفذ وصية الصعب بن جثامة بعد موته ، وعلم صحة قوله بالقرائن التي أخبره بها ، من أن الدنانير عشرة وهي في القرن ، ثم سأل اليهودي فطابق قوله ما في الرؤيا فجزم عوف بصحة الأمر ، فأعطى اليهودي الدنانير ، وهذا فقه إنما يليق بأفقه الناس وأعلمهم ، وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولعل أكثر المتأخرين ينكر ذلك ، ويقول : كيف جاز لعوف أن ينقل الدنانير من تركة صعبة ، وهي لأيتامه وورثته إلى يهودي بمنام .

ثم ذكر ابن القيم تنفيذ خالد وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما وصية ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه بعد موته ، وفي وصيته المذكورة قضاء دين عينه لرجل في المنام ، وعتق بعض رقيقه ، وقد وصف للرجل الذي رآه في منامه الموضع الذي جعل فيه درعه الرجل الذي سرقها ، فوجدوا الأمر كما قال ، وقصته مشهورة .

وإذا كانت وصية الميت بعد موته قد نفذها في بعض الصور أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن ذلك يدل على أنه يدرك ويعقل ويسمع ، ثم قال ابن القيم في خاتمة كلامه الطويل : والمقصود جواب السائل وأن الميت إذا عرف مثل هذه الجزئيات وتفاصيلها ، فمعرفته بزيارة الحي له وسلامه عليه ودعاؤه له أولى وأحرى ، ا هـ .

فكلام ابن القيم هذا الطويل الذي ذكرنا بعضه جملة وبعضه تفصيلا ، فيه من الأدلة المقنعة ما يكفي في الدلالة على سماع الأموات ، وكذلك الكلام الذي نقلنا عن شيخه أبي العباس بن تيمية ، وفي كلامهما الذي نقلنا عنهما أحاديث صحيحة ، وآثار كثيرة ، ومرائي متواترة وغير ذلك ، ومعلوم أن ما ذكرنا في كلام ابن القيم من تلقين الميت بعد الدفن ، أنكره بعض أهل العلم ، وقال : إنه بدعة ، وأنه لا دليل عليه ، ونقل ذلك عن الإمام أحمد وأنه لم يعمل به إلا أهل الشام ، وقد رأيت ابن القيم استدل له بأدلة ، منها : أن الإمام أحمد رحمه الله سئل عنه فاستحسنه . واحتج عليه بالعمل . ومنها : أن عمل المسلمين اتصل به في سائر الأمصار والأعصار من غير إنكار .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 12:19 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (430)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 139 إلى صـ 146



ومنها : أن الميت يسمع قرع نعال الدافنين إذا ولوا مدبرين ****** ، واستدلاله بهذا الحديث الصحيح استدلال قوي جدا ; لأنه إذا كان في ذلك الوقت يسمع قرع النعال ، فلأن يسمع الكلام الواضح بالتلقين من أصحاب النعال أولى [ ص: 139 ] وأحرى ، واستدلاله لذلك بحديث أبي داود : " سلوا لأخيكم التثبيت فإنه الآن يسأل " ، له وجه من النظر ; لأنه إذا كان يسمع سؤال السائل فإنه يسمع تلقين الملقن ، والله أعلم .

والفرق بين سماعه سؤال الملك وسماعه التلقين من الدافنين محتمل احتمالا قويا ، وما ذكره بعضهم من أن التلقين بعد الموت لم يفعله إلا أهل الشام ، يقال فيه : إنهم هم أول من فعله ، ولكن الناس تبعوهم في ذلك ، كما هو معلوم عند المالكية والشافعية . قال الشيخ الحطاب في كلامه على قول خليل بن إسحاق المالكي في مختصره : ( وتلقينه الشهادة ) وجزم النووي باستحباب التلقين بعد الدفن .

وقال الشيخ زروق في شرح الرسالة والإرشاد ، وقد سئل عنه أبو بكر بن الطلاع من المالكية ، فقال : هو الذي نختاره ونعمل به ، وقد روينا فيه حديثا عن أبي أمامة ليس بالقوي ، ولكنه اعتضد بالشواهد ، وعمل أهل الشام قديما ، إلى أن قال : وقال في المدخل : ينبغي أن يتفقده بعد انصراف الناس عنه من كان من أهل الفضل والدين ، ويقف عند قبره تلقاء وجهه ويلقنه ; لأن الملكين عليهما السلام ، إذ ذاك يسألانه وهو يسمع قرع نعال المنصرفين .

وقد روى أبو داود في سننه عن عثمان - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه ، وقال : " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل " ، إلى أن قال : وقد كان سيدي أبو حامد بن البقال ، وكان من كبار العلماء والصلحاء ، إذا حضر جنازة عزى وليها بعد الدفن ، وانصرف مع من ينصرف ، فيتوارى هنيهة حتى ينصرف الناس ، ثم يأتي إلى القبر ، فيذكر الميت بما يجاوب به الملكين عليهما السلام ، انتهى محل الغرض من كلام الحطاب .

وما ذكره من كلام أبي بكر بن الطلاع المالكي له وجه قوي من النظر ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .

ثم قال الحطاب : واستحب التلقين بعد الدفن أيضا القرطبي والثعالبي وغيرهما ، ويظهر من كلام أبي . . . في أول كتاب الجنائز يعني من صحيح مسلم ، وفي حديث عمرو بن العاص في كتاب " الإيمان " ميل إليه ، انتهى من الحطاب . وحديث عمرو بن العاص المشار إليه ، هو الذي ذكرنا محل الغرض منه في كلام ابن القيم الطويل المتقدم .

قال مسلم في " صحيحه " : حدثنا محمد بن المثنى العنزي ، وأبو معن الرقاشي ، وإسحاق بن منصور ، كلهم عن أبي عاصم . واللفظ لابن المثنى : حدثنا الضحاك ، يعني أبا عاصم ، قال : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن ابن شماسة [ ص: 140 ] المهري ، قال : حضرنا عمرو بن العاص ، وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار ، الحديث . وقد قدمنا محل الغرض منه بلفظه في كلام ابن القيم المذكور ، وقدمنا أن حديث عمرو هذا له حكم الرفع ، وأنه دليل صحيح على استئناس الميت بوجود الأحياء عند قبره .

وقال النووي في " روضة الطالبين " ، ما نصه : ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن ، فيقال : يا عبد الله ابن أمة الله اذكر ما خرجت عليه من الدنيا : شهادة ألا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن البعث حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأنت رضيت بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا ، وبالقرآن إماما ، وبالكعبة قبلة ، وبالمؤمنين إخوانا ، ورد به الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم .

قلت : هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا ، منهم القاضي حسين ، وصاحب التتمة ، والشيخ نصر المقدسي في كتابه " التهذيب " وغيرهم ، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا ، والحديث الوارد فيه ضعيف ، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم ، وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة ; كحديث : " اسألوا له التثبيت " ، ووصية عمرو بن العاص : أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور ، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي ، رواه مسلم في صحيحه ، ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين ، من العصر الأول ، وفي زمن من يقتدى به ، ا هـ محل الغرض من كلام النووي .

وبما ذكر ابن القيم وابن الطلاع ، وصاحب المدخل من المالكية ، والنووي من الشافعية ، كما أوضحنا كلامهم تعلم أن التلقين بعد الدفن له وجه قوي من النظر ; لأنه جاء فيه حديث ضعيف ، واعتضد بشواهد صحيحة ، وبعمل أهل الشام قديما ، ومتابعة غيرهم لهم .

وبما علم في علم الحديث من التساهل في العمل بالضعيف في أحاديث الفضائل ، ولا سيما المعتضد منها بصحيح ، وإيضاح شهادة الشواهد له أن حقيقة التلقين بعد الدفن مركبة من شيئين : أحدهما : سماع الميت كلام ملقنه بعد دفنه .

[ ص: 141 ] والثاني : انتفاعه بذلك التلقين ، وكلاهما ثابت في الجملة ، أما سماعه لكلام الملقن فيشهد له سماعه لقرع نعل الملقن الثابت في الصحيحين ، وليس سماع كلامه بأبعد من سماع قرع نعله كما ترى . وأما انتفاعه بكلام الملقن ، فيشهد له انتفاعه بدعاء الحي وقت السؤال في حديث : " سلوا لأخيكم التثبيت فإنه يسأل الآن " ، واحتمال الفرق بين الدعاء والتلقين قوي جدا كما ترى ، فإذا كان وقت السؤال ينتفع بكلام الحي الذي هو دعاؤه له ، فإن ذلك يشهد لانتفاعه بكلام الحي الذي هو تلقينه إياه وإرشاده إلى جواب الملكين ، فالجميع في الأول سماع من الميت لكلام الحي ، وفي الثاني انتفاع من الميت بكلام الحي وقت السؤال ، وقد علمت قوة احتمال الفرق بين الدعاء والتلقين .

وفي ذلك كله دليل على سماع الميت كلام الحي ، ومن أوضح الشواهد للتلقين بعد الدفن السلام عليه ، وخطابه خطاب من يسمع ، ويعلم عند زيارته ، كما تقدم إيضاحه ; لأن كلا منهما خطاب له في قبره ، وقد انتصرابن كثير رحمه الله في تفسير سورة " الروم " ، في كلامه على قوله تعالى : فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء ، إلى قوله : فهم مسلمون [ 30 \ 32 - 33 ] ، لسماع الموتى ، وأورد في ذلك كثيرا من الأدلة التي قدمنا في كلام ابن القيم ، وابن أبي الدنيا وغيرهما ، وكثيرا من المرائي الدالة على ذلك ، وقد قدمنا الحديث الدال على أن المرائي إذا تواترت أفادت الحجة ، ومما قال في كلامه المذكور : وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية : فإنك لا تسمع الموتى ، على توهيم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، في روايته مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام ، إلى أن قال : والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، لما لها من الشواهد على صحتها ، من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا : " ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه " ، الحديث .

وقد قدمناه في هذا المبحث مرارا ، وبجميع ما ذكرنا في هذا المبحث في الكلام على آية " النمل " هذه تعلم أن الذي يرجحه الدليل : أن الموتى يسمعون سلام الأحياء وخطابهم سواء قلنا : إن الله يرد عليهم أرواحهم حتى يسمعوا الخطاب ويردوا الجواب ، أو قلنا : إن الأرواح أيضا تسمع وترد بعد فناء الأجسام ، لأنا قد قدمنا أن هذا ينبني على مقدمتين : ثبوت سماع الموتى بالسنة الصحيحة ، وأن القرآن لا يعارضها على التفسير [ ص: 142 ] الصحيح الذي تشهد له القرائن القرآنية ، واستقراء القرآن ، وإذا ثبت ذلك بالسنة الصحيحة من غير معارض من كتاب ولا سنة ظهر بذلك رجحانه على تأول عائشة رضي الله عنها ومن تبعها بعض آيات القرآن ، كما تقدم إيضاحه .

وفي الأدلة التي ذكرها ابن القيم في كتاب الروح على ذلك مقنع للمنصف ، وقد زدنا عليها ما رأيت ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون . ظاهر هذه الآية الكريمة خصوص الحشر بهذه الأفواج المكذبة بآيات الله ، ولكنه قد دلت آيات كثيرة على عموم الحشر لجميع الخلائق ; كقوله تعالى بعد هذا بقليل : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، وقوله تعالى : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] ، وقوله تعالى : ويوم نحشرهم جميعا [ 6 \ 22 ] ، وقوله تعالى : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد أوضحنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في آية " النمل " هذه ، في الكلام على وجه الجمع بين قوله تعالى فيها : ويوم نحشر من كل أمة فوجا الآية ، وبين قوله تعالى : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، ونحوها من الآيات ، وذكرنا قول الألوسي في تفسيره أن قوله : وكل أتوه داخرين في الحشر العام لجميع الناس للحساب والجزاء . وقوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا في الحشر الخاص بهذه الأفواج المكذبة ; لأجل التوبيخ المنصوص عليه في قوله هنا : حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما الآية [ 27 \ 84 ] ، وهذا يدل عليه القرآن ، كما ترى .

وقال بعضهم : هذه الأفواج التي تحشر حشرا خاصا هي رؤساء أهل الضلال وقادتهم ، وعليه فالآية كقوله تعالى : فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا [ 19 \ 68 - 69 ] ، والفوج : الجماعة من الناس . ومنه قوله تعالى : يدخلون في دين الله أفواجا [ 110 \ 2 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم يوزعون ، أي : يرد أولهم على [ ص: 143 ] آخرهم حتى يجتمعوا ، ثم يدفعون جميعا ، كما قاله غير واحد .
قوله تعالى : حتى إذا جاءوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون . قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : أي يسألون عن اعتقادهم وأعمالهم ، ومقصوده بسؤالهم عن اعتقادهم قوله تعالى : أكذبتم بآياتي ، لأن التصديق بآيات الله التي هي هذا القرآن من عقائد الإيمان التي لا بد منها ، كما هو معلوم في حديث جبريل وغيره ، ومقصوده بسؤالهم عن أعمالهم قوله تعالى : أم ماذا كنتم تعملون ، والسؤال المذكور سؤال توبيخ وتقريع ، فقد وبخهم تعالى فيه على فساد الاعتقاد ، وفساد الأعمال ، والتوبيخ عليهما معا المذكور هنا جاء مثله في قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ] ، كما أشار له ابن كثير رحمه الله ، فقوله تعالى : فلا صدق ، وقوله : ولكن كذب ، توبيخ على فساد الاعتقاد . وقوله : ولا صلى : توبيخ على إضاعة العمل .
قوله تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون . الظاهر أن القول الذي وقع عليهم هو كلمة العذاب ، كما يوضحه قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم لا ينطقون ظاهره أن الكفار لا ينطقون يوم القيامة ; كما يفهم ذلك من قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون [ 77 \ 35 ] ، وقوله تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما الآية [ 17 \ 97 ] ، مع أنه بينت آيات أخر من كتاب الله أنهم ينطقون يوم القيامة ويعتذرون ; كقوله تعالى عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله تعالى عنهم : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا الآية [ 32 \ 12 ] ، وقوله تعالى عنهم : ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون [ 23 \ 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : ونادوا يامالك [ ص: 144 ] الآية [ 43 \ 77 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كلامهم يوم القيامة .

وقد بينا الجواب عن هذا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " المرسلات " ، في الكلام على قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون [ 77 \ 35 ] ، وما ذكرنا من الآيات . فذكرنا أن من أوجه الجواب عن ذلك أن القيامة مواطن ، ففي بعضها ينطقون ، وفي بعضها لا ينطقون ، فإثبات النطق لهم ونفيه عنهم كلاهما منزل على حال ووقت غير حال الآخر ووقته . ومنها أن نطقهم المثبت لهم خاص بما لا فائدة لهم فيه ، والنطق المنفي عنهم خاص بما لهم فيه فائدة ومنها غير ذلك ، وقد ذكرنا شيئا من أجوبة ذلك في " الفرقان " و " طه " ، و " الإسراء " .
قوله تعالى : ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل الآية [ 17 \ 12 ] .
قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في الآية قرينة تدل على بطلان ذلك القول ، وذكرنا في ترجمته أيضا أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على المعنى ، بكونه هو الغالب في القرآن ; لأن غلبته فيه ، تدل على عدم خروجه من معنى الآية ، ومثلنا لجميع ذلك أمثلة متعددة في هذا الكتاب المبارك ، والأمران المذكوران من أنواع البيان قد اشتملت عليهما معا آية " النمل " هذه .

وإيضاح ذلك أن بعض الناس قد زعم أن قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ، يدل على أن الجبال الآن في دار الدنيا يحسبها رائيها جامدة ، أي : واقفة ساكنة غير متحركة ، وهي تمر مر السحاب ، ونحوه قول النابغة يصف جيشا :

بأرعن مثل الطود تحسب أنهم وقوف لحاج والركاب تهملج

والنوعان المذكوران من أنواع البيان ، يبينان عدم صحة هذا القول .

[ ص: 145 ] أما الأول منهما : وهو وجود القرينة الدالة على عدم صحته ، فهو أن قوله تعالى : وترى الجبال معطوف على قوله : ففزع ، وذلك المعطوف عليه مرتب بالفاء على قوله تعالى : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات الآية [ 27 \ 87 ] ، أي : ويوم ينفخ في الصور ، فيفزع من في السماوات وترى الجبال ، فدلت هذه القرينة القرآنية الواضحة على أن مر الجبال مر السحاب كائن يوم ينفخ في الصور ، لا الآن .

وأما الثاني : وهو كون هذا المعنى هو الغالب في القرآن فواضح ; لأن جميع الآيات التي فيها حركة الجبال كلها في يوم القيامة ; كقوله تعالى : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 10 ] ، وقوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] ، وقوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، وقوله تعالى : وإذا الجبال سيرت [ 81 \ 3 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : صنع الله الذي أتقن كل شيء ، جاء نحوه في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] ، وقوله تعالى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] ، وتسيير الجبال وإيجادها ونصبها قبل تسييرها ، كل ذلك صنع متقن .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنه خبير بما تفعلون قد قدمنا الآيات التي بمعناه في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ، إلى قوله : إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] .
قوله تعالى : من جاء بالحسنة فله خير منها . اعلم : أن الحسنة في هذه الآية الكريمة تشمل نوعين من الحسنات :

الأول : حسنة هي فعل خير من أفعال العبد ، كالإنفاق في سبيل الله ، وبذل النفس والمال في إعلاء كلمة الله ، ونحو ذلك ، ومعنى قوله تعالى : فله خير منها ، بالنسبة إلى هذا النوع من الحسنات ، أن الثواب مضاعف ، فهو خير من نفس العمل ; لأن من أنفق درهما واحدا في سبيل الله فأعطاه الله ثوابا هو سبعمائة درهم فله عند الله ثواب هو سبعمائة درهم مثلا ، خير من الحسنة التي قدمها التي هي إنفاق درهم واحد ، وهذا لا إشكال فيه كما ترى .

[ ص: 146 ] وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] ، ومعلوم أن عشر أمثال الحسنة خير منها هي وحدها ; وكقوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء [ 2 \ 261 ] .

وأما النوع الثاني من الحسنة : فكقول من قال من أهل العلم : إن المراد بالحسنة في هذه الآية : لا إله إلا الله ، ولا يوجد شيء خير من لا إله إلا الله ، بل هي أساس الخير كله ، والذي يظهر على هذا المعنى أن لفظة خير ليست صيغة تفضيل .

وأن المعنى : فله خير عظيم عند الله حاصل له منها ، أي : من قبلها ومن أجلها ، وعليه فلفظة من في الآية ; كقوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] ، أي : من أجل خطيئاتهم أغرقوا ، فأدخلوا نارا . وأما على الأول فخير صيغة تفضيل ، ويحتمل عندي أن لفظة خير على الوجه الثاني صيغة تفضيل أيضا ، ولا يراد بها تفضيل شيء على لا إله إلا الله ، بل المراد أن كلمة لا إله إلا الله تعبد بها العبد في دار الدنيا ، وتعبده بها فعله المحض ، وقد أثابه الله في الآخرة على تعبده بها ، وإثابة الله فعله جل وعلا ، ولا شك أن فعل الله خير من فعل عبده ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 12:22 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (431)
سُورَةُ الْقَصَصِ
صـ 147 إلى صـ 154




قوله تعالى : وهم من فزع يومئذ آمنون . دلت على معناه آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى في أمنهم من الفزع : لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة الآية [ 21 \ 103 ] ، وقوله تعالى في أمنهم : فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] ، وقوله تعالى : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة الآية [ 41 \ 40 ] ، وقوله تعالى : وهم من فزع يومئذ [ 27 \ 89 ] ، قرأه عاصم ، وحمزة ، والكسائي بتنوين فزع ، وفتح ميم يومئذ ، وقرأه الباقون بغير تنوين ، بل بالإضافة إلى يومئذ ، إلا أن نافعا قرأ بفتح ميم يومئذ مع إضافة فزع إليه ، وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو بإضافة فزع إلى يومئذ مع كسر ميم يومئذ ، وفتح الميم وكسرها من نحو يومئذ ، قد أوضحناه بلغاته وشواهده العربية مع بيان المختار من اللغات في سورة [ ص: 147 ] " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت الآية [ 19 \ 15 ] .
قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون . قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة ، ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، وأبو وائل ، وأبو صالح ، ومحمد بن كعب ، وزيد بن أسلم ، والزهري ، والسدي ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة ، وابن زيد ، في قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة ، يعني الشرك .

وهذه الآية الكريمة تضمنت أمرين :

الأول : أن من جاء ربه يوم القيامة بالسيئة كالشرك يكب وجهه في النار .

والثاني : أن السيئة إنما تجزى بمثلها من غير زيادة ، وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في الأول منهما : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] ، وكقوله تعالى في الثاني منهما : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها الآية [ 6 \ 160 ] ، وقوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون [ 28 \ 84 ] ، وقوله تعالى : جزاء وفاقا [ 78 \ 26 ] .

وإذا علمت أن السيئات لا تضاعف ، فاعلم أن السيئة قد تعظم فيعظم جزاؤها بسبب حرمة المكان ; كقوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم [ 22 \ 25 ] ، أو حرمة الزمان ; كقوله تعالى في الأشهر الحرام : فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ 9 \ 36 ] .

وقد دلت آيات من كتاب الله أن العذاب يعظم بسبب عظم الإنسان المخالف ; كقوله تعالى في نبينا - صلى الله عليه وسلم - : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ 17 \ 47 ] ، وقوله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين الآية [ 69 \ 44 - 46 ] ، [ ص: 148 ] وكقوله تعالى في أزواجه - صلى الله عليه وسلم - : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين الآية [ 33 \ 30 ] ، وقد قدمنا طرفا من الكلام على هذا ، في الكلام على قوله تعالى : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ 17 \ 75 ] ، مع تفسير الآية ، ومضاعفة السيئة المشار إليها في هاتين الآيتين ، إن كانت بسبب عظم الذنب ، حتى صار في عظمه كذنبين ، فلا إشكال ، وإن كانت مضاعفة جزاء السيئة كانت هاتان الآيتان مخصصتين للآيات المصرحة ، بأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها ، والجميع محتمل ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة . جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قل ياأيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم الآية [ 10 \ 104 ] ، وقوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف 106 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن . قد قدمنا الآيات التي فيها زيادة إيضاح لقوله : وأمرت أن أكون من المسلمين ، في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : أمرت أن أكون أول من أسلم الآية [ 6 \ 14 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لقوله تعالى هنا : وأن أتلو القرآن ، في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك الآية [ 18 \ 27 ] .
قوله تعالى : ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين . جاء معناه مبينا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] ، وقوله تعالى : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ 11 \ 12 ] ، وقوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى [ ص: 149 ] وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها . جاء معناه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] .
قوله تعالى : وما ربك بغافل عما تعملون . جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم : عما تعملون بتاء الخطاب ، وقرأ الباقون عما يعملون بياء الغيبة .
[ ص: 150 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْقَصَصِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا : وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ، هُوَ الْكَلِمَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [ 7 \ 137 ] ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا السَّبَبَ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةً جَمْعَ إِمَامٍ ، أَيْ : قَادَةً فِي الْخَيْرِ ، دُعَاةً إِلَيْهِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ . وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا أَيْضًا الشَّيْءَ الَّذِي جَعَلَهُمْ وَارِثِيهِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; فَبَيَّنَ السَّبَبَ الَّذِي جَعَلَهُمْ بِهِ أَئِمَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ 32 \ 24 ] ، فَالصَّبْرُ وَالْيَقِينُ هُمَا السَّبَبُ فِي ذَلِكَ ، وَبَيَّنَ الشَّيْءَ الَّذِي جَعَلَهُمْ لَهُ وَارِثِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ [ 7 \ 137 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا قَوْمًا آخَرِينَ [ 44 \ 25 - 28 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَخْرَجْنَاهُ مْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَ ا بَنِي إِسْرَائِيلَ [ 26 \ 57 - 59 ] .
قوله تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا . اعلم أن التحقيق إن شاء الله ، أن اللام في قوله : فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا [ 28 \ 8 ] ، لام التعليل المعروفة بلام كي ، وذلك على سبيل الحقيقة لا المجاز ، ويدل على ذلك قوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 \ 30 ] .

وإيضاح ذلك أن قوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، صريح في أن الله تعالى يصرف مشيئة العبد وقدرته بمشيئته جل وعلا ، إلى ما سبق به علمه ، وقد صرف مشيئة فرعون وقومه بمشيئته جل وعلا ، إلى التقاطهم موسى ; ليجعله لهم عدوا وحزنا ، [ ص: 151 ] فكأنه يقول : قدرنا عليهم التقاطه بمشيئتنا ليكون لهم عدوا وحزنا ، وهذا معنى واضح ، لا لبس فيه ولا إشكال ، كما ترى .

وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : ولكن إذا نظر إلى معنى السياق ، فإنه تبقى اللام للتعليل ; لأن معناه : أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ، ليجعله عدوا لهم وحزنا ، فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه ، انتهى محل الغرض من كلامه . وهذا المعنى هو التحقيق في الآية إن شاء الله تعالى ، ويدل عليه قوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله ، كما بينا وجهه آنفا .

وبهذا التحقيق تعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين ، وينشدون له الشواهد من أن اللام في قوله : ليكون ، لام العاقبة والصيرورة خلاف الصواب ، وأن ما يقوله البيانيون من أن اللام في قوله : ليكون فيها استعارة تبعية في متعلق معنى الحرف ، خلاف الصواب أيضا .

وإيضاح مراد البيانيين بذلك ، هو أن من أنواع تقسيمهم لما يسمونه الاستعارة ، التي هي عندهم مجاز علاقته المشابهة أنهم يقسمونها إلى استعارة أصلية ، واستعارة تبعية ، ومرادهم بالاستعارة الأصلية الاستعارة في أسماء الأجناس الجامدة والمصادر ، ومرادهم باستعارة التبعية قسمان : أحدهما : الاستعارة في المشتقات ، كاسم الفاعل والفعل .

والثاني : الاستعارة في متعلق معنى الحرف ، وهو المقصود بالبيان .

فمثال الاستعارة الأصلية عندهم : رأيت أسدا على فرسه ، ففي لفظة أسد في هذا المثال استعارة أصلية تصريحية عندهم ، فإنه أراد تشبيه الرجل الشجاع بالأسد لعلاقة الشجاعة ، فحذف المشبه الذي هو الرجل الشجاع ، وصرح بالمشبه به الذي هو الأسد ، على سبيل الاستعارة التصريحية ، وصارت أصلية ; لأن الأسد اسم جنس جامد .

ومثال الاستعارة التبعية في المشتق عندهم قولك : الحال ناطقة بكذا ، فالمراد عندهم : تشبيه دلالة الحال بالنطق بجامع الفهم والإدراك بسبب كل منهما ، فحذف الدلالة التي هي المشبه ، وصرح بالنطق الذي هو المشبه به على سبيل الاستعارة التصريحية ، واشتق من النطق اسم الفاعل الذي هو ناطقة ، فجرت الاستعارة التبعية في اسم الفاعل الذي هو ناطقة ، وإنما قيل لها تبعية ; لأنها إنما جرت فيه تبعا لجريانها في [ ص: 152 ] المصدر ، الذي هو النطق ; لأن المشتق تابع للمشتق منه ، ولا يمكن فهمه بدون فهمه ، وهذا التوجيه أقرب من غيره مما يذكرونه من توجيه ما ذكر .

ومثال الاستعارة التبعية عندهم في متعلق معنى الحرف ، في زعمهم هذه الآية الكريمة ، قالوا : اللام فيها كلفظ الأسد في المثال الأول ، فإنه أطلق على غير الأسد لمشابهة بينهما ، قالوا : وكذلك اللام أصلها موضوعة للدلالة على العلة الغائية ، وعلة الشيء الغائية هي ما يحمل على تحصيله ليحصل بعد حصوله ، قالوا : والعلة الغائية للالتقاط في قوله تعالى : فالتقطه ، هي المحبة والنفع والتبني ، أي : اتخاذهم موسى ولدا ، كما صرحوا بأن هذا هو الباعث لهم على التقاطه وتربيته ، في قوله تعالى عنهم : قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا [ 28 \ 9 ] ، فهذه العلة الغائية عندهم هي التي حملتهم على التقاطه ، لتحصل لهم هذه العلة بعد الالتقاط .

قالوا : ولما كان الحاصل في نفس الأمر بعد الالتقاط ، هو ضد ما رجوه وأملوه ، وهو العداوة والحزن ، شبهت العداوة والحزن الحاصلان بالالتقاط بالمحبة والتبني والنفع ، التي هي علة الالتقاط الغائية بجامع الترتب في كل منهما ، فالعلة الغائية تترتب على معلولها دائما ترتب رجاء للحصول ، فتبنيهم لموسى ومحبته كانوا يرجون ترتبهما على التقاطهم له ، ولما كان المترتب في نفس الأمر على التقاطهم له هو كونه عدوا لهم وحزنا ، صار هذا الترتب الفعلي شبيها بالترتب الرجائي ، فاستعيرت اللام الدالة على العلة الغائية المشعرة بالترتب الرجائي للترتب الحصولي الفعلي الذي لا رجاء فيه .

وإيضاحه أن ترتب الحزن والعداوة على الالتقاط أشبه ترتب المحبة والتبني على الالتقاط ، فأطلقت لام العلة الغائية في الحزن والعداوة ، لمشابهتهما للتنبي والمحبة في الترتب ، كما أطلق لفظ الأسد على الرجل الشجاع ، لمشابهتهما في الشجاعة .

وبعض البلاغيين يقول : في هذا جرت الاستعارة الأصلية أولا بين المحبة والتبني ، وبين العداوة والحزن اللذين حصولهما هو المجرور ، فكانت الاستعارة في اللام تبعا للاستعارة في المجرور ; لأن اللام لا تستقل فيكون ما اعتبر فيها تبعا للمجرور ، الذي هو متعلق معنى الحرف ، وبعضهم يقول : فجرت الاستعارة أولا في العلية والغرضية ، وتبعيتها في اللام ، وهناك مناقشات في التبعية في معنى الحرف تركناها ، لأن غرضنا بيان مرادهم بالاستعارة التبعية في هذه الآية بإيجاز .

[ ص: 153 ] وإذا علمت مرادهم بما ذكر ، فاعلم أن التحقيق إن شاء الله هو ما قدمنا ، وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " ، أن التحقيق أن القرآن لا مجاز فيه ، وأوضحنا ذلك بالأدلة الواضحة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين [ 28 \ 8 ] ، أي : مرتكبين الخطيئة التي هي الذنب العظيم ; كقوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] ، وقوله تعالى : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته الآية [ 2 \ 81 ] .

ومن إطلاق الخاطئ على المذنب العاصي قوله تعالى : ولا طعام إلا من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون [ 69 \ 36 - 37 ] ، وقوله تعالى : ناصية كاذبة خاطئة [ 96 \ 16 ] ، وقوله : إنك كنت من الخاطئين [ 12 \ 29 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال لأهله امكثوا إني آنست نارا الآيات . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " مريم " .
واعلم أنا ربما تركنا كثيرا من الآيات التي تقدم إيضاحها من غير إحالة عليها ، لكثرة ما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين .

ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إتباعه اللعنة لفرعون وجنوده ، بينه أيضا في سورة " هود " ، بقوله فيهم : وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود [ 11 \ 99 ] ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : من المقبوحين ، قال الزمخشري : أي من المطرودين المبعدين ، ولا يخفى أن المقبوحين اسم مفعول ، قبحه إذا صيره قبيحا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه - صلى الله عليه وسلم - لا يهدي من أحب هدايته ، ولكنه جل [ ص: 154 ] وعلا هو الذي يهدي من يشاء هداه ، وهو أعلم بالمهتدين .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] ، وقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم [ 5 \ 41 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه .

وقوله : وهو أعلم بالمهتدين ، جاء معناه موضحا في آيات كثيرة ; كقوله : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى [ 53 \ 30 ] ، وقوله تعالى : إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين [ 16 \ 125 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وقد أوضحنا سابقا أن الهدى المنفي عنه - صلى الله عليه وسلم - ، في قوله تعالى هنا : إنك لا تهدي من أحببت ، هو هدى التوفيق ; لأن التوفيق بيد الله وحده ، وأن الهدى المثبت له - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ، هو هدى الدلالة على الحق والإرشاد إليه ، ونزول قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ، في أبي طالب مشهور معروف .
قوله تعالى : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] .
قوله تعالى كل شيء هالك إلا وجهه . كقوله تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 26 \ 27 ] ، والوجه من الصفات التي يجب الإيمان بها مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق ، كما أوضحناه في سورة " الأعراف " ، وفي غيرها .

قوله تعالى : له الحكم وإليه ترجعون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] ، وقد تركنا ذكر إحالات كثيرة في سورة " القصص " ، هذه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 12:25 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (432)
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
صـ 155 إلى صـ 162

[ ص: 155 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " ، وَالِاسْتِفْهَا مُ فِي قَوْلِهِ : أَحَسِبَ النَّاسُ [ 29 \ 2 ] ، لِلْإِنْكَارِ .

وَالْمَعْنَى : أَنَّ النَّاسَ لَا يُتْرَكُونَ دُونَ فِتْنَةٍ ، أَيِ : ابْتِلَاءٍ وَاخْتِبَارٍ ، لِأَجْلِ قَوْلِهِمْ : آمَنَّا ، بَلْ إِذَا قَالُوا : آمَنَّا فُتِنُوا ، أَيِ : امْتُحِنُوا وَاخْتُبِرُوا بِأَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ الِابْتِلَاءُ الصَّادِقُ فِي قَوْلِهِ : آمَنَّا مِنْ غَيْرِ الصَّادِقِ .

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [ 2 \ 214 ] ، وَقَوْلِهِ : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ 3 \ 142 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَنَبْلُوَنَّ كُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [ 47 \ 31 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ الْآيَةَ [ 3 \ 179 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [ 3 \ 154 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [ 9 \ 16 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هُنَا : وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا الْآيَةَ [ 29 \ 3 ] .

وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الثَّابِتَةُ أَنَّ هَذَا الِابْتِلَاءَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُبْتَلَى بِهِ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى [ ص: 156 ] قَدْرِ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ ; كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ " .
قوله تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له .
قوله تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حسنا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] .
قوله تعالى : ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله يعني أن من الناس من يقول : آمنا بالله بلسانه ، فإذا أوذي في الله ، أي : آذاه الكفار إيذاءهم للمسلمين جعل فتنة الناس صارفة له عن الدين إلى الردة ، والعياذ بالله ; كعذاب الله فإنه صارف رادع عن الكفر والمعاصي . ومعنى فتنة الناس ، الأذى الذي يصيبه من الكفار ، وإيذاء الكفار للمؤمنين من أنواع الابتلاء الذي هو الفتنة ، وهذا قال به غير واحد .

وعليه فمعنى الآية الكريمة ; كقوله تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .

قوله تعالى : ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المنافقين الذين يقولون : آمنا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، إذا حصل للمسلمين من الكفار أذى ، وهم معهم جعلوا فتنة للناس ، أي : أذاهم كعذاب الله ، وأنه إن جاء نصر من الله لعباده المؤمنين فنصرهم على الكفار ، وهزموهم وغنموا منهم الغنائم ، قال أولئك المنافقون : ألم نكن معكم ، يعنون : أنهم مع المؤمنين ومن جملتهم ، يريدون أخذ نصيبهم من الغنائم .

وهذا المعنى جاء في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : [ ص: 157 ] الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين [ 4 \ 141 ] ، وقوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة ياليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما [ 4 \ 72 - 73 ] ، وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة " النساء " .

وقد بين تعالى أنهم كاذبون في قولهم : إنا كنا معكم ، وبين أنه عالم بما تخفي صدورهم من الكفر والنفاق ، بقوله : أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين [ 29 \ 10 ] .
قوله تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ، إلى قوله : وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون . قد قدمنا الآيات الموضحة له زيادة إيضاحها من السنة الصحيحة في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] .
قوله تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين . تقدم إيضاحه في " هود " وغيرها .

وقوله تعالى هنا : وجعلناها آية للعالمين ، يعني سفينة نوح ; كقوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون [ 16 \ 73 ] ، وفي " سورة الفرقان " .
قوله تعالى : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا [ ص: 158 ] إلى قوله وما لكم من ناصرين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا الآية [ 7 \ 38 ] ، وفي سورة " الفرقان " وغير ذلك .
قوله تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب . الضمير في قوله : ذريته راجع إلى إبراهيم .

والمعنى : أن الأنبياء والمرسلين الذين أنزلت عليهم الكتب بعد إبراهيم كلهم من ذرية إبراهيم ، وما ذكره هنا عن إبراهيم ذكر في سورة " الحديد " : أن نوحا مشترك معه فيه ، وذلك واضح لأن إبراهيم من ذرية نوح ، مع أن بعض الأنبياء من ذرية نوح دون إبراهيم ; وذلك في قوله تعالى : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب الآية [ 57 \ 26 ] .

قوله تعالى : وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى إبراهيم أجره ، أي : جزاء عمله في الدنيا ، وإنه في الآخرة أيضا من الصالحين .

وقال بعض أهل العلم : المراد بأجره في الدنيا : الثناء الحسن عليه في دار الدنيا من جميع أهل الملل على اختلافهم إلى كفار ومؤمنين ، والثناء الحسن المذكور هو لسان الصدق ، في قوله : واجعل لي لسان صدق في الآخرين [ 26 \ 84 ] ، وقوله تعالى : وجعلنا لهم لسان صدق عليا [ 19 \ 50 ] ، وقوله : وإنه في الآخرة لمن الصالحين ، لا يخفى أن الصلاح في الدنيا يظهر بالأعمال الحسنة ، وسائر الطاعات ، وأنه في الآخرة يظهر بالجزاء الحسن ، وقد أثنى الله في هذه الآية الكريمة على نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وقد أثنى على إبراهيم أيضا في آيات أخر ; كقوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما [ 2 \ 124 ] ، وقوله تعالى : وإبراهيم الذي وفى [ 53 \ 37 ] ، وقوله تعالى : إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين [ 16 \ 120 - 122 ] .
قوله تعالى [ ص: 159 ] ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية الآية . قد قدمنا إيضاحه في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط [ 11 \ 74 ] .
قوله تعالى ولما أن جاءت رسلنا لوطا ، إلى قوله : لقوم يعقلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بعض الشواهد ، في سورة " هود " ، في الكلام على قصة لوط ، وفي سورة " الحجر " .
قوله تعالى : وإلى مدين أخاهم شعيبا ، إلى قوله : في دارهم جاثمين . تقدم إيضاحه في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قصته مع قومه ، وفي " الشعراء " أيضا .
قوله تعالى : وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا . الظاهر أن قوله : وعادا مفعول به ل أهلكنا مقدرة ، ويدل على ذلك قوله قبله : فأخذتهم الرجفة [ 29 \ 37 ] ، أي : أهلكنا مدين بالرجفة ، وأهلكنا عادا ، ويدل للإهلاك المذكور قوله بعده : وقد تبين لكم من مساكنهم ، أي : هي خالية منهم لإهلاكهم ، وقوله بعده أيضا : فكلا أخذنا بذنبه .

وقد أشار جل وعلا في هذه الآيات الكريمة إلى إهلاك عاد ، وثمود ، وقارون ، وفرعون ، وهامان ، ثم صرح بأنه أخذ كلا منهم بذنبه ، ثم فصل على سبيل ما يسمى في البديع باللف والنشر المرتب أسباب إهلاكهم ، فقال : فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ، [ ص: 160 ] وهي : الريح ، يعني : عادا ، بدليل قوله : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية [ 69 \ 6 ] ، وقوله : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم [ 51 \ 41 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله تعالى : ومنهم من أخذته الصيحة ، يعني : ثمود ، بدليل قوله تعالى فيهم : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ 11 \ 67 - 68 ] . وقوله : ومنهم من خسفنا به الأرض ، يعني : قارون ، بدليل قوله تعالى فيه : فخسفنا به وبداره الأرض الآية [ 28 \ 81 ] . وقوله تعالى : ومنهم من أغرقنا ، يعني : فرعون وهامان ، بدليل قوله تعالى : ثم أغرقنا الآخرين [ 37 \ 82 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

والأظهر في قوله في هذه الآية : وكانوا مستبصرين ، أن استبصارهم المذكور هنا بالنسبة إلى الحياة الدنيا خاصة ; كما دل عليه قوله تعالى : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير [ 67 \ 10 ] ، ونحو ذلك من الآيات . وقوله : وما كانوا سابقين ، كقوله تعالى : أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون [ 29 \ 4 ] .
قوله تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فمثله كمثل الكلب الآية [ 7 \ 176 ] ، وفي مواضع أخر .
قوله تعالى : اتل ما أوحي إليك من الكتاب .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته الآية [ 18 \ 27 ] .

قوله تعالى : وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .

[ ص: 161 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الآية [ 2 \ 45 ] .
قوله تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم .

قد قدمنا إيضاحه ، وتفسير إلا الذين ظلموا منهم في آخر سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] .
قوله تعالى : أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " ، وفي آخر سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى [ 20 \ 133 ] ، وغير ذلك .
قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به [ 6 \ 57 ] ، وفي سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] ، وفي سورة " الرعد " في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية [ 13 \ 6 ] .
قوله تعالى : يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون . نادى الله جل وعلا عباده المؤمنين ، وأكد لهم أن أرضه واسعة ، وأمرهم أن يعبدوه وحده دون غيره ، كما دل عليه تقديم المعمول الذي هو إياي ; كما بيناه في الكلام على قوله تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين [ 1 \ 5 ] .

والمعنى : أنهم إن كانوا في أرض لا يقدرون فيها على إقامة دينهم ، أو يصيبهم فيها أذى الكفار ، فإن أرض ربهم واسعة فليهاجروا إلى موضع منها يقدرون فيه على إقامة دينهم ، ويسلمون فيه من أذى الكفار ، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون .

[ ص: 162 ] وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء في آيات أخر ; كقوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [ 4 \ 97 ] ، وقوله تعالى : وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ 39 \ 10 ] .

قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت [ 29 \ 57 ] . جاء معناه موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى في سورة " آل عمران " : كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ 3 \ 185 ] ، وقوله : كل من عليها فان [ 55 \ 26 ] ، وقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] .
قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا .

قد قدمنا معنى وعملوا الصالحات ، موضحا في أول سورة " الكهف " ، وقدمنا معنى لنبوئنهم في سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ، وذكرنا الآيات التي ذكرت فيها الغرف في آخر " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة الآية [ 25 \ 75 ] .
قوله تعالى : وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كثيرا من الدواب التي لا تحمل رزقها لضعفها ، أنه هو جل وعلا يرزقها ، وأوضح هذا المعنى في قوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين [ 11 \ 6 ] .
قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ، إلى قوله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له غاية الإيضاح في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 12:40 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (433)
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
صـ 163 إلى صـ 170


قوله تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون .

[ ص: 163 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه ، إلى قوله : تبيعا [ 17 \ 67 - 69 ] ، وفي مواضع أخر .
قوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم الآية .

امتن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة على قريش ، بأنه جعل لهم حرما آمنا ، يعني حرم مكة ، فهم آمنون فيه على أموالهم ودمائهم ، والناس الخارجون عن الحرم ، يتخطفون قتلا وأسرا .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى في " القصص " : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا الآية [ 5 \ 97 ] ، وقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا [ 3 \ 97 ] ، وقوله تعالى : جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس الآية [ 5 \ 97 ] ، وقوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 3 - 4 ] .
قوله تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين جاهدوا فيه أنه يهديهم إلى سبل الخير والرشاد ، وأقسم على ذلك بدليل اللام في قوله : لنهدينهم .

وهذا المعنى جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى [ 47 \ 17 ] ، وقوله تعالى : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا الآية [ 9 \ 124 ] ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : وإن الله لمع المحسنين .

قد قدمنا إيضاحه في آخر سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] .
[ ص: 164 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الرُّومِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَعْدَ اللَّهِ ، مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَهُ : وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إِلَى قَوْلِهِ : وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [ 30 \ 3 - 5 ] ، هُوَ نَفْسُ الْوَعْدِ كَمَا لَا يَخْفَى ، أَيْ : وَعَدَ اللَّهُ ذَلِكَ وَعْدًا .

وَقَدْ ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ .

وَالثَّانِي : أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .

وَالرَّابِعُ : أَنَّهُمْ غَافِلُونَ عَنِ الْآخِرَةِ . وَهَذِهِ الْأُمُورُ الْأَرْبَعَةُ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .

أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا : وَهُوَ كَوْنُهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ . [ 13 \ 31 ] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ وَعِيدَهُ لِلْكُفَّارِ لَا يُخْلَفُ أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [ 50 \ 28 - 29 ] .

وَالتَّحْقِيقُ : أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هُوَ وَعِيدُهُ لِلْكُفَّارِ .

وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [ 50 \ 14 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [ 38 \ 14 ] ، فَقَوْلُهُ : حَقَّ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ، أَيْ : وَجَبَ وَثَبَتَ ، فَلَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُهُ بِحَالٍ .

[ ص: 165 ] وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا : وَهُوَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ وَهُمُ الْكُفَّارُ لَا يَعْلَمُونَ ، فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْكَافِرُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [ 11 \ 17 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [ 37 \ 71 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [ 26 \ 8 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ [ 6 \ 116 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [ 12 \ 103 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَعْلَمُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 2 \ 170 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [ 5 \ 104 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [ 2 \ 171 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [ 25 \ 44 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [ 7 \ 179 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [ 67 \ 10 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .

وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا : وَهُوَ كَوْنُهُمْ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ [ 29 \ 38 ] ، أَيْ : فِي الدُّنْيَا ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الْآيَةَ [ 53 \ 29 - 30 ] .

وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا : وَهُوَ كَوْنُهُمْ غَافِلِينَ عَنِ الْآخِرَةِ ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 23 \ 36 - 37 ] .

وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [ 44 \ 35 ] ، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [ 6 \ 29 ] ، مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [ 36 \ 78 ] ، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
[ تنبيه ] [ ص: 166 ] تنبيه .

اعلم أنه يجب على كل مسلم في هذا الزمان أن يتدبر آية " الروم " هذه تدبرا كثيرا ، ويبين ما دلت عليه لكل من استطاع بيانه له من الناس .

وإيضاح ذلك أن من أعظم فتن آخر الزمان التي ابتلى الله بها ضعاف العقول من المسلمين شدة إتقان الإفرنج لأعمال الحياة الدنيا ، ومهارتهم فيها على كثرتها ، واختلاف أنواعها مع عجز المسلمين عن ذلك ، فظنوا أن من قدر على تلك الأعمال أنه على الحق ، وأن من عجز عنها متخلف وليس على الحق ، وهذا جهل فاحش ، وغلط فادح . وفي هذه الآية الكريمة إيضاح لهذه الفتنة ، وتخفيف لشأنها أنزله الله في كتابه قبل وقوعها بأزمان كثيرة ، فسبحان الحكيم الخبير ما أعلمه ، وما أعظمه ، وما أحسن تعليمه .

فقد أوضح جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أكثر الناس لا يعلمون ، ويدخل فيهم أصحاب هذه العلوم الدنيوية دخولا أوليا ، فقد نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل ، لأنهم لا يعلمون شيئا عمن خلقهم ، فأبرزهم من العدم إلى الوجود ، ورزقهم ، وسوف يميتهم ، ثم يحييهم ، ثم يجازيهم على أعمالهم ، ولم يعلموا شيئا عن مصيرهم الأخير الذي يقيمون فيه إقامة أبدية في عذاب فظيع دائم ، ومن غفل عن جميع هذا فليس معدودا من جنس من يعلم ; كما دلت عليه الآيات القرآنية المذكورة ، ثم لما نفى عنهم جل وعلا اسم العلم بمعناه الصحيح الكامل ، أثبت لهم نوعا من العلم في غاية الحقارة بالنسبة إلى غيره .

وعاب ذلك النوع المذكور من العلم ، بعيبين عظيمين : أحدهما : قلته وضيق مجاله ، لأنه لا يجاوز ظاهرا من الحياة الدنيا ، والعلم المقصور على ظاهر من الحياة الدنيا في غاية الحقارة وضيق المجال بالنسبة إلى العلم بخالق السماوات والأرض جل وعلا ، والعلم بأوامره ونواهيه ، وبما يقرب عبده منه ، وما يبعده عنه ، وما يخلد في النعيم الأبدي والعذاب الأبدي من أعمال الخير والشر .

والثاني منهما : هو دناءه هدف ذلك العلم ، وعدم نبل غايته ، لأنه لا يتجاوز الحياة الدنيا ، وهي سريعة الانقطاع والزوال ، ويكفيك من تحقير هذا العلم الدنيوي أن أجود [ ص: 167 ] أوجه الإعراب في قوله : يعلمون ظاهرا ، أنه بدل من قوله قبله لا يعلمون ، فهذا العلم كلا علم لحقارته .

قال الزمخشري في " الكشاف " : وقوله : يعلمون بدل من قوله : لا يعلمون ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ، ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا .

وقوله : ظاهرا من الحياة الدنيا يفيد أن للدنيا ظاهرا وباطنا فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها ، والتنعم بملاذها وباطنها ، وحقيتها أنها مجاز إلى الآخرة ، يتزود منها إليها بالطاعة والأعمال الصالحة ، وفي تنكير الظاهر أنهم لا يعلمون إلا ظاهرا واحدا من ظواهرها . و هم الثانية يجوز أن يكون مبتدأ ، و غافلون خبره ، والجملة خبر هم الأولى ، وأن يكون تكريرا للأولى ، و غافلون خبر الأولى ، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ، ومقرها ، ومحلها وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع ، انتهى كلام صاحب " الكشاف " .

وقال غيره : وفي تنكير قوله : ظاهرا تقليل لمعلومهم ، وتقليله يقربه من النفي ، حتى يطابق المبدل منه ، ا هـ ، ووجهه ظاهر .

واعلم أن المسلمين يجب عليهم تعلم هذه العلوم الدنيوية ، كما أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، وهذه العلوم الدنيوية التي بينا حقارتها بالنسبة إلى ما غفل عنه أصحابها الكفار ، إذا تعلمها المسلمون ، وكان كل من تعليمها واستعمالها مطابقا لما أمر الله به على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، كانت من أشرف العلوم وأنفعها ; لأنها يستعان بها على إعلاء كلمة الله ومرضاته جل وعلا ، وإصلاح الدنيا والآخرة ، فلا عيب فيها إذن ; كما قال تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة [ 8 \ 60 ] ، فالعمل في إعداد المستطاع من القوة امتثالا لأمر الله تعالى وسعيا في مرضاته ، وإعلاء كلمته ليس من جنس علم الكفار الغافلين عن الآخرة كما ترى ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون .

[ ص: 168 ] لما بين جل وعلا أن أكثر الناس وهم الكفار لا يعلمون ، ثم ذكر أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، وهم غافلون ، أنكر عليهم غفلتهم عن الآخرة ، مع شدة وضوح أدلتها بقوله : أولم يتفكروا في أنفسهم الآية ، والتفكر : التأمل والنظر العقلي ، وأصله إعمال الفكر ، والمتأخرون يقولون : الفكر في الاصطلاح حركة النفس في المعقولات ، وأما حركتها في المحسوسات فهو في الاصطلاح تخييل .

وقال الزمخشري في " الكشاف " : في أنفسهم ، يحتمل أن يكون ظرفا كأنه قيل : أولم يحدثوا التفكر في أنفسهم ، أي : في قلوبهم الفارغة من الفكر ، والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ; كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك وأن يكون صلة للتفكر كقولك : تفكر في الأمر أجال فيه فكره ، و ما خلق متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أولم يتفكروا فيقولوا هذا القول . وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلا عليه إلا بالحق وأجل مسمى ، أي : ما خلقها باطلا وعبثا بغير غرض صحيح ، وحكمة بالغة ، ولا لتبقى خالدة ، وإنما خلقها مقرونة بالحق ، مصحوبة بالحكمة ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه ، وهو قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب .

ألا ترى إلى قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ 23 \ 115 ] ، كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثا ، والباء في قوله : إلا بالحق مثلها في قولك : دخلت عليه بثياب السفر ، واشترى الفرس بسرجه ولجامه ، تريد : اشتراه وهو متلبس بالسرج واللجام غير منفك عنها ، وكذلك المعنى : ما خلقها إلا وهي متلبسة بالحق مقترنة به .

فإن قلت : إذا جعلت في أنفسهم صلة للتفكر فما معناه ؟ .

قلت : معناه أولم يتفكروا في أنفسهم التي هي أقرب إليهم من غيرها من المخلوقات ، وهم أعلم وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها ، فتدبروا ما أودعها الله ظاهرا وباطنا ، من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال ، وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها فيه الحكم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة مثلها ، حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد [ ص: 169 ] لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت ، والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى ، انتهى كلام صاحب " الكشاف " ، في تفسير هذه الآية .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن خلقه تعالى للسماوات والأرض ، وما بينهما لا يصح أن يكون باطلا ولا عبثا ، بل ما خلقهما إلا بالحق ; لأنه لو كان خلقهما عبثا لكان ذلك العبث باطلا ولعبا ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل ما خلقهما وخلق جميع ما فيهما وما بينهما إلا بالحق ، وذلك أنه يخلق فيهما الخلائق ، ويكلفهم فيأمرهم ، وينهاهم ، ويعدهم ويوعدهم ، حتى إذا انتهى الأجل المسمى لذلك بعث الخلائق ، وجازاهم فيظهر في المؤمنين صفات رحمته ولطفه وجوده وكرمه وسعة رحمته ومغفرته ، وتظهر في الكافرين صفات عظمته ، وشدة بطشه ، وعظم نكاله ، وشدة عدله وإنصافه ، دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله ; كقوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين [ 44 \ 38 - 40 ] ، فقوله تعالى : إن يوم الفصل الآية ، بعد قوله : ما خلقناهما إلا بالحق ، يبين ما ذكرنا . وقوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية .

فقوله تعالى : وإن الساعة لآتية ، بعد قوله : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق يوضح ذلك ، وقد أوضحه تعالى في قوله : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .

وقد بين جل وعلا أن الذين يظنون أنه خلقهما باطلا لا لحكمة الكفار ، وهددهم على ذلك الظن الكاذب بالويل من النار ; وذلك في قوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وبين جل وعلا أنه لو لم يبعث الخلائق ويجازهم ، لكان خلقه لهم أولا عبثا ، ونزه نفسه عن ذلك العبث سبحانه وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله علوا كبيرا ; وذلك في قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .

فهذه الآيات القرآنية تدل على أنه تعالى ما خلق الخلق إلا بالحق ، وأنه لا بد [ ص: 170 ] باعثهم ، ومجازيهم على أعمالهم ، وإن كان أكثر الناس لا يعلمون هذا ، فكانوا غافلين عن الآخرة ، كافرين بلقاء ربهم .

وقوله تعالى في الآيات المذكورة : وما بينهما ، أي : ما بين السماوات والأرض ، يدخل فيه السحاب المسخر بين السماء والأرض ، والطير صافات ويقبضن بين السماء والأرض والهواء الذي لا غنى للحيوان عن استنشاقه .
قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ، إلى قوله تعالى : كانوا أنفسهم يظلمون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] . وفي " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 \ 32 ] . وفي " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد [ 1 \ 83 ] . وفي " الإسراء " ، في الكلام على قوله تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح الآية [ 17 \ 17 ] ، وفي غير ذلك .

وقوله تعالى في آية " الروم " هذه : كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها [ 30 \ 9 ] ، جاء موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون .

قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو : كان عاقبة ، بضم التاء اسم كان ، وخبرها السوءى . وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي : ثم كان عاقبة الذين ، بفتح التاء خبر كان قدم على اسمها على حد قوله في " الخلاصة " : وفي جميعها توسط الخبر أجز . . . . . . . .

وعلى هذه القراءة فـ السوءى اسم كان ، وإنما جرد الفعل من التاء مع أن السوءى مؤنثة لأمرين :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 12:42 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (434)
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
صـ 171 إلى صـ 178



[ ص: 171 ] الأول : أن تأنيثها غير حقيقي .

والثاني : الفصل بينها وبين الفعل ، كما هو معلوم . وأما على قراءة ضم التاء فوجه تجريد الفعل من التاء هو كون تأنيث العاقبة غير حقيقي فقط .

وأظهر الأقوال في معنى الآية عندي أن المعنى على قراءة ضم التاء : كانت عاقبة المسيئين السوءى ، وهي تأنيث الأسوء ، بمعنى : الذي هو أكثر سوءى ، أي : كانت عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات ، أي : أكثرها سوءى وهي النار أعاذنا الله وإخواننا المسلمين منها .

وأما على قراءة فتح التاء ، فالمعنى : كانت السوءى عاقبة الذين أساءوا ، ومعناه واضح مما تقدم ، وأن معنى قوله : أن كذبوا ، أي : كانت عاقبتهم أسوأ العقوبات لأجل أن كذبوا .

وهذا المعنى تدل عليه آيات كثيرة توضح أن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه ، وسوء عاقبته ، والعياذ بالله ; كقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] ، وقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 46 ] . وفي " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل [ 7 \ 101 ] ، وفي غير ذلك .

وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل منصوب بـ أساءوا ، أي : اقترفوا الجريمة السوءى خلاف الصواب ، وكذلك قول من قال : إن أن في قوله : أن كذبوا تفسيرية ، فهو خلاف الصواب أيضا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : الله يبدأ الخلق ثم يعيده .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في " البقرة " ، و " النحل " ، و " الحج " ، وغير ذلك .
قوله تعالى : ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء .

[ ص: 172 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يقبل منها شفاعة الآية [ 2 \ 48 ] ، وفي غير ذلك .
قوله تعالى : وكانوا بشركائهم كافرين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا 19 \ 82 ] ، وفي غير ذلك .
قوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون

قد قدمنا في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى : إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ، أن قوله هنا : فسبحان الله حين تمسون ، الآيتين من الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس ، وأوضحنا وجه ذلك مع إيضاح جميع الآيات التي أشير فيها إلى أوقات الصلوات الخمس .
قوله تعالى : ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في ذكرنا براهين البعث في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . وفي سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ينبت لكم به الزرع والزيتون [ 16 \ 11 ] وفي غير ذلك .
قوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : منها خلقناكم الآية [ 20 \ 55 ] ، وفي غير ذلك .
قوله تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا الآية [ 16 \ 72 ] .
قوله تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين .

[ ص: 173 ] قوله : ومن آياته خلق السماوات والأرض ، قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض الآية [ 2 \ 164 ] . وقوله : واختلاف ألسنتكم وألوانكم ، قد أوضح تعالى في غير هذا الموضع أن اختلاف ألوان الآدميين واختلاف ألوان الجبال ، والثمار ، والدواب ، والأنعام ، كل ذلك من آياته الدالة على كمال قدرته ، واستحقاقه للعبادة وحده ، قال تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك [ 35 \ 27 - 28 ] ، واختلاف الألوان المذكورة من غرائب صنعه تعالى وعجائبه ، ومن البراهين القاطعة على أنه هو المؤثر جل وعلا ، وأن إسناد التأثير للطبيعة من أعظم الكفر والضلال .

وقد أوضح تعالى إبطال تأثير الطبيعة غاية الإيضاح في سورة " الرعد " : وفي الأرض قطع متجاورات ، إلى قوله : لقوم يعقلون [ 13 \ 4 ] . وقرأ هذا الحرف حفص وحده عن عاصم : إن في ذلك لآيات للعالمين بكسر اللام ، جمع عالم الذي هو ضد الجاهل . وقرأه الباقون : ( للعالمين ) بفتح اللام ; كقوله : رب العالمين [ 1 \ 2 ] .
قوله تعالى : ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون .

قوله تعالى : قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم الآية [ 17 \ 12 ] ، وفي سورة " الفرقان " ، وغير ذلك .
قوله تعالى : ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا .

قد قدمنا ما يوضحه من الآيات مع تفسير قوله : خوفا وطمعا في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا الآية [ 13 \ 12 ] ، وسنحذف هنا بعض الإحالاث لكثرتها .
[ ص: 174 ] قوله تعالى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم الآية .

قد قدمنا إيضاحه بالقرآن في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] .
قوله تعالى : وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : يمحق الله الربا الآية [ 2 \ 276 ] .
قوله تعالى : يومئذ يصدعون .

أي : يتفرقون فريقين ، أحدهما : في الجنة ، والثاني : في النار .

وقد دلت على هذا آيات من كتاب الله ; كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون [ 30 \ 44 - 45 ] ، وقوله تعالى : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] ، ويدل لهذا قوله بعده : من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين [ 44 - 45 ] ، وقد أشار تعالى أيضا للتفرق المذكور هنا في قوله تعالى : يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم [ 99 \ 6 ] .
قوله تعالى : فإنك لا تسمع الموتى ، إلى قوله : إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون .

قد قدمنا الآيات الموضحة في له سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى الآية [ 27 \ 80 ] .
قوله تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة .

[ ص: 175 ] قد بين تعالى الضعف الأول الذي خلقهم منه في آيات من كتابه ، وبين الضعف الأخير في آيات أخر ; قال في الأول : ألم نخلقكم من ماء مهين [ 77 \ 20 ] ، وقال : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وقال تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة الآية [ 36 \ 77 ] ، وقال : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق [ 86 \ 5 - 6 ] ، وقال : كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 30 \ 39 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقال في الضعف الثاني : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ 16 \ 70 ] ، وقال : ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون [ 36 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات . وأشار إلى القوة بين الضعفين في آيات من كتابه ; كقوله : فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، وإطلاقه نفس الضعف على ما خلق الإنسان منه قد أوضحنا وجهه في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : خلق الإنسان من عجل الآية [ 21 \ 37 ] . وقرأ عاصم وحمزة : من ضعف في المواضع الثلاثة المخفوضين والمنصوب بفتح الضاد في جميعها ، وقرأ الباقون بالضم .

واختار حفص القراءة بالضم وفاقا للجمهور ; للحديث الوارد عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من طريق عطية العوفي أنه أعني ابن عمر قرأ عليه - صلى الله عليه وسلم - : من ضعف بفتح الضاد ، فرد عليه - صلى الله عليه وسلم - ، وأمره أن يقرأها بضم الضاد ، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه ، ورواه غيرهما ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار [ 10 \ 45 ] ، وفي غير ذلك .
قوله تعالى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا بعثوا يوم القيامة وأقسموا أنهم ما لبثوا غير ساعة يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان ، ويدخل فيهم الملائكة والرسل ، [ ص: 176 ] والأنبياء ، والصالحون : والله لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ، فهذا يوم البعث ، ولكنكم كنتم لا تعلمون .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في سورة " يس " على أصح التفسيرين ، وذلك في قوله تعالى : قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا [ 36 \ 52 ] .

والتحقيق أن هذا قول الكفار عن البعث ، والآية تدل دلالة لا لبس فيها ، على أنهم ينامون نومة قبل البعث ، كما قاله غير واحد ، وعند بعثهم أحياء من تلك النومة التي هي نومة موت يقول لهم الذين أوتوا العلم والإيمان : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [ 36 \ 52 ] ، أي : هذا البعث بعد الموت ، الذي وعدكم الرحمن على ألسنة رسله ، وصدق المرسلون في ذلك ، كما شاهدتموه عيانا ، فقوله في " يس " : هذا ما وعد الرحمن ، قول الذين أوتوا العلم والإيمان ، على التحقيق ، وقد اختاره ابن جرير ، وهو مطابق لمعنى قوله : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث الآية .

والتحقيق أن قوله هذا إشارة إلى ما وعد الرحمن وأنها من كلام المؤمنين ، وليست إشارة إلى المرقد في قول الكفار : من بعثنا من مرقدنا هذا ، وقوله : في كتاب الله ، أي : فيما كتبه وقدره وقضاه . وقال بعض العلماء : أن قوله : هذا ما وعد الرحمن الآية ، من قول الكفار ، ويدل له قوله في " الصافات " : وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الآية [ 37 \ 20 - 21 ] .
قوله تعالى : ولا هم يستعتبون .

قد قدمنا ما فيه من اللغات ، والشواهد العربية في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] .
قوله تعالى : ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 6 \ 7 ] ، وفي سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا [ 17 \ 90 ] ، [ ص: 177 ] وفي سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون الآية [ 01 \ 69 ] ، وفي غير ذلك .
قوله تعالى : ولا يستخفنك الذين لا يوقنون . قد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] ، أن الله تعالى قد بين في بعض الآيات القرآنية أنه يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطاب لا يريد به نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يريد به التشريع .

وبينا أن من أصرح الآيات في ذلك قوله تعالى مخاطبا له - صلى الله عليه وسلم - : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] ، ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل نزول : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ، بزمن طويل ، فلا وجه البتة لاشتراط بلوغهما ، أو بلوغ أحدهما الكبر عنده ، بل المراد تشريع بر الوالدين لأمته ، بخطابه - صلى الله عليه وسلم .

واعلم أن قول من يقول : إن الخطاب في قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ، لمن يصح خطابه من المكلفين ، وأنه كقول طرفة بن العبد :

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
. . . . . . . . . . . . . خلاف الصواب .

والدليل على ذلك قوله بعد ذكر المعطوفات ، على قوله : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] ، ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة الآية [ 17 \ 39 ] ، ومعلوم أن قوله : ذلك مما أوحى إليك ربك خطاب له - صلى الله عليه وسلم - ، كما ترى . وذكرنا بعض الشواهد العربية على خطاب الإنسان ، مع أن المراد بالخطاب في الحقيقة غيره .

وبهذا تعلم أن مثل قوله تعالى : ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ، وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] ، وقوله : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، وقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 22 ] ، يراد به التشريع لأمته ; [ ص: 178 ] لأنه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من ذلك الكفر الذي نهي عنه .
فائدة .

روي من غير وجه أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ناداه رجل من الخوارج في صلاة الفجر ، فقال : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] ، فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة : فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون .



https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 12:54 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (435)
سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ
صـ 179 إلى صـ 188



[ ص: 179 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ لُقْمَانَ

قَوْلُهُ تَعَالَى : الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِقَوْلِهِ : هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [ 2 \ 1 - 2 ] .
قوله تعالى : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكافر إذا تتلى عليه آيات الله ، وهي هذا القرآن العظيم : ولى مستكبرا ، أي : متكبرا عن قبولها ، كأنه لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ، أي : صمما وثقلا مانعا له من سماعها ، ثم أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبشره بالعذاب الأليم .

وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ 45 \ 7 - 10 ] ، وقد قال تعالى هنا : كأن في أذنيه وقرا ، على سبيل التشبيه ، وصرح في غير هذا الموضع أنه جعل في أذنيه الوقر بالفعل في قوله : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، والظاهر أن الوقر المذكور على سبيل التشبيه بالوقر الحسي ; لأن الوقر المعنوي يشبه الوقر الحسي ، والوقر المجعول على آذانهم بالفعل ، هو الوقر المعنوي المانع من سماع الحق فقط ، دون سماع غيره ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 180 ] [ ص: 180 ] قوله تعالى : خلق السماوات بغير عمد ترونها .

قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها الآية [ 13 \ 2 ] .
قوله تعالى : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم الآية [ 13 \ 16 ] ، وفي أول سورة " الفرقان " .
قوله تعالى : وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم . دلت هذه الآية الكريمة على أن الشرك ظلم عظيم .

وقد بين تعالى ذلك في آيات أخر ; كقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، وقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسر الظلم في قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] ، بأنه الشرك ، وبين ذلك بقوله هنا : إن الشرك لظلم عظيم ، وقد أوضحنا هذا سابقا .
قوله تعالى : ولا تصعر خدك للناس .

معناه : لا تتكبر على الناس ، ففي الآية نهي عن التكبر على الناس ، والصعر : الميل ، والمتكبر يميل وجهه عن الناس متكبرا عليهم معرضا عنهم ، والصعر : الميل ، وأصله : داء يصيب البعير يلوي منه عنقه ، ويطلق على المتكبر يلوي عنقه ويميل خده عن الناس تكبرا عليهم ، ومنه قول عمرو بن حني التغلبي :



وكنا إذا الجبار صعر خده أقمنا له من ميله فتقوما

وقول أبي طالب :

وكنا قديما لا نقر ظلامة إذا ما ثنوا صعر الرءوس نقيمها


[ ص: 181 ] ومن إطلاق الصعر على الميل قول النمر بن تولب العلكي :

إنا أتيناك وقد طال السفر نقود خيلا ضمرا فيها صعر


وإذا علمت أن معنى قوله : ولا تصعر خدك للناس ، لا تتكبر عليهم .

فاعلم أنا قدمنا في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله تعالى : فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] ، الآيات القرآنية الدالة على التحذير من الكبر المبينة لكثرة عواقبه السيئة ، وأوضحنا ذلك مع بعض الآيات الدالة على حسن التواضع ، وثناء الله على المتواضعين .
قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا .

قد قدمنا إيضاحه وتفسير الآية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا [ 17 \ 37 ] .
قوله تعالى : واقصد في مشيك .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع ; كقوله : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الآية [ 25 \ 63 ] ، وقوله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا [ 17 \ 37 ] .
قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ( 20 ) قد قدمنا إيضاحه في أول سورة " الحج " .
وكذلك قوله تعالى : أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير ( 21 ) قدمنا الآيات الموضحة له أيضا في أول سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] .
قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ( 25 ) قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
[ ص: 182 ] قوله تعالى : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله .

قد قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي الآية [ 18 \ 109 ] .
قوله تعالى : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة .

قد قدمنا إيضاحه في أول سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته الآية [ 2 \ 73 ] .
قوله تعالى : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه الآية [ 17 \ 67 ] ، وفي " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون الآية [ 6 \ 40 - 41 ] ، وفي غير ذلك .
قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ( 34 ) .

قد قدمنا في سورة " الأنعام " ، أن هذه الخمسة المذكورة في خاتمة سورة " لقمان " ، أنها هي مفاتح الغيب المذكورة في قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوضح ذلك بالسنة الصحيحة .
[ ص: 183 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ السَّجْدَةِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ( 5 ) .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ، وأنه يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة .

وأشار تعالى إلى هذا المعنى في قوله : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن [ 65 \ 12 ] ، وقد بين في سورة " الحج " ، أن اليوم عنده تعالى كألف سنة مما يعده الناس ، وذلك في قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، وقد قال تعالى في سورة " سأل سائل " : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " الجمع بين هذه الآيات من وجهين :

الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم ، من طريق سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس من أن يوم الألف في سورة " الحج " ، هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ويوم الألف في سورة " السجدة " ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة .

[ ص: 184 ] الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، وقوله تعالى : يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 8 ] .

وقد أوضحنا هذا الوجه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ، وقد ذكرنا في " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " : أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب ، عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات ، فلم يدر ما يقول فيها ، ويقول : لا أدري .
قوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم .

ظاهر هذه الآية الكريمة أن الذي يقبض أرواح الناس ملك واحد معين ، وهذا هو المشهور ، وقد جاء في بعض الآثار أن اسمه عزرائيل .

وقد بين تعالى في آيات أخر أن الناس تتوفاهم ملائكة لا ملك واحد ; كقوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم الآية [ 4 \ 97 ] ، وقوله تعالى : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 47 \ 27 ] ، وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم الآية [ 6 \ 93 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون [ 6 \ 61 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وإيضاح هذا عند أهل العلم : أن الموكل بقبض الأرواح ملك واحد هو المذكور هنا ، ولكن له أعوان يعملون بأمره ينتزعون الروح إلى الحلقوم ، فيأخذها ملك الموت ، أو يعينونه إعانة غير ذلك .

وقد جاء في حديث البراء بن عازب الطويل المشهور : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر فيه : " أن ملك الموت إذا أخذ روح الميت أخذها من يده بسرعة ملائكة فصعدوا بها إلى السماء " ، وقد بين فيه - صلى الله عليه وسلم - ما تعامل به روح المؤمن وروح الكافر بعد أخذ الملائكة له من ملك الموت حين يأخذها من البدن ، وحديث البراء المذكور صححه غير واحد ، وأوضح ابن القيم في كتاب " الروح " بطلان تضعيف ابن حزم له .

[ ص: 185 ] والحاصل : أن حديث البراء المذكور دل على أن مع ملك الموت ملائكة آخرين يأخذون من يده الروح ، حين يأخذه من بدن الميت . وأما قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها [ 39 \ 42 ] فلا إشكال فيه ; لأن الملائكة لا يقدرون أن يتوفوا أحدا إلا بمشيئته جل وعلا : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] .

فتحصل أن إسناد التوفي إلى ملك الموت في قوله هنا : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم [ 32 \ 11 ] ، لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأن إسناده للملائكة في قوله تعالى : فكيف إذا توفتهم الملائكة الآية [ 47 \ 27 ] ، ونحوها من الآيات ; لأن لملك الموت أعوانا يعملون بأمره ، وأن إسناده إلى الله في قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها [ 39 \ 42 ] ، لأن كل شيء كائنا ما كان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ( 12 ) .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء الآية [ 7 \ 53 ] ، وفي سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] .
قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( 13 ) .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " في الكلام على قوله تعالى : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا [ 10 \ 99 ] .
قوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون ( 22 ) .

قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان الآيات الدالة على العواقب السيئة الناشئة عن الإعراض ، عن التذكير بآيات الله في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : [ ص: 186 ] ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه [ 18 \ 57 ] .
قوله تعالى : أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم .

قد قدمنا بعض الآيات الموضحة له في آخر سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا [ 19 \ 98 ] .
قوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون ( 27 ) .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى [ 20 \ 53 - 54 ] ، وقد أوضحنا تفسير الأرض الجرز مع بعض الشواهد العربية في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 8 ] .
قوله تعالى : ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين ( 28 ) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون ( 29 ) .

أظهر أقوال أهل العلم عندي هو أن الفتح في هذه الآية الكريمة هو الحكم والقضاء ، وقد قدمنا أن الفتاح : القاضي ، وهي لغة حميرية قديمة ، والفتاحة : الحكم والقضاء ، ومنه قوله :

ألا من مبلغ عمرا رسولا بأني عن فتاحتكم غني .

وقد جاءت آيات تدل على أن الفتح الحكم ; كقوله تعالى عن نبيه شعيب : على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين [ 7 \ 89 ] ، أي : احكم بيننا بالحق ، وأنت خير الحاكمين .

وقوله تعالى عن نبيه نوح : قال رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا الآية [ 26 \ 117 - 118 ] ، أي : احكم بيني وبينهم حكما ، وقوله تعالى : قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم [ 34 \ 26 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 187 ] إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح [ 8 \ 19 ] ، أي : إن تطلبوا الحكم بهلاك الظالم منكم ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءكم الفتح ، أي : الحكم بهلاك الظالم وهو هلاكهم يوم بدر ; كما قاله غير واحد . وقد ذكروا أنهم لما أرادوا الخروج إلى بدر ، جاء أبو جهل وتعلق بأستار الكعبة ، وقال : اللهم إنا قطان بيتك نسقي الحجيج ، ونفعل ونفعل ، وإن محمدا قطع الرحم وفرق الجماعة ، وعاب الدين ، وشتم الآلهة ، وسفه أحلام الآباء ، اللهم أهلك الظالم منا ومنه ، فطلب الحكم على الظالم ، فجاءهم الحكم على الظالم فقتلوا ببدر ، وصاروا إلى الخلود في النار ، إلى غير ذلك من الآيات .

وعلى قول من قال من أهل العلم : إن المراد بالفتح في الآية الحكم والقضاء بينهم يوم القيامة ، فلا إشكال في قوله تعالى : قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ، وعلى القول بأن المراد بالفتح في الآية الحكم بينهم في الدنيا بهلاك الكفار ، كما وقع يوم بدر . فالظاهر أن معنى قوله تعالى : قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ، أي : إذا عاينوا الموت وشاهدوا القتل ، بدليل قوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 84 - 85 ] ، وقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن الآية [ 4 \ 18 ] ، وقوله تعالى في فرعون : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 90 - 91 ] . ولا يخفى أن قول من قال من أهل العلم : إن الفتح في هذه الآية فتح مكة أنه غير صواب ، بدليل قوله تعالى : قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ومعلوم أن فتح مكة لا يمنع انتفاع المؤمن في وقته بإيمانه ، كما لا يخفى .
قوله تعالى : وانتظر إنهم منتظرون جاء معناه موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين [ 52 \ 30 - 31 ] ، ومعلوم أن التربص هو الانتظار . وقوله تعالى : قل انتظروا إنا منتظرون [ 6 \ 158 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 188 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَحْزَابِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِي نَ الْآيَةَ .

قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَثَلِهِ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ الْآيَةَ [ 17 \ 22 ] ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ " الْأَحْزَابِ " هَذِهِ ، مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ الْخَاصَّ لَفْظُهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْمَلُ حُكْمُهُ جَمِيعَ الْأُمَّةِ ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ الْآيَةَ [ 5 \ 32 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:08 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (436)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 189 إلى صـ 196


قوله تعالى : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم .

في هذه الحرف أربع قراءات سبعية : قرأه عاصم وحده : تظاهرون بضم التاء وتخفيف الظاء بعدها ألف فهاء مكسورة مخففة ، وقرأه حمزة والكسائي : ( تظاهرون ) بفتح التاء بعدها ظاء مفتوحة مخففة ، فألف فهاء مفتوحة مخففة ، وقرأه ابن عامر وحده كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أن ابن عامر يشدد الظاء ، وهما يخففانها . وقرأه نافع ، وابن كثير وأبو عمرو : ( تظهرون ) بفتح التاء بعدها ظاء فهاء مفتوحتان مشددتان بدون ألف ، فقوله تعالى : تظاهرون ، على قراءة عاصم مضارع ظاهر بوزن فاعل ، وعلى قراءة حمزة والكسائي ، فهو مضارع تظاهر بوزن تفاعل حذفت فيه إحدى التاءين على حد قوله في " الخلاصة " :



وما بتاءين ابتدى قد يقتصر فيه على تا كتبين العبر

فالأصل على قراءة الأخوين تتظاهرون ، فحذفت إحدى التاءين . وعلى قراءة ابن عامر ، فهو مضارع تظاهر أيضا ، كقراءة حمزة والكسائي ، إلا أن إحدى التاءين أدغمت في الظاء ولم تحذف ، وماضيه اظاهر كـ ادارك [ 27 \ 66 ] ، و اثاقلتم [ 9 \ 38 ] ، و ادارأتم [ 2 \ 72 ] ، بمعنى تدارك ، إلخ .

[ ص: 189 ] وعلى قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو ، فهو مضارع تظهر على وزن تفعل ، وأصله تتظهرون بتاءين ، فأدغمت إحدى التاءين في الظاء ، وماضيه : اظهر ، نحو : اطيرنا [ 27 \ 47 ] وازينت [ 10 \ 24 ] ، بمعنى : تطيرنا ، وتزينت ; كما قدمنا إيضاحه في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 \ 117 ] ، فعلم مما ذكرنا أن قولهم ظاهر من امرأته ، وتظاهر منها ، وتظهر منها كلها بمعنى واحد ، وهو أن يقول لها : أنت علي كظهر أمي ، يعني : أنها حرام عليه ، وكانوا يطلقون بهذه الصيغة في الجاهلية .

وقد بين الله جل وعلا في قوله هنا : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ، أن من قال لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، لا تكون أما له بذلك ، ولم يزد هنا على ذلك ، ولكنه جل وعلا أوضح هذا في سورة " المجادلة " ، فبين أن أزواجهم اللائي ظاهروا منهن لسن أمهاتهم ، وأن أمهاتهم هن النساء الاتي ولدنهم خاصة دون غيرهن ، وأن قولهم : أنت علي كظهر أمي ، منكر من القول وزور .

وقد بين الكفارة اللازمة في ذلك عند العود ، وذلك في قوله تعالى : الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم [ 58 \ 2 - 4 ] .

فقوله تعالى في آية " الأحزاب " هذه : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ، كقوله تعالى في سورة " المجادلة " : الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وقد رأيت ما في سورة " المجادلة " ، من الزيادة والإيضاح لما تضمنته آية " الأحزاب " هذه .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : قد علمت من القرآن أن الإقدام على الظهار من الزوجة حرام حرمة شديدة ; كما دل عليه قوله تعالى : وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، فما صرح [ ص: 190 ] الله تعالى بأنه منكر وزور فحرمته شديدة كما ترى . وبين كونه كذبا وزورا بقوله : ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وقوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم .
وأشار بقوله تعالى : وإن الله لعفو غفور ، أن من صدر منه منكر الظهار وزوره ، إن تاب إلى الله من ذلك توبة نصوحا غفر له ذلك المنكر والزور وعفا عنه ، فسبحانه ما أكرمه وما أحلمه .
المسألة الثانية : في بيان العود الذي رتب الله عليه الكفارة ، في قوله : ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، وإزالة إشكال في الآية .

اعلم أن هذه المسألة قد بيناها في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، وسنذكر هنا كلامنا المذكور فيه تتميما للفائدة .

ففي " دفع إيهام الاضطراب " ، ما نصه : قوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، لا يخفى أن ترتيبه تعالى الكفارة بالعتق على الظهار والعود معا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معا ، وقوله تعالى : من قبل أن يتماسا صريح في أن التكفير يلزم كونه من قبل العود إلى المسيس .

اعلم أولا : أن ما رجحه ابن حزم من قول داود الظاهري ، وحكاه ابن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام ، وقال به شعبة : من أن معنى : ثم يعودون لما قالوا هو عودهم إلى لفظ الظهار ، فيكررونه مرة أخرى قول باطل ، بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار ، هل كرر زوجها صيغة الظهار أو لا ؟ وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال ، كما تقدم مرارا .

والتحقيق : أن الكفارة ومنع الجماع قبلها ، لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار ، وما زعمه بعضهم أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا ، لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب ، إلا لدليل . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :



كذاك تريب لإيجاب العمل بما له الرجحان مما يحتمل

[ ص: 191 ] وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة - رضي الله عنهم - وأرضاهم .

فنقول وبالله تعالى نستعين : معنى العود عند مالك فيه قولان ، تؤولت المدونة على كل واحد منهما ، وكلاهما مرجح .

الأول : أنه العزم على الجماع فقط .

الثاني : أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معا ، وعلى كلا القولين فلا إشكال في الآية .

لأن المعنى حينئذ : والذين يظاهرون من نسائهم ، ثم يعزمون على الجماع أو عليه مع الإمساك ، فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع ، أو عليه مع الإمساك ، وبين الإعتاق قبل المسيس .

وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة ، وهو واقع في القرآن ; كقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة [ 5 \ 6 ] ، أي : أردتم القيام إليها ، وقوله تعالى : فإذا قرأت القرآن [ 16 \ 98 ] ، أي : أردت قراءته فاستعذ بالله الآية [ 16 \ 98 ] .

ومعنى العود عند الشافعي : أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلقها فيه فلا يطلق ، وعليه فلا إشكال في الآية أيضا ; لأن إمساكه إياها الزمن المذكور لا ينافي التكفير قبل المسيس ، كما هو واضح .
ومعنى العود عند أحمد : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه . أما العزم ، فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به ، وأما على القول بأنه الجماع .
فالجواب : أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ، ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير ; لأن الآية على هذا القول ، إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير ، وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر ، وأما الإقدام على المسيس الأول فحرمته معلومة من عموم قوله تعالى : من قبل أن يتماسا .

ومعنى العود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى : هو العزم على الوطء ، وعليه فلا [ ص: 192 ] إشكال كما تقدم . وما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره عن مالك ، من أنه حكى عنه أن العود الجماع ، فهو خلاف المعروف من مذهبه ، وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العود هو العود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء ; كما ذكرنا . وغالب ما قيل في معنى العود راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم الله .

وقال بعض العلماء : المراد بالعود الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع ، والمراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا ، خصوص الجماع وعليه فلا إشكال ، ولا يخفى عدم ظهور هذا القول .

والتحقيق : عدم جواز الاستمتاع بوطء أو غيره قبل التكفير ، لعموم قوله : من قبل أن يتماسا ، وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء ، قائلا : إن المراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا ، نفس الجماع لا مقدماته ، وممن قال بذلك : الحسن البصري ، والثوري ، وروي عن الشافعي في أحد القولين .

وقال بعض العلماء : اللام في قوله : لما قالوا ، بمعنى : في ، أي : يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون فيه ; كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الواهب العائد في هبته " الحديث ، وقيل : اللام بمعنى : عن ، أي : يعودون عما قالوا ، أي : يرجعون عنه ، وهو قريب مما قبله .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم : أن العود له مبدأ ومنتهى ، فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل ، فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية ، فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء ، ومن وطء بالفعل تحتم في حقه اللزوم ، وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير .

ويدل لهذا قوله - صلى الله عليه وسلم - لما قال : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار " ، قالوا : يا رسول الله قد عرفنا القاتل ، بما بال المقتول ؟ قال : " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " ، فبين أن العزم على الفعل عمل يؤاخذ به الإنسان .

فإن قيل : ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية ، الذي قدمنا بطلانه ; لأن الظاهر المتبادر من قوله : لما قالوا ، أنه صيغة الظهار ، فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى .

[ ص: 193 ] فالجواب : أن المعنى لما قالوا : أنه حرام عليهم ، وهو الجماع ، ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن ، في قوله تعالى : ونرثه ما يقول [ 19 \ 80 ] ، أي : ما يقول إنه يؤتاه من مال وولد في قوله : لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وما ذكرنا من أن من جامع قبل التكفير ، يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى ، حتى يكفر ، هو التحقيق خلافا لمن قال : تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس ; كما روي عن الزهري ، وسعيد بن جبير وأبي يوسف . ولمن قال : تلزم به كفارتان ; كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وذكره بعضهم عن عمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن مهدي . ولمن قال : تلزمه ثلاث كفارات ; كما رواه سعيد بن منصور ، عن الحسن ، وإبراهيم ، والعلم عند الله تعالى . انتهى بطوله من " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .
المسألة الثالثة : أظهر قولي أهل العلم عندي أنه لو قال لها : أنت علي كظهر ابنتي ، أو أختي ، أو جدتي ، أو عمتي ، أو أمي من الرضاع ، أو أختي من الرضاع ، أو شبهها بعضو آخر غير الظهر ، كأن يقول : أنت علي كرأس ابنتي أو أختي إلخ ، أو بطن من ذكر ، أو فرجها ، أو فخذها أن ذلك كله ظهار ، إذ لا فرق في المعنى بينه وبين : أنت علي كظهر أمي ; لأنه في جميع ذلك شبه امرأته بما هي في تأبيد الحرمة كأمه ، فمعنى الظهار محقق الحصول في ذلك .

قال ابن قدامة في " المغني " : وهذا قول أكثر أهل العلم ، منهم : الحسن ، وعطاء ، وجابر بن زيد ، والشعبي ، والنخعي ، والزهري ، والثوري ، والأوزاعي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، وهو جديد قولي الشافعي . وقال في القديم : لا يكون الظهار إلا بأم أو جدة ، لأنها أم أيضا ; لأن اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالأم ، فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه الله تعالى فيه ، ولنا أنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الأم . فأما الآية فقد قال فيها : وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، وهذا موجود في مسألتنا ، فجرى مجراه ، وتعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في غيرها ، إذا كانت مثلها .

الضرب الثالث : أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب ، كالإمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة ، وحلائل الآباء ، والأبناء ، وأمهات النساء ، والربائب اللاتي دخل بأمهن فهو ظهار أيضا ، والخلاف فيها كالتي قبلها ، ووجه المذهبين [ ص: 194 ] ما تقدم ، ويزيد في الأمهات المرضعات دخولها في عموم الأمهات فتكون داخلة في النص ، وسائرهن في معناها ، فثبت فيهن حكمها ، انتهى من " المغني " ، وهو واضح كما ترى .
فرعان يتعلقان بهذه المسألة .

الأول : اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيما إذا شبه امرأته بظهر من تحرم عليه تحريما مؤقتا ، كأخت امرأته ، وعمتها وكالأجنبية ، فقال بعض أهل العلم : هو ظهار وهو قول أصحاب مالك ، وهو عندهم من نوع الكناية الظاهرة ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، واختارها الخرقي . والرواية الأخرى عن أحمد : أنه ليس بظهار ، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي .

وحجة القول الأول : أنه شبه امرأته بمحرمة ، فأشبه ما لو شبهها بالأم ، لاشتراك الجميع في التحريم ; لأن مجرد قوله : أنت علي حرام ، إذا نوى به الظهار ، يكون ظهارا على الأظهر ، والتشبيه بالمحرمة تحريم ، فيكون ظهارا .

وحجة القول الثاني : أن التي شبه بها امرأته ليست محرمة على التأبيد ، فلا يكون لها حكم ظهر الأم إلا إن كان تحريمها مؤبدا كالأم ، ولما كان تحريمها غير مؤبد كان التشبيه بها ليس بظهار ، كما لو شبهها بظهر حائض ، أو محرمة من نسائه ، وأجاب المخالفون عن هذا : بأن مجرد التشبيه بالمحرمة يكفي في الظهار لدخوله في عموم قوله : وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ، قالوا : وأما الحائض ، فيباح الاستمتاع بها في غير الفرج ، والمحرمة يحل له النظر إليها ولمسها من غير شهوة ، وليس في وطء واحدة منهما حد بخلاف مسألتنا ، انتهى من " المغني " ، مع تصرف يسير لا يخل بالمعنى .

وقال صاحب " المغني " : واختار أبو بكر : أن الظهار لا يكون إلا من ذوات المحرم من النساء ، قال : فبهذا أقول .

وقال بعض العلماء : إن شبه امرأته بظهر الأجنبية ، كان طلاقا . قاله بعض المالكية ، ا هـ .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي وأجراها على الأصول ، هو قول من قال : إنه يكون مظاهرا ، ولو كانت التي شبه امرأته بظهرها غير مؤبدة [ ص: 195 ] التحريم ، إذ لا حاجة لتأبيد التحريم ; لأن مدار الظهار على تحريم الزوجة بواسطة تشبيهها بمحرمة ، وذلك حاصل بتشبيهها بامرأة محرمة في الحال ، ولو تحريما مؤقتا لأن تحريم الزوجة حاصل بذلك في قصد الرجل ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثاني : في حكم ما قال لها : أنت علي كظهر أبي أو ابني أو غيرهما من الرجال ، لا أعلم في ذلك نصا من كتاب ولا سنة ، والعلماء مختلفون فيه . فقال بعضهم : لا يكون مظاهرا بذلك ، قال ابن قدامة في " المغني " : وهو قول أكثر العلماء ، لأنه شبيه بما ليس بمحل للاستمتاع ، فأشبه ما لو قال : أنت علي كمال زيد ، وهل فيه كفارة ؟ على روايتين :

إحداهما : فيه كفارة ، لأنه نوع تحريم فأشبه ما لو حرم ماله .

والثانية : ليس فيه شيء ، ونقل ابن القاسم عن أحمد ، فيمن شبه امرأته بظهر الرجل ، لا يكون ظهارا ، ولم أره يلزم فيه شيء ، وذلك لأنه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل للاستمتاع ، أشبه التشبيه بمال غيره . وقال بعضهم : يكون مظاهرا بالتشبيه بظهر الرجل . وعزاه في " المغني " لابن القاسم صاحب مالك ، وجابر بن زيد . وعن أحمد روايتان ، كالمذهبين المذكورين ، وكون ذلك ظهارا هو المعروف عند متأخري المالكية .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر جريان هذه المسألة على مسألة أصولية فيها لأهل الأصول ثلاثة مذاهب ، وهي في حكم ما إذا دار اللفظ بين الحقيقة العرفية والحقيقة اللغوية ، على أيهما يحمل ؟ والصحيح عند جماعات من الأصوليين : أن اللفظ يحمل على الحقيقة الشرعية أولا إن كانت له حقيقة شرعية ، ثم إن لم تكن شرعية حمل على العرفية ، ثم اللغوية .

وعن أبي حنيفة : أنه يحمل على اللغوية قبل العرفية ، قال : لأن العرفية ، وإن ترجحت بغلبة الاستعمال فإن الحقيقة اللغوية مترجحة بأصل الوضع .

والقول الثالث : أنهما لا تقدم إحداهما على الأخرى بل يحكم باستوائهما ، فيكون اللفظ مجملا لاستواء الاحتمالين فيهما ، فيحتاج إلى بيان المقصود من الاحتمالين بنية أو دليل خارج ، وإلى هذه المسألة أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :



واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي فاللغوي على الجلي ولم يجب
بحث عن المجاز في الذي انتخب ومذهب النعمان عكس ما مضى
والقول بالإجمال فيه مرتضى

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أبي مثلا لا ينصرف [ ص: 196 ] في الحقيقة العرفية إلى الاستمتاع بالوطء أو مقدماته ; لأن العرف ليس فيه استمتاع بالذكور ، فلا يكون فيه ظهار . وأما على تقديم الحقيقة اللغوية ، فمطلق تشبيه الزوجة بمحرم ولو ذكرا يقتضي التحريم ، فيكون بمقتضى اللغة له حكم الظهار ، والظاهر أن قوله : أنت علي كالميتة والدم ، وكظهر البهيمة ، ونحو ذلك ; كقوله : أنت علي كظهر أبي ، فيجري على حكمه ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة : اعلم أن قول الرجل لامرأته : أنت علي حرام ، أو إن دخلت الدار فأنت حرام ثم دخلتها ، فيها للعلماء نحو عشرين قولا ، كما هو معروف في محله .

وقد دلت آية الظهار هذه على أن أقيس الأقوال وأقربها لظاهر القرآن قول من قال : إن تحريم الزوجة ظهار ، تلزم فيه كفارة الظهار ، وليس بطلاق .

وإيضاح ذلك : أن قوله : أنت علي كظهر أمي ، معناه : أنت علي حرام ، وقد صرح تعالى بلزوم الكفارة في قوله : أنت علي كظهر أمي ، ولا يخفى أن : أنت علي حرام ، مثلها في المعنى ، كما ترى .

وقال في " المغني " : وذكر إبراهيم الحربي عن عثمان ، وابن عباس ، وأبي قلابة ، وسعيد بن جبير ، وميمون بن مهران ، والبتي ، أنهم قالوا : التحريم ظهار ، ا هـ . وأقرب الأقوال بعد هذا لظاهر القرآن القول بكفارة اليمين ، والاستغفار لقوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، وقوله : والله غفور رحيم [ 66 \ 1 ] ، بعد قوله : لم تحرم الآية [ 66 \ 1 ] .
المسألة الخامسة : الأظهر أن قوله : أنت عندي أو مني أو معي كظهر أمي ، لا فرق بينه وبين قوله : أنت علي كظهر أمي ، فهو ظهار كما قاله غير واحد ، وهو واضح كما ترى .
المسألة السادسة : أظهر أقوال العلم عندي فيمن قال لامرأته : أنت علي كأمي أو مثل أمي ، ولم يذكر الظهر أنه لا يكون ظهارا إلا أن ينوي به الظهار ; لاحتمال اللفظ معاني أخرى غير الظهار ، مع كون الاستعمال فيها مشهورا ، فإن قال : نويت به الظهار ، فهو ظهار في قول عامة العلماء ، قاله في " المغني " . وإن نوى به أنها مثلها في الكرامة عليه والتوقير ، أو أنها مثلها في الكبر أو الصفة فليس بظهار ، والقول قوله في نيته ، قاله في " المغني " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:11 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (437)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 197 إلى صـ 204



وأما إن لم ينو شيئا ، فقد قال في " المغني " : وإن أطلق ، فقال أبو بكر : هو صريح في [ ص: 197 ] الظهار ، وهو قول مالك ، ومحمد بن الحسن . وقال ابن أبي موسى : فيه روايتان ، أظهرهما : أنه ليس بظهار حتى ينويه ، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي ; لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم ، فلم ينصرف إليه بغير نية ككنايات الطلاق ، انتهى منه .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : وهذا القول هو الأظهر عندي ، لأن اللفظ المذكور لا يتعين لا عرفا ، ولا لغة ، إلا لقرينة تدل على قصده الظهار .

قال ابن قدامة في " المغني " : ووجه الأول يعني القول بأن ذلك ظهار أنه شبه امرأته بجملة أمه ، فكان مشبها لها بظهرها ، فيثبت الظهار ; كما لو شبهها به منفردا .

والذي يصح عندي في قياس المذهب أنه إن وجدت قرينة تدل على الظهار مثل أن يخرجه مخرج الحلف ، فيقول : إن فعلت كذا فأنت علي مثل أمي ، أو قال ذلك حال الخصومة والغضب فهو ظهار ; لأنه إذا خرج مخرج الحلف فالحلف يراد للامتناع من شيء أو الحث عليه ، وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه ، ولأن كونها مثل أمه في صفتها أو كرامتها لا يتعلق على شرط ، فيدل على أنه إنما أراد الظهار ، ووقوع ذلك في حال الخصومة والغضب دليل على أنه أراد به ما يتعلق بأذاها ، ويوجب اجتنابها وهو الظهار ، وإن عدم هذا فليس بظهار ; لأنه محتمل لغير الظهار احتمالا كثيرا ، فلا يتعين الظهار فيه بغير دليل ، ونحو هذا قول أبي ثور ، انتهى محل الغرض من " المغني " ، وهو الأظهر فلا ينبغي العدول عنه ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة : أظهر أقوال أهل العلم عندي أنه إن قال : الحل علي حرام ، أو ما أحل الله علي حرام ، أو ما انقلب إليه حرام ، وكانت له امرأة أنه يكون مظاهرا ، وذلك لدخول الزوجة في عموم الصيغ المذكورة .

قال في " المغني " : نص على ذلك أحمد في الصور الثلاث ، ا هـ . وهو ظاهر .

وهذا على أقيس الأقوال وهو كون التحريم ظهارا ، وأظهر القولين عندي فيمن قال : ما أحل الله من أهل ومال حرام علي أنه يلزمه الظهار ، مع لزوم ما يلزم في تحريم ما أحل الله من مال ، وهو كفارة يمين عند من يقول بذلك ، وعليه فتلزمه كفارة ظهار وكفارة يمين .

[ ص: 198 ] وهذا الذي استظهرنا هو الذي اختاره ابن عقيل ، خلافا لما نقله في " المغني " عن أحمد ونصره من أنه يكفي فيه كفارة الظهار عن كفارة اليمين ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثامنة : أظهر أقوال أهل العلم عندي ، فيمن قال لامرأته : أنت علي حرام كظهر أمي ، أو أنت علي كظهر أمي حرام أنه يكون مظاهرا مطلقا ، ولا ينصرف للطلاق ، ولو نواه ; لأن الصيغة صريحة في الظهار .
المسألة التاسعة : أظهر أقوال أهل العلم عندي ، فيمن قال لامرأته : أنت طالق كظهر أمي ، أن الطلاق إن كان بائنا بانت به ، ولا يقع ظهار بقوله : كظهر أمي ; لأن تلفظه بذلك وقع ، وهي أجنبية فهو كالظهار من الأجنبية ، وإن كان الطلاق رجعيا ، ونوى بقوله : كظهر أمي ، الظهار كان مظاهرا ; لأن الرجعية زوجة يلحقها الظهار والطلاق ، وإن لم ينو به الظهار ، فلا يكون ظهارا ، لأنه أتى بصريح الطلاق أولا ، وجعل قوله : كظهر أمي ، صفة له ، وصريح الطلاق لا ينصرف إلى الظهار . ونقل في " المغني " هذا الذي استظهرنا عن القاضي وقال : وهو مذهب الشافعي . وأما لو قدم الظهار على الطلاق ، فقال : أنت علي كظهر أمي طالق ، فالأظهر وقوع الظهار والطلاق معا ، سواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا ; لأن الظهار لا يرفع الزوجية ، ولا تحصل به البينونة ، لأن الكفارة ترفع حكمه ، فلا يمنع وقوع الطلاق على المظاهر منها ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة العاشرة : أظهر أقوال أهل العلم عندي أنه إن شبه أي عضو من امرأته بظهر أمه ، أو بأي عضو من أعضائها ، فهو مظاهر لحصول معنى تحريم الزوجة بذلك . وسواء كان عضو الأم يجوز له النظر إليه كرأسها ويدها أو لا يجوز له كفرجها وفخذها ، وهذا قول مالك ، والشافعي ، وإحدى الروايتين عن أحمد ، ورواية أخرى : أنه لا يكون مظاهرا حتى يشبه جملة امرأته ; لأنه لو حلف بالله لا يمس عضوا معينا منها لم يسر إلى غيره من أعضائها ، فكذلك المظاهرة ، ولأن هذا ليس بمنصوص عليه ، ولا هو في معنى المنصوص ، وعن أبي حنيفة : إن شبهها بما يحرم النظر إليه من الأم كالفخذ والفرج فهو ظهار ، وإن شبهها بما يجوز النظر إليه ، كاليد والرأس فليس بظهار ; لأن التشبيه بعضو يحل النظر إليه كالتشبيه بعضو زوجة له أخرى ، فلا يحصل به الظهار ، وإنما استظهرنا أنه ظهار مطلقا ; لأن معنى التحريم حاصل به ، فهو في معنى صريح الظهار ، فقولهم : ولا هو في معنى المنصوص ليس بمسلم ، بل هو في معناه ، وقياسه على حلفه بالله لا يمس عضوا [ ص: 199 ] معينا منها ظاهر السقوط ; لأن معنى التحريم يحصل ببعض ، والحلف عن بعض لا يسري إلى بعض آخر ، كما ترى . وقول أبي حنيفة : إن العضو الذي يحل النظر إليه لا يحصل الظهار بالتشبيه به غير مسلم أيضا ; لأنه وإن جاز النظر إليه فإن التلذذ به حرام ، والتلذذ هو المستفاد من عقد النكاح ، فالتشبيه به مستلزم للتحريم ، والظهار هو نفس التحريم بواسطة التشبيه بعضو الأم المحرم .

واعلم أن القول بأن الظهار يحصل بقوله : شعرك ، أو ريقك ، أو كلامك علي كظهر أمي ، له وجه قوي من النظر ; لأن الشعر من محاسن النساء التي يتلذذ بها الأزواج كما بيناه في سورة " الحج " ، وكذلك الريق فإن الزوج يمصه ويتلذذ به من امرأته ، وكذلك الكلام ، كما هو معروف . وأما لو قال لها : سعالك أو بصاقك ، أو نحو ذلك علي كظهر أمي ، فالظاهر أن ذلك ليس بشيء ; لأن السعال والبصاق وما يجري مجراهما ، كالدمع ليس مما يتمتع به عادة ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الحادية عشرة : اختلف العلماء فيمن قال لأمته : أنت علي كظهر أمي ، أو قال ذلك لأم ولده ، فقال بعض أهل العلم : لا يصح الظهار من المملوكة ، وهو مروي عن ابن عمر ، وعبد الله بن عمرو ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والشعبي ، وربيعة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وأحمد . وقال بعضهم : يصح الظهار من الأمة أم ولد كانت أو غيرها ، وهو مذهب مالك ، وهو مروي أيضا عن الحسن ، وعكرمة ، والنخعي ، وعمرو بن دينار ، وسليمان بن يسار ، والزهري ، والحكم ، والثوري ، وقتادة ، وهو رواية عن أحمد ، وعن الحسن ، والأوزاعي : إن كان يطؤها فهو ظهار ، وإلا فلا . وعن عطاء : إن ظاهر من أمته ، فعليه نصف كفارة الظهار من الحرة .

واحتج الذين قالوا : إن الأمة لا يصح الظهار منها ، بأدلة : منها أنهم زعموا أن قوله : يظاهرون من نسائهم ، يختص بالأزواج دون الإماء .

ومنها أن الظهار لفظ يتعلق به تحريم الزوجة ، فلا تدخل فيه الأمة قياسا على الطلاق .

ومنها أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية ، فنقل حكمه وبقي محله ، ومحل الطلاق الأزواج دون الإماء .

[ ص: 200 ] ومنها أن تحريم الأمة تحريم لمباح من ماله ، فكانت فيه كفارة يمين كتحريم سائر ماله عند من يقول : بأن تحريم المال فيه كفارة يمين ، كما تقدم في سورة " الحج " .

قالوا : ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرم جاريته مارية ، فلم يلزمه ظهار بل كفارة يمين ; كما قال تعالى في تحريمه إياها : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم الآية [ 66 \ 2 ] .

واحتج القائلون بصحة الظهار من الأمة ، بدخولها في عموم قوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ، قالوا : وإماؤهم من نسائهم ; لأن تمتعهم بإمائهم من تمتعهم بنسائهم ، قالوا : ولأن الأمة يباح وطؤها ، كالزوجة فصح الظهار منها كالزوجة ، قالوا : وقوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ، نزلت في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - شرب العسل في القصة المشهورة ، لا في تحريم الجارية .

وحجة الحسن والأوزاعي ، وحجة عطاء كلتاهما واضحة ، كما تقدم .

وقال ابن العربي المالكي في قول مالك وأصحابه : بصحة الظهار من الأمة ، وهي مسألة عسيرة علينا ; لأن مالكا يقول : إذا قال لأمته أنت علي حرام لا يلزم ، فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح كنايته ؟ ولكن تدخل الأمة في عموم قوله : من نسائهم ; لأنه أراد من محللاتهم .

والمعنى فيه : أنه لفظ يتعلق بالبضع دون رفع العقد ، فصح في الأمة أصله الحلف بالله تعالى ، ا هـ منه ، بواسطة نقل القرطبي .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : لا يبعد بمقتضى الصناعة الأصولية ، والمقرر في علوم القرآن : أن يكون هناك فرق بين تحريم الأمة وتحريم الزوجة .

وإيضاح ذلك : أن قوله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك ، جاء في بعض الروايات الصحيحة في السنن وغيرها ، أنه نزل في تحريم النبي - صلى الله عليه وسلم - جاريته مارية أم إبراهيم ، وإن كان جاء في الروايات الثابتة في الصحيحين : أنه نزل في تحريمه العسل الذي كان شربه عند بعض نسائه ، وقصة ذلك مشهورة صحيحة ; لأن المقرر في علوم القرآن أنه إذا ثبت نزول الآية في شيء معين ، ثم ثبت بسند آخر صحيح أنها نزلت في شيء آخر معين غير [ ص: 201 ] الأول ، وجب حملها على أنها نزلت فيهما معا ، فيكون لنزولها سببان ، كنزول آية اللعان في عويمر وهلال معا .

وبه تعلم أن ذلك يلزمه أن يقال : إن قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية نزل في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - العسل على نفسه ، وفي تحريمه جاريته ، وإذا علمت بذلك نزول قوله : لم تحرم ، في تحريم الجارية ، علمت أن القرآن دل على أن تحريم الجارية لا يحرمها ، ولا يكون ظهارا منها ، وأنه تلزم فيه كفارة يمين ; كما صح عن ابن عباس ومن وافقه . وقد قال ابن عباس : لما بين أن فيه كفارة يمين لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، ومعناه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفر عن تحريمه جاريته كفارة يمين ; لأن الله تعالى قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، بعد تحريمه - صلى الله عليه وسلم - جاريته المذكورة في قوله : لم تحرم ما أحل الله لك ، ومن قال من أهل العلم : إن من حرم جاريته لا تلزمه كفارة يمين ، وإنما يلزمه الاستغفار فقط ، فقد احتج بقوله تعالى : والله غفور رحيم ، بعد قوله : لم تحرم ، وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حرم جاريته ، قال مع ذلك : " والله لا أعود إليها " ، وهذه اليمين هي التي نزل في شأنها : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، ولم تنزل في مطلق تحريم الجارية ، واليمين المذكورة مع التحريم في قصة الجارية ، قال في " نيل الأوطار " : رواها الطبراني بسند صحيح عن زيد بن أسلم التابعي المشهور ، لكنه أرسله ، اهـ . وكذلك رواه عنه ابن جرير .

وقال ابن كثير في " تفسيره " : إن الهيثم بن كليب رواه في مسنده بسند صحيح وساق السند المذكور عنه - رضي الله عنه - ، والمتن فيه التحريم واليمين كما ذكرنا ، وعلى ما ذكرنا من أن آية : لم تحرم ما أحل الله لك ، نزلت في تحريمه - صلى الله عليه وسلم - جاريته ، فالفرق بين تحريم الجارية والزوجة ظاهر ; لأن آية لم تحرم دلت على أن تحريم الجارية لا يحرمها ولا يكون ظهارا ، وآية والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة الآية ، دلت على أن تحريم الزوجة تلزم فيه كفارة الظهار المنصوص عليه في " المجادلة " ; لأن معنى : يظاهرون من نسائهم على جميع القراءات هو أن يقول أحدهم لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، وهذا لا خلاف فيه . وقوله : أنت علي كظهر أمي ، معناه : أنت علي حرام ، كما تقدم إيضاحه .

وعلى هذا فقد دلت آية " التحريم " على حكم تحريم الأمة ، وآية " المجادلة " على حكم تحريم الزوجة ، وهما حكمان متغايران ، [ ص: 202 ] كما ترى . ومعلوم أن ابن عباس - رضي الله عنهما - لم يقل بالفرق بينهما ، بل قال : إن حكم تحريم الزوجة كحكم تحريم الجارية المنصوص في آية " التحريم " ، ونحن نقول : إن آية الظهار تدل بفحواها على أن تحريم الزوجة ظهار ; لأن " أنت علي كظهر أمي " ، و " أنت علي حرام " معناهما واحد ، كما لا يخفى . وعلى هذا الذي ذكرنا ، فلا يصح الظهار من الأمة ، وإنما يلزم في تحريمها بظهار ، أو بصريح التحريم كفارة يمين أو الاستغفار كما تقدم . وهذا أقرب لظاهر القرآن ، وإن كان كثير من العلماء على خلافه .

وقد قدمنا أن تحريم الرجل امرأته فيه للعلماء عشرون قولا ، وسنذكرها هنا باختصار ونبين ما يظهر لنا رجحانه بالدليل منها ، إن شاء الله تعالى .

القول الأول : هو أن تحريم الرجل امرأته لغو باطل ، لا يترتب عليه شيء . قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وبه قال مسروق ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعطاء ، والشعبي ، وداود ، وجميع أهل الظاهر ، وأكثر أصحاب الحديث ، وهو أحد قولي المالكية ، اختاره أصبغ بن الفرج . وفي الصحيح عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول : إذا حرم الرجل امرأته ، فليس بشيء لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وصح عن مسروق أنه قال : ما أبالي أحرمت امرأتي أو قصعة من ثريد . وصح عن الشعبي في تحريم المرأة : لهو أهون علي من نعلي . وقال أبو سلمة : ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرمت ماء النهر . وقال الحجاج بن منهال : إن رجلا جعل امرأته عليه حراما ، فسأل عن ذلك حميد بن عبد الرحمن ، فقال حميد : قال الله تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب [ 94 \ 7 - 8 ] ، وأنت رجل تلعب ، فاذهب فالعب ، ا هـ منه .

واستدل أهل هذا القول بقوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ 5 \ 87 ] ، وعموم قوله تعالى : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] ، وعموم قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية ، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا ، فهو رد " ، ومعلوم أن تحريم ما أحل الله ليس من أمرنا .

[ ص: 203 ] القول الثاني : أن التحريم ثلاث تطليقات ، قال في " إعلام الموقعين " : وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، والحسن البصري ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى . وقضى فيها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بالثلاث في عدي بن قيس الكلابي ، وقال : والذي نفسي بيده ، لئن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنك . وقال في " زاد المعاد " : وروي عن الحكم بن عتيبة ، ثم قال : قلت : الثابت عن زيد بن ثابت ، وابن عمر أن في ذلك كفارة يمين ، وذكر في " الزاد " أيضا : أن ابن حزم نقل عن علي الوقف في ذلك ، وحجة هذا القول بثلاث أنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث ، فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حراما عليه .

القول الثالث : أنها حرام عليه بتحريمه إياها ، قال في " إعلام الموقعين " : وصح هذا أيضا عن أبي هريرة ، والحسن ، وخلاس بن عمرو ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، ولم يذكر هؤلاء طلاقا بل أمروه باجتنابها فقط .

وصح ذلك أيضا عن علي رضي الله عنه ، فإما أن يكون عنه روايتان ، وإما أن يكون أراد تحريم الثلاث ، وحجة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ، ولم يتعرض لعدد الطلاق ، فحرمت عليه بمقتضى تحريمه .

القول الرابع : الوقف . قال في " إعلام الموقعين " : صح ذلك أيضا عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وهو قول الشعبي ، وحجة هذا القول : أن التحريم ليس بطلاق ، وهو لا يملك تحريم الحلال ، إنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به ، وهو الطلاق وهذا ليس بصريح في الطلاق ، ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة ، فاشتبه الأمر فيه فوجب الوقف للاشتباه .

القول الخامس : إن نوى به الطلاق فهو طلاق ، وإلا فهو يمين . قال في " الإعلام " : وهذا قول طاوس ، والزهري ، والشافعي ، ورواية عن الحسن ، ا هـ .

وحكي هذا القول أيضا عن النخعي ، وإسحاق ، وابن مسعود ، وابن عمر . وحجة هذا القول : أن التحريم كناية في الطلاق ، فإن نواه به كان طلاقا ، وإن لم ينوه كان يمينا ; لقوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ، إلى قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم .

القول السادس : أنه إن نوى به الثلاث فثلاث ، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة ، وإن [ ص: 204 ] نوى يمينا فهو يمين ، وإن لم ينو شيئا هو كذبة لا شيء فيها ، قاله سفيان ، وحكاه النخعي عن أصحابه ، وحجة هذا القول : أن اللفظ محتمل لما نواه من ذلك ، فيتبع نيته .

القول السابع : مثل هذا إلا أنه إن لم ينو شيئا فهو يمين يكفرها ، وهو قول الأوزاعي . وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم .

القول الثامن : مثل هذا أيضا ، إلا أنه إن لم ينو شيئا فواحدة بائنة إعمالا للفظ التحريم ، هكذا ذكر هذا القول في " إعلام الموقعين " ، ولم يعزه لأحد .

وقال صاحب " نيل الأوطار " : وقد حكاه ابن حزم عن إبراهيم النخعي .

القول التاسع : أن فيه كفارة الظهار . قال في " إعلام الموقعين " : وصح ذلك عن ابن عباس أيضا ، وأبي قلابة ، وسعيد بن جبير ، ووهب بن منبه ، وعثمان البتي ، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد . وحجة هذا القول : أن الله تعالى جعل تشبيه المرأة بأمه المحرمة عليه ظهارا وجعله منكرا من القول وزورا ، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مظاهرا ، فإذا صرح بتحريمها كان أولى بالظهار ، وهذا أقيس الأقوال وأفقهها . ويؤيده أن الله لم يجعل للمكلف التحريم والتحليل ، وإنما ذلك إليه تعالى ، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال ، التي يترتب عليها التحريم والتحليل ، فالسبب إلى العبد وحكمه إلى الله تعالى ، فإذا قال : أنت علي كظهر أمي ، أو قال : أنت علي حرام ، فقد قال المنكر من القول والزور ، وقد كذب ، فإن الله لم يجعلها كظهر أمه ، ولا جعلها عليه حراما ، فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين ، وهي كفارة الظهار .

القول العاشر : أنه تطليقة واحدة ، وهي إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة ، وحجة هذا القول : أن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم بالثلاث ، بل يصدق بأقله والواحدة متيقنة ، فحمل اللفظ عليها ; لأنها اليقين فهو نظير التحريم بانقضاء العدة .

القول الحادي عشر : أنه ينوي فيما أراد من ذلك ، فيكون له نيته في أصل الطلاق وعدده ، وإن نوى تحريما بغير طلاق ، فيمين مكفرة . قال ابن القيم : وهو قول الشافعي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:14 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (438)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 205 إلى صـ 212


وحجة هذا القول : أن اللفظ صالح لذلك كله ، فلا يتعين واحد منها إلا بالنية ، فإن نوى تحريما مجردا كان امتناعا منها بالتحريم كامتناعه باليمين ، ولا تحرم عليه في [ ص: 205 ] الموضعين ، ا هـ . وقد تقدم أن مذهب الشافعي هو القول الخامس .

قال في " نيل الأوطار " : وهو الذي حكاه عنه في " فتح الباري " ، بل حكاه عنه ابن القيم نفسه .

القول الثاني عشر : أنه ينوي في أصل الطلاق وعدده ، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة ، وإن لم ينو الطلاق فهو مؤول ، وإن نوى الكذب فليس بشيء ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه .

وحجة هذا القول : احتمال اللفظ لما ذكره ، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة ، لاقتضاء التحريم للبينونة ، وهي صغرى وكبرى ، والصغرى هي المتحققة ، فاعتبرت دون الكبرى . وعنه رواية أخرى : إن نوى الكذب دين ، ولم يقبل في الحكم بل كان مؤليا ، ولا يكون ظهارا عنده ، نواه أو لم ينوه ، ولو صرح به فقال : أعني بها الظهار ، لم يكن مظاهرا ، انتهى من " إعلام الموقعين " .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، بعد أن ذكر كلام ابن القيم الذي ذكرناه آنفا ، إلى قوله : وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، هكذا قال ابن القيم . وفي " الفتح " عن الحنفية : أنه إذا نوى اثنتين فهي واحدة بائنة ، وإن لم ينو طلاقا فهي يمين ويصير مؤليا ، ا هـ .

القول الثالث عشر : أنه يمين يكفره ما يكفر اليمين . قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : صح ذلك عن أبي بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعائشة ، وزيد بن ثابت ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وعكرمة ، وعطاء ، ومكحول ، وقتادة ، والحسن ، والشعبي ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وجابر بن زيد ، وسعيد بن جبير ، ونافع ، والأوزاعي ، وأبي ثور ، وخلق سواهم رضي الله عنهم .

وحجة هذا القول ظاهر القرآن العظيم ، فإن الله تعالى ذكر فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال ، فلا بد أن يتناوله يقينا ، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ، ويخرج المذكور عن حكم التحلة التي قصد ذكرها لأجله ، اهـ منه .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الظاهر أن ابن القيم أراد بكلامه هذا أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وأن قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، نازل في تحريم الحلال المذكور في قوله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك ، وما ذكره من [ ص: 206 ] شمول قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ، لقوله : لم تحرم ما أحل الله لك ، على سبيل اليقين . والجزم لا يخلو عندي من نظر ، لما قدمنا عن بعض أهل العلم من أن قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم نازل في حلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعود لما حرم على نفسه لا في أصل التحريم ، وقد أشرنا للروايات الدالة على ذلك في أول هذا المبحث .

القول الرابع عشر : أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة . قال ابن القيم : وصح ذلك أيضا عن ابن عباس ، وأبي بكر ، وعمر ، وابن مسعود ، وجماعة من التابعين .

وحجة هذا القول : أنه لما كان يمينا مغلظة غلظت كفارتها بتحتم العتق ، ووجه تغليظها تضمنها تحريم ما أحل الله ، وليس إلى العبد . وقول المنكر والزور وإن أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتد في إقسامه ، فغلظت كفارته بتحتم العتق ; كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين ، أو بإطعام ستين مسكينا .

القول الخامس عشر : أنه طلاق ، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها ، فهو ما نواه من الواحدة وما فوقها . وإن كانت مدخولا بها ، فثلاث . وإن نوى أقل منها ، وهو إحدى الروايتين عن مالك .

وحجة هذا القول : أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يرتب عليه حكمه ، وغير المدخول بها تحرم بواحدة ، والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث .

وبعد : ففي مذهب مالك خمسة أقوال هذا أحدها ، وهو مشهورها .

والثاني : أنها ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها ، اختاره عبد الملك في مبسوطه .

والثالث : أنها واحدة بائنة مطلقا ، حكاه ابن خويز منداد رواية عن مالك .

والرابع : أنه واحدة رجعية ، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة .

والخامس : أنه ما نواه من ذلك مطلقا ، سواء قبل الدخول أو بعده ، وقد عرفت توجيه هذه الأقوال ، انتهى من " إعلام الموقعين " .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : المعروف أن المعتمد من هذه الأقوال عند المالكية : اثنان ، وهما القول بالثلاث وبالواحدة البائنة ، وقد جرى العمل في مدينة فاس بلزوم الواحدة البائنة في التحريم . قال ناظم عمل فاس :



وطلقة بائنة في التحريم وحلف به لعرف الإقليم

ثم قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " : وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إن نوى به الظهار كان ظهارا ، وإن نوى التحريم كان تحريما لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة ، وإن نوى الطلاق كان طلاقا ، وكان ما نواه . وإن أطلق فلأصحابه فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه صريح في إيجاب الكفارة .

والثاني : لا يتعلق به شيء .

والثالث : أنه في حق الأمة صريح في التحريم الموجب للكفارة ، وفي حق الحرة كناية ، قالوا : إن أصل الآية إنما ورد في الأمة ، قالوا : فلو قال : أنت علي حرام ، وقال : أردت بها الظهار والطلاق . فقال ابن الحداد : يقال له عين أحد الأمرين ; لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معا . وقيل : يلزمه ما بدأ به منهما ، قالوا : ولو ادعى رجل على رجل حقا أنكره ، فقال : الحل عليك حرام والنية نيتي لا نيتك ما لي عليك شيء ، فقال : الحل علي حرام والنية في ذلك نيتك ما لك عندي شيء ، كانت النية نية الحالف لا المحلف ; لأن النية إنما تكون ممن إليه الإيقاع ، ثم قال : وأما تحرير مذهب الإمام أحمد فهو أنه ظهار بمطلقه ، وإن لم ينوه إلا أن ينوي الطلاق أو اليمين ، فيلزمه ما نواه ، وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه ، إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار ، فيلزمه ما نواه .

وعنه رواية ثالثة : أنه ظهار بكل حال ، ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينا ولا طلاقا ; كما لو نوى الطلاق أو اليمين ، بقوله : أنت علي كظهر أمي ، فإن اللفظين صريحان في الظهار ، فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله : أعني به الطلاق ، فهل يكون طلاقا أو ظهارا ؟ على روايتين ، إحداهما : يكون ظهارا ; كما لو قال : أنت علي كظهر أمي ، أعني به الطلاق أو التحريم ، إذ التحريم صريح في الظهار . والثانية : أنه طلاق ; لأنه قد صرح بإرادته بلفظ يحتمله ، وغايته أنه كناية فيه ، فعلى هذه الرواية ، إن قال : أعني به طلاقا طلقت واحدة ، وإن قال : أعني به الطلاق ، فهل تطلق ثلاثا أو واحدة ؟ وعلى روايتين مأخذهما هل اللام على الجنس أو العموم ، وهذا تحرير مذهبه وتقريره ، وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كله ، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارا ، ولو نوى به الطلاق ، وإن حلف به كان يمينا مكفرة ، وهذا اختيار ابن تيمية ، وعليه يدل النص والقياس ، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرا من القول وزورا ، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبه امرأته بالمحرمة ، وإذا حلف به كان يمينا من الأيمان كما لو حلف بالتزام الحج والعتق والصدقة ، وهذا [ ص: 208 ] محض القياس والفقه ، ألا ترى أنه إذا قال : لله علي أن أعتق ، أو أحج ، أو أصوم ، لزمه . ولو قال : إن كلمت فلانا فلله علي ذلك على وجه اليمين ، فهو يمين . وكذلك لو قال : هو يهودي أو نصراني كفر بذلك ، ولو قال : إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني كان يمينا . وطرد هذا بل نظيره من كل وجه ، أنه إذا قال : أنت علي كظهر أمي كان ظهارا ، فلو قال : إن فعلت كذا ، فأنت علي كظهر أمي كان يمينا ، وطرد هذا أيضا إذا قال : أنت طالق ، كان طلاقا ، ولو قال : إن فعلت كذا فأنت طالق كان يمينا ، فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان ، وبالله التوفيق . انتهى كلام ابن القيم .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي مع كثرتها وانتشارها : أن التحريم ظهار ، سواء كان منجزا أو معلقا ; لأن المعلق على شرط من طلاق أو ظهار يجب بوجود الشرط المعلق عليه ، ولا ينصرف إلى اليمين المكفرة على الأظهر عندي ، وهو قول أكثر أهل العلم .

وقال مالك في " الموطإ " : فقال القاسم بن محمد : إن رجلا جعل امرأة عليه كظهر أمه إن هو تزوجها ، فأمره عمر بن الخطاب إن هو تزوجها ألا يقربها حتى يكفر كفارة المتظاهر ، اهـ .

ثم قال : وحدثني عن مالك : أنه بلغه أن رجلا سأل القاسم بن محمد وسليمان بن يسار ، عن رجل تظاهر من امرأة قبل أن ينكحها ، فقالا : إن نكحها فلا يمسها حتى يكفر كفارة المتظاهر ، اهـ .

والمعروف عن جماهير أهل العلم أن الطلاق المعلق يقع بوقوع المعلق عليه ، وكذلك الظهار .

وأما الأمة فالأظهر أن في تحريمها كفارة اليمين أو الاستغفار ، كما دلت عليه آية سورة " التحريم " كما تقدم إيضاحه ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثانية عشرة : اعلم أن العلماء اختلفوا في العبد والذمي ، هل يصح منهما ظهار ؟ وأظهر أقوالهم عندي في ذلك : أن العبد يصح منه الظهار ; لأن الصحيح دخوله في عموم النصوص العامة ، إلا ما أخرجه منه دليل خاص ، كما تقدم . وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :

[ ص: 209 ]

والعبد والموجود والذي كفر مشمولة له لدى ذوي النظر

وعليه فهو داخل في عموم قوله : والذين يظاهرون من نسائهم ، ولا يقدح في هذا أن قوله : فتحرير رقبة لا يتناوله ; لأنه مملوك لا يقدر على العتق ، لدخوله في قوله : فمن لم يجد فصيام شهرين ، فالأظهر صحة ظهار العبد ، وانحصار كفارته في الصوم ; لعدم قدرته على العتق والإطعام ، وأن الذمي لا يصح ظهاره ، لأن الظهار منكر من القول وزور يكفره الله بالعتق ، أو الصوم ، أو الإطعام ، والذمي كافر ، والكافر لا يكفر عنه العتق أو الصوم أو الإطعام ما ارتكبه من المنكر والزور لكفره لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة عشرة : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في الظهار المؤقت ، كأن يقول : أنت علي كظهر أمي شهرا ، أو حتى ينسلخ شهر رمضان مثلا ، فقال بعض أهل العلم : يصح الظهار المؤقت ، وإذا مضى الوقت زال الظهار وحلت المرأة بلا كفارة ، ولا يكون عائدا بالوطء بعد انقضاء الوقت .

قال في " المغني " : وهذا قول أحمد ، وبه قال ابن عباس ، وعطاء ، وقتادة ، والثوري ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وأحد قولي الشافعي ، وقوله الأخير : لا يكون ظهارا ، وبه قال ابن أبي ليلى ، والليث ; لأن الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقا ، وهذا لم يطلق فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون وقت . وقال طاوس : إذا ظاهر في وقت فعليه الكفارة ، وإن بر . وقال مالك : يسقط التوقيت ويكون ظهارا مطلقا ; لأن هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة ، فإذا وقته لم يتوقت ، كالطلاق .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أقرب الأقوال عندي للصواب في هذه المسألة قول من قال : إن الظهار المؤقت يصح ويزول بانقضاء الوقت ; لأنه جاء ما يدل عليه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث حسنه الترمذي ، وصححه ابن خزيمة ، وابن الجارود ، وبعض طرقه لا يقل عن درجة الحسن ، وإن أعل عبد الحق وغيره بعض طرقه بالإرسال ; لأن حديثا صححه بعض أهل العلم أقرب للصواب مما لم يرد فيه شيء أصلا .

قال أبو داود في " سننه " : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، ومحمد بن العلاء المعني قالا : ثنا ابن إدريس ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، قال ابن [ ص: 210 ] العلاء بن علقمة بن عياش ، عن سليمان بن يسار ، عن سلمة بن صخر ، قال ابن العلاء البياضي ، قال : كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري ، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي حتى أصبح ، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان ، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء ، فلم ألبث أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي ، فأخبرتهم الخبر . . . الحديث بطوله ، وفيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بعتق رقبة ، فذكر أنه لا يجد رقبة ، فأمره بصيام شهرين فذكر أنه لا يقدر ، فأمره بإطعام ستين مسكينا فذكر كذلك ، فأعطاه - صلى الله عليه وسلم - صدقة قومه بني زريق من التمر ، وأمره أن يطعم وسقا منها ستين مسكينا ويستعين بالباقي ، ومحل الشاهد من الحديث : أنه ظاهر من امرأته ظهارا مؤقتا بشهر رمضان ، وجامع في نفس الشهر الذي جعله وقتا لظهاره ، فدل ذلك على أن الظهار المؤقت يصح ، ويلزم ولو كان توقيته لا يصح لبين - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ولو كان يتأبد ويسقط حكم التوقيت لبينه - صلى الله عليه وسلم - ; لأن البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة إليه .

وقال أبو عيسى الترمذي في " جامعه " : حدثنا إسحاق بن منصور ، ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز ، ثنا علي بن المبارك ، ثنا يحيى بن أبي كثير ، ثنا أبو سلمة ، ومحمد بن عبد الرحمن : أن سلمان بن صخر الأنصاري أحد بني بياضة ، جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان . . . الحديث ، ثم قال الترمذي بعد أن ساقه : هذا حديث حسن ، يقال سلمان بن صخر ، ويقال : سلمة بن صخر البياضي ، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم في كفارة الظهار ، اهـ .

وهذه الطريق التي أخرج بها الترمذي هذا الحديث غير طريق أبي داود التي أخرجه بها ، وكلتاهما تقوي الأخرى ، والظاهر أن إسناد الترمذي هذا لا يقل عن درجة الحسن ، وما ذكروه من أن علي بن المبارك المذكور فيه كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان أحدهما سماع ، والآخر إرسال ، وأن حديث الكوفيين عنه فيه شيء لا يضر الإسناد المذكور ; لأن الراوي عنه فيه وهو هارون بن إسماعيل الخزاز بصري لا كوفي ، ولما ساق المجد في " المنتقى " حديث سلمة بن صخر المذكور ، قال : رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن . وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وأخرجه أيضا الحاكم ، وصححه ابن خزيمة ، وابن الجارود ، وقد أعله عبد الحق بالانقطاع ، وأن سليمان بن يسار لم يدرك سلمة ، وقد حكى ذلك الترمذي عن البخاري ، وفي إسناده أيضا محمد بن إسحاق ، اهـ كلام الشوكاني .

وقد علمت أن الإسناد الذي ذكرنا عن الترمذي ليس فيه سليمان بن يسار ، ولا ابن [ ص: 211 ] إسحاق ، فالظاهر صلاحية الحديث للاحتجاج ، كما ذكره الترمذي وغيره .

وبذلك تعلم أن الصواب في هذه المسألة إن شاء الله هو ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة عشرة : الأظهر عندي أنه لو قال : أنت علي كظهر أمي إن شاء الله أساء الأدب ، ولا تلزمه الكفارة ، وإن الاستثناء بالمشيئة يرفع عنه حكم الكفارة ، كما يرفع كفارة اليمين بالله ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الخامسة عشرة : الأظهر أنه إن مات أو ماتت أو طلقها قبل التكفير ، لم يلزمه شيء ، وأنه إن عاد فتزوجها بعد الطلاق لا يجوز له مسيسها حتى يكفر ; لأن الله أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث بالعود ، فلا يعود إلا بعد التكفير ، ولا وجه لسقوط الكفارة بالطلاق فيما يظهر ، مع أن بعض أهل العلم يقول : إن كان الطلاق بعد الظهار بائنا ، ثم تزوجها لم تلزمه كفارة ، وهو مروي عن قتادة . وبعضهم يقول : إن كانت البينونة بالثلاث ، ثم تزوجها بعد زوج لم تلزمه الكفارة لسقوطها بالبينونة الكبرى ، كما أسقطها صاحب القول الذي قبله بالبينونة الصغرى ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السادسة عشرة : إذا ظاهر من نسائه الأربع بكلمة واحدة ، كأن يقول لهن : أنتن علي كظهر أمي ، فقال بعض أهل العلم : تكفي في ذلك كفارة واحدة .

قال في " المغني " : ولا خلاف في هذا في مذهب أحمد ، وهو قول علي ، وعمر ، وعروة ، وطاوس ، وعطاء ، وربيعة ، ومالك ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وأبي ثور ، والشافعي في القديم . وقال الحسن ، والنخعي ، والزهري ، ويحيى الأنصاري ، والحكم ، والثوري ، وأصحاب الرأي ، والشافعي في الجديد : عليه لكل امرأة كفارة ; لأنه وجد الظهار والعود في حق كل امرأة منهن فوجب عليه عن كل واحدة كفارة ، كما لو أفردها به ، ولنا عموم قول عمر وعلي رضي الله عنهما ، رواه عنهما الأثرم ، ولا يعرف لهما مخالف فكان إجماعا ، ولأن الظهار كلمة تجب بمخالفتها الكفارة ، فإذا وجدت في جماعة أوجبت كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى ، وفارق ما إذا ظاهر منها بكلمات ، فإن كل كلمة تقتضي كفارة ترفعها وتكفر إثمها ، وهاهنا الكلمة واحدة ، فالكفارة واحدة ترفع حكمها ، وتمحو إثمها ، فلا يبقى لها حكم . انتهى منه .

[ ص: 212 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أقيس القولين الاكتفاء بكفارة واحدة ، وأحوطهما التكفير عن كل واحدة منهن . وأما إن ظاهر منهن بكلمات متعددة ، بأن قال لكل واحدة منهن بانفرادها : أنت علي كظهر أمي ، فالأظهر تعدد الكفارة ; لأن كل كلمة من تلك الكلمات منكر من القول وزور ، فكل واحدة منها تقتضي كفارة .

قال في " المغني " : وهذا قول عروة وعطاء . وقال أبو عبد الله بن حامد : المذهب رواية واحدة في هذا . قال القاضي : المذهب عندي ما ذكره الشيخ أبو عبد الله . قال أبو بكر : فيه رواية أخرى أنه تجزئه كفارة واحدة ، واختار ذلك ، وقال : هذا الذي قلناه اتباعا لعمر بن الخطاب ، والحسن ، وعطاء ، وإبراهيم ، وربيعة ، وقبيصة ، وإسحاق ; لأن كفارة الظهار حق لله تعالى فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد ، وعليه يخرج الطلاق . ولنا بها أنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة ، فكان لكل واحدة كفارة كما لو كفر ثم ظاهر ، ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى ، فلا تكفرها كفارة واحدة ، ولأن الظهار معنى يوجب الكفارة ، فتعدد الكفارة بتعدده في المحال المختلفة كالقتل ، ويفارق الحد ، فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات ، انتهى منه .

وقد علمت أن أظهر الأقوال عندنا تعدد الكفارة في هذه المسألة . وأما إن كرر الظهار من زوجته الواحدة ، فالظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه : أنه إن كان كرره قبل أن يكفر عن الظهار الأول ، فكفارة واحدة تكفي ، وإن كان كفر عن ظهاره الأول ، ثم ظاهر بعد التكفير ، فعليه كفارة أخرى لظهاره الواقع بعد التكفير ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة السابعة عشرة : اعلم أن كفارة الظهار هي التي أوضحها الله تعالى بقوله : فتحرير رقبة إلى قوله : فإطعام ستين مسكينا [ 58 \ 3 - 4 ] .

فروع تتعلق بهذه المسألة .

الفرع الأول : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في الرقبة في كفارة الظهار ، هل يشترط فيها الإيمان أو لا يشترط فيها ؟ فقال بعضهم : لا يشترط فيها الإيمان ، فلو أعتق المظاهر عبدا ذميا مثلا أجزأه ، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وأصحابه ، وعطاء ، والثوري ، والنخعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، قاله في " المغني " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:17 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (439)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 213 إلى صـ 220



وحجة أهل هذا القول أن الله تعالى قال في هذه الآية الكريمة : فتحرير رقبة ، [ ص: 213 ] ولم يقيدها بالإيمان ، فوجب أن يجزئ ما تناوله إطلاق الآية ، قالوا : وليس لأحد أن يقيد ما أطلقه الله في كتابه ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه . وممن قال باشتراط الإيمان في رقبة كفارة الظهار : مالك ، والشافعي ، والحسن ، وإسحاق ، وأبو عبيدة ، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد ، قاله في " المغني " . واحتج لأهل هذا القول بما تقرر في الأصول من حمل المطلق على المقيد .

وقد بينا مسألة حمل المطلق على المقيد في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى في كفارة القتل الخطأ : ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة الآية [ 4 \ 92 ] ، بقولنا فيه وحاصل تحرير المقام في مسألة تعارض المطلق والمقيد : أن لها أربع حالات : الأولى : أن يتحد حكمهما وسببهما معا كتحرير الدم ، فإن الله قيده في سورة " الأنعام " ، بكونه مسفوحا في قوله تعالى : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا [ 6 \ 145 ] ، وأطلقه عن القيد بكونه مسفوحا في سورة " النحل " و " البقرة " و " المائدة " . قال في " النحل " : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به [ 2 \ 115 ] ، وقال في " البقرة " : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله [ 2 \ 173 ] ، وقال في " المائدة " : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية [ 6 \ 3 ] . وجمهور العلماء يقولون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا ، ولذلك كانوا لا يرون بالحمرة التي تعلو القدر من أثر تقطيع اللحم بأسا ; لأنه دم غير مسفوح ، قالوا : وحمله عليه أسلوب من أساليب اللغة العربية ، لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت ، ومنه قول قيس بن الخطيم الأنصاري :



نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف

فحذف راضون لدلالة راض عليه . وقول ضابئ بن الحارث البرجمي :



فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب


والأصل : فإني غريب وقيار أيضا غريب ، فحذف إحدى الكلمتين لدلالة الأخرى عليها . وقول عمرو بن أحمر الباهلي : [ ص: 214 ]

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوى رماني


يعني : كنت بريئا منه ، وكان والدي بريئا منه أيضا . وقول النابغة الجعدي :



وقد زعمت بنو سعد بأني وما كذبوا كبير السن فاني


يعني : زعمت بنو سعد أني فان وما كذبوا . . إلخ .

وقالت جماعة من أهل الأصول : إن حمل المطلق على المقيد بالقياس ، لا بدلالة اللفظ وهو أظهرها . وقيل : بالعقل ، وهو أضعفها وأبعدها .

الحالة الثانية : هي أن يتحد الحكم ، ويختلف السبب ، كالمسألة التي نحن بصددها ، فإن الحكم في آية المقيد وآية المطلق واحد ، وهو عتق رقبة في كفارة ، ولكن السبب فيهما مختلف ; لأن سبب المقيد قتل خطأ ، وسبب المطلق ظهار ، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية ، والحنابلة ، وكثير من المالكية ، ولذا شرطوا الإيمان في كفارة الظهار حملا لهذا المطلق على المقيد ، خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه ، قالوا : ويعتضد حمل هذا المطلق على المقيد بقوله - صلى الله عليه وسلم - في قصة معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه : " اعتقها فإنها مؤمنة " ، ولم يستفصله عنها ، هل هي في كفارة أو لا ؟ وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في الأقوال . قال في " مراقي السعود " :



ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال


الحالة الثالثة : عكس هذه ، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم ، فقيل : يحمل فيها المطلق على المقيد . وقيل : لا ، وهو قول أكثر العلماء ، ومثلوا له بصوم الظهار ، وإطعامه ، فسببهما واحد وهو الظهار ، وحكمهما مختلف ; لأن أحدهما تكفير بصوم ، والآخر تكفير بإطعام ، وأحدهما مقيد بالتتابع ، وهو الصوم . والثاني مطلق عن قيد التتابع ، وهو الإطعام ، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد . والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة ، مثلوا لذلك بإطعام الظهار ، فإنه لم يقيد بكونه من قبل أن يتماسا ، مع أن عتقه وصومه قد قيدا بقوله : من قبل أن يتماسا ، فيحمل هذا المطلق على المقيد ، فيجب كون الإطعام قبل المسيس ، ومثل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله : من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] ، مع إطلاق الكسوة عن القيد بذلك ، في قوله : أو كسوتهم [ 5 \ 89 ] فيحمل هذا المطلق على المقيد ، فيشترط في [ ص: 215 ] الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم .

الحالة الرابعة : أن يختلفا في الحكم والسبب معا ، ولا حمل في هذه إجماعا وهو واضح ، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا . أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين ، فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما ، ولكنه ينظر فيهما ، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء ، فيقيد بقيده . وإن لم يكن أحدهما أقرب له ، فلا يقيد بقيد واحد منهما ، ويبقى على إطلاقه إذ لا ترجيح بلا مرجح ، ومثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم كفارة اليمين ، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق ، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع في قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [ 58 \ 4 ] ، وصوم التمتع مقيد بالتفريق في قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم [ 2 \ 196 ] ، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع ; لأن كلا من صوم الظهار واليمين صوم كفارة بخلاف صوم التمتع ، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك ، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع .

وقراءة ابن مسعود : [ فصيام ثلاثة أيام متتابعات ] لم تثبت ; لإجماع الصحابة على عدم كتب متتابعات في المصاحف العثمانية ، ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر : صوم قضاء رمضان ، فإن الله تعالى قال فيه : فعدة من أيام أخر [ 2 \ 185 ] ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق ، مع أنه تعالى قيد صوم الظهار بالتتابع ، وصوم التمتع بالتفريق ، وليس أحدهما أقرب إلى صوم قضاء رمضان من الآخر ، فلا يقيد بقيد واحد منهما بل يبقى على الاختيار ، إن شاء تابعه ، وإن شاء فرقه ، والعلم عند الله تعالى . انتهى من " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، مع زيادة يسيرة للإيضاح .
الفرع الثاني : اعلم أن أهل العلم اختلفوا في رقبة كفارة الظهار ، هل يشترط فيها سلامتها من العيوب أو لا ؟ فحكي عن داود الظاهري أنه جوز كل رقبة يقع عليها الاسم ، ولو كانت معيبة بكل العيوب تمسكا بإطلاق الرقبة في قوله تعالى : فتحرير رقبة ، قال : ظاهره ولو معيبة ; لأن الله لم يقيد الرقبة بشيء .

وذهب أكثر أهل العلم إلى اشتراط السلامة من العيوب القوية مع اختلافهم في بعض العيوب ، قالوا : يشترط سلامتها من العيوب المضرة بالعمل ضررا بينا ; لأن المقصود [ ص: 216 ] تمليك العبد منافعه ، وتمكينه من التصرف لنفسه ، ولا يحصل هذا مع ما يضر بالعمل ضررا بينا ، فلا يجزئ الأعمى ; لأنه لا يمكنه العمل في أكثر الصنائع ، ولا المقعد ، ولا المقطوع اليدين أو الرجلين ; لأن اليدين آلة البطش ، فلا يمكنه العمل مع فقدهما ، والرجلان آلة المشي فلا يتهيأ له كثير من العمل مع تلفهما ، والشلل كالقطع في هذا .

قالوا : ولا يجوز المجنون جنونا مطبقا ; لأنه وجد فيه المعنيان : ذهاب منفعة الجنس ، وحصول الضرر بالعمل ، قاله في " المغني " . ثم قال : وبهذا كله قال الشافعي ، ومالك ، وأبو ثور ، وأصحاب الرأي ، انتهى محل الغرض منه .

وبه تعلم إجماع الأئمة الأربعة على اشتراط السلامة من مثل العيوب المذكورة .

وقال ابن قدامة في " المغني " : ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل ، ولا أشلهما ، ولا مقطوع إبهام اليد أو سبابتها أو الوسطى ; لأن نفع اليد يذهب بذهاب هؤلاء ، ولا يجزئ مقطوع الخنصر والبنصر من يد واحدة ; لأن نفع اليدين يزول أكثره بذلك . وإن قطعت كل واحدة من يد جاز ; لأن نفع الكفين باق وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها ، فإن نفعها يذهب بذلك لكونها أنملتين ، وإن كان من غير الإبهام لم يمنع ; لأن منفعتها لا تذهب ، فإنها تصير كالأصابع القصار ، حتى لو كانت أصابعه كلها غير الإبهام قد قطعت من كل واحد منها أنملة لم يمنع ، وإن قطع من الإصبع أنملتان فهو كقطعها ; لأنه يذهب بمنفعتها ، وهذا جميعه مذهب الشافعي ، أي : وأحمد .

وقال أبو حنيفة : يجزئ مقطوع إحدى الرجلين أو إحدى اليدين ، ولو قطعت رجله ويده جميعا من خلاف أجزأت ; لأن منفعة الجنس باقية ، فأجزأت في الكفارة كالأعور ، فأما إن قطعتا من وفاق ، أي : من جانب واحد لم يجز ; لأن منفعة المشي تذهب ، ولنا أن هذا يؤثر في العمل ، ويضر ضررا بينا ، فوجب أن يمنع إجزاؤها كما لو قطعتا من وفاق . ويخالف العور ، فإنه لا يضر ضررا بينا ، والاعتبار بالضرر أولى من الاعتبار بمنفعة الجنس ، فإنه لما ذهب شمه أو قطعت أذناه معا أجزأ مع ذهاب منفعة الجنس . ولا يجزئ الأعرج إذا كان عرجا كثيرا فاحشا ; لأنه يضر بالعمل ، فهو كقطع الرجل ، إلى أن قال : ويجزئ الأعور في قولهم جميعا .

وقال أبو بكر : فيه قول آخر : إنه لا يجزئ ; لأنه نقص يمنع التضحية والإجزاء في الهدي ، فأشبه العمى ، والصحيح ما ذكرناه . فإن المقصود تكميل الأحكام وتمليك العبد [ ص: 217 ] المنافع ، والعور لا يمنع ذلك ; ولأنه لا يضر بالعمل فأشبه قطع إحدى الأذنين ، ويفارق العمى فإنه يضر بالعمل ضررا بينا ويمنع كثيرا من الصنائع ، ويذهب بمنفعة الجنس ويفارق قطع إحدى اليدين والرجلين ، فإنه لا يعمل بإحداهما ما يعمل بهما ، والأعور يدرك بإحدى العينين ما يدرك بهما .

وأما الأضحية والهدي فإنه لا يمنع منهما مجرد العور ، وإنما يمنع انخساف العين وذهاب العضو المستطاب ; ولأن الأضحية يمنع فيها قطع الأذن والقرن ، والعتق لا يمنع فيه إلا ما يضر بالعمل ، ويجزئ المقطوع الأذنين . وبذلك قال أبو حنيفة والشافعي .

وقال مالك وزفر : لا يجزئ ; لأنهما عضوان فيها الدية ، فأشبها اليدين . ولنا أن قطعهما لا يضر بالعمل الضرر البين ، فلم يمنع كنقص السمع ، بخلاف اليدين ، ويجزئ مقطوع الأنف لذلك ، ويجزئ الأصم إذا فهم بالإشارة ، والأخرس إذا فهمت إشارته وفهم الإشارة ، وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور .

وقال أصحاب الرأي : لا يجزئ ; لأن منفعة الجنس ذاهبة ، فأشبه زائل العقل ، وهذا المنصوص عليه عن أحمد ; لأن الخرس نقص كثير يمنع كثيرا من الأحكام ، مثل القضاء والشهادة . أكثر الناس لا يفهم إشارته ، فيتضرر في ترك استعماله ، وإن اجتمع الخرس والصمم . فقال القاضي : لا يجزئ ، وهو قول بعض الشافعية لاجتماع النقصين فيه وذهاب منفعتي الجنس ، ووجه الإجزاء أن الإشارة تقوم مقام الكلام في الإفهام ، ويثبت في حقه أكثر الأحكام فيجزئ ; لأنه لا يضر بالعمل ولا بغيره .

وأما المريض فإن كان مرجو البرء كالحمى وما أشبهها أجزأ في الكفارة ، وإن كان غير مرجو الزوال لم يجز .

وأما نضو الخلق يعني النحيف المهزول خلقة ، فإن كان يتمكن من العمل أجزأ ، وإلا فلا . ويجزئ الأحمق وهو الذي يصنع الأشياء لغير فائدة ، ويرى الخطأ صوابا . وكذلك يجزئ من يخنق في بعض الأحيان ، والخصي والمجبوب ، والرتقاء ، والكبير الذي يقدر على العمل ; لأن ما لا يضر بالعمل لا يمنع تمليك العبد منافعه ، وتكميل أحكامه ، فيحصل الإجزاء به ، كالسالم من العيوب ، انتهى من " المغني " ، مع حذف يسير لا يضر بالمعنى .

ثم قال صاحب " المغني " : ويجزئ عتق الجاني والمرهون وعتق المفلس عبده ، إذا [ ص: 218 ] قلنا بصحة عتقهم ، وعتق المدبر والخصي وولد الزنا ; لكمال العتق فيهم . ولا يجزئ عتق المغصوب ، لأنه لا يقدر على تمكينه من منافعه ، ولا غائب غيبة منقطعة لا يعلم خبره ; لأنه لا تعلم حياته فلا تعلم صحة عتقه ، وإن لم ينقطع خبره أجزأ عتقه ; لأنه عتق صحيح .

ولا يجزئ عتق الحمل ; لأنه لم تثبت له أحكام الدنيا ، ولذلك لم تجب فطرته ، ولا يتيقن أيضا وجوده وحياته . ولا عتق أم الولد ; لأن عتقها مستحق بسبب غير الكفارة ، والملك فيها غير كامل ، ولهذا لم يجز بيعها .

وقال طاوس والبتي : يجزئ عتقها ; لأنه عتق صحيح . ولا يجزئ عتق مكاتب أدى من كتابته شيئا ، انتهى من كلام صاحب " المغني " . وقد ذكر فيه غالب ما في مذاهب الأئمة الأربعة في المسألة .

ومعلوم أن مذهب مالك رحمه الله : اشتراط الإيمان في رقبة الظهار ، واشتراط سلامتها من العيوب المضرة ، فلا يجوز عنده عتق جنين في بطن أمه ، وإن وضعته عتق من غير إجزاء عن الكفارة .

ولا يجزئ عنده مقطوع اليد الواحدة ، أو الإصبعين ، أو الأصابع ، أو الإبهام ، أو الأذنين ، أو أشل ، أو أجذم ، أو أبرص ، أو أصم ، أو مجنون وإن أفاق أحيانا ، ولا أخرس ، ولا أعمى ، ولا مقعد ، ولا مفلوج ، ولا يابس الشق ، ولا غائب منقطع خبره ، ولا المريض مرضا يشرف به على الموت ، ولا الهرم هرما شديدا ، ولا الأعرج عرجا شديدا ، ولا رقيق مشترى بشرط العتق لما يوضع من ثمنه في مقابلة شرط العتق ، ولا من يعتق عليه بالملك كأبيه ، ولا عبد قال : إن اشتريته فهو حر ، فلو قال : إن اشتريته فهو حر عن ظهاري ، ففيه لهم تأويلان بالإجزاء وعدمه .

ولا يجزئ عنده المدبر ، ولا المكاتب ، ولو أعتق شركا له في عبد ، ثم قوم عليه نصيب شريكه لم يجزه عن ظهاره عنده ; لأن عتق نصيب الشريك وجب عليه بحكم سراية المعتق ، وكذلك لو أعتق نصفه عن ظهاره ، ثم بعد ذلك اشترى نصفه الآخر فأعتقه تكميلا لرقبة الظهار ، لم يجزه على ظاهر المدونة لتبعيض العتق إن كانت معسرا وقت عتق النصف الأول ، ولأن عتق النصف الباقي يلزمه بالحكم ، إن كان موسرا وقت عتق النصف الأول ، [ ص: 219 ] ولو أعتق ثلاث رقاب عن أربع زوجات ظاهر منهن لم يجزه من ذلك شيء ; لأنه لم تتعين رقبة كاملة عن واحدة منهن .

ويجزئ عند المالكية عتق المغصوب والمريض مرضا خفيفا ، والأعرج عرجا خفيفا ، ولا يضر عندهم قطع أنملة واحدة أو أذن واحدة ، ويجزئ عندهم الأعور ، ويكره عندهم الخصي ، ويجوز عندهم عتق المرهون والجاني إن افتديا ، انتهى .

ومعلوم أن أبا حنيفة لا يشترط الإيمان في كفارة الظهار ، كما تقدم . ولم يجزئ عنده الأعمى ولا مقطوع اليدين معا أو الرجلين معا ، ولا مقطوع إبهامي اليدين ، ولا الأخرس ، ولا المجنون ، ولا أم الولد ، ولا المدبر ، ولا المكاتب إن أدى شيئا من كتابته ، فإن لم يؤد منها شيئا أجزأ عنده ، وكذلك يجزئ عنده قريبه الذي يعتق عليه بالملك إن نوى بشرائه إعتاقه عن الكفارة ، وكذلك لو أعتق نصف عبده عن الكفارة ، ثم حرر باقيه عنها أجزأه ذلك ، ويجزئ عنده الأصم ، والأعور ، ومقطوع إحدى الرجلين ، وإحدى اليدين من خلاف ، ويجزئ عنده الخصي ، والمجبوب ، ومقطوع الأذنين ، ا هـ .

وقد قدمنا أكثر العيوب المانعة من الإجزاء ، وغير المانعة عند الشافعي في كلام صاحب " المغني " ناقلا عنه ، وكذلك ما يمنع وما لا يمنع عند أحمد ، فاكتفينا بذلك خشية كثرة الإطالة .
الفرع الثالث : اعلم أنه قد دل الكتاب والسنة والإجماع على أن الصوم لا يجزئ في الظهار إلا عند العجز عن تحرير الرقبة ، فإن عجز عن ذلك انتقل إلى الصوم ، وقد صرح تعالى بأنه صيام شهرين متتابعين ، ولا خلاف في ذلك .
الفرع الرابع : اختلف العلماء في تحقيق مناط العجز عن الرقبة الموجب للانتقال إلى الصوم ، وقد أجمعوا على أنه إن قدر على عتق رقبة فاضلة عن حاجته أنه يجب عليه العتق ، ولا يجوز له الانتقال إلى الصوم ، وإن كانت له رقبة يحتاج إليها لكونه زمنا أو هرما أو مريضا ، أو نحو ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى عجزه عن خدمة نفسه .

قال بعضهم : وككونه ممن لا يخدم نفسه عادة ، فقال بعضهم : لا يلزمه الإعتاق ، ويجوز له الانتقال إلى الصوم نظرا لحاجته إلى الرقبة الموجودة عنده .

قال في " المغني " : وبهذا قال الشافعي ، أي : وأحمد . وقال أبو حنيفة ، ومالك ، [ ص: 220 ] والأوزاعي : متى وجد رقبة لزمه إعتاقها ولم يجز له الانتقال إلى الصيام ، سواء كان محتاجا إليها أو لم يكن ; لأن الله تعالى شرط في الانتقال إلى الصيام ألا يجد رقبة بقوله : فمن لم يجد [ 58 \ 4 ] ، وهذا واجد وإن وجد ثمنها وهو محتاج إليها ، لم يلزمه شراؤها ، وبه قال أبو حنيفة . وقال مالك : يلزمه ; لأن وجدان ثمنها كوجدانها . ولنا أن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم في جواز الانتقال إلى الصيام ، كمن وجد ماء يحتاج إليه للعطش يجوز له الانتقال إلى التيمم ، انتهى محل الغرض منه .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي في هذه المسألة : أن الرقبة إن كان يحتاج إليها حاجة قوية ; ككونه زمنا أو هرما لا يستغنى عن خدمتها ، أو كان عنده مال يمكن شراء الرقبة منه ، لكنه محتاج إليه في معيشته الضرورية أنه يجوز له الانتقال إلى الصوم ، وتعتبر الرقبة كالمعدومة ، وأن المدار في ذلك على ما يمنعه استحقاق الزكاة من اليسار ، فإن كانت الرقبة فاضلة عن ذلك ، لزم إعتاقها ، وإلا فلا . والأدلة العامة المقتضية عدم الحرج في الدين تدل على ذلك ; كقوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، ونحو ذلك . والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس : إن كان المظاهر حين وجوب الكفارة غنيا إلا أن ماله غائب ، فالأظهر عندي أنه إن كان مرجو الحضور قريبا ، لم يجز الانتقال إلى الصوم ; لأن ذلك بمنزلة الانتظار لشراء الرقبة . وإن كان بعيدا جاز الانتقال إلى الصوم ; لأن المسيس حرام عليه قبل التكفير ، ومنعه من التمتع بزوجته زمنا طويلا إضرار بكل من الزوجين ، وفي الحديث : " لا ضرر ولا ضرار " ، خلافا لبعض أهل العلم في ذلك .
الفرع السادس : إن كان عنده مال يشتري به الرقبة ، ولكنه لم يجد رقبة يشتريها فله الانتقال إلى الصيام ; لدخوله في قوله تعالى : فمن لم يجد فصيام شهرين الآية [ 58 \ 4 ] ، وهذا واضح . وأما إن وجد رقبة تباع بزيادة على ثمن مثلها ، ولم يجد رقبة بثمن مثلها ، فلأهل العلم في ذلك خلاف : هل يلزمه شراؤها بأكثر من مثل المثل ، أو لا يلزمه ؟ وأظهر أقوالهم في ذلك عندي : هو أن الزيادة المذكورة على ثمن المثل إن كانت تجحف بماله حتى يصير بها من مصارف الزكاة ، فله الانتقال إلى الصوم ، وإلا فلا ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:21 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (440)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 221 إلى صـ 228


الفرع السابع : أجمع أهل العلم على أن صوم شهري الظهار يجب تتابعه ، أي : [ ص: 221 ] موالاة صيام أيامه من غير فصل بينها ، ولا خلاف بينهم في أن من قطع تتابعه لغير عذر ، أن عليه استئناف الشهرين من جديد ، وهل يفتقر التتابع إلى نية ؟ فيه لأهل العلم ثلاثة أقوال : أحدها : لا يفتقر لنية ; لأنه تتابع واجب في العبادة ، فلم يفتقر لنية تخصه ، كالمتابعة بين ركعات الصلاة .

والثاني : يفتقر لنية التتابع وتجدد النية كل ليلة ; لأن ضم العبادة إلى عبادة أخرى إذا كان شرطا وجبت فيه النية ، كالجمع بين الصلاتين .

والثالث : تكفي نية التتابع في الليلة الأولى عن تجديد النية كل ليلة ، وهذا أقربها ; لأنا لا نسلم أن صوم كل يوم عبادة مستقلة ، بل الأظهر أن صوم الشهرين جميعا عبادة واحدة ; لأنه كفارة واحدة ، فإذا نوى هذا الصوم أول ليلة فاللازم أن ينويه على وجهه المنصوص في الكتاب والسنة وهو شهران متتابعان ، وهذا يكفيه عن تجديد النية كل ليلة ، وهذا ظاهر مذهب مالك . ومذهب أحمد عدم الاحتياج إلى نية التتابع مطلقا . وللشافعية وجهان ، أحدهما : كأحمد ، والثاني : يفتقر إلى النية كل ليلة .
الفرع الثامن : اختلف أهل العلم فيما إذا كان قطع تتابع الصوم لعذر كمرض ونحوه ، فقال بعض أهل العلم : إن كان قطع التتابع لعذر ، فإنه لا يقطع حكم التتابع ، وله أن يبني على ما صام قبل حصول العذر ، وهذا مذهب أحمد .

قال في " المغني " : وروي ذلك عن ابن عباس ، وبه قال ابن المسيب ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وطاوس ، ومجاهد ، ومالك ، وإسحاق ، وأبو عبيد ، وأبو ثور ، وابن المنذر ، والشافعي في القديم . وقال في الجديد : ينقطع التتابع ، وهذا قول سعيد بن جبير ، والنخعي ، والحكم ، والثوري ، وأصحاب الرأي قالوا : لأنه أفطر بفعله فلزمه الاستئناف .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي في هذا الفرع أن قطع تتابع صوم كفارة الظهار بلا إفطار في أثناء الشهرين إن كان لسبب لا قدرة له على التحرز عنه ، كالمرض الشديد الذي لا يقدر معه على الصوم أنه يعذر في ذلك ولا ينقطع حكم التتابع ; لأنه لا قدرة له على التحرز عن ذلك ، والله جل وعلا يقول : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، ويقول : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم " ، وإن كان يمكنه التحرز عن الإفطار الذي قطع به [ ص: 222 ] التتابع كالإفطار للسفر في أثناء صوم الكفارة ، وكما لو كان ابتداء صومه الكفارة من شعبان ، لأن شهره الثاني رمضان ، وهو لا يمكن صومه عن الكفارة ، وكما لو ابتدأ الصوم في مدة يدخل فيها يوم النحر أو يوم الفطر أو أيام التشريق ، فإن التتابع ينقطع بذلك ; لأنه قادر على التحرز عن قطعه بما ذكر لقدرته على تأخير السفر عن الصوم كعكسه ، ولقدرته أيضا على الصوم في مدة لا يتخللها رمضان ، ولا العيدان ، ولا أيام التشريق ، كما لا يخفى . وإذا قطع التتابع بإفطار هو قادر على التحرز عنه بما ذكر ، فكونه يستأنف صوم الشهرين من جديد ظاهر ; لقوله تعالى : فصيام شهرين متتابعين [ 58 \ 4 ] ، وقد ترك التتابع مع قدرته عليه ، هذا هو الأظهر عندنا ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .

الأظهر : أنه إن وجب على النساء صوم يجب تتابعه لسبب اقتضى ذلك أن حكمهن في ذلك كما ذكرنا ، فيعذرن في كل ما لا قدرة لهن على التحرز عنه كالحيض ، والمرض دون غيره كالإفطار للسفر والنفاس ; لأن النفاس يمكن التحرز عنه بالصوم قبله أو بعده ، أما الحيض فلا يمكن التحرز عنه في صوم شهرين أو شهر ، لأن المرأة تحيض عادة في كل شهر ، والله تعالى أعلم .
الفرع التاسع : في حكم ما لو جامع المظاهر منها أو غيرها ليلا ، في أثناء صيام شهري الكفارة ، وفي هذا الفرع تفصيل لأهل العلم .

اعلم أنه إن جامع في نهار صوم الكفارة عمدا انقطع تتابع صومه إجماعا ، ولزمه استئناف الشهرين من جديد ، وسواء في ذلك كانت الموطوءة هي المظاهر منها أو غيرها وهذا لا نزاع فيه ، وكذلك لو أكل أو شرب عمدا في نهار الصوم المذكور ، وأما إن كان جماعه ليلا في زمن صوم الكفارة ، فإن كانت المرأة التي جامعها زوجة أخرى غير المظاهر منها ، فإن ذلك لا يقطع التتابع ; لأن وطء غير المظاهر منها ليلا زمن الصوم مباح له شرعا ، ولا يخل بتتابع الصوم في أيام الشهرين كما ترى ، وهذا لا ينبغي أن يختلف فيه .

وقال في " المغني " : وليس في هذا اختلاف نعلمه ، وأما إن كان التي وطئها ليلا زمن الصوم هي الزوجة المظاهر منها ، فقد اختلف في ذلك أهل العلم ، فقال بعضهم : ينقطع التتابع بذلك ويلزمه استئناف الشهرين . وبه قال أبو حنيفة ، ومحمد بن الحسن ، وهو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنهما .

[ ص: 223 ] وقال ابن قدامة في " المغني " في شرحه لقول الخرقي : وإن أصابها في ليال الصوم أفسد ما مضى من صيامه وابتدأ الشهرين ، ما نصه : وبهذا قال مالك ، والثوري ، وأبو عبيد ، وأصحاب الرأي ; لأن الله تعالى قال : فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ، فأمر بهما خاليين عن وطء ، ولم يأت بهما على ما أمر ، فلم يجزئه ، كما لو وطئ نهارا ولأنه تحريم للوطء لا يختص بالنهار ، فاستوى فيه الليل والنهار ، كالاعتكاف .

وروى الأثرم عن أحمد : أن التتابع لا ينقطع بهذا ويبني ، وهو مذهب الشافعي ، وأبي ثور ، وابن المنذر ; لأنه وطء لا يبطل الصوم ، فلا يوجب الاستئناف كوطء غيرها ، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن إتباع صوم يوم للذي قبله من غير فارق ، وهذا متحقق ، وإن وطئ ليلا ، وارتكاب النهي في الوطء قبل إتمامه إذا لم يخل بالتتابع المشترط لا يمنع صحته وإجزاءه ، كما لو وطئ قبل الشهرين ، أو وطئ ليلة أول الشهرين ، وأصبح صائما ، والإتيان بالصوم قبل التماس في حق هذا لا سبيل إليه ، سواء بنى أو استأنف ، انتهى محل الغرض من كلام صاحب " المغني " ، وممن قال بهذا القول : أبو يوسف .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : هذا القول الأخير الذي هو عدم انقطاع التتابع بجماعه للمظاهر منها في ليال الصوم ، هو الأظهر عندي ; لأن الصوم فيه مطابق لمنطوق الآية في التتابع ، لأن الله تعالى قال : فصيام شهرين متتابعين ، وهذا قد صام شهرين متتابعين ، ولم يفصل بين يومين منهما بفاصل ، فالتتابع المنصوص عليه واقع قطعا ; كما ترى . وكون صومهما متابعين قبل المسيس واجب بقوله تعالى : من قبل أن يتماسا ، لا يظهر أنه يبطل حكم التتابع الواقع بالفعل ، ومما يوضحه ما ذكرنا آنفا في كلام صاحب " المغني " من أنه لو جامعها قبل شروعه في صوم الشهرين ، ثم صامهما متتابعين بعد ذلك ، فلا يبطل حكم التتابع بالوطء قبل الشروع في الصوم ، ولا يقتضي قوله تعالى : من قبل أن يتماسا بطلانه ، والعلم عند الله تعالى
الفرع العاشر : اعلم أنه إن جامع المظاهر منها في نهار صوم الكفارة ناسيا ، فقد اختلف أهل العلم هل يعذر بالنسيان ، فلا ينقطع حكم التتابع ، أو لا يعذر به ويلزمه الاستئناف ؟ فقال بعضهم : لا يعذر بالنسيان ، وينقطع التتابع بوطئه ناسيا وهذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، وإحدى الروايتين عند أحمد ، ومن حجتهم : أن الوطء لا يعذر فيه بالنسيان . وقال بعضهم : يعذر بالنسيان ، ولا ينقطع حكم التتابع بوطئه ناسيا ، وهو قول [ ص: 224 ] الشافعي ، وأبي ثور ، وابن المنذر . قالوا : لأنه فعل المفطر ناسيا ، فأشبه ما لو أكل ناسيا ، اهـ .

وهذا القول له وجه قوي من النظر ; لأن الله تعالى يقول : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم الآية [ 33 \ 5 ] ، وقد قدمنا من حديث ابن عباس ، وأبي هريرة في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، قال الله تعالى : نعم قد فعلت " .
الفرع الحادي عشر : إن أبيح له الفطر لعذر يقتضي ذلك ، وقلنا إن فطر العذر لا يقطع حكم التتابع ، فوطء غيرها نهارا لم ينقطع التتابع ; لأن الوطء لا أثر له في قطع التتابع ، لأن أصل الإفطار لسبب غيره ، وإن كانت الموطوءة نهارا هي المظاهر منها جرى على حكم وطئها ليلا ، وقد تكلمنا عليه قريبا ، قال ذلك صاحب " المغني " ، ووجهه ظاهر . وقال أيضا : وإن لمس المظاهر منها أو باشرها فيما دون الفرج على وجه يفطر به قطع التتابع لإخلاله بموالاة الصيام ، وإلا فلا يقطع ، والله تعالى أعلم ، اهـ . ووجهه ظاهر أيضا .
الفرع الثاني عشر أجمع العلماء على أن المظاهر إن لم يستطع الصوم انتقل إلى الإطعام ، وهو إطعام ستين مسكينا ، وقد نص الله تعالى على ذلك بقوله : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [ 58 \ 4 ] .

ومن الأسباب المؤدية إلى العجز عن الصوم الهرم وشدة الشبق ، وهو شهوة الجماع التي لا يستطيع صاحبها الصبر عنه ، ومما يدل على أن الهرم من الأسباب المؤدية للعجز عن الصوم ، ما جاء في قصة أوس بن الصامت الذي نزلت في ظهاره من امرأته آية الظهار ، ففي القصة من حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة التي ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت ، ونزل في ذلك قوله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها الآيات [ 58 \ 1 ] ، قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " يعتق رقبة " يعني زوجها أوسا قالت : لا يجد ، قال : " يصوم شهرين متتابعين " ، قالت : يا رسول الله إنه شيخ كبير ما به من صيام ، قال : " فليطعم ستين مسكينا " الحديث ، ومحل الشاهد منه أنها لما قالت له : إنه شيخ كبير اقتنع - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك عذر في الانتقال عن الصوم إلى الإطعام ، فدل على أنه سبب من أسباب العجز عنه ، والحديث وإن تكلم فيه ، فإنه لا يقل بشواهده عن درجة الاحتجاج .

[ ص: 225 ] وأما الدليل على أن شدة الشبق عذر ، كذلك هو ما جاء في حديث سلمة بن صخر الذي تكلمنا عليه سابقا في هذا المبحث ، أنه قال : كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار ، الحديث . وفيه قال : " فصم شهرين متتابعين " ، قال : قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم ؟ قال : " فتصدق " . ومحل الشاهد منه أنه لما قال له : " صم شهرين " ، أخبره أن جماعه في زمن الظهار إنما جاءه من عدم صبره عن الجماع ; لأنه ظاهر من امرأته خوفا من أن تغلبه الشهوة ، فيجامع في النهار ، فلما ظاهر غلبته الشهوة فجامع في زمن الظهار ، فاقتنع - صلى الله عليه وسلم - بعذره ، وأباح له الانتقال إلى الإطعام ، وهذا ظاهر .

وقال ابن قدامة في " المغني " : بعد أن ذكر أن الهرم والشبق كلاهما من الأسباب المؤدية للعجز عن الصوم ، للدليل الذي ذكرنا آنفا ، وقسنا عليهما ما يشبههما في معناهما .
الفرع الثالث عشر : أظهر قولي أهل العلم عندي : أنه لا يجزئ في الإطعام أقل من إطعام ستين مسكينا وهو مذهب مالك والشافعي . والمشهور من مذهب أحمد خلافا لأبي حنيفة القائل : بأنه لو أطعم مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه ، وهو رواية عن أحمد ، وعلى هذا يكون المسكين في الآية مأولا بالمد ، والمعنى : فإطعام ستين مدا ، ولو دفعت لمسكين واحد في ستين يوما .

وإنما قلنا : إن القول بعدم إجزاء أقل من الستين هو الأظهر ; لأن قوله تعالى : مسكينا تمييز لعدد هو الستون ، فحمله على مسكين واحد خروج بالقرآن عن ظاهره المتبادر منه بغير دليل يجب الرجوع إليه ، وهو لا يصح ، ولا يخفى أن نفع ستين مسكينا أكثر فائدة من نفع مسكين واحد في ستين يوما ، لفضل الجماعة ، وتضافر قلوبهم على الدعاء للمحسن إليهم بالإطعام ، فيكون ذلك أقرب إلى الإجابة من دعاء واحد ، وستون جمع كثير من المسلمين لا يخلو غالبا من صالح مستجاب الدعوة ، فرجاء الاستجابة فيهم أقوى منه في الواحد ، كما لا يخفى . وعلى كل حال ، فقوله تعالى في محكم كتابه : فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ، لا يخفى فيه أن قوله : فإطعام ستين مصدر مضاف إلى مفعوله ، فلفظ : ستين الذي أضيف إليه المصدر هو عين المفعول به الواقع عليه الإطعام ، وهذا العدد الذي هو المفعول به للإطعام مبين بالتمييز الذي هو قوله تعالى : [ ص: 226 ] مسكينا ، وبذلك يتحقق أن الإطعام في الآية واقع على نفس العدد الذي هو ستون ، فالاقتصار به على واحد خروج بنص القرآن ، عن ظاهره المتبادر منه بلا دليل يجب الرجوع إليه كما ترى . وحمل المسكين في هذه الآية الكريمة على المد من أمثلة المالكية والشافعية في أصولهم لما يسمونه التأويل البعيد والتأويل الفاسد ، وقد أشار إلى ذلك صاحب " مراقي السعود " ، بقوله :


فجعل مسكين بمعنى المد عليه لائح سمات البعد

الفرع الرابع عشر : في كلام أهل العلم في القدر الذي يعطاه كل مسكين من الطعام ، اعلم أن العلماء اختلفوا في ذلك ، فمذهب مالك أنه يعطي كل مسكين من البر الذي هو القمح مدا وثلثي مد ، وإن كان إطعامه من غير البر ، كالتمر والشعير ، لزمه منه ما يقابل المد والثلثين من البر . قال خليل المالكي في مختصره في إطعام كفارة الظهار : لكل مد وثلثان برا ، وإن اقتاتوا تمرا أو مخرجا في الفطر فعدله ، انتهى محل الغرض منه .

وقال شارحه المواق بن يونس : ينبغي أن يكون الشبع مدين إلا ثلثا بمد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهي عيار مد هشام ، فمن أخرج به أجزأه ، قاله مالك . قال ابن القاسم : فإن كان عيش بلدهم تمرا أو شعيرا أطعم منه المظاهر عدل مد هشام من البر ، انتهى محل الغرض منه .

ومذهب أبي حنيفة : أنه يعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا كاملا من تمر أو شعير . ومذهب الشافعي : أنه يعطي كل مسكين مدا مطلقا . ومعلوم : أن المد النبوي ربع الصاع ، قال في " المغني " : وقال أبو هريرة : ويطعم مدا من أي الأنواع كان ، وبهذا قال عطاء والأوزاعي والشافعي ، اهـ . ومذهب أحمد : أنه يعطي كل مسكين مدا من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير ، ا هـ .

وإذا عرفت مذاهب الأئمة في هذا الفرع ، فاعلم أنا أردنا هنا أن نذكر كلام ابن قدامة في " المغني " في أدلتهم وأقوالهم ، قال : وجملة الأمر أن قدر الطعام في الكفارات كلها مد من بر لكل مسكين ، ونصف صاع من تمر أو شعير ، وممن قال مد بر : زيد بن ثابت ، وابن عباس ، وابن عمر ، حكاه عنهم الإمام أحمد ، ورواه عنهم الأثرم ، وعن عطاء وسليمان بن موسى . وقال سليمان بن يسار : أدركت الناس إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر مد النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أبو هريرة : يطعم مدا من أي الأنواع كان ، وبهذا قال الأوزاعي ، وعطاء والشافعي ، لما روى أبو داود بإسناده عن عطاء ، عن أوس أخي [ ص: 227 ] عبادة بن الصامت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه يعني المظاهر خمسة عشر صاعا من شعير إطعام ستين مسكينا .

وروى الأثرم بإسناده عن أبي هريرة في حديث المجامع في رمضان : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي بعرق فيه خمسة عشر صاعا ، فقال : " خذه وتصدق به " . وإذا ثبت في المجامع في رمضان بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه ، ولأنه إطعام واجب ، فلم يختلف باختلاف أنواع المخرج ، كالفطرة وفدية الأذى . وقال مالك : لكل مسكين مدان من جميع الأنواع ، وممن قال مدان من قمح : مجاهد ، وعكرمة ، والشعبي ، والنخعي ; لأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام ، فكان لكل مسكين نصف صاع كفدية الأذى . وقال الثوري وأصحاب الرأي : من القمح مدان ، ومن التمر والشعير صاع لكل مسكين ; لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث سلمة بن صخر رضي الله عنه : " فأطعم وسقا من تمر " .

رواه الإمام أحمد في المسند ، وأبو داود وغيرهما ، وروى الخلال بإسناده ، عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن خويلة ، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر " . وفي رواية أبي داود : والعرق ستون صاعا . وروى ابن ماجه بإسناده عن ابن عباس ، قال : كفر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصاع من تمر وأمر الناس " فمن لم يجد فنصف صاع من بر " .

وروى الأثرم بإسناده عن عمر رضي الله عنه ، قال : أطعم عني صاعا من تمر أو شعير أو نصف صاع من بر ، ولأنه إطعام للمساكين ، فكان صاعا من تمر أو شعير ، أو نصف صاع من بر ، كصدقة الفطر .

ولنا ما روى الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن أبي يزيد المدني ، قال : جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمظاهر : " أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر " ، وهذا نص ويدل على أنه مد بر أنه قول زيد ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، ولم نعرف لهم في الصحابة مخالفا ، فكان إجماعا .

ويدل على أنه نصف صاع من التمر والشعير ، ما روى عطاء بن يسار : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لخولة امرأة أوس بن الصامت : " اذهبي إلى فلان الأنصاري ، فإن عنده شطر وسق من تمر أخبرني أنه يريد أن يتصدق به ، فلتأخذيه فليتصدق به على ستين مسكينا " .

[ ص: 228 ] وفي حديث أوس بن الصامت : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " إني سأعينه بعرق من تمر " ، قلت : يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر ، قال : " قد أحسنت ، اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك " .

وروى أبو داود بإسناده ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، أنه قال : العرق : زنبيل يأخذ خمسة عشر صاعا ، فعرقان يكونان ثلاثين صاعا لكل مسكين نصف صاع ، ولأنها كفارة تشتمل على صيام وإطعام ، فكان لكل مسكين نصف صاع من التمر والشعير ، كفدية الأذى .

فأما رواية أبي داود : أن العرق ستون صاعا فقد ضعفها ، وقال : غيرها أصح منها ، وفي الحديث ما يدل على الضعف ; لأن ذلك في سياق قوله : " إني سأعينه بعرق " ، فقالت امرأته : إني سأعينه بعرق آخر ، " فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا " ، فلو كان العرق ستين صاعا لكانت الكفارة مائة وعشرين صاعا ولا قائل به .

وأما حديث المجامع الذي أعطاه خمسة عشر صاعا ، فقال : " تصدق به " ، فيحتمل أنه اقتصر عليه إذ لم يجد سواه ، ولذلك لما أخبره بحاجته إليه أمره بأكله .

وفي الحديث المتفق عليه قريب من عشرين صاعا ، وليس ذلك مذهبا لأحد ، فيدل على أنه اقتصر على البعض الذي لم يجد سواه ، وحديث أوس أخي عبادة بن الصامت مرسل يرويه عنه عطاء ، ولم يدركه على أنه حجة لنا ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه عرقا ، وأعانته امرأته بآخر ، فصارا جميعا ثلاثين صاعا ، وسائر الأخبار يجمع بينها وبين أخبارنا ، بحملها على الجواز ، وحمل أخبارنا على الإجزاء . وقد عضد هذا أن ابن عباس راوي بعضها ، ومذهبه : أن المد من البر يجزئ . وكذلك أبو هريرة ، وسائر ما ذكرنا من الأخبار مع الإجماع الذي نقله سليمان بن يسار ، والله أعلم . انتهى بطوله من " المغني " لابن قدامة ، وقد جمع فيه أقوال أهل العلم وأدلتهم ، وما نقل عن مالك في هذا المبحث أصح منه عنه ما ذكرناه قبله في هذا المبحث .

وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " ، في رواية : والعرق ستون صاعا ، هذه الرواية تفرد بها معمر بن عبد الله بن حنظلة . قال الذهبي : لا يعرف ، ووثقه ابن حبان ، وفيها أيضا محمد بن إسحاق ، وقد عنعن . والمشهور عرفا أن العرق يسع خمسة عشر صاعا ، كما روى ذلك الترمذي بإسناد صحيح من حديث سلمة نفسه ، ا هـ منه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:23 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (441)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 229 إلى صـ 236

[ ص: 229 ] قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : قد رأيت أقوال أهل العلم في قدر ما يعطى المسكين من إطعام كفارة الظهار واختلافها ، وأدلتهم واختلافها .

وأحوط أقوالهم في ذلك قول أبي حنيفة ومن وافقه ; لأنه أحوطها في الخروج من عهدة الكفارة ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الخامس عشر : في كيفية الإطعام وجنس الطعام ومستحقه . أما مستحقه فقد نص الله تعالى على أنه المسكين في قوله : فإطعام ستين مسكينا ، والمقرر عند أهل العلم أن المسكين إن ذكر وحده شمل الفقير ، كعكسه .

وأما كيفيته : فظاهر النصوص أنه يملك كل مسكين قدر ما يجب له من الطعام ، وهو مذهب مالك ، والشافعي . والرواية المشهورة عن أحمد ، وعلى هذا القول لو غدى المساكين ، وعشاهم بالقدر الواجب في الكفارة ، لم يجزئه حتى يملكهم إياه .

وأظهر القولين عندي : أنه إن غدى كل مسكين وعشاه ، ولم يكن ذلك الغداء والعشاء أقل من القدر الواجب له ، أنه يجزئه ; لأنه داخل في معنى قوله : فإطعام ستين مسكينا ، وهذا مروي عن أبي حنيفة ، والنخعي ، وهو رواية عن أحمد ، وقصة إطعام أنس لما كبر ، وعجز عن الصوم عن فدية الصيام مشهورة . وأما جنس الطعام الذي يدفعه للمساكين ، فقد تقدم في الأحاديث ذكر البر والتمر والشعير ، ولا ينبغي أن يختلف في هذه الثلاثة .

ومعلوم أن أهل العلم اختلفوا في طعام كفارة الظهار ، فقال بعضهم : المجزئ في ذلك هو ما يجزئ في صدقة الفطر ، سواء كان هو قوت المكفر أو لا ؟ ولا يجزئه غير ذلك ، ولو كان قوتا له .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : أظهر أقوال أهل العلم عندي : أن جميع الحبوب التي هي قوت بلد المظاهر يجزئه الإخراج منها ، لأنها هي طعام بلده ، فيصدق على من أطعم منها المساكين أنه أطعم ستين مسكينا ، فيدخل ذلك في قوله تعالى : فإطعام ستين مسكينا ، ويؤيد ذلك أن القرآن أشار إلى اعتبار أوسط قوت أهله في كفارة اليمين في قوله تعالى : فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] ، وهذا مذهب الشافعي ، واختيار أبي الخطاب من الحنابلة .
[ ص: 230 ] الفرع السادس عشر : اعلم أن أكثر أهل العلم على أن الإطعام لا يجب فيه التتابع ; لأن الله تعالى أطلقه عن قيد التتابع ، ولأن أكثر أهل الأصول ، على أن المطلق لا يحمل على المقيد إن اتحد سببهما ، واختلف حكمهما ; كما في هذه المسألة . ولا سيما على القول الأصح في حمل المطلق على المقيد أنه من قبيل القياس ، لامتناع قياس فرع على أصل مع اختلافهما في الحكم ، كما هو معروف في محله .
الفرع السابع عشر : اعلم أن أهل العلم اختلفوا فيما إذا جامع المظاهر زوجته التي ظاهر منها في أثناء الإطعام ، هل يلزمه إعادة ما مضى من الإطعام ، لبطلانه بالجماع قبل إتمام الإطعام ، أو لا يلزمه ذلك ؟ فقال بعض أهل العلم : لا يلزمه ذلك ; لأن جماعه في أثناء ما لا يشترط فيه التتابع ، فلم يوجب الاستئناف ، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد .

وأما مذهب مالك : فهو أنه يستأنف الإطعام لأنه جامع في أثناء كفارة الظهار ، فوجب الاستئناف كالصيام ، والأول أظهر ; لأن الواقع من الإطعام قبل جماعه يحتاج بطلانه وإلغاؤه إلى دليل يجب الرجوع إليه وليس موجودا ، والعلم عند الله تعالى .
الفرع الثامن عشر : إذا قالت المرأة لزوجها : أنت علي كظهر أبي ، وقالت : إن تزوجت فلانا فهو علي كظهر أبي ، فهل يكون ذلك ظهارا منها ، أو لا ؟ فقال أكثر أهل العلم : لا يكون ظهارا ، وهو قول الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وإسحاق ، وأبي ثور وغيرهم . وقال بعض أهل العلم : تكون مظاهرة ، وبه قال الزهري ، والأوزاعي . وروي عن الحسن والنخعي ، إلا أن النخعي قال : إذا قالت ذلك بعدما تزوج ، فليس بشيء ، اهـ .
والتحقيق أن المرأة لا تكون مظاهرة ; لأن الله جل وعلا لم يجعل لها شيئا من الأسباب المؤدية لتحريم زوجها عليها ، كما لا يخفى .
تنبيه .

اعلم أن الجمهور القائلين : إن المرأة لا تكون مظاهرة ، اختلفوا فيما يلزمها إذا قالت ذلك ، إلى ثلاثة مذاهب : الأول : أن عليها كفارة ظهار ، وإن كانت غير مظاهرة .

والثاني : أن عليها كفارة يمين .

والثالث : لا شيء عليها .

[ ص: 231 ] واحتج من قال بأن عليها كفارة ظهار ، وهو رواية عن أحمد : بأنها قالت منكرا من القول وزورا ، فلزمها أن تكفر عنه كالرجل ، وبما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم ، عن عائشة بنت طلحة ، قالت : إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي ، فسألت أهل المدينة ، فرأوا أن عليها الكفارة . وبما روى علي بن مسهر عن الشيباني ، قال : كنت جالسا في المسجد ، أنا وعبد الله بن معقل المزني ، فجاء رجل حتى جلس إلينا ، فسألته : من أنت ؟ فقال : أنا مولى عائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها ، خطبها مصعب بن الزبير ، فقالت : هو علي كظهر أبي إن تزوجته ، ثم رغبت فيه ، فاستفتت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يومئذ كثير فأمروها أن تعتق رقبة ، وتتزوجه ، فأعتقتني ، وتزوجته . وروى سعيد هذين الأثرين مختصرين ، اهـ من " المغني " . وانظر إسناد الأثرين المذكورين .

وأما الذين قالوا : تلزمها كفارة يمين ، وهو قول عطاء ، فقد احتجوا بأنها حرمت على نفسها زوجها وهو حلال لها ، فلزمتها كفارة اليمين اللازمة في تحريم الحلال ، المذكورة في قوله تعالى : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، بعد قوله : لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] . وأما الذين قالوا : لا شيء عليها ، ومنهم الشافعي ، ومالك ، وإسحاق ، وأبو ثور وغيرهم ، فقد احتجوا بأنها قالت : منكرا من القول وزورا ، فلم يوجب عليها كفارة ، كالسب والقذف ونحوهما من الأقوال المحرمة الكاذبة .

وأظهر أقوالهم عندنا : أن من يرى في تحريم الحلال كفارة يمين يلزمها على قوله كفارة يمين ، ومن يرى أنه لا شيء فيه ، فلا شيء عليها على قوله ، وقد قدمنا أقوال أهل العلم في تحريم الحلال في الحج ، وفي هذا المبحث ، ا هـ .

واعلم أن الذين قالوا : تجب عليها كفارة الظهار ، قالوا : لا تجب عليها حتى يجامعها وهي مطاوعة له ، فإن طلقها أو مات أحدهما قبل الوطء ، أو أكرهها على الوطء فلا كفارة عليها ; لأنها يمين ، فلا تجب كفارتها قبل الحنث ، كسائر الأيمان ، وعليها تمكين زوجها من وطئها قبل التكفير ; لأنه حق له عليها ، فلا يسقط بيمينها ، ولأنه ليس بظهار ، انتهى من " المغني " ، وهو ظاهر . ولنكتف بما ذكرنا من الأحكام المتعلقة بهذه الآية الكريمة ، ومن أراد استقصاء ذلك فهو في كتب فروع المذاهب .
[ ص: 232 ] قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم .

قال ابن كثير : أي في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام والإعظام ، ولكن لا يجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، ا هـ . محل الغرض منه . وما ذكر من أن المراد بكون أزواجه - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين هو حرمتهن عليهم ، كحرمة الأم ، واحترامهم لهن كاحترام الأم . . . إلخ واضح لا إشكال فيه . ويدل له قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب [ 33 \ 53 ] ; لأن الإنسان لا يسأل أمه الحقيقية من وراء حجاب . وقوله تعالى : إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم [ 58 \ 2 ] ، ومعلوم أنهن رضي الله عنهن ، لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم ، ويفهم من قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم ، أنه هو - صلى الله عليه وسلم - أب لهم . وقد روي عن أبي بن كعب ، وابن عباس ، أنهما قرأا : ( وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ) ، وهذه الأبوة أبوة دينية ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أرأف بأمته من الوالد الشفيق بأولاده ، وقد قال جل وعلا في رأفته ورحمته بهم : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] [ 33 \ 40 ] ، وليست الأبوة أبوة نسب ; كما بينه تعالى بقوله : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ، ويدل لذلك أيضا حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وابن ماجه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه " ، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة ، فقوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد " ، يبين معنى أبوته المذكورة ، كما لا يخفى .
مسألة .

اعلم أن أهل العلم اختلفوا هل يقال لبنات أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخوات المؤمنين ، أو لا ؟ وهل يقال لإخوانهن كمعاوية ، وعبد الله بن أبي أمية أخوال المؤمنين ، أو لا ؟ وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ؟ قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن ، وأخواتهن بالإجماع ، وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المسلمين ، كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه في المختصر ، وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم ، وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين ؟ فيه قولان للعلماء رضي الله عنهم . ونص الشافعي - رضي الله عنه - على أنه لا يقال ذلك . وهل يقال لهن : أمهات المؤمنات ؟

[ ص: 233 ] فيدخل النساء في الجمع المذكر السالم تغليبا ، فيه قولان : صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لا يقال ذلك ، وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي - رضي الله عنه - انتهى محل الغرض من كلام ابن كثير .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الأظهر عندي في ذلك أنه لا يطلق منه إلا ما ورد النص بإطلاقه ; لأن الإطلاق المراد به غير الظاهر المتبادر يحتاج إلى دليل صارف إليه ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض .

قد قدمنا إيضاحه وكلام أهل العلم فيما يتعلق به من الأحكام في آخر " الأنفال " ، في الكلام على قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله الآية [ 8 \ 75 ] .
قوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أخذ من النبيين ميثاقهم ، ثم خص منهم بذلك خمسة : هم أولو العزم من الرسل ، وهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى . ولم يبين هنا الميثاق الذي أخذه عليهم ، ولكنه جل وعلا بين ذلك في غير هذا الموضع ; فبين الميثاق المأخوذ على جميع النبيين بقوله تعالى في سورة " آل عمران " : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ 3 \ 81 \ 82 ] . وقد قدمنا الكلام على هذه الآية في سورة " مريم " ، في الكلام على قصة الخضر ، وقد بين جل وعلا الميثاق الذي أخذه على خصوص الخمسة الذين هم أولو العزم من الرسل في سورة " الشورى " ، في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] .
وبما ذكرنا تعلم أن آية " آل عمران " ، وآية " الشورى " ، فيهما بيان لآية " الأحزاب " هذه .
[ ص: 234 ] وقوله في هذه الآية الكريمة : ومنك ومن نوح من عطف الخاص على العام ، وقد تكلمنا عليه مرارا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها .

أمر الله جل وعلا المؤمنين في هذه الآية الكريمة أن يذكروا نعمته عليهم حين جاءتهم جنود وهم جيش الأحزاب ، فأرسل جل وعلا عليهم ريحا وجنودا لم يرها المسلمون ، وهذه الجنود التي لم يروها التي امتن عليهم بها هنا في سورة " الأحزاب " ، بين أنه من عليهم بها أيضا في غزوة حنين ، وذلك في قوله تعالى : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها الآية [ 9 \ 25 - 26 ] ، وهذه الجنود هي الملائكة ، وقد بين جل وعلا ذلك في " الأنفال " ، في الكلام على غزوة بدر ، وذلك في قوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان الآية [ 8 \ 12 ] ، وهذه الجنود التي لم يروها التي هي الملائكة ، قد بين الله جل وعلا في " براءة " ، أنه أيد بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - وهو في الغار ، وذلك في قوله : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها الآية [ 9 \ 40 ] .
قوله تعالى : ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين لما رأوا الأحزاب يعني جنود الكفار الذين جاءوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، في غزوة الخندق ، قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله ، ولم يبين هنا الآية التي وعدهم إياه فيها ، ولكنه بين ذلك في سورة " البقرة " ، في قوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب [ 2 \ 214 ] ، وممن قال إن آية " البقرة " المذكورة مبينة لآية [ ص: 235 ] " الأحزاب " هذه ، ابن عباس ، وقتادة وغير واحد ، وهو ظاهر .
وقوله في هذه الآية الكريمة : وما زادهم إلا إيمانا ، صريح في أن الإيمان يزيد ، وقد صرح الله بذلك في آيات من كتابه ، فلا وجه للاختلاف فيه مع تصريح الله جل وعلا به في كتابه ، في آيات متعددة ; كقوله تعالى : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ 48 \ 4 ] ، وقوله تعالى : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا [ 8 \ 2 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، وأنه كفى المؤمنين القتال ، وهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . ولم يبين هنا السبب الذي رد به الذين كفروا وكفى به المؤمنين القتال ، ولكنه جل وعلا بين ذلك بقوله : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها [ 33 \ 9 ] ، أي : وبسبب تلك الريح وتلك الجنود ردهم بغيظهم وكفاكم القتال ، كما هو ظاهر .
قوله تعالى : يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين الآية [ 33 \ 30 ] .
قد قدمنا الآية الموضحة له في آخر سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 90 ] ، وفي سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات الآية [ 17 \ 75 ] .
قوله تعالى : ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين .

ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من قنت من نساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - لله ولرسوله ، وعمل عملا صالحا أن الله جل وعلا يؤتها أجرها مرتين . والقنوت : الطاعة . وما وعد الله به جل وعلا من أطاع منهن بإيتائها أجرها مرتين في هذه الآية الكريمة ، جاء الوعد بنظيره لغيرهن في غير هذا الموضع ، فمن ذلك وعده لمن آمن من أهل الكتاب بنبيه ، ثم آمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بإيتائه أجره مرتين ، وذلك في قوله تعالى : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين الآية [ 28 \ 51 - 54 ] .

[ ص: 236 ] ومن ذلك وعده لجميع المطيعين من أمته - صلى الله عليه وسلم - بإيتائهم كفلين من رحمته تعالى ، وذلك في قوله جل وعلا : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم الآية [ 57 \ 28 ] .

واعلم : أن ظاهر هذه الآية الكريمة من سورة " الحديد " ، الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن الخطاب بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله الآية [ 57 \ 28 ] ، عام لجميع هذه الأمة كما ترى . وليس في خصوص مؤمني أهل الكتاب ، كما في آية " القصص " المذكورة آنفا ، وكونه عاما هو التحقيق إن شاء الله ; لظاهر القرآن المتبادر الذي لم يصرف عنه صارف ، فما رواه النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما من حمله آية " الحديد " هذه على خصوص أهل الكتاب ، كما في آية " القصص " خلاف ظاهر القرآن ، فلا يصح الحمل عليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه ، وإن وافق ابن عباس في ذلك الضحاك ، وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما ، واختاره ابن جرير الطبري .

والصواب في ذلك إن شاء الله هو ما ذكرنا ، لأن المعروف عند أهل العلم : أن ظاهر القرآن المتبادر منه ، لا يجوز العدول عنه ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه .
وقال ابن كثير : وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين ، أنزل الله تعالى على نبيه هذه الآية في حق هذه الأمة : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين ، أي : ضعفين من رحمته ، وزادهم ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم [ 57 \ 28 ] ، ففضلهم بالنور والمغفرة ، اهـ . نقله عنه ابن جرير ، وابن كثير ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، ويكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا لذلك أمثلة متعددة في الترجمة ، وفي مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (442)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 237 إلى صـ 244





ومما ذكرنا من أمثلة ذلك في الترجمة قولنا فيها : ومن أمثلته قول بعض أهل العلم : [ ص: 237 ] إن أزواجه - صلى الله عليه وسلم - لا يدخلن في أهل بيته في قوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، فإن قرينة السياق صريحة في دخولهن ; لأن الله تعالى قال : قل لأزواجك إن كنتن تردن [ 33 \ 28 ] ، ثم قال في نفس خطابه لهن : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ، ثم قال بعده : واذكرن ما يتلى في بيوتكن الآية [ 33 \ 34 ] .
تنبيه .

اعلم أنه يكثر في القرآن العظيم ، وفي اللغة إتيان اللام المكسورة منصوبا بعدها المضارع بعد فعل الإرادة ; كقوله هنا : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس الآية ، وقوله : يريد الله ليبين لكم [ 4 \ 26 ] ، وقوله : يريدون ليطفئوا نور الله الآية [ 61 \ 8 ] ، وقوله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ، إلى غير ذلك من الآيات . وكقول الشاعر :



أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل وللعلماء في اللام المذكورة أقوال ، منها : أنها مصدرية بمعنى أن ، وهو قول غريب . ومنها : أنها لام كي ، ومفعول الإرادة محذوف ، والتقدير : إنما يريد الله أن يأمركم وينهاكم ، لأجل أن يذهب عنكم الرجس ، والرجس كل مستقذر تعافه النفوس ، ومن أقذر المستقذرات معصية الله تعالى .
قوله تعالى : وتخفي في نفسك ما الله مبديه .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها بيان الإجمال الواقع بسبب الإبهام في صلة موصول ، وذكرنا أن من أمثلة ذلك قوله تعالى : وتخفي في نفسك ما الله مبديه [ 33 \ 37 ] ، لأن جملة : الله مبديه صلة الموصول الذي هو ما . وقد قلنا في الترجمة المذكورة : فإنه هنا أبهم هذا الذي أخفاه - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأبداه الله ، ولكنه أشار إلى أن المراد به زواجه - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش - رضي الله عنها - حيث أوحى إليه ذلك ، وهي في ذلك الوقت تحت زيد بن حارثة ; لأن زواجه إياها هو الذي أبداه الله بقوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ 33 \ 37 ] ، وهذا هو التحقيق في معنى الآية الذي دل عليه القرآن ، وهو اللائق بجنابه - صلى الله عليه وسلم .

وبه تعلم أن ما يقوله كثير من المفسرين من أن ما أخفاه في نفسه - صلى الله عليه وسلم - وأبداه الله وقوع [ ص: 240 ] زينب في قلبه ومحبته لها ، وهي تحت زيد ، وأنها سمعته قال : " سبحان مقلب القلوب " إلى آخر القصة ، كله لا صحة له ، والدليل عليه أن الله لم يبد من ذلك شيئا ، مع أنه صرح بأنه مبدي ما أخفاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، انتهى محل الغرض من كلامنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك .

وقال القرطبي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية : واختلف الناس في تأويل هذه الآية ، فذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم الطبري وغيره إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع منه استحسان لزينب بنت جحش وهي في عصمة زيد ، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو ، إلى أن قال : وهذا الذي كان يخفي في نفسه ، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف ، يعني قوله : أمسك عليك زوجك [ 33 \ 37 ] ، ا هـ . ولا شك أن هذا القول غير صحيح ، وأنه غير لائق به - صلى الله عليه وسلم .

ونقل القرطبي نحوه عن مقاتل ، وابن عباس أيضا ، وذكر القرطبي عن علي بن الحسين أن الله أوحى إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن زيدا سيطلق زينب ، وأن الله يزوجها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد أن علم هذا بالوحي . قال لزيد : " أمسك عليك زوجك " . وأن الذي أخفاه في نفسه ، هو أن الله سيزوجه زينب رضي الله عنها ، ثم قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : وهذا القول أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية . وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين ، والعلماء الراسخين ، كالزهري ، والقاضي بكر بن العلاء القشيري ، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم ، إلى أن قال : فأما ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هوى زينب امرأة زيد ، وربما أطلق بعض المجان لفظ عشق ، فهذا إنما يصدر عن جاهل بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا أو مستخف بحرمته .

قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول وأسند إلى علي بن الحسين قوله : فعلي بن الحسين جاء بهذا من خزانة العلم جوهرا من الجواهر ودرا من الدرر أنه إنما عتب الله عليه في أنه قد أعلمه أن ستكون هذه من أزواجه ، فكيف قال بعد ذلك لزيد : " أمسك عليك زوجك " ، وأخذتك خشية الناس أن يقولوا : تزوج امرأة ابنه ، والله أحق أن تخشاه ، انتهى محل الغرض منه .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير هاهنا آثارا عن بعض السلف رضي الله عنهم ، أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها ، فلا نوردها [ ص: 241 ] إلى آخر كلامه ، وفيه كلام علي بن الحسين الذي ذكرنا آنفا .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق إن شاء الله في هذه المسألة ، هو ما ذكرنا أن القرآن دل عليه ، وهو أن الله أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن زيدا يطلق زينب ، وأنه يزوجها إياه - صلى الله عليه وسلم - ، وهي في ذلك الوقت تحت زيد ، فلما شكاها زيد إليه - صلى الله عليه وسلم - قال له : " أمسك عليك زوجك واتق الله " ، فعاتبه الله على قوله : " أمسك عليك زوجك " بعد علمه أنها ستصير زوجته هو - صلى الله عليه وسلم - ، وخشي مقالة الناس أن يقولوا : لو أظهر ما علم من تزويجه إياها أنه يريد تزويج زوجة ابنه في الوقت الذي هي فيه في عصمة زيد .

والدليل على هذا أمران :

الأول : هو ما قدمنا من أن الله جل وعلا قال : وتخفي في نفسك ما الله مبديه ، وهذا الذي أبداه الله جل وعلا هو زواجه إياها في قوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ، ولم يبد جل وعلا شيئا مما زعموه أنه أحبها ، ولو كان ذلك هو المراد لأبداه الله تعالى كما ترى .

الأمر الثاني : أن الله جل وعلا صرح بأنه هو الذي زوجه إياها ، وأن الحكمة الإلاهية في ذلك التزويج هي قطع تحريم أزواج الأدعياء في قوله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم الآية ، فقوله تعالى : لكي لا يكون على المؤمنين حرج ، تعليل صريح لتزويجه إياها لما ذكرنا ، وكون الله هو الذي زوجه إياها لهذه الحكمة العظيمة صريح في أن سبب زواجه إياها ليس هو محبته لها التي كانت سببا في طلاق زيد لها كما زعموا ، ويوضحه قوله تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا الآية ; لأنه يدل على أن زيدا قضى وطره منها ، ولم تبق له بها حاجة ، فطلقها باختياره ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمر بالإكثار من الذكر ، جاء معناه في آيات أخر ; كقوله تعالى : فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم [ 4 \ 103 ] ، وقوله تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ 3 \ 191 ] ، وقوله تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات الآية [ 33 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 242 ] قوله تعالى : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا . لم يبين هنا المراد بالفضل الكبير في هذه الآية الكريمة ، ولكنه بينه في سورة " الشورى " في قوله تعالى : والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير [ 42 \ 22 ] .
قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن .

قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا له أمثلة في الترجمة ، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة ، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة ، فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، ومن أمثلته قول كثير من الناس إن آية " الحجاب " أعني قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب خاصة بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة ، في قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن ، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :



وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم

انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة .

وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء ، لا خاص بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن ; لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه ، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، هو علة قوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب ، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه ، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته ، هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة [ ص: 243 ] لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين ، وعرف صاحب " مراقي السعود " دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء والتنبيه بقوله :



دلالة الإيــماء والتنـــبيه في الفن تقصد لدى ذويه
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن لغير علة يعبه من فطن


وعرف أيضا الإيماء والتنبيه في مسالك العلة بقوله : والثالث الإيما اقتران الوصف بالحكم ملفوظين دون خلف

وذلك الوصف أو النــظير قرانه لغــــيرها يضير


فقوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، لو لم يكن علة لقوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب ، لكان الكلام معيبا غير منتظم عند الفطن العارف .

وإذا علمت أن قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، هو علة قوله : فاسألوهن من وراء حجاب ، وعلمت أن حكم العلة عام .

فاعلم أن العلة قد تعمم معلولها ، وقد تخصصه كما ذكرنا في بيت " مراقي السعود " ، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته ، وإذا كان حكم هذه الآية عاما بدلالة القرينة القرآنية .

فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء .

واعلم أنا في هذا المبحث نريد أن نذكر الأدلة القرآنية على وجوب الحجاب على العموم ، ثم الأدلة من السنة ، ثم نناقش أدلة الطرفين ، ونذكر الجواب عن أدلة من قالوا بعدم وجوب الحجاب ، على غير أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكرنا آنفا أن قوله : ذلكم أطهر لقلوبكم ، قرينة على عموم حكم آية الحجاب .

ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى : ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن [ 33 \ 59 ] ، فقد قال غير واحد من أهل العلم : إن معنى : يدنين عليهن من جلابيبهن : أنهن يسترن بها جميع وجوههن ، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها ، وممن قال به : ابن مسعود ، وابن عباس ، وعبيدة السلماني وغيرهم .

[ ص: 244 ] فإن قيل : لفظ الآية الكريمة وهو قوله تعالى : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة ، ولم يرد نص من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع على استلزامه ذلك ، وقول بعض المفسرين : إنه يستلزمه ، معارض بقول بعضهم : إنه لا يستلزمه ، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه .

فالجواب : أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها : يدنين عليهن من جلابيبهن يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها ، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى : قل لأزواجك ، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن ، لا نزاع فيه بين المسلمين . فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب ، كما ترى .

ومن الأدلة على ذلك أيضا : هو ما قدمنا في سورة " النور " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [ 40 \ 31 ] ، من أن استقراء القرآن يدل على أن معنى : إلا ما ظهر منها الملاءة فوق الثياب ، وأنه لا يصح تفسير : إلا ما ظهر منها بالوجه والكفين ، كما تقدم إيضاحه .

واعلم أن قول من قال : إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قوله تعالى : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لا يدخل فيه ستر الوجه ، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى : ذلك أدنى أن يعرفن ، قال : وقد دل قوله : أن يعرفن على أنهن سافرات كاشفات عن وجوههن ; لأن التي تستر وجهها لا تعرف ، باطل ، وبطلانه واضح ، وسياق الآية يمنعه منعا باتا ; لأن قوله : يدنين عليهن من جلابيبهن صريح في منع ذلك .

وإيضاحه أن الإشارة في قوله : ذلك أدنى أن يعرفن راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن ، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن ، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن وكشفهن عن وجوههن كما ترى ، فإدناء الجلابيب مناف لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه ، كما لا يخفى .

وقوله في الآية الكريمة : لأزواجك دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة في الآية ليست بكشف الوجوه ; لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:34 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (443)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 245 إلى صـ 252




والحاصل : أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة : [ ص: 245 ] الأول : سياق الآية ، كما أوضحناه آنفا .

الثاني : قوله : لأزواجك ، كما أوضحناه أيضا .

الثالث : أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها ، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت ، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء ، ولا يتعرضون للحرائر ، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزا عن زي الإماء ، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى ظنا منهم أنهن إماء ، فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء ، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق ، علموا أنهن حرائر ، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء هو معنى قوله : ذلك أدنى أن يعرفن ، فهي معرفة بالصفة لا بالشخص . وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن ، كما ترى .

فقوله : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لأن إدنائهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر ، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن ، أي : يعلم أنهن حرائر ، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء ، وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية ، وهو واضح ، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز ، هو حرام ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض ، وأنهم يدخلون في عموم قوله : والذين في قلوبهم مرض [ 33 \ 60 ] ، في قوله تعالى : والذين في قلوبهم مرض ، إلى قوله : وقتلوا تقتيلا [ 33 \ 60 - 61 ] .

ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض قوله تعالى : فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض الآية [ 33 \ 32 ] ، وذلك معنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول الأعشى :

*حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض
وفي الجملة : فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق ، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم ، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب .
تنبيه .

قد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، [ ص: 246 ] أن الفعل الصناعي عند النحويين ينحل عن مصدر وزمن ; كما قال ابن مالك في " الخلاصة " :

المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن .

وأنه عند جماعات من البلاغيين ينحل عن مصدر وزمن ونسبة .

وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن المصدر والزمن كامنان في مفهوم الفعل إجماعا ، وقد ترجع الإشارات والضمائر تارة إلى المصدر الكامن في مفهوم الفعل ، وتارة إلى الزمن الكامن فيه .

فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن فيه ، قوله تعالى هنا : يدنين عليهن ، ثم قال : ذلك أدنى أن يعرفن ، أي : ذلك الإدناء المفهوم من قوله : يدنين .

ومثال رجوع الإشارة للزمن الكامن فيه قوله تعالى : ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد [ 50 \ 20 ] ، فقوله : ذلك يعني زمن النفخ المفهوم من قوله : ونفخ ، أي : ذلك الزمن يوم الوعيد .

ومن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام هو ما تقرر في الأصول ، من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة ، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب ، وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة " الحج " ، في مبحث النهي عن لبس المعصفر ، وقد قلنا في ذلك ; لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة ، لاستوائهم في أحكام التكليف ، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه ، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد ، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم ؟ خلاف في حال لا خلاف حقيقي ، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم ، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم أن خطاب الواحد لا يعم ; لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره ، وإذا كان لا يشمله وضعا ، فلا يكون صيغة عموم . ولكن أهل هذا القول موافقون على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره ، ولكن بدليل آخر غير خطاب الواحد وذلك الدليل بالنص والقياس .

أما القياس فظاهر ، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي .

والنص كقوله - صلى الله عليه وسلم - في مبايعة النساء : " إني لا أصافح [ ص: 247 ] النساء ، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة " .

قالوا : ومن أدلة ذلك حديث : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " . قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات : اعلم أن حديث " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، لا يعرف له أصل بهذا اللفظ ، ولكن روى الترمذي وقال : حسن صحيح . والنسائي وابن ماجه وابن حبان ، قوله - صلى الله عليه وسلم - في مبايعة النساء : " إني لا أصافح النساء " ، وساق الحديث كما ذكرناه ، وقال صاحب " كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس " : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، وفي لفظ : " كحكمي على الجماعة " ، ليس له أصل بهذا اللفظ ; كما قاله العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي . وقال في " الدرر " كالزركشي : لا يعرف . وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه ، نعم يشهد له ما رواه الترمذي والنسائي من حديث أميمة بنت رقيقة ، فلفظ النسائي : " ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة " ، ولفظ الترمذي : " إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة " ، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطني الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما ، وقال ابن قاسم العبادي في " شرح الورقات الكبير " : " حكمي على الواحد " لا يعرف له أصل إلى آخره ، قريبا مما ذكرناه عنه ، انتهى .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرا ، وهي صحابية من المبايعات ، ورقيقة أمها ، وهي أخت خديجة بنت خويلد ، وقيل : عمتها ، واسم أبيها بجاد - بموحدة ثم جيم - ابن عبد الله بن عمير التيمي ، تيم بن مرة . وأشار إلى ذلك في " مراقي السعود " بقوله :
خطاب واحد لغير الحنبل من غير رعي النص والقيس الجلي
انتهى محل الغرض منه .
وبهذه القاعدة الأصولية التي ذكرنا تعلم أن حكم آية الحجاب عام ، وإن كان لفظها خاصا بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ; لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه أو من غيرهن كقوله لمائة امرأة ، كما رأيت إيضاحه قريبا .

ومن الأدلة القرآنية الدالة على الحجاب قوله تعالى : والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم [ 24 \ 60 ] [ ص: 248 ] لأن الله جل وعلا بين في هذه الآية الكريمة أن القواعد أي العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا ، أي : لا يطمعن في النكاح لكبر السن وعدم حاجة الرجال إليهن يرخص لهن برفع الجناح عنهن في وضع ثيابهن ، بشرط كونهن غير متبرجات بزينة ، ثم إنه جل وعلا مع هذا كله قال : وأن يستعففن خير لهن ، أي : يستعففن عن وضع الثياب خير لهن ، أي : واستعفافهن عن وضع ثيابهن مع كبر سنهن وانقطاع طمعهن في التزويج ، وكونهن غير متبرجات بزينة خير لهن .

وأظهر الأقوال في قوله : أن يضعن ثيابهن ، أنه وضع ما يكون فوق الخمار والقميص من الجلابيب ، التي تكون فوق الخمار والثياب .

فقوله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : وأن يستعففن خير لهن ، دليل واضح على أن المرأة التي فيها جمال ولها طمع في النكاح ، لا يرخص لها في وضع شيء من ثيابها ولا الإخلال بشيء من التستر بحضرة الأجانب .

وإذا علمت بما ذكرنا أن حكم آية الحجاب عام ، وأن ما ذكرنا معها من الآيات فيه الدلالة على احتجاب جميع بدن المرأة عن الرجال الأجانب ، علمت أن القرآن دل على الحجاب ، ولو فرضنا أن آية الحجاب خاصة بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، فلا شك أنهن خير أسوة لنساء المسلمين في الآداب الكريمة المقتضية للطهارة التامة وعدم التدنس بأنجاس الريبة ، فمن يحاول منع نساء المسلمين كالدعاة للسفور والتبرج والاختلاط اليوم من الاقتداء بهن في هذا الأدب السماوي الكريم المتضمن سلامة العرض والطهارة من دنس الريبة غاش لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - مريض القلب كما ترى .

واعلم أنه مع دلالة القرآن على احتجاب المرأة عن الرجال الأجانب ، قد دلت على ذلك أيضا أحاديث نبوية ، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وغيرهما من حديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إياكم والدخول على النساء " ، فقال رجل من الأنصار : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفرأيت الحمو ؟ قال : " الحمو الموت " . أخرج البخاري هذا الحديث في كتاب " النكاح " ، في باب : لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم إلخ . ومسلم في كتاب " السلام " ، في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحذير الشديد من الدخول على النساء ، فهو دليل واضح على منع الدخول عليهن وسؤالهن متاعا إلا من وراء [ ص: 249 ] حجاب ; لأن من سألها متاعا لا من وراء حجاب فقد دخل عليها ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذره من الدخول عليها ، ولما سأله الأنصاري عن الحمو الذي هو قريب الزوج الذي ليس محرما لزوجته ، كأخيه وابن أخيه وعمه وابن عمه ونحو ذلك قال له - صلى الله عليه وسلم - : " الحمو الموت " ، فسمى - صلى الله عليه وسلم - دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير محرم لها باسم الموت ، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير ; لأن الموت هو أفظع حادث يأتي على الإنسان في الدنيا ، كما قال الشاعر :



والموت أعظم حادث مما يمر على الجبله

والجبلة : الخلق ، ومنه قوله تعالى : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] ، فتحذيره - صلى الله عليه وسلم - هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء ، وتعبيره عن دخول القريب على زوجة قريبه باسم الموت دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب عام في جميع النساء ، كما ترى . إذ لو كان حكمه خاصا بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - لما حذر الرجال هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء ، وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما ، وهو كذلك ، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريما شديدا بانفراده ، كما قدمنا أن مسلما رحمه الله أخرج هذا الحديث في باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها ، فدل على أن كليهما حرام .

وقال ابن حجر في " فتح الباري " في شرح الحديث المذكور : " إياكم والدخول " ، بالنصب على التحذير ، وهو تنبيه المخاطب على محذور ليتحرز عنه ; كما قيل : إياك والأسد ، وقوله : " إياكم " ، مفعول لفعل مضمر تقديره : اتقوا .

وتقدير الكلام : اتقوا أنفسكم أن تدخلوا على النساء ، والنساء أن يدخلن عليكم . ووقع في رواية ابن وهب ، بلفظ : " لا تدخلوا على النساء " ، وتضمن منع الدخول منع الخلوة بها بطريق الأولى ، انتهى محل الغرض منه . وقال البخاري رحمه الله في " صحيحه " ، باب وليضربن بخمرهن على جيوبهن . وقال أحمد بن شبيب : حدثنا أبي عن يونس ، قال ابن شهاب ، عن عروة عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : وليضربن بخمرهن على جيوبهن [ 24 \ 31 ] ، شققن مروطهن فاختمرن بها .

حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إبراهيم بن نافع ، عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة : [ ص: 250 ] أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تقول : لما نزلت هذه الآية وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها ، انتهى من صحيح البخاري . وقال ابن حجر في " الفتح " ، في شرح هذا الحديث : قوله : فاختمرن ، أي غطين وجوههن ، وصفة ذلك أن تضع الخمار على رأسها وترميه من الجانب الأيمن على العاتق الأيسر ، وهو التقنع . قال الفراء : كانوا في الجاهلية تسدل المرأة خمارها من ورائها وتكشف ما قدامها فأمرن بالاستتار . انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .

وهذا الحديث الصحيح صريح في أن النساء الصحابيات المذكورات فيه فهمن أن معنى قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، يقتضي ستر وجوههن ، وأنهن شققن أزرهن فاختمرن ، أي : سترن وجوههن بها امتثالا لأمر الله في قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن المقتضي ستر وجوههن ، وبهذا يتحقق المنصف أن احتجاب المرأة عن الرجال وسترها وجهها عنهم ثابت في السنة الصحيحة المفسرة لكتاب الله تعالى ، وقد أثنت عائشة رضي الله عنها على تلك النساء بمسارعتهن لامتثال أوامر الله في كتابه ، ومعلوم أنهن ما فهمن ستر الوجوه من قوله : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه موجود وهن يسألنه عن كل ما أشكل عليهن في دينهن ، والله جل وعلا يقول : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] ، فلا يمكن أن يفسرنها من تلقاء أنفسهن . وقال ابن حجر في " فتح الباري " : ولابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن صفية ما يوضح ذلك ، ولفظه : ذكرنا عند عائشة نساء قريش وفضلهن ، فقالت : إن لنساء قريش لفضلا ، ولكن والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، ولقد أنزلت سورة " النور " : وليضربن بخمرهن على جيوبهن ، فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل فيها ، ما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها فأصبحن يصلين الصبح معتجرات كأن على رءوسهن الغربان ، انتهى محل الغرض من " فتح الباري " .

ومعنى معتجرات : مختمرات ، كما جاء موضحا في رواية البخاري المذكورة آنفا ، فترى عائشة - رضي الله عنها - مع علمها وفهمها وتقاها أثنت عليهن هذا الثناء العظيم ، وصرحت بأنها ما رأت أشد منهن تصديقا بكتاب الله ، ولا إيمانا بالتنزيل ، وهو دليل واضح على أن فهمهن لزوم ستر الوجوه من قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن من تصديقهن بكتاب الله وإيمانهن بتنزيله ، وهو صريح في أن احتجاب النساء عن الرجال وسترهن وجوههن تصديق بكتاب الله وإيمان بتنزيله ، كما ترى . [ ص: 251 ] فالعجب كل العجب ، ممن يدعي من المنتسبين للعلم أنه لم يرد في الكتاب ولا السنة ما يدل على ستر المرأة وجهها عن الأجانب ، مع أن الصحابيات فعلن ذلك ممتثلات أمر الله في كتابه إيمانا بتنزيله ، ومعنى هذا ثابت في الصحيح ، كما تقدم عن البخاري . وهذا من أعظم الأدلة وأصرحها في لزوم الحجاب لجميع نساء المسلمين ، كما ترى .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : وقال البزار أيضا : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثني عمرو بن عاصم ، حدثنا همام ، عن قتادة ، عن مورق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها " ، ورواه الترمذي عن بندار ، عن عمرو بن عاصم به نحوه ، اه منه .

وقد ذكر هذا الحديث صاحب " مجمع الزوائد " ، وقال : رواه الطبراني في " الكبير " ، ورجاله موثقون ، وهذا الحديث يعتضد بجميع ما ذكرنا من الأدلة ، وما جاء فيه من كون المرأة عورة ، يدل على الحجاب للزوم ستر كل ما يصدق عليه اسم العورة .

ومما يؤيد ذلك : ما ذكر الهيثمي أيضا في " مجمع الزوائد " ، عن ابن مسعود قال : إنما النساء عورة ، وإن المرأة لتخرج من بيتها وما بها من بأس فيستشرفها الشيطان ، فيقول : إنك لا تمرين بأحد إلا أعجبتيه ، وإن المرأة لتلبس ثيابها فقال : أين تريدين ؟ فتقول : أعود مريضا أو أشهد جنازة ، أو أصلي في مسجد ، وما عبدت امرأة ربها ، مثل أن تعبده في بيتها ، ثم قال : رواه الطبراني في " الكبير " ، ورجاله ثقات ، اه منه . ومثله له حكم الرفع إذ لا مجال للرأي فيه .

ومن الأدلة الدالة على ذلك الأحاديث التي قدمناها ، الدالة على أن صلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في المساجد ، كما أوضحناه في سورة " النور " في الكلام على قوله تعالى : يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال الآية [ 24 \ 36 - 37 ] ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا ، وفيما ذكرنا كفاية لمن يريد الحق .

فقد ذكرنا الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، والأحاديث الصحيحة الدالة على الحجاب ، وبينا أن من أصرحها في ذلك آية " النور " ، مع تفسير الصحابة لها ، وهي قوله تعالى : وليضربن بخمرهن على جيوبهن فقد أوضحنا غير بعيد تفسير الصحابة لها ، والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بينهم ينزل عليه الوحي ، بأن المراد بها يدخل فيه ستر الوجه وتغطيته عن [ ص: 252 ] الرجال ، وأن ستر المرأة وجهها عمل بالقرآن ، كما قالته عائشة رضي الله عنها .

وإذا علمت أن هذا القدر من الأدلة على عموم الحجاب يكفي المنصف ، فسنذكر لك أجوبة أهل العلم ، عما استدل به الذين قالوا بجواز إبداء المرأة وجهها ويديها ، بحضرة الأجانب .

فمن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها : أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها ، وقال : " يا أسماء ، إن المرأة إذا بلغت الحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " وأشار إلى وجهه وكفيه ; وهذا الحديث يجاب عنه بأنه ضعيف من جهتين :

الأولى : هي كونه مرسلا ; لأن خالد بن دريك لم يسمع من عائشة ، كما قاله أبو داود ، وأبو حاتم الرازي كما قدمناه في سورة " النور " .

الجهة الثانية : أن في إسناده سعيد بن بشير الأزدي مولاهم ، قال فيه في " التقريب " : ضعيف ، مع أنه مردود بما ذكرنا من الأدلة على عموم الحجاب ، ومع أنه لو قدر ثبوته قد يحمل على أنه كان قبل الأمر بالحجاب .

ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك حديث جابر الثابت في الصحيح ، قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد ، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ، ولا إقامة ، ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله ، وحث على طاعته ، ووعظ الناس ، وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء ، فوعظهن وذكرهن ، فقال : " تصدقن فإن أكثركن حطب جهنم " فقامت امرأة من سطة النساء سفعاء الخدين ، فقالت : لم يا رسول الله ؟ قال : " لأنكن تكثرن الشكاة ، وتكفرن العشير " ، قال : فجعلن يتصدقن من حليهن يلقين في ثوب بلال من أقراطهن وخواتمهن ، اه . هذا لفظ مسلم في " صحيحه " ، قالوا : وقول جابر في هذا الحديث : سفعاء الخدين يدل على أنها كانت كاشفة عن وجهها ، إذ لو كانت محتجبة لما رأى خديها ، ولما علم بأنها سفعاء الخدين . وأجيب عن حديث جابر هذا : بأنه ليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عن وجهها ، وأقرها على ذلك ، بل غاية ما يفيده الحديث أن جابرا رأى وجهها ، وذلك لا يستلزم كشفها عنه قصدا ، وكم من امرأة يسقط خمارها عن وجهها من غير قصد ، فيراه بعض الناس في تلك الحال ، كما قال نابغة ذبيان :

[ ص: 253 ]
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2022-12-29, 05:40 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (444)
سُورَةُ الْأَحْزَابِ
صـ 253 إلى صـ 260






فعلى المحتج بحديث جابر المذكور ، أن يثبت أنه صلى الله عليه وسلم رآها سافرة ، وأقرها على ذلك ، ولا سبيل له إلى إثبات ذلك . وقد روى القصة المذكورة غير جابر ، فلم يذكر كشف المرأة المذكورة عن وجهها ، وقد ذكر مسلم في " صحيحه " ممن رواها غير جابر أبا سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، وذكره غيره عن غيرهم . ولم يقل أحد ممن روى القصة غير جابر أنه رأى خدي تلك المرأة السفعاء الخدين ، وبذلك تعلم أنه لا دليل على السفور في حديث جابر المذكور . وقد قال النووي في شرح حديث جابر هذا عند مسلم ، وقوله : فقامت امرأة من سطة النساء ، هكذا هو في النسخ ( سطة ) بكسر السين ، وفتح الطاء المخففة . وفي بعض النسخ : واسطة النساء . قال القاضي : معناه : من خيارهن ، والوسط العدل والخيار ، قال : وزعم حذاق شيوخنا أن هذا الحرف مغير في كتاب مسلم ، وأن صوابه من سفلة النساء ، وكذا رواه ابن أبي شيبة في مسنده ، والنسائي في سننه . في رواية لابن أبي شيبة : امرأة ليست من علية النساء ، وهذا ضد التفسير الأول ويعضده قوله بعده : سفعاء الخدين هذا كلام القاضي ، وهذا الذي ادعوه من تغيير الكلمة غير مقبول ، بل هي صحيحة ، وليس المراد بها من خيار النساء كما فسره به هو ، بل المراد : امرأة من وسط النساء جالسة في وسطهن . قال الجوهري وغيره من أهل اللغة : يقال : وسطت القوم أسطهم وسطا وسطة ، أي : توسطتهم ، اه منه . وهذا التفسير الأخير هو الصحيح ، فليس في حديث جابر ثناء البتة على سفعاء الخدين المذكورة ، ويحتمل أن جابرا ذكر سفعة خديها ليشير إلى أنها ليست ممن شأنها الافتتان بها ; لأن سفعة الخدين قبح في النساء . قال النووي : سفعاء الخدين ، أي : فيها تغير وسواد . وقال الجوهري في " صحاحه " : والسفعة في الوجه : سواد في خدي المرأة الشاحبة ، ويقال للحمامة سفعاء لما في عنقها من السفعة ، قال حميد بن ثور :



من الورق سفعاء العلاطين باكرت فروع أشاء مطلع الشمس أسحما


قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : السفعة في الخدين من المعاني المشهورة في كلام العرب : أنها سواد وتغير في الوجه ، من مرض أو مصيبة أو سفر شديد ، ومن ذلك قول متمم بن نويرة التميمي يبكي أخاه مالكا :



تقول ابنة العمري ما لك بعدما أراك خضيبا ناعم البال أروعا


[ ص: 254 ]

فقلت لها طول الأسى إذ سألتني ولوعة وجد تترك الخد أسفعا


ومعلوم أن من السفعة ما هو طبيعي كما في الصقور ، فقد يكون في خدي الصقر سواد طبيعي ، ومنه قول زهير بن أبي سلمى :



أهوى لها أسفع الخدين مطرق ريش القوادم لم تنصب له الشبك


والمقصود : أن السفعة في الخدين إشارة إلى قبح الوجه ، وبعض أهل العلم يقول : إن قبيحة الوجه التي لا يرغب فيها الرجال لقبحها ، لها حكم القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا .

ومن الأحاديث التي استدلوا بها على ذلك ، حديث ابن عباس الذي قدمناه ، قال : أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس رضي الله عنهما يوم النحر خلفه على عجز راحلته ، وكان الفضل رجلا وضيئا ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يفتيهم ، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فطفق الفضل ينظر إليها ، وأعجبه حسنها فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم ، والفضل ينظر إليها ، فأخلف بيده ، فأخذ بذقن الفضل فعدل وجهه عن النظر إليها ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا . . . الحديث ، قالوا : فالإخبار عن الخثعمية بأنها وضيئة يفهم منه أنها كانت كاشفة عن وجهها .

وأجيب عن ذلك أيضا من وجهين :

الأول : الجواب بأنه ليس في شيء من روايات الحديث التصريح بأنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كاشفة عنه ، وأقرها على ذلك بل غاية ما في الحديث أنها كانت وضيئة ، وفي بعض روايات الحديث : أنها حسناء ، ومعرفة كونها وضيئة أو حسناء لا يستلزم أنها كانت كاشفة عن وجهها ، وأنه صلى الله عليه وسلم أقرها على ذلك ، بل قد ينكشف عنها خمارها من غير قصد ، فيراها بعض الرجال من غير قصد كشفها عن وجهها ، كما أوضحناه في رؤية جابر سفعاء الخدين . ويحتمل أن يكون يعرف حسنها قبل ذلك الوقت لجواز أن يكون قد رآها قبل ذلك وعرفها ، ومما يوضح هذا أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي روي عنه هذا الحديث لم يكن حاضرا وقت نظر أخيه إلى المرأة ونظرها إليه ، لما قدمنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدمه بالليل من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهله ، ومعلوم أنه إنما روى الحديث المذكور من طريق أخيه الفضل ، وهو لم يقل له : إنها كانت كاشفة عن وجهها ، [ ص: 255 ] واطلاع الفضل على أنها وضيئة حسناء لا يستلزم السفور قصدا لاحتمال أن يكون رأى وجهها ، وعرف حسنه من أجل انكشاف خمارها من غير قصد منها ، واحتمال أنه رآها قبل ذلك وعرف حسنها .

فإن قيل : قوله : إنها وضيئة ، وترتيبه على ذلك بالفاء قوله : فطفق الفضل ينظر إليها ، وقوله : وأعجبه حسنها ، فيه الدلالة الظاهرة على أنه كان يرى وجهها ، وينظر إليه لإعجابه بحسنه .

فالجواب : أن تلك القرائن لا تستلزم استلزاما ، لا ينفك أنها كانت كاشفة ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رآها كذلك ، وأقرها ؛ لما ذكرنا من أنواع الاحتمال ، مع أن جمال المرأة قد يعرف وينظر إليها لجمالها وهي مختمرة ، وذلك لحسن قدها وقوامها ، وقد تعرف وضاءتها وحسنها من رؤية بنانها فقط ، كما هو معلوم . ولذلك فسر ابن مسعود : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [ 24 \ 31 ] ، بالملاءة فوق الثياب ، كما تقدم . ومما يوضح أن الحسن يعرف من تحت الثياب قول الشاعر :



طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنها من قوام ما ومنتقبا


فقد بالغ في حسن قوامها ، مع أن العادة كونه مستورا بالثياب لا منكشفا .

الوجه الثاني : أن المرأة محرمة وإحرام المرأة في وجهها وكفيها ، فعليها كشف وجهها إن لم يكن هناك رجال أجانب ينظرون إليه ، وعليها ستره من الرجال في الإحرام ، كما هو معروف عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن ، ولم يقل أحد إن هذه المرأة الخثعمية نظر إليها أحد غير الفضل بن عباس رضي الله عنهما ، والفضل منعه النبي صلى الله عليه وسلم من النظر إليها ، وبذلك يعلم أنها محرمة لم ينظر إليها أحد فكشفها عن وجهها إذا لإحرامها لا لجواز السفور .

فإن قيل : كونها مع الحجاج مظنة أن ينظر الرجال وجهها إن كانت سافرة ; لأن الغالب أن المرأة السافرة وسط الحجيج ، لا تخلو ممن ينظر إلى وجهها من الرجال .

فالجواب : أن الغالب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الورع وعدم النظر إلى النساء ، فلا مانع عقلا ولا شرعا ولا عادة ، من كونها لم ينظر إليها أحد منهم ، ولو نظر إليها لحكي كما حكي نظر الفضل إليها ، ويفهم من صرف النبي صلى الله عليه وسلم بصر الفضل عنها ، أنه لا سبيل إلى ترك [ ص: 256 ] الأجانب ينظرون إلى الشابة ، وهي سافرة كما ترى ، وقد دلت الأدلة المتقدمة على أنها يلزمها حجب جميع بدنها عنهم .

وبالجملة ، فإن المنصف يعلم أنه يبعد كل البعد أن يأذن الشارع للنساء في الكشف عن الوجه أمام الرجال الأجانب ، مع أن الوجه هو أصل الجمال ، والنظر إليه من الشابة الجميلة هو أعظم مثير للغريزة البشرية وداع إلى الفتنة ، والوقوع فيما لا ينبغي ، ألم تسمع بعضهم يقول :



قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة ودعوا القيامة بعد ذاك تقوم


أترضى أيها الإنسان أن تسمح له بهذه النظرة إلى نسائك وبناتك وأخواتك ، ولقد صدق من قال :
وما عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجاب
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة أعني آية الحجاب هذه
اعلم : أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يصافح امرأة أجنبية منه .
ولا يجوز له أن يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها .
والدليل على ذلك أمور :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قال : " إني لا أصافح النساء " ، الحديث . والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، فيلزمنا ألا نصافح النساء اقتداء به صلى الله عليه وسلم ، والحديث المذكور موضح في سورة " الحج " ، في الكلام على النهي عن لبس المعصفر مطلقا في الإحرام وغيره للرجال . وفي سورة " الأحزاب " ، في آية الحجاب هذه .
وكونه صلى الله عليه وسلم لا يصافح النساء وقت البيعة دليل واضح على أن الرجل لا يصافح المرأة ، ولا يمس شيء من بدنه شيئا من بدنها ; لأن أخف أنواع اللمس المصافحة ، فإذا امتنع منها صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي يقتضيها وهو وقت المبايعة ، دل ذلك على أنها لا تجوز ، وليس لأحد مخالفته صلى الله عليه وسلم ، لأنه هو المشرع لأمته بأقواله وأفعاله وتقريره .






وقد أجمع جمهور علماء الأصول على أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، فلا يصح إخراجها بمخصص ، وروي عن مالك أنها ظنية الدخول ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :


واجزم بإدخال ذوات السبب وارو عن الإمام ظنا تصب

فالحق أنهن داخلات في الآية ، اهـ . من ترجمة هذا الكتاب المبارك .

والتحقيق إن شاء الله : أنهن داخلات في الآية ، وإن كانت الآية تتناول غيرهن من أهل البيت .

أما الدليل على دخولهن في الآية ، فهو ما ذكرناه آنفا من أن سياق الآية صريح في أنها نازلة فيهن .

والتحقيق : أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ; كما هو مقرر في الأصول .

ونظير ذلك من دخول الزوجات في اسم أهل البيت ، قوله تعالى في زوجة إبراهيم : قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت [ 1 \ 73 ] .

وأما الدليل على دخول غيرهن في الآية ، فهو أحاديث جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في علي وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - : " إنهم أهل البيت " ، ودعا لهم الله أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا . وقد روى ذلك جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منهم أم المؤمنين أم سلمة - رضي الله عنها - وأبو سعيد ، وأنس ، وواثلة بن الأسقع ، وأم المؤمنين عائشة ، وغيرهم رضي الله عنهم .
وبما ذكرنا من دلالة القرآن والسنة تعلم أن الصواب شمول الآية الكريمة لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولعلي وفاطمة والحسن والحسين ، رضي الله عنهم كلهم .
[ ص: 238 ] تنبيه .

فإن قيل : إن الضمير في قوله : ليذهب عنكم الرجس ، وفي قوله : ويطهركم تطهيرا ، ضمير الذكور ، فلو كان المراد نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لقيل : ليذهب عنكن ويطهركن .

فالجواب من وجهين : الأول : هو ما ذكرنا من أن الآية الكريمة شاملة لهن ولعلي والحسن والحسين وفاطمة ، وقد أجمع أهل اللسان العربي على تغليب الذكور على الإناث في الجموع ونحوها ، كما هو معلوم في محله .

الوجه الثاني : هو أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن زوجة الرجل يطلق عليها اسم الأهل ، وباعتبار لفظ الأهل تخاطب مخاطبة الجمع المذكر ، ومنه قوله تعالى في موسى : فقال لأهله امكثوا [ 20 \ 10 ] ، وقوله : سآتيكم [ 27 \ 7 ] ، وقوله : لعلي آتيكم [ 20 \ 10 ] ، والمخاطب امرأته ; كما قاله غير واحد ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :



فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

وبما ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لسن داخلات في الآية ، يرد عليه صريح سياق القرآن ، وأن من قال : إن فاطمة وعليا والحسن والحسين ليسوا داخلين فيها ، ترد عليه الأحاديث المشار إليها .

وقال بعض أهل العلم : إن أهل البيت في الآية هم من تحرم عليهم الصدقة ، والعلم عند الله تعالى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت الآية ، يعني : أنه يذهب الرجس عنهم ، ويطهرهم بما يأمر به من طاعة الله ، وينهى عنه من معصيته ; لأن من أطاع الله أذهب عنه الرجس ، وطهره من الذنوب تطهيرا .
وقال الزمخشري في " الكشاف " : ثم بين أنه إنما نهاهن وأمرهن ووعظهن لئلا يقارف أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المآثم ، وليتصونوا عنها بالتقوى ، واستعار للذنوب الرجس وللتقوى الطهر ; لأن عرض المقترف للمقبحات يتلوث بها ويتدنس كما يتلوث بدنه بالأرجاس . وأما الحسنات فالعرض منها نقي مصون كالثوب الطاهر ، وفي هذه الاستعارة [ ص: 239 ] ما ينفر أولي الألباب عما كرهه الله لعباده ، ونهاهم عنه ، ويرغبهم فيما يرضاه لهم ، وأمرهم به . وأهل البيت نصب على النداء أو على المدح ، وفي هذا دليل بين على أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته .



[ ص: 257 ] الأمر الثاني : هو ما قدمنا من أن المرأة كلها عورة يجب عليها أن تحتجب ، وإنما أمر بغض البصر خوف الوقوع في الفتنة ، ولا شك أن مس البدن للبدن ، أقوى في إثارة الغريزة ، وأقوى داعيا إلى الفتنة من النظر بالعين ، وكل منصف يعلم صحة ذلك .

الأمر الثالث : أن ذلك ذريعة إلى التلذذ بالأجنبية ، لقلة تقوى الله في هذا الزمان وضياع الأمانة ، وعدم التورع عن الريبة ، وقد أخبرنا مرارا أن بعض الأزواج من العوام ، يقبل أخت امرأته بوضع الفم على الفم ويسمون ذلك التقبيل الحرام بالإجماع سلاما ، فيقولون : سلم عليها ، يعنون : قبلها ، فالحق الذي لا شك فيه التباعد عن جميع الفتن والريب وأسبابها ، ومن أكبرها لمس الرجل شيئا من بدن الأجنبية ، والذريعة إلى الحرام يجب سدها ; كما أوضحناه في غير هذا الموضع ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :
سد الذرائع إلى المحرم حتم كفتحها إلى المنحتم

قوله تعالى : يسألك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله . أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للناس الذين يسألونه عن الساعة : إنما علمها عند الله ، ومعلوم أن إنما صيغة حصر .

فمعنى الآية : أن الساعة لا يعلمها إلا الله وحده .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء واضحا في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث الآية [ 31 \ 34 ] .

وقد بين صلى الله عليه وسلم أن الخمس المذكورة في قوله : إن الله عنده علم الساعة الآية ، هي المراد بقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، وكقوله تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 7 \ 187 ] ، وقوله تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها [ 79 \ 42 - 44 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 258 ] إليه يرد علم الساعة الآية [ 41 \ 47 ] ، وفي الحديث : " ما المسئول عنها بأعلم من السائل " . قوله تعالى وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الساعة التي هي القيامة لعلها تكون قريبا ، وذكر نحوه في قوله في " الشورى " : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] ، وقد أوضح جل وعلا اقترابها في آيات أخر ; كقوله : اقتربت الساعة الآية [ 54 \ 1 ] ، وقوله : اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون [ 21 \ 1 ] ، وقوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية [ 16 \ 1 ] .
قوله تعالى إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا ، إلى قوله : لعنا كبيرا . تقدمت الآيات الموضحة له مرارا .
قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة ، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال ، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها ، أي : خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه ، وهذا العرض والإباء ، والإشفاق كله حق ، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكا يعلمه هو جل وعلا ، ونحن لا نعلمه ، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها ، وأبت وأشفقت ، أي : خافت .

ومثل هذا تدل عليه آيات وأحاديث كثيرة ، فمن الآيات الدالة على إدراك الجمادات المذكور : قوله تعالى في سورة " البقرة " ، في الحجارة : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] ، فصرح بأن من الحجارة ما يهبط من خشية الله ، وهذه الخشية التي نسبها الله لبعض الحجارة بإدراك يعلمه هو تعالى .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الآية [ 17 \ 44 ] ، [ ص: 259 ] ومنها قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن [ 21 \ 79 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك قصة حنين الجذع ، الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم لما انتقل بالخطبة إلى المنبر ، وهي في صحيح البخاري وغيره .

ومنها ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي في مكة " ، وأمثال هذا كثيرة . فكل ذلك المذكور في الكتاب والسنة إنما يكون بإدراك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه ; كما قال تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ، ولو كان المراد بتسبيح الجمادات دلالتها على خالقها لكنا نفقهه ، كما هو معلوم ، وقد دلت عليه آيات كثيرة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ، الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأن الضمير في قوله : إنه كان ظلوما جهولا ، راجع للفظ : الإنسان ، مجردا عن إرادة المذكور منه ، الذي هو آدم .

والمعنى : أنه أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة كان ظلوما جهولا ، أي : كثير الظلم والجهل ، والدليل على هذا أمران :

أحدهما : قرينة قرآنية دالة على انقسام الإنسان في حمل الأمانة المذكورة إلى معذب ومرحوم في قوله تعالى بعده ، متصلا به : ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 73 ] ، فدل هذا على أن الظلوم الجهول من الإنسان هو المعذب ، والعياذ بالله ، وهم المنافقون والمنافقات ، والمشركون والمشركات ، دون المؤمنين والمؤمنات . واللام في قوله : ليعذب : لام التعليل ، وهي متعلقة بقوله : وحملها الإنسان .

الأمر الثاني : أن الأسلوب المذكور - الذي هو رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي - معروف في اللغة التي نزل بها القرآن ، وقد جاء فعلا في آية من كتاب الله ، وهي قوله تعالى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ; [ ص: 260 ] لأن الضمير في قوله : ولا ينقص من عمره ، راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي ; كما هو ظاهر ، وقد أوضحناه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] ، وبينا هناك أن هذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، كما ترى . وبعض من قال من أهل العلم إن الضمير في قوله : إنه كان ظلوما جهولا ، عائد إلى آدم ، قال : المعنى أنه كان ظلوما لنفسه جهولا ، أي : غرا بعواقب الأمور ، وما يتبع الأمانة من الصعوبات ، والأظهر ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:08 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (445)
سُورَةُ سَبَأٍ
صـ 261 إلى صـ 268




[ ص: 261 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ سَبَأٍ

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ . قَدْ ذَكَرْنَا مَا هُوَ بِمَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْفَاتِحَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 1 \ 2 ] .
قوله تعالى يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم ما يلج في الأرض ، أي : ما يدخل فيها كالماء النازل من السماء ، الذي يلج في الأرض ; كما أوضحه بقوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض الآية [ 39 \ 21 ] .

وقوله : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض الآية [ 23 \ 18 ] ، فهو جل وعلا يعلم عدد القطر النازل من السماء إلى الأرض ، وكيف لا يعلمه من خلقه : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير [ 67 \ 14 ] ، ويعلم أيضا ما يلج في الأرض من الموتى الذين يدفنون فيها ; كما قال جل وعلا : منها خلقناكم وفيها نعيدكم [ 20 \ 55 ] ، وقال : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا [ 77 \ 25 - 26 ] ، والكفات من الكفت : وهو الضم ; لأنها تضمهم أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطنها ، ويعلم أيضا ما يلج في الأرض من البذر ; كما قال تعالى : ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، وكذلك ما في بطنها من المعادن ، وغير ذلك .

قوله : وما يخرج منها ، أي : من الأرض كالنبات والحبوب ، والمعادن ، والكنوز ، والدفائن وغير ذلك ، ويعلم وما ينزل من السماء من المطر ، والثلج ، والبرد ، والرزق وغير ذلك . وما يعرج ، أي : يصعد فيها ، أي : السماء ، كالأعمال [ ص: 262 ] الصالحة ; كما بينه بقوله : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، وكأرواح المؤمنين وغير ذلك ; كما قال تعالى : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] .

وقال تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] ، وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه يعلم جميع ما ذكر ، ذكره في سورة " الحديد " ، في قوله : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور وقال الذين كفروا لا تأتينا [ 57 \ 4 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على كمال إحاطة علم الله بكل شيء في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] ، وفي مواضع أخر متعددة .
قوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الكفار أنكروا البعث ، وقالوا : لا تأتينا الساعة ، أي : القيامة ، وأنه جل وعلا أمر نبيه أن يقسم لهم بربه العظيم أن الساعة سوف تأتيهم مؤكدا ذلك توكيدا متعددا .

وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، وقوله تعالى : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا [ 19 \ 66 ] ، وقوله تعالى عنهم : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وما نحن بمنشرين [ 44 \ 66 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وما ذكره جل وعلا من أنه أمر نبيه بالإقسام لهم على أنهم يبعثون ، جاء موضحا في مواضع أخر .

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابعة لهن ، مما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد ، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد ، فإحداهن في سورة " يونس " عليه السلام ، وهي قوله تعالى : [ ص: 263 ] ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين [ 10 \ 53 ] ، والثانية هذه : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ، والثالثة في سورة " التغابن " ، وهي قوله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم الآية [ 64 \ 7 ] .

وقد قدمنا البراهين الدالة على البعث بعد الموت من القرآن في سورة " البقرة " ، وسورة " النحل " وغيرهما .

وقد قدمنا الآيات الدالة على إنكار الكفار البعث ، وما أعد الله لمنكري البعث من العذاب في " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] ، وفي مواضع أخر . وقوله : قل بلى لفظة : بلى قد قدمنا معانيها في اللغة العربية بإيضاح في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى الآية [ 16 \ 28 ] .
قوله تعالى : عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، جاء موضحا في آيات أخر ; كقوله تعالى : وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] ، وقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين [ 6 \ 59 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وقد بيناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا يعزب ، أي : لا يغيب عنه مثقال ذرة ، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :



أخي كان أما حلمه فمروح عليه وأما جهله فعزيب

[ ص: 264 ] يعني : أن الجهل غائب عنه ليس متصفا به . وقرأ هذا الحرف نافع وابن عامر : عالم الغيب ، بألف بعد العين وتخفيف اللام المكسورة ، وضم الميم على وزن فاعل . وقرأه حمزة والكسائي : علام الغيب ، بتشديد اللام وألف بعد اللام المشددة وخفض الميم على وزن فعال . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : عالم الغيب ; كقراءة نافع وابن عامر ، إلا أنهم يخفضون الميم . وعلى قراءة نافع وابن عامر بضم الميم ، من قوله : عالم الغيب ، فهو مبتدأ خبره جملة : لا يعزب عنه الآية ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو عالم الغيب .

وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم : عالم الغيب ، بخفض الميم فهو نعت لقوله : ربي ، أي : قل : بلى وربي عالم الغيب لتأتينكم ، وكذلك على قراءة حمزة والكسائي : علام الغيب . وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير الكسائي : لا يعزب عنه ، بضم الزاي من يعزب ، وقرأه الكسائي بكسر الزاي .
قوله تعالى : والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم . لم يبين هنا نوع هذا العذاب ، ولكنه بينه بقوله في " الحج " : والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم [ 22 \ 51 ] ، وقوله : معاجزين ، أي : مغالبين ومسابقين ، يظنون أنهم يعجزون ربهم ، فلا يقدر على بعثهم وعذابهم . والرجز : العذاب ; كما قال : فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا الآية [ 2 \ 59 ] ، وقرأ هذا الحرف ابن كثير ، وأبو عمرو : معجزين ، بلا ألف بعد العين مع تشديد الجيم المكسورة . وقرأه الباقون بألف بعد العين ، وتخفيف الجيم ، ومعنى قراءة التشديد أنهم يحسبون أنهم يعجزون ربهم ، فلا يقدر على بعثهم وعقابهم .

وقال بعضهم : إن معنى معجزين بالتشديد ، أي : مثبطين الناس عن الإيمان . وقرأ ابن كثير وحفص : من رجز أليم ، بضم الميم من قوله : أليم على أنه نعت ; لقوله : عذاب وقرأ الباقون : أليم بالخفض على أنه نعت لقوله : رجز .
قوله تعالى : وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد إلى قوله : والضلال البعيد . [ ص: 265 ] ما تضمنته هذه الآية الكريمة من إنكار البعث ، وتكذيب الله لهم في ذلك ، قدم موضحا في مواضع كثيرة من هذا الكتاب في " البقرة " و " النحل " وغيرهما .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذا مزقتم كل ممزق ، أي : تمزقت أجسادكم وتفرقت وبليت عظامكم ، واختلطت بالأرض ، وتلاشت فيها . وقوله عنهم : إنكم لفي خلق جديد ، أي : البعث بعد الموت ، وهو مصب إنكارهم قبحهم الله ، وهو جل وعلا يعلم ما تلاشى في الأرض من أجسادهم وعظامهم ; كما قال تعالى : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ [ 50 \ 4 ] .
قوله تعالى : أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض . ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من توبيخ الكفار ، وتقريعهم على عدم تفكرهم ونظرهم إلى ما بين أيديهم ، وما خلفهم من السماء والأرض ، ليستدلوا بذلك على كمال قدرة الله على البعث ، وعلى كل شيء ، وأنه هو المعبود وحده ، جاء موضحا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب [ 50 \ 6 - 8 ] ، وقوله تعالى : أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم [ 7 \ 185 ] ، وقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة .

وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : قال عبد بن حميد ، أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة : أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض [ 34 \ 9 ] ، قال : إنك إن نظرت عن يمينك ، أو عن شمالك ، أو من بين يديك ، أو من خلفك ، رأيت السماء والأرض .
قوله تعالى : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أمرين :

أحدهما : أنه إن شاء خسف الأرض بالكفار ، خسفها بهم لقدرته على ذلك .

[ ص: 366 ] والثاني : أنه إن شاء أن يسقط عليهم كسفا من السماء ، فعل ذلك أيضا لقدرته عليه .

أما الأول : الذي هو أنه لو شاء أن يخسف بهم الأرض لفعل ، فقد ذكره تعالى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور [ 67 \ 16 ] ، وقوله تعالى : أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر الآية [ 17 \ 68 ] ، وقوله تعالى : لولا أن من الله علينا لخسف بنا [ 28 \ 82 ] ، وقوله تعالى في " الأنعام " : أو من تحت أرجلكم الآية [ 6 \ 65 ] .

وقوله هنا : أو نسقط عليهم كسفا من السماء ، قد بينا في سورة " بني إسرائيل " ، أنه هو المراد بقوله تعالى عن الكفار : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا الآية [ 17 \ 92 ] . وقرأه حمزة والكسائي : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء بالياء المثناة التحتية في الأفعال الثلاثة ، أعني : يشأ ، ويخسف ، ويسقط ; وعلى هذه القراءة فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى ، أي : إن يشأ هو ، أي : الله ، يخسف بهم الأرض ، وقرأ الباقون بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة ، أي : إن نشأ نحن . . إلخ ، وقرأ حفص عن عاصم : كسفا بفتح السين ، والباقون بسكونها والكسف بفتح السين القطع ، والكسف بسكون السين واحدها .
قوله تعالى : ولقد آتينا داود منا فضلا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه آتى داود منه فضلا تفضل به عليه ، وبين هذا الفضل الذي تفضل به على داود في آيات أخر ; كقوله تعالى : وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء [ 2 \ 251 ] ، وقوله تعالى : وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب [ 38 \ 20 ] ، وقوله تعالى : ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب [ 38 ] ، وقوله تعالى : فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ 38 ] ، وقوله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض [ 38 \ 26 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين [ 27 \ 15 ] ، وقوله تعالى : ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا [ 17 \ 55 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 267 ] قوله تعالى : ياجبال أوبي معه والطير .

قد بينا الآيات الموضحة له مع إيضاح معنى أوبي معه في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين [ 21 \ 79 ] .
قوله تعالى : وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد .

قد قدمنا الآيات التي فيها إيضاحه مع بعض الشواهد ، وتفسير قوله : وقدر في السرد ، في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس لكم [ 21 \ 80 ] . وفي " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] .
قوله تعالى : ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر .

قد بينا الآيات التي فيها إيضاح له في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض الآية [ 21 \ 81 ] ، مع الأجوبة عن بعض الأسئلة الواردة على الآيات المذكورة .
قوله تعالى : ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ، إلى قوله تعالى : وقدور راسيات . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [ 21 \ 82 ] .
قوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى عنه : لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين الآية [ 15 \ 39 ] . وفي سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تجد أكثرهم شاكرين [ 7 \ 17 ] ، وقوله : ولقد صدق ، قرأه عاصم وحمزة والكسائي بتشديد الدال ، والباقون بالتخفيف .
قوله تعالى : وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة الآية . [ ص: 268 ] قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : إلا عبادك منهم المخلصين الآية [ 15 \ 40 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا [ 17 \ 56 ] .
قوله تعالى : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يقبل منها شفاعة [ 2 \ 48 ] .
قوله تعالى قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله . أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار : من يرزقكم من السماوات والأرض ، أي : يرزقكم من السماوات بإنزال المطر مثلا ، والأرض بإنبات الزروع والثمار ، ونحو ذلك . ثم أمره أن يقول : الله ، أي : الذي يرزقكم من السماوات والأرض هو الله ، وأمره تعالى له صلى الله عليه وسلم بأن يجيب بأن رازقهم هو الله يفهم منه أنهم مقرون بذلك ، وأنه ليس محل نزاع .

وقد صرح تعالى بذلك في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، وإقرارهم بربوبيته تعالى يلزمه الاعتراف بعبادته وحده والعلم بذلك .
وقد قدمنا كثيرا من الآيات الموضحة لذلك في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:11 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (446)
سُورَةُ فَاطِرٍ
صـ 269 إلى صـ 276




[ ص: 269 ] قوله تعالى : قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول للكفار : إنهم وإياهم ليس أحد منهم مسئولا عما يعمله الآخر ، بل كل منهم مؤاخذ بعمله ، والآخر بريء منه .

وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] ، وقوله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، إلى قوله : لكم دينكم ولي دين [ 109 \ 1 - 6 ] ، وفي معنى ذلك في الجملة قوله تعالى : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون [ 2 \ 141 ] ; وكقوله تعالى عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني [ 11 \ 54 - 55 ] .
قوله تعالى : قل أروني الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة أن يقول لعبدة الأوثان : أروني أوثانكم التي ألحقتموها بالله شركاء له في عبادته كفرا منكم ، وشركا وافتراء ، وقوله : أروني الذين ألحقتم به شركاء ، لأنهم إن أروه إياها تبين برؤيتها أنها جماد لا ينفع ولا يضر ، واتضح بعدها عن صفات الألوهية ، فظهر لكل عاقل برؤيتها بطلان عبادة ما لا ينفع ولا يضر ، فإحضارها والكلام فيها ، وهي مشاهدة أبلغ من الكلام فيها غائبة ، مع أنه صلى الله عليه وسلم يعرفها ، وكما أنه في هذه الآية الكريمة أمرهم أن يروه إياها ليتبين بذلك بطلان عبادتها ، فقد أمرهم في آية أخرى أن يسموها بأسمائها ; لأن تسميتها بأسمائها يظهر بها بعدها عن صفات الألوهية ، وبطلان عبادتها لأنها أسماء إناث حقيرة كاللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى ; كما قال تعالى : إن يدعون من دونه إلا إناثا الآية [ 4 \ 117 ] ، وذلك في قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد [ 13 \ 33 ] .

والأظهر في قوله : أروني الذين ألحقتم به في هذه الآية : هو ما ذكرنا من أن الرؤية بصرية ، وعليه فقوله : شركاء حال ، وقال بعض أهل العلم : إنها من رأى [ ص: 270 ] العلمية ، وعليه فـ شركاء مفعول ثالث لـ أروني ، قال القرطبي : يكون أروني هنا من رؤية القلب ، فيكون : شركاء مفعولا ثالثا ، أي : عرفوني الأصنام والأوثان التي جعلتموها شركاء لله عز وجل ، وهل شاركت في خلق شيء ، فبينوا ما هو وإلا فلم تعبدونها ، اه محل الغرض منه . واختار هذا أبو حيان في " البحر المحيط " . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كلا ردع لهم ، وزجر عن إلحاق الشركاء به . وقوله :بل هو الله العزيز الحكيم ، أي : المتصف بذلك هو المستحق للعبادة ، وقد قدمنا معنى العزيز الحكيم بشواهده مرارا .
قوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . وقوله تعالى : إلا كافة للناس ، استشهد به بعض علماء العربية على جواز تقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف ; كما أشار له ابن مالك في " الخلاصة " بقوله :

وسبق حال ما بحرف جر قد أبوا ولا أمنعه فقد ورد

قالوا : لأن المعنى : وما أرسلناك إلا كافة للناس ، أي : جميعا ، أي : أرسلناك للناس في حال كونهم مجتمعين في رسالتك ، وممن أجاز ذلك أبو علي الفارسي ، وابن كيسان ، وابن برهان ، ولذلك شواهد في شعر العرب ; كقول طليحة بن خويلد الأسدي :



فإن تك أذواد أصبن ونسوة فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال

وكقول كثير :



لئن كان برد الماء هيمان صاديا إلي حبيبا إنها لحبيب


وقول الآخر :



تسليت طرا عنكم بعد بينكم بذكركم حتى كأنكم عندي


وقول الآخر :



غافلا تعرض المنية للمرء فيدعى ولات حين إباء


[ ص: 271 ] وقوله :



مشغوفة بك قد شغفت وإنما حم الفراق فما إليك سبيل


وقوله :



إذا المرء أعيته المروءة ناشئا فمطلبها كهلا عليه شديد


فقوله في البيت الأول : فرغا ، أي : هدرا ، حال وصاحبه المجرور بالباء الذي هو بقتل ، وحبال اسم رجل . وقوله في البيت الثاني : هيمان صاديا ، حالان من ياء المتكلم المجرورة بإلى في قوله : إلي حبيبا . وقوله في البيت الثالث : طرا حال من الضمير المجرور بعن ، في قوله : عنكم ، وهكذا وتقدم الحال على صاحبها المجرور بالحرف منعه أغلب النحويين .

وقال الزمخشري في " الكشاف " ، في تفسير قوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس ، إلا رسالة عامة لهم محيطة بهم ; لأنهم إذا شملتهم ، فإنها قد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم .

وقال الزجاج : المعنى : أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والإبلاغ فجعله حالا من الكاف ، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة ، ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ ; لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى ; لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني ، فلا بد له من ارتكاب الخطأين ، اه منه .

وقال الشيخ الصبان في حاشيته على الأشموني : جعل الزمخشري كافة صفة لمصدر محذوف ، أي : رسالة كافة للناس ، ولكن اعترض بأن كافة مختصة بمن يعقل وبالنصب على الحال كطرا وقاطبة ، انتهى محل الغرض منه . وما ذكره الصبان في كافة هو المشهور المتداول في كلام العرب ، وأوضح ذلك أبو حيان في " البحر " ، والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يعلمون . [ ص: 272 ] قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك الآية [ 6 \ 116 ] ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 10 \ 49 ] .
قوله تعالى ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ، إلى قوله : إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا . ذكرنا بعض الآيات التي فيها بيان له في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا [ 2 \ 166 ] ، وبيناه في مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . جاء موضحا في مواضع أخر ; كقوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل [ 40 \ 71 ] ، وقوله : أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم [ 13 \ 5 ] ، وقوله : ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه [ 69 \ 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون . قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها [ 6 \ 123 ] ، وأوضحنا ذلك في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية [ 23 \ 44 ] .
قوله تعالى : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين . وقوله تعالى : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى . [ ص: 273 ] قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .
قوله تعالى : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن الآية .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم الآية [ 25 \ 17 - 18 ] .
قوله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] .
قوله تعالى : وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير . قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أنه أهلك الأمم الماضية لما كذبت رسله ، وأن الأمم الماضية أقوى ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأن كفار مكة عليهم أن يخافوا من إهلاك الله لهم بسبب تكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم ، ولم يؤتوا ، أي : كفار مكة ، معشار ما أتى الله الأمم التي أهلكها من قبل من القوة ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض [ 40 \ 82 ] ، وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله [ ص: 274 ] تعالى : وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها [ 30 \ 9 ] .
قوله تعالى : ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] .
قوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : كارهون ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا [ 17 \ 81 ] .
قوله تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي .

قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث [ 21 \ 78 ] ، في معرض بيان حجج الظاهرية في دعواهم منع الاجتهاد .
قوله تعالى : وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون بالله ، وأن ذلك الإيمان لا ينفعهم لفوات وقت نفعه ، الذي هو مدة دار الدنيا جاء موضحا في آيات كثيرة .

وقد قدمنا الآيات الدالة عليه في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق الآية [ 7 \ 53 ] . وفي سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . وقوله تعالى في [ ص: 275 ] هذه الآية الكريمة : وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ، أنى تدل على كمال الاستبعاد هنا ، و التناوش : التناول ، وقال بعضهم : هو خصوص التناول السهل للشيء القريب .

والمعنى : أنه يستبعد كل الاستبعاد ويبعد كل البعد ، أن يتناول الكفار الإيمان النافع في الآخرة بعدما ضيعوا ذلك وقت إمكانه في دار الدنيا ، وقيل الاستبعاد لردهم إلى الدنيا مرة أخرى ليؤمنوا ، والأول أظهر ، ويدل عليه قوله قبله : وقالوا آمنا به ، ومن أراد تناول شيء من مكان بعيد لا يمكنه ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 276 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ فَاطِرٍ

قَوْلُهُ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ الْآيَةَ .

الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، لِلِاسْتِغْرَاق ِ ، أَيْ : جَمِيعُ الْمَحَامِدِ ثَابِتٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَقَدْ أَثْنَى جَلَّ وَعَلَا عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْحَمْدِ الْعَظِيمِ مُعَلِّمًا خَلْقَهُ فِي كِتَابِهِ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، مُقْتَرِنًا بِكَوْنِهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَلْقَهُ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَا ذَكَرَ مَعَهُ يَدُلُّ عَلَى عَظَمَتِهِ ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ ، وَاسْتِحْقَاقِه ِ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ ، مَعَ مَا فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ النِّعَمِ عَلَى بَنِي آدَمَ فَهُوَ بِخَلْقِهِمَا مُسْتَحِقٌّ لِلْحَمْدِ لِذَاتِهِ ، وَلِإِنْعَامِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِهِمَا ، وَكَوْنِ خَلْقِهِمَا جَامِعًا بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدَيْنِ الْمَذْكُورَيْن ِ ، جَاءَتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَيْهِ . أَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ حَمْدَ اللَّهِ لِعَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ ، وَاسْتِحْقَاقِه ِ لِكُلِّ ثَنَاءٍ جَمِيلٍ ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَنْعَامِ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ الْآيَةَ [ 6 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " سَبَأٍ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 34 \ 2 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْفَاتِحَةِ " : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 1 \ 2 ] . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ : رَبِّ الْعَالَمِينَ ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ [ 26 \ 23 - 24 ] ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 37 \ 181 - 182 ] ، وَقَوْلِهِ : وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ . [ 39 \ 75 ]
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:13 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (447)
سُورَةُ فَاطِرٍ
صـ 277 إلى صـ 284





وَأَمَّا اسْتِحْقَاقُهُ لِلْحَمْدِ عَلَى خَلْقِهِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إِنْعَامِهِ عَلَى بَنِي آدَمَ ، فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى خَلْقِهِ ، بِأَنْ [ ص: 277 ] سَخَّرَ لَهُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [ 45 \ 13 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ الْآيَةَ [ 14 \ 33 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ 7 \ 54 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى تَسْخِيرِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ فِي سُورَةِ " الْحِجْرِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ الْآيَةَ [ 15 \ 17 ] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ " الْحَجِّ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [ 22 \ 75 ] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، أَيْ : خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمُبْدِعِهِمَا عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ .

وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، حَتَّى أَتَانِي أَعْرَابِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : أَنَا فَطَرْتُهَا ، أَيْ : بَدَأْتُهَا .
قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده الآية . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن ما يفتحه للناس من رحمته وإنعامه عليهم بجميع أنواع النعم ، لا يقدر أحد كائنا ما كان أن يمسكه عنهم ، وما يمسكه عنهم من رحمته وإنعامه لا يقدر أحد كائنا من كان أن يرسله إليهم ، وهذا معلوم بالضرورة من الدين ، والرحمة المذكورة في الآية عامة في كل ما يرحم الله به خلقه من الإنعام الدنيوي والأخروي ، كفتحه لهم رحمة المطر ; كما قال تعالى : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] .

وقوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] ، وقوله [ ص: 278 ] تعالى : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته الآية [ 42 \ 28 ] ، ومن رحمته إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ; كقوله تعالى : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك [ 28 \ 86 ] ، كما تقدم إيضاحه في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله [ 10 \ 107 ] ، وقوله تعالى : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا الآية [ 48 \ 11 ] ، وقوله تعالى : قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة الآية [ 33 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] ، و ما في قوله تعالى : ما يفتح الله [ 35 \ 2 ] ، وقوله : وما يمسك شرطية ، وفتح الشيء التمكين منه وإزالة الحواجز دونه ، والإمساك بخلاف ذلك .
قوله تعالى : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء . الاستفهام في قوله : هل من خالق غير الله ، إنكاري فهو مضمن معنى النفي .

والمعنى : لا خالق إلا الله وحده ، والخالق هو المستحق للعبادة وحده .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه [ 13 \ 16 ] . وفي سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 25 \ 3 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يرزقكم من السماء والأرض ، يدل على أنه تعالى هو الرازق وحده ، وأن الخلق في غاية الاضطرار إليه تعالى .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله تعالى : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه [ 67 \ 21 ] ، [ ص: 279 ] وقوله : فابتغوا عند الله الرزق [ 29 \ 17 ] .

وقد قدمنا كثيرا من الآيات الدالة على ذلك في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسليته صلى الله عليه وسلم ، بأن ما لاقاه من قومه من التكذيب لاقاه الرسل الكرام من قومهم قبله صلوات الله وسلامه عليهم جميعا ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا [ 6 \ 34 ] ، وقوله تعالى : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك [ 41 \ 43 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معروفة .
قوله تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا .

قد قدمنا الآيات التي بمعناه في مواضع من هذا الكتاب المبارك ; كقوله تعالى في " الكهف " : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الآية [ 18 \ 50 ] .

قوله تعالى : إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] .
قوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] . وفي " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم الآية [ 18 \ 6 ] ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن إحياءه تعالى الأرض بعد موتها المشاهد في دار الدنيا برهان قاطع على قدرته على البعث ، قد تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في مواضع [ ص: 280 ] كثيرة في سورة " البقرة " ، و " النحل " ، و " الأنبياء " وغير ذلك ، وقد تقدمت الإحالة عليه مرارا .
قوله تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن من كان يريد العزة فإنها جميعها لله وحده ، فليطلبها منه وليتسبب لنيلها بطاعته جل وعلا ، فإن من أطاعه أعطاه العزة في الدنيا والآخرة . أما الذين يعبدون الأصنام لينالوا العزة بعبادتها ، والذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، يبتغون عندهم العزة ، فإنهم في ضلال وعمى عن الحق ; لأنهم يطلبون العزة من محل الذل .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 - 82 ] ، وقوله تعالى : الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا [ 4 \ 139 ] ، وقوله تعالى : ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم [ 10 \ 65 ] ، وقوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله الآية [ 63 \ 8 ] ، وقوله تعالى : سبحان ربك رب العزة عما يصفون [ 37 \ 180 ] ، والعزة : الغلبة والقوة . ومنه قول الخنساء :



كأن لم يكونوا حمى يحتشى إذ الناس إذ ذاك من عزيزا أي : من غلب استلب ، ومنه قوله تعالى : وعزني في الخطاب [ 38 \ 23 ] ، أي : غلبني وقوي علي في الخصومة .

وقول من قال من أهل العلم : إن معنى الآية : من كان يريد العزة ، أي : يريد أن يعلم لمن العزة أصوب منه ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد الآية . قد تقدم بعض الكلام عليه في سورة " النحل " ، مع إعراب السيئات .

[ ص: 281 ] وقد قدمنا في مواضع أخر أن من مكرهم السيئات كفرهم بالله وأمرهم أتباعهم به ; كما قال تعالى : وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [ 34 \ 33 ] ، وكقوله تعالى : ومكروا مكرا كبارا وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا [ 71 \ 22 - 23 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والله خلقكم من تراب ثم من نطفة . قد تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] .

قوله تعالى : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] ، مع بيان الأحكام المتعلقة بالآية .

قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب . قد قدمنا بعض الكلام عليه في آخر سورة " الأحزاب " ، في الكلام على قوله تعالى : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [ 33 \ 72 ] . وفي سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] .
قوله تعالى وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج . تقدم إيضاحه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج [ 25 \ 53 ] .

قوله تعالى : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها . قد تقدم الكلام عليه مع بسط أحكام فقهية تتعلق بذلك في سورة " النحل " ، في [ ص: 282 ] الكلام على قوله تعالى : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] .

وتقدم في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] . أن قوله في آية " فاطر " هذه : ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ، دليل قرآني واضح على بطلان دعوى من ادعى من العلماء أن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من البحر الملح خاصة .
قوله تعالى : ويوم القيامة يكفرون بشرككم الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 82 ] ، وفي غيره من المواضع .
قوله تعالى : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد . بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه غني عن خلقه ، وأن خلقه مفتقر إليه ، أي : فهو يأمرهم وينهاهم لا لينتفع بطاعتهم ، ولا ليدفع الضر بمعصيتهم ، بل النفع في ذلك كله لهم ، وهو جل وعلا الغني لذاته الغنى المطلق .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة مع كونه معلوما من الدين بالضرورة ، جاء في مواضع كثيرة من كتاب الله ; كقوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم الآية [ 47 \ 38 ] ، وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] ، وقوله تعالى : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وبذلك تعلم عظم افتراء الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء [ 3 \ 181 ] ، وقد هددهم الله على ذلك ، بقوله : سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق [ 3 \ 181 ] .
قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [ 4 \ 132 ] .
[ ص: 283 ] قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الجواب عن بعض الأسئلة الواردة على الآية في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] ، ووجه الجمع بين أمثال هذه الآية وبين قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] ، ونحوها من الآيات .
قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن إنذاره صلى الله عليه وسلم محصور في الذين يخشون ربهم بالغيب ، وأقاموا الصلاة ، وهذا الحصر الإضافي ; لأنهم هم المنتفعون بالإنذار ، وغير المنتفع بالإنذار كأنه هو والذي لم ينذر سواء ، بجامع عدم النفع في كل منهما .

وهذا المعنى جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب الآية [ 36 \ 10 - 11 ] ، وقوله : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] ، ويشبه معنى ذلك في الجملة قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد [ 50 \ 45 ] ، وقد قدمنا معنى الإنذار وأنواعه موضحا في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] .
قوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير . قد قدمنا إيضاحه بالآيات في أول سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية [ 11 \ 24 ] .
قوله تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات . [ ص: 284 ] الأحياء هنا : المؤمنون ، و الأموات : الكفار ; فالحياة هنا حياة إيمان ، والموت موت كفر .

وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : لمشركون أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها [ 6 \ 122 ] ، فقوله : أو من كان ميتا ، أي : موت كفر فأحييناه حياة إيمان ; وكقوله تعالى : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 \ 70 ] ، فيفهم من قوله : من كان حيا ، أي - وهي حياة إيمان - إن الكافرين الذين حق عليهم القول ليسوا كذلك ، وقد أطبق العلماء على أن معنى قوله : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله [ 6 \ 36 ] ، أن المعنى : والكفار يبعثهم الله .

وقد قدمنا هذا موضحا بالآيات القرآنية في سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الآية [ 27 \ 80 ] .
قوله تعالى : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور . قد قدمنا الآيات الموضحة له وما جاء في سماع الموتى في سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى الآية [ 27 \ 80 ] .
قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم الآية [ 30 \ 22 ] ، وبينا هناك دلالة الآيات على أنه جل وعلا هو المؤثر وحده ، وأن الطبائع لا تأثير لها إلا بمشيئته تعالى .
قوله تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ، إلى قوله : ولباسهم فيها حرير . قد قدمنا الكلام على هذه الآية ، مع نظائرها من آيات الرجاء استطرادا ، وذكرنا معنى الظالم والمقتصد والسابق ، ووجه تقديم الظالم عليهما بالوعد في الجنات في سورة " النور " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى الآية [ 24 \ 22 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:29 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (448)
سُورَةُ يس
صـ 285 إلى صـ 292





[ ص: 285 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولباسهم فيها حرير قد قدمناه مع الآيات المماثلة ، والمشابهة له في سورة " النحل " في الكلام على قوله تعالى : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها .

قوله تعالى : وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل الآية [ 7 \ 53 ] .




قوله تعالى : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 25 \ 3 ] . وفي سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] .
قوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحج " ، في الكلام على قوله تعالى : ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] .
قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم الآية . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الآية [ 6 \ 157 ] .
قوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة الآية . قد قدمنا الآيات الموضحة له وشواهده العربية في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة الآية [ 16 \ 61 ] .
[ ص: 286 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ يس

قَوْلُهُ تَعَالَى : يس . التَّحْقِيقُ إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، وَالْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ ذُكِرَتْ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ " مَرْيَمَ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : كهيعص [ 19 \ 1 ] ، وَالسِّينُ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ ذُكِرَتْ فِي أَوَّلِ " الشُّعَرَاءِ " وَ " الْقَصَصِ " ، فِي قَوْلِهِ : طسم [ 26 \ 1 ] وَفِي أَوَّلِ " النَّمْلِ " ، فِي قَوْلِهِ : طس [ 27 \ 1 ] ، وَفِي أَوَّلِ " الشُّورَى " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حم عسق [ 42 \ 1 - 2 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُوجِبَ التَّوْكِيدِ لِكَوْنِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، هُوَ إِنْكَارُ الْكُفَّارِ لِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا [ 13 \ 43 ] ، فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [ 2 \ 252 ] .
قوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . لفظة ما في قوله تعالى : ما أنذر آباؤهم ، قيل : نافية ، وهو الصحيح . وقيل : موصولة ، وعليه فهو المفعول الثاني لتنذر ، وقيل : مصدرية .

وقد قدمنا دلالة الآيات على أنها نافية ، وأن مما يدل على ذلك ترتيبه بالفاء عليه قوله بعده : فهم غافلون ; لأن كونهم غافلين يناسب عدم الإنذار لا الإنذار ، وهذا هو الظاهر مع آيات أخر دالة على ذلك ; كما أوضحنا ذلك كله في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
[ ص: 287 ] قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون . الظاهر أن القول في قوله : لقد حق القول على أكثرهم ، وفي قوله تعالى : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول الآية [ 41 \ 25 ] ، وفي قوله تعالى : قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا الآية [ 28 \ 63 ] .

وفي قوله تعالى : ويحق القول على الكافرين [ 36 \ 70 ] ، وقوله تعالى : فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون [ 37 \ 31 ] ، والكلمة في قوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] ، وفي قوله تعالى : قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] ، أن المراد بالقول والكلمة أو الكلمات على قراءة : حقت عليهم كلمات ربك بصيغة الجمع ، هو قوله تعالى : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] ، كما دلت على ذلك آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى في آخر سورة " هود " : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 118 - 119 ] ، وقوله تعالى في " السجدة " : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] .

وقوله تعالى في أخريات " ص " : قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لقد حق القول على أكثرهم ، يدل على أن أكثر الناس من أهل جهنم ، كما دلت على ذلك آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 11 \ 17 ] ، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ، [ 12 \ 103 ] ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] ، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 174 ] .

وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله الآية [ 6 \ 116 ] .

[ ص: 288 ] وبينا بالسنة الصحيحة في أول سورة " الحج " : أن نصيب النار من الألف تسعة وتسعون وتسعمائة ، وأن نصيب الجنة منها واحد .
قوله تعالى : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . الأغلال : جمع غل وهو الذي يجمع الأيدي إلى الأعناق . والأذقان : جمع ذقن وهو ملتقى اللحيين . والمقمح بصيغة اسم المفعول ، وهو الرافع رأسه . والسد بالفتح والضم : هو الحاجز الذي يسد طريق الوصول إلى ما وراءه .

وقوله : فأغشيناهم ، أي : جعلنا على أبصارهم الغشاوة ، وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار ، ومنه قوله تعالى : وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله تعالى : وجعل على بصره غشاوة [ 45 \ 23 ] ، وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص :



هويتك إذ عيني عليها غشاوة فلما انجلت قطعت نفسي ألومها


والمراد بالآية الكريمة : أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم الله المذكورين في قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون ، صرفهم الله عن الإيمان صرفا عظيما مانعا من وصوله إليهم ; لأن من جعل في عنقه غل ، وصار الغل إلى ذقنه ، حتى صار رأسه مرفوعا لا يقدر أن يطأطئه ، وجعل أمامه سدا ، وخلفه سدا ، وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرف ، ولا في جلب نفع لنفسه ، ولا في دفع ضر عنها ، فالذين أشقاهم الله بهذه المثابة لا يصل إليهم خير .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جل وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه ، جاء موضحا في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] ، وقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقوله تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة [ 45 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء [ 6 \ 125 ] ، وقوله تعالى : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، [ ص: 289 ] وقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] .

وقوله تعالى : أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون [ 16 \ 108 ] ، وقوله تعالى : وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] ، وقوله تعالى : الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا [ 18 \ 101 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد قدمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب ، وكذلك الأغلال في الأعناق ، والسد من بين أيديهم ومن خلفهم ، أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان ، ووصول الخير إلى القلوب أن الله إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل ، والتمادي على الكفر ، فعاقبهم الله على ذلك ، بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها ، والغشاوة على الأبصار ; لأن من شؤم السيئات أن الله جل وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشر ، والحيلولة بينه وبين الخير جزاه الله بذلك على كفره جزاء وفاقا .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة ; كقوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، فالباء سببية . وفي الآية تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم ; وكقوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل ، أي : فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك ، وقوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] ، وقوله تعالى : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه .

وقد دلت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجر صاحبه إلى التمادي في السيئات ، ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك ، أن فعل الخير يؤدي إلى التمادي في فعل الخير ، وهو كذلك ; كما قال تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وقوله [ ص: 290 ] تعالى : والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا [ 29 \ 69 ] ، وقوله تعالى : ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ 64 \ 11 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

واعلم أن قول من قال من أهل العلم : إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ، أن المراد بذلك الأغلال التي يعذبون بها في الآخرة ; كقوله تعالى : إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [ 40 \ 71 - 72 ] ، خلاف التحقيق ، بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم ، وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا ; كما أوضحنا . وقرأ هذا الحرف : حمزة ، والكسائي ، وحفص ، عن عاصم : سدا ، بالفتح في الموضعين ، وقرأه الباقون بضم السين ، ومعناهما واحد على الصواب ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب . تقدم إيضاحه مع نظائره من الآيات في سورة " فاطر " ، في الكلام على قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] .
قوله تعالى : إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أربعة أشياء :

الأول : أنه يحيي الموتى ، مؤكدا ذلك متكلما عن نفسه بصيغة التعظيم .

الثاني : أنه يكتب ما قدموا في دار الدنيا .

الثالث : أنه يكتب آثارهم .

الرابع : أنه أحصى كل شيء في إمام مبين ، أي : في كتاب بين واضح ، وهذه الأشياء الأربعة جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما الأول منها وهو كونه يحيي الموتى بالبعث ، فقد جاء في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ، كقوله تعالى : قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] ، وقوله تعالى : قل إي وربي إنه لحق [ 10 \ 53 ] ، وقوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا [ 16 \ 38 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

[ ص: 291 ] وقد قدمناها بكثرة في سورة " البقرة " ، وسورة " النحل " ، في الكلام على براهين البعث ، وقدمنا الإحالة على ذلك مرارا .

وأما الثاني منها وهو كونه يكتب ما قدموا في دار الدنيا ، فقد جاء في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] ، وقوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، وقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الآية [ 18 \ 49 ] ، وقوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] . وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة " الكهف " .

وأما الثالث منها وهو كونهم تكتب آثارهم ، فقد ذكر في بعض الآيات أيضا .

واعلم أن قوله : وآثارهم ، فيه وجهان من التفسير معروفان عند العلماء .

الأول منهما : أن معنى ما قدموا : ما باشروا فعله في حياتهم ، وأن معنى آثارهم : هو ما سنوه في الإسلام من سنة حسنة أو سيئة ، فهو من آثارهم التي يعمل بها بعدهم .

الثاني : أن معنى آثارهم : خطاهم إلى المساجد ونحوها من فعل الخير ، وكذلك خطاهم إلى الشر ، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم " ، يعني : خطاكم من بيوتكم إلى مسجده صلى الله عليه وسلم .

أما على القول الأول : فالله جل وعلا قد نص على أنهم يحملون أوزار من أضلوهم وسنوا لهم السنن السيئة ; كما في قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] ، وقوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] .

وقد أوضحنا ذلك في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] [ ص: 292 ] وذكرنا حديث جرير وأبي هريرة ، في صحيح مسلم في إيضاح ذلك .

ومن الآيات الدالة على مؤاخذة الإنسان بما عمل به بعده مما سنه من هدى أو ضلالة ، قوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، بناء على أن المعنى بما قدم : مباشرا له ، وأخر : مما عمل به بعده مما سنه من هدى أو ضلال ، وقوله تعالى : علمت نفس ما قدمت وأخرت [ 82 \ 5 ] ، على القول بذلك .

وأما على التفسير الثاني : وهو أن معنى آثارهم : خطاهم إلى المساجد ونحوها ، فقد جاء بعض الآيات دالا على ذلك المعنى ; كقوله تعالى : ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم [ 9 \ 121 ] ; لأن ذلك يستلزم أن تكتب لهم خطاهم التي قطعوا بها الوادي في غزوهم .

وأما الرابع : وهو قوله تعالى : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ، فقد تدل عليه الآيات الدالة على الأمر الثاني ، وهو كتابة جميع الأعمال التي قدموها بناء على أن المراد بذلك خصوص الأعمال .

وأما على فرض كونه عاما ، فقد دلت عليه آيات أخر ; كقوله تعالى : وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا [ 72 \ 28 ] ، وقوله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] ، بناء على أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ ، وهو أصح القولين ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:34 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (449)
سُورَةُ يس
صـ 293 إلى صـ 300




وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة عن الكفار : وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون ، قد بين أنهم قد قالوا ذلك في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء الآية [ 67 \ 8 - 9 ] ، [ ص: 293 ] وقد بين تعالى أن الذين أنكروا إنزال الله الوحي كهؤلاء أنهم لم يقدروه حق قدره ، أي : لن يعظموه حق عظمته ، وذلك في قوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء [ 6 \ 91 ] .
قوله تعالى : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ 7 \ 131 ] ، وذكرنا بعض الكلام عليه في سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : قالوا اطيرنا بك وبمن معك الآية [ 27 \ 47 ] .
قوله تعالى : اتبعوا من لا يسألكم أجرا . قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وما يتعلق بها من الأحكام في سورة " هود " ، في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون . قوله : فطرني ، معناه : خلقني وابتدعني ، كما تقدم إيضاحه في أول سورة " فاطر " .

والمعنى : أي شيء ثبت لي يمنعني من أن أعبد الذي خلقني ، وابتدعني ، وأبرزني من العدم إلى الوجود ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الذي يخلق هو وحده الذي يستحق أن يعبد وحده ، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله .

وقد قدمنا إيضاح ذلك في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 25 \ 3 ] ، وفي سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه الآية [ 13 \ 16 ] .
قوله تعالى : أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين . [ ص: 294 ] الاستفهام في قوله تعالى : أأتخذ للإنكار ، وهو مضمن معنى النفي ، أي : لا أعبد من دون الله معبودات ، إن أرادني الله بضر لا تقدر على دفعه عني ، ولا تقدر أن تنقذني من كرب .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم فائدة المعبودات من دون الله جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [ 39 \ 38 ] ، وقوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا [ 17 \ 56 ] ، وقوله تعالى : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية [ 10 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا تغن عني شفاعتهم شيئا ، أي : لا شفاعة لهم أصلا حتى تغني شيئا ، ونحو هذا أسلوب عربي معروف ، ومنه قول امرئ القيس :



على لاحب لا يهتدى بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا

فقوله : لا يهتدى بمناره ، أي : لا منار له أصلا حتى يهتدى به ، وقول الآخر :



لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر

أي : لا أرنب فيها ، حتى تفزعها أهوالها ، ولا ضب فيها حتى ينجحر ، أي : يتخذ جحرا .
وهذا المعنى هو المعروف عند المنطقيين ، بقولهم : السالبة لا تقتضي وجود الموضوع ; كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون . [ ص: 295 ] بين جل وعلا أن العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون غير مكتفين بتكذيبه ، بل جامعين معه الاستهزاء .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يأتيهم من رسول ، نص صريح في تكذيب الأمم لجميع الرسل لما تقرر في الأصول ، من أن النكرة في سياق النفي إذا زيدت قبلها من ، فهي نص صريح في عموم النفي ، كما هو معروف في محله .

وهذا العموم الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر ، وجاء في بعض الآيات إخراج أمة واحدة عن حكم هذا العموم بمخصص متصل ، وهو الاستثناء .

فمن الآيات الموضحة لهذا العموم ، قوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون [ 34 \ 34 ] ، وقوله تعالى : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء ، إلى قوله : فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 94 - 95 ] .

وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية [ 23 \ 44 ] .

وقدمنا طرفا من الكلام عليه في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها الآية [ 6 \ 123 ] .

وأما الأمة التي أخرجت من هذا العموم فهي أمة يونس ، والآية التي بينت ذلك هي قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم ، وقوله تعالى : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 147 - 148 ] ، والحسرة أشد الندامة ، وهو منصوب على أنه منادى عامل في المجرور بعده ، فأشبه المنادى المضاف .

والمعنى : ياحسرة على العباد تعالي واحضري فإن الاستهزاء بالرسل هو أعظم الموجبات لحضورك .
قوله تعالى : وآية لهم الأرض الميتة ، إلى قوله : أفلا يشكرون

[ ص: 296 ] قد قدمنا أن إحياء الأرض المذكور في هذه الآية ، برهان قاطع على البعث في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . وفي سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون الآية [ 16 \ 10 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . وأوضحنا في المواضع المذكورة ، بقية براهين البعث بعد الموت .
قوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] .
قوله تعالى : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين . ذم جل وعلا في هذه الآية الكريمة الكفار بإعراضهم عن آيات الله .

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية ، جاء في آيات أخر من كتاب الله ; كقوله تعالى في أول سورة " الأنعام " : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم الآية [ 6 \ 4 - 5 ] ، وقوله تعالى في آخر " يوسف " : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] ، وقوله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [ 54 \ 1 - 2 ] ، وقوله تعالى : وإذا ذكروا لا يذكرون وإذا رأوا آية يستسخرون [ 37 \ 13 - 14 ] ، وأصل الإعراض مشتق من العرض بالضم ، وهو الجانب ; لأن المعرض عن الشيء يوليه بجانب عنقه صادا عنه .
قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة النفخة الأخيرة ، والصور قرن من نور ينفخ فيه الملك نفخة البعث ، وهي النفخة الأخيرة ، وإذا نفخها قام جميع أهل القبور من قبورهم ، أحياء إلى الحساب والجزاء .

وقوله : فإذا هم من الأجداث ، جمع جدث بفتحتين ، وهو القبر ، وقوله : [ ص: 297 ] ينسلون ، أي : يسرعون في المشي من القبور إلى المحشر ; كما قال تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 \ 43 ] ، وقال تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا الآية [ 50 \ 44 ] ، وكقوله تعالى : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي الآية [ 54 \ 7 ] ، وقوله : مهطعين إلى الداعي ، أي : مسرعين مادي أعناقهم على أشهر التفسيرين ، ومن إطلاق نسل بمعنى أسرع ، قوله تعالى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون [ 21 \ 96 ] ، وقول لبيد :



عسلان الذئب أمسى قاربا ، برد الليل عليه فنسل

وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن أهل القبور يقومون أحياء عند النفخة الثانية ، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ; كقوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [ 39 \ 68 ] ، وقوله تعالى : إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون [ 36 \ 53 ] ، وهذه الصيحة هي النفخة الثانية ; كقوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج [ 50 \ 42 ] ، أي : الخروج من القبور . وقوله تعالى : فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة [ 79 \ 13 - 14 ] ، والزجرة : هي النفخة الثانية . والساهرة : وجه الأرض والفلاة الواسعة ، ومنه قول أبي كبير الهذلي :



يرتدن ساهرة ، كأن جميمها وعميمها أسداف ليل مظلم


وقول الأشعث بن قيس :



وساهرة يضحى السراب مجللا لأقطارها قد جئتها متلثما


وكقوله تعالى : فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون [ 37 \ 19 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [ 30 \ 25 ] ، وهذه الدعوة بالنفخة الثانية . وقوله تعالى : يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده [ 17 \ 52 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 298 ] قوله تعالى : قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله تعالى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث الآية [ 30 \ 56 ] .
قوله تعالى : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم . قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " الكهف " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] ، وأوضحنا فيه التفصيل بين النظم الوضعية ، وفي سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
قوله تعالى : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون . قوله : جبلا كثيرا ، أي : خلقا كثيرا ; كقوله تعالى : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون الشيطان أضل خلقا كثيرا من بني آدم جاء مذكورا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس [ 6 \ 128 ] ، أي : قد استكثرتم أيها الشياطين ، من إضلال الإنس ، وقد قال إبليس : لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا [ 17 \ 62 ] ، وقد بين تعالى أن هذا الظن الذي ظنه بهم من أنه يضلهم جميعا إلا القليل صدقه عليهم ; وذلك في قوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين [ 34 \ 20 ] ، كما تقدم إيضاحه . وقرأ هذا الحرف نافع وعاصم : جبلا بكسر الجيم والباء ، وتشديد اللام . وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي : جبلا ، بضم الجيم والباء وتخفيف اللام . وقرأه أبو عمرو وابن عامر : جبلا ، بضم الجيم وتسكين الباء مع تخفيف اللام ، وجميع القراءات بمعنى واحد ، أي : خلقا كثيرا .
[ ص: 299 ] قوله تعالى : وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من شهادة بعض جوارح الكفار عليهم يوم القيامة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " النور " : يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [ 24 \ 24 ] ، وقوله تعالى في " فصلت " : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ 40 \ 20 - 21 ] . وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة " النساء " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .

وبينا هناك أن آية " يس " هذه توضح الجمع بين الآيات ; كقوله تعالى عنهم : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] مع قوله عنهم : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون . قوله تعالى : ننكسه في الخلق ، أي : نقلبه فيه ، فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل ، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده ، وخلو من عقل وعلم ، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال ، ويرتقي من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ أشده ، ويستكمل قوته ويعقل ويعلم ما له وما عليه ، فإذا انتهى نكسناه في الخلق ، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده ، وقلة عقله ، وخلوه من العلم . وأصل معنى التنكيس : جعل أعلى الشيء أسفله .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة الآية [ 30 \ 54 ] ، وقوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين الآية [ 95 \ 4 - 5 ] ، على أحد التفسيرين . وقوله تعالى في " الحج " : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى في " النحل " : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا [ 16 \ 70 ] ، وقوله تعالى في سورة " المؤمن " : ثم لتكونوا شيوخا [ 40 \ 67 ] .

[ ص: 300 ] وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة " النحل " ، وقرأ هذا الحرف عاصم ، وحمزة : ننكسه بضم النون الأولى ، وفتح الثانية وتشديد الكاف المكسورة ، من التنكيس ، وقرأه الباقون بفتح النون الأولى ، وإسكان الثانية ، وضم الكاف مخففة مضارع نكسه المجرد وهما بمعنى واحد . وقرأ نافع وابن ذكوان عن ابن عامر : أفلا تعقلون بتاء الخطاب . وقرأه الباقون : أفلا يعقلون ، بياء الغيبة .
قوله تعالى : وما علمناه الشعر وما ينبغي له . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " ، في الكلام على قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون [ 26 \ 124 ] ، وذكرنا الأحكام المتعلقة بذلك هناك .
قوله تعالى : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النمل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الآية [ 27 \ 80 ] . وفي سورة " فاطر " ، في الكلام على قوله تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] .
قوله تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] .
قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه إلى قوله تعالى وهو الخلاق العليم قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " و " النحل " ، مع بيان براهين البعث .
قوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] ، وبينا هناك أن الآيات المذكورة لا تنافي مذهب أهل السنة في إطلاق اسم الشيء على الموجود دون المعدوم ، وقد قدمنا القراءتين وتوجيههما في قوله : كن فيكون ، هناك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:36 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (450)
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
صـ 301 إلى صـ 308



[ ص: 301 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الصَّافَّاتِ

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ . أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِـ : الصَّافَّاتِ هُنَا ، وَ الزَّاجِرَاتِ ، وَ التَّالِيَاتِ : جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ ، وَقَدْ جَاءَ وَصْفُ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ صَافُّونَ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ [ 37 \ 165 - 166 ] ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ صَافِّينَ : أَنْ يَكُونُوا صُفُوفًا مُتَرَاصِّينَ بَعْضُهُمْ جَنْبَ بَعْضٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، مِنْ صَلَاةٍ وَغَيْرِهَا . وَقِيلَ : لِأَنَّهُمْ يَصُفُّونَ أَجْنِحَتَهُمْ فِي السَّمَاءِ ، يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ : جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا ، وَجُعِلَتْ لَنَا تُرْبَتُهَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ " وَهُوَ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْمُصَلِّينَ فِي صَلَاتِهِمْ ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ بِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَالْمُلْقِيَات ِ ذِكْرًا عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [ 67 \ 5 - 6 ] فَقَوْلُهُ : فَالْمُلْقِيَات ِ ذِكْرًا كَقَوْلِهِ هُنَا : فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ الَّذِي تَتْلُوهُ تُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ ، كَمَا كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ عَلَى نَبِيِّنَا وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى الْجَمِيعِ ، وَقَوْلُهُ : عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ، أَيْ : لِأَجْلِ الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ ، أَيْ : بِذَلِكَ الذِّكْرِ الَّذِي نَتْلُوهُ وَتُلْقِيهِ ، وَالْإِعْذَارُ : قَطْعُ الْعُذْرِ بِالتَّبْلِيغِ .

وَالْإِنْذَارُ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَبَيَّنَّا أَنْوَاعَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْأَعْرَافِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [ 7 \ 1 - 2 ] ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا الْمَلَائِكَةُ تَزْجُرُ السَّحَابَ ، وَقِيلَ : تَزْجُرُ الْخَلَائِقَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِالذِّكْرِ الَّذِي تَتْلُوهُ ، وَتُلْقِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ .

[ ص: 302 ] وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الصَّافَّاتِ وَ الزَّجِرَاتِ وَ التَّالِيَاتِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ جَمَاعَاتُ الْمَلَائِكَةِ : ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ ; كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُمَا . وَزَادُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ مِمَّنْ قَالَ بِهِ : مَسْرُوقًا وَالسُّدِّيَّ وَالرَّبِيعَ بْنَ أَنَسٍ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الصَّافَّاتِ فِي الْآيَةِ الطَّيْرُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ ، وَاسْتَأْنَسَ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ الْآيَةَ [ 67 \ 19 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ الْآيَةَ [ 24 \ 41 ] .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْمُرَادُ بِـ : الصَّافَّاتِ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ يَصُفُّونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ لِلصَّلَاةِ ، وَيَصُفُّونَ فِي غَزْوِهِمْ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ [ 61 \ 4 ] .

وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا : الْمُرَادُ بِـ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ، وَ فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا : جَمَاعَاتُ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ يُلْقُونَ آيَاتِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ ، وَيَزْجُرُونَ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ بِآيَاتِهِ ، وَمَوَاعِظِهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ .

وَقَالَ بَعْضُهُمِ : الْمُرَادُ بِـ : فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا : جَمَاعَاتُ الْغُزَاةِ يَزْجُرُونَ الْخَيْلَ لِتُسْرِعَ إِلَى الْأَعْدَاءِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَأَكْثَرُ قَائِلًا . وَوَجْهُ تَوْكِيدِهِ تَعَالَى قَوْلَهُ : إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ، بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ ، وَبِأَنَّ وَاللَّامِ هُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَنْكَرُوا كَوْنَ الْإِلَهِ وَاحِدًا إِنْكَارًا شَدِيدًا وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ تَعَجُّبًا شَدِيدًا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ 38 \ 5 ] ، وَلَمَّا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ أَقَامَ الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ، فَكَوْنُهُ خَالِقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي جَعَلَ فِيهَا الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ .

وَهَذَا الْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ الَّذِي أَقَامَهُ هُنَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ ، أَقَامَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " : وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [ 2 \ 163 ] فَقَدْ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ مُتِّصِلًا بِهِ : [ ص: 303 ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] .

وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَإِنْ قُلْتَ : مَا حُكْمُ الْفَاءِ إِذَا جَاءَتْ عَاطِفَةً فِي الصِّفَاتِ ؟ قُلْتُ : إِمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى تَرَتُّبِ مَعَانِيهَا فِي الْوُجُودِ ; كَقَوْلِهِ :



يَا لَهْفَ زِيَابَةَ لِلْحَارِثِ الْـ صَّابِحِ فَالْغَانِمِ فَالْآئِبِ

كَأَنَّهُ قِيلَ : الَّذِي صَبَّحَ فَغَنِمَ فَآبَ ، وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِهَا فِي التَّفَاوُتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ ; كَقَوْلِكَ : خُذِ الْأَفْضَلَ فَالْأَكْمَلَ ، وَاعْمَلِ الْأَحْسَنَ فَالْأَجْمَلَ . وَإِمَّا عَلَى تَرَتُّبِ مَوْصُوفَاتِهَا فِي ذَلِكَ ; كَقَوْلِهِ : رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَالْمُقَصِّرِي نَ ، فَعَلَى هَذِهِ الْقَوَانِينِ الثَّلَاثَةِ يَنْسَاقُ أَمْرُ الْفَاءِ الْعَاطِفَةِ فِي الصِّفَاتِ .

فَإِنْ قُلْتَ : فَعَلَى أَيِّ هَذِهِ الْقَوَانِينِ هِيَ فِيمَا أَنْتَ بِصَدَدِهِ ؟

قُلْتُ : إِنْ وَحَّدْتَ الْمَوْصُوفَ كَانَتْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الصِّفَاتِ فِي التَّفَاضُلِ ، وَإِنْ ثَلَّثْتَهُ فَهِيَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَرَتُّبِ الْمَوْصُوفَاتِ فِيهِ .

بَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّكَ إِذَا أَجْرَيْتَ هَذِهِ الْأَوْصَافَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَجَعَلْتَهُمْ جَامِعِينَ لَهَا فَعَطْفُهَا بِالْفَاءِ يُفِيدُ تَرَتُّبًا لَهَا فِي الْفَضْلِ ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفَضْلُ لِلصَّفِّ ، ثُمَّ لِلزَّجْرِ ثُمَّ لِلتِّلَاوَةِ . وَإِمَّا عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَلِكَ إِنْ أَرَدْتَ الْعُلَمَاءَ وَقُوَّادَ الْغُزَاةِ . وَإِنْ أَجْرَيْتَ الصِّفَةَ الْأُولَى عَلَى طَوَائِفَ وَالثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ عَلَى أُخَرَ ، فَقَدْ أَفَادَتْ تَرَتُّبَ الْمَوْصُوفَاتِ فِي الْفَضْلِ أَعْنِي أَنَّ الطَّوَائِفَ الصَّافَّاتِ ذَوَاتِ فَضْلٍ ، وَالزَّاجِرَاتُ أَفْضَلُ ، وَالتَّالِيَاتُ أَبْهَرُ فَضْلًا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَدْتَ بِالصَّافَّاتِ الطَّيْرَ ، وَبِالزَّاجِرَا تِ كُلَّ مَا يَزْجُرُ عَنْ مَعْصِيَةٍ ، وَبِالتَّالِيَا تِ كُلَّ نَفْسٍ تَتْلُو الذِّكْرَ ، فَإِنَّ الْمَوْصُوفَاتِ مُخْتَلِفَةٌ ، انْتَهَى كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ فِي " الْكَشَّافِ " .

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ : كَلَامُ صَاحِبِ الْكَشَّافِ هَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ أَبُو حَيَّانَ ، وَالْقُرْطُبِيّ ُ وَغَيْرُهُمَا ، وَلَمْ يَتَعَقَّبُوهُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَلَامٌ لَا تَحْقِيقَ فِيهِ ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ اعْتِرَافُ الزَّمَخْشَرِيّ ِ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا ذَكَرَهُ : هَلْ هُوَ كَذَا أَوْ عَلَى الْعَكْسِ ، وَذَلِكَ صَرِيحٌ [ ص: 304 ] فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا يَقُولُهُ ; لِأَنَّ مَنْ جَزَمَ بِشَيْءٍ ثُمَّ جَوَّزَ فِيهِ النَّقِيضَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى عِلْمٍ مِمَّا جَزَمَ بِهِ .

وَالْأَظْهَرُ الَّذِي لَا يَلْزَمُهُ إِشْكَالٌ أَنَّ التَّرْتِيبَ بِالْفَاءِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ وَالْإِتْيَانِ بِأَدَاةِ التَّرْتِيبِ لِمُجَرَّدِ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ فَقَطْ ، دُونَ إِرَادَةِ تَرْتِيبِ الصِّفَاتِ أَوِ الْمَوْصُوفَاتِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فِي مَوَاضِعَ ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ .

وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْآيَةَ [ 90 \ 11 - 17 ] ، فَلَا يَخْفَى أَنْ ثُمَّ حَرْفُ تَرْتِيبٍ وَأَنَّ الْمُرَتَّبَ بِهِ الَّذِي هُوَ كَوْنُهُ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرَتُّبَ لَهُ عَلَى مَا قَبْلَهُ إِلَّا مُطْلَقُ التَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ [ 6 \ 153 - 154 ] كَمَا لَا يَخْفَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِيهِ ذِكْرِيٌّ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [ 2 \ 199 ] ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ :



إِنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ ثُمَّ قَدْ سَادَ قَبْلَ ذَلِكَ جَدُّهْ


وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ، لَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا الْمَشَارِقَ وَحْدَهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا الْمَغَارِبَ .

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا " دَفْعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " : وَجْهُ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ ، فَقُلْنَا فِيهِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ 2 \ 115 ] ، مَا لَفْظُهُ أُفْرِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ، وَثَنَّاهُمَا فِي سُورَةِ " الرَّحْمَنِ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [ 55 \ 17 ] ، وَجَمَعَهُمَا فِي سُورَةِ " سَأَلَ سَائِلٌ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [ 70 \ 40 ] ، وَجَمَعَ الْمَشَارِقَ فِي سُورَةِ " الصَّافَّاتِ " ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ .

[ ص: 305 ] وَالْجَوَابُ : أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [ 2 \ 115 ] الْمُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، فَهُوَ صَادِقٌ بِكُلِّ مَشْرِقٍ مِنْ مَشَارِقِ الشَّمْسِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ ، وَكُلُّ مَغْرِبٍ مِنْ مَغَارِبِهَا الَّتِي هِيَ كَذَلِكَ ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ .

قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، مَا نَصُّهُ : وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ : وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ الَّذِي تُشْرِقُ مِنْهُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ وَالْمَغْرِبُ الَّذِي تَغْرُبُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ .

فَتَأْوِيلُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ : وَلِلَّهِ مَا بَيْنَ قُطْرَيِ الْمَشْرِقِ وَقُطْرَيِ الْمَغْرِبِ إِذَا كَانَ شُرُوقُ الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْهُ لَا تَعُودُ لِشُرُوقِهَا مِنْهُ إِلَى الْحَوْلِ الَّذِي بَعْدَهُ ، وَكَذَلِكَ غُرُوبُهَا ، انْتَهَى مِنْهُ بِلَفْظِهِ .

وَقَوْلُهُ : رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [ 55 \ 17 ] ، يَعْنِي مَشْرِقَ الشِّتَاءِ ، وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ وَمَغْرِبَهُمَا ، كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ . وَقِيلَ : مَشْرِقَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَغْرِبَهُمَا .

وَقَوْلُهُ : بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ أَيْ : مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَمَغَارِبِهَا كَمَا تَقَدَّمَ . وَقِيلَ : مَشَارِقِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَمَغَارِبِهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب الآية [ 37 \ 6 ] .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها الآية [ 6 \ 97 ] . وقرأ هذا الحرف السبعة غير عاصم وحمزة ، بإضافة زينة إلى الكواكب ، أي : بلا تنوين في زينة مع خفض الباء في الكواكب . وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بتنوين زينة ، وخفض الكواكب على أنه بدل من زينة . وقرأه أبو بكر عن عاصم : بزينة الكواكب بتنوين زينة ، ونصب الكواكب ، وأعرب أبو حيان الكواكب على قراءة النصب إعرابين :

أحدهما : أن الكواكب بدل من السماء في قوله تعالى : إنا زينا السماء [ 37 \ 6 ] .

والثاني : أنه مفعول به لـ : زينة بناء على أنه مصدر منكر ; كقوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما الآية [ 90 \ 14 - 15 ] .

[ ص: 306 ] والأظهر عندي : أنه مفعول فعل محذوف ، تقديره : أعني الكواكب ، على حد قوله في " الخلاصة " :

ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما
قوله تعالى : وحفظا من كل شيطان مارد إلى قوله : شهاب ثاقب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع الآية [ 15 \ 17 - 18 ] في سورة " الحجر " .
قوله تعالى : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب

ذكر في هذه الآية الكريمة برهانين من براهين البعث ، التي قدمنا أنها يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث .

الأول : هو المراد بقوله : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا ; لأن معنى : فاستفتهم ، استخبرهم والأصل في معناه : اطلب منهم الفتوى ، وهي الإخبار بالواقع فيما تسألهم عنه أهم أشد خلقا أي : أصعب إيجادا واختراعا ، أم من خلقنا من المخلوقات التي هي أعظم وأكبر منهم ، وهي ما تقدم ذكره من الملائكة المعبر عن جماعاتهم بالصافات ، والزاجرات ، والتاليات ، والسماوات والأرض ، والشمس والقمر ، ومردة الشياطين ; كما ذكر ذلك كله في قوله تعالى : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد [ 37 \ 5 - 7 ] .

وجواب الاستفتاء المذكور الذي لا جواب له غيره ، هو أن يقال : من خلقت يا ربنا من الملائكة ، ومردة الجن ، والسماوات والأرض ، والمشارق ، والمغارب ، والكواكب ، أشد خلقا منا ; لأنها مخلوقات عظام أكبر وأعظم منا ، فيتضح بذلك البرهان القاطع على قدرته جل وعلا على البعث بعد الموت ; لأن من المعلوم بالضرورة أن من خلق الأعظم الأكبر كالسماوات والأرض ، وما ذكر معهما قادر على أن يخلق الأصغر الأقل ; كما قال تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، أي : ومن قدر [ ص: 307 ] على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر ، كخلق الإنسان خلقا جديدا بعد الموت . وقال تعالى : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] ، وقال تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ 46 \ 33 ] ، وقال تعالى : أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم [ 17 \ 99 ] ، وقال تعالى في " النازعات " ، موضحا الاستفتاء المذكور في آية " الصافات " هذه : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .

وقد علمت أن وجه العبارة بمن التي هي للعالم ، في قوله تعالى : أم من خلقنا ، عن السماوات والأرض والكواكب هو تغليب ما ذكر معها من العالم كالملائكة على غير العالم ، وذلك أسلوب عربي معروف .

وأما البرهان الثاني : فهو في قوله : إنا خلقناهم من طين لازب ; لأن من خلقهم أولا من طين ، وأصله التراب المبلول بالماء لا يشك عاقل في قدرته على خلقهم مرة أخرى بعد أن صاروا ترابا ، لأن الإعادة لا يعقل أن تكون أصعب من البدء والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدا ; كقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذين البرهانين وغيرهما من براهين البعث في سورة " البقرة " ، و " النحل " ، و " الحج " وغير ذلك .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : من طين لازب ، اللازب : هو ما يلزق باليد مثلا إذا لاقته ، وعبارات المفسرين فيه تدور حول ما ذكرنا ، والعرب تطلق اللازب واللاتب واللازم ، بمعنى واحد ، ومنه في اللازب قول علي رضي الله عنه :



تعلم فإن الله زادك بسطة وأخلاق خير كلها لك لازب

وقول نابغة ذبيان :

[ ص: 308 ]

ولا يحسبون الخير لا شر بعده ولا يحسبون الشر ضربة لازب


فقوله : ضربة لازب ، أي : شيئا ملازما لا يفارق ، ومنه في اللاتب قوله :



فإن يك هذا من نبيذ شربته فإني من شرب النبيذ لتائب
صداع وتوصيم العظام وفترة وغم مع الإشراق في الجوف لاتب
والبرهانان المذكوران على البعث يلقمان الكفار حجرا في إنكارهم البعث المذكور بعدهما قريبا منهما ، في قوله تعالى : وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون [ 37 \ 15 19 ] .
قوله تعالى : بل عجبت ويسخرون . قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة والكسائي : عجبت بالتاء المفتوحة وهي تاء الخطاب ، المخاطب بها النبي صلى الله عليه وسلم . وقرأ حمزة والكسائي : بل عجبت ، بضم التاء وهي تاء المتكلم ، وهو الله جل وعلا .

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن القراءتين المختلفتين يحكم لهما بحكم الآيتين .

وبذلك تعلم أن هذه الآية الكريمة على قراءة حمزة والكسائي فيها إثبات العجب لله تعالى ، فهي إذا من آيات الصفات على هذه القراءة .

وقد أوضحنا طريق الحق التي هي مذهب السلف في آيات الصفات ، وأحاديثها في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الروم " ، في الكلام على قوله تعالى : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث . الآية [ 30 \ 56 ]
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:51 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (451)
سُورَةُ الصَّافَّاتِ
صـ 309 إلى صـ 316





[ ص: 309 ] قوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم . المراد بـ : الذين ظلموا الكفار ، كما يدل عليه قوله بعده : وما كانوا يعبدون من دون الله .

وقد قدمنا إطلاق الظلم على الشرك في آيات متعددة ; كقوله تعالى : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] ، وقوله تعالى : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] ، وقوله تعالى : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] .

وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الظلم بالشرك ، في قوله تعالى : ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] ، وقوله تعالى : وأزواجهم ، جمهور أهل العلم منهم : عمر وابن عباس ، على أن المراد به أشباههم ونظراؤهم ، فعابد الوثن مع عابد الوثن ، والسارق مع السارق ، والزاني مع الزاني ، واليهودي مع اليهودي ، والنصراني مع النصراني ، وهكذا وإطلاق الأزواج على الأصناف مشهور في القرآن ، وفي كلام العرب ; كقوله تعالى : والذي خلق الأزواج كلها الآية [ 43 \ 12 ] ، وقوله تعالى : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] ، وقوله تعالى : فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى الآية [ 20 \ 53 ] ، وقوله تعالى : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم [ 15 \ 88 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

فقوله تعالى : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ، أي : اجمعوا الظالمين وأشباههم ونظراءهم ، فاهدوهم إلى النار ليدخلها جميعهم ، وبذلك تعلم أن قول من قال : المراد بـ أزواجهم نساؤهم اللاتي على دينهم ، خلاف الصواب . وقوله تعالى : وما كانوا يعبدون من دون الله ، أي : احشروا مع الكفار الشركاء التي كانوا يعبدونها من دون الله ليدخل العابدون والمعبودات جميعا النار ; كما أوضح ذلك بقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون [ 21 \ 98 - 99 ] . وقد بين تعالى أن الذين عبدوا من دون الله من الأنبياء ، والملائكة ، والصالحين ; كعيسى وعزير خارجون عن هذا ، وذلك في [ ص: 310 ] قوله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون [ 21 \ 101 ] ، إلى قوله : هذا يومكم الذي كنتم توعدون [ 21 \ 103 ] ، وأشار إلى ذلك في قوله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه الآية [ 43 \ 57 - 59 ] .

وقوله تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية [ 17 \ 57 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فاهدوهم ، من الهدى العام ، أي : دلوهم وأرشدوهم إلى صراط الجحيم ، أي : طريق النار ليسلكوها إليها ، والضمير في قوله تعالى : فاهدوهم ، راجع إلى الثلاثة ، أعني : الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله .

وقد دلت هذه الآية أن الهدى يستعمل في الإرشاد والدلالة على الشر ، ونظير ذلك في القرآن قوله : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 4 ] ، ولذلك كان للشر أئمة يؤتم بهم فيه ; كقوله تعالى : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] .
قوله تعالى : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " ، في الكلام على قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، وبينا هناك وجه الجمع بين الآيات في نحو قوله تعالى : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] ، وقوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، مع قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] ، وقوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم الآية [ 7 \ 6 ] . وقوله هنا : وقفوهم إنهم مسئولون .
قوله تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع التعرض لإزالة إشكالين في بعض الآيات المتعلقة بذلك ، في سورة " قد أفلح المؤمنون " ، في الكلام على قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .
[ ص: 311 ] قوله تعالى : فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون فأغويناكم إنا كنا غاوين . قد قدمنا الآيات المبينة للمراد بالقول الذي حق عليهم في سورة " يس " ، في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] ، وما ذكره جل وعلا عنهم من أنهم قالوا : إنه لما حق عليهم القول ، الذي هو : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، فكانوا غاوين أغووا أتباعهم ; لأن متبع الغاوي في غيه لا بد أن يكون غاويا مثله ، ذكره تعالى في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " القصص " : قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا الآية [ 28 \ 63 ] ، والإغواء : الإضلال .
قوله تعالى : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الضالين والمضلين مشتركون في العذاب يوم القيامة ، وبين في سورة " الزخرف " ، أن ذلك الاشتراك ليس بنافعهم شيئا ; وذلك في قوله تعالى : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون [ 43 \ 39 ] ، وبين في مواضع أخر أن الأتباع يسألون الله ، أن يعذب المتبوعين عذابا مضاعفا لإضلالهم إياهم ; كقوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف الآية [ 7 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا [ 33 \ 67 - 68 ] .

وقد قدمنا الكلام على تخاصم أهل النار ، وسيأتي إن شاء الله له زيادة إيضاح في سورة " ص " ، في الكلام على قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] .
قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون الآية [ 37 \ 34 - 35 ] .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك العذاب الذي فعله بهؤلاء المعذبين ، [ ص: 312 ] المذكورين في قوله تعالى : إنا لذائقون [ 37 \ 31 ] ، أي : العذاب الأليم . وقوله تعالى : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون [ 37 \ 33 ] ، أنه يفعل مثله من التعذيب والتنكيل بالمجرمين ، والمجرمون جمع مجرم ، وهو مرتكب الجريمة وهي الذنب الذي يستحق صاحبه عليه التنكيل الشديد ، ثم بين العلة لذلك التعذيب ; لأنها هي امتناعهم من كلمة التوحيد التي هي لا إله إلا الله ، إذا طلب منهم الأنبياء وأتباعهم أن يقولوا ذلك في دار الدنيا . فلفظة إن في قوله تعالى : إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ، من حروف التعليل ; كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه .

وعليه فالمعنى : كذلك نفعل بالمجرمين لأجل أنهم كانوا في دار الدنيا ، إذا قيل لهم : لا إله إلا الله يستكبرون ، أي : يتكبرون عن قبولها ولا يرضون أن يكونوا أتباعا للرسل .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من كون ذلك هو سبب تعذيبهم بالنار ، دلت عليه آيات ; كقوله تعالى مبينا دخولهم النار : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] ، وقوله تعالى في ذكر صفات الكفار وهم أهل النار : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون [ 39 \ 45 ] .
قوله تعالى : ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " ، في الكلام على قوله تعالى : والشعراء يتبعهم الغاوون [ 26 \ 224 ] .
قوله تعالى : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون .

قد قدمنا تفسيره مع ذكر الآيات الدالة على معناه في سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ 5 \ 90 ] ، وبينا هنا كلام أهل العلم في نجاسة عين خمر الدنيا دون خمر الآخرة ، وأن ذلك يشير إلى قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] .
[ ص: 313 ] قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين كأنهن بيض مكنون .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث صفات من صفات نساء أهل الجنة :

الأولى : أنهن قاصرات الطرف ، وهو العين ، أي : عيونهن قاصرات على أزواجهن ، لا ينظرن إلى غيرهم لشدة اقتناعهن واكتفائهن بهم .

الثانية : أنهن عين ، والعين جمع عيناء ، وهي واسعة دار العين ، وهي النجلاء .

الثالثة : أن ألوانهن بيض بياضا مشربا بصفرة ; لأن ذلك هو لون بيض النعام الذي شبههن به ، ومنه قول امرئ القيس في نحو ذلك :



كبكر المقانات البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل

لأن معنى قوله : كبكر المقانات البياض بصفرة : أن لون المرأة المذكورة كلون البيضة البكر المخالط بياضها بصفرة ، وهذه الصفات الثلاث المذكورة هنا ، جاءت موضحة في غير هذا الموضع مع غيرها من صفاتهن الجميلة ، فبين كونهن قاصرات الطرف على أزواجهن ، بقوله تعالى في " ص " : وعندهم قاصرات الطرف أتراب [ 38 \ 52 ] ، وكون المرأة قاصرة الطرف من صفاتها الجميلة ، وذلك معروف في كلام العرب ، ومنه قول امرئ القيس :



من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذر فوق الإتب منها لأثرا

وذكر كونهن عينا في قوله تعالى فيهن : وحور عين [ 56 \ 22 ] ، وذكر صفا ألوانهن وبياضها في قوله تعالى : كأمثال اللؤلؤ المكنون [ 56 \ 23 ] ، وقوله تعالى : كأنهن الياقوت والمرجان [ 55 \ 58 ] ، وصفاتهن كثيرة معروفة في الآيات القرآنية .

واعلم أن الله أثنى عليهن بنوعين من أنواع القصر :

أحدهما : أنهن قاصرات الطرف ، والطرف العين ، وهو لا يجمع ولا يثنى ; لأن أصله مصدر ، ولم يأت في القرآن إلا مفردا ; كقوله تعالى : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [ 14 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ينظرون من طرف خفي ، ومعنى كونهن قاصرات الطرف هو ما قدمنا من أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن بخلاف نساء الدنيا .

[ ص: 314 ] والثاني من نوعي القصر : كونهن مقصورات في خيامهن ، لا يخرجن منها ; كما قال تعالى لأزواج نبيه صلى الله عليه وسلم : وقرن في بيوتكن [ 33 \ 33 ] ، وذلك في قوله تعالى : حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 72 ] ، وكون المرأة مقصورة في بيتها لا تخرج منه من صفاتها الجميلة ، وذلك معروف في كلام العرب ; ومنه قوله :



من كان حربا للنساء فإنني سلم لهنه
فإذا عثرن دعونني وإذا عثرت دعوتهنه
وإذا برزن لمحفل فقصارهن ملاحهنه


فقوله : قصارهن ، يعني : المقصورات منهن في بيوتهن اللاتي لا يخرجن إلا نادرا ، كما أوضح ذلك كثير عزة في قوله :



وأنت التي حببت كل قصيرة إلي وما تدري بذاك القصائر
عنيت قصيرات الحجال ولم أرد قصار الخطا شر النساء البحاتر


والحجال : جمع حجلة ، وهي البيت الذي يزين للعروس ، فمعنى قصيرات الحجال : المقصورات في حجالهن . وذكر بعضهم أن رجلا سمع آخر ، قال : لقد أجاد الأعشى في قوله :



غراء فرعاء مصقول عوارضها تمشي الهوينا كما يمشي الوجى الوحل
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل
ليست كمن يكره الجيران طلعتها ولا تراها لسر الجار تختتل


فقال له : قاتلك الله ، تستحسن غير الحسن هذه الموصوفة خراجة ولاجة ، والخراجة الولاجة لا خير فيها ولا ملاحة لها ، فهلا قال كما قال أبو قيس بن الأسلت :



وتكسل عن جاراتها فيزرنها وتعتل من إتيانهن فتعذر



قوله تعالى : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم . قد قدمنا إيضاحه بالقرآن في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون [ 25 \ 15 ] .
[ ص: 315 ] قوله تعالى : إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم الآية . قد قدمنا إيضاحه في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن [ 17 \ 60 ] .
قوله تعالى : فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن الكفار في النار يأكلون من شجرة الزقوم ، فيملئون منها بطونهم ، ويجمعون معها : لشوبا من حميم ، أي : خلطا من الماء البالغ غاية الحرارة ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في " الواقعة " : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 51 - 52 ] . وقوله : شرب الهيم ، الهيم : جمع أهيم وهيماء وهي الناقة مثلا التي أصابها الهيام ، وهو شدة العطش بحيث لا يرويها كثرة شراب الماء فهي تشرب كثيرا من الماء ، ولا تزال مع ذلك في شدة العطش . ومنه قول غيلان ذي الرمة :



فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد صداها ولا يقضي عليها هيامها

وقوله تعالى في " الواقعة " : فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم [ 56 \ 54 - 55 ] ، يدل على أن الشوب ، أي : الخلط من الحميم المخلوط لهم بشجرة الزقوم المذكور هنا في " الصافات " ، أنه شوب كثير من الحميم لا قليل .

وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية : لشوبا من حميم ، الشوب : الخلط ، والشوب والشوب لغتان ، كالفقر والفقر ، والفتح أشهر . قال الفراء : شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما شوبا وشيابة ، انتهى منه .
قوله تعالى : إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون . ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الكفار الذين أرسل إليهم نبينا صلى الله عليه وسلم : إنهم ألفوا آباءهم ، أي : وجدوهم على الكفر ، وعبادة الأوثان ، فهم على آثارهم يهرعون [ ص: 316 ] أي : يتبعونهم في ذلك الضلال والكفر مسرعين فيه ، جاء موضحا في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى عنهم : قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا [ 2 \ 170 ] ، وقوله عنهم : قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا [ 5 \ 104 ] ، وقوله عنهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] ، وقوله عنهم : إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا الآية [ 14 \ 10 ] . ورد الله عليهم في الآيات القرآنية معروف ; كقوله تعالى : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 2 \ 170 ] ، وقوله : أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] ، وقوله تعالى : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 24 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهم على آثارهم ، أي : فهم على اتباعهم والاقتداء بهم في الكفر والضلال ; كما قال تعالى عنهم : وإنا على آثارهم مقتدون [ 43 \ 23 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : يهرعون ، قد قدمنا في سورة " هود " ، أن معنى : يهرعون : يسرعون ويهرولون ، وأن منه قول مهلهل :


فجاءوا يهرعون وهم أسارى تقودهم على رغم الأنوف

قوله تعالى : ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين [ 37 \ 71 ] . قد قدمنا الآيات التي بمعناه في سورة " يس " ، في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] ، وفي سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله الآية [ 6 \ 116 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:54 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (452)
سُورَةُ ص
صـ 317 إلى صـ 324






قوله تعالى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم وجعلنا ذريته هم الباقين .

تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية ، وتفسيره في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم الآية [ 21 \ 76 ] .
قوله تعالى : إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون . [ ص: 317 ] قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية بكثرة في سورة " مريم " ، في الكلام على قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا الآية [ 19 \ 41 - 42 ] .
قوله تعالى : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم ، إلى قوله تعالى : وفديناه بذبح عظيم .

اعلم أولا : أن العلماء اختلفوا في هذا الغلام الذي أمر إبراهيم في المنام بذبحه ، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي ، ثم لما باشر عمل ذبحه امتثالا للأمر ، فداه الله بذبح عظيم ، هل هو إسماعيل أو إسحاق ؟ وقد وعدنا في سورة " الحجر " ، بأنا نوضح ذلك بالقرآن في سورة " الصافات " ، وهذا وقت إنجاز الوعد .

اعلم ، وفقني الله وإياك ، أن القرآن العظيم قد دل في موضعين ، على أن الذبيح هو إسماعيل لا إسحاق . أحدهما في " الصافات " ، والثاني في " هود " .

أما دلالة آيات " الصافات " على ذلك ، فهي واضحة جدا من سياق الآيات ، وإيضاح ذلك أنه تعالى قال عن نبيه إبراهيم وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين رب هب لي من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين [ 37 \ 99 - 110 ] ، قال بعد ذلك عاطفا على البشارة الأولى : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين [ 37 \ 112 ] ، فدل ذلك على أن البشارة الأولى شيء غير المبشر به في الثانية ; لأنه لا يجوز حمل كتاب الله على أن معناه : فبشرناه بإسحاق ، ثم بعد انتهاء قصة ذبحه يقول أيضا : وبشرناه بإسحاق ، فهو تكرار لا فائدة فيه ينزه عنه كلام الله ، وهو واضح في أن الغلام المبشر به أولا الذي فدي بالذبح العظيم ، هو إسماعيل ، وأن البشارة بإسحاق نص الله عليها مستقلة بعد ذلك .

وقد أوضحنا في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] ، أن المقرر في الأصول : أن [ ص: 318 ] النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذا احتمل التأسيس والتأكيد معا وجب حمله على التأسيس ، ولا يجوز حمله على التأكيد ، إلا لدليل يجب الرجوع إليه .

ومعلوم في اللغة العربية ، أن العطف يقتضي المغايرة ، فآية " الصافات " هذه ، دليل واضح للمنصف على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق ، ويستأنس لهذا بأن المواضع التي ذكر فيها إسحاق يقينا عبر عنه في كلها بالعلم لا الحلم ، وهذا الغلام الذبيح وصفه بالحلم لا العلم .

وأما الموضع الثاني الدال على ذلك الذي ذكرنا أنه في سورة " هود " ، فهو قوله تعالى : وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب [ 11 \ 71 ] ; لأن رسل الله من الملائكة بشرتها بإسحاق ، وأن إسحاق يلد يعقوب ، فكيف يعقل أن يؤمر إبراهيم بذبحه ، وهو صغير ، وهو عنده علم يقين بأنه يعيش حتى يلد يعقوب .

فهذه الآية أيضا دليل واضح على ما ذكرنا ، فلا ينبغي للمنصف الخلاف في ذلك بعد دلالة هذه الأدلة القرآنية على ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه

اعلم أن قصة الذبيح هذه تؤيد أحد القولين المشهورين عند أهل الأصول في حكمة التكليف ، هل هي للامتثال فقط ، أو هي مترددة بين الامتثال والابتلاء ؟ لأنه بين في هذه الآية الكريمة أن حكمة تكليفه لإبراهيم بذبحه ولده ليست هي امتثاله ذلك بالفعل ، لأنه لم يرد ذبحه كونا وقدرا ، وإنما حكمة تكليفه بذلك مجرد الابتلاء والاختبار ، هل يصمم على امتثال ذلك أو لا ؟ كما صرح بذلك في قوله تعالى : إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم [ 37 \ 106 - 107 ] ، فتبين بهذا أن التحقيق أن حكمة التكليف مترددة بين الامتثال والابتلاء . وإلى الخلاف المذكور أشار في " مراقي السعود " ، بقوله :


للامتثال كلف الرقيب فموجب تمكنا مصيب أو بينه والابتلا ترددا
شرط تمكن عليه انفقدا

وقد أشار بقوله : فموجب تمكنا مصيب ، وقوله : شرط تمكن عليه انفقدا ، إلى أن شرط التمكن من الفعل في التكليف ، مبني على الخلاف المذكور ، فمن قال : إن الحكمة في التكليف هي الامتثال فقط اشترط في التكليف التمكن من الفعل ; لأنه لا امتثال إلا مع [ ص: 319 ] التمكن من الفعل ، ومن قال إن الحكمة مترددة بين الامتثال والابتلاء ، لم يشترط من الفعل ; لأن حكمة الابتلاء تتحقق مع عدم التمكن من الفعل ، كما لا يخفى . ومن الفروع المبنية على هذا الخلاف أن تعلم المرأة بالعادة المطردة أنها تحيض بعد الظهر غدا من نهار رمضان ، ثم حصل لها الحيض بالفعل ، فتصبح مفطرة قبل إتيان الحيض ، فعلى أن حكمة التكليف الامتثال فقط ، فلا كفارة عليها ، ولها أن تفطر ; لأنها عالمة بأنها لا تتمكن من الامتثال ، وعلى أن الحكمة تارة تكون الامتثال ، وتارة تكون الابتلاء ، فإنها يجب عليها تبييت الصوم ، ولا يجوز لها الإفطار إلا بعد مجيء الحيض بالفعل ، وإن أفطرت قبله كفرت . وكذلك من أفطر لحمى تصيبه غدا ، وقد علم ذلك بالعادة ، فهو أيضا ينبني على الخلاف المذكور .قوله تعالى : ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين . قد قدمنا الكلام عليه في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] .قوله تعالى : ولقد مننا على موسى وهارون .

ذكر جل وعلا منته عليهما في غير هذا الموضع ; كقوله في " طه " : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى ولقد مننا عليك مرة أخرى [ 20 \ 36 - 37 ] ; لأن من سؤله الذي أوتيه إجابة دعوته في رسالة أخيه هارون معه ، ومعلوم أن الرسالة من أعظم المنن .قوله تعالى : ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم . قوله : وقومهما ، يعني بني إسرائيل .

والمعنى : أنه نجى موسى وهارون وقومهما من الكرب العظيم ، وهو ما كان يسومهم فرعون وقومه من العذاب ، كذبح الذكور من أبنائهم وإهانة الإناث ، وكيفية إنجائه لهم مبينة في انفلاق البحر لهم ، حتى خاضوه سالمين ، وإغراق فرعون وقومه وهم ينظرون .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] ، وقدمنا تفسير الكرب العظيم في سورة " الأنبياء " ، في الكلام على قوله تعالى في قصة نوح : فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم [ 21 \ 76 ] . [ ص: 320 ] قوله تعالى : ونصرناهم فكانوا هم الغالبين . بين جل وعلا أنه نصر موسى وهارون وقومهما على فرعون وجنوده ، فكانوا هم الغالبين ، أي : وفرعون وجنوده هم المغلوبون ، وذلك بأن الله أهلكهم جميعا بالغرق ، وأنجى موسى وهارون وقومهما من ذلك الهلاك ، وفي ذلك نصر عظيم لهم عليهم ، وقد بين جل وعلا ذلك في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون [ 28 \ 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .قوله تعالى : وآتيناهما الكتاب المستبين . الكتاب هو التوراة ، كما ذكره في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، وقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء [ 6 \ 154 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون [ 23 \ 49 ] ، وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [ 21 \ 48 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا بعض الكلام على ذلك في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان الآية [ 2 \ 53 ] .قوله تعالى : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " ، في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] . وفي سورة " المائدة " ، في الكلام على قوله تعالى : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا [ 5 \ 32 ] ، وغير ذلك من المواضع .قوله تعالى : فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون . تسبيح يونس هذا ، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام المذكور في " الصافات " ، جاء موضحا في " الأنبياء " ، في قوله تعالى : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [ 21 \ 87 - 88 ] .
[ ص: 321 ] وقد قدمنا تفسير هذه الآية وإيضاحها في سورة " الأنبياء " .



قوله تعالى : فآمنوا فمتعناهم إلى حين . ما ذكره في هذه الآية الكريمة من إيمان قوم يونس وأن الله متعهم إلى حين ، ذكره أيضا في سورة " يونس " ، في قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين [ 10 \ 98 ] .
قوله تعالى : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون ، إلى قوله : ما لكم كيف تحكمون . قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " النحل " ، في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون ، إلى قوله تعالى : ساء ما يحكمون [ 16 \ 57 - 59 ] .
قوله تعالى : وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون . قد قدمنا الكلام على ما في معناه من الآيات في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم الآية [ 6 \ 157 ] .
قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون . هذه الآية الكريمة تدل على أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وأتباعهم منصورون دائما على الأعداء بالحجة والبيان ، ومن أمر منهم بالجهاد منصور أيضا بالسيف والسنان ، والآيات الدالة على هذا كثيرة ; كقوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [ 40 \ 51 ] ، وقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، [ ص: 322 ] وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] .

وقد قدمنا إيضاح هذا بالآيات القرآنية في سورة " آل عمران " ، في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 146 ] ، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في آخر سورة " المجادلة " .
قوله تعالى : أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " ، في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] . وذكرنا بعض الكلام على ذلك في سورة " يونس " ، في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به الآية [ 10 \ 15 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى :

وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين . ختم هذه السورة الكريمة بالسلام على عباده المرسلين ، ولا شك أنهم من عباده الذين اصطفى مع ثنائه على نفسه ، بقوله تعالى : والحمد لله رب العالمين [ 37 \ 182 ] ، معلما خلقه أن يثنوا عليه بذلك ، وما ذكره هنا من حمده هذا الحمد العظيم ، والسلام على رسله الكرام ، ذكره في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى في سورة " النمل " : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى الآية [ 27 \ 59 ] ، ويشبه ذلك قوله تعالى : دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين [ 10 \ 10 ] .
[ ص: 323 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ ص

قَوْلُهُ تَعَالَى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ . قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ : ص بِالسُّكُونِ مِنْهُمُ الْقُرَّاءُ السَّبْعَةُ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ ص مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ كَـ ( ص ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : المص ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : كهيعص [ 19 \ 1 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا .

وَبِذَلِكَ التَّحْقِيقِ الْمَذْكُورِ ، تَعْلَمُ أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ غَيْرِ مُنَوَّنَةٍ ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِكَسْرِ الدَّالِّ مُنَوَّنَةً ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الدَّالِّ ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِضَمِّهَا غَيْرَ مُنَوَّنَةٍ ، كُلُّهَا قِرَاءَاتٌ شَاذَّةٌ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا .

وَكَذَلِكَ تَفَاسِيرُ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَاتِ ، فَإِنَّهَا لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهَا أَيْضًا .

كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ صَادِ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِعْلُ أَمْرٍ مِنْ صَادَى يُصَادِي مُصَادَاةً إِذَا عَارَضَ ، وَمِنْهُ الصَّدَى . وَهُوَ مَا يُعَارِضُ الصَّوْتَ فِي الْأَمَاكِنِ الصُّلْبَةِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْأَجْسَامِ ، أَيْ عَارِضْ بِعَمَلِكَ الْقُرْآنَ وَقَابِلْهُ بِهِ ، يَعْنِي امْتَثِلْ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنِبْ نَوَاهِيَهُ وَاعْتَقِدْ عَقَائِدَهُ وَاعْتَبِرْ بِأَمْثَالِهِ وَاتَّعَظْ بِمَوَاعِظِهِ .

وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا : أَنَّ ص بِمَعْنَى حَادِثٍ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ .

وَقِرَاءَةُ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ : مَرْوِيَّةٌ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَالْحَسَنِ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي السِّمَالِ وَابْنِ أَبِي عَيْلَةَ وَنَصْرِ بْنِ عَاصِمٍ .

وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ ، أَنَّ كَسْرَ الدَّالِّ سَبَبُهُ التَّخْفِيفُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَهُوَ حَرْفُ هِجَاءٍ لَا فِعْلُ أَمْرٍ مَنْ صَادَى .

وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ ، أَنَّهُ قَرَأَ ص بِكَسْرِ الدَّالِّ مَعَ التَّنْوِينِ عَلَى أَنَّهُ [ ص: 324 ] مَجْرُورٌ بِحَرْفِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ ، وَهُوَ كَمَا تَرَى ، فَسُقُوطُهُ ظَاهِرٌ .

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ ص بِفَتْحِ الدَّالِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، فَهِيَ قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ وَالتَّفَاسِيرُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهَا سَاقِطَةٌ .

كَقَوْلِ مَنْ قَالَ : صَادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ النَّاسِ وَاسْتَمَالَهُم ْ حَتَّى آمَنُوا بِهِ .

وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ .

أَيِ الْزَمُوا صَادَ ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ اتْلُ ، وَقَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ مَنْصُوبٌ بِنَزْعِ الْخَافِضِ ، الَّذِي هُوَ حَرْفُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفُ .

وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ ، أَنَّ الدَّالَّ فُتِحَتْ تَخْفِيفًا لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ ، وَاخْتِيرَ فِيهَا الْفَتْحُ إِتْبَاعًا لِلصَّادِّ ، وَلِأَنَّ الْفَتْحَ أَخَفُّ الْحَرَكَاتِ ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ الْمَذْكُورَةُ قِرَاءَةُ عِيسَى بْنِ عُمَرَ ، وَتُرْوَى عَنْ مَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي عَمْرٍو .

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ صَادُ بِضَمِّ الدَّالِّ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ ، عَلَى أَنَّهُ عَلَمٌ لِلسُّورَةِ ، وَأَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ ، وَالتَّقْدِيرُ هَذِهِ صَادُ وَأَنَّهُ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ ; لِأَنَّ السُّورَةَ مُؤَنَّثَةٌ لَفْظًا .

وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيِّ وَابْنِ السَّمَيْقَعِ وَهَارُونَ الْأَعْوَرِ .

وَمَنْ قَرَأَ صَادَ بِفَتْحِ الدَّالِّ قَرَأَ : ق ، وَن كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَرَأَهَا ص بِضَمِّ الدَّالِّ فَإِنَّهُ قَرَأَ ق : وَ ن بِضَمِّ الْفَاءِ وَالنُّونِ .

وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ ، وَجَمِيعَ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا ، كُلُّهَا سَاقِطَةٌ ، لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا .

وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَجْلِ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ .

وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّحْقِيقَ هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ ص مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ الَّتِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا هِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ ص مِفْتَاحُ بَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالصَّبُورِ وَالصَّمَدِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-17, 10:57 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (453)
سُورَةُ ص
صـ 325 إلى صـ 332



وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ : صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ [ ص: 325 ] الْأَقْوَالِ .

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي أَوَّلِ سُورَةِ هُودٍ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ، قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْقُرْآنِ مَصْدَرٌ ، زِيدَ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ . كَمَا زِيدَتَا فِي الطُّغْيَانِ ، وَالرُّجْحَانِ ، وَالْكُفْرَانِ ، وَالْخُسْرَانِ ، وَأَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ أُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ .

وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، يَقُولُونَ : إِنَّ هَذَا الْوَصْفَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ هُوَ اسْمُ الْمَفْعُولِ .

وَعَلَيْهِ فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْمَقْرُوءِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ : قَرَأْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتُهُ وَأَبْرَزْتُهُ ، وَمِنْهُ قَرَأَتِ النَّاقَةُ السَّلَا وَالْجَنِينَ إِذَا أَظْهَرَتْهُ وَأَبْرَزَتْهُ مِنْ بَطْنِهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ :



تُرِيكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى خَلَاءٍ وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونُ الْكَاشِحِينَا ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ
هَجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جَنِينَا

عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ فِي الْبَيْتِ .

وَمَعْنَى الْقُرْآنِ عَلَى هَذَا الْمَقْرُوءُ الَّذِي يُظْهِرُهُ الْقَارِئُ ، وَيُبْرِزُهُ مِنْ فِيهِ ، بِعِبَارَاتِهِ الْوَاضِحَةِ .

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ الْوَصْفَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَصْدَرِ ، هُوَ اسْمُ الْفَاعِلِ .

وَعَلَيْهِ فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقَارِئِ ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ قَرَأْتُ ، بِمَعْنَى جَمَعْتُ .

وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ : قَرَأْتُ الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ أَيْ جَمَعْتُهُ فِيهِ .

وَعَلَى هَذَا فَالْقُرْآنُ بِمَعْنَى الْقَارِئِ أَيِ الْجَامِعِ لِأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهِ جَمِيعَ مَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : ذِي الذِّكْرِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ .

أَحَدُهُمَا : أَنَّ الذِّكْرَ بِمَعْنَى الشَّرَفِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ فُلَانٌ مَذْكُورٌ يَعْنُونَ لَهُ ذِكْرٌ أَيْ شَرَفٌ .

[ ص: 326 ] وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [ 43 \ 44 ] أَيْ شَرَفٌ لَكُمْ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .

الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الذِّكْرَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى التَّذْكِيرِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فِيهِ التَّذْكِيرُ وَالْمَوَاعِظُ ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ .
تنبيه

اعلم أن العلماء اختلفوا في تعيين الشيء الذي أقسم الله عليه في قوله تعالى : والقرآن ذي الذكر ، فقال بعضهم : إن المقسم عليه مذكور ، والذين قالوا إنه مذكور اختلفوا في تعيينه ، وأقوالهم في ذلك كلها ظاهرة السقوط .

فمنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله تعالى إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] .

ومنهم من قال هو قوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] .

ومنهم من قال هو قوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] كقوله : تالله إن كنا لفي ضلال مبين . وقوله : والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 1 - 4 ] .

ومنهم من قال هو قوله : كم أهلكنا من قبلهم ، ومن قال هذا قال : إن الأصل لكم أهلكنا ولما طال الكلام ، حذفت لام القسم ، فقال : كم أهلكنا بدون لام .

قالوا : ونظير ذلك قوله تعالى : والشمس وضحاها [ 91 \ 1 ] لما طال الكلام بين القسم والمقسم عليه ، الذي هو قد أفلح من زكاها ، حذفت منه لام القسم .

ومنهم من قال : إن المقسم عليه هو قوله : ص قالوا معنى ص صدق رسول الله والقرآن ذي الذكر . وعلى هذا فالمقسم عليه هو صدقه صلى الله عليه وسلم .

ومنهم من قال المعنى : هذه ص أي السورة التي أعجزت العرب ، والقرآن ذي الذكر ، إلى غير ذلك من الأقوال التي لا يخفى سقوطها .

وقال بعض العلماء إن المقسم عليه محذوف ، واختلفوا في تقديره ، فقال الزمخشري [ ص: 327 ] في الكشاف ، التقدير والقرآن ذي الذكر . إنه لمعجز ، وقدره ابن عطية وغيره فقال : والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقوله الكفار ، إلى غير ذلك من الأقوال .

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر صوابه بدليل استقراء القرآن : أن جواب القسم محذوف وأن تقديره والقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يقوله الكفار ، وأن قولهم : المقسم على نفيه شامل لثلاثة أشياء متلازمة .

الأول : منها أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقا وأن الأمر ليس كما يقول الكفار في قوله تعالى عنهم : ويقول الذين كفروا لست مرسلا [ 13 \ 43 ] .

والثاني : أن الإله المعبود جل وعلا واحد ، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] .

والثالث : أن الله جل وعلا يبعث من يموت ، وأن الأمر ليس كما يقوله الكفار في قوله تعالى عنهم : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] وقوله : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا [ 64 \ 7 ] وقوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة [ 34 \ 3 ] .

أما الدليل من القرآن على أن المقسم عليه محذوف فهو قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة وشقاق [ 38 \ 2 ] ; لأن الإضراب بقوله بل ، دليل واضح على المقسم عليه المحذوف . أي ما الأمر كما يقوله الذين كفروا ، بل الذين كفروا في عزة ، أي في حمية وأنفة واستكبار عن الحق ، وشقاق ، أي مخالفة ومعاندة .

وأما دلالة استقراء القرآن على أن المنفي المحذوف شامل للأمور الثلاثة المذكورة ، فلدلالة آيات كثيرة : أما صحة رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكون الإله المعبود واحدا لا شريك له فقد أشار لهما هنا .

أما كون الرسول مرسلا حقا ففي قوله تعالى هنا : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب [ 38 \ 4 ] يعني أي : لا وجه للعجب المذكور . لأن يجيء المنذر الكائن منهم .

لا شك في أنه بإرسال من الله حقا .

[ ص: 328 ] وقولهم : هذا ساحر كذاب إنما ذكره تعالى إنكارا عليهم وتكذيبا لهم . فعرف بذلك أن في ضمن المعنى والقرآن ذي الذكر أنك مرسل حقا ولو عجبوا من مجيئك منذرا لهم ، وزعموا أنك ساحر كذاب ، أي فهم الذين عجبوا من الحق الذي لا شك فيه ، وزعموا أن خاتم الرسل ، وأكرمهم على الله ، ساحر كذاب .

وأما كون الإله المعبود واحدا لا شريك له ، ففي قوله هنا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] ; لأن الهمزة في قوله : أجعل للإنكار المشتمل على معنى النفي ، فهي تدل على نفي سبب تعجبهم من قوله صلى الله عليه وسلم : إن الإله المعبود واحد .

وهذان الأمران قد دلت آيات أخر من القرآن العظيم ، على أن الله أقسم على تكذيبهم فيها وإثباتها بالقسم صريحا كقوله تعالى مقسما على أن الرسول مرسل حقا يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين [ 36 \ 1 - 3 ] فهي توضح معنى ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين .

وقد جاء تأكيد صحة تلك الرسالة في آيات كثيرة كقوله تعالى : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين [ 2 \ 252 ] ، وأما كونه تعالى هو المعبود الحق لا شريك له ، فقد أقسم تعالى عليه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى والصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا إن إلهكم لواحد [ 37 \ 1 - 4 ] ونحو ذلك من الآيات فدل ذلك على أن المعنى تضمن ما ذكر أي والقرآن ذي الذكر ، إن إلهكم لواحد كما أشار إليه بقوله : أجعل الآلهة الآية [ 38 \ 5 ] .

وأما كون البعث حقا ، فقد أقسم عليه إقساما صحيحا صريحا ، في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : قل بلى وربي لتبعثن [ 64 \ 7 ] . وقوله تعالى : قل بلى وربي لتأتينكم [ 64 \ 3 ] أي الساعة . وقوله : قل إي وربي إنه لحق . [ 10 \ 53 ]

وأقسم على اثنين من الثلاثة المذكورة وحذف المقسم عليه الذي هو الاثنان المذكوران ، وهي كون الرسول مرسلا ، والبعث حقا ، وأشار إلى ذلك إشارة واضحة ، وذلك في قوله تعالى : ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد [ 50 \ 1 - 3 ] فاتضح [ ص: 329 ] بذلك أن المعنى : ق والقرآن المجيد ، إن المنذر الكائن منكم الذي عجبتم من مجيئه لكم منذرا رسول منذر لكم من الله حقا ، وإن البعث الذي أنكرتموه واستبعدتموه غاية الإنكار ، والاستبعاد ، في قوله تعالى عنكم : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد أي : ذلك الرجع الذي هو البعث رجع بعيد في زعمكم واقع لا محالة ، وإنه حق لا شك فيه ، كما أشار له في قوله تعالى : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ إذ المعنى : أن ما أكلته الأرض من لحومهم ، ومزقته من أجسامهم وعظامهم ، يعلمه جل وعلا ، لا يخفى عليه منه شيء فهو قادر على رده كما كان .

وإحياء تلك الأجساد البالية ، والشعور المتمزقة ، والعظام النخرة كما قدمنا موضحا بالآيات القرآنية ، في سورة يس في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] وكونه صلى الله عليه وسلم مرسل من الله حقا ، يستلزم استلزاما لا شك فيه ، أن القرآن العظيم منزل من الله حقا ، وأنه ليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين .

ولذلك أقسم تعالى ، في مواضع كثيرة ، على أن القرآن أيضا منزل من الله ; كقوله تعالى في أول سورة الدخان : حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 44 \ 1 - 3 ] ، وقوله تعالى في أول سورة الزخرف : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم [ 43 \ 1 - 4 ] .
قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة وشقاق . قد قدمنا الكلام قريبا على الإضراب بـ " بل " في هذه الآية .

وقوله تعالى هنا : في عزة أي : حمية واستكبار عند قبول الحق ، وقد بين جل وعلا في سورة البقرة أن من أسباب أخذ العزة المذكورة بالإثم للكفار أمرهم بتقوى الله ، وبين أن تلك العزة التي هي الحمية والاستكبار عن قبول الحق من أسباب دخولهم جهنم ، وذلك في قوله عن بعض الكفار الذين يظهرون غير ما يبطنون : وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد [ 2 \ 206 ] .

والظاهر أن وجه إطلاق العزة على الحمية والاستكبار : أن من اتصف بذلك كأنه [ ص: 330 ] ينزل نفسه منزلة الغالب القاهر ، وإن كان الأمر ليس كذلك ، لأن أصل العزة في لغة العرب الغلبة والقهر ، ومنه قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين الآية [ 63 \ 8 ] ، والعرب يقولون : من عزيز ، يعنون من غلب استلب ، ومنه قول الخنساء :



كأن لم يكونوا حمى يحتشى إذ الناس إذ ذاك من عزيزا

وقوله تعالى عن الخصم الذين تسوروا على داود : وعزني في الخطاب [ 38 \ 23 ] أي غلبني ، وقهرني في الخصومة .

والدليل من القرآن على أن العزة التي أثبتها الله للكفار في قوله : بل الذين كفروا في عزة الآية . وقوله : أخذته العزة بالإثم الآية [ 2 \ 206 ] ، ليست هي العزة التي يراد بها القهر والغلبة بالفعل ، أن الله خص بهذه العزة المؤمنين دون الكافرين والمنافقين ، وذلك في قوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ 63 \ 8 ] .

ولذلك فسرها علماء التفسير ، بأنها هي الحمية والاستكبار ، عن قبول الحق .

والشقاق : هي المخالفة ، والمعاندة كما قال تعالى : وإن تولوا فإنما هم في شقاق الآية [ 2 \ 137 ] . قال بعض العلماء : وأصله من الشق الذي هو الجانب ، لأن المخالف المعاند ، يكون في الشق أي في الجانب الذي ليس فيه من هو مخالف له ومعاند .

وقال بعض أهل العلم : أصل الشقاق من المشقة ; لأن المخالف المعاند يجتهد في إيصال المشقة إلى من هو مخالف معاند .

وقال بعضهم : أصل الشقاق من شق العصا وهو الخلاف والتفرق .
قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص . كم هنا هي الخبرية ، ومعناها الإخبار عن عدد كثير ، وهي في محل نصب ، على أنها مفعول به لأهلكنا وصيغة الجمع في أهلكنا للتعظيم ، ومن في قوله : من قرن ، مميزة لكم ، والقرن يطلق على الأمة وعلى بعض من الزمن ، أشهر الأقوال فيه أنه مائة سنة ، والمعنى أهلكنا كثيرا من الأمم السالفة من أجل الكفر ، وتكذيب الرسل [ ص: 331 ] فعليكم أن تحذروا يا كفار مكة من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والكفر بما جاء به لئلا نهلككم بسبب ذلك كما أهلكنا به القرون الكثيرة الماضية .

وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :

الأولى : أنه أهلك كثيرا من القرون الماضية ، يهدد كفار مكة بذلك .

الثانية : أنهم نادوا أي عند معاينة أوائل الهلاك .

الثالثة : أن ذلك الوقت الذي هو وقت معاينة العذاب ليس وقت نداء ، أي فهو وقت لا ملجأ فيه ، ولا مفر من الهلاك بعد معاينته .

وقد ذكر جل وعلا هذه المسائل الثلاث المذكورة هنا موضحة في آيات كثيرة من كتابه .

أما المسألة الأولى وهي كونه أهلك كثيرا من الأمم ، فقد ذكرها في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح [ 17 \ 17 ] وقوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة الآية [ 22 \ 45 ] . وقوله تعالى : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله الآية [ 14 \ 9 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد ذكر جل وعلا في آيات كثيرة أن سبب إهلاك تلك الأمم الكفر بالله وتكذيب رسله كقوله في هذه الآية الأخيرة مبينا سبب إهلاك تلك الأمم التي صرح بأنها : لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب [ 14 \ 9 ] .

وقد قدمنا في الكلام على هذه الآية من سورة إبراهيم ، أقوال أهل العلم في قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم وبينا دلالة القرآن على بعضها ، وكقوله تعالى وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا [ 65 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية إلى قوله : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا [ 25 \ 37 - 39 ] وقوله [ ص: 332 ] تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] . وقوله تعالى كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد بين تعالى أن المراد بذكر إهلاك الأمم الماضية بسبب الكفر وتكذيب الرسل تهديد كفار مكة ، وتخويفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك إن تمادوا على الكفر وتكذيبه صلى الله عليه وسلم .

ذكر تعالى ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ 47 \ 10 ] لأن قوله تعالى : وللكافرين أمثالها تهديد عظيم بذلك .

وقوله تعالى : جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 82 - 83 ] فقوله : وما هي من الظالمين ببعيد فيه تهديد عظيم لمن يعمل عمل قوم لوط من الكفر وتكذيب نبيهم ، وفواحشهم المعروفة ، وقد وبخ تعالى من لم يعتبر بهم ، ولم يحذر أن ينزل به مثل ما نزل بهم ، كقوله في قوم لوط : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] وقوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا [ 25 \ 40 ] .

وقوله فيهم : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] . وقوله فيهم : وإنها لبسبيل مقيم . وقوله فيهم وفي قوم شعيب وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وأما المسألة الثانية : وهي نداؤهم إذا أحسوا بأوائل العذاب ; فقد ذكر تعالى في آيات من كتابه نوعين من أنواع ذلك النداء :

أحدهما : نداؤهم باعترافهم أنهم كانوا ظالمين ، وذلك في قوله تعالى : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون إلى قوله قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 11 - 15 ] وقوله تعالى : وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين [ 7 \ 4 - 5 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-18, 06:15 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (454)
سُورَةُ ص
صـ 333 إلى صـ 340





الثاني : من نوعي النداء المذكور نداؤهم بالإيمان بالله مستغيثين من ذلك العذاب [ ص: 333 ] الذي أحسوا أوائله ، كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 84 ، 3 ] وهذا النوع الأخير هو الأنسب والأليق بالمقام ، لدلالة قوله : ولات حين مناص عليه .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولات حين مناص الذي هو المسألة الثالثة ، معناه : ليس الحين الذي نادوا فيه ، وهو وقت معاينة العذاب ، حين مناص ، أي ليس حين فرار ولا ملجأ من ذلك العذاب الذي عاينوه .

فقوله : ولات هي لا النافية زيدت بعدها تاء التأنيث اللفظية كما زيدت في ثم ، فقيل فيها ثمت ، وفي رب ، فقيل فيها ربت .

وأشهر أقوال النحويين فيها ، أنها تعمل عمل ليس وأنها لا تعمل إلا في الحين خاصة ، أو في لفظ الحين ونحوه من الأزمنة ، كالساعة والأوان ، وأنها لا بد أن يحذف اسمها أو خبرها والأكثر حذف المرفوع منهما وإثبات المنصوب ، وربما عكس ، وهذا قول سيبويه وأشار إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :



في النكرات أعملت كليس " لا " وقد تلي " لات " و " إن " ذا العملا وما للات في سوى حين عمل
وحذف ذي الرفع فشا والعكس قل

والمناص مفعل من النوص ، والعرب تقول : ناصه ينوصه إذا فاته وعجز عن إدراكه ، ويطلق المناص على التأخر لأن من تأخر ومال إلى ملجأ ينقذه مما كان يخافه فقد وجد المناص .

والمناص والملجأ والمفر والموئل معناها واحد ، والعرب تقول : استناص إذا طلب المناص ، أي السلامة والمفر مما يخافه ، ومنه قول حارثة بن بدر :



غمر الجراء إذا قصرت عنانه بيدي استناص ورام جري المسحل


والأظهر أن إطلاق النوص على الفوت والتقدم ، وإطلاقه على التأخر والروغان كلاهما راجع إلى شيء واحد ; لأن المناص مصدر ميمي معناه المنطبق على جزئياته ، أن يكون صاحبه في كرب وضيق ، فيعمل عملا ، يكون به خلاصه ونجاته من ذلك .

[ ص: 334 ] فتارة يكون ذلك العمل بالجري والإسراع أمام من يريده بالسوء ، وتارة يكون بالتأخر والروغان حتى ينجو من ذلك .

والعرب تطلق النوص على التأخر . والبوص بالباء الموحدة التحتية على التقدم ، ومنه قول امرئ القيس :



أمن ذكر سلمى إذ نأتك تنوص فتقصر عنها خطوة وتبوص


وأصوب الأقوال في لات أن التاء منفصلة عن حين وأنها تعمل عمل ليس خلافا لمن قال : إنها تعمل عمل إن ، ولمن قال : إن التاء متصلة بحين وأنه رآها في الإمام ، وهو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه متصلة بها .

وعلى قول الجمهور منهم القراء السبعة ، أن التاء ليست موصولة بحين ، فالوقف على لات بالتاء عند جميعهم ، إلا الكسائي فإنه يقف عليها بالهاء .

أما قراءة كسر التاء وضمها فكلتاهما شاذة لا تجوز القراءة بها ، وكذلك قراءة كسر النون من حين ، فهي شاذة لا تجوز ، مع أن تخريج المعنى عليها مشكل .

وتعسف له الزمخشري وجها لا يخفى سقوطه ، ورده عليه أبو حيان في البحر المحيط ، واختار أبو حيان أن تخريج قراءة الكسر أن حين مجرورة بمن محذوفة .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فنادوا أصل النداء : رفع الصوت ، والعرب تقول : فلان أندى صوتا من فلان ، أي أرفع ، ومنه قوله :



فقلت ادعي وأدعو إن أندا لصوت أن ينادي داعيان


وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الأمم الماضية المهلكة ينادون عند معاينة العذاب ، وأن ذلك الوقت ليس وقت نداء إذ لا ملجأ فيه ولا مفر ولا مناص . ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى : فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 84 - 85 ] . وقوله تعالى : فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 12 - 15 ] إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 335 ] وقد بين تعالى وقوع مثل ذلك في يوم القيامة في آيات من كتابه كقوله تعالى : استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير [ 42 \ 47 ] . وقوله تعالى : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر [ 75 \ 7 - 11 ] والوزر : الملجأ ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :



والناس إلب علينا فيك ليس لنا إلا الرماح وأطراف القنا وزر


وكقوله تعالى : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 58 ] والموئل اسم مكان من وأل يئل إذا وجد ملجأ يعتصم به ، ومنه قول الأعشى ميمون بن قيس :



وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل


أي : ثم ما ينجو .
قوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار قريش عجبوا من أجل أن جاءهم رسول منذر منهم ، وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من عجبهم المذكور ، ذكره في غير هذا الموضع وأنكره عليهم وأوضح تعالى سببه ورده عليهم في آيات أخر ، فقال في عجبهم المذكور ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 50 \ 1 - 2 ] .

وقال تعالى في إنكاره عليهم في أول سورة يونس الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 1 - 2 ] وذكر مثل عجبهم المذكور في سورة الأعراف عن قوم نوح وقوم هود ، فقال عن نوح مخاطبا لقومه : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون [ 7 \ 63 ] .

وقال عن هود مخاطبا لعاد : أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح الآية [ 7 \ 69 ] ، وبين أن سبب عجبهم من كون المنذر منهم أنه بشر مثلهم زاعمين أن الله لا يرسل إليهم أحدا من جنسهم . وأنه لو أراد أن يرسل إليهم أحدا لأرسل إليهم ملكا لأنه ليس بشرا مثلهم وأنه لا يأكل [ ص: 336 ] ولا يشرب ولا يمشي في الأسواق .

والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 94 - 95 ] وقوله تعالى : أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [ 23 \ 47 ] وقوله تعالى : وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون [ 23 \ 33 - 34 ] . وقوله تعالى : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا الآية [ 64 \ 6 ] . وقوله تعالى : كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر [ 54 \ 23 - 24 ] . وقوله تعالى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا الآية [ 14 \ 10 ] . وقوله تعالى : وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون [ 6 \ 8 - 9 ] وقوله تعالى : فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون [ 41 \ 13 - 14 ] وقوله تعالى : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين [ 23 \ 24 ] وقوله تعالى : وقالوا ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين [ 15 \ 6 - 8 ] . وقوله تعالى : أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا [ 25 \ 7 ] وقوله تعالى : وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين الآية [ 25 \ 21 - 22 ] . وقوله تعالى عن فرعون مع موسى : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين [ 43 \ 53 ] .

وقد رد الله تعالى على الكفار عجبهم من إرسال الرسل من البشر في آيات من كتابه ، [ ص: 337 ] كقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ 25 \ 20 ] وقوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] وقوله تعالى : وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين [ 21 \ 7 - 8 ] وقوله تعالى : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] أي بالرسالة والوحي ولو كان بشرا مثلكم إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم . قد قدمنا الكلام عليه في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها [ 25 \ 42 ] .
قوله تعالى : أؤنزل عليه الذكر من بيننا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن كفار مكة ، أنكروا أن الله خص نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه وحده ، ولم ينزله على أحد آخر منهم ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، جاء في آيات أخر ، مع الرد على الكفار في إنكارهم خصوصه صلى الله عليه وسلم بالوحي ، كقوله تعالى عنهم : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] يعنون بالقريتين مكة والطائف ، وبالرجلين من القريتين الوليد بن المغيرة في مكة ، وعروة بن مسعود في الطائف زاعمين أنهما أحق بالنبوة منه .

وقد رد جل وعلا ذلك عليهم في قوله تعالى : أهم يقسمون رحمة ربك [ 43 \ 32 ] لأن الهمزة في قوله : أهم يقسمون ، للإنكار المشتمل على معنى النفي ، وكقوله تعالى : قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] .

وقد رد الله تعالى ذلك عليهم في قوله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون [ 6 \ 124 ] وأشار إلى رد ذلك عليهم في آية ص هذه في قوله : بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما الآية [ 38 \ 8 - 10 ] . [ ص: 338 ] لأنه لا يجعل الرسالة حيث يشاء ، ويخص بها من يشاء ، إلا من عنده خزائن الرحمة . وله ملك السماوات والأرض .

وقوله تعالى : أؤنزل عليه الذكر من بيننا قد بين في موضع آخر أن ثمود قالوا مثله لنبي الله صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وذلك في قوله تعالى عنهم : أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر [ 54 \ 25 ] وقد رد الله تعالى عليهم ذلك في قوله : سيعلمون غدا من الكذاب الأشر [ 54 \ 26 ] .
قوله تعالى : أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما . قد قدمنا بعض الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] .
قوله تعالى : كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح الآية [ 22 \ 42 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب . وقد قدمنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ما عندي ما تستعجلون به . [ 6 \ 57 ] وفي سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به الآية [ 10 \ 15 ] وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة الآية [ 13 \ 6 ] . وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالعذاب الآية [ 22 \ 47 ] .

وقد قدمنا أن القط ، النصيب من الشيء ، أي عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدنا به .

وأن أصل القط كتاب الجائزة ; لأن الملك يكتب فيه النصيب الذي يعطيه لذلك الإنسان ، وجمعه قطوط ، ومنه قول الأعشى :

[ ص: 339 ]

ولا الملك النعمان حين لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق

وقوله : ويأفق أي يفضل بعضهم على بعض في العطاء المكتوب في القطوط .
قوله تعالى : إنا سخرنا الجبال معه إلى قوله : أواب . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنبياء ، في الكلام على قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير الآية [ 21 \ 79 ] .
قوله تعالى : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك . قد قدمنا الكلام على مثل هذه الآية من الآيات القرآنية التي يفهم منها صدور بعض الشيء ، من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، وبينا كلام أهل الأصول في ذلك في سورة طه ، في الكلام على قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] .

واعلم أن ما يذكره كثير من المفسرين في تفسير هذه الآية الكريمة ، مما لا يليق بمنصب داود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، كله راجع إلى الإسرائيليات ، فلا ثقة به ، ولا معول عليه ، وما جاء منه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح منه شيء .
قوله تعالى : ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله . قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إنا جعلناك خليفة في الأرض ، قد بينا الحكم الذي دل عليه ، في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية [ 2 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله قد أمر نبيه داود فيه ، بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى ، وأن اتباع الهوى ، علة للضلال عن سبيل الله ، لأن الفاء في قوله فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية .

وقد تقرر في الأصول ، في مسلك الإيماء والتنبيه ، أن الفاء من حروف التعليل كقوله : سهى فسجد ، وسرق فقطعت يده ، أو لعلة السهو في الأول ، ولعلة السرقة في الثاني ، وأتبع ذلك بالتهديد لمن اتبع الهوى ، فأضله ربنا عن سبيل الله ، في قوله تعالى بعده يليه : إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب [ 38 \ 26 ] .

[ ص: 340 ] ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق ، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله ، ولكن الله تعالى ، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ، وينهاهم ليشرع لأممهم .

ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم ، بمثل ما أمر به داود ، ونهاه أيضا عن مثل ذلك ، في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط [ 15 \ 42 ] . وقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك [ 15 \ 49 ] وكقوله تعالى : ولا تطع الكافرين والمنافقين [ 33 \ 48 ] وقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] وقوله تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه الآية [ 18 \ 28 ] .

وقد قدمنا الكلام على هذا في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] .

وبينا أن من أصرح الأدلة القرآنية الدالة على أن النبي يخاطب بخطاب ، والمراد بذلك الخطاب غيره يقينا قوله تعالى : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما الآية [ 17 \ 23 ] ، ومن المعلوم أن أباه صلى الله عليه وسلم توفي قبل ولادته ، وأن أمه ماتت وهو صغير ، ومع ذلك فإن الله يخاطبه بقوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ومعلوم أنه لا يبلغ عنده الكبر أحدهما ، ولا كلاهما لأنهما قد ماتا قبل ذلك بزمان .

فتبين أن أمره تعالى لنبيه ونهيه له في قوله فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة الآية ، إنما يراد به التشريع على لسانه لأمته ، ولا يراد به هو نفسه صلى الله عليه وسلم ، وقد قدمنا هناك أن من أمثال العرب . إياك أعني واسمعي يا جارة ، وذكرنا في ذلك رجز سهل بن مالك الفزاري الذي خاطب به امرأة ، وهو يقصد أخرى وهي أخت حارثة بن لأم الطائي وهو قوله :



يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره أصبح يهوى حرة معطاره
إياك أعني واسمعي يا جاره
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-18, 06:18 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (455)
سُورَةُ ص
صـ 341 إلى صـ 348




وذكرنا هناك الرجز الذي أجابته به المرأة ، وقول بعض أهل العلم : إن الخطاب في [ ص: 341 ] قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية ، هو الخطاب بصيغة المفرد ، الذي يراد به عموم كل من يصح خطابه . كقول طرفة بن العبد في معلقته :



ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود


أي ستبدي لك ويأتيك أيها الإنسان الذي يصح خطابك ، وعلى هذا فلا دليل في الآية ، غير صحيح ، وفي سياق الآيات قرينة قرآنية واضحة دالة على أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم . وعليه فالاستدلال بالآية ، استدلال قرآني صحيح ، والقرينة القرآنية المذكورة ، هي أنه تعالى قال في تلك الأوامر والنواهي التي خاطب بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، التي أولها : وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر الآية . ما هو صريح ، في أن المخاطب بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لا عموم كل من يصح منه الخطاب ، وذلك في قوله تعالى : ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا [ 17 \ 39 ] .
قوله تعالى : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا . قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ 15 \ 85 ] وفي آخر سورة قد أفلح المؤمنون . في الكلام على قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا الآية [ 23 \ 115 ] .
قوله تعالى : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار . الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي ، ذلك أي خلقنا السماوات والأرض باطلا هو ظن الذين كفروا بنا ، والنفي في قوله ما خلقنا ، منصب على الحال لا على عاملها الذي هو خلقنا ، لأن المنفي بأداة النفي التي هي ما : ليس خلقه للسماوات والأرض ، بل هو ثابت ، وإنما المنفي بها ، هو كونه باطلا ، فهي حال شبه العمدة وليست فضلة صريحة ; لأن النفي منصب عليها هي خاصة ، والكلام لا يصح دونها . والكلام في هذا معلوم في محله ، ونفي كون خلقه تعالى للسماوات والأرض باطلا نزه عنه نفسه ونزهه عنه عباده الصالحون ، لأنه لا يليق بكماله وجلاله تعالى .

أما تنزيهه نفسه عنه ففي قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون [ 23 \ 115 ] .

[ ص: 342 ] ثم نزه نفسه ، عن كونه خلقهم عبثا ، بقوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 116 ] أي : تعالى وتقدس وتنزه عن كونه خلقهم عبثا .

وأما تنزيه عباده الصالحين له عن ذلك ، ففي قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ، فقوله تعالى عنهم سبحانك أي تنزيها لك ، عن أن تكون خلقت السماوات والأرض باطلا . فقولهم سبحانك تنزيه له ، كما نزه نفسه عن ذلك بقوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق الآية [ 23 \ 116 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية : فويل للذين كفروا من النار يدل على أن من ظن بالله ما لا يليق به جل وعلا ، فله النار .

وقد بين تعالى في موضع آخر أن من ظن بالله ما لا يليق به أرداه وجعله من الخاسرين ، وجعل النار مثواه . وذلك في قوله تعالى : ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم الآية [ 41 \ 22 - 24 ] .

وقولنا في أول هذا المبحث الإشارة في قوله ذلك راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي قد قدمنا إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، وبينا هناك أن الفعل نوعان ، أحدهما الفعل الحقيقي ، والثاني الفعل الصناعي ، أما الفعل الحقيقي ، فهو الحدث المتجدد المعروف عند النحويين بالمصدر .

وأما الفعل الصناعي ، فهو المعروف في صناعة علم النحو بالفعل الماضي ، والفعل المضارع ، وفعل الأمر على القول بأنه مستقل عن المضارع .

ومعلوم أن الفعل الصناعي ينحل عند النحويين ، عن مصدر وزمن ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

[ ص: 343 ] المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن

وعند جماعات من البلاغيين ، أنه ينحل عن مصدر ، وزمن ونسبة ، وهو الأقرب ، كما حرره بعض علماء البلاغة في مبحث الاستعارة التبعية ، وبذلك تعلم أنه لا خلاف بينهم في أن المصدر والزمن كامنان في الفعل الصناعي ، فيصح رجوع الإشارة والضمير إلى كل من المصدر والزمن الكامنين في الفعل الصناعي .

فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن في الفعل ، قوله هنا : ذلك ظن الذين كفروا الآية ، فإن المصدر الذي هو الخلق كامن في الفعل الصناعي ، الذي هو الفعل الماضي في قوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك أي خلق السماوات المذكور الكامن في مفهوم خلقنا ظن الذين كفروا .
ومثال رجوع الإشارة إلى الزمن الكامن في مفهوم الفعل الصناعي ، قوله تعالى : ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد [ 50 \ 20 ] أي ذلك الزمن الكامن في الفعل هو يوم الوعيد .
ومثال رجوع الضمير للمصدر الكامن في مفهوم الفعل قوله تعالى : اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 \ 8 ] فقوله : هو ، أي العدل الكامن في مفهوم اعدلوا ، كما تقدم إيضاحه .
قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار . أم في قوله : أم نجعل الذين ، وقوله : أم نجعل المتقين ، كلتاهما ، منقطعة وأم المنقطعة ، فيها لعلماء العربية ثلاثة مذاهب :

الأول : أنها بمعنى همزة استفهام الإنكار .

الثاني : أنها بمعنى بل الإضرابية .

والثالث : أنها تشمل معنى الإنكار والإضراب معا ، وهو الذي اختاره بعض المحققين .

وعليه فالإضراب بها هنا انتقالي لا إبطالي ووجه الإنكار بها عليهم واضح ; لأن [ ص: 344 ] من ظن بالله الحكيم الخبير ، أنه يساوي بين الصالح المصلح ، والمفسد الفاجر ، فقد ظن ظنا قبيحا جديرا بالإنكار .

وقد بين جل وعلا هذا المعنى ، في غير هذا الموضع ، وذم حكم من يحكم به ، وذلك في قوله تعالى في سورة الجاثية : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] .
قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب . قوله تعالى : كتاب خبر مبتدأ محذوف أي : هذا كتاب ، وقد ذكر جل وعلا ، في هذه الآية الكريمة ، أنه أنزل هذا الكتاب ، معظما نفسه جل وعلا ، بصيغة الجمع ، وأنه كتاب مبارك وأن من حكم إنزاله أن يتدبر الناس آياته ، أي يتفهموها ويتعقلوها ويمعنوا النظر فيها ، حتى يفهموا ما فيها من أنواع الهدى ، وأن يتذكر أولوا الألباب ، أي يتعظ أصحاب العقول السليمة ، من شوائب الاختلال .

وكل ما ذكره في هذه الآية الكريمة جاء واضحا في آيات أخر .

أما كونه جل وعلا ، هو الذي أنزل هذا القرآن ، فقد ذكره في آيات كثيرة كقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] وقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 44 \ 3 ] وقوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات [ 3 \ 7 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وأما كون هذا الكتاب مباركا ، فقد ذكره في آيات من كتابه كقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه الآية [ 6 \ 92 ] . وقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] . والمبارك كثير البركات ، من خير الدنيا والآخرة .

ونرجو الله القريب المجيب ، إذ وفقنا لخدمة هذا الكتاب المبارك ، أن يجعلنا مباركين أينما كنا ، وأن يبارك لنا وعلينا ، وأن يشملنا ببركاته العظيمة في الدنيا والآخرة ، وأن يعم جميع إخواننا المسلمين ، الذين يأتمرون بأوامره بالبركات والخيرات ، في الدنيا والآخرة ، إنه قريب مجيب .

[ ص: 345 ] وأما كون تدبر آياته ، من حكم إنزاله : فقد أشار إليه في بعض الآيات ، بالتحضيض على تدبره ، وتوبيخ من لم يتدبره ، كقوله تعالى أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] . وقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] وقوله تعالى : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] .

وأما كون تذكر أولي الألباب من حكم إنزاله ، فقد ذكره في غير هذا الموضع ، مقترنا ببعض الحكم الأخرى ، التي لم تذكر في آية ( ص ) هذه كقوله تعالى في سورة إبراهيم هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] فقد بين في هذه الآية الكريمة ، أن تذكر أولي الألباب ، من حكم إنزاله مبينا منها حكمتين أخريين ، من حكم إنزاله ، وهما إنذار الناس به ، وتحقيق معنى لا إله إلا الله ، وكون إنذار الناس وتذكر أولي الألباب ، من حكم إنزاله ، ذكره في قوله تعالى : المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 1 - 2 ] لأن اللام في قوله لتنذر ، متعلقة بقوله : أنزل ، والذكرى اسم مصدر بمعنى التذكير ، والمؤمنون في الآية لا يخفى أنهم هم أولو الألباب .

وذكر حكمة الإنذار في آيات كثيرة كقوله : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .

وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] . وقوله تعالى : تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الآية [ 36 \ 5 - 6 ] . وقوله تعالى : لينذر من كان حيا الآية [ 36 \ 70 ] .

وذكر في آيات أخر ، أن من حكم إنزاله ، الإنذار والتبشير معا ، كقوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] . وقوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات الآية [ 18 \ 1 - 2 ] .

وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله أن يبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أنزل إليهم ولأجل أن يتفكروا ، وذلك قوله تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ 16 \ 44 ] .

[ ص: 346 ] وقد قدمنا مرارا كون لعل من حروف التعليل ، وذكر حكمة التبيين المذكورة مع حكمة الهدى والرحمة ، في قوله تعالى : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 16 \ 64 ] .

وبين أن من حكم إنزاله ، تثبيت المؤمنين والهدى والبشرى للمسلمين في قوله تعالى : قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين [ 16 \ 102 ] .

وبين أن من حكم إنزاله ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يحكم بين الناس بما أراه الله ، وذلك في قوله تعالى : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [ 4 \ 105 ] .

والظاهر أن معنى قوله : بما أراك الله أي بما علمك من العلوم في هذا القرآن العظيم ، بدليل قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الآية [ 42 \ 52 ] . وقوله تعالى : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] .

وبين جل وعلا أن من حكم إنزاله إخراج الناس من الظلمات إلى النور وذلك في قوله تعالى : الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم الآية [ 14 \ 1 ] .

وبين أن من حكم إنزاله التذكرة لمن يخشى في قوله تعالى : طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى [ 20 \ 1 - 3 ] أي : ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى .

وهذا القصر على التذكرة إضافي ، وكذلك القصر في قوله تعالى الذي ذكرناه قبل هذا : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه الآية [ 16 \ 64 ] ، بدليل الحكم الأخرى التي ذكرناها .

وبين أن من حكم إنزاله قرآنا عربيا وتصريف الله فيه من أنواع الوعيد أن يتقي [ ص: 347 ] الناس الله ، أو يحدث لهم هذا الكتاب ذكرا ، أي موعظة وتذكرا ، يهديهم إلى الحق ، وذلك في قوله تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا . قد قدمنا الكلام على هذه الآية ، وعلى ما يذكره المفسرون فيها ، من الروايات التي لا يخفى سقوطها ، وأنها لا تليق بمنصب النبوة ، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] . وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات ، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان ، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه ، قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] واعتراف الشيطان بذلك في قوله : إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 40 ] .
قوله تعالى : ووهبنا لداود سليمان . ذكر في هذه الآية الكريمة ، أنه وهب سليمان لداود ، وقد بين في سورة النمل أن الموهوب ورث الموهوب له ، وذلك في قوله تعالى : وورث سليمان داود [ 27 \ 16 ] .
وقد بينا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى عن زكريا : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب الآية [ 19 \ 5 - 6 ] أنها وراثة علم ودين لا وراثة مال .
قوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا . قد قدمنا الكلام على هذه الآية ، وعلى ما يذكره المفسرون فيها ، من الروايات التي لا يخفى سقوطها ، وأنها لا تليق بمنصب النبوة ، في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] . وما روي عنه من السلف من جملة تلك الروايات ، أن الشيطان أخذ خاتم سليمان ، وجلس على كرسيه وطرد سليمان إلى آخره يوضح بطلانه ، قوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] واعتراف الشيطان بذلك في قوله : إلا عبادك منهم المخلصين [ 15 \ 40 ] .
قوله تعالى : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب . قد قدمنا الكلام عليه موضحا بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره الآية [ 21 \ 81 ] .

وفسرنا هناك قوله هنا حيث أصاب وذكرنا هناك أوجه الجمع بين قوله هنا : رخاء ، وقوله هناك : ولسليمان الريح عاصفة [ 21 \ 81 ] ووجه الجمع أيضا بين عموم الجهات المفهوم من قوله هنا : حيث أصاب أي : حيث أراد وبين خصوص الأرض المباركة المذكورة هناك في قوله : تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها الآية [ 21 \ 81 ] .
[ ص: 348 ] قوله تعالى : والشياطين كل بناء وغواص . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [ 21 \ 82 ] .
قوله تعالى : واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب إلى قوله لأولي الألباب . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية مع التعرض لإزالة ما فيه من الإشكال في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : وأيوب إذ نادى ربه إلى قوله : وذكرى للعابدين .
قوله تعالى : واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق . أمر الله جل وعلا ، نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، أن يذكر عبده إبراهيم ولم يقيد ذلك الذكر بكونه في الكتاب ، مع أنه قيده بذلك في سورة مريم ، في قوله تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا الآية [ 19 \ 41 ] .
قوله تعالى : واذكر إسماعيل واليسع . أطلق هنا أيضا الأمر بذكر إسماعيل وقيده في سورة مريم بكونه في الكتاب في قوله تعالى : واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد الآية [ 19 \ 54 ] ، وفي ذلك إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم مأمور أيضا بذكر جميع المذكورين في الكتاب . ولذلك جاء ذكرهم كلهم في القرآن العظيم كما لا يخفى .
قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف أتراب . قد قدمنا الكلام عليه ، في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-18, 06:21 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (456)
سُورَةُ الزُّمَرِ
صـ 349 إلى صـ 356



قوله تعالى : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن نعيم الجنة ، لا نفاد له ، أي : لا انقطاع له ولا زوال ، ذكره جل وعلا في آيات أخر كقوله تعالى فيه : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] [ ص: 349 ] وقوله تعالى : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار . قد قدمنا ما يوضحه ، من الآيات القرآنية في مواضع متعددة ، من هذا الكتاب المبارك ، ذكرنا بعضها في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا الآية [ 2 \ 166 ] ، وذكرنا بعضه في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا الآية [ 7 \ 38 ] وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
قد تقدم إيضاحه ، مع بعض المباحث في سورة البقرة ، في الكلام على قوله تعالى : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] .
قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة هود ، وذكرنا الأحكام المتعلقة بالآيات ، في الكلام على قوله تعالى عن نبيه نوح : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين . الحين المذكور هنا ، قال بعض العلماء : المراد به بعد الموت ، ويدل له ما قدمنا في سورة الحجر ، في الكلام على قوله تعالى : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [ 15 \ 99 ] .

وقال بعض العلماء : الحين المذكور هنا ، هو يوم القيامة ولا منافاة بين القولين ; لأن الإنسان بعد الموت تتبين له حقائق الهدى والضلال .

واللام في لتعلمن موطئة للقسم ، وقد أكد في هذه الآية الكريمة أنهم سيعلمون نبأ القرآن أي صدقه ، وصحة جميع ما فيه بعد حين بالقسم ، ونون التوكيد .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بأنهم سيعلمون نبأه بعد حين ، قد أشار إليه تعالى ، في سورة الأنعام ، في قوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 66 - 67 ] .
[ ص: 350 ] قال غير واحد من العلماء : لكل نبإ مستقر ، أي : لكل خبر حقيقة ووقوع ، فإن كان حقا تبين صدقه ولو بعد حين ، وإن كان كذبا تبين كذبه ، وستعلمون صدق هذا القرآن ولو بعد حين .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الزُّمَرِ

[ ص: 351 ] قَوْلُهُ تَعَالَى : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ . قَدْ دَلَّ اسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ، إِذَا ذَكَّرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِبَعْضِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، الْمُتَضَمِّنَة ِ صِفَاتَهُ الْعُلْيَا .

فَفِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ ، لَمَّا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ كِتَابَهُ ، بَيَّنَ أَنَّ مَبْدَأَ تَنْزِيلِهِ كَائِنٌ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا ، وَذَكَرَ اسْمَهُ اللَّهَ ، وَاسْمَهُ الْعَزِيزَ ، وَالْحَكِيمَ ، وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْجَاثِيَةِ ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ [ 45 \ 1 - 3 ] ، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ الْأَحْقَافِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [ 46 \ 1 - 3 ] .

وَقَدْ تَكَرَّرَ كَثِيرًا فِي الْقُرْآنِ ، ذِكْرُهُ بَعْضَ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، بَعْدَ ذِكْرِ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [ 40 \ 1 - 3 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فُصَّلَتْ : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ 41 \ 1 - 2 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ هُودٍ : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ 11 \ 1 ] وَقَوْلِهِ فِي فُصِّلَتْ : وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [ 41 \ 41 - 42 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صَدْرِ يس تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ [ 36 \ 5 - 6 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ الْآيَةَ [ 26 \ 192 - 193 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [ 69 \ 43 - 44 ] .
وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذِكْرَهُ جَلَّ وَعَلَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى الْعَظِيمَةَ ، بَعْدَ ذِكْرِهِ تَنْزِيلَ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، يَدُلُّ بِإِيضَاحٍ ، عَلَى عَظَمَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَجَلَالَةِ شَأْنِهِ وَأَهَمِّيَّةِ نُزُولِهِ ، [ ص: 352 ] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قوله تعالى : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص . أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم . في هذه الآية الكريمة ، أن يعبده في حال كونه ، مخلصا له الدين ، أي مخلصا له في عبادته ، من جميع أنواع الشرك صغيرها وكبيرها ، كما هو واضح من لفظ الآية .

والإخلاص ، إفراد المعبود بالقصد ، في كل ما أمر بالتقرب به إليه ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون الإخلاص في العبادة لله وحده ، لا بد منه ، جاء في آيات متعددة ، وقد بين جل وعلا ، أنه ما أمر بعبادة ، إلا عبادة يخلص له العابد فيها .

أما غير المخلص فكل ما أتى به من ذلك ، جاء به من تلقاء نفسه ، لا بأمر ربه ، قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين الآية [ 98 \ 5 ] ، وقال جل وعلا : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين إلى قوله تعالى : قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 14 ، 15 ] .

وقد قدمنا الكلام على العمل الصالح ، وأنه لا بد فيه من الإخلاص ، في أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات الآية . وفي غير ذلك من المواضع .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ألا لله الدين الخالص أي : التوحيد الصافي من شوائب الشرك ، أي : هو المستحق لذلك وحده ، وهو الذي أمر به .
وقول من قال من العلماء : إن المراد بالدين الخالص كلمة لا إله إلا الله موافق لما ذكرناه . والعلم عند الله تعالى .
ثم لما ذكر جل وعلا إخلاص العبادة له وحده ، بين شبهة الكفار التي احتجوا بها للإشراك به تعالى ، في




قوله تعالى هنا : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . فبين أنهم يزعمون أنهم ما عبدوا الأصنام ، إلا لأجل أن تقربهم من الله زلفى ، والزلفى : القرابة .

[ ص: 353 ] فقوله : زلفى ، ما ناب عن المطلق من قوله ليقربونا ، أي ليقربونا إليه قرابة تنفعنا بشفاعتهم في زعمهم .

ولذا كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك .

وقد قدمنا في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : وابتغوا إليه الوسيلة [ 6 \ 35 ] أن هذا النوع من ادعاء الشفعاء ، واتخاذ المعبودات من دون الله وسائط من أصول كفر الكفار .

وقد صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله جل وعلا : ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون [ 10 \ 18 ] .

فصرح تعالى بأن هذا النوع ، من ادعاء الشفعاء شرك بالله ، ونزه نفسه الكريمة عنه ، بقوله جل وعلا سبحانه وتعالى عما يشركون وأشار إلى ذلك في آية الزمر هذه ; لأنه جل وعلا لما قال عنهم : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون [ 39 \ 3 ] أتبع ذلك بقوله تعالى : إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار [ 39 \ 3 ] .
وقوله : كفار ، صيغة مبالغة ، فدل ذلك على أن الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى جامعون بذلك ، بين الكذب والمبالغة في الكفر بقولهم ذلك ، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة الناس .
قوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار . قد قدمنا الآيات الموضحة ، بكثرة في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] .
قوله تعالى : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه خلق بني آدم من نفس واحدة هي أبوهم [ ص: 354 ] آدم ، ثم جعل من تلك النفس ، زوجها يعني حواء . أي : وبث جميع بني آدم منهما ، وأوضح هذا في مواضع أخر من كتابه ، كقوله تعالى في أول سورة النساء : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] وقوله في الأعراف : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] ، وتأنيث الوصف ، بقوله واحدة ، مع أن الموصوف به مذكر ، وهو آدم نظرا إلى تأنيث لفظ النفس ، وإن كان المراد بها مذكرا ، ونظير ذلك من كلام العرب قوله :
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال
قوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج . قد قدمنا إيضاح هذه الأزواج الثمانية بنص القرآن العظيم ، في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : والخيل المسومة والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] .
قوله تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] وبينا هناك المراد بالظلمات الثلاث المذكورة هنا .
قوله تعالى : إن تكفروا فإن الله غني عنكم . قد بين جل وعلا ، في هذه الآية الكريمة ، أنه غني عن خلقه الغنى المطلق ، وأنه لا يضره كفرهم به ، والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله تعالى وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] ، وقوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني الآية [ 10 \ 68 ] . وقوله تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] وقوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء [ 47 \ 38 ] ، وقد أوضحنا هذا بالآيات في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
[ ص: 355 ] قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم . قد قدمنا إيضاحه مع إزالة الإشكال ، والجواب عن الأسئلة الواردة ، على تلك الآيات في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وأوضحنا ذلك ، مع إزالة الإشكال في بعض الآيات ، في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم الآية [ 16 \ 25 ] .
قوله تعالى : وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما الآية [ 10 \ 12 ] .
قوله تعالى : قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار . قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الإشارة إلى بحث أصوله في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون [ 15 \ 3 ] .
قوله تعالى : وأرض الله واسعة . الظاهر أن معنى الآية أن الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة دينه على الوجه المطلوب ، فعليه أن يهاجر منه ، في مناكب أرض الله الواسعة ، حتى يجد محلا تمكنه فيه إقامة دينه .

وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها [ 4 \ 97 ] . وقوله تعالى : ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون [ 29 \ 56 ] ، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله : فإياي فاعبدون على قوله : إن أرضي واسعة دليل واضح على ذلك .
قوله تعالى : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين .

[ ص: 356 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له ، من أوجه في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] .
قوله تعالى : لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده . قد قدمنا الآيات الموضحة له ، في سورة الأنبياء ، في الكلام على قوله تعالى : لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم الآية [ 21 \ 39 ] ، وذكرنا طرفا من ذلك ، في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا [ 17 \ 8 ] .
قوله تعالى : والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله . ما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من تحقيق معنى لا إله إلا الله ، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الفاتحة ، في الكلام على قوله تعالى : إياك نعبد [ 1 \ 5 ] .
قوله تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه . أظهر الأقوال في الآية الكريمة ، أن المراد بالقول ، ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، من وحي الكتاب والسنة ، ومن إطلاق القول على القرآن قوله تعالى : أفلم يدبروا القول الآية [ 23 \ 68 ] . وقوله تعالى : إنه لقول فصل وما هو بالهزل [ 86 \ 13 - 14 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيتبعون أحسنه [ 39 \ 18 ] أي : يقدمون الأحسن ، الذي هو أشد حسنا ، على الأحسن الذي هو دونه في الحسن ، ويقدمون الأحسن مطلقا على الحسن . ويدل لهذا آيات من كتاب الله .

أما الدليل على أن القول الأحسن المتبع . ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، فهو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 \ 55 ] وقوله تعالى لموسى يأمره بالأخذ بأحسن ما في التوراة : فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها [ 7 \ 145 ] .

وأما كون القرآن فيه الأحسن والحسن ، فقد دلت عليه آيات من كتابه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-18, 06:37 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (457)
سُورَةُ الزُّمَرِ
صـ 357 إلى صـ 364






واعلم أولا أنه لا شك في أن الواجب أحسن من المندوب ، وأن المندوب أحسن من [ ص: 357 ] مطلق الحسن ، فإذا سمعوا مثلا قوله تعالى : وافعلوا الخير لعلكم تفلحون [ 22 \ 77 ] قدموا فعل الخير الواجب ، على فعل الخير المندوب ، وقدموا هذا الأخير ، على مطلق الحسن الذي هو الجائز ، ولذا كان الجزاء بخصوص الأحسن الذي هو الواجب والمندوب ، لا على مطلق الحسن ، كما قال تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] وقال تعالى ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون [ 39 \ 35 ] كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] ، وبينا هناك دلالة الآيات على أن المباح حسن ، كما قال صاحب المراقي :

ما ربنا لم ينه عنه حسن وغيره القبيح والمستهجن

ومن أمثلة الترغيب في الأخذ بالأحسن وأفضليته مع جواز الأخذ بالحسن قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 \ 126 ] فالأمر في قوله : فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به للجواز ، والله لا يأمر إلا بحسن . فدل ذلك على أن الانتقام حسن ، ولكن الله بين أن العفو والصبر ، خير منه وأحسن في قوله : ولئن صبرتم لهو خير للصابرين وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، كقوله تعالى في إباحة الانتقام : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل [ 42 \ 43 ] ، مع أنه بين أن الصبر والغفران خير منه ، في قوله بعده : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] ، وكقوله في جواز الانتقام : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] مع أنه أشار إلى أن العفو خير منه ، وأنه من صفاته جل وعلا مع كمال قدرته وذلك في قوله بعده : إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 \ 149 ] . وكقوله جل وعلا مثنيا على من تصدق ، فأبدى صدقته : إن تبدوا الصدقات فنعما هي [ 2 \ 271 ] ثم بين أن إخفاءها وإيتاءها الفقراء ، خير من إبدائها الذي مدحه بالفعل الجامد ، الذي هو لإنشاء المدح الذي هو نعم ، في قوله : إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [ 2 \ 271 ] .

[ ص: 358 ] وكقوله في نصف الصداق اللازم ، للزوجة بالطلاق ، قبل الدخول ، فنصف ما فرضتم [ 2 \ 237 ] ولا شك أن أخذ كل واحد من الزوجين النصف حسن ، لأن الله شرعه في كتابه في قوله : فنصف ما فرضتم مع أنه رغب كل واحد منهما ، أن يعفو للآخر عن نصفه ، وبين أن ذلك أقرب للتقوى وذلك في قوله بعدهوأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم [ 2 \ 237 ] .

وقد قال تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] ثم أرشد إلى الأحسن بقوله : فمن عفا وأصلح فأجره على الله [ 42 \ 40 ] وقال تعالى : والجروح قصاص [ 5 \ 45 ] ثم أرشد إلى الأحسن ، في قوله : فمن تصدق به فهو كفارة له [ 5 \ 45 ] .

واعلم أن في هذه الآية الكريمة أقوالا غير الذي اخترنا .

منها ما روي عن ابن عباس ، في معنى فيتبعون أحسنه قال : " هو الرجل يسمع الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن ، وينكف عن القبيح ، فلا يتحدث به " .

وقيل يستمعون القرآن وغيره ، فيتبعون القرآن .

وقيل : إن المراد بأحسن القول لا إله إلا الله ، وبعض من يقول بهذا يقول : إن الآية نزلت فيمن كان يؤمن بالله قبل بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ، كزيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قوله تعالى : أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار . أظهر القولين في الآية الكريمة ، أنهما جملتان مستقلتان ، فقوله : أفمن حق عليه كلمة العذاب جملة مستقلة ، لكن فيها حذفا ، وحذف ما دل المقام عليه واضح ، لا إشكال فيه .

والتقدير : أفمن حق عليه كلمة العذاب ، تخلصه أنت منه ، والاستفهام مضمن معنى النفي ، أي لا تخلص أنت يا نبي الله أحدا سبق في علم الله أنه يعذبه من ذلك العذاب ، وهذا المحذوف دل عليه قوله بعده أفأنت تنقذ من في النار .

وقد قدمنا مرارا قولي المفسرين في أداة الاستفهام المقترنة بأداة عطف كالفاء والواو [ ص: 359 ] وثم كقوله هنا : أفمن حق وقوله : أفأنت تنقذ .

أما القول بأن الكلام جملة واحدة شرطية ، كما قال الزمخشري : أصل الكلام : أمن حق عليه كلمة العذاب ، فأنت تنقذه جملة شرطية ، دخل عليها همزة الإنكار ، والفاء فاء الجزاء ، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب ، تقديره : أأنت مالك أمرهم ، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه ، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد ، ووضع من في النار موضع الضمير ، فالآية على هذا جملة واحدة ، فإنه لا يظهر كل الظهور .
واعلم أن ما دلت عليه هذه الآية الكريمة قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في أول سورة يس في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] ، وبينا دلالة الآيات على المراد بكلمة العذاب .
قوله تعالى : لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية . ما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من وعد أهل الجنة بالغرف المبنية ، ذكره جل وعلا في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى في سورة سبأ إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] . وقوله تعالى في سورة التوبة : وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن الآية [ 9 \ 72 ] . وقوله تعالى في سورة الصف : يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم [ 61 \ 12 ] ، لأن المساكن الطيبة المذكورة في التوبة والصف صادقة بالغرف المذكورة في الزمر وسبأ ، وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة الفرقان ، في الكلام على قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا الآية [ 25 \ 75 ] .
قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض . الينابيع : جمع ينبوع ، وهو الماء الكثير .
وقوله : فسلكه أي أدخله ، كما قدمنا إيضاحه بشواهده العربية ، والآيات القرآنية في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى : قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين الآية [ 11 \ 40 ] .
[ ص: 360 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من سورة الزمر ، قد أوضحناه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها الآية [ 34 \ 2 ] .
قوله تعالى : ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه . قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم [ 30 \ 22 ] وأحلنا عليه في سورة فاطر ، في قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها الآية [ 35 \ 27 ] .
قوله تعالى : ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب . قوله : ثم يهيج أي : ثم بعد نضارة ذلك الزرع وخضرته ييبس ، ويتم جفافه ويثور من منابته فتراه أيها الناظر مصفرا يابسا ، قد زالت خضرته ونضارته . ثم يجعله حطاما أي فتاتا ، متكسرا ، هشيما ، تذروه الرياح ، إن في ذلك المذكور من حالات ذلك الزرع ، المختلف الألوان ، لذكرى أي عبرة وموعظة وتذكيرا لأولي الألباب ، أي لأصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، فقد ذكر جل وعلا مصير هذا الزرع على سبيل الموعظة والتذكير ، وبين في موضع آخر ، أن ما وعظ به خلقه هنا من حالات هذا الزرع شبيه أيضا بالدنيا . فوعظ به في موضع وشبه به حالة الدنيا في موضع آخر ، وذلك في قوله تعالى في سورة الحديد : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما [ 257 \ 20 ] . ويبين في سورة الروم أن من أسباب اصفراره المذكور إرسال الريح عليه ، وذلك في قوله : ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون [ 30 \ 51 ] .
قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه . قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] .
[ ص: 361 ] قوله تعالى : ومن يضلل الله فما له من هاد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] ، وفي غير ذلك من الموضع .
قوله تعالى : قرآنا عربيا غير ذي عوج . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ولم يجعل له عوجا قيما الآية [ 18 \ 1 - 2 ] . وقوله في هذه الآية الكريمة : قرآنا انتصب على الحال وهي حال مؤكدة ، والحال في الحقيقة هو عربيا ، وقرآنا توطئة له وقيل انتصب على المدح .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : عربيا ، أي : لأنه بلسان عربي كما قال تعالى : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] . وقال تعالى في أول سورة يوسف : إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 3 ] . وقال في أول الزخرف : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون [ 43 \ 3 ] . وقال في طه وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] وقال تعالى في فصلت : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي [ 41 \ 44 ] وقال تعالى في الشعراء : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] وقال تعالى في سورة الشورى : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها الآية [ 42 \ 7 ] .

وقال تعالى في الرعد : وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق [ 13 \ 37 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وهذه الآيات القرآنية تدل على شرف اللغة العربية وعظمها ، دلالة لا ينكرها إلا مكابر .
[ ص: 362 ] قوله تعالى : والذي جاء بالصدق . أوضح جل وعلا أن الذي في هذه الآية بمعنى الذين ، بدليل قوله بعده : أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين [ 29 \ 33 - 34 ] .

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن " الذي " تأتي بمعنى الذين في القرآن وفي كلام العرب ، فمن أمثلة ذلك في القرآن ، قوله تعالى في آية الزمر هذه : والذي جاء بالصدق الآية . وقوله تعالى في سورة البقرة : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا [ 2 \ 17 ] أي : الذين استوقدوا بدليل قوله بعده : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] وقوله فيها أيضا : كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] أي : كالذين ينفقون بدليل قوله بعده : لا يقدرون على شيء مما كسبوا الآية . وقوله تعالى في التوبة : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 \ 69 ] على القول بأن الذي موصولة لا مصدرية ، ونظيره من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :



وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

وقول عديل بن الفرخ العجلي :



فبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غي ورشدهم رشد
وقول الراجز :
يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منها ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد

قوله تعالى : لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون الآية [ 16 \ 31 ] .
قوله تعالى : ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون . قد قدمنا الآيات الموضحة له ، في هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 17 - 18 ] وفي سورة [ ص: 363 ] النحل في الكلام على قوله تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] .
قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنفال ، في الكلام على قوله تعالى : ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين [ 8 \ 64 ] وعلى قراءة الجمهور بكاف عبده ، بفتح العين وسكون الباء ، بإفراد العبد ، والمراد به ، النبي صلى الله عليه وسلم . كقوله : فسيكفيكهم الله [ 2 \ 137 ] وقوله تعالى : ياأيها النبي حسبك الله الآية [ 8 \ 64 ] .

وأما على قراءة حمزة والكسائي عباده بكسر العين وفتح الباء بعدها ألف على أنه جمع عبد ، فالظاهر أنه يشمل عباده الصالحين من الأنبياء وأتباعهم .





قوله تعالى : ويخوفونك بالذين من دونه . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن الكفار عبدة الأوثان ، يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم ، بالأوثان التي يعبدونها من دون الله ، لأنهم يقولون له : إنها ستضره وتخبله ، وهذه عادة عبدة الأوثان لعنهم الله ، يخوفون الرسل بالأوثان ويزعمون أنها ستضرهم وتصل إليهم بالسوء .

ومعلوم أن أنبياء الله عليهم صلوات الله وسلامه ، لا يخافون غير الله ولا سيما الأوثان ، التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تضر ولا تنفع ، ولذا قال تعالى عن نبيه إبراهيم لما خوفوه بها : وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن الآية [ 6 \ 81 ] .

وقال عن نبيه هود وما ذكره له قومه من ذلك : إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم [ 11 \ 54 - 56 ] .

وقال تعالى في هذه السورة الكريمة ، مخاطبا نبينا صلى الله عليه وسلم ، بعد أن ذكر تخويفهم له بأصنامهم : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون [ 39 \ 38 ] .
[ ص: 364 ] ومعلوم أن الخوف من تلك الأصنام من أشنع أنواع الكفر والإشراك بالله .
وقد بين جل وعلا في موضع آخر ، أن الشيطان يخوف المؤمنين أيضا ، الذين هم أتباع الرسل من أتباعه وأوليائه من الكفار ، كما قال تعالى : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 175 ] .
والأظهر أن قوله : يخوف أولياءه حذف فيه المفعول الأول ، أي : يخوفكم أولياءه ، بدليل قوله بعده : فلا تخافوهم وخافون الآية .
قوله تعالى : قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته . ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من أن المعبودات من دونه ، لا تقدر أن تكشف ضرا أراد الله به أحدا ، أو تمسك رحمة أراد بها أحدا ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا [ 19 \ 42 ] وقوله تعالى : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون [ 26 \ 72 - 74 ] . وقوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم [ 35 \ 2 ] وقوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده الآية [ 10 \ 107 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله تعالى : وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الصافات ، في الكلام على قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون [ 34 \ 35 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-18, 06:40 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (458)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 365 إلى صـ 372



قوله تعالى : ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة . [ ص: 365 ] ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن الذين ظلموا وهم الكفار ، ولو كان لهم في الآخرة ما في الأرض جميعا ومثله معه ، لفدوا أنفسهم به من سوء العذاب الذي عاينوه يوم القيامة ، وبين هذا المعنى في مواضع أخر وصرح فيها بأنه لا فداء البتة يوم القيامة كقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [ 3 \ 91 ] . وقوله تعالى : إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 36 - 37 ] وقوله تعالى : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير [ 57 \ 15 ] . وقوله تعالى : وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 6 \ 70 ] . وقوله وإن تعدل كل عدل أي : وإن تفتد كل فداء ، وقوله تعالى : ولا يؤخذ منها عدل الآية [ 2 \ 48 ] . وقوله : ولا يقبل منها عدل الآية [ 2 \ 123 ] ، والعدل الفداء . وقوله تعالى : والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد [ 13 \ 18 ] .

وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة آل عمران ، في الكلام على قوله تعالى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به الآية [ 3 \ 91 ] .
قوله تعالى : وبدا لهم سيئات ما كسبوا . قوله : وبدا لهم أي : ظهر لهم سيئات ما كسبوا ، أي : جزاء سيئاتهم التي اكتسبوها في الدنيا ، فالظاهر أنه أطلق السيئات هنا مرادا بها جزاؤها .

ونظيره من القرآن قوله تعالى : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 \ 40 ] .

ونظير ذلك أيضا إطلاق العقاب ، على جزاء العقاب ، في قوله تعالى : ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله الآية [ 22 \ 60 ] .

[ ص: 366 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أنهم يبدو لهم يوم القيامة ، حقيقة ما كانوا يعملونه في الدنيا جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [ 10 ] وقوله تعالى ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] وقوله تعالى علمت نفس ما قدمت وأخرت [ 82 \ 5 ] . وقوله تعالى : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا الآية [ 18 \ 49 ] . وقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس ، في الكلام على قوله تعالى : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه الآية [ 10 \ 12 ] .
قوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم . قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في قوله تعالى : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 17 - 18 ] وقدمنا طرفا منه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون [ 16 \ 97 ] .
قوله تعالى : أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له من جهات في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .
قوله تعالى : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة . قد قدمنا الكلام عليه وعلى ما يماثله من الآيات في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه الآية [ 3 \ 106 ] .
[ ص: 367 ] قوله تعالى : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين .

تقدم إيضاحه بالآيات القرآنية ، مع بيان جملة من آثار الكبر السيئة ، في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين [ 7 \ 13 ] .
قوله تعالى : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك . قد تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ 6 \ 88 ] .

وقد ذكرنا في سورة المائدة الآية المتضمنة للقيد الذي لم يذكر في هذه الآيات على قوله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله الآية [ 5 \ 5 ] .
قوله تعالى : ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يس ، في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
قوله تعالى : ووضع الكتاب . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] .
قوله تعالى : وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت . اختلف العلماء في المراد بالشهداء في هذه الآية الكريمة ، فقال بعضهم : هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم في الدنيا ، واستدل من قال هذا بقوله تعالى وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [ 50 \ 21 ] .

وقال بعض العلماء : الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، يشهدون على الأمم ، كما قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا . [ ص: 368 ] وقيل : الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ، وأظهر الأقوال في الآية عندي ، أن الشهداء هم الرسل من البشر ، الذين أرسلوا إلى الأمم ، لأنه لا يقضي بين الأمة حتى يأتي رسولها ، كما صرح تعالى بذلك في سورة يونس في قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون [ 10 \ 47 ] فصرح جل وعلا بأنه يسأل الرسل عما أجابتهم به أممهم ، كما قال تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] وقال تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] وقد يشير إلى ذلك قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] لأن كونه صلى الله عليه وسلم هو الشهيد على هؤلاء الذين هم أمته ، يدل على أن الشهيد على كل أمة هو رسولها .

وقد بين تعالى أن الشهيد على كل أمة من أنفس الأمة ، فدل على أنه ليس من الملائكة ، وذلك في قوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [ 16 \ 89 ] والرسل من أنفس الأمم كما قال تعالى في نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :

لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ 9 \ 128 ] . وقال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية [ 3 \ 164 ] .

والمسوغ للإيجاز بحذف الفاعل في قوله تعالى : وجيء بالنبيين [ 39 \ 69 ] هو أنه من المعلوم الذي لا نزاع فيه ، أنه لا يقدر على المجيء بهم إلا الله وحده جل وعلا .

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير الكسائي وهشام عن ابن عامر ، وجيء بكسر الجيم كسرة خالصة .

وقرأه الكسائي وهشام عن ابن عامر بإشمام الكسرة الضم .

وإنما كان الإشمام هنا جائزا ، والكسر جائزا ، لأنه لا يحصل في الآية البتة ، لبس بين المبني للفاعل ، والمبني للمفعول ، إذ من المعلوم أن قوله هنا : وجيء مبني للمفعول ولا يحتمل البناء للفاعل بوجه ، وما كان كذلك جاز فيه الكسر الخالص وإشمام الكسرة الضم كما أشار له في الخلاصة بقوله :



واكسر أو أشمم فا ثلاثي أعل عينا وضم حاء كبوع فاحتمل

[ ص: 369 ] أما إذا أسند ذلك الفعل إلى ضمير الرفع المتصل ، فإن ذلك قد يؤدي إلى اللبس ، فيشتبه المبني للمفعول ، بالمبني للفاعل ، فيجب حينئذ اجتناب الشكل الذي يوجب اللبس ، والإتيان بما يزيل اللبس من شكل أو إشمام كما أشار له في الخلاصة بقوله :



وإن بشكل خيف لبس يجتنب

ومن أمثلة ذلك قول الشاعر ، وقد أنشده صاحب اللسان :



وإني على المولى وإن قل نفعه دفوع إذا ما ضمت غير صبور


فقوله : ضمت أصله ضيمت بالبناء للمفعول فيجب الإشمام أو الضم ; لأن الكسر الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل كبعت وسرت . وقول جرير يرثي المرار بن عبد الرحمن بن أبي بكرة :



وأقول من جزع وقد فتنا به ودموع عيني في الرداء غزار
للدافنين أخا المكارم والندا لله ما ضمنت بك الأحجار

أصله فوتنا بالبناء للمفعول فيجب الكسر أو الإشمام ; لأن الضم الخالص يجعله محتملا للبناء للفاعل ، كقلنا وقمنا .
قوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا . الزمر : الأفواج المتفرقة ، واحده زمرة ، وقد عبر تعالى عنها هنا بالزمر ، وعبر عنها في الملك بالأفواج في قوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج الآية [ 67 \ 8 ] ، وعبر عنها في الأعراف بالأمم في قوله تعالى : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم الآية [ 7 \ 38 ] .

وقال في فصلت : وحق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين [ 41 \ 25 ] وقال تعالى : هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار [ 38 \ 59 ] .

ومن إطلاق الزمر على ما ذكرنا قوله :

[ ص: 370 ]

وترى الناس إلى منزله زمرا تنتابه بعد زمر

وقول الراجز :



إن العفاة بالسيوب قد غمر حتى احزألت زمرا بعد زمر


قوله تعالى : حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها . لم يبين جل وعلا هنا عدد أبوابها المذكورة ، ولكنه بين ذلك ، في سورة الحجر في قوله : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 16 \ 43 - 44 ] .

وقوله تعالى : وفتحت أبوابها قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر : ( فتحت ) بالتاء .

قوله تعالى : وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ 16 \ 32 ] .
قوله تعالى : وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة إذا دخلوها وعاينوا ما فيها من النعيم ، حمدوا ربهم وأثنوا عليه ، ونوهوا بصدق وعده لهم ، وذكر هذا المعنى في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] . وقوله تعالى : ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا الآية [ 7 \ 44 ] .

[ ص: 371 ] وقوله تعالى : جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب [ 35 \ 33 - 34 ] .
[ ص: 372 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ غَافِرٍ

قَوْلُهُ تَعَالَى : غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ . جَمَعَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَيْنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ; لِأَنَّ مَطَامِعَ الْعُقَلَاءِ مَحْصُورَةٌ فِي أَمْرَيْنِ ، هُمَا جَلْبُ النَّفْعِ وَدَفْعُ الضُّرِّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [ 15 \ 49 - 50 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الْآيَةَ [ 7 \ 156 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ : إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ . [ 6 \ 165 ] وَقَوْلِهِ فِي الْأَعْرَافِ : إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ 7 \ 167 ] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ .
قوله تعالى : ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه لا يجادل في آيات الله ، أي لا يخاصم فيها محاولا ردها ، وإبطال ما جاء فيها إلا الكفار .

وقد بين تعالى في غير هذا الموضع الغرض الحامل لهم على الجدال فيها مع بعض صفاتهم ، وذلك في قوله : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا [ 18 \ 56 ] وأوضح ذلك الغرض ، في هذه السورة الكريمة ، في قوله : وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق [ 40 \ 5 ] .

وقد قدمنا في سورة الحج أن الذين يجادلون في الله منهم ، أتباع يتبعون رؤساءهم المضلين ، من شياطين الإنس والجن ، وهم المذكورون في قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 3 - 4 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-18, 06:43 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (459)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 373 إلى صـ 380



[ ص: 373 ] وأن منهم قادة هم رؤساؤهم المتبوعون وهم المذكورون في قوله تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله الآية [ 22 \ 8 - 9 ] .

وبين تعالى في موضع آخر أن من أنواع جدال الكفار ، جدالهم للمؤمنين الذين استجابوا لله وآمنوا به وبرسوله ، ليردوهم إلى الكفر بعد الإيمان ، وبين بطلان حجة هؤلاء ، وتوعدهم بغضبه عليهم ، وعذابه الشديد وذلك في قوله تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد [ 42 \ 16 ] .
قوله تعالى : فلا يغررك تقلبهم في البلاد .

نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ، ليشرع لأمته عن أن يغره تقلب الذين كفروا في بلاد الله ، بالتجارات والأرباح ، والعافية وسعة الرزق ، كما كانت قريش تفيض عليها الأموال من أرباح التجارات ، وغيرها من رحلة الشتاء والصيف المذكورة في قوله تعالى : إيلافهم رحلة الشتاء والصيف [ 106 \ 2 ] أي : إلى اليمن والشام وهم مع ذلك كفرة فجرة ، يكذبون نبي الله ويعادونه .

والمعنى : لا تغتر بإنعام الله عليهم تقلبهم في بلاده في إنعام وعافية ; فإن الله جل وعلا يستدرجهم بذلك الإنعام ، فيمتعهم به قليلا ، ثم يهلكهم فيجعل مصيرهم إلى النار .

وقد أوضح هذا المعنى في آيات من كتابه كقوله تعالى : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [ 3 \ 196 - 197 ] . وقوله تعالى : ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 23 - 24 ] وقوله تعالى : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير [ 2 \ 26 ] وقوله تعالى : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والفاء في قوله : فلا يغررك ، سببية أي : لا يمكن تقلبهم في بلاد الله . متنعمين [ ص: 374 ] بالأموال والأرزاق ، سببا لاغترارك بهم ، فتظن بهم ظنا حسنا ; لأن ذلك التنعم ، تنعم استدراج ، وهو زائل عن قريب ، وهم صائرون إلى الهلاك والعذاب الدائم .
قوله تعالى : وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار . قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر ( كلمات ) بصيغة الجمع المؤنث السالم وقرأه الباقون ( كلمة ربك ) بالإفراد .

وقد أوضحنا معنى الكلمة والكلمات فيما يماثل هذه الآية في سورة يس في الكلام على قوله تعالى . لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] .
قوله تعالى : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم . لم يبين هنا الآية المتضمنة لوعدهم بالجنات ، هم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم .

ولكنه جل وعلا أوضح وعده إياهم بذلك في سورة الرعد في قوله تعالى : والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب الآية [ 22 \ 23 - 13 ] .
قوله تعالى : قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين . التحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه ، أن المراد بالإماتتين في هذه الآية الكريمة ، الإماتة الأولى ، التي هي كونهم في بطون أمهاتهم نطفا وعلقا ومضغا ، قبل نفخ الروح فيهم ، فهل قبل نفخ الروح فيهم لا حياة لهم ، فأطلق عليهم بذلك الاعتبار اسم الموت .

والإماتة الثانية هي إماتتهم وصيرورتهم إلى قبورهم عند انقضاء آجالهم في دار الدنيا .

وأن المراد بالإحياءتين : الإحياءة الأولى في دار الدنيا ، والإحياءة الثانية ، التي هي البعث من القبور إلى الحساب ، والجزاء والخلود الأبدي ، الذي لا موت فيه ، إما في الجنة وإما في النار .

[ ص: 375 ] والدليل من القرآن على أن هذا القول في الآية هو التحقيق ، أن الله صرح به واضحا في قوله جل وعلا : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون [ 2 \ 28 ] وبذلك تعلم أن ما سواه من الأقوال في الآية لا معول عليه .

والأظهر عندي أن المسوغ الذي سوغ إطلاق اسم الموت على العلقة ، والمضغة مثلا ، في بطون الأمهات ، أن عين ذلك الشيء ، الذي هو نفس العلقة والمضغة ، له أطوار كما قال تعالى : وقد خلقكم أطوارا يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق [ 39 \ 6 ] ، ولما كان ذلك الشيء ، تكون فيه الحياة في بعض تلك الأطوار ، وفي بعضها لا حياة له ، صح إطلاق الموت والحياة عليه من حيث إنه شيء واحد ، ترتفع عنه الحياة تارة وتكون فيه أخرى ، وقد ذكر له الزمخشري مسوغا غير هذا ، فانظره إن شئت .
قوله تعالى : فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل . قد بين جل وعلا في غير هذا الموضع ، أن الاعتراف بالذنب في ذلك الوقت لا ينفع ، كما قال تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] وقال تعالى ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فهل إلى خروج من سبيل قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .
قوله تعالى : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا . قد تقدم الكلام عليه في سورة الصافات ، في الكلام على قوله تعالى : إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون الآية [ 37 \ 34 - 35 ] .
قوله تعالى : فالحكم لله العلي الكبير . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .
[ ص: 376 ] قوله تعالى : هو الذي يريكم آياته . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه جل وعلا هو الذي يري خلقه آياته ، أي : الكونية القدرية ; ليجعلها علامات لهم على ربوبيته ، واستحقاقه العبادة وحده ، ومن تلك الآيات الليل والنهار والشمس والقمر ; كما قال تعالى : ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر الآية [ 41 \ 37 ] .

ومنها السماوات والأرضون ، وما فيهما والنجوم ، والرياح والسحاب ، والبحار والأنهار ، والعيون والجبال والأشجار وآثار قوم هلكوا ، كما قال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] . وقال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . وقال تعالى : إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون [ 45 \ 3 - 5 ] ، وقال تعالى إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم يتقون [ 10 \ 6 ] .

وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ، من أنه هو الذي يري خلقه آياته ، بينه وزاده إيضاحا في غير هذا الموضع ، فبين أنه يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم ، وأن مراده بذلك البيان أن يتبين لهم أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق ، كما قال تعالى : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق [ 41 \ 53 ] .

والآفاق جمع أفق وهو الناحية ، والله جل وعلا قد بين من غرائب صنعه وعجائبه في نواحي سماواته وأرضه ، ما يتبين به لكل عاقل أنه هو الرب المعبود وحده . كما أشرنا إليه ، من الشمس والقمر والنجوم والأشجار والجبال ، والدواب والبحار ، إلى غير ذلك .

وبين أيضا أن من آياته التي يريهم ولا يمكنهم أن ينكروا شيئا منها تسخيره لهم الأنعام ليركبوها ويأكلوا من لحومها ، وينتفعوا بألبانها ، وزبدها وسمنها ، وأقطها ويلبسوا من جلودها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما قال تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون [ 40 \ 79 - 81 ] .

[ ص: 377 ] وبين في بعض المواضع أن من آياته التي يريها بعض خلقه معجزات رسله ; لأن المعجزات آيات أي : دلالات وعلامات على صدق الرسل ، كما قال تعالى في فرعون : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [ 20 \ 56 ] وبين في موضع آخر أن من آياته التي يريها خلقه عقوبته المكذبين رسله ، كما قال تعالى في قصة إهلاكه قوم لوط : ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون [ 29 \ 35 ] .

وقال في عقوبته فرعون وقومه بالطوفان والجراد والقمل . . . إلخ : فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات الآية [ 7 \ 133 ] .
قوله تعالى : وينزل لكم من السماء رزقا . أطلق جل وعلا في هذه الآية الكريمة الرزق وأراد المطر ; لأن المطر سبب الرزق ، وإطلاق المسبب وإرادة سببه لشدة الملابسة بينهما ، أسلوب عربي معروف ، وكذلك عكسه الذي هو إطلاق السبب وإرادة المسبب كقوله :



أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط طيبة النشر

فأطلق الدم وأراد الدية ; لأنه سببها .

وقد أوضحنا في رسالتنا المسماة : منع جواز المجاز ، في المنزل للتعبد والإعجاز ، أن أمثال هذا أساليب عربية ، نطقت بها العرب في لغتها ، ونزل بها القرآن ، وأن ما يقوله علماء البلاغة من أن في الآية ما يسمونه المجاز المرسل الذي يعدون من علاقاته السببية والمسببية لا داعي إليه ، ولا دليل عليه ، يجب الرجوع إليه .

وإطلاق الرزق في آية المؤمن هذه على المطر جاء مثله ، في غير هذا الموضع كقوله تعالى في أول سورة الجاثية : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها [ الآية 5 ] فأوضح بقوله : فأحيا به الأرض بعد موتها أن مراده بالرزق المطر ; لأن المطر هو الذي يحيي الله به الأرض بعد موتها .

وقد أوضح جل وعلا أنه إنما سمي المطر رزقا ; لأن المطر سبب الرزق في آيات كثيرة من كتابه ، كقوله تعالى في سورة البقرة : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم الآية [ 2 \ 22 ] ، والباء في قوله فأخرج به سببية كما ترى .

[ ص: 378 ] وكقوله تعالى في سورة إبراهيم : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك الآية [ 14 \ 32 ] . وقوله تعالى في سورة ق : ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد [ 50 \ 9 - 11 ] .

وبين في آيات أخر أن الرزق المذكور شامل لما يأكله الناس ، وما تأكله الأنعام ; لأن ما تأكله الأنعام ، يحصل بسببه للناس الانتفاع بلحومها ، وجلودها وألبانها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، كما تقدم ، كقوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ 32 \ 27 ] ، وقوله تعالى هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الآية [ 16 \ 10 - 11 ] .

فقوله : فيه تسيمون ، أي : تتركون أنعامكم سائمة فيه ، تأكل منه من غير أن تتكلفوا لها مئونة العلف ، كما تقدم إيضاحه بشواهده العربية ، في سورة النحل وكقوله تعالى : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم الآية [ 20 \ 53 - 54 ] . وقوله تعالى : أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 31 - 33 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وما يتذكر إلا من ينيب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن الناس ما يتذكر منهم ، أي : ما يتعظ بهذه الآيات المشار إليها في قوله : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب أي : من رزقه الله الإنابة إليه .

والإنابة : الرجوع عن الكفر والمعاصي ، إلى الإيمان والطاعة .

وهؤلاء المنيبون ، المتذكرون ، المتعظون ، هم أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال ، المذكورون في قوله تعالى في أول سورة آل عمران : وما يذكر إلا أولو الألباب [ 3 \ 7 ] وفي قوله تعالى في سورة إبراهيم : وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب [ 14 \ 52 ] [ ص: 379 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد دلت آية المؤمن هذه ، وما في معناها من الآيات ، على أن غير أولي الألباب المتذكرين المذكورين آنفا ، لا يتذكر ولا يتعظ بالآيات ، بل يعرض عنها أشد الإعراض .

وقد جاء هذا المعنى موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله تعالى : وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون [ 12 \ 105 ] . وقوله تعالى : وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر [ 54 \ 2 ] وقوله : وإذا رأوا آية يستسخرون [ 37 \ 14 ] .

وقوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] وقوله : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 36 \ 46 ] في الأنعام ويس إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فادعوا الله مخلصين له الدين . قد قدمنا الكلام على نحوه من الآيات في أول سورة الزمر ، في الكلام على قوله : فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص [ 39 \ 2 - 3 ] .
قوله تعالى : يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في أول سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون [ 16 \ 2 ] . وقوله تعالى في آية المؤمن هذه : يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء جاء مثله في آيات كثيرة ، كقوله في بروزهم ذلك اليوم : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار [ 14 \ 48 ] وقوله تعالى : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا الآية [ 14 \ 21 ] .

وكقوله في كونهم لا يخفى على الله منهم شيء ذلك اليوم : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية [ 69 \ 18 ] . وقوله تعالى : إن ربهم بهم يومئذ لخبير [ 100 \ 11 ] . وقوله تعالى : إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء [ 3 \ 5 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة ، وقد بيناها في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه الآية [ 11 \ 5 ] ، [ ص: 380 ] وذكرنا طرفا من ذلك ، في أول سورة سبأ ، في الكلام على قوله تعالى : عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض الآية [ 34 \ 3 ] .
قوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين . الإنذار ، والإعلام المقترن بتهديد خاصة ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .

وقد أوضحنا معنى الإنذار وأنواعه في أول سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 2 ] .

والظاهر أن قوله هنا : يوم الآزفة هو المفعول الثاني للإنذار لا ظرف له ; لأن الإنذار والتخويف من يوم القيامة واقع في دار الدنيا . والآزفة القيامة . أي : أنذرهم يوم القيامة ، بمعنى خوفهم إياه وهددهم بما فيه من الأهوال العظام ليستعدوا لذلك في الدنيا بالإيمان والطاعة .

وإنما عبر عن القيامة بـ الآزفة لأجل أزوفها أي : قربها ، والعرب تقول : أزف الترحل بكسر الزاي ، يأزف بفتحها ، أزفا بفتحتين ، على القياس ، وأزوفا فهو آزف ، على غير قياس ، في المصدر الأخير ، والوصف بمعنى قرب وقته وحان وقوعه ، ومنه قول نابغة ذبيان :



أزف الترحل غير أن ركابنا لما تزل برحالنا وكأن قد

ويروى أفد الترحل ، ومعناهما واحد .

والمعنى : وأنذرهم يوم الآزفة أي : يوم القيامة القريب مجيؤها ووقوعها .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من اقتراب قيام الساعة ، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة [ 53 \ 57 - 58 ] ، وقوله تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 \ 1 ] . وقوله تعالى : اقترب للناس حسابهم الآية [ 21 \ 1 ] . وقوله تعالى في الأحزاب : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] وقوله تعالى في الشورى : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-01-18, 06:45 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (460)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 381 إلى صـ 388



[ ص: 381 ] وقد قدمنا هذا في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين الظاهر فيه أن إذ بدل من يوم ، وعليه فهو من قبيل المفعول به لا المفعول فيه ، كما بينا آنفا .

والقلوب : جمع قلب وهو معروف .

ولدى : ظرف بمعنى عند .

والحناجر : جمع حنجرة وهي معروفة .

ومعنى كون القلوب لدى الحناجر ، في ذلك الوقت فيه لعلماء التفسير وجهان معروفان :

أحدهما : ما قاله قتادة وغيره ; من أن قلوبهم يومئذ ترتفع من أماكنها في الصدور ، حتى تلتصق بالحلوق ، فتكون لدى الحناجر ، فلا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ، ولا هي ترجع إلى أماكنها في الصدور فيتنفسوا . وهذا القول هو ظاهر القرآن .

والوجه الثاني : هو أن المراد بكون القلوب لدى الحناجر ، بيان شدة الهول ، وفظاعة الأمر ، وعليه فالآية كقوله تعالى : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ 33 \ 10 - 11 ] وهو زلزال خوف وفزع لا زلزال حركة الأرض .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كاظمين معناه مكروبين ممتلئين خوفا وغما وحزنا .

والكظم : تردد الخوف والغيظ والحزن في القلب حتى يمتلئ منه ، ويضيق به .

والعرب تقول : كظمت السقاء إذا ملأته ماء ، وشددته عليه .

وقول بعضهم كاظمين ، أي ساكتين ، لا ينافي ما ذكرنا ; لأن الخوف والغم الذي ملأ قلوبهم يمنعهم من الكلام ، فلا يقدرون عليه ، ومن إطلاق الكظم على السكوت [ ص: 382 ] قول العجاج :



ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم


ويرجع إلى هذا القول معنى قول من قال : كاظمين أي : لا يتكلمون إلا من أذن له الله ، وقال الصواب ، كما قال تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا [ 78 \ 38 ] .

وقوله : كاظمين حال من أصحاب القلوب على المعنى . والتقدير : إذ القلوب لدى الحناجر ، أي : إذ قلوبهم لدى حناجرهم في حال كونهم كاظمين ، أي : ممتلئين خوفا وغما وحزنا ، ولا يبعد أن يكون حالا من نفس القلوب ; لأنها وصفت بالكظم الذي هو صفة أصحابها .

ونظير ذلك في القرآن : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [ 12 \ 4 ] فإنه أطلق في هذه الآية الكريمة ، على الكواكب والشمس والقمر صفة العقلاء في قوله تعالى : رأيتهم لي ساجدين ، والمسوغ لذلك وصفه الكواكب والشمس والقمر بصفة العقلاء التي هي السجود .

ونظير ذلك أيضا قوله تعالى : إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين [ 26 \ 4 ] وقوله تعالى : قالتا أتينا طائعين [ 41 \ 11 ] .
قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . قد قدمنا الكلام عليه في سورة البقرة وسورة الأعراف ، وأحلنا عليه مرارا .
قوله تعالى : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . قد قدمنا الكلام على ما يماثله من الآيات في أول سورة هود وفي غيرها وأحلنا عليه أيضا مرارا .
قوله تعالى : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه أرسل نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، بآياته وحججه الواضحة كالعصا واليد البيضاء إلى فرعون وهامان وقارون [ ص: 383 ] فكذبوه ، وزعموا أنه ساحر .

وأوضح هذا المعنى ، في آيات كثيرة كقوله تعالى عن فرعون وقومه : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها [ 7 \ 132 ] ، وقوله تعالى عن فرعون : إنه لكبيركم الذي علمكم السحر [ 20 \ 71 ] . وقوله تعالى : قال للملإ حوله إن هذا لساحر عليم [ 26 \ 34 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة . وقد بيناها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، عاذ بربه ، أي : اعتصم به ، وتمنع من كل متكبر ، أي : متصف بالكبر ، لا يؤمن بيوم الحساب ، أي لا يصدق بالبعث والجزاء .

وسبب عياذ موسى بربه المذكور ، أن فرعون قال لقومه : ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد [ 40 \ 26 ] .

فعياذ موسى المذكور بالله إنما هو في الحقيقة من فرعون ، وإن كانت العبارة أعم من خصوص فرعون ، لأن فرعون لا شك أنه متكبر ، لا يؤمن بيوم الحساب فهو داخل في الكلام دخولا أوليا ، وهو المقصود بالكلام .

وما ذكره جل وعلا في آية المؤمن هذه ، من عياذ موسى بالله من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب كفرعون وعتاة قومه ، ذكر نحوه في سورة الدخان في قوله تعالى عن موسى مخاطبا فرعون وقومه : وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون الآية [ 44 \ 20 ] .
قوله تعالى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن رجلا مؤمنا من آل فرعون يكتم إيمانه أي : يخفي عنهم أنه مؤمن ، أنكر على فرعون وقومه إرادتهم قتل نبي الله موسى عليه [ ص: 384 ] وعلى نبينا الصلاة والسلام ، حين قال فرعون : ذروني أقتل موسى وليدع ربه الآية [ 40 \ 26 ] . مع أنه لا ذنب له ، يستحق به القتل ، إلا أنه يقول : ربي الله .

وقد بين في آيات أخر أن من عادة المشركين قتل المسلمين ، والتنكيل بهم ، وإخراجهم من ديارهم من غير ذنب ، إلا أنهم يؤمنون بالله ويقولون : ربنا الله ، كقوله تعالى في أصحاب الأخدود ، الذين حرقوا المؤمنين : قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد [ 85 \ 4 - 8 ] وقوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 39 - 40 ] . وقوله تعالى : عن الذين كانوا سحرة لفرعون ، وصاروا من خيار المؤمنين ، لما هددهم فرعون قائلا : لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين [ 7 \ 124 ] أنهم أجابوه ، بما ذكره الله عنهم ، في قوله : قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا [ 7 \ 125 - 126 ] إلى غير ذلك من الآيات .

والتحقيق أن الرجل المؤمن المذكور في هذه الآية من جماعة فرعون كما هو ظاهر قوله تعالى : " من آل فرعون " .

فدعوى أنه إسرائيلي وأن في الكلام تقديما وتأخيرا . وأن من آل فرعون متعلق بـ ( يكتم ) ، أي وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون أي يخفي إيمانه عن فرعون وقومه خلاف التحقيق كما لا يخفى .

وقيل : إن هذا الرجل المؤمن هو الذي قال لموسى : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج [ 28 \ 20 ] وقيل غيره .

واختلف العلماء في اسمه اختلافا كثيرا فقيل : اسمه حبيب ، وقيل : اسمه شمعان ، وقيل : اسمه حزقيل ، وقيل غير ذلك ، ولا دليل على شيء من ذلك .

والظاهر في إعراب المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أن يقول ربي الله أنه مفعول من أجله .

[ ص: 385 ] وقال البخاري رحمه الله في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، قال : حدثني يحيى بن أبي كثير ، قال : حدثني محمد بن إبراهيم التيمي ، حدثني عروة بن الزبير ، قال : قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص : أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ، ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ قد جاءكم بالبينات من ربكم " .
قوله تعالى : قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد . الظاهر أن أرى في هذه الآية الكريمة علمية عرفانية ، تتعدى لمفعول واحد ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

لعلم عرفان وظن تهمه تعدية لواحد ملتزمه

وعليه فالمعنى : قال فرعون ما أعلمكم وأعرفكم من حقيقة موسى وأنه ينبغي أن يقتل ، خوف أن يبدل دينكم ، ويظهر الفساد في أرضكم ، إلا ما أرى ، أي : أعلم وأعرف أنه الحق والصواب فما أخفي عنكم خلاف ما أظهره لكم ، وما أهديكم بهذا إلا سبيل الرشاد ، أي : طريق السداد والصواب .

وهذان الأمران اللذان ذكر تعالى عن فرعون أنه قالهما في هذه الآية الكريمة ، قد بين في آيات أخر أن فرعون كاذب في كل واحد منهما .

أما الأول منهما وهو قوله : ما أريكم إلا ما أرى فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه ، وأوضح فيها أنه يعلم ويتيقن أن الآيات التي جاءه بها موسى حق ، وأنها ما أنزلها إلا الله ، وأنه جحدها هو ومن استيقنها معه من قومه ليستخفوا بها عقول الجهلة منهم ، كقوله تعالى في سورة النمل : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ 27 \ 12 - 14 ] .

[ ص: 386 ] فقوله تعالى : في هذه الآية : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا دليل واضح على أن فرعون كاذب في قوله : ما أريكم إلا ما أرى .

وكقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يافرعون مثبورا [ 17 \ 102 ] فقول نبي الله موسى لفرعون : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض مؤكدا إخباره بأن فرعون عالم بذلك بالقسم ، وقد دل أيضا على أنه كاذب في قوله : ما أريكم إلا ما أرى .

وكان غرض فرعون بهذا الكذب التدليس والتمويه ; ليظن جهلة قومه أن معه الحق ، كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله : فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين [ 43 \ 54 ] .

وأما الأمر الثاني وهو قوله : وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه كقوله تعالى : فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد [ 11 \ 97 ] . وقوله تعالى : وأضل فرعون قومه وما هدى [ 20 \ 79 ] . وقال بعض العلماء في قوله : ما أريكم إلا ما أرى أي : ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي ، من قتل موسى . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها . هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات الدالة عن أن السيئات لا تضاعف ولا تجزى إلا بمثلها ، بينها وبين الآيات الأخرى الدالة على أن السيئات ربما ضوعفت في بعض الأحوال ، كقوله تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم : إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات [ 17 \ 75 ] وقوله تعالى في نسائه رضي الله عنهن : يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين [ 33 ] إشكال معروف .

وقد قدمنا الجواب عنه موضحا في سورة النمل ، في الكلام على قوله تعالى : ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 90 ] .
قوله تعالى : ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ ص: 387 ] قد أوضحنا معنى هذه الآية الكريمة ، وبينا العمل الصالح بالآيات القرآنية ، وأوضحنا الآيات المبينة لمفهوم المخالفة ، في قوله : وهو مؤمن في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، في سورة النحل ، في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة الآية [ 16 \ 97 ] . وفي أول سورة الكهف ، في الكلام على قوله تعالى : ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا [ 18 \ 2 - 3 ] .
قوله تعالى : وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم . الظاهر أن جملة قوله تدعونني تدعونني لأكفر بدل من قوله : وتدعونني إلى النار ; لأن الدعوة إلى الكفر بالله والإشراك به دعوة إلى النار .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفر والإشراك بالله مستوجب لدخول النار ، بينه تعالى في آيات كثيرة من كتابه كقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [ 5 \ 72 ] ، وقد قدمنا ما فيه كفاية من ذلك ، في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء الآية [ 22 \ 31 ] .
قوله تعالى : فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب . التحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الكلام من كلام مؤمن آل فرعون الذي ذكر الله عنه ، وليس لموسى فيه دخل .

وقوله : فستذكرون ما أقول لكم ، يعني أنهم يوم القيامة يعلمون صحة ما كان يقول لهم ، ويذكرون نصيحته ، فيندمون حيث لا ينفع الندم ، والآيات الدالة على مثل هذا من أن الكفار تنكشف لهم يوم القيامة حقائق ما كانوا يكذبون به في الدنيا - كثيرة ، كقوله تعالى : وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 66 - 67 ] وقوله تعالى : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] . وقوله تعالى : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون [ 78 \ 4 - 5 ] وقوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون [ 102 \ 3 - 4 ] . [ ص: 388 ] وقوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا [ 40 \ 44 - 45 ] دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله ، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء ، وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، كقولهم : سها فسجد ، أي : سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده ، أي : لعلة سرقته ، كما قدمناه مرارا .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من كون التوكل على الله سببا للحفظ ، والوقاية من السوء ، جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ 65 \ 3 ] . وقوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء [ 3 \ 173 - 174 ] .

وقد ذكرنا الآيات الدالة على ذلك بكثرة ، في أول سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله تعالى : ألا تتخذوا من دوني ‎وكيلا [ 17 \ 2 ] .

والظاهر أن ما في قوله : سيئات ما مكروا [ 40 \ 45 ] مصدرية ، أي : فوقاه الله سيئات مكرهم ، أي : أضرار مكرهم وشدائده ، والمكر : الكيد .

فقد دلت هذه الآية الكريمة ، على أن فرعون وقومه أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن الكريم وأن الله وقاه ، أي حفظه ونجاه ، من أضرار مكرهم وشدائده بسبب توكله على الله ، وتفويضه أمره إليه .

وبعض العلماء يقول : نجاه الله منهم مع موسى وقومه وبعضهم يقول : صعد جبلا فأعجزهم الله عنه ونجاه منهم ، وكل هذا لا دليل عليه ، وغاية ما دل عليه القرآن أن الله وقاه سيئات مكرهم ، أي حفظه ونجاه منها .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 10:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (461)
سُورَةُ غَافِرٍ
صـ 389 إلى صـ 397



وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وحاق بآل فرعون سوء العذاب معناه : أنهم لما أرادوا أن يمكروا بهذا المؤمن وقاه الله مكرهم ، ورد العاقبة السيئة عليهم ، فرد سوء مكرهم إليهم ، فكان المؤمن المذكور ناجيا في الدنيا والآخرة ، وكان فرعون وقومه هالكين [ ص: 389 ] في الدنيا والآخرة والبرزخ .

فقال في هلاكهم في الدنيا : وأغرقنا آل فرعون ، وأمثالها من الآيات .

وقال في مصيرهم في البرزخ : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 46 ] .

وقال في عذابهم في الآخرة : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من حيق المكر السيئ بالماكر أوضحه تعالى في قوله : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] .

والعرب تقول حاق به المكروه يحيق به حيقا وحيوقا ، إذا نزل به وأحاط به ، ولا يطلق إلا على إحاطة المكروه خاصة .

يقال : حاق به السوء والمكروه ، ولا يقال : حاق به الخير ، فمادة الحيق من الأجوف الذي هو يائي العين ، والوصف منه حائق على القياس ، ومنه قول الشاعر :



فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضبة حائق

وقد قدمنا أن وزن السيئة بالميزان الصرفي فيعلة من السوء ، فأدغمت ياء الفيعلة الزائدة في الواو ، التي هي عين الكلمة ، بعد إبدال الواو ياء على القاعدة التصريفية المشار إليها ، في الخلاصة بقوله :



إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا


فياء الواو فلين مدغما وشذ معطي غير ما قد رسما
قوله تعالى : وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد . قوله تعالى : يتحاجون في النار أصله يتفاعلون من الحجة أي : يختصمون ، ويحتج بعضهم على بعض ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] وقوله تعالى : [ ص: 390 ] ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا [ 34 \ 31 - 33 ] . وقوله تعالى : كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون [ 7 \ 38 - 39 ] وقوله تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [ 2 \ 166 - 167 ] وقوله تعالى : وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل [ 14 \ 21 - 22 ] والآيات بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا الكلام عليها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب . ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أن أهل النار طلبوا من خزنة جهنم أن يدعو لهم الله أن يخفف عنهم من شدة عذاب النار .

وقد بين في سورة الزخرف أنهم نادوا مالكا خاصة من خزنة أهل النار ليقضي الله عليهم ، أي : ليميتهم فيستريحوا بالموت من عذاب النار .

وقد أوضح جل وعلا في آيات من كتابه ، أنهم لا يحابون في واحد من الأمرين ; فلا يخفف عنهم العذاب ، الذي سألوا تخفيفه ، في سورة المؤمن هذه ، ولا يحصل لهم الموت الذي سألوه في سورة الزخرف ، فقال تعالى في عدم تخفيف العذاب عنهم في [ ص: 391 ] هذه الآية : أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال [ 40 \ 50 ] وقال تعالى : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 36 ] وقال تعالى : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 ] وقال تعالى : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 \ 75 ] وقال تعالى : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] وقال تعالى : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] وقال تعالى : لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 3 \ 88 ] . وقال تعالى : ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] .

وقال تعالى في عدم موتهم في النار : لا يقضى عليهم فيموتوا [ 35 \ 36 ] . وقال تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [ 14 \ 17 ] . وقال تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 \ 56 ] . وقال تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] . وقال تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 \ 11 - 13 ]

ولما قالوا : ليقض علينا ربك [ 43 \ 77 ] أجابهم بقوله : قال إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] .
قوله تعالى : قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات . قد قدمنا الكلام عليه مع الآيات التي بمعناه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] .
قوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 14 ] ، وذكرنا طرفا من ذلك في الصافات في الكلام على قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون [ 37 \ 171 - 172 ] وستأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله في سورة المجادلة .
قوله تعالى : ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب . [ ص: 392 ] اللام في قوله : ولقد آتينا موسى الهدى موطئة للقسم ، وصيغة الجمع في آتينا و أورثنا للتعظيم .

والمراد بالهدى ما تضمنه التوراة من الهدى في العقائد والأعمال : وأورثنا بني إسرائيل الكتاب وهو التوراة ، وقوله : هدى وذكرى لأولي الألباب مفعول من أجله ، أي : لأجل الهدى والتذكير .

وقال بعضهم : هدى حال ، وورود المصدر المنكر حالا معروف ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كـ بغتة زيد طلع

وقال القرطبي : هدى بدل من الكتاب ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله أنزل التوراة على موسى وأنزل فيها الهدى لبني إسرائيل جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني ‎وكيلا [ 17 \ 2 ] . وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل الآية [ 32 \ 23 ] . وقوله تعالى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار [ 5 \ 44 ] وقوله تعالى : ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [ 28 \ 43 ] وقوله تعالى : ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون [ 6 \ 154 ] . وقوله تعالى : وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء الآية [ 7 \ 145 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . قد قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف ، في الكلام على قوله تعالى : قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها [ 7 \ 13 ] ، وذكرنا هناك بعض النتائج السيئة الناشئة عن الكبر .
قوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس .

[ ص: 393 ] قد قدمنا أن هذه الآية من البراهين الدالة على البعث ، وأوضحنا كل البراهين الدالة على البعث بالآيات القرآنية بكثرة في سورة البقرة ، وسورة النحل ، وأحلنا على مواضع ذلك مرارا .
قوله تعالى : وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وما يستوي الأعمى والبصير قدمنا الكلام عليه في سورة هود ، في الكلام على قوله تعالى : مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع الآية [ 11 \ 24 ] .

وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قد قدمنا إيضاح معناه بالآيات القرآنية في سورة ص في الكلام على قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] .
قوله تعالى : إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين . قال بعض العلماء : ادعوني أستجب لكم : اعبدوني أثبكم من عبادتكم ، ويدل لهذا قوله بعده : إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين .

وقال بعض العلماء : ادعوني أستجب لكم أي : اسألوني أعطكم .

ولا منافاة بين القولين ; لأن دعاء الله من أنواع عبادته .

وقد أوضحنا هذا المعنى ، وبينا وجه الجمع بين قوله تعالى : وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان [ 2 \ 186 ] مع قوله تعالى : فيكشف ما تدعون إليه إن شاء [ ص: 394 ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم [ 17 \ 12 ] .
قوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة الآية [ 22 \ 5 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [ 16 \ 40 ] . وبينا أوجه القراءة في قوله : فيكون هناك .
قوله تعالى : ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين . لم يبين هنا جل وعلا عدد أبواب جهنم ، ولكنه بين ذلك في سورة الحجر ، في قوله تعالى : وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 43 - 44 ] .
قوله تعالى : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله تبارك وتعالى قص على نبيه صلى الله عليه وسلم أنباء بعض [ ص: 395 ] الرسل ; أي : كنوح وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وموسى ، وأنه لم يقصص عليه أنباء رسل آخرين ، بينه في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة النساء : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما [ 4 \ 164 ] ، وأشار إلى ذلك في سورة إبراهيم في قوله : ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات الآية [ 14 \ 9 ] . وفي سورة الفرقان في قوله تعالى : وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا [ 25 \ 38 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون . قوله هنا : فإذا جاء أمر الله أي قامت القيامة ، كما قدمنا إيضاحه في قوله تعالى : أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] أي : فإذا قامت القيامة قضى بين الناس بالحق الذي لا يخالطه حيف ولا جور ، كما قال تعالى : وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق الآية [ 39 \ 69 ] .

وقال تعالى : وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق [ 39 \ 75 ] .

والحق المذكور في هذه الآيات : هو المراد بالقسط المذكور في سورة يونس في قوله تعالى : ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط [ 10 \ 47 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه إذا قامت القيامة يخسر المبطلون ، أوضحه جل وعلا في سورة الجاثية في قوله تعالى : ولله ملك السماوات والأرض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون [ 45 \ 27 ] .

والمبطل هو : من مات مصرا على الباطل .

وخسران المبطلين المذكور هنا قد قدمنا بيانه في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ 10 \ 45 ] .
قوله تعالى : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون [ ص: 396 ] قد قدمنا أن لفظة جعل تأتي في اللغة العربية لأربعة معان ; ثلاثة منها في القرآن :

الأول : إتيان جعل بمعنى اعتقد ، ومنه قوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ 43 \ 19 ] أي : اعتقدوهم إناثا ، ومعلوم أن هذه تنصب المبتدأ والخبر .

الثاني : جعل بمعنى صير ، كقوله : حتى جعلناهم حصيدا خامدين [ 21 \ 15 ] وهذه تنصب المبتدأ والخبر أيضا .

الثالث : جعل بمعنى خلق ، كقوله تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] أي : خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور .

والظاهر أن منه قوله هنا : الله الذي جعل لكم الأنعام أي : خلق لكم الأنعام ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : والأنعام خلقها لكم [ 16 \ 5 ] ، وقوله : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما الآية [ 36 \ 71 ] .

الرابع : وهو الذي ليس في القرآن جعل بمعنى شرع ، ومنه قوله :

وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر

وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، من الامتنان بهذه النعم الكثيرة ، التي أنعم عليهم بها بسبب خلقه لهم الأنعام وهي الذكور والإناث ، من الإبل والبقر والضأن والمعز ، كما قدمنا إيضاحه في سورة آل عمران في الكلام على قوله : والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] بينه أيضا في مواضع أخر ، كقوله تعالى : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس [ 16 \ 5 - 7 ] . والدفء ما يتدفئون به في الثياب المصنوعة من جلود الأنعام وأوبارها وأشعارها وأصوافها .

وقوله تعالى : جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين [ 16 \ 80 ] . وقوله تعالى : [ ص: 397 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] وقوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين [ 61 \ 66 ] . وقوله تعالى : وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون [ 23 \ 21 - 22 ] . وقوله تعالى ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين إلى قوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا [ 6 \ 142 - 144 ] وقوله تعالى : وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] . وقوله تعالى : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا الآية [ 42 \ 11 ] . وقوله تعالى : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون الآية [ 43 \ 12 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم . قد ذكرنا الآيات الموضحة له في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، وبينا مواضعها في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم .
قوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون . قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أثم إذا ما وقع آمنتم به آلآن وقد كنتم به تستعجلون [ 10 \ 51 ] ، وفي سورة ص في الكلام على قوله تعالى فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:07 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (462)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 3 إلى صـ 10




بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ فُصِّلَتْ

قَوْلُهُ تَعَالَى : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَظَائِرِهِ مِنَ الْآيَاتِ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ .
قوله تعالى : كتاب فصلت آياته .

( كتاب ) خبر مبتدإ محذوف ، أي : هذا كتاب ، والكتاب فعال بمعنى مفعول ، أي مكتوب .

وإنما قيل له ( كتاب ) لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ ، كما قال - تعالى - : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ 85 \ 21 - 22 ] .

ومكتوب أيضا في صحف عند الملائكة ; كما قال - تعالى - : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة [ 80 \ 11 - 16 ] .

وقال - تعالى - في قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تضمنته الصحف المكتوب فيها القرآن : رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة ) [ 98 \ 2 - 3 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فصلت آياته التفصيل ضد الإجمال ، أي فصل الله آيات هذا القرآن ، أي بينها وأوضح فيها ما يحتاج إليه الخلق من أمور دينهم ودنياهم .

والمسوغ لحذف الفاعل في قوله - تعالى - : فصلت آياته هو العلم بأن تفصيل آيات هذا القرآن لا يكون إلا من الله وحده .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تفصيل آيات هذا الكتاب ، جاء موضحا في آيات أخر ، مبينا فيها أن الله فصله على علم منه ، وأن الذي فصله حكيم خبير ، وأنه فصله ليهدي [ ص: 4 ] به الناس ويرحمهم ، وأن تفصيله شامل لكل شيء ، وأنه لا شك أنه منزل من الله ، كقوله - تعالى - : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] وقوله - تعالى - : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] . وقوله - تعالى - : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين [ 10 \ 37 ] ، وقوله - تعالى - : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 11 \ 111 ] ، وقوله - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا [ 6 \ 114 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
قوله - تعالى - : قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون

قوله : ( قرآنا عربيا ) قد تكلمنا عليه وعلى الآيات التي بمعناه في القرآن في سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ 39 \ 28 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لقوم يعلمون [ 41 \ 3 ] أي فصلت آياته في حال كونه ( قرآنا عربيا لقوم يعلمون ) .

وإنما خصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون بتفصيله ، كما خصهم بتفصيل الآيات في سورة " يونس " في قوله - تعالى - : ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [ 10 \ 5 ] وفي سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون [ 6 \ 97 - 98 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد أوضحنا وجه تخصيص المنتفعين بالأمر المشترك دون غيرهم في سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] وبينا هناك أن تخصيصهم بالإنذار دون غيرهم في آية " فاطر " هذه ، وفي قوله - تعالى - في " يس " : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 \ 11 ] ، وقوله في النازعات : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] ، وقوله في " الأنعام " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع [ ص: 5 ] الآية [ 6 \ 51 ] . مع أن أصل الإنذار عام شامل للمذكورين وغيرهم ، كما يدل عليه قوله - تعالى - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] .

وإنما خص المذكورين بالإنذار ، لأنهم هم المنتفعون به ; لأن من لم ينتفع بالإنذار ، ومن لم ينذر أصلا - سواء في عدم الانتفاع ، كما قال الله - تعالى - : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 36 \ 10 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بشيرا ونذيرا [ 41 \ 4 ] حال بعد حال . وقد قدمنا الكلام عليه وبعض شواهده العربية في أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين [ 18 \ 2 ] ، وبسطنا الكلام عليه في أول سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فأعرض أكثرهم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] وفي سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله [ 6 \ 116 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فهم لا يسمعون أي لا يسمعون سماع قبول وانتفاع .

وقد أوضحنا ذلك بالآيات القرآنية في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء الآية [ 27 \ 80 ] .
قوله تعالى : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب .

ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار صرحوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يستجيبون له ولا يؤمنون به ، ولا يقبلون منه ما جاءهم به ; فقالوا له : قلوبنا التي نعقل بها ونفهم ( في أكنة ) أي أغطية .

[ ص: 6 ] والأكنة جمع كنان ، وهو الغطاء والغلاف الذي يغطي الشيء ويمنعه من الوصول إليه .

ويعنون أن تلك الأغطية مانعة لهم من فهم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - . وقالوا : إن في آذانهم التي يسمعون بها وقرا ، أي ثقلا ، وهو الصمم ، وإن ذلك الصمم مانع لهم من أن يسمعوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا ومما يقول ، كما قال - تعالى - عنهم : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه [ 41 \ 26 ] .

وأن من بينهم وبينه حجابا مانعا لهم من الاتصال والاتفاق ; لأن ذلك الحجاب يحجب كلا منهما عن الآخر ، ويحول بينهم وبين رؤية ما يبديه - صلى الله عليه وسلم - من الحق .

والله - جل وعلا - ذكر عنهم هذا الكلام في معرض الذم ، مع أنه - تعالى - صرح بأنه جعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، وجعل بينهم وبين رسوله حجابا عند قراءته القرآن ، قال - تعالى - في سورة " بني إسرائيل " : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 17 \ 45 - 46 ] . وقال - تعالى - في " الأنعام " : ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها [ 6 \ 25 ] . وقال - تعالى - " في الكهف " : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] .

وهذا الإشكال الذي أشرنا إليه في هذه الآيات قوي ، ووجه كونه مشكلا ظاهر; لأنه - تعالى - ذمهم على دعواهم الأكنة والوقر والحجاب في هذه الآية الكريمة من " فصلت " ، وبين في الآيات الأخرى أن ما ذمهم على ادعائه واقع بهم فعلا ، وأنه - تعالى - هو الذي جعله فيهم .

فيقال : فكيف يذمون على قول شيء هو حق في نفس الأمر ؟

والتحقيق في الجواب عن هذا الإشكال هو ما ذكرناه مرارا من أن الله إنما جعل على قلوبهم الأكنة ، وطبع عليها وختم عليها ، وجعل الوقر في آذانهم ، ونحو ذلك من الموانع من الهدى - بسبب أنهم بادروا إلى الكفر ، وتكذيب الرسل طائعين مختارين ، فجزاهم الله على ذلك الذنب الأعظم طمس البصيرة ، والعمى عن الهدى ، جزاء وفاقا .

[ ص: 7 ] فالأكنة والوقر والحجاب المذكورة إنما جعلها الله عليهم مجازاة لكفرهم الأول .

ومن جزاء السيئة تمادي صاحبها في الضلال ، ولله الحكمة البالغة في ذلك .

والآيات المصرحة بمعنى هذا كثيرة في القرآن ، كقوله - تعالى - : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .

فقول اليهود في هذه الآية : قلوبنا غلف كقول كفار مكة : قلوبنا في أكنة ; لأن الغلف جمع أغلف ، وهو الذي عليه غلاف ، والأكنة جمع كنان ، والغلاف والكنان كلاهما بمعنى الغطاء الساتر .

وقد رد الله على اليهود دعواهم ب ( بل ) التي هي للإضراب الإبطالي ، في قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .

فالباء في قوله : ( بكفرهم ) سببية ، وهي دالة على أن سبب الطبع على قلوبهم هو كفرهم ، والأكنة والوقر والطبع كلها من باب واحد .

وكقوله - تعالى - : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 63 \ 3 ] ، والفاء في قوله : ( فطبع ) سببية ، أي ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم بسبب ذلك الكفر .

وقد قدمنا مرارا أنه تقرر في الأصول أن الفاء من حروف التعليل ، ومن المعلوم أن العلة الشرعية سبب شرعي .

وكذلك الفاء في قوله : فهم لا يفقهون فهي سببية أيضا ، أي فطبع على قلوبهم ، فهم بسبب ذلك الطبع ( لا يفقهون ) أي لا يفهمون من براهين الله وحججه شيئا .

وذلك مما يبين أن الطبع والأكنة يئول معناهما إلى شيء واحد ، وهو ما ينشأ عن كل منهما من عدم الفهم .

لأنه قال في الطبع فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .

وقال في الأكنة : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه [ 6 \ 25 ] أي كراهة أن يفقهوه ، أو لأجل ألا يفقهوه ، كما قدمنا إيضاحه .

[ ص: 8 ] وكقوله - تعالى - : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] فبين أن زيغهم الأول كان سببا لإزاغة الله قلوبهم ، وتلك الإزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب .

وكقوله - تعالى - : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] وقوله - تعالى - : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية [ 6 \ 110 ] وقوله - تعالى - : وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم [ 9 \ 125 ] .

وإيضاح هذا الجواب أن الكفار قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب يقصدون بذلك إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لا يؤمنون به بوجه ، ولا يتبعونه بحال ، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة والذنب الذي كان سببا في الأكنة والوقر والحجاب .

فدعواهم كاذبة ; لأن الله جعل لهم قلوبا يفهمون بها ، وآذانا يسمعون بها ، خلافا لما زعموا ، ولكنه سبب لهم الأكنة والوقر والحجاب بسبب مبادرتهم إلى الكفر ، وتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - .

وهذا المعنى أوضحه رده - تعالى - على اليهود في قوله عنهم : وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم .

وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة الجواب على الإشكال المذكور ، فقال : فإن قيل إنه - تعالى - حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم ، وذكر أيضا ما يقرب منه في معرض الذم ، فقال : وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم [ 2 \ 88 ] ثم إنه - تعالى - ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقرير والإثبات في سورة الأنعام ، فقال : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] فكيف الجمع بينهما ؟

قلنا : إنه لم يقل ها هنا إنهم كذبوا في ذلك ، إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا : إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا ، وهذا الثاني باطل .

أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه . اهـ منه . والأظهر هو ما ذكرنا .

[ ص: 9 ] قال صاحب الكشاف في تفسير قوله - تعالى - : ومن بيننا وبينك حجاب .

فإن قلت : هل لزيادة ( من ) في قوله : ( ومن بيننا وبينك حجاب ) - فائدة ؟ قلت : نعم ; لأنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب ، لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين .

وأما بزيادة ( من ) فالمعنى أن حجابا ابتدأ منا وابتدأ منك ، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب ، لا فراغ فيها . انتهى منه .

واستحسن كلامه هذا الفخر الرازي ، وتعقبه ابن المنير على الزمخشري ، فأوضح سقوطه ، والحق معه في تعقبه عليه .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ومن بيننا وبينك حجاب ، وقد قدمنا تفسيره وإيضاحه بالآيات القرآنية في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ 17 \ 45 ] .
قوله - تعالى - : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد .

أمر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول للناس : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد .

والقصر في قوله : إنما أنا بشر إضافي ، أي لا أقول لكم : إني ملك ، وإنما أنا رجل من البشر .

وقوله : مثلكم في الصفات البشرية ، ولكن الله فضلني بما أوحى إلي من توحيده .

كما قال - تعالى - عن الرسل في سورة إبراهيم : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده [ 14 \ 11 ] أي كما من علينا بالوحي والرسالة .

وما ذكره الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ذكره في آخر سورة الكهف في قوله - تعالى - : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا الآية [ 18 \ 110 ] .

[ ص: 10 ] وقد أوضحنا وجه حصر ما أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - في مضمون لا إله إلا الله ، في قوله - تعالى - قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون في سورة بني إسرائيل ، في الكلام على قوله - تعالى - إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

وبينا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك إنكار المشركين كون الرسل من البشر ، وأنهم ينبغي أن يكونوا من الملائكة ، وما رد الله عليهم به ذلك من الآيات القرآنية ، أوضحنا ذلك في سورة ص ، في الكلام على قوله - تعالى - : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : وما منع الناس أن يؤمنوا إلى قوله : لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا [ 17 \ 94 - 95 ] .
قوله - تعالى - : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون .

قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ; لأنه - تعالى - صرح في هذه الآية الكريمة بأنهم مشركون ، وأنهم كافرون بالآخرة ، وقد توعدهم بالويل على شركهم وكفرهم بالآخرة ، وعدم إيتائهم الزكاة ، سواء قلنا : إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة ، أو زكاة الأبدان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي .

ورجح بعضهم القول الأخير ; لأن سورة فصلت هذه من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة ، وزكاة المال المعروفة إنما فرضت بعد الهجرة سنة اثنتين ، كما قدمناه في سورة الأنعام ، في الكلام على قوله - تعالى - : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] .

وعلى كل حال ، فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام .

أعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه . وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كونهم مخاطبين بذلك ، وأنهم يعذبون على الكفر ، ويعذبون على المعاصي - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - عنهم مقررا له : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين [ 74 \ 42 - 47 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:10 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (463)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 11 إلى صـ 18




[ ص: 11 ] فصرح - تعالى - عنهم مقررا له أن من الأسباب التي سلكتهم في سقر - أي أدخلتهم النار - عدم الصلاة ، وعدم إطعام المسكين ، وعد ذلك مع الكفر بسبب التكذيب بيوم الدين .

ونظير ذلك قوله - تعالى - : خذوه فغلوه ثم الجحيم صلوه ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه [ 69 \ - 32 ] ثم بين سبب ذلك فقال : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ولا ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 33 - 36 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون .

الأجر جزاء العمل ، وجزاء عمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات هو نعيم الجنة ، وذلك الجزاء ( غير ممنون ) أي غير مقطوع ، فالممنون اسم مفعول منه بمعنى قطعه ، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :



لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها

فقوله : ما يمن طعامها ، أي ما يقطع . وقول ذي الأصبع :



إني لعمرك ما بابي بذي غلق على الصديق ولا خيري بممنون


وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن أجرهم غير ممنون - نص الله - تعالى - عليه في آيات أخر من كتابه ، كقوله - تعالى - في آخر سورة الانشقاق : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون [ 84 \ 25 ] . وقوله - تعالى - في سورة التين : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 95 \ 6 ] . وقوله - تعالى - في سورة هود : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] .

فقوله : ( غير مجذوذ ) أي غير مقطوع ، وبه تعلم أن ( غير مجذوذ ) و ( غير ممنون ) - معناهما واحد .

وقوله - تعالى - في " ص " : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] أي ما له من انتهاء ولا انقطاع . وقوله في " النحل " : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .

[ ص: 12 ] وهذا الذي ذكرنا هو الذي عليه الجمهور خلافا لمن قال : إن معنى ( غير ممنون ) غير ممنون عليهم به .

وعليه ; فالمن في الآية من جنس المن المذكور في قوله - تعالى - : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] .

ومن قال : إن معنى ( غير ممنون ) غير منقوص ، محتجا بأن العرب تطلق الممنون على المنقوص ، قالوا : ومنه قول زهير :

فضل الجياد على الخيل البطاء فلا يعطى بذلك ممنونا ولا نزقا

فقوله : ممنونا ، أي منقوصا .

وهذا وإن صح لغة ، فالأظهر أنه ليس معنى الآية .

بل معناها هو ما قدمنا . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام .

الظاهر أن معنى قوله هنا ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام .

وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط ; لأنه - تعالى - قال : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم قال : ( في أربعة أيام ) أي في تتمة أربعة أيام .

ثم قال : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة ، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما - ستة أيام .

وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال ; لأن الله - تعالى - صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، كقوله في " الفرقان " : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] . وقوله - تعالى - في السجدة : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع [ 32 \ 4 ] . وقوله - تعالى - في " ق " : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب [ 50 \ 38 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش [ ص: 13 ] [ 7 \ 54 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

فلو لم يفسر قوله - تعالى - : في أربعة أيام بأن معناه في تتمة أربعة أيام - لكان المعنى أنه - تعالى - خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام; لأن قوله - تعالى - : في أربعة أيام إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله - تعالى - : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 12 ] - لكان المجموع ثمانية أيام .

وذلك لم يقل به أحد من المسلمين .

والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام ، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا ، وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة وجعل فيها رواسي من فوقها قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 16 \ 15 ] ، وقوله - تعالى - : وبارك فيها أي أكثر فيها البركات ، والبركة الخير ، وقوله - تعالى - وقدر فيها أقواتها .

التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد .

والأقوات جمع قوت ، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أن آية " فصلت " هذه ، أعني قوله - تعالى - : وقدر فيها أقواتها يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء ، كقوله هنا : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ثم رتب على ذلك بـ ( ثم ) قوله : ثم استوى إلى السماء وهي دخان إلى قوله فقضاهن سبع سماوات في يومين مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض ، كقوله - تعالى - في " النازعات " : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها إلى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 \ 27 - 30 ] .

فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه : قوله - تعالى - : [ ص: 14 ] هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء [ 2 \ 29 ] ، الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء ، بدليل لفظة ( ثم ) التي هي للترتيب والانفصال .

وكذلك آية " حم السجدة " تدل أيضا على خلق الأرض قبل السماء ; لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى أن قال ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية .

مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ; لأنه قال فيها أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ، ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها .

اعلم أولا أن ابن عباس - رضي الله عنهما - سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " فأجاب بأن الله - تعالى - خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ، ثم دحا الأرض بعد ذلك ، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك .

فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء .

ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل : خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها ماءها ومرعاها [ 79 \ 31 ] ، وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه .

وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .

وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء ; لأنه قال فيها هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .

وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ، ففهمته من القرآن العظيم .

وإيضاحه : أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرآن .

[ ص: 15 ] الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء - الخلق اللغوي الذي هو التقدير ، لا الخلق بالفعل ، الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا . ومنه قول زهير :



ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير أنه - تعالى - نص على ذلك في سورة " فصلت " ; حيث قال : وقدر فيها أقواتها ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية .

الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا .

والدليل من القرآن على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل - قوله - تعالى - : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة الآية [ 7 \ 11 ] ، فقوله : خلقناكم ثم صورناكم أي بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .

وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله والأرض بعد ذلك دحاها أي مع ذلك ، فلفظة ( بعد ) بمعنى مع .

ونظيره قوله - تعالى - : عتل بعد ذلك زنيم وعليه ; فلا إشكال في الآية .

ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة - وبها قرأ مجاهد - : ( والأرض مع ذلك دحاها ) .

وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة ; لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق .

منها : أن ( ثم ) بمعنى الواو .

ومنها : أنها للترتيب الذكري ، كقوله - تعالى - : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .
[ ص: 16 ] قوله - تعالى - : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا .

المصابيح : النجوم .

وما تضمنته هذه الآية من تزيين السماء الدنيا بالنجوم ، قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية ، في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها [ 6 \ 97 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وحفظا قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " الحجر " في الكلام على قوله - تعالى - : وحفظناها من كل شيطان رجيم الآية [ 15 \ 17 ] .
قوله - تعالى - : قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون .

قد قدمنا إيضاحه بالآيات القرآنية في سورة " ص " في الكلام على قوله - تعالى - : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] .
قوله - تعالى - : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات . الصرصر : وزنه بالميزان الصرفي " فعفل " ، وفي معنى الصرصر لعلماء التفسير وجهان معروفان .

أحدهما : أن الريح الصرصر هي الريح العاصفة الشديدة الهبوب التي يسمع لهبوبها صوت شديد ، وعلى هذا ; فالصرصر من الصرة التي هي الصيحة المزعجة .

ومنه قوله - تعالى - فأقبلت امرأته في صرة أي في صيحة ، ومن هذا المعنى صرير الباب والقلم ، أي صوتهما .

الوجه الثاني : أن الصرصر من الصر الذي هو البرد الشديد المحرق ، ومنه على أصح التفسيرين قوله - تعالى - : كمثل ريح فيها صر الآية [ 3 \ 117 ] ، أي فيها برد شديد محرق ، ومنه قول حاتم الطائي :



أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا واقد ريح صر عل يرى نارك من يمر
إن جلبت ضيفا فأنت حر

[ ص: 17 ] فقوله : ريح صر ، أي باردة شديدة البرد .

والأظهر أن كلا القولين صحيح ، وأن الريح المذكورة جامعة بين الأمرين ، فهي عاصفة شديدة الهبوب ، باردة شديدة البرد .

وما ذكره - جل وعلا - من إهلاكه عادا بهذه الريح الصرصر ، في تلك الأيام النحسات - أي المشئومات النكدات; لأن النحس ضد السعد ، وهو الشؤم - جاء موضحا في آيات من كتاب الله .

وقد بين - تعالى - في بعضها عدد الأيام والليالي التي أرسل عليهم الريح فيها ، كقوله - تعالى - : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية [ 69 \ 6 - 8 ] ، وقوله - تعالى - : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم [ 51 \ 41 - 42 ] ، وقوله - تعالى - : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 19 - 20 ] ، وقوله - تعالى - : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها الآية [ 46 \ 24 - 25 ] .

وهذه الريح الصرصر هي المراد بصاعقة عاد في قوله - تعالى - : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد الآية [ 41 \ 13 ] .

وقرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وأبو عمر ( نحسات ) بسكون الحاء; وعليه فالنحس وصف أو مصدر ، نزل منزلة الوصف .

وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ( نحسات ) بكسر الحاء ، ووجهه ظاهر .

قد قدمنا أن معنى النحسات المشئومات النكدات .

وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج الطستي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن نافع بن الأزرق قال له : أخبرني عن قوله - عز وجل - : في يوم نحس [ 54 \ 19 ] . قال : [ ص: 18 ] النحس البلاء والشدة . قال : وهل تعرف العرب ذلك ؟ قال : نعم ، أما سمعت زهير بن أبي سلمى يقول :



سواء عليه أي يوم أتيته أساعة نحس تتقي أم بأسعد


وتفسير النحس بالبلاء والشدة تفسير بالمعنى ; لأن الشؤم بلاء وشدة ، ومقابلة زهير النحس بالأسعد في بيته يوضح ذلك ، وهو معلوم .

ويزعم بعض أهل العلم أنها من آخر شوال ، وأن أولها يوم الأربعاء ، وآخرها يوم الأربعاء ، ولا دليل على شيء من ذلك .

وما يذكره بعض أهل العلم من أن يوم النحس المستمر هو يوم الأربعاء الأخير من الشهر ، أو يوم الأربعاء مطلقا ، حتى إن بعض المنتسبين لطلب العلم وكثيرا من العوام صاروا يتشاءمون بيوم الأربعاء الأخير من كل شهر ، حتى إنهم لا يقدمون على السفر والتزوج ونحو ذلك فيه ، ظانين أنه يوم نحس وشؤم ، وأن نحسه مستمر على جميع الخلق في جميع الزمن - لا أصل له ولا معول عليه ، ولا يلتفت إليه من عنده علم; لأن نحس ذلك اليوم مستمر على عاد فقط الذين أهلكهم الله فيه ، فاتصل لهم عذاب البرزخ والآخرة بعذاب الدنيا ، فصار ذلك الشؤم مستمرا عليهم استمرارا لا انقطاع له .

أما غير عاد فليس مؤاخذا بذنب عاد ; لأنه لا تزر وازرة وزر أخرى .

وقد أردنا هنا أن نذكر بعض الروايات التي اغتر بها من ظن استمرار نحس ذلك اليوم ; لنبين أنها لا معول عليها .

قال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن أبي حاتم عن زر بن حبيش في يوم نحس مستمر قال : يوم الأربعاء .

وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال لي جبريل : اقض باليمين مع الشاهد . وقال : يوم الأربعاء يوم نحس مستمر " .

وأخرج ابن مردويه عن علي قال : " نزل جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - باليمين مع الشاهد ، والحجامة ، ويوم الأربعاء يوم نحس مستمر " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:13 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (464)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 19 إلى صـ 26




[ ص: 19 ] وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " يوم نحس يوم الأربعاء " .

وأخرج ابن مردويه عن أنس قال : " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأيام ، وسئل عن يوم الأربعاء قال : يوم نحس . قالوا كيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : أغرق فيه الله فرعون وقومه ، وأهلك عادا وثمود " .

وأخرج وكيع في الغرر ، وابن مردويه والخطيب بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر " .

فهذه الروايات وأمثالها لا تدل على شؤم يوم الأربعاء على من لم يكفر بالله ولم يعصه; لأن أغلبها ضعيف ، وما صح معناه منها فالمراد بنحسه شؤمه على أولئك الكفرة العصاة الذين أهلكهم الله فيه بسبب كفرهم ومعاصيهم .

فالحاصل أن النحس والشؤم إنما منشؤه وسببه الكفر والمعاصي .

أما من كان متقيا لله مطيعا له في يوم الأربعاء المذكور - فلا نحس ولا شؤم فيه عليه . فمن أراد أن يعرف النحس والشؤم والنكد والبلاء والشقاء على الحقيقة ، فليتحقق أن ذلك كله في معصية الله وعدم امتثال أمره ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى .

قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فهديناهم المراد بالهدى فيه هدى الدلالة والبيان والإرشاد ، لا هدى التوفيق والاصطفاء .

والدليل على ذلك قوله - تعالى - بعده : فاستحبوا العمى على الهدى ; لأنها لو كانت هداية توفيق لما انتقل صاحبها عن الهدى إلى العمى .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان وآثروه عليه ، وتعوضوه منه .

وهذا المعنى الذي ذكرنا يوضحه قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان [ 9 \ 23 ] فقوله في آية " التوبة " هذه : [ ص: 20 ] إن استحبوا الكفر على الإيمان موافق في المعنى لقوله هنا : فاستحبوا العمى على الهدى .

ونظير ذلك في المعنى قوله - تعالى - : الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله [ 14 \ 3 ] .

فلفظة استحب في القرآن كثيرا ما تتعدى بعلى; لأنها في معنى اختار وآثر .

وقد قدمنا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - : مثل الفريقين كالأعمى - أن العمى الكفر ، وأن المراد بالأعمى في آيات عديدة الكافر .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الهدى يأتي في القرآن بمعناه العام ، الذي هو البيان والدلالة والإرشاد - لا ينافي أن الهدى قد يطلق في القرآن في بعض المواضع على الهدى الخاص الذي هو التوفيق والاصطفاء ، كقوله - تعالى - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] .

فمن إطلاق القرآن الهدى على معناه العام قوله هنا : وأما ثمود فهديناهم أي بينا لهم طريق الحق وأمرناهم بسلوكها ، وطرق الشر ونهيناهم عن سلوكها على لسان نبينا صالح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : فاستحبوا العمى على الهدى أي اختاروا الكفر على الإيمان بعد إيضاح الحق لهم .

ومن إطلاقه على معناه العام قوله - تعالى - : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] بدليل قوله بعده : إما شاكرا وإما كفورا ; لأنه لو كان هدى توفيق لما قال : وإما كفورا .

ومن إطلاقه على معناه الخاص قوله - تعالى - : فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] . وقوله - تعالى - : والذين اهتدوا زادهم هدى [ 47 \ 17 ] . وقوله : من يهد الله فهو المهتدي [ 18 \ 17 ] .

وبمعرفة هذين الإطلاقين تتيسر إزالة إشكال قرآني وهو أنه - تعالى - : أثبت الهدى لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في آية ، وهي قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ونفاه عنه في آية أخرى ، وهي قوله - تعالى - : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] .

[ ص: 21 ] فيعلم مما ذكرنا أن الهدى المثبت له - صلى الله عليه وسلم - هو الهدى العام ، الذي هو البيان والدلالة والإرشاد ، وقد فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - فبين المحجة البيضاء ، حتى تركها ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها هالك .

والهدى المنفي عنه في آية : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] - هو الهدى الخاص ، الذي هو التفضل بالتوفيق ; لأن ذلك بيد الله وحده ، وليس بيده - صلى الله عليه وسلم - كما قال - تعالى - : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم الآية [ 5 \ 41 ] . وقوله - تعالى - : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وكذلك قوله - تعالى - : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس الآية [ 2 \ 185 ] - لا منافاة فيه بين عموم الناس في هذه الآية ، وخصوص المتقين في قوله - تعالى - : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين لأن الهدى العام للناس هو الهدى العام ، والهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص ، كما لا يخفى .

وقد بينا هذا في غير هذا الموضع ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون .

الفاء في قوله : ( فأخذتهم ) سببية ، أي فاستحبوا العمى على الهدى ، وبسبب ذلك أخذتهم صاعقة العذاب الهون .

واعلم أن الله - جل وعلا - عبر عن الهلاك الذي أهلك به ثمود بعبارات مختلفة ، فذكره هنا باسم الصاعقة في قوله : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون ، وقوله : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ 41 \ 31 ] .

وعبر عنه أيضا بالصاعقة في سورة " الذاريات " في قوله - تعالى - : وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون [ 51 \ 43 - 44 ] .

وعبر عنه بالصيحة في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - في سورة " هود " في إهلاكه ثمود : وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود [ ص: 22 ] [ 11 \ 67 - 68 ] وقوله - تعالى - في " الحجر " : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين [ 15 \ 82 - 83 ] وقوله - تعالى - في القمر : إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر [ 54 \ 31 ] وقوله - تعالى - في " العنكبوت " ومنهم من أخذته الصيحة يعني به ثمود المذكورين في قوله قبله : وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم الآية [ 29 \ 38 ] .

وعبر عنه بالرجفة في سورة الأعراف في قوله - تعالى - : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فأخذتهم الرجفة الآية [ 7 \ 77 - 51 ] .

وعبر عنه بالتدمير في سورة " النمل " في قوله - تعالى - : فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين [ 27 \ 51 ] .

وعبر عنه بالطاغية في " الحاقة " في قوله - تعالى - : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية [ 69 \ 5 ] .

وعبر عنه بالدمدمة في " الشمس " في قوله - تعالى - : فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها [ 91 \ 14 ] .

وعبر عنه بالعذاب في سورة " الشعراء " في قوله - تعالى - : فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب إن في ذلك لآية [ 26 \ 157 - 158 ] .

ومعنى هذه العبارات كلها راجع إلى شيء واحد ، وهو أن الله أرسل عليهم صيحة أهلكتهم ، والصيحة الصوت المزعج المهلك .

والصاعقة تطلق أيضا على الصوت المزعج المهلك ، وعلى النار المحرقة ، وعليهما معا ، ولشدة عظم الصيحة وهولها من فوقهم رجفت بهم الأرض من تحتهم ، أي تحركت حركة قوية ، فاجتمع فيها أنها صيحة وصاعقة ورجفة ، وكون ذلك تدميرا واضح . وقيل لها طاغية ; لأنها واقعة مجاوزة للحد في القوة وشدة الإهلاك .

والطغيان في لغة العرب مجاوزة الحد ، ومنه قوله - تعالى - : إنا لما طغى الماء الآية [ 69 \ 11 ] أي جاوز الحدود التي يبلغها الماء عادة .

[ ص: 23 ] واعلم أن التحقيق أن المراد بالطاغية في قوله - تعالى - : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية [ 69 \ 5 ] أنها الصيحة التي أهلكهم الله بها ، كما يوضحه قوله بعده : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية [ 69 \ 6 ] .

خلافا لمن زعم أن الطاغية مصدر كالعاقبة والعافية ، وأن المعنى أنهم أهلكوا بطغيانهم ، أي بكفرهم وتكذيبهم نبيهم ، كقوله : كذبت ثمود بطغواها [ 91 \ 11 ] .

وخلافا لمن زعم أن الطاغية هي أشقاهم الذي انبعث فعقر الناقة ، وأنهم أهلكوا بسبب فعله ، وهو عقره الناقة ، وكل هذا خلاف التحقيق .

والصواب - إن شاء الله - هو ما ذكرنا ، والسياق يدل عليه ، واختاره غير واحد .

وأما قوله - تعالى - : فدمدم عليهم ربهم بذنبهم [ 91 \ 14 ] فإنه لا يخالف ما ذكرنا ; لأن معنى دمدم عليهم ربهم بذنبهم ، أي أطلق عليهم العذاب وألبسهم إياه ، بسبب ذنبهم .

قال الزمخشري في معنى دمدم : وهو من تكرير قولهم : ناقة مدمومة ، إذا ألبسها الشحم .

وأما إطلاق العذاب عليه في سورة " الشعراء " فواضح ، فاتضح رجوع معنى الآيات المذكورة إلى شيء واحد .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة صاعقة العذاب الهون - من النعت بالمصدر ; لأن الهون مصدر بمعنى الهوان ، والنعت بالمصدر أسلوب عربي معروف ، أشار إليه في الخلاصة بقوله :



ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

وهو موجه بأحد أمرين : أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي العذاب ذي الهون .

والثاني : أنه على سبيل المبالغة ، فكأن العذاب لشدة اتصافه بالهوان اللاحق بمن وقع عليه - صار كأنه نفس الهوان ، كما هو معروف في محله .

[ ص: 24 ] وقوله - تعالى - : بما كانوا يكسبون كالتوكيد في المعنى ; لقوله : فاستحبوا العمى على الهدى ; لأن كلا منهما سبب لأخذ الصاعقة إياهم ، فالفاء في قوله : ( فأخذتهم ) سببية ، والباء في قوله : ( بما كانوا ) سببية ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أهلك ثمود بالصاعقة ، ونجى من ذلك الإهلاك الذين آمنوا وكانوا يتقون الله ، والمراد بهم صالح ومن آمن معه من قومه .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء مبينا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " هود " فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز وأخذ الذين ظلموا الصيحة الآية [ 11 \ 66 ] ، وقوله - تعالى - في " النمل " : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون [ 27 \ 45 ] إلى قوله - تعالى - في " ثمود " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 27 \ 52 - 53 ] أي وهم صالح ومن آمن معه .
قوله - تعالى - : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون .

قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع ( يحشر ) بضم الياء وفتح الشين مبنيا للمفعول ، ( أعداء الله ) بالرفع على أنه نائب الفاعل .

وقرأه نافع وحمزة ، من السبعة ( نحشر أعداء الله ) بالنون المفتوحة الدالة على العظمة ، وضم الشين مبنيا للفاعل ، ( أعداء الله ) بالنصب على أنه مفعول به ، أي واذكر ويوم يحشر أعداء الله أي يجمعون إلى النار .

وما دلت عليه هذه الآية من أن لله أعداء ، وأنهم يحشرون يوم القيامة إلى النار - جاء مذكورا في آيات أخر; فبين في بعضها أن له أعداء ، وأن أعداءه هم أعداء المؤمنين ، وأن جزاءهم النار ، كقوله - تعالى - : من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين [ 2 \ 98 ] . وقوله - تعالى - : ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [ 8 \ 60 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم الآية [ ص: 25 ] [ 60 \ 1 ] . وقوله - تعالى - : فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له [ 20 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد الآية [ 41 \ 28 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة فهم يوزعون أي يرد أولهم إلى آخرهم ، ويلحق آخرهم بأولهم ، حتى يجتمعوا جميعا ، ثم يدفعون في النار ، وهو من قول العرب : وزعت الجيش ، إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع .

وأصل الوزع الكف ، تقول العرب وزعه يزعه وزعا فهو وازع له ، إذا كفه عن الأمر ، ومنه قول نابغة ذبيان :

على حين عاتبت المشيب على الصبا فقلت ألما أصح والشيب وازع

وقول الآخر :

ولن يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله


وبما ذكرنا تعلم أن أصل معنى ( يوزعون ) أي يكف أولهم عن التقدم وآخرهم عن التأخر ، حتى يجتمعوا جميعا .

وذلك يدل على أنهم يساقون سوقا عنيفا ، يجمع به أولهم مع آخرهم .

وقد بين - تعالى - أنهم يساقون إلى النار في حال كونهم عطاشا في قوله - تعالى - : ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا [ 19 \ 86 ] . ولعل الوزع المذكور في الآية يكون في الزمرة الواحدة من زمر أهل النار ; لأنهم يساقون إلى النار زمرا زمرا ، كما قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا الآية [ 39 \ 71 ] .
قوله - تعالى - : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم الآية [ 36 \ 65 ] . وفي سورة النساء في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] .

[ ص: 26 ] وبينا هناك وجه الجمع بين قوله - تعالى - : ولا يكتمون الله حديثا مع قوله ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] .
قوله - تعالى - : ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين فإن يصبروا فالنار مثوى لهم .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " ص " في الكلام على قوله - تعالى - : ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين .

قد بينا معناه مع شواهده العربية في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] .
قوله - تعالى - : وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم .

لعلماء التفسير في تفسير قوله : قيضنا عبارات يرجع بعضها في المعنى إلى بعض .

كقول بعضهم : وقيضنا لهم قرناء أي جئناهم بهم ، وأتحناهم لهم .

وكقول بعضهم : قيضنا أي هيأنا .

وقول بعضهم : قيضنا أي سلطنا .

وقول بعضهم : أي بعثنا ووكلنا .

وقول بعضهم : قيضنا أي سببنا .

وقول بعضهم : قدرنا . ونحو ذلك من العبارات; فإن جميع تلك العبارات راجع إلى شيء واحد ، وهو أن الله - تبارك وتعالى - هيأ للكافرين قرناء من الشياطين يضلونهم عن الهدى ، ويزينون لهم الكفر والمعاصي ، وقدرهم عليهم .

والقرناء : جمع قرين ، وهم قرناؤهم من الشياطين على التحقيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:16 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (465)
سُورَةُ فُصِّلَتْ
صـ 27 إلى صـ 34




وقوله فزينوا لهم ما بين أيديهم - أي من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة - [ ص: 27 ] وما خلفهم أي من أمر الآخرة ، فدعوهم إلى التكذيب به ، وإنكار البعث .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - قيض للكفار قرناء من الشياطين ، يضلونهم عن الهدى - بينه في مواضع أخر من كتابه .

وزاد في بعضها سبب تقييضهم لهم ، وأنهم مع إضلالهم لهم يظنون أنهم مهتدون ، وأن الكافر يوم القيامة يتمنى أن يكون بينه وبين قرينه من الشياطين بعد عظيم ، وأنه يذمه ذلك اليوم ، كما قال - تعالى - : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [ 43 \ 36 - 38 ] .

فترتيبه قوله : ( نقيض له شيطانا ) على قوله : ( ومن يعش عن ذكر الرحمن ) - ترتيب الجزاء على الشرط يدل على أن سبب تقييضه له هو غفلته عن ذكر الرحمن .

ونظير ذلك قوله - تعالى - : من شر الوسواس الخناس [ 114 \ 4 ] لأن الوسواس هو كثير الوسوسة ليضل بها الناس ، والخناس هو كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس ، من قولهم : خنس - بالفتح - يخنس - بالضم - إذا تأخر .

فهو وسواس عند الغفلة عن ذكر الرحمن ، خناس عند ذكر الرحمن ، كما دلت عليه آية " الزخرف " المذكورة ، ودل عليه قوله - تعالى - : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] لأن الذين يتولونه والذين هم به مشركون - غافلون عن ذكر الرحمن ، وبسبب ذلك قيضه الله لهم فأضلهم .

ومن الآيات الدالة على تقييض الشياطين للكفار ليضلوهم ، قوله - تعالى - : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [ 19 \ 83 ] وقد أوضحنا الآيات الدالة على ذلك في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين الآية . وبينا هناك أقوال أهل العلم في معنى تؤزهم أزا .

وبينا أيضا هناك أن من الآيات الدالة على ذلك . قوله - تعالى - : ويوم يحشرهم جميعا يامعشر الجن قد استكثرتم من الإنس [ 6 \ 128 ] أي استكثرتم من إضلال الإنس في دار الدنيا ، وقوله : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون [ 7 \ 202 ] .

[ ص: 28 ] ومنها أيضا قوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إلى قوله : ولقد أضل منكم جبلا كثيرا [ 36 \ 60 - 62 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقد دل قوله في آية " الزخرف " : فبئس القرين [ 43 \ 38 ] على أن قرناء الشياطين المذكورين في آية " فصلت " وآية " الزخرف " وغيرهما - جديرين بالذم الشديد ، وقد صرح - تعالى - بذلك في سورة " النساء " في قوله : ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا [ 4 \ 38 ] لأن قوله : فساء قرينا بمعنى فبئس القرين ; لأن كلا من " ساء " و " بئس " فعل جامد لإنشاء الذم ، كما ذكره في الخلاصة بقوله :



واجعل كبئس ساء واجعل فعلا من ذي ثلاثة كنعم مسجلا

واعلم أن الله - تعالى - بين أن الكفار الذي أضلهم قرناؤهم من الشياطين - يظنون أنهم على هدى ، فهم يحسبون أشد الضلال أحسن الهدى ، كما قال - تعالى - عنهم : وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] وقال - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] .

وبين - تعالى - أنهم بسبب ذلك الظن الفاسد هم أخسر الناس أعمالا ، في قوله - تعالى - : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ 18 \ 103 - 104 ] .

وقوله - تعالى - في آية " الزخرف " : ومن يعش عن ذكر الرحمن [ 43 \ 36 ] من قولهم : عشا - بالفتح - عن الشيء يعشو - بالضم - إذا ضعف بصره عن إدراكه ; لأن الكافر أعمى القلب ، فبصيرته تضعف عن الاستنارة بذكر الرحمن ، وبسبب ذلك يقيض الله له قرناء الشياطين .
قوله - تعالى - : وحق عليهم القول .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم الآية [ 36 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن .

[ ص: 29 ] وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا [ 2 \ 93 ] .
قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة مما أعده الله في الآخرة للذين قالوا : ( ربنا الله ثم استقاموا ) - ذكره الله - تعالى - في الجملة في قوله في " الأحقاف " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ 46 \ 13 - 14 ] لأن انتفاء الخوف والحزن والوعد الصادق بالخلود في الجنة المذكور في آية " الأحقاف " هذه - يستلزم جميع ما ذكر في هذه الآية الكريمة من سورة " فصلت " .
قوله - تعالى - : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم .

قد أوضحناه مع الآيات التي بمعناه في آخر سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : خذ العفو وأمر بالعرف إلى قوله إنه سميع عليم [ 7 \ 199 - 200 ] .
قوله - تعالى - : ومن آياته الليل والنهار .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وجعلنا الليل والنهار آيتين الآية [ 17 \ 12 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : لا تسجدوا للشمس ولا للقمر الآية [ 41 \ 37 ] .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض الآية [ 27 \ 25 ] .
قوله - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون .

[ ص: 30 ] قوله - تعالى - : فإن استكبروا ، أي فإن تكبر الكفار عن توحيد الله والسجود له وحده ، وإخلاص العبادة له ( فالذين عند ربك ) وهم الملائكة ( يسبحون له بالليل ) أي يعبدونه وينزهونه دائما ليلا ونهارا ( وهم لا يسأمون ) أي لا يملون من عبادة ربهم ; لاستلذاذهم لها وحلاوتها عندهم ، مع خوفهم منه - جل وعلا - كما قال - تعالى - : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] .

وقد دلت هذه الآية الكريمة من سورة " فصلت " على أمرين :

أحدهما : أن الله - جل وعلا - إن كفر به بعض خلقه ، فإن بعضا آخر من خلقه يؤمنون به ويطيعونه كما ينبغي ، ويلازمون طاعته دائما بالليل والنهار .

والثاني منهما : أن الملائكة يسبحون الله ويطيعونه دائما لا يفترون عن ذلك .

وهذان الأمران اللذان دلت عليهما هذه الآية الكريمة - قد جاء كل منهما موضحا في غير هذا الموضع .

أما الأول منهما : فقد ذكره - جل وعلا - في قوله : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] .

وأما الثاني منهما : فقد أوضحه - تعالى - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - في " الأنبياء " : وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون [ 21 \ 19 - 20 ] وقوله - تعالى - في آخر " الأعراف " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون [ 7 \ 206 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وهم لا يسأمون أي لا يملون ، والسآمة : الملل ، ومنه قول زهير :

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
قوله - تعالى - : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت .

هذه الآية الكريمة قد أوضحنا الكلام عليها مع ما في معناها من الآيات ، وبينا أن [ ص: 31 ] تلك الآيات فيها البرهان القاطع على البعث بعد الموت ، وذكرنا معها الآيات التي يكثر الاستدلال بها في القرآن على البعث بعد الموت ، وهي أربعة براهين قرآنية .

ذكرنا ذلك في سورة " البقرة " وفي سورة " النحل " وغيرهما ، وأحلنا عليه مرارا .
قوله - تعالى - : أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة .

قد قدمنا الكلام عليه مع ما يماثله من الآيات في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : قل أذلك خير أم جنة الخلد الآية [ 15 \ 15 ] .
قوله - تعالى - : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] وفي سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الآية [ 17 \ 82 ] .
قوله - تعالى - : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها [ 41 \ 7 ] وفي سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : ومن شكر فإنما يشكر لنفسه [ 27 \ 40 ] .
قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كونه ليس بظلام للعبيد - ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - في سورة " آل عمران " : ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد الذين قالوا إن الله عهد إلينا [ 3 \ 182 ] . وقوله في " الأنفال " ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون [ 8 \ 51 - 52 ] . وقوله في " الحج " : ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد ومن الناس من يعبد الله الآية [ 22 \ 10 - 11 ] . وقوله في سورة " ق " : ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 29 ] .

وفي هذه الآيات سؤال معروف ، وهو أن لفظة ( ظلام ) فيها صيغة مبالغة ، ومعلوم [ ص: 32 ] أن نفي المبالغة لا يستلزم نفي الفعل من أصله .

فقولك مثلا : زيد ليس بقتال للرجال - لا ينفي إلا مبالغته في قتلهم ، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال .

ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة في الآيات المذكورة - هو نفي الظلم من أصله .

والجواب عن هذا الإشكال من أربعة أوجه : الأول : أن نفي صيغة المبالغة في الآيات المذكورة قد بينت آيات كثيرة أن المراد به نفي الظلم من أصله .

ونفي صيغة المبالغة إذا دلت أدلة منفصلة على أن يراد به نفي أصل الفعل ، فلا إشكال لقيام الدليل على المراد .

والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة ، كقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها الآية [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا الآية [ 21 \ 47 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " و " الأنبياء " .

الوجه الثاني : أن الله - جل وعلا - نفى ظلمه للعبيد ، والعبيد في غاية الكثرة ، والظلم المنفي عنهم تستلزم كثرتهم كثرته ، فناسب ذلك الإتيان بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة المنفي التابعة لكثرة العبيد المنفي عنهم الظلم ، إذ لو وقع على كل عبد ظلم ، ولو قليلا ، كان مجموع ذلك الظلم في غاية الكثرة ، كما ترى .

وبذلك تعلم اتجاه التعبير بصيغة المبالغة ، وأن المراد بذلك نفي أصل الظلم عن كل عبد من أولئك العبيد ، الذين هم في غاية الكثرة ، سبحانه وتعالى عن أن يظلم أحدا شيئا ، كما بينته الآيات القرآنية المذكورة ، وفي الحديث : " يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي " الحديث .

الوجه الثالث : أن المسوغ لصيغة المبالغة أن عذابه - تعالى - بالغ من العظم والشدة أنه لولا استحقاق المعذبين لذلك العذاب بكفرهم ومعاصيهم - لكان معذبهم به ظلاما بليغ [ ص: 33 ] الظلم متفاقمه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وهذا الوجه والذي قبله أشار لهما الزمخشري في سورة " الأنفال " .

الوجه الرابع : ما ذكره بعض علماء العربية وبعض المفسرين من أن المراد بالنفي في قوله : وما ربك بظلام للعبيد نفي نسبة الظلم إليه ; لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة ، فتغني عن ياء النسب ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
ومع فاعل وفعال فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

ومعنى البيت المذكور أن الصيغ الثلاثة المذكورة فيه التي هي فاعل كظالم وفعال كظلام وفعل كفرح - كل منها قد تستعمل مرادا بها النسبة ، فيستغنى بها عن ياء النسب ، ومثاله في فاعل قول الحطيئة في هجوه الزبرقان بن بدر التميمي :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاس


فالمراد بقوله : الطاعم الكاسي - النسبة ، أي ذو طعام وكسوة . وقول الآخر - وهو من شواهد سيبويه - :

وغررتني وزعمت أنك لابن في الصيف تامر


أي ذو لبن وذو تمر . وقول نابغة ذبيان :

كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب


فقوله : " ناصب " ، أي ذو نصب . ومثاله في فعال قول امرئ القيس :

وليس بذي رمح فيطعنني به وليس بذي سيف وليس بنبال


فقوله : وليس بنبال ، أي ليس بذي نبل ، ويدل عليه قوله قبله : وليس بذي رمح ، وليس بذي سيف .

وقال الأشموني بعد الاستشهاد بالبيت المذكور : قال المصنف - يعني ابن مالك - : وعلى هذا حمل المحققون قوله - تعالى - : وما ربك بظلام للعبيد أي بذي ظلم . اهـ .

[ ص: 34 ] وما عزاه لابن مالك جزم به غير واحد من النحويين والمفسرين ، ومثاله في فعل قول الراجز - وهو من شواهد سيبويه - :

ليس بليلي ولكني نهر لا أدلج الليل ولكن أبتكر


فقوله : نهر بمعنى نهاري ، وقد قدمنا إيضاحه معنى الظلم بشواهده العربية ، في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إليه يرد علم الساعة .

تقدم الكلام على نحوه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو [ 7 \ 187 ] . وفي " الأنعام " عند قوله - تعالى - : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] .قوله - تعالى - : وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الرعد " في الكلام على قوله - تعالى - : الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد الآية [ 13 \ 8 ] .قوله - تعالى - : وظنوا ما لهم من محيص .

الظن هنا بمعنى اليقين ; لأن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، وشاهدوا الحقائق - علموا في ذلك الوقت أنهم ليس لهم من محيص ، أي ليس لهم مفر ولا ملجأ .

والظاهر أن المحيص مصدر ميمي ، من حاص يحيص بمعنى حاد وعدل وهرب .

وما ذكرنا من أن الظن في هذه الآية الكريمة بمعنى اليقين والعلم - هو التحقيق - إن شاء الله - ; لأن يوم القيامة تنكشف فيه الحقائق ، فيحصل للكفار العلم بها لا يخالجهم في ذلك شك ، كما قال - تعالى - عنهم أنهم يقولون يوم القيامة : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] . وقال - تعالى - : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] . وقال - تعالى - : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] . وقال - تعالى - : ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا [ 6 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:22 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (466)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 35 إلى صـ 42




وقد [ ص: 35 ] قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : بل ادارك علمهم في الآخرة [ 27 \ 66 ] .

ومعلوم أن الظن يطلق في لغة العرب التي نزل بها القرآن على معنيين : أحدهما : الشك ، كقوله وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 53 \ 28 ] . وقوله - تعالى - عن الكفار : إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [ 45 \ 32 ] .

والثاني : هو إطلاق الظن مرادا به العلم واليقين ، ومنه قوله - تعالى - هنا : وظنوا ما لهم من محيص [ 41 \ 48 ] أي أيقنوا أنهم ليس لهم يوم القيامة محيص ، أي لا مفر ولا مهرب لهم من عذاب ربهم ، ومنه بهذا المعنى قوله - تعالى - : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] أي أيقنوا ذلك وعلموه ، وقوله - تعالى - : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون [ 2 \ 46 ] . وقوله - تعالى - : قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله [ 2 \ 249 ] . وقوله - تعالى - : فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 19 - 20 ] . فالظن في الآيات المذكورة كلها بمعنى اليقين .

ونظير ذلك من كلام العرب قول دريد بن الصمة :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد

وقول عميرة بن طارق :

بأن تغتزوا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما


والظن في البيتين المذكورين بمعنى اليقين ، والفعل القلبي في الآية المذكورة التي هي قوله : وظنوا ما لهم من محيص معلق عن العمل في المفعولين بسبب النفي بلفظة ( ما ) في قوله : ما لهم من محيص كما أشار له في الخلاصة بقوله :

والتزم التعليق قبل نفي " ما "قوله - تعالى - : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى .

[ ص: 36 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .قوله - تعالى - : وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض .

قد قدمنا الآيات الموضحة له وبعض الأحاديث الصحيحة الموافقة لها في سورة " يونس " في الكلام على قوله - تعالى - : وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه [ 10 \ 12 ] .قوله - تعالى - : سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم الآية .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا الآية [ 40 \ 13 ] .قوله - تعالى - : ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم .

المرية : الشك . وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شك الكفار في البعث والجزاء - قد قدمنا الآيات الموضحة له ، ولما يترتب عليه من الخلود في النار في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .[ ص: 37 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الشُّورَى قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .

قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .

وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيّ ِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَحْيِ ، أَوْ مِثْلَ ذَلِكَ الْكِتَابِ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبِلَكَ اللَّهُ .

يَعْنِي أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنَ الْمَعَانِي قَدْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْكَ مِثْلَهُ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ ، وَأَوْحَاهُ مِنْ قَبْلِكَ إِلَى رُسُلِهِ ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - كَرَّرَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي جَمِيعِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ ، لِمَا فِيهَا مِنَ التَّنْبِيهِ الْبَلِيغِ ، وَاللُّطْفِ الْعَظِيمِ ، لِعِبَادِهِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ . اهـ مِنْهُ .

وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ : ( كَذَلِكَ يُوحِي ) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُوحَى بِاسْمِ الْمَفْعُولِ .

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ الَّذِي هُوَ الْإِيحَاءُ .

وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَمْ يُصَرِّحْ هُنَا بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَاءِ الَّذِينَ فِي قَبْلِهِ الَّذِينَ أَوْحَى إِلَيْهِمْ ، كَمَا أَوْحَى إِلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ بَيَّنَ أَسْمَاءَ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " ، وَبَيَّنَ فِيهَا أَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَقْصُصْ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِمْ وَأَرْسَلَهُمْ لِقَطْعِ حُجَجِ الْخَلْقِ فِي دَارِ الدُّنْيَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [ ص: 38 ] [ 4 \ 163 - 165 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِاسْمِهِ الْعَزِيزِ وَاسْمِهِ الْحَكِيمِ بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَهُ وَحْيَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ " النِّسَاءِ " الْمَذْكُورَةِ : وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا بَعْدَ ذِكْرِهِ إِيحَاءَهُ إِلَى رُسُلِهِ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الزُّمَرِ " أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - إِذَا ذَكَرَ تَنْزِيلَهُ لِكِتَابِهِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بَعْضَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا ، وَذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ .

وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ : ( يُوحِي ) بِكَسْرِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ فَقَوْلُهُ : ( اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) - فَاعِلُ يُوحِي .

وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ ( يُوحَى إِلَيْكَ ) بِفَتْحِ الْحَاءِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ، فَقَوْلُهُ : ( اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ يُوحَى ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ " النُّورِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ [ 24 \ 36 - 37 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الْوَحْيِ مَعَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [ 16 \ 68 ] وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .قوله - تعالى - : وهو العلي العظيم .

وصف نفسه - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بالعلو والعظمة ، وهما من الصفات الجامعة كما قدمناه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وصفه - تعالى - نفسه بهاتين الصفتين الجامعتين المتضمنتين لكل كمال وجلال - جاء مثله في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [ 2 \ 255 ] . وقوله - تعالى - : إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] . وقوله - تعالى - : عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال [ 13 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : وله الكبرياء في السماوات والأرض الآية [ 45 \ 37 ] . إلى غير ذلك من الآيات .[ ص: 39 ] قوله - تعالى - : تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض .

قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع والكسائي ( تكاد ) بالتاء الفوقية ; لأن السماوات مؤنثة ، وقرأه نافع والكسائي ( يكاد ) بالياء التحتية لأن تأنيث السماوات غير حقيقي .

وقرأه عامة السبعة غير أبي عمرو ، وشعبة عن عاصم ( يتفطرن ) بتاء مثناة فوقية مفتوحة بعد الياء وفتح الطاء المشددة ، مضارع تفطر ، أي تشقق .

وقرأه أبو عمرو وشعبة عن عاصم ( ينفطرن ) بنون ساكنة بعد الياء وكسر الطاء المخففة ، مضارع انفطرت ، كقوله : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] أي انشقت .

وقوله : تكاد ، مضارع كاد ، التي هي فعل مقاربة ، ومعلوم أنها تعمل في المبتدإ والخبر ، ومعنى كونها فعل مقاربة ، أنها تدل على قرب اتصاف المبتدإ بالخبر .

وإذا ، فمعنى الآية أن السماوات قاربت أن تتصف بالتفطر على القراءة الأولى ، والانفطار على القراءة الثانية .

واعلم أن سبب مقاربة السماوات للتفطر في هذه الآية الكريمة - فيه للعلماء وجهان كلاهما يدل له قرآن : الوجه الأول : أن المعنى : تكاد السماوات يتفطرن خوفا من الله ، وهيبة وإجلالا ، ويدل لهذا الوجه قوله - تعالى - قبله : وهو العلي العظيم [ 42 \ 4 ] ; لأن علوه وعظمته سبب للسماوات ذلك الخوف والهيبة والإجلال ، حتى كادت تتفطر .

وعلى هذا الوجه ، فقوله بعده : والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض مناسبته لما قبله واضحة; لأن المعنى : أن السماوات في غاية الخوف منه - تعالى - والهيبة والإجلال له ، وكذلك سكانها من الملائكة ، فهم ( يسبحون بحمد ربهم ) أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله مع إثباتهم له كل كمال وجلال ، خوفا منه وهيبة وإجلالا ، كما قال - تعالى - : ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] . وقال - تعالى - : ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [ 16 \ 49 - 50 ] .

[ ص: 40 ] فهم لشدة خوفهم من الله وإجلالهم له يسبحون بحمد ربهم ، ويخافون على أهل الأرض ، ولذا يستغفرون لهم خوفا عليهم من سخط الله وعقابه ، ويستأنس لهذا الوجه بقوله - تعالى - : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض إلى قوله : وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] ; لأن الإشفاق الخوف .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ويستغفرون لمن في الأرض يعني لخصوص الذين آمنوا منهم وتابوا إلى الله واتبعوا سبيله ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا [ 40 \ 7 ] .

فقوله : للذين آمنوا - يوضح المراد من قوله : لمن في الأرض . \ 5 ويزيد ذلك إيضاحا قوله - تعالى - عنهم أنهم يقولون في استغفارهم للمؤمنين - : فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك [ 40 \ 7 ] لأن ذلك يدل دلالة واضحة على عدم استغفارهم للكفار .

الوجه الثاني : أن المعنى تكاد السماوات يتفطرن من شدة عظم الفرية التي افتراها الكفار على خالق السماوات والأرض - جل وعلا - من كونه اتخذ ولدا - سبحانه وتعالى - عن ذلك علوا كبيرا ، وهذا الوجه جاء موضحا في سورة " مريم " في قوله - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 88 - 93 ] . كما قدمنا إيضاحه .

وغاية ما في هذا الوجه أن آية " الشورى " هذه فيها إجمال في سبب تفطر السماوات ، وقد جاء ذلك موضحا في آية " مريم " المذكورة . وكلا الوجهين حق .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يتفطرن من فوقهن فيه للعلماء أوجه .

قيل : ( يتفطرن ) ، أي السماوات . ( من فوقهن ) أي الأرضين ، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى .

[ ص: 41 ] وقال بعضهم : ( من فوقهن ) ، أي كل سماء تتفطر فوق التي تليها .

وقال الزمخشري في الكشاف : فإن قلت : لم قال : من فوقهن ؟ قلت : لأن أعظم الآيات وأدلها على الجلال والعظمة فوق السماوات ، وهي : العرش ، والكرسي ، وصفوف الملائكة المرتجة بالتسبيح والتقديس حول العرش ، وما لا يعلم كنهه إلا الله - تعالى - من آثار ملكوته العظمى ، فلذلك قال : يتفطرن من فوقهن أي يبتدئ الانفطار من جهتهن الفوقانية .

أو لأن كلمة الكفر جاءت من الذي تحت السماوات ، فكان القياس أن يقال : يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة ، ولكنه بولغ في ذلك ، فجعلت مؤثرة في وجهة الفوق ، كأنه قيل : يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن ، دع الجهة التي تحتهن .

ونظيره في المبالغة قوله - عز وجل - : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم فجعل الحميم مؤثرا في أجزائهم الباطنة . ا هـ محل الغرض منه .

وهذا إنما يتمشى على القول بأن سبب التفطر المذكور هو افتراؤهم على الله في قولهم : اتخذ الرحمن ولدا [ 19 \ 88 ] .

وقد قدمنا آنفا أنه دلت عليه سورة " مريم " المذكورة ، وعليه فمناسبة قوله : والملائكة يسبحون بحمد ربهم لما قبله - أن الكفار وإن قالوا أعظم الكفر وأشنعه ، فإن الملائكة بخلافهم ، فإنهم يداومون ذكر الله وطاعته .

ويوضح ذلك قوله - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون [ 41 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . كما قدمنا إيضاحه في آخر سورة " فصلت " .




قوله - تعالى - : ألا إن الله هو الغفور الرحيم .

أكد - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه هو الغفور الرحيم ، وبين فيها أنه هو وحده المختص بذلك .

[ ص: 42 ] وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة - قد جاءا موضحين في غير هذا الموضع .

أما اختصاصه هو - جل وعلا - بغفران الذنوب ، فقد ذكره في قوله - تعالى - : ومن يغفر الذنوب إلا الله [ 3 \ 135 ] . والمعنى لا يغفر الذنوب إلا الله ، وفي الحديث " رب إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت " الحديث . وفي حديث سيد الاستغفار : " اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني " الحديث . وفيه " وأبوء بذنبي فاغفر لي ; فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت " .

ووجه دلالة هذه الآية على أن الله وحده هو الذي يغفر الذنوب - هو أن ضمير الفصل بين المسند والمسند إليه في قوله : ألا إن الله هو الغفور الرحيم يدل على ذلك كما هو معلوم في محله .

وأما الأمر الثاني : هو توكيده - تعالى - أنه هو الغفور الرحيم ; فإنه أكد ذلك هنا بحرف الاستفتاح الذي هو ( ألا ) ، وحرف التوكيد الذي هو ( إن ) . وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم [ 39 \ 53 ] . وقوله - تعالى - : وإني لغفار لمن تاب وآمن الآية [ 20 \ 82 ] . وقوله - تعالى - : إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 32 ] . وقوله في الكفار : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] . وقوله في الذين قالوا : إن الله ثالث ثلاثة : أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم [ 5 \ 74 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

فنرجو الله - جل وعلا - الكريم الرءوف الغفور الرحيم - أن يغفر لنا جميع ذنوبنا ، ويتجاوز عن جميع سيئاتنا ، ويدخلنا جنته على ما كان منا ، ويغفر لإخواننا المسلمين ، إنه غفور رحيم .


https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:37 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (467)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 43 إلى صـ 50


قوله - تعالى - : والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل .

قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : اتخذوا من دونه أولياء . أي أشركوا معه شركاء يعبدونهم من دونه ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب [ 39 \ 3 ] . [ ص: 43 ] وقوله - تعالى - : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون [ 7 ] . وقوله - تعالى - : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه [ 3 \ 175 ] . أي يخوفكم أولياءه . وقوله - تعالى - : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] .

وقد وبخهم - تعالى - على اتخاذهم الشيطان وذريته أولياء من دونه - تعالى - في قوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا .

وقد أمر - جل وعلا - باتباع هذا القرآن العظيم ، ناهيا عن اتباع الأولياء المتخذين من دونه - تعالى - في أول سورة الأعراف في قوله - تعالى - اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] .

وقد علمت من الآيات المذكورة أن أولياء الكفار الذين اتخذوهم وعبدوهم من دون الله نوعان : الأول منهما : الشياطين ، ومعنى عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما يزين لهم من الكفر والمعاصي ، فشركهم به شرك طاعة ، والآيات الدالة على عبادتهم للشياطين بالمعنى المذكور كثيرة ، كقوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . وقوله - تعالى - عن إبراهيم ياأبت لا تعبد الشيطان الآية [ 19 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، أي وما يعبدون إلا شيطانا مريدا . وقوله - تعالى - : قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 41 ] . وقوله - تعالى - إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . وقوله - تعالى - وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

والنوع الثاني : هو الأوثان ، كما بين ذلك - تعالى - بقوله : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى الآية [ 39 \ 3 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : الله حفيظ عليهم ، أي رقيب عليهم حافظ [ ص: 44 ] عليهم كل ما يعملونه من الكفر والمعاصي ، وفي أوله اتخاذهم الأولياء يعبدونهم من دون الله .

وفي الآية تهديد عظيم لكل مشرك .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وما أنت عليهم بوكيل .

أي لست يا محمد بموكل عليهم تهدي من شئت هدايته منهم ، بل إنما أنت نذير فحسب ، وقد بلغت ونصحت .

والوكيل عليهم هو الله الذي يهدي من يشاء منهم ، ويضل من يشاء ، كما قال - تعالى - : إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل [ 11 \ 12 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 99 - 100 ] . وقال - تعالى - : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وبما ذكرنا تعلم أن التحقيق في قوله - تعالى - : وما أنت عليهم بوكيل ، وما جرى مجراه من الآيات ليس منسوخا بآية السيف . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 194 - 195 ] . وفي " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ 39 \ 28 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : لتنذر أم القرى ومن حولها .

خص الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية الكريمة إنذاره - صلى الله عليه وسلم - بأم القرى ومن حولها ، والمراد بأم القرى مكة - حرسها الله - .

ولكنه أوضح في آيات أخر أن إنذاره عام لجميع الثقلين ، كقوله - تعالى - قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] . وقوله - تعالى - : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . [ ص: 45 ] وقوله - تعالى - : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 \ 28 ] . كما أوضحنا ذلك مرارا في هذا الكتاب المبارك .

وقد ذكرنا الجواب عن تخصيص أم القرى ومن حولها هنا ، وفي سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به الآية [ 6 \ 92 ] . في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " فقلنا فيه : والجواب من وجهين :

الأول : أن المراد بقوله : ومن حولها شامل لجميع الأرض ، كما رواه ابن جرير وغيره ، عن ابن عباس .

الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله ومن حولها لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة - حرسها الله - كجزيرة العرب مثلا ، فإن الآيات الأخر ، نصت على العموم ، كقوله ليكون للعالمين نذيرا [ 25 \ 1 ] . وذكر بعض أفراد العام بحكم العام - لا يخصصه عند عامة العلماء ، ولم يخالف فيه إلا أبو ثور .

وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة " المائدة " ، فالآية على هذا القول كقوله وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] ; فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ، كما هو واضح . والعلم عند الله - تعالى - ا هـ منه .
قوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه [ 42 \ 7 ] .

تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : أحدهما : أن من حكم إيحائه - تعالى - إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم - هذا القرآن العربي - إنذار يوم الجمع ، فقوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع معطوف على قوله : لتنذر أم القرى أي لأجل أن تنذر أم القرى وأن تنذر يوم الجمع ، فحذف في الأول أحد المفعولين ، وحذف في الثاني أحدهما ، فكان ما أثبت في كل منهما دليلا على ما حذف في الثاني ، ففي الأول حذف المفعول الثاني ، والتقدير " لتنذر أم القرى " ، أي أهل مكة " ومن حولها " ، عذابا شديدا إن لم يؤمنوا . وفي الثاني حذف المفعول الأول ، أي وتنذر الناس يوم الجمع وهو يوم القيامة ، أي تخوفهم مما فيه من الأهوال والأوجال; ليستعدوا لذلك في دار الدنيا .

[ ص: 46 ] والثاني : أن يوم الجمع المذكور ( لا ريب فيه ) ، أي لا شك في وقوعه .

وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة - جاءا موضحين في آيات أخر .

أما تخويفه الناس يوم القيامة ، فقد ذكر في مواضع من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية [ 2 \ 281 ] . وقوله - تعالى - : وأنذرهم يوم الآزفة الآية [ 40 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] . وقوله - تعالى - : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 4 - 6 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وأما الثاني منهما : وهو كون يوم القيامة ( لا ريب فيه ) فقد جاء في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 4 \ 87 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها الآية [ 22 \ 7 ] . وقوله - تعالى - وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة الآية [ 45 \ 32 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وإنما سمي يوم القيامة يوم الجمع ; لأن الله يجمع فيه جميع الخلائق . والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة ، كقوله - تعالى - : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] . وقوله - تعالى - : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين [ 77 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة الآية [ 4 \ 87 ] . وقوله - تعالى - : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] . وقوله - تعالى - ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] . وقوله - تعالى - : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] .

وقد بين - تعالى - شمول ذلك الجمع لجميع الدواب والطير في قوله - تعالى - : وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون [ 6 \ 38 ] . والآيات الدالة على الجمع المذكورة كثيرة .
قوله - تعالى - : فريق في الجنة وفريق في السعير .

[ ص: 47 ] ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله خلق الخلق ، وجعل منهم فريقا سعداء ، وهم أهل الجنة ، وفريقا أشقياء وهم أصحاب السعير ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] . وقوله - تعالى - : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم [ 11 \ 118 - 119 ] ، أي ولذلك الاختلاف إلى مؤمن وكافر وشقي وسعيد - خلقهم - على الصحيح - . ونصوص الوحي الدالة على ذلك كثيرة جدا .

وقد ذكرنا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " - وجه الجمع بين قوله : ولذلك خلقهم [ 11 \ 119 ] على التفسير المذكور ، وبين قوله وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] . وسنذكر ذلك - إن شاء الله - في سورة " الذاريات " .

وقد قدمنا معنى السعير بشواهده العربية في أول سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : ويهديه إلى عذاب السعير الآية [ 22 \ 4 ] . والجنة في لغة العرب البستان .

ومنه قول زهير بن أبي سلمى :

كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا

فقوله : جنة سحقا ، يعني بستانا طويل النخل ، وفي اصطلاح الشرع هي دار الكرامة التي أعد الله لأوليائه يوم القيامة .

والفريق : الطائفة من الناس ، ويجوز تعدده إلى أكثر من اثنين ، ومنه قول نصيب : فقال فريق القوم ، لا وفريقهم نعم ، وفريق قال ويحك ما ندري

والمسوغ للابتداء بالنكرة في قوله : ( فريق في الجنة ) ، أنه في معرض التفصيل .

ونظيره من كلام العرب قول امرئ القيس :

فلما دنوت تسديتها فثوبا نسيت وثوبا أجر

قوله - تعالى - : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله .

ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن ما اختلف فيه الناس من الأحكام فحكمه إلى الله وحده ، لا إلى غيره - جاء موضحا في آيات كثيرة .

[ ص: 48 ] فالإشراك بالله في حكمه كالإشراك به في عبادته ، قال في حكمه : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وفي قراءة ابن عامر من السبعة ولا تشرك في حكمه أحدا بصيغة النهي .

وقال في الإشراك به في عبادته : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] ، فالأمران سواء كما ترى إيضاحه - إن شاء الله - .

وبذلك تعلم أن الحلال هو ما أحله الله ، والحرام هو ما حرمه الله ، والدين هو ما شرعه الله ، فكل تشريع من غيره باطل ، والعمل به بدل تشريع الله عند من يعتقد أنه مثله أو خير منه - كفر بواح لا نزاع فيه .

وقد دل القرآن في آيات كثيرة على أنه لا حكم لغير الله ، وأن اتباع تشريع غيره كفر به ، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [ 12 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله عليه توكلت الآية [ 12 \ 67 ] . وقوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ 6 \ 57 ] . وقوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] . وقوله - تعالى - : كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] . وقوله - تعالى - : له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 70 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد قدمنا إيضاحها في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .

وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفر ، فهي كثيرة جدا ، كقوله - تعالى - : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . وقوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 16 \ 121 ] . وقوله - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، كما تقدم إيضاحه في " الكهف " .
[ ص: 49 ] مسألة

اعلم أن الله - جل وعلا - بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له ، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن - إن شاء الله - ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية ، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع ، سبحان الله وتعالى عن ذلك .

فإن كانت تنطبق عليهم - ولن تكون - فليتبع تشريعهم .

وإن ظهر يقينا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك ، فليقف بهم عند حدهم ، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية .

سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه .

فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها - تعالى - صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ، ثم قال مبينا صفات من له الحكم : ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 10 - 12 ] .

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور ، ويتوكل عليه ، وأنه فاطر السماوات والأرض - أي خالقهما ومخترعهما - على غير مثال سابق ، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا ، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله - تعالى - : ثمانية أزواج من الضأن اثنين الآية [ 6 \ 143 ] ، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وأنه له مقاليد السماوات والأرض ، وأنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر - أي يضيقه على من يشاء - وهو بكل شيء عليم .

فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم ، ولا تقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل .

ونظير هذه الآية الكريمة قوله - تعالى - فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، فقوله فيها : فردوه إلى الله كقوله في هذه : فحكمه إلى الله .

[ ص: 50 ] وقد عجب نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد قوله : فردوه إلى الله من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم ، المعبر عنه في الآية بالطاغوت ، وكل تحاكم إلى غير شرع الله فهو تحاكم إلى الطاغوت ، وذلك في قوله - تعالى - : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] .

فالكفر بالطاغوت الذي صرح الله بأنه أمرهم به في هذه الآية - شرط في الإيمان كما بينه - تعالى - في قوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] .

فيفهم منه أن من لم يكفر بالطاغوت لم يتمسك بالعروة الوثقى ، ومن لم يستمسك بها فهو مترد مع الهالكين .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا [ 18 \ 26 ] .

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض ؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات ؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي ؟

سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون [ 28 \ 88 ] .

فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد ؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه ؟ وأن الخلائق يرجعون إليه ؟

تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير [ 40 \ 12 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:40 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (468)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 51 إلى صـ 58


[ ص: 51 ] فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي بأنه العلي الكبير ؟

سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ 28 \ 73 ] .

فهل في مشرعي القوانين الوضعية من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة ، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار ، مبينا بذلك كمال قدرته ، وعظمة إنعامه على خلقه .

سبحان خالق السماوات والأرض - جل وعلا - أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته أو ملكه .

ومن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 12 \ 40 ] .

فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده ، وأن عبادته وحده هي الدين القيم ؟

سبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .

ومنها قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] .

فهل فيهم من يستحق أن يتوكل عليه ، وتفوض الأمور إليه ؟

ومنها قوله - تعالى - : [ ص: 52 ] وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون [ 5 \ 49 - 50 ] .

فهل في أولئك المشرعين من يستحق أن يوصف بأن حكمه بما أنزل الله وأنه مخالف لاتباع الهوى ؟ وأن من تولى عنه أصابه الله ببعض ذنوبه ؟ لأن الذنوب لا يؤاخذ بجميعها إلا في الآخرة ؟ وأنه لا حكم أحسن من حكمه لقوم يوقنون ؟

سبحان ربنا وتعالى عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .

ومنها قوله - تعالى - : إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين [ 6 \ 57 ] .

فهل فيهم من يستحق أن يوصف بأنه يقص الحق ، وأنه خير الفاصلين ؟

ومنها قوله - تعالى - : أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا الآية [ 6 \ 114 - 115 ] .

فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي أنزل هذا الكتاب مفصلا ، الذي يشهد أهل الكتاب أنه منزل من ربك بالحق ، وبأنه تمت كلماته صدقا وعدلا - أي صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأحكام - وأنه لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ؟

سبحان ربنا ، ما أعظمه ، وما أجل شأنه .

ومنها قوله - تعالى - : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] .

فهل في أولئك المذكورين من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق للخلائق ، وأنه لا يمكن أن يكون تحليل ولا تحريم إلا بإذنه ؟ لأن من الضروري أن من خلق الرزق وأنزله هو الذي له التصرف فيه بالتحليل والتحريم ؟

سبحانه - جل وعلا - أن يكون له شريك في التحليل والتحريم .

ومنها قوله - تعالى - : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ 5 \ 44 ] .

[ ص: 53 ] فهل فيهم من يستحق الوصف بذلك ؟

سبحان ربنا وتعالى عن ذلك .

ومنها قوله - تعالى - : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم [ 16 \ 116 - 117 ] .

فقد أوضحت الآية أن المشرعين غير ما شرعه الله إنما تصف ألسنتهم الكذب ، لأجل أن يفتروه على الله ، وأنهم لا يفلحون ، وأنهم يمتعون قليلا ثم يعذبون العذاب الأليم ، وذلك واضح في بعد صفاتهم من صفات من له أن يحلل ويحرم .

ومنها قوله - تعالى - : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم [ 6 \ 150 ] .

فقوله : هلم شهداءكم صيغة تعجيز ، فهم عاجزون عن بيان مستند التحريم . وذلك واضح في أن غير الله لا يتصف بصفات التحليل ولا التحريم . ولما كان التشريع وجميع الأحكام - شرعية كانت أو كونية قدرية - من خصائص الربوبية - كما دلت عليه الآيات المذكورة - كان كل من اتبع تشريعا غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع ربا ، وأشركه مع الله .

والآيات الدالة على هذا كثيرة ، وقد قدمناها مرارا وسنعيد منها ما فيه كفاية ، فمن ذلك - وهو من أوضحه وأصرحه - أنه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت مناظرة بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم من أحكام التحريم والتحليل ، وحزب الرحمن يتبعون تشريع الرحمن في وحيه في تحريمه ، وحزب الشيطان يتبعون وحي الشيطان في تحليله .

وقد حكم الله بينهما وأفتى فيما تنازعوا فيه فتوى سماوية قرآنية تتلى في سورة " الأنعام " .

وذلك أن الشيطان لما أوحى إلى أوليائه فقال لهم في وحيه : سلوا محمدا عن الشاة تصبح ميتة ، من هو الذي قتلها ؟ فأجابوهم أن الله هو الذي قتلها .

فقالوا : الميتة إذا ذبيحة الله ، وما ذبحه الله كيف تقولون إنه حرام ؟ مع أنكم تقولون [ ص: 54 ] إنما ذبحتموه بأيديكم حلال ، فأنتم إذا أحسن من الله وأحل ذبيحة .

فأنزل الله بإجماع من يعتد به من أهل العلم قوله - تعالى - : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه [ 6 \ 121 ] ، يعني الميتة ، أي وإن زعم الكفار أن الله ذكاها بيده الكريمة بسكين من ذهب . وإنه لفسق [ 6 \ 121 ] ، والضمير عائد إلى الأكل المفهوم من قوله : ولا تأكلوا ، وقوله : لفسق ، أي خروج عن طاعة الله ، واتباع لتشريع الشيطان . وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [ 6 \ 121 ] . أي بقولهم : ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام ، فأنتم إذا أحسن من الله ، وأحل تذكية ، ثم بين الفتوى السماوية من رب العالمين ، في الحكم بين الفريقين في قوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] فهي فتوى سماوية من الخالق - جل وعلا - صرح فيها بأن متبع تشريع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن - مشرك بالله .

وهذه الآية الكريمة مثل بها بعض علماء العربية لحذف اللام الموطئة للقسم ، والدليل على اللام الموطئة المحذوفة عدم اقتران جملة ( إنكم لمشركون ) بالفاء ; لأنه لو كان شرطا لم يسبقه قسم لقيل : فإنكم لمشركون على حد قوله في الخلاصة :

واقرن بفا حتما جوابا لو جعل شرطا لأن أو غيرها لم ينجعل

وهو مذهب سيبويه ، وهو الصحيح ، وحذف الفاء في مثل ذلك من ضرورة الشعر .

وما زعمه بعضهم من أنه يجوز مطلقا ، وأن ذلك دلت عليه آيتان من كتاب الله : إحداهما : قوله - تعالى - : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون .

والثانية : قوله - تعالى - : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم [ 42 ] بحذف الفاء في قراءة نافع وابن عامر من السبعة خلاف التحقيق .

بل المسوغ لحذف الفاء في آية : إنكم لمشركون تقدير القسم المحذوف قبل الشرط المدلول عليه بحذف الفاء ، على حد قوله في الخلاصة :

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أحرت فهو ملتزم


وعليه ، فجملة إنكم لمشركون جواب القسم المقدر ، وجواب الشرط محذوف ، فلا دليل في الآية لحذف الفاء المذكور .

[ ص: 55 ] والمسوغ له في آية بما كسبت أيديكم أن ( ما ) في قراءة نافع وابن عامر موصولة ، كما جزم به غير واحد من المحققين ، أي والذي أصابكم من مصيبة كائن وواقع بسبب ما كسبت أيديكم .

وأما على قراءة الجمهور : فما موصولة أيضا ، ودخول الفاء في خبر الموصول جائز كما أن عدمه جائز ، فكلتا القراءتين جارية على أمر جائز .

ومثال دخول الفاء في خبر الموصول قوله - تعالى - : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 274 ] وهو كثير في القرآن . وقال بعضهم : إن ( ما ) في قراءة الجمهور شرطية ، وعليه فاقتران الجزاء بالفاء واجب .

أما على قراءة نافع وابن عامر فهي موصولة ليس إلا ، كما هو التحقيق - إن شاء الله - .

وكون ( ما ) شرطية على قراءة ، وموصولة على قراءة - لا إشكال فيه ; لما قدمنا من أن القراءتين في الآية الواحدة كالآيتين .

ومن الآيات الدالة على نحو ما دلت عليه آية " الأنعام " المذكورة قوله - تعالى - : إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 100 ] . فصرح بتوليهم للشيطان ، أي باتباع ما يزين لهم من الكفر والمعاصي مخالفا لما جاءت به الرسل ، ثم صرح بأن ذلك إشراك به في قوله - تعالى - : والذين هم به مشركون ، وصرح أن الطاعة في ذلك الذي يشرعه الشيطان لهم ويزينه عبادة للشيطان .

ومعلوم أن من عبد الشيطان فقد أشرك بالرحمن ، قال - تعالى - : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا ، ويدخل فيهم متبعو نظام الشيطان دخولا أولياء أفلم تكونوا تعقلون [ 36 \ 60 - 62 ] .

ثم بين المصير الأخير لمن كان يعبد الشيطان في دار الدنيا ، في قوله - تعالى - : هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 63 - 65 ] . وقال - تعالى - عن نبيه إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ 19 \ 44 ] فقوله : [ ص: 56 ] ( لا تعبد الشيطان ) أي باتباع ما يشرعه من الكفر والمعاصي ، مخالفا لما شرعه الله .

وقال - تعالى - : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، فقوله : وإن يدعون إلا شيطانا يعني ما يعبدون إلا شيطانا مريدا .

وقوله - تعالى - : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون [ 34 \ 40 - 41 ] .

فقوله - تعالى - : بل كانوا يعبدون الجن أي يتبعون الشياطين ويطيعونهم فيما يشرعون ويزينون لهم من الكفر والمعاصي ، على أصح التفسيرين .

والشيطان عالم بأن طاعتهم له المذكورة إشراك به كما صرح بذلك وتبرأ منهم في الآخرة ، كما نص الله عليه في سورة " إبراهيم " في قوله - تعالى - : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم إلى قوله : إني كفرت بما أشركتمون من قبل [ 14 \ 22 ] . فقد اعترف بأنهم كانوا مشركين به من قبل ، أي في دار الدنيا ، ولم يكفر بشركهم ذلك إلا يوم القيامة .

وقد أوضح النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الذي بينا في الحديث لما سأله عدي بن حاتم - رضي الله عنه - عن قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا [ 9 \ 31 ] كيف اتخذوهم أربابا ؟ وأجابه - صلى الله عليه وسلم - أنهم أحلوا لهم ما حرم الله ، وحرموا عليهم ما أحل الله - فاتبعوهم ، وبذلك الاتباع اتخذوهم أربابا .

ومن أصرح الأدلة في هذا أن الكفار إذا أحلوا شيئا يعلمون أن الله حرمه ، وحرموا شيئا يعلمون أن الله أحله - فإنهم يزدادون كفرا جديدا بذلك مع كفرهم الأول ، وذلك في قوله - تعالى - : إنما النسيء زيادة في الكفر إلى قوله : والله لا يهدي القوم الكافرين [ 9 \ 37 ] .

وعلى كل حال فلا شك أن كل من أطاع غير الله في تشريع مخالف لما شرعه الله - فقد أشرك به مع الله ، كما يدل لذلك قوله : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم [ 6 \ 137 ] . فسماهم شركاء لما أطاعوهم في قتل الأولاد .

[ ص: 57 ] وقوله - تعالى - : أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [ 42 \ 21 ] فقد سمى - تعالى - الذين يشرعون من الدين ما لم يأذن به الله - شركاء ، ومما يزيد ذلك إيضاحا أن ما ذكره الله عن الشيطان يوم القيامة من أنه يقول للذين كانوا يشركون به في دار الدنيا : ( إني كفرت بما أشركتموني من قبل ) - أن ذلك الإشراك المذكور ليس فيه شيء زائد على أنه دعاهم إلى طاعته فاستجابوا له ، كما صرح بذلك في قوله - تعالى - عنه : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي الآية ، وهو واضح كما ترى .
قوله - تعالى - : فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه .

قوله - تعالى - : فاطر السماوات والأرض تقدم تفسيره في أول سورة " فاطر " .

وقوله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، أي خلق لكم أزواجا من أنفسكم ، كما قدمنا الكلام عليه في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 \ 72 ] . وبينا أن المراد بالأزواج الإناث ، كما يوضحه قوله - تعالى - : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة الآية [ 30 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 45 - 46 ] . وقوله : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى [ 75 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى [ 92 \ 1 - 3 ] . وقوله في آدم : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها الآية [ 4 \ 1 ] . وقوله - تعالى - فيه أيضا : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها الآية [ 7 \ 189 ] . وقوله - تعالى - فيه أيضا : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها الآية [ 39 \ 6 ] .

وقوله - تعالى - : ومن الأنعام أزواجا هي الثمانية المذكورة في قوله - تعالى - : ثمانية أزواج من الضأن اثنين الآية [ 6 \ 143 ] . وفي قوله : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج [ 39 \ 6 ] . وهي ذكور الضأن والمعز والإبل والبقر وإناثها ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " آل عمران " في الكلام على قوله - تعالى - : والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] .

[ ص: 58 ] وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يذرؤكم فيه الظاهر أن ضمير الخطاب في قوله : يذرؤكم شامل للآدميين والأنعام ، وتغليب الآدميين على الأنعام في ضمير المخاطبين في قوله : ( يذرؤكم ) واضح لا إشكال فيه .

والتحقيق - إن شاء الله - أن الضمير في قوله : " فيه " راجع إلى ما ذكر من الذكور والإناث من بني آدم والأنعام ، في قوله - تعالى - : جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا سواء قلنا إن المعنى : أنه جعل للآدميين إناثا من أنفسهم ، أي من جنسهم ، وجعل للأنعام أيضا إناثا كذلك ، أو قلنا : إن المراد بالأزواج الذكور والإناث منهما معا .

وإذا كان ذلك كذلك ، فمعنى الآية الكريمة ( يذرؤكم ) ، أي يخلقكم ويبثكم وينشركم ( فيه ) ، أي فيما ذكر من الذكور والإناث ، أي في ضمنه عن طريق التناسل ، كما هو معروف .

ويوضح ذلك في قوله - تعالى - : اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] . فقوله - تعالى - : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء يوضح معنى قوله : يذرؤكم فيه .

فإن قيل : ما وجه إفراد الضمير المجرور في قوله : ( يذرؤكم فيه ) مع أنه على ما ذكرتم عائد إلى الذكور والإناث من الآدميين والأنعام ؟

فالجواب : أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن رجوع الضمير أو الإشارة بصيغة الإفراد إلى مثنى أو مجموع باعتبار ما ذكر مثلا .

ومثاله في الضمير : قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به الآية [ 6 \ 46 ] . فالضمير في قوله : ( به ) مفرد ، مع أنه راجع إلى السمع والأبصار والقلوب .

فقوله : يأتيكم به أي بما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم ، ومن هذا المعنى قول رؤبة بن العجاج :

فيها خطوط من سواد وبلق كأن في الجلد توليع البهق

فقوله : كأنه ، أي ما ذكر من خطوط من سواد وبلق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (469)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 59 إلى صـ 66



[ ص: 59 ] ومثاله في الإشارة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك [ 2 \ 68 ] أي بين ذلك المذكور من فارض وبكر ، وقول عبد الله بن الزبعرى السهمي :

إن للخير وللشر مدى وكلا ذلك وجه وقبل


أي كلا ذلك المذكور من الخير والشر .

وقول من قال ، إن الضمير في قوله : ( فيه ) راجع إلى الرحم ، وقول من قال : راجع إلى البطن ، ومن قال : راجع إلى الجعل المفهوم من ( جعل ) وقول من قال : راجع إلى التدبير ، ونحو ذلك من الأقوال خلاف الصواب .

والتحقيق - إن شاء الله - هو ما ذكرنا ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

وقد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .
قوله - تعالى - : له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .

مقاليد السموات والأرض هي مفاتيحهما ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، فمفردها إقليد ، وجمعها مقاليد على غير قياس ، والإقليد المفتاح . وقيل : واحدها مقليد ، وهو قول غير معروف في اللغة .

وكونه - جل وعلا - له مقاليد السماوات والأرض أي مفاتيحهما ، كناية عن كونه - جل وعلا - هو وحده المالك لخزائن السماوات والأرض ; لأن ملك مفاتيحها يستلزم ملكها .

وقد ذكر - جل وعلا - مثل هذا في سورة " الزمر " في قوله - تعالى - : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض الآية [ 39 \ 62 - 63 ] .

وما دلت عليه آية " الشورى " هذه وآية " الزمر " المذكورتان من أنه - جل وعلا - هو مالك خزائن السماوات والأرض ، جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون [ 63 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .

[ ص: 60 ] وبين في مواضع أخر أن خزائن رحمته لا يمكن أن تكون لغيره ، كقوله - تعالى - : أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب [ 38 \ 9 ] . وقوله - تعالى - أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون [ 52 \ 37 ] . وقوله - تعالى - قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا [ 17 \ 100 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر جاء معناه موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له الآية [ 34 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 34 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا الآية [ 13 \ 26 ] . وقوله - تعالى - : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] . وقوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا الآية [ 43 \ 32 ] . وقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما الآية [ 4 \ 135 ] . وقوله - تعالى - : لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله الآية [ 65 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : ومن قدر عليه رزقه [ 65 \ 7 ] أي ضيق عليه رزقه لقلته . وكذلك قوله : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر في الآيات المذكورة .

أي يبسط الرزق لمن يشاء بسطه له ويقدر ، أي يضيق الرزق على من يشاء تضييقه عليه ، كما أوضحناه في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] .

وقد بين - جل وعلا - في بعض الآيات حكمة تضييقه للرزق على من ضيقه عليه .

وذكر أن من حكم ذلك أن بسط الرزق للإنسان ، قد يحمله على البغي والطغيان ، كقوله - تعالى - : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ 42 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 ] .
قوله - تعالى - : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأحزاب " في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 61 ] وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية [ 33 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : ولا تتفرقوا فيه .

الضمير في قوله : ( فيه ) ، راجع إلى الدين في قوله : ( أن أقيموا الدين ) .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن الافتراق في الدين - جاء مبينا في غير هذا الموضع ، وقد بين - تعالى - أنه وصى خلقه بذلك ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا الآية [ 3 \ 103 ] . وقوله - تعالى - : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ 6 \ 153 ] . وقد بين - تعالى - في بعض المواضع أن بعض الناس لا يجتنبون هذا النهي ، وهددهم على ذلك ، كقوله - تعالى - : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون [ 6 \ 159 ] . لأن قوله : لست منهم في شيء إلى قوله : يفعلون - فيه تهديد عظيم لهم .

وقوله - تعالى - في سورة " قد أفلح المؤمنون " : وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فذرهم في غمرتهم حتى حين [ 23 \ 52 - 54 ] .

فقوله : وإن هذه أمتكم أمة واحدة أي : إن هذه شريعتكم شريعة واحدة ، ودينكم دين واحد ، وربكم واحد فلا تتفرقوا في الدين .

وقوله - جل وعلا - : فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا دليل على أنهم لم يجتنبوا ما نهوا عنه من ذلك .

وقوله - تعالى - : فذرهم في غمرتهم حتى حين فيه تهديد لهم ووعيد عظيم على ذلك . ونظير ذلك قوله - تعالى - في سورة " الأنبياء " : إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون [ 21 \ 92 - 93 ] . فقوله - تعالى - : كل إلينا راجعون فيه أيضا تهديد لهم ووعيد على ذلك ، وقد أوضحنا تفسير هذه الآيات في آخر سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذه أمتكم أمة واحدة الآية [ 21 \ 93 ] .

[ ص: 62 ] وقد جاء في الحديث المشهور افتراق اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافتراق النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وافتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، وأن الناجية منها واحدة ، وهي التي كانت على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
قوله - تعالى - : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه .

بين - جل وعلا - أنه ( كبر على المشركين ) أي شق عليهم وعظم ما يدعوهم إليه - صلى الله عليه وسلم - من عبادة الله - تعالى - وحده ، وطاعته بامتثال أمره واجتناب نهيه ، ولعظم ذلك ومشقته عليهم كانوا يكرهون ما أنزل الله ، ويجتهدون في عدم سماعه لشدة كراهتهم له ، بل يكادون يبطشون بمن يتلو عليهم آيات ربهم لشدة بغضهم وكراهتهم لها .

والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة في كتاب الله ، وفيها بيان أن ذلك هو عادة الكافرين مع جميع الرسل من عهد نوح إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - .

فقد بين - تعالى - مشقة ذلك على قوم نوح وكبره عليهم في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت الآية [ 10 \ 71 ] . وقوله - تعالى - عن نوح : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] .

فقوله - تعالى - : جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهتهم لما يدعوهم إليه نوح ، فهو واضح في أنهم كبر عليهم ما يدعوهم إليه من توحيد الله والإيمان به .

وقد بين الله - تعالى - مثل ذلك في الكفار الذين كذبوا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا [ 22 \ 72 ] . فقوله - تعالى - : تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر الآية - يدل دلالة واضحة على شدة بغضهم وكراهيتهم لسماع تلك الآيات .

وكقوله - تعالى - : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه الآية [ 41 \ 26 ] . وقوله - تعالى - في " الزخرف " : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون [ 43 \ 78 ] . [ ص: 63 ] وقوله - تعالى - في " قد أفلح المؤمنون " : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون [ 23 \ 70 ] . وقوله - تعالى - في " القتال " : ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم [ 45 \ 6 - 8 ] . وقوله - تعالى - : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم [ 31 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب الآية [ 41 \ 5 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

واعلم أن هؤلاء الذين يكرهون ما أنزل الله يجب على كل مسلم أن يحذر كل الحذر من أن يطيعهم في بعض أمرهم; لأن ذلك يستلزم نتائج سيئة متناهية في السوء ، كما أوضح - تعالى - ذلك في قوله : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 24 - 28 ] . فعلى كل مسلم أن يحذر ثم يحذر ثم يحذر كل الحذر من أن يقول للذين كفروا ، الذين يكرهون ما أنزل الله - : سنطيعكم في بعض الأمر ; لأن ذلك يسبب له ما ذكره الله في الآيات المذكورة ، ويكفيه زجرا وردعا عن ذلك قول ربه - تعالى - : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم إلى قوله فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .
قوله - تعالى - : الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب .

الاجتباء في اللغة العربية معناه الاختيار والاصطفاء .

وقد دلت هذه الآية الكريمة على أنه - تعالى - يجتبي من خلقه من يشاء اجتباءه .

وقد بين في مواضع أخر بعض من شاء اجتباءه من خلقه ، فبين أن منهم المؤمنين من هذه الأمة في قوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير إلى قوله : هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 77 - 78 ] .

[ ص: 64 ] وقوله - تعالى - : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا الآية [ 35 \ 32 ] .

وبين في موضع آخر أن منهم آدم ، وهو قوله - تعالى - : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] . وذكر أن منهم إبراهيم في قوله : إن إبراهيم كان أمة إلى قوله شاكرا لأنعمه اجتباه الآية [ 16 \ 120 - 121 ] . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اجتباء بعض الخلق بالتعيين .

وقوله - تعالى - : ويهدي إليه من ينيب أي من سبق في علمه أنه ينيب إلى الله ، أي يرجع إلى ما يرضيه من الإيمان والطاعة ، ونظير هذه الآية قوله - تعالى - في سورة " الرعد " : قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب [ 13 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم .

تقدمت الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] .
قوله - تعالى - : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان .

بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي أنزل الكتاب في حال كونه متلبسا بالحق الذي هو ضد الباطل ، وقوله : الكتاب اسم جنس مراد به جميع الكتب السماوية .

وقد أوضحنا في سورة " الحج " أن المفرد الذي هو اسم الجنس يطلق مرادا به الجمع ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك مع الشواهد العربية .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : والميزان يعني أن الله - جل وعلا - هو الذي أنزل الميزان ، والمراد به العدل والإنصاف .

وقال بعض أهل العلم : الميزان في الآية هو آلة الوزن المعروفة .

ومما يؤيد ذلك أن الميزان مفعال ، والمفعال قياسي في اسم الآلة .

وعلى التفسير الأول - وهو أن الميزان العدل والإنصاف - فالميزان الذي هو آلة الوزن المعروفة داخل فيه ; لأن إقامة الوزن بالقسط من العدل والإنصاف .

[ ص: 65 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله - تعالى - هو الذي أنزل الكتاب والميزان - أوضحه في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في سورة " الحديد " : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] .

فصرح - تعالى - بأنه أنزل مع رسله الكتاب والميزان لأجل أن يقوم الناس بالقسط ، وهو العدل والإنصاف . وكقوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 7 - 9 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي والله - تعالى - أعلم : أن الميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " هو العدل والإنصاف ، كما قاله غير واحد من المفسرين .

وأن الميزان في سورة " الرحمن " هو الميزان المعروف ، أعني آلة الوزن التي يوزن بها بعض المبيعات .

ومما يدل على ذلك أنه في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " عبر بإنزال الميزان لا بوضعه ، وقال في سورة " الشورى " : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان . وقال في " الحديد " : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان [ 57 \ 25 ] .

وأما في سورة " الرحمن " فقد عبر بالوضع لا الإنزال ، قال : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] . ثم أتبع ذلك بما يدل على أن المراد به آلة الوزن المعروفة ، وذلك في قوله : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان [ 55 \ 9 ] لأن الميزان الذي نهوا عن إخساره هو أخو المكيال ، كما قال - تعالى - : أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم [ 26 \ 181 - 183 ] . وقال - تعالى - : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [ 83 \ 1 - 3 ] . وقال - تعالى - عن نبيه شعيب : ولا تنقصوا المكيال والميزان الآية [ 11 \ 84 ] . وقال - تعالى - عنه أيضا : قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان الآية [ 7 \ 85 ] . وقال - تعالى - في سورة " الأنعام " : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] . وقال - تعالى - في سورة " بني [ ص: 66 ] إسرائيل " : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا .

فإن قيل : قد اخترتم أن المراد بالميزان في سورة " الشورى " وسورة " الحديد " - هو العدل والإنصاف ، وأن المراد بالميزان في سورة " الرحمن " هو آلة الوزن المعروفة ، وذكرتم نظائر ذلك من الآيات القرآنية ، وعلى هذا الذي اخترتم يشكل الفرق بين الكتاب والميزان ; لأن الكتب السماوية كلها عدل وإنصاف .

فالجواب من وجهين : الأول منهما : هو ما قدمنا مرارا من أن الشيء الواحد إذا عبر عنه بصفتين مختلفتين جاز عطفه على نفسه تنزيلا للتغاير بين الصفات منزلة التغاير في الذوات ، ومن أمثلة ذلك في القرآن قوله - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى [ 87 \ 1 - 4 ] . فالموصوف واحد والصفات مختلفة ، وقد ساغ العطف لتغاير الصفات . ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

وأما الوجه الثاني : فهو ما أشار إليه العلامة ابن القيم - رحمه الله - في أعلام الموقعين ، من المغايرة في الجملة بين الكتاب والميزان .

وإيضاح ذلك : أن المراد بالكتاب هو العدل والإنصاف المصرح به في الكتب السماوية .

وأما الميزان : فيصدق بالعدل والإنصاف الذي لم يصرح به في الكتب السماوية ، ولكنه معلوم مما صرح به فيها .

فالتأفيف في قوله - تعالى - : فلا تقل لهما أف [ 17 \ 23 ] . من الكتاب ; لأنه مصرح به في الكتاب ، ومنع ضرب الوالدين مثلا المدلول عليه بالنهي على التأفيف من الميزان ، أي من العدل والإنصاف الذي أنزله الله مع رسله .

وقبول شهادة العدلين في الرجعة والطلاق المنصوص في قوله - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] من الكتاب الذي أنزله الله ; لأنه مصرح به فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:45 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (470)
سُورَةُ الشُّورَى
صـ 67 إلى صـ 74



[ ص: 67 ] وقبول شهادة أربعة عدول في ذلك من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وتحريم أكل مال اليتيم المذكور في قوله : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية [ 4 \ 10 ] - من الكتاب .

وتحريم إغراق مال اليتيم وإحراقه المعروف من ذلك - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وجلد القاذف الذكر للمحصنة الأنثى ثمانين جلدة ورد شهادته ، والحكم بفسقه المنصوص في قوله : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة إلى قوله إلا الذين تابوا الآية [ 24 \ 4 - 5 ] - من الكتاب الذي أنزله الله .

وعقوبة القاذف الذكر لذكر مثله ، والأنثى القاذفة للذكر أو لأنثى بمثل تلك العقوبة المنصوصة في القرآن - من الميزان المذكور .

وحلية المرأة التي كانت مبتوتة ، بسبب نكاح زوج ثان وطلاقه لها بعد الدخول ، المنصوص في قوله - تعالى - : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ 2 \ 230 ] أي فإن طلقها الزوج الثاني بعد الدخول وذوق العسيلة - فلا جناح عليهما ، أي لا جناح على المرأة التي كانت مبتوتة ، والزوج الذي كانت حراما عليه - أن يتراجعا بعد نكاح الثاني وطلاقه لها - من الكتاب الذي أنزل الله .

وأما إن مات الزوج الثاني بعد أن دخل بها وكان موته قبل أن يطلقها ، فحليتها للأول الذي كانت حراما عليه - من الميزان الذي أنزله الله مع رسله .

وقد أشرنا إلى كلام ابن القيم المذكور ، وأكثرنا من الأمثلة لذلك في سورة " الأنبياء " في كلامنا الطويل على قوله - تعالى - : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .
قوله - تعالى - : وما يدريك لعل الساعة قريب .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : أتى أمر الله فلا تستعجلوه الآية [ 16 \ 1 ] . وفي سورة " الأحزاب " في الكلام على قوله [ ص: 68 ] - تعالى - : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] . وفي سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : وأنذرهم يوم الآزفة الآية [ 40 \ 18 ] .
قوله - تعالى - : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق .

ذكر - تعالى - في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل : الأولى : أن الكفار الذين لا يؤمنون بالساعة يستعجلون بها ، أي يطلبون تعجيلها عليهم ، لشدة إنكارهم لها .

والثانية : أن المؤمنين مشفقون منها ، أي خائفون منها .

والثالثة : أنهم يعلمون أنها الحق ، أي أن قيامها ووقوعها حق لا شك فيه .

وكل هذه المسائل الثلاث المذكورة في هذه الآية الكريمة جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما استعجالهم لها فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الرعد " في الكلام على قوله - تعالى - : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] . وفي غير ذلك من المواضع .

وأما المسألة الثانية التي هي إشفاق المؤمنين وخوفهم من الساعة ، فقد ذكره في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون [ 21 \ 49 ] . وقوله - تعالى - : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار [ 24 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا [ 76 \ 7 ] .

وأما المسألة الثالثة وهي علمهم أن الساعة حق ، فقد دلت عليه الآيات المصرحة بأنها لا ريب فيها ; لأنها تتضمن نفي الريب فيها عن المؤمنين .

والريب : الشك ، كقوله - تعالى - عن الراسخين في العلم : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الآية [ 4 \ 87 ] . وقوله - تعالى - : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 25 ] . وقوله - تعالى - : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه الآية [ 42 \ 7 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 69 ] ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 6 - 7 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يمارون ، مضارع مارى يماري مراء ومماراة ، إذا خاصم وجادل .

ومنه قوله - تعالى - : فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا [ 18 \ 22 ] .

وقوله : لفي ضلال بعيد ، أي بعيد عن الحق والصواب .

وقد قدمنا معاني الضلال في القرآن واللغة العربية ، مع الشواهد في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . وفي مواضع أخر من هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى . قد بينا في سورة " هود " في الكلام على قوله - تعالى - : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا الآية [ 11 \ 29 ] - أن جميع الرسل - عليهم الصلوات والسلام - لا يأخذون أجرا على التبليغ ، وذكرنا الآيات الدالة على ذلك .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " وجه الجمع بين تلك الآيات وآية " الشورى " هذه ، فقلنا فيه :

اعلم أولا أن في قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى أربعة أقوال : الأول : ما رواه الشعبي وغيره عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن جرير وغيره - أن معنى الآية قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - له في كل بطن من قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس [ ص: 70 ] بأجر على التبليغ ; لأنه مبذول لكل أحد ; لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس .

وقد فعل له ذلك أبو طالب ولم يكن يسأل أجرا على التبليغ ; لأنه لم يؤمن .

وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر - تحقق أنه لا يسأل أجرا ، كقول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب

ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح بما يشبه الذم .

وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره ابن جرير ، وعليه فلا إشكال .

الثاني : أن معنى الآية إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي ، واحفظوني فيهم ، ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين ، وعليه فلا إشكال أيضا .

لأن المودة بين المسلمين واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي - صلى الله عليه وسلم - . قال - تعالى - : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . وفي الحديث " مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " وقال - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " . والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا .

وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين ، تبين أنه غير عوض عن التبليغ .

وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .

فمعناه على القول الأول لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي فيكم .

وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي ، فاحفظوني فيهم .

القول الثالث - وبه قال الحسن - : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى الله ، وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ; لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .

[ ص: 71 ] القول الرابع : ( إلا المودة في القربى ) أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم ، وعليه أيضا فلا إشكال .

لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .

وأما القول بأن قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى - منسوخ بقوله - تعالى - : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] - فهو ضعيف ، والعلم عند الله - تعالى - . انتهى منه .

وقد علمت مما ذكرنا فيه أن القول الأول هو الصحيح في معنى الآية .

مع أن كثيرا من الناس يظنون أن القول الثاني هو معنى الآية ، فيحسبون أن معنى إلا المودة في القربى إلا أن تودوني في أهل قرابتي .

وممن ظن ذلك محمد السجاد ; حيث قال لقاتله يوم الجمل : أذكرك " حم " يعني سورة " الشورى " هذه ، ومراده أنه من أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيلزم حفظه فيهم ; لأن الله - تعالى - قال في " حم " هذه : إلا المودة في القربى فهو يريد المعنى المذكور ، يظنه هو المراد بالآية ، ولذا قال قاتله في ذلك :

يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم


وقد ذكرنا هذا البيت والأبيات التي قبله في أول سورة " هود " ، وذكرنا أن البخاري ذكر البيت المذكور في سورة " المؤمن " ، وذكرنا الخلاف في قائل الأبيات الذي قتل محمدا السجاد بن طلحة بن عبيد الله يوم الجمل ، هل هو شريح بن أبي أوفى العبسي ، كما قال البخاري ، أو الأشتر النخعي ، أو عصام بن مقشعر ، أو مدلج بن كعب السعدي ، أو كعب بن مدلج .

وممن ظن أن معنى الآية هو ما ظنه محمد السجاد المذكور - الكميت في قوله في أهل قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :



وجدنا لكم في آل حاميم آية تأولها منا تقي ومعرب


والتحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية هو القول الأول إلا المودة في القربى [ ص: 72 ] أي إلا أن تودوني في قرابتي فيكم وتحفظوني فيها ، فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما هو شأن أهل القرابات .
قوله - تعالى - : ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا . الاقتراف معناه الاكتساب ، أي من يعمل حسنة من الحسنات ويكتسبها - نزد له فيها حسنا ، أي نضاعفها له .

فمضاعفة الحسنات هي الزيادة في حسنها ، وهذا المعنى توضحه آيات من كتاب الله - تعالى - كقوله - تعالى - : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] . وقوله - تعالى - : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة [ 2 \ 245 ] . وقوله - تعالى - : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا [ 73 \ 20 ] . فكونه خيرا وأعظم أجرا زيادة في حسنه ، كما لا يخفى . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .

بين - تعالى - في هذه الآية الكريمة أنه هو وحده الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، وقد جاء ذلك موضحا في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم [ 9 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم الآية [ 66 \ 8 ] . وقوله - تعالى - : ومن يغفر الذنوب إلا الله [ 3 \ 135 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا معنى التوبة وأركانها وإزالة ما في أركانها من الإشكال في سورة " النور " في الكلام على قوله - تعالى - : وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون [ 24 \ 31 ] .
قوله - تعالى - : ولكن ينزل بقدر ما يشاء .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ينزل ما يشاء تنزيله من الأرزاق وغيرها [ ص: 73 ] بقدر ، أي بمقدار معلوم عنده - جل وعلا - وهو - جل وعلا - أعلم بالحكمة والمصلحة في مقدار كل ما ينزله . وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وما أنتم بمعجزين في الأرض الآية .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النور " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار الآية [ 24 \ 57 ] .
قوله - تعالى - : ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام .

قوله : ( ومن آياته ) أي من علاماته الدالة على قدرته واستحقاقه للعبادة وحده - الجواري وهي السفن ، واحدتها جارية ، ومنه قوله - تعالى - : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 \ 11 ] يعني سفينة نوح ، وسميت جارية لأنها تجري في البحر .

وقوله : ( كالأعلام ) ، أي كالجبال ، شبه السفن بالجبال لعظمها .

وعن مجاهد أن الأعلام القصور ، وعن الخليل أن كل مرتفع تسميه العرب علما ، وجمع العلم أعلام .

وهذا الذي ذكره الخليل معروف في اللغة ، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا :

وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جريان السفن في البحر من آياته - تعالى - الدالة على كمال قدرته - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين [ 36 \ 41 - 44 ] . وقوله - تعالى - : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين [ 29 \ 15 ] . وقوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] . وقوله - تعالى - في سورة " النحل " : وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله الآية [ 19 \ 14 ] . وقوله في " فاطر " : [ ص: 74 ] وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله الآية [ 35 \ 12 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو ( الجواري ) بياء ساكنة بعد الراء في الوصل فقط دون الوقف ، وقرأه ابن كثير بالياء المذكور في الوصل والوقف معا ، وقرأه الباقون ( الجوار ) بحذف الياء في الوصل والوقف معا .
قوله - تعالى - : والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .

قرأ هذا الحرف حمزة والكسائي ( كبير الإثم ) ، بكسر الباء بعدها ياء ساكنة وراء على صيغة الإفراد .

وقرأه الباقون بفتح الباء بعدها ألف فهمزة مكسورة قبل الراء على صيغة الجمع .

وقوله : والذين في محل جر عطفا على قوله : وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون أي وخير وأبقى أيضا للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش .

والفواحش جمع فاحشة . والتحقيق - إن شاء الله - أن الفواحش من جملة الكبائر .

والأظهر أنها من أشنعها; لأن الفاحشة في اللغة هي الخصلة المتناهية في القبح ، وكل متشدد في شيء مبالغ فيه فهو فاحش فيه .

ومنه قول طرفة بن العبد في معلقته :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد

فقوله : الفاحش ، أي المبالغ في البخل المتناهي فيه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من وعده - تعالى - الصادق للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش بما عنده لهم من الثواب الذي هو خير وأبقى - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، فبين - تعالى - في سورة " النساء " أن من ذلك تكفيره - تعالى - عنهم سيئاتهم ، وإدخالهم المدخل الكريم وهو الجنة ، في قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما [ 4 \ 31 ] . وبين في سورة " النجم " أنهم باجتنابهم كبائر الإثم والفواحش - يصدق عليهم اسم المحسنين ، ووعدهم على ذلك بالحسنى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-03, 11:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (471)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 75 إلى صـ 82



[ ص: 75 ] والأظهر أنها الجنة ، ويدل له حديث " الحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم " في تفسير قوله - تعالى - : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] كما قدمناه .

وآية " النجم " المذكورة هي قوله - تعالى - : ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] . ثم بين المراد بالذين أحسنوا في قوله : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة [ 53 \ 23 ] .

وأظهر الأقوال في قوله : ( إلا اللمم ) - أن المراد باللمم صغائر الذنوب ، ومن أوضح الآيات القرآنية في ذلك قوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . فدلت على أن اجتناب الكبائر سبب لغفران الصغائر ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

ويدل لهذا حديث ابن عباس الثابت في الصحيح قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان المنطق ، والنفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " .

وعلى هذا القول فالاستثناء في قوله : ( إلا اللمم ) منقطع; لأن اللمم الذي هو الصغائر على هذا القول لا يدخل في الكبائر والفواحش ، وقد قدمنا تحقيق المقام في الاستثناء المنقطع في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما [ 19 \ 62 ] .

وقالت جماعة من أهل العلم : الاستثناء متصل ، قالوا : وعليه فمعنى ( إلا اللمم ) إلا أن يلم بفاحشة مرة ، ثم يجتنبها ولا يعود لها بعد ذلك .

واستدلوا لذلك بقول الراجز :

إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما


وروى هذا البيت ابن جرير والترمذي وغيرهما مرفوعا . وفي صحته مرفوعا نظر .

[ ص: 76 ] وقال بعض العلماء : المراد باللمم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي قبل الدخول في الإسلام . ولا يخفى بعده .

وأظهر الأقوال هو ما قدمنا لدلالة آية " النساء " المذكورة عليه ، وحديث ابن عباس المتفق عليه .

واعلم أن كبائر الإثم ليست محدودة في عدد معين ، وقد جاء تعيين بعضها ، كالسبع الموبقات ، أي المهلكات لعظمها ، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنها : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات .

وقد جاءت روايات كثيرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعيين بعض الكبائر كعقوق الوالدين ، واستحلال حرمة بيت الله الحرام ، والرجوع إلى البادية بعد الهجرة ، وشرب الخمر ، واليمين الغموس ، والسرقة ، ومنع فضل الماء ، ومنع فضل الكلإ ، وشهادة الزور .

وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح عن ابن مسعود أن أكبر الكبائر الإشراك بالله الذي خلق الخلق ، ثم قتل الرجل ولده خشية أن يطعم معه ، ثم زناه بحليلة جاره . وفي بعضها أيضا " أن من الكبائر تسبب الرجل في سب والديه " . وفي بعضها أيضا " أن سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " . وذلك يدل على أنهما من الكبائر .

وفي بعض الروايات " أن من الكبائر الوقوع في عرض المسلم ، والسبتين بالسبة " .

وفي بعض الروايات " أن منها جمع الصلاتين من غير عذر " .

وفي بعضها " أن منها اليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " . ويدل عليهما قوله - تعالى - : إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون [ 12 \ 87 ] . وقوله : فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 \ 99 ] .

وفي بعضها " أن منها سوء الظن بالله " . ويدل له قوله - تعالى - : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا [ 48 \ 6 ] .

وفي بعضها " أن منها الإضرار في الوصية " .

[ ص: 77 ] وفي بعضها " أن منها الغلول " . ويدل له قوله - تعالى - : ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة [ 3 \ 161 ] . وقدمنا معنى الغلول في سورة " الأنفال " ، وذكرنا حكم الغال .

وفي بعضها " أن من أهل الكبائر الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " . ويدل له قوله - تعالى - : أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم [ 3 \ 77 ] . ولم نذكر أسانيد هذه الروايات ونصوص متونها خوف الإطالة ، وأسانيد بعضها لا تخلو من نظر ، لكنها لا يكاد يخلو شيء منها عن بعض الشواهد الصحيحة من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .

واعلم أن أهل العلم اختلفوا في حد الكبيرة ; فقال بعضهم : هي كل ذنب استوجب حدا من حدود الله .

وقال بعضهم : هي كل ذنب جاء الوعيد عليه بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب .

واختار بعض المتأخرين حد الكبيرة بأنها هي كل ذنب دل على عدم اكتراث صاحبه بالدين .

وعن ابن عباس أن الكبائر أقرب إلى السبعين منها إلى السبع . وعنه أيضا أنها أقرب إلى سبعمائة منها إلى سبع .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق أنها لا تنحصر في سبع ، وأن ما دل عليه من الأحاديث على أنها سبع لا يقتضي انحصارها في ذلك العدد; لأنه إنما دل على نفي غير السبع بالمفهوم ، وهو مفهوم لقب ، والحق عدم اعتباره .

ولو قلنا : إنه مفهوم عدد - لكان غير معتبر أيضا; لأن زيادة الكبائر على السبع مدلول عليها بالمنطوق .

وقد جاء منها في الصحيح عدد أكثر من سبع ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، مع أن مفهوم العدد ليس من أقوى المفاهيم .

والأظهر عندي في ضابط الكبيرة أنها كل ذنب اقترن بما يدل على أنه أعظم من مطلق المعصية ، سواء كان ذلك الوعيد عليه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ، أو كان وجوب الحد فيه ، أو غير ذلك مما يدل على تغليظ التحريم وتوكيده .

[ ص: 78 ] مع أن بعض أهل العلم قال : إن كل ذنب كبيرة . وقوله - تعالى - : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ 4 \ 31 ] . وقوله : إلا اللمم [ 53 \ 32 ] يدل على عدم المساواة ، وأن بعض المعاصي كبائر ، وبعضها صغائر ، والمعروف عند أهل العلم أنه لا صغيرة مع الإصرار ، ولا كبيرة مع الاستغفار . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وجزاء سيئة سيئة مثلها .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الآية [ 16 \ 126 ] . وفي سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه الآية [ 39 \ 17 - 18 ] .
قوله - تعالى - : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في الكلام على آية " النحل " وآية " الزمر " المذكورتين آنفا .
قوله - تعالى - : وترى الظالمين لما رأوا العذاب الآية .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل الآية [ 7 \ 53 ] .
قوله - تعالى - : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده الآية [ 16 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا .

قوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان - يبين الله - جل وعلا - فيه منته على هذا النبي الكريم ، بأنه علمه هذا القرآن العظيم ولم يكن يعلمه قبل ذلك ، وعلمه تفاصيل دين الإسلام ولم يكن يعلمها قبل ذلك .

[ ص: 79 ] فقوله : ( ما كنت تدري ما الكتاب ) أي ما كنت تعلم ما هو هذا الكتاب الذي هو القرآن العظيم ، حتى علمتكه ، وما كنت تدري ما الإيمان الذي هو تفاصيل هذا الدين الإسلامي ، حتى علمتكه .

ومعلوم أن الحق الذي لا شك فيه الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة - أن الإيمان شامل للقول والعمل مع الاعتقاد .

وذلك ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة ، منها حديث وفد عبد القيس المشهور ، ومنها حديث : " من قام رمضان إيمانا واحتسابا . . . " الحديث ، فسمى فيه قيام رمضان إيمانا ، وحديث " الإيمان بضع وسبعون شعبة " ، وفي بعض رواياته " بضع وستون شعبة ، أعلاها شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .

والأحاديث بمثل ذلك كثيرة ، ويكفي في ذلك ما أورده البيهقي في شعب الإيمان ، فهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما كان يعرف تفاصيل الصلوات المكتوبة وأوقاتها ، ولا صوم رمضان ، وما يجوز فيه وما لا يجوز ، ولم يكن يعرف تفاصيل الزكاة ولا ما تجب فيه ولا قدر النصاب وقدر الواجب فيه ، ولا تفاصيل الحج ونحو ذلك ، وهذا هو المراد بقوله - تعالى - : ولا الإيمان .

وما ذكره هنا من أنه لم يكن يعلم هذه الأمور حتى علمه إياها بأن أوحى إليه هذا النور العظيم الذي هو كتاب الله - جاء في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم الآية [ 4 \ 113 ] . وقوله - جل وعلا - : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] .

فقوله في آية " يوسف " هذه : وإن كنت من قبله لمن الغافلين ، كقوله هنا : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ، وقوله - تعالى - : ووجدك ضالا فهدى [ 93 \ 7 ] على أصح التفسيرات كما قدمناه في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء ، الضمير في قوله : ( جعلناه ) راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله : روحا من أمرنا . [ ص: 80 ] وقوله : ما كنت تدري ما الكتاب ، أي ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نورا نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا .

وسمي القرآن نورا ; لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك .

وما ذكره هنا من أن هذا القرآن نور - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] .

وقوله - تعالى - : واتبعوا النور الذي أنزل معه [ 7 \ 157 ] . وقوله - تعالى - : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 - 16 ] . وقوله - تعالى - : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] .

وما دلت عليه هذه الآيات الكريمة من كون هذا القرآن نورا - يدل على أنه هو الذي يكشف ظلمات الجهل ، ويظهر في ضوئه الحق ، ويتميز عن الباطل ، ويميز به بين الهدى والضلال والحسن والقبيح .

فيجب على كل مسلم أن يستضيء بنوره ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويمتثل أوامره ، ويجتنب ما نهى عنه ، ويعتبر بقصصه وأمثاله .

والسنة كلها داخلة في العمل به ، لقوله - تعالى - : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم .

الصراط المستقيم قد بينه - تعالى - في قوله : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 6 - 7 ] .

وقوله في هذه الآية الكريمة : وإنك لتهدي الآية ، قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم الآية [ 41 \ 17 ] ، وبينا هناك وجه الجمع بين قوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم مع قوله : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] .

[ ص: 81 ] والصراط في لغة العرب : الطريق الواضح ، والمستقيم : الذي لا اعوجاج فيه ، ومنه قول جرير :

أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم

قوله - تعالى - : ألا إلى الله تصير الأمور .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأمور كلها تصير إلى الله ، أي ترجع إليه وحده لا إلى غيره - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله [ 11 \ 123 ] . وقوله - تعالى - : ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور كنتم خير أمة أخرجت للناس [ 3 \ 109 - 110 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 82 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الزُّخْرُفِ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا .

قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [ 26 \ 194 - 195 ] . وَفِي سُورَةِ " الزُّمَرِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُرْءَانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ الْآيَةَ [ 39 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين .

الضمير في قوله : ( منهم ) عائد إلى القوم المسرفين ، المخاطبين بقوله : : أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 5 ] . وفيه ما يسميه علماء البلاغة بالالتفات من الخطاب إلى الغيبة .

وقوله : أشد منهم مفعول به لـ ( أهلكنا ) ، وأصله نعت لمحذوف ، والتقدير فأهلكنا قوما أشد منهم بطشا ، على حد قوله في الخلاصة :

وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل

وقوله : ( بطشا ) تمييز محول من الفاعل على حد قوله في الخلاصة : والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلا منزلا

والبطش : أصله الأخذ بعنف وشدة .

والمعنى : فأهلكنا قوما أشد بطشا من كفار مكة الذين كذبوا نبينا بسبب تكذيبهم رسلهم ، فليحذر الكفار الذين كذبوك أن نهلكهم بسبب ذلك كما أهلكنا الذين كانوا أشد منهم بطشا ، أي أكثر منهم عددا وعددا وجلدا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:10 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (472)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 83 إلى صـ 90



[ ص: 83 ] فعلى الأضعف الأقل أن يتعظ بإهلاك الأقوى الأكثر .

وقوله في هذه الآية الكريمة : ومضى مثل الأولين أي صفتهم التي هي إهلاكهم المستأصل بسبب تكذيبهم الرسل .

وقول من قال : مثل الأولين أي عقوبتهم وسنتهم - راجع في المعنى إلى ذلك .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن الله أهلك من هم أقوى منهم ، ليحذروا أن يفعل بهم مثل ما فعل بأولئك - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض الآية [ 40 \ 82 ] . وقوله - تعالى - : ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا إلى قوله : فأهلكناهم بذنوبهم الآية [ 6 \ 6 ] . وقوله - تعالى - : وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير [ 34 \ 45 ] . وقوله - تعالى - : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا [ 35 \ 44 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ومضى مثل الأولين ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد كفار مكة الذين كذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بصفته ، إهلاكهم وسنته فيهم التي هي العقوبة وعذاب الاستئصال جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 42 - 43 ] . وقوله - تعالى - : فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون [ 40 \ 83 - 85 ] . وقوله - تعالى - : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين الآية [ 18 \ 55 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 84 ] فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين [ 43 \ 55 - 56 ] .

وقد قدمنا بعض الآيات الدالة على هذا في سورة " المائدة " في الكلام على قوله - تعالى - : من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية [ 5 \ 32 ] .


قوله - تعالى - : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم .
قوله - تعالى - : الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون .

قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي مهدا بفتح الميم وسكون الهاء ، وقرأه باقي السبعة مهادا بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف ومعناهما واحد ، وهو الفراش .

وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه جعل الأرض لبني آدم مهدا أي فراشا ، وأنه جعل لهم فيها سبلا أي طرقا ليمشوا فيها ويسلكوها ، فيصلوا بها من قطر إلى قطر . وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، من كونه - تعالى - جعل الأرض فراشا لبني آدم ، وجعل لهم فيها الطرق لينفذوا من قطر إلى قطر - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : والله جعل لكم الأرض بساطا لتسلكوا منها سبلا فجاجا [ 71 \ 19 - 20 ] . وكقوله - تعالى - : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ 21 \ 31 ] .

وذكر كون الأرض فراشا لبني آدم في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 \ 48 ] . وقوله - تعالى - : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء الآية [ 40 \ 64 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 85 ] وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون [ 16 \ 15 ] .
قوله - تعالى - : والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من دلالة إحياء الأرض بعد موتها على خروج الناس من قبورهم أحياء بعد الموت ، في قوله - تعالى - : كذلك تخرجون - جاء موضحا في آيات كثيرة قد قدمناها في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] مع بقية براهين البعث في القرآن . وأوضحنا ذلك أيضا في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] . وفي غير ذلك من المواضع ، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك .

وقد قدمنا في سورة " الفرقان " معنى الإنشاء والنشور وما في ذلك من اللغات مع الشواهد العربية .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بقدر .

قال بعض العلماء : أي بقدر سابق وقضاء .

وقال بعض العلماء : أي بمقدار يكون به إصلاح البشر ، فلم يكثر الماء جدا فيكون طوفانا فيهلكهم ، ولم يجعله قليلا دون قدر الكفاية ، بل نزله بقدر الكفاية من غير مضرة ، كما قال - تعالى - : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] .

وقال - تعالى - : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم إلى قوله : وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 21 - 22 ] .
قوله - تعالى - : والذي خلق الأزواج كلها .

الأزواج الأصناف ، والزوج تطلقه العرب على الصنف .

وقد بين - تعالى - أن الأزواج المذكورة هنا تشمل أصناف النبات وبني آدم وما لا يعلمه إلا الله .

قال - تعالى - : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون [ 36 \ 36 ] .

[ ص: 86 ] وقال - تعالى - : وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى [ 20 \ 53 ] .

وقال - تعالى - : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 \ 5 ] . أي من كل صنف حسن من أصناف النبات .

وقال - تعالى - : وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 \ 10 ] .

ومن إطلاق الأزواج على الأصناف في القرآن قوله - تعالى - : وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 58 ] . وقوله - تعالى - : ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم [ 20 \ 131 ] .

وقد قدمنا طرفا من ذلك في سورة " الصافات " في الكلام على قوله - تعالى - : احشروا الذين ظلموا وأزواجهم الآية [ 37 \ 22 ] .
قوله - تعالى - : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها الآية [ 40 \ 79 ] . وضمير المفرد المذكر الغائب في قوله : لتستووا على ظهوره ، وقوله : إذا استويتم عليه - راجع إلى لفظ ( ما ) في قوله : وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون .
قوله - تعالى - : وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .

يعني - جل وعلا - أنه جعل لبني آدم ما يركبونه من الفلك التي هي السفن ، ومن الأنعام ليستووا ، أي يرتفعوا معتدلين على ظهوره ، ثم يذكروا في قلوبهم نعمة ربهم عليهم بتلك المركوبات ، ثم يقولوا - بألسنتهم مع تفهم معنى ما يقولون - : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين .

وقوله : " سبحان " قد قدمنا في أول سورة " بني إسرائيل " معناه بإيضاح ، وأنه يدل على تنزيه الله - جل وعلا - أكمل التنزيه وأتمه ، عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، والإشارة في قوله : هذا راجعة إلى لفظ ما من قوله : ما تركبون وجمع الظهور نظرا إلى معنى ما ; لأن معناها عام شامل لكل ما تشمله صلتها ، ولفظها مفرد ، فالجمع في الآية باعتبار معناها ، والإفراد باعتبار لفظها .

[ ص: 87 ] وقوله : الذي سخر لنا هذا أي الذي ذلل لنا هذا الذي هو ما نركبه من الأنعام والسفن ; لأن الأنعام لو لم يذللها الله لهم لما قدروا عليها ، ولا يخفى أن الجمل أقوى من الرجل ، وكذلك البحر لو لم يذلله لهم ويسخر لهم إجراء السفن فيه لما قدروا على شيء من ذلك .

وقوله - تعالى - : وما كنا له مقرنين أي مطيقين . والعرب تقول : أقرن الرجل للأمر وأقرنه إذا كان مطيقا له كفؤا للقيام به ، من قولهم : أقرنت الدابة للدابة ، بمعنى أنك إذا قرنتهما في حبل قدرت على مقاومتها ، ولم تكن أضعف منها فتجرها; لأن الضعيف إذا لز في القرن ، أي الحبل ، مع القوي - جره ولم يقدر على مقاومته ، كما قال جرير :

وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس

وهذا المعنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن معديكرب وقد أنشده قطرب لهذا المعنى :

لقد علم القبائل ما عقيل لنا في النائبات بمقرنينا


وقول ابن هرمة :

وأقرنت ما حملتني ولقلما يطاق احتمال الصدياد عدو الهجر



وقول الآخر :

ركبتم صعبتي أشرا وحيفا ولستم للصعاب بمقرنينا


وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن ما ذكر من السفن والأنعام لو لم يذلله الله لهم لما أقرنوا له ولما أطاقوه - جاء مبينا في آيات أخر; قال - تعالى - في ركوب الفلك : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] . وقال - تعالى - : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] . وقال - تعالى - : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله الآية [ 45 \ 12 ] . وقال - تعالى - : وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار [ ص: 88 ] الآية [ 14 \ 32 ] . وقال - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية [ 2 \ 164 ] . وقال - تعالى - : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقال - تعالى - في تسخير الأنعام : وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون [ 36 \ 72 ] . وقال - تعالى - : فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين [ 22 \ 36 - 37 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وجعلوا له من عباده جزءا .

قال بعض العلماء : جزءا أي عدلا ونظيرا ، يعني الأصنام وغيرها من المعبودات من دون الله .

وقال بعض العلماء : جزءا أي ولدا .

وقال بعض العلماء : جزءا يعني البنات .

وذكر ابن كثير في تفسير هذه الآية أن الجزء النصيب ، واستشهد على ذلك بآية " الأنعام " ، أعني قوله - تعالى - : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية [ 6 \ 136 ] .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر أن قول ابن كثير هذا - رحمه الله - غير صواب في الآية ; لأن المجعول لله في آية " الأنعام " هو النصيب مما ذرأ من الحرث والأنعام ، والمجعول له في آية " الزخرف " هذه جزء من عباده لا مما ذرأ من الحرث والأنعام .

وبين الأمرين فرق واضح كما ترى .

وأن قول قتادة ومن وافقه : إن المراد بالجزء العدل والنظير الذي هو الشريك - غير صواب أيضا; لأن إطلاق الجزء على النظير ليس بمعروف في كلام العرب .

أما كون المراد بالجزاء في الآية الولد ، وكون المراد بالولد خصوص الإناث - فهذا هو التحقيق في الآية .

[ ص: 89 ] وإطلاق الجزء على الولد يوجه بأمرين : أحدهما : ما ذكره بعض علماء العربية من أن العرب تطلق الجزء مرادا به البنات ، ويقولون : أجزأت المرأة إذا ولدت البنات ، وامرأة مجزئة ، أي تلد البنات ، قالوا ومنه قول الشاعر :

إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزيء الحرة المذكار أحيانا


وقول الآخر :

زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها زجل


وأنكر الزمخشري هذه اللغة قائلا : إنها كذب وافتراء على العرب .

قال في الكشاف في الكلام على هذه الآية الكريمة : ومن بدع التفاسير تفسير الجزء بالإناث ، وادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث ، وما هو إلا كذب على العرب ، ووضع مستحدث منحول ، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه ( أجزأت المرأة ) ثم صنعوا بيتا وبيتا :

إن أجزأت حرة يوما فلا عجب زوجتها من بنات الأوس مجزئـة



ا هـ . منه بلفظه .

وقال ابن منظور في اللسان : وفي التنزيل العزيز : وجعلوا له من عباده جزءا . قال أبو إسحاق : يعني به الذين جعلوا الملائكة بنات الله ، تعالى وتقدس عما افتروا ، قال : وقد أنشدت بيتا يدل على أن معنى جزءا معنى الإناث ; قال - ولا أدري البيت هو قديم أو مصنوع - :

إن أجزأت حرة يوما فلا عجب
البيت .

والمعنى في قوله : وجعلوا له من عباده جزءا ، أي جعلوا نصيب الله من الولد [ ص: 90 ] الإناث ، قال ولم أجده في شعر قديم ولا رواه عن العرب الثقات ، وأجزأت المرأة ولدت الإناث ، وأنشد أبو حنيفة :

زوجتها من بنات الأوس مجزئة
البيت .

انتهى الغرض من كلام صاحب اللسان .

وظاهر كلامه هذا الذي نقله عن الزجاج أن قولهم : أجزأت المرأة إذا ولدت الإناث - معروف ; ولذا ذكره وذكر البيت الذي أنشده له أبو حنيفة كالمسلم له .

والوجه الثاني : وهو التحقيق - إن شاء الله - أن المراد بالجزء في الآية الولد ، وأنه أطلق عليه اسم الجزء ; لأن الفرع كأنه جزء من أصله ، والولد كأنه بضعة من الوالد ، كما لا يخفى .

وأما كون المراد بالولد المعبر عنه بالجزء في الآية - خصوص الإناث ، فقرينة السياق دالة عليه دلالة واضحة ; لأن جعل الجزء المذكور لله من عباده هو بعينه الذي أنكره الله إنكارا شديدا ، وقرع مرتكبه تقريعا شديدا في قوله - تعالى - بعده : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا إلى قوله : وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 16 - 18 ] .

وقرأ هذا الحرف شعبة عن عاصم جزءا بضم الزاي ، وباقي السبعة بإسكانها ، وحمزة عند الوقف يسقط الهمزة بنقل حركتها إلى الزاي مع حذف التنوين للوقف .
قوله - تعالى - : أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين .

( أم ) هنا بمعنى استفهام الإنكار ; فالكفار لما قالوا : الملائكة بنات الله - أنكر الله عليهم أشد الإنكار ، موبخا لهم أشد التوبيخ ; حيث افتروا عليه الولد ، ثم جعلوا له أنقص الولدين وأحقرهما ، وهو الأنثى ، كما قال هنا : أم اتخذ مما يخلق بنات ، وهي النصيب الأدنى من الأولاد ، ( وأصفاكم ) أنتم ، أي خصكم وآثركم ( بالبنين ) الذين هم النصيب الأعلى من الأولاد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:13 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (473)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 91 إلى صـ 98


وإنكار هذا عليهم وتوبيخهم عليه - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله هنا : [ ص: 91 ] وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [ 43 \ 17 ] . يعني الأنثى ، كما أوضحه بقوله : وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 16 \ 58 ] يعني فكيف تجعلون لله الإناث وأنتم لو بشر الواحد منكم بأن امرأته ولدت أنثى لظل وجهه مسودا ، يعني من الكآبة ، وهو كظيم ، أي ممتلئ حزنا وغما ، وكقوله - تعالى - هنا : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ففيه إنكار شديد وتقريع عظيم لهم بأنهم مع افترائهم عليه - جل وعلا - الولد جعلوا له أنقص الولدين ، الذي لنقصه الخلقي ينشأ في الحلية - من الحلي ، والحلل وأنواع الزينة - من صغره إلى كبره; ليجبر بتلك الزينة نقصه الخلقي الطبيعي ، وهو في الخصام غير مبين ; لأن الأنثى غالبا لا تقدر على القيام بحجتها ولا الدفاع عن نفسها .

وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية غاية الإيضاح في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وكقوله - تعالى - : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] . وقوله - تعالى - : ويجعلون لله ما يكرهون [ 16 \ 62 ] . وقوله - تعالى - : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] . وقوله - تعالى - : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] . وقوله - تعالى - : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [ 37 \ 149 - 157 ] .

وقد قدمنا كثيرا من الآيات الموضحة لهذا المعنى في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] . ووجه التعبير عن الأنثى بما ضرب مثلا لله في قوله : وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا الآية [ 43 \ 17 ] - ظاهر ; لأن البنات المزعومة يلزم ادعاؤها أن تكون من جنس من نسبت إليه ; لأن الوالد والولد من جنس واحد ، وكلاهما يشبه الآخر في صفاته .
قوله - تعالى - : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون .

[ ص: 92 ] قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر عند الرحمن بسكون النون وفتح الدال ، ظرف ، كقوله - تعالى - : إن الذين عند ربك لا يستكبرون [ 7 \ 206 ] . وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي الذين هم عباد الرحمن بكسر العين وباء موحدة بعدها ألف وضم الدال ، جمع عبد ، كقوله : وعباد الرحمن الآية [ 25 \ 63 ] .

وقوله : أشهدوا خلقهم . قرأه عامة السبعة غير نافع ( أشهدوا ) بهمزة واحدة مع فتح الشين ، وقرأه نافع ( أأشهدوا ) . بهمزتين الأولى مفتوحة محققة ، والثانية مضمومة مسهلة بين بين ، وقالوا : يجعل بين الهمزتين ألف الإدخال على إحدى الروايتين .

وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أربع مسائل : الأولى : أن الكفار افتروا على الملائكة أنهم إناث ، زاعمين أنهم بنات الله .

الثانية : أنه وبخهم على ذلك توبيخا شديدا وأنكر عليهم ذلك في قوله : أشهدوا خلقهم يعني هل حضروا خلق الله لهم فعاينوهم إناثا .

الثالثة : أن شهادتهم الكاذبة بذلك ستكتب عليهم .

الرابعة : أنهم يسألون عنها يوم القيامة .

وهذه المسائل الأربع التي تضمنتها هذه الآية الكريمة ، جاءت موضحة في غير هذا الموضع .

أما الأولى منها . وهي كونهم اعتقدوا الملائكة إناثا ، فقد ذكرها - تعالى - في مواضع من كتابه كقوله - تعالى - : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] . وكقوله - تعالى - : إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى الآية [ 53 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون أم خلقنا الملائكة إناثا الآية [ 37 \ 149 - 150 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما المسألة الثانية ، وهي سؤاله - تعالى - لهم على وجه الإنكار والتوبيخ والتقريع : [ ص: 93 ] هل شهدوا خلق الملائكة وحضروه حتى علموا أنهم خلقوا إناثا ؟ فقد ذكرها في قوله - تعالى - : أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون [ 37 \ 150 ] . وبين - تعالى - أنه لم يشهد الكفار خلق شيء في قوله : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم الآية [ 18 \ 51 ] .

وأما المسألة الثالثة التي هي كون شهادتهم بذلك الكفر ستكتب عليهم - فقد ذكرها - تعالى - في مواضع من كتابه ، كقوله - تعالى - : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] . وقوله - تعالى - : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 29 ] . وقوله - تعالى - : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] . وقوله - تعالى - : إن رسلنا يكتبون ما تمكرون [ 10 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك الآية [ 17 \ 13 ، 14 ] . وقوله - تعالى - : سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] .

وأما المسألة الرابعة : وهي كونهم يسألون عن ذلك الافتراء والكفر ، فقد ذكرها - تعالى - في آيات من كتابه ، كقوله - تعالى - : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون [ 29 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] . وقوله - تعالى - : وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون [ 43 \ 44 ] . وقوله - تعالى - : ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون [ 16 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون .

في هذه الآية الكريمة إشكال معروف ، ووجهه أن قول الكفار الذي ذكره الله عنهم هنا ، أعني قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] - هو بالنظر إلى ظاهره كلام صحيح ; لأن الله لو شاء أن لا يعبدوهم ما عبدوهم ، كما قال - تعالى - : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين [ 6 \ 35 ] . وقال - تعالى - : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها الآية [ ص: 94 ] [ 32 \ 13 ] . وقال - تعالى - : فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] . وقال - تعالى - : ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] .

وهذا الإشكال المذكور في آية " الزخرف " هو بعينه واقع في آية " الأنعام " ، وآية " النحل " .

أما آية " الأنعام " فهي قوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء الآية [ 6 \ 148 ] .

وأما آية " النحل " فهي قوله : وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا الآية [ 16 \ 35 ] .

فإذا عرفت أن ظاهر آية " الزخرف " وآية " الأنعام " وآية " النحل " - أن ما قاله الكفار حق ، وأن الله لو شاء ما عبدوا من دونه من شيء ولا أشركوا به شيئا ، كما ذكرنا في الآيات الموضحة قريبا - فاعلم أن وجه الإشكال ، أن الله صرح بكذبهم في هذه الدعوى التي ظاهرها حق ، قال في آية " الزخرف " : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] . أي يكذبون ، وقال في آية " الأنعام " : كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] . وقال في آية " النحل " : كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين [ 16 \ 35 ] .

ومعلوم أن الذي فعله الذين من قبلهم هو الكفر بالله ، والكذب على الله في جعل الشركاء له ، وأنه حرم ما لم يحرمه .

والجواب عن هذا أن مراد الكفار بقولهم : لو شاء الرحمن ما عبدناهم ، وقولهم : لو شاء الله ما أشركنا [ 6 \ 148 ] - مرادهم به أن الله لما كان قادرا على منعهم من الشرك ، وهدايتهم إلى الإيمان ، ولم يمنعهم من الشرك - دل ذلك على أنه راض منهم بالشرك في زعمهم .

[ ص: 95 ] قالوا : لأنه لو لم يكن راضيا به لصرفنا عنه ، فتكذيب الله لهم في الآيات المذكورة منصب على دعواهم أنه راض به ، والله - جل وعلا - يكذب هذه الدعوى في الآيات المذكورة ، وفي قوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ 39 \ 7 ] .

فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية القدرية تستلزم الرضى ، وهو زعم باطل ، وهو الذي كذبهم الله فيه في الآيات المذكورة .

وقد أشار - تعالى - إلى هذه الآيات المذكورة ، حيث قال في آية " الزخرف " : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] . أي آتيناهم كتابا يدل على أنا راضون منهم بذلك الكفر ، ثم أضرب عن هذا إضراب إبطال مبينا أن مستندهم في تلك الدعوى الكاذبة هو تقليد آبائهم التقليد الأعمى ، وذلك في قوله : بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة [ 43 \ 22 ] . أي شريعة وملة ، وهي الكفر وعبادة الأوثان وإنا على آثارهم مهتدون [ 43 \ 22 ] .

فقوله عنهم : ( مهتدون ) وهو مصب التكذيب ; لأن الله إنما يرضى بالاهتداء لا بالضلال .

فالاهتداء المزعوم أساسه تقليد الآباء الأعمى ، وسيأتي إيضاح رده عليهم قريبا - إن شاء الله - .

وقال - تعالى - في آية " النحل " بعد ذكره دعواهم المذكورة : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة [ 16 \ 36 ] .

فأوضح في هذه الآية الكريمة أنه لم يكن راضيا بكفرهم ، وأنه بعث في كل أمة رسولا ، وأمرهم على لسانه أن يعبدوا الله وحده ، ويجتنبوا الطاغوت ، أي يتباعدوا عن عبادة كل معبود سواه .

وأن الله هدى بعضهم إلى عبادته وحده ، وأن بعضهم حقت عليه الضلالة ، أي ثبت عليه الكفر والشقاء .

وقال - تعالى - في آية " الأنعام " : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

[ ص: 96 ] فملكه - تعالى - وحده للتوفيق والهداية ، هو الحجة البالغة على خلقه ، يعني فمن هديناه وتفضلنا عليه بالتوفيق ، فهو فضل منا ورحمة .

ومن لم نفعل له ذلك فهو عدل منا وحكمة ; لأنه لم يكن له ذلك دينا علينا ، ولا واجبا مستحقا يستحقه علينا ، بل إن أعطينا ذلك ففضل ، وإن لم نعطه فعدل .

وحاصل هذا أن الله - تبارك وتعالى - قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق الخلق ، وعلم أن قوما صائرون إلى الشقاء وقوما صائرون إلى السعادة ، فريق في الجنة وفريق في السعير .

وأقام الحجة على الجميع ببعث الرسل وتأييدهم بالمعجزات التي لا تترك في الحق لبسا ، فقامت عليهم حجة الله في أرضه بذلك .

ثم إنه - تعالى - وفق من شاء توفيقه ، ولم يوفق من سبق لهم في علمه الشقاء الأزلي ، وخلق لكل واحد منهم قدرة وإرادة يقدر بها على تحصيل الخير والشر ، وصرف قدرتهم وإراداتهم بقدرته وإرادته إلى ما سبق لهم في علمه من أعمال الخير المستوجبة للسعادة ، وأعمال الشر المستوجبة للشقاء .

فأتوا كل ما أتوا وفعلوا كل ما فعلوا ، طائعين مختارين ، غير مجبورين ولا مقهورين وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] . قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

وادعاء أن العبد مجبور لا إرادة له ضروري السقوط عند عامة العقلاء .

ومن أعظم الضروريات الدالة عليه أن كل عاقل يعلم أن بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، كحركة المرتعش - فرقا ضروريا ، لا ينكره عاقل .

وأنك لو ضربت من يدعي أن الخلق مجبورون ، وفقأت عينه مثلا ، وقتلت ولده واعتذرت له بالجبر ، فقلت له : أنا مجبور ولا إرادة لي في هذا السوء الذي فعلته بك ، بل هو فعل الله ، وأنا لا دخل فيه ، فإنه لا يقبل منك هذه الدعوى بلا شك .

بل يبالغ في إرادة الانتقام منك قائلا : إن هذا بإرادتك ومشيئتك .

[ ص: 97 ] ومن أعظم الأدلة القطعية الدالة على بطلان مذهب القدرية ، وأن العبد لا يستقل بأفعاله دون قدرة الله ومشيئته - أنه لا يمكن أحدا أن ينكر علم الله بكل شيء قبل وقوعه ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا ينكرها إلا مكابر .

وسبق علم الله بما يقع من العبد قبل وقوعه برهان قاطع على بطلان تلك الدعوى .

وإيضاح ذلك أنك لو قلت للقدري : إذا كان علم الله في سابق أزله تعلق بأنك تقع منك السرقة أو الزنا في محل كذا في وقت كذا ، وأردت أنت بإرادتك المستقلة في زعمك دون إرادة الله ألا تفعل تلك السرقة أو الزنا الذي سبق بعلم الله وقوعه ، فهل يمكنك أن تستقل بذلك ؟ وتصير علم الله جهلا ، بحيث لا يقع ما سبق في علمه وقوعه في وقته المحدد له ؟

والجواب بلا شك : هو أن ذلك لا يمكن بحال كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] . وقال الله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

ولا إشكال ألبتة في أن الله يخلق للعبد قدرة وإرادة يقدر بها على الفعل والترك ، ثم يصرف الله بقدرته وإرادته قدرة العبد وإرادته إلى ما سبق به علمه ، فيأتيه العبد طائعا مختارا غير مقهور ولا مجبور ، وغير مستقل به دون قدرة الله وإرادته ، كما قال - تعالى - : وما تشاءون إلا أن يشاء الله .

والمناظرة التي ذكرها بعضهم بين أبي إسحاق الإسفراييني وعبد الجبار المعتزلي توضح هذا .

وهي أن عبد الجبار قال : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، يعني أن السرقة والزنا ليسا بمشيئة الله ; لأنه في زعمه أنزه من أن تكون هذه الرذائل بمشيئته .

فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل .

ثم قال : سبحان من لم يقع في ملكه إلا ما يشاء .

فقال عبد الجبار : أتراه يشاؤه ويعاقبني عليه .

فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ، آنت الرب وهو العبد ؟

[ ص: 98 ] فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى ، وقضى علي بالرديء ، دعاني وسد الباب دوني ؟ أتراه أحسن أم أساء ؟

فقال أبو إسحاق : أرى أن هذا الذي منعك إن كان حقا واجبا لك عليه - فقد ظلمك ، وقد أساء ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإن كان ملكه المحض فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .

ومضمون جواب أبي إسحاق هذا الذي أفحم به عبد الجبار ، هو معنى قوله - تعالى - : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] .

وذكر بعضهم أن عمرو بن عبيد جاءه أعرابي فشكا إليه أن دابته سرقت ، وطلب منه أن يدعو الله ليردها إليه .

فقال عمرو ما معناه : اللهم إنها سرقت ولم ترد سرقتها; لأنك أنزه وأجل من أن تدبر هذا الخنا .

فقال الأعرابي : ناشدتك الله يا هذا ، إلا ما كففت عني من دعائك هذا الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد ، ولا ثقة لي برب يقع في ملكه ما لا يشاؤه . فألقمه حجرا .

وقد ذكرنا هذه المسألة في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام عن آية " الأنعام " المذكورة في هذا البحث ، وفي سورة " الشمس " في الكلام عن قوله - تعالى - : فألهمها فجورها وتقواها .
قوله - تعالى - : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون .

( أم ) هنا تتضمن معنى استفهام الإنكار ، يعني - جل وعلا - أن هذا الذي يزعم الكفار من أنهم على حق في عبادتهم الأوثان ، وجعلهم الملائكة بنات الله - لا دليل لهم عليه ; ولذا أنكر أن يكون آتاهم كتابا يحل فيه ذلك وأن يكونوا مستمسكين في ذلك بكتاب من الله ، فأنكر عليهم هذا هنا إنكارا دالا على النفي للتمسك بالكتاب المذكور ، مع التوبيخ والتقريع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:16 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (474)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 99 إلى صـ 106



وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أن كفرهم المذكور لم يكن عن هدى من الله ، ولا كتاب أنزله الله بذلك - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله - تعالى - في سورة " فاطر " : [ ص: 99 ] قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه الآية [ 35 \ 40 ] .

وقوله - تعالى - في " الأحقاف " : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين [ 46 \ 4 ] .

وقوله - تعالى - في " الروم " : أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [ 30 \ 35 ] .

وقوله - تعالى - في " الصافات " : أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [ 37 \ 156 - 157 ] .

وقوله - تعالى - في " النمل " : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] .

وقوله - تعالى - في " الحج " و " لقمان " : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير [ 22 \ 8 ] و [ 31 \ 20 ] .

وقوله - تعالى - في " الأنعام " : قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] .
قوله - تعالى - : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " قد أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه الآية [ 23 \ 44 ] .

وفي سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها [ 6 \ 123 ] . وقوله - تعالى - : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 24 ] .

[ ص: 100 ] قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة عن عاصم : ( قل أولو جئتكم ) بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر .

وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم ( قال أولو جئتكم ) بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الفعل الماضي .

فعلى قراءة الجمهور فالمعنى : قل لهم يا نبي الله : أتقتدون بآبائكم في الكفر والضلال ، ولو جئتكم بأهدى ، أي بدين أهدى مما وجدتم عليه آباءكم ، وصيغة التفضيل هنا لمطلق الوصف ; لأن آباءهم لا شيء عندهم من الهداية أصلا .

وعلى قراءة ابن عامر وحفص فالمعنى : قال هو : أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وقد أوضحنا هذا المعنى بشواهده العربية مرارا في هذا الكتاب المبارك .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تسفيه رأي الكفار وبيان شدة ضلالهم في تقليدهم آباءهم هذا التقليد الأعمى - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون [ 2 \ 170 ] . وكقوله - تعالى - في " المائدة " : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون [ 5 \ 104 ] .

وأوضح - تعالى - في آية " لقمان " أن ما وجدوا عليه آباءهم من الكفر والضلال طريق من طرق الشيطان يدعوهم بسلوكها إلى عذاب السعير ، وذلك في قوله - تعالى - : وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 21 ] . كقوله - تعالى - : إنهم ألفوا آباءهم ضالين فهم على آثارهم يهرعون [ 37 \ 69 - 70 ] . وقوله - تعالى - : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين [ 21 \ 51 - 54 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .
قوله - تعالى - : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .

[ ص: 101 ] ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن إبراهيم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - قال لأبيه وقومه : إنه براء ، أي بريء ، من جميع معبوداتهم التي يعبدونها من دون الله ، أي يعني أنه بريء من عبادة كل معبود ، إلا المعبود الذي خلقه وأوجده ، فهو وحده معبوده .

وقد أوضح - تعالى - هذا المعنى الذي ذكره عن إبراهيم في مواضع أخر من كتابه ، كقوله - تعالى - : قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين الآية [ 26 \ 57 - 78 ] . وكقوله - تعالى - : فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين [ 6 \ 78 - 79 ] .

وزاد - جل وعلا - في سورة " الممتحنة " براءته أيضا من العابدين ، وعداوته لهم ، وبغضه لهم في الله ، وذلك في قوله - تعالى - : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده [ 60 \ 4 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإنه سيهدين ذكر نحوه في قوله : الذي خلقني فهو يهدين [ 26 \ 78 ] . وقوله - تعالى - : وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين [ 37 \ 99 ] . وقوله - تعالى - : فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ 6 \ 77 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني أي خلقني - يدل على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق وحده - جل وعلا - .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية [ 2 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين [ 26 \ 184 ] . وقوله - تعالى - : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار [ 13 \ 16 ] . وقوله - تعالى - : أفمن يخلق كمن لا يخلق الآية [ 16 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 102 ] أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] . وقوله - تعالى - : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 2 - 3 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .

الضمير المنصوب في ( جعلها ) على التحقيق راجع إلى كلمة الإيمان المشتملة على معنى لا إله إلا الله ، المذكورة في قوله : إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني [ 43 \ 26 - 27 ] . لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات ، فمعنى النفي منها هو البراءة من جميع المعبودات غير الله في جميع أنواع العبادات .

وهذا المعنى جاء موضحا في قوله : إنني براء مما تعبدون .

ومعنى الإثبات منها هو إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله .

وهذا المعنى جاء موضحا في قوله : إلا الذي فطرني فإنه سيهدين .

وضمير الفاعل المستتر في قوله : وجعلها .

قال بعضهم : هو راجع إلى إبراهيم وهو ظاهر السياق .

وقال بعضهم : هو راجع إلى الله - تعالى - .

فعلى القول الأول فالمعنى صير إبراهيم تلك الكلمة ( باقية في عقبه ) أي ولده وولد ولده .

وإنما جعلها إبراهيم باقية فيهم ، لأنه تسبب لذلك بأمرين : أحدهما : وصيته لأولاده بذلك ، وصاروا يتوارثون الوصية بذلك عنه ، فيوصي به السلف منهم الخلف ، كما أشار - تعالى - إلى ذلك بقوله : ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين الآية [ 2 \ 130 - 132 ] [ ص: 103 ]

والأمر الثاني هو سؤاله ربه - تعالى - لذريته الإيمان والصلاح ، كقوله - تعالى - وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي [ 2 \ 124 ] . أي واجعل من ذريتي أيضا أئمة ، وقوله - تعالى - عنه : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ 14 \ 40 ] . وقوله عنه : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] . وقوله عنه هو وإسماعيل : ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك إلى قوله : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم [ 2 \ 129 ] .

وقد أجاب الله دعاءه في بعث الرسول المذكور ببعثه محمدا - صلى الله عليه وسلم - .

ولذا جاء في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " أنا دعوة إبراهيم " .

وقد جعل الله الأنبياء بعد إبراهيم من ذريته ، كما قال - تعالى - في سورة " العنكبوت " : ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] . وقال عنه وعن نوح في سورة " الحديد " : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب الآية [ 57 \ 26 ] .

وعلى القول الثاني أن الضمير عائد إلى الله - تعالى - فلا إشكال .

وقد بين - تعالى - في آية " الزخرف " هذه أن الله لم يجب دعوة إبراهيم في جميع ذريته ، ولم يجعل الكلمة باقية في جميع عقبه ; لأن كفار مكة الذين كذبوا بنبينا - صلى الله عليه وسلم - من عقبه بإجماع العلماء ، وقد كذبوه - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : إنه ساحر . وكثير منهم مات على ذلك . وذلك في قوله - تعالى - : بل متعت هؤلاء يعني كفار مكة وآباءهم ، حتى جاءهم الحق ورسول مبين ، هو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون .

وما دلت عليه آية " الزخرف " هذه من أن بعض عقب إبراهيم لم يجعل الله الكلمة المذكورة باقية فيهم - دلت عليه آيات أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : [ ص: 104 ] قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين [ 2 \ 124 ] . أي الظالمين من ذرية إبراهيم .

وقوله - تعالى - في " الصافات " : وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين [ 37 \ 113 ] .

فالمحسن منهم هو الذي الكلمة باقية فيه ، والظالم لنفسه المبين منهم ليس كذلك .

وقوله - تعالى - في " النساء " : فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا .

وقد بين - تعالى - في " الحديد " أن غير المهتدين منهم كثيرون ، وذلك في قوله : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 26 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لعلهم يرجعون أي جعل الكلمة باقية فيهم; لعل الزائغين الضالين منهم يرجعون إلى الحق بإرشاد المؤمنين المهتدين منهم ; لأن الحق ما دام قائما في جملتهم فرجوع الزائغين عنه إليه مرجو مأمول ، كما دل عليه قوله : لعلهم يرجعون .

والرجاء المذكور بالنسبة إلى بني آدم ; لأنهم لا يعرفون من يصير إلى الهدى ، ومن يصير إلى الضلال .

وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ، وفي الكلام تقديم وتأخير .

والمعنى ( فإنه سيهدين ) ، ( لعلهم يرجعون ) ، ( وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون ) ، أي قال لهم ، يتوبون عن عبادة غير الله . ا هـ منه .

وإيضاح كلامه أن المعنى أن إبراهيم قال لأبيه وقومه : ( إنني براء مما تعبدون ) لأجل أن يرجعوا عن الكفر إلى الحق .

والضمير في قوله : ( لعلهم يرجعون ) على هذا راجع إلى أبيه وقومه .

[ ص: 105 ] وعلى ما ذكرناه أولا فالضمير راجع إلى من ضل من عقبه ; لأن الضالين منهم داخلون في لفظ العقب .

فرجوع ضميرهم إلى العقب لا إشكال فيه ، وهذا القول هو ظاهر السياق ، والعلم عند الله - تعالى - .
مسألة

ظاهر هذه الآيات الكريمة التي ذكرنا يدل على اتحاد معنى العقب والذرية والبنين ; لأنه قال في بعضها عن إبراهيم : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] .

وقال عنه في بعضها : رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي [ 14 \ 40 ] . وفي بعضها : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة الآية [ 14 \ 37 ] . وفي بعضها قال : ومن ذريتي ، وفي بعضها : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب [ 29 \ 27 ] . وفي بعضها : وجعلها كلمة باقية في عقبه .

فالظاهر المتبادر من الآيات أن المراد بالبنين والذرية والعقب شيء واحد ; لأن جميعها في شيء واحد . وبذلك تعلم أن ظاهر القرآن يدل على أن من وقف وقفا أو تصدق صدقة على بنيه أو ذريته أو عقبه - أن حكم ذلك واحد .

وقد دل بعض الآيات القرآنية على أن أولاد البنات يدخلون في اسم الذرية واسم البنين .

وإذا دل القرآن على دخول ولد البنت في اسم الذرية والبنين ، والفرض أن العقب بمعناهما - دل ذلك على دخول أولاد البنات في العقب أيضا ، فمن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم الذرية قوله - تعالى - : ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله : وعيسى وإلياس [ 6 \ 84 - 85 ] . وهذا نص قرآني صريح في دخول ولد البنت في اسم الذرية ; لأن عيسى - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ولد بنت ، إذ لا أب له .

ومن الآيات الدالة على دخول ولد البنت في اسم البنين قوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] . وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . لأن لفظ البنات في الألفاظ الثلاثة - شامل لبنات البنات وبنات بناتهن ، وهذا لا نزاع فيه بين [ ص: 106 ] المسلمين ، وهو نص قرآني صحيح في استواء بنات بنيهن وبنات بناتهن .

فتحصل أن دخول أولاد البنات في الوقف على الذرية والبنين والعقب ، هو ظاهر القرآن ، ولا ينبغي العدول عنه .

وكلام فقهاء الأمصار من الأئمة الأربعة وغيرهم في الألفاظ المذكورة معروف ، ومن أراد الاطلاع عليه فلينظر كتب فروع المذاهب ، ولم نبسط على ذلك الكلام هنا ; لأننا نريد أن نذكر هنا ما يدل ظاهر القرآن على ترجيحه من ذلك فقط .

أما لفظ الولد فإن القرآن يدل على أن أولاد البنات لا يدخلون فيه .

وذلك في قوله - تعالى - : يوصيكم الله في أولادكم الآية [ 4 \ 11 ] . فإن قوله : ( في أولادكم ) لا يدخل فيه أولاد البنات ، وذلك لا نزاع فيه بين المسلمين ، وهو نص صريح قرآني على عدم دخول أولاد البنات في اسم الولد .

وإن كان جماهير العلماء على أن العقب والولد سواء .

ولا شك أن اتباع القرآن هو المتعين على كل مسلم .

أما لفظ النسل فظاهر القرآن شموله لأولاد البنات ; لأن قوله - تعالى - : ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين [ 32 \ 6 - 8 ] - ظاهر في أن لفظة النسل في الآية شاملة لأولاد البنات ، كما لا يخفى .

والألفاظ التي يتكلم عليها العلماء في هذا المبحث هي أحد عشر لفظا ذكرنا خمسة منها وهي : الذرية والبنون والعقب والولد والنسل . وذكرنا أن أربعة منها يدل ظاهر القرآن على أنها يدخل فيها أولاد البنات ، وواحد بخلاف ذلك وهو الولد .

وأما الستة الباقية منها فهي : الآل والأهل ، ومعناهما واحد .

والقرابة والعشيرة والقوم والموالي ، وكلام العلماء فيها مضطرب .

ولم يحضرني الآن تحديد يتميز به ما يدخل في كل واحد منها وما يخرج عنه ، إلا على سبيل التقريب ، إلا لفظين منها وهما القرابة والعشيرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:18 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (475)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 107 إلى صـ 114




أما القرابة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - " أنه أعطى من خمس خيبر بني هاشم وبني [ ص: 107 ] المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل " ، مبينا أن ذلك هو معنى قوله - تعالى - : فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى [ 8 \ 41 ] . كما تقدم إيضاحه في سورة " الأنفال " في الكلام على آية الخمس هذه .

وأما العشيرة فقد ثبت في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس أنه لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] - صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ، فجعل ينادي : " يا بني فهر ، يا بني عدي " لبطون قريش حتى اجتمعوا ، الحديث . وفيه تحديد العشيرة الأقربين بجميع بني فهر بن مالك ، وهو الجد العاشر له - صلى الله عليه وسلم - .

وفي رواية أبي هريرة في الصحيح أنه لما نزلت الآية المذكورة قال : " يا معشر قريش " أو كلمة نحوها ، الحديث ، وقريش هم أولاد فهر بن مالك . وقيل : أولاد النضر بن كنانة . والأول هو الأظهر لحديث ابن عباس المذكور ، وعليه الأكثر .
تنبيه

[ فإن قيل ] : ذكرتم أن ظاهر القرآن يدل على دخول أولاد البنات في لفظ البنين ، والشاعر يقول في خلاف ذلك :

بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وكثير من أهل الفقه يذكرون البيت المذكور على سبيل التسليم له ، قالوا : ومما يوضح صدقه أنهم ينسبون إلى رجال آخرين ، ربما كانوا أعداء لأهل أمهاتهم ، وكثيرا ما يتبع الولد أباه وعصبته في عداوة أخواله وبغضهم ، كما هو معلوم .

[ فالجواب ] أن الواحد بالشخص له جهتان ، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به ، وهذا المعنى منفي عن والد أمه ، فلا يقال له : ابن - بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه ، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص ، سواء كان بالمباشرة ، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل ، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت ، وهذا المعنى هو الذي عناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : " وإن ابني هذا سيد " الحديث ، وهو المراد في الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ] ( فالجواب ) أن الواحد بالشخص له جهتان ، فمعنى لفظ الابن له جهة خاصة هي معنى كونه خلق من ماء هذا الرجل على وجه يلحق فيه نسبه به ، وهذا المعنى منفي عن والد أمه ، فلا يقال له : ابن - بهذا الاعتبار وثابت لأبيه الذي خلق من مائه ، وله جهة أخرى هي كونه خارجا في الجملة من هذا الشخص ، سواء كان بالمباشرة ، أو بواسطة ابنه أو بنته وإن سفل ، فالبنوة بهذا المعنى ثابتة لولد البنت ، وهذا المعنى هو الذي عناه - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الحسن بن علي - رضي الله عنهما - : " وإن ابني هذا سيد " الحديث ، وهو المراد في الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم [ 4 \ 23 ] . وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . وكقوله - تعالى - : [ ص: 108 ] لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن ولا أبناء إخوانهن ولا أبناء أخواتهن الآية [ 33 \ 55 ] .

فلفظ البنات والأبناء في جميع الآيات المذكورة شامل لجميع أولاد البنين والبنات وإن سفلوا ، وإنما شملهم من الجهة المذكورة بالاعتبار المذكور ، وهو إطلاق لفظ الابن على كل من خرج من الشخص في الجملة ، ولو بواسطة بناته .

وأما البيت المذكور فالمراد به الجهة الأولى والاعتبار الأول .

فإن بني البنات ليسوا أبناء لآباء أمهاتهم من تلك الجهة ، ولا بذلك الاعتبار ; لأنهم لم يخلقوا من مائهم ، وإنما خلقوا من ماء رجال آخرين ، ربما كانوا أباعد ، وربما كانوا أعداء .

فصح بهذا الاعتبار نفي البنوة عن ابن البنت .

وصح بالاعتبار الأول إثبات البنوة له ، ولا تناقض مع انفكاك الجهة .

وإذا عرفت معنى الجهتين المذكورتين وأنه بالنظر إلى إحداهما تثبت البنوة لابن البنت ، وبالنظر إلى الأخرى تنتفي عنه .

فاعلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن ابني هذا سيد " ، وقوله - تعالى - : وبنات الأخ وبنات الأخت [ 4 \ 23 ] . ونحوها من الآيات ينزل على إحدى الجهتين .

وقوله - تعالى - : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [ 33 \ 40 ] - يتنزل على الجهة الأخرى . وتلك الجهة هي التي يعني الشاعر بقوله : وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد

ويزيد ذلك إيضاحا أن قبائل العرب قد تكون بينهم حروب ومقاتلات ، فيكون ذلك القتال بين أعمام الرجل وأخواله ، فيكون مع عصبته دائما على أخواله ، كما في البيت المذكور .

وقد يكون الرجل منهم في أخواله فيعاملونه معاملة دون معاملتهم لأبنائهم .

كما أوضح ذلك غسان بن وعلة في شعره حيث يقول :

إذا كنت في سعد وأمك منهم شطيرا فلا يغررك خالك من سعد
[ ص: 109 ] فإن ابن أخت القوم مصغي إناؤه إذا لم يزاحم خاله بأب جلد


فقوله : مصغي إناؤه من الإصغاء وهو الإمالة ; لأن الإناء إذا أميل ولم يترك معتدلا لم يتسع إلا للقليل ، فهو كناية عن نقص نصيبه فيهم وقلته .

وعلى الجهتين المذكورتين يتنزل اختلاف الصحابة في ميراث الجد والإخوة .

فمن رأى منهم أنه أب يحجب الإخوة ، فقد راعى في الجد إحدى الجهتين .

ومن رأى منهم أنه ليس بأب وأنه لا يحجب الإخوة ، فقد لاحظ الجهة الأخرى .

ولم نطل الكلام هنا في جميع الألفاظ المذكورة التي هي أحد عشر لفظا خوف الإطالة ، ولأننا لم نجد نصوصا من الوحي تحدد شيئا منها تحديدا دقيقا .

ومعلوم أن لفظ القوم منها قد دل القرآن على أنه يختص بالذكور دون الإناث .

وأن الإناث قد يدخلن فيه بحكم التبع إذا اقترن بما يدل على ذلك .

لأن الله - تعالى - قال : لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء الآية [ 49 \ 11 ] . فعطفه النساء على القوم يدل على عدم دخولهن في لفظ القوم .

ونظيره من كلام العرب قول زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء


وأما دخول النساء في القوم بحكم التبع عند الاقتران بما يدل على ذلك - فقد بينه قوله - تعالى - في ملكةسبإ : وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين [ 27 \ 43 ] .

وأما الموالي فقد دل القرآن واللغة على أن المولى يطلق على كل من له سبب يوالي ويوالى به .

ولذا أطلق على الله أنه مولى المؤمنين ; لأنهم يوالونه بالطاعة ويواليهم بالجزاء .

ونفى ولاية الطاعة عن الكافرين في قوله - تعالى - : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] .

[ ص: 110 ] وأثبت له عليهم ولاية الملك والقهر في قوله - تعالى - : وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 ] . كما أثبت لهم ولاية النار في قوله : مأواكم النار هي مولاكم الآية [ 57 \ 15 ] .

وأطلق - تعالى - اسم الموالي على العصبة في قوله - تعالى - : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون [ 4 \ 33 ] .

وأطلق اسم المولى على الأقارب ونحوهم في قوله - تعالى - : يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا [ 44 \ 41 ] .

ويكثر في كلام العرب إطلاق الموالي على العصبة وابن العم ، ومنه قول الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب : مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تظهرن لنا ما كان مدفونا

وقول طرفة بن العبد :

وأعلم علما ليس بالظن أنه إذا ذل مولى المرء فهو ذليل


والحاصل أن من قال : هذا وقف ، أو صدقة على قومي ، أو موالي - أنه إن كان هناك عرف خاص ، وجب اتباعه في ذلك ، وإن لم يكن هناك عرف فلا نعلم نصا من كتاب ولا سنة يحدد ذلك تحديدا دقيقا .

وكلام أهل العلم فيه معروف في محاله .

والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون .

( وقالوا ) أي قال كفار مكة : ( لولا ) أي هلا ( نزل هذا القرآن على رجل من القريتين ) أي من إحدى القريتين ، وهما مكة والطائف ( عظيم ) يعنون بعظمه كثرة ماله وعظم جاهه ، وعلو منزلته في قومه ، وعظيم مكة الذي يريدون هو الوليد بن [ ص: 111 ] المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب ، وفي مرة بن كعب يجتمع نسبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقيل : هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف .

وعظيم الطائف هو عروة بن مسعود ، وقيل : حبيب بن عمرو بن عمير ، وقيل : هو كنانة بن عبد ياليل ، وقيل غير ذلك .

وإيضاح الآية أن الكفار أنكروا أولا أن يبعث الله رسولا من البشر ، كما أوضحناه مرارا .

ثم لما سمعوا الأدلة على أن الله لم يبعث إلى البشر رسولا إلا من البشر تنازلوا عن اقتراحهم إرسال رسل من الملائكة إلى اقتراح آخر ، وهو اقتراح تنزيل هذا القرآن على أحد الرجلين المذكورين .

وهذا الاقتراح يدل على شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ; حيث يجعلون كثرة المال والجاه في الدنيا موجبا لاستحقاق النبوة وتنزيل الوحي .

ولذا زعموا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ليس أهلا لإنزال هذا القرآن عليه ، لقلة ماله ، وأن أحد الرجلين المذكورين أحق أن ينزل عليه القرآن منه - صلى الله عليه وسلم - .

وقد بين - تعالى - في هذه الآية الكريمة شدة جهلهم ، وسخافة عقولهم ، بقوله : أهم يقسمون رحمة ربك . والظاهر المتبادر أن المراد برحمة ربك النبوة وإنزال الوحي .

وإطلاق الرحمة على ذلك متعدد في القرآن ، كقوله - تعالى - في " الدخان " : إنا كنا مرسلين رحمة من ربك الآية [ 44 \ 5 - 6 ] . وقوله في آخر " القصص " : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] . وقوله في آخر " الأنبياء " : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .

وقد قدمنا الآيات الدالة على إطلاق الرحمة والعلم على النبوة في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] .

[ ص: 112 ] وقدمنا معاني إطلاق الرحمة في القرآن في سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها الآية [ 35 \ 2 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات يعني أنه - تعالى - لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا ، بل تولى هو - جل وعلا - قسمة ذلك بينهم ، فجعل هذا غنيا وهذا فقيرا ، وهذا رفيعا وهذا وضيعا ، وهذا خادما وهذا مخدوما ، ونحو ذلك ، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا ، ولم يحكمهم فيها ، بل كان - تعالى - هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء ، فكيف يفوض إليهم أمر إنزال الوحي حتى يتحكموا فيمن ينزل إليه الوحي ؟

فهذا مما لا يعقل ولا يظنه إلا غبي جاهل كالكفار المذكورين .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا [ 43 \ 32 ] التحقيق - إن شاء الله - أنه من التسخير .

ومعنى تسخير بعضهم لبعض - خدمة بعضهم البعض ، وعمل بعضهم لبعض ; لأن نظام العالم في الدنيا يتوقف قيامه على ذلك ، فمن حكمته - جل وعلا - أن يجعل هذا فقيرا مع كونه قويا قادرا على العمل ، ويجعل هذا ضعيفا لا يقدر على العمل بنفسه ، ولكنه - تعالى - يهيئ له دراهم يؤجر بها ذلك الفقير القوي ، فينتفع القوي بدراهم الضعيف ، والضعيف بعمل القوي ; فتنتظم المعيشة لكل منهما ، وهكذا .

وهذه المسائل التي ذكرها الله - جل وعلا - في هذه السورة الكريمة - جاءت كلها موضحة في آيات أخر من كتاب الله .

أما زعمهم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنقص شرفا وقدرا من أن ينزل عليه الوحي ، فقد ذكره الله عنهم في " ص " في قوله - تعالى - : أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري الآية [ 38 \ 8 ] .

فقول كفار مكة : أؤنزل عليه الذكر من بيننا معناه إنكارهم أن يخصه الله بإنزال الوحي من بينهم ، لزعمهم أن فيهم من هو أحق بالوحي منه ، لكثرة ماله وجاهه وشرفه فيهم .

[ ص: 113 ] وقد قال قوم صالح مثل ذلك لصالح ، كما قال - تعالى - عنهم : أؤلقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر [ 54 \ 25 ] .

فقلوب الكفار متشابهة ، فكانت أعمالهم متشابهة .

كما قال - تعالى - : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] . وقال - تعالى - : أتواصوا به بل هم قوم طاغون [ 51 \ 53 ] .

وأما اقتراحهم إنزال الوحي على غيره منهم ، وأنهم لا يرضون خصوصيته بذلك دونهم - فقد ذكره - تعالى - في سورة " الأنعام " في قوله - تعالى - : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] . وقوله - تعالى - في " المدثر " : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة [ 74 \ 52 ] . أي تنزل عليه صحف بالوحي من السماء ، كما قاله مجاهد وغير واحد ، وهو ظاهر القرآن .

وفي الآية قول آخر معروف .

وأما إنكاره - تعالى - اقتراح إنزال الوحي على غير محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دلت عليه همزة الإنكار المتضمنة مع الإنكار لتجهيلهم وتسفيه عقولهم في قوله : أهم يقسمون رحمة ربك - فقد أشار - تعالى - إليه مع الوعيد الشديد في " الأنعام " ; لأنه - تعالى - لما قال : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله [ 6 \ 124 ] أتبع ذلك بقوله ردا عليهم وإنكارا لمقالتهم : الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] .

ثم أوعدهم على ذلك بقوله : سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون [ 6 \ 124 ] .

وأما كونه - تعالى - هو الذي تولى قسمة معيشتهم بينهم - فقد جاء في مواضع أخر ، كقوله - تعالى - : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء [ 16 \ 71 ] . وقوله - تعالى - : انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 \ 21 ] . وقوله - تعالى - : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 39 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ ص: 114 ] [ 42 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما [ 4 \ 135 ] .

وقد أوضح - تعالى - حكمة هذا التفاضل والتفاوت في الأرزاق والحظوظ ، والقوة والضعف ، ونحو ذلك - بقوله هنا : ليتخذ بعضهم بعضا سخريا كما تقدم .

وقوله - تعالى - هنا : ورحمة ربك خير مما يجمعون ، يعني أن النبوة والاهتداء بهدى الأنبياء ، وما يناله المهتدون يوم القيامة خير مما يجمعه الناس في الدنيا من حطامها .

وقد أشار الله - تعالى - إلى هذا المعنى في غير هذا الموضع ، كقوله في سورة " يونس " : قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ 10 \ 85 ] . وقوله - تعالى - في " آل عمران " : ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون [ 3 \ 157 ] .
مسألة

دلت هذه الآيات الكريمة المذكورة هنا ، كقوله - تعالى - : نحن قسمنا بينهم معيشتهم الآية ، وقوله : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] ونحو ذلك من الآيات - على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ولا تحويلها ، بوجه من الوجوه فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 43 ] .

وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع النبوات والرسائل السماوية - إلى ابتزاز ثروات الناس ، ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم - أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال .

مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون ، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس ، ليتمتعوا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا ، تحت ستار كثير من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:21 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (476)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 115 إلى صـ 122



[ ص: 115 ] فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها - هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد ، وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير .

وقد علم الله - جل وعلا - في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير وهذا غني ، وقد نهى - جل وعلا - عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك ، بقوله - تعالى - : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 135 ] .

وقوله : فإن الله كان بما تعملون خبيرا فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك .
قوله - تعالى - : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين .

قوله : ( لبيوتهم ) في الموضعين ، قرأه ورش وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم - بضم الباء على الأصل .

وقرأه قالون عن نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وشعبة عن عاصم : لبيوتهم بكسر الباء لمجانسة الكسرة للياء .

وقوله : ( سقفا ) قرأه نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم - سقفا بضمتين على الجمع .

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : سقفا بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد المراد به الجمع .

وقوله : وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة قرأه نافع وابن كثير وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وإحدى الروايتين عن هشام وأبي عمرو والكسائي : لما متاع الحياة الدنيا بتخفيف الميم من ( لما ) .

وقرأه عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر ، وفي إحدى الروايتين : لما متاع الحياة الدنيا بتشديد الميم من ( لما ) .

[ ص: 116 ] ومعنى الآية الكريمة أن الله لما بين حقارة الدنيا وعظم شأن الآخرة في قوله : ورحمة ربك خير مما يجمعون [ 43 \ 32 ] - أتبع ذلك ببيان شدة حقارتها ، وأنه جعلها مشتركة بين المؤمنين والكافرين ، وجعل ما في الآخرة من النعيم خاصا بالمؤمنين دون الكافرين ، وبين حكمته في اشتراك المؤمن مع الكافر في نعيم الدنيا بقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة أي لولا كراهتنا لكون جميع الناس أمة واحدة متفقة على الكفر ، لأعطينا زخارف الدنيا كلها للكفار .

ولكننا لعلمنا بشدة ميل القلوب إلى زهرة الحياة الدنيا وحبها لها ، لو أعطينا ذلك كله للكفار لحملت الرغبة في الدنيا جميع الناس على أن يكونوا كفارا ، فجعلنا في كل من الكافرين والمؤمنين غنيا وفقيرا ، وأشركنا بينهم في الحياة الدنيا .

ثم بين - جل وعلا - اختصاص نعيم الآخرة بالمؤمنين في قوله : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين ، أي خالصة لهم دون غيرهم .

وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] .

فقوله : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا أي مشتركة بينهم في الحياة الدنيا ، خالصة يوم القيامة ، أي خاصة بهم دون الكفار يوم القيامة ; إذ لا نصيب للكفار البتة في طيبات الآخرة .

فقوله في آية " الأعراف " هذه : قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا - صريح في اشتراك المؤمنين مع الكفار في متاع الحياة الدنيا .

وذلك الاشتراك المذكور دل عليه حرف الامتناع للوجود الذي هو ( لولا ) في قوله هنا : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة .

وخصوص طيبات الآخرة بالمؤمنين المنصوص عليه في آية " الأعراف " بقوله : خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] - هو الذي أوضحه - تعالى - في آية " الزخرف " هذه بقوله : والآخرة عند ربك للمتقين [ 43 \ 35 ] .

[ ص: 117 ] وجميع المؤمنين يدخلون في الجملة في لفظ المتقين ; لأن كل مؤمن اتقى الشرك بالله .

وما دلت عليه هذه الآيات من أنه - تعالى - يعطي الكفار من متاع الحياة الدنيا - دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار [ 2 \ 126 ] . وقوله : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون [ 10 \ 23 ] . وقوله : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة .

وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أن إنعامه على الكافرين ليس لكرامتهم عليه ، ولكنه للاستدراج ، كقوله - تعالى - : فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 - 45 ] . وقوله - تعالى - : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 44 - 45 ] . وقوله - تعالى - : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 95 ] . وقوله - تعالى - : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 \ 75 ] على أظهر التفسيرين . وقوله - تعالى - : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] . وقوله - تعالى - : فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير [ 22 \ 44 ] .

ودعوى الكفار أن الله ما أعطاهم المال ونعيم الدنيا إلا لكرامتهم عليه واستحقاقهم لذلك ، وأنه إن كان البعث حقا أعطاهم خيرا منه في الآخرة - قد ردها الله عليهم في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] . وقوله - تعالى - : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون [ 7 \ 48 ] . وقوله - تعالى - : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 2 ] . [ ص: 118 ] وقوله - تعالى - : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ 6 \ 94 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا طرفا من هذا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .

ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية الكريمة ، فقوله : جعلنا أي صيرنا ، وقوله : لبيوتهم بدل اشتمال مع إعادة العامل من قوله : لمن يكفر وعلى قراءة سقفا بضمتين ، فهو جمع سقف ، وسقف البيت معروف .

وعلى قراءة سقفا بفتح السين وسكون القاف : فهو مفرد أريد به الجمع .

وقد قدمنا في أول سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] - أن المفرد إذا كان اسم جنس . يجوز إطلاقه مرادا به الجمع ، وأكثرنا من أمثلة ذلك في القرآن ومن الشواهد العربية على ذلك .

وقوله : ومعارج الظاهر أنه جمع معرج ، بلا ألف بعد الراء .

والمعرج والمعراج بمعنى واحد ، وهو الآلة التي يعرج بها أي يصعد بها إلى العلو .

وقوله : ( يظهرون ) ، أي يصعدون ويرتفعون حتى يصيروا على ظهور البيوت . ومن ذلك المعنى قوله - تعالى - : فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا [ 18 \ 97 ] .

والسرر جمع سرير ، والاتكاء معروف .

والأبواب جمع باب وهو معروف ، والزخرف الذهب .

قال الزمخشري : إن المعارج التي هي المصاعد والأبواب والسرر - كل ذلك من فضة ، كأنه يرى اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في ذلك ، وعلى هذا المعنى فقوله : زخرفا - مفعول عامله محذوف ، والتقدير : وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا .

[ ص: 119 ] وقال بعض العلماء : إن جميع ذلك بعضه من فضة ، وبعضه من زخرف ، أي ذهب .

وقد ذكر القرطبي أن إعراب قوله : وزخرفا - على هذا القول أنه منصوب بنزع الخافض ، وأن المعنى من فضة ، ومن زخرف ، فحذف حرف الجر فانتصب زخرفا .

وأكثر علماء النحو على أن النصب بنزع الخافض ليس مطردا ولا قياسيا ، وما سمع منه يحفظ ولا يقاس عليه .

وعليه درج ابن مالك في الخلاصة في قوله :

وإن حذف فالنصب للمنجر نقلا . . . إلخ .

وعلي بن سليمان وهو الأخفش الصغير يرى اطراده في كل شيء أمن فيه اللبس ، كما أشار في الكافية بقوله :



وابن سليمان اطراده رأى إن لم يخف لبس كمن زيد نأى

وقوله - تعالى - : وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا [ 43 \ 35 ] على قراءة الجمهور بتخفيف الميم من ( لما ) ، فـ ( إن ) هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بين ( إن ) المخففة من الثقيلة ، و ( إن ) النافية المشار إليها بقوله في الخلاصة :

وخففت إن فقل العمل وتلزم اللام إذا ما تهمل


و ( ما ) مزيدة للتوكيد ، وأما على قراءة عاصم وحمزة وابن عامر في إحدى الروايتين عن هشام ( لما ) بتشديد الميم فـ ( إن ) نافية ، و ( لما ) حرف إثبات بمعنى إلا .

والمعنى : وما كل ذلك إلا متاع الحياة الدنيا .

وذكره بعضهم أن تشديد ميم ( لما ) على بعض القراءات في هذه الآية وآية " الطارق " إن كل نفس لما عليها حافظ [ 86 \ 4 ] - لغة بني هذيل بن مدركة . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين .

[ ص: 120 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وقيضنا لهم قرناء الآية [ 41 \ 25 ] .
قوله - تعالى - : ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون .

قد قدمنا الكلام عليه في " الصافات " في الكلام على قوله - تعالى - : فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون [ 37 \ 33 ] .
قوله - تعالى - : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " النمل " في الكلام على قوله - تعالى - : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين [ 27 \ 80 ] .
قوله - تعالى - : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم .

أمر الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة أن يتمسك بهدي هذا القرآن العظيم ، وبين له أنه على صراط مستقيم ، أي طريق واضح لا اعوجاج فيه ، وهو دين الإسلام الذي تضمنه هذا القرآن العظيم الذي أوحي إليه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة - قد جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله .

أما أمره بالتمسك بالقرآن العظيم - فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته [ 18 \ 27 ] .

وأما إخباره له - صلى الله عليه وسلم - على صراط مستقيم فمن الآيات التي أوضح ذلك فيها قوله - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [ 45 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض [ 42 \ 52 - 53 ] . وقوله - تعالى - : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون [ 23 \ 73 - 74 ] . وقوله - تعالى - : فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم [ 22 \ 67 ] . وقوله - تعالى - : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 121 ] وآية " الزخرف " هذه تدل على أن التمسك بهذا القرآن على هدى من الله ، وهذا معلوم بالضرورة .
قوله - تعالى - : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون .

ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن جميع الرسل جاءوا بإخلاص التوحيد لله ، الذي تضمنته كلمة لا إله إلا الله - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] .

وقوله - تعالى - : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] . وذلك التوحيد هو أول ما يأمر به كل نبي أمته .

قال - تعالى - : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 50 ] . وقال - تعالى - : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 61 ] . وقال - تعالى - : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره [ 11 \ 61 ] . وقال - تعالى - : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله الآية [ 7 \ 85 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه الآية .

قد قدمنا الكلام على قصة موسى وفرعون في سورة " الأعراف " وسورة " طه " .
قوله - تعالى - : وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون .

لم يبين هنا نوع العذاب الذي أخذهم به ، ولكنه أوضحه في " الأعراف " في قوله - تعالى - : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات [ 7 \ 132 - 133 ] . وقوله - تعالى - : ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات الآية [ 7 \ 130 ] .
قوله - تعالى - : وقالوا ياأيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون .

[ ص: 122 ] ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة - أوضحه في " الأعراف " بقوله : ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون .

والرجز المذكور في " الأعراف " هو بعينه العذاب المذكور في آية " الزخرف " هذه .
قوله - تعالى - : ولا يكاد يبين .

قد تقدم الكلام عليه في " طه " في الكلام على قوله - تعالى - عن موسى : واحلل عقدة من لساني الآية [ 20 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا الآية [ 25 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : فلما آسفونا انتقمنا منهم .

( آسفونا ) معناه أغضبونا وأسخطونا ، وكون المراد بالأسف الغضب - يدل عليه إطلاق الأسف على أشد الغضب في قوله - تعالى - : ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا [ 7 \ 150 ] على أصح التفسيرين .
قوله - تعالى - : فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين .

قد قدمنا الكلام عليه في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين .
قوله - تعالى - : ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون .

قرأ هذا الحرف نافع وابن عامر والكسائي ( يصدون ) بضم الصاد .

وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ( يصدون ) بكسر الصاد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:23 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (477)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 123 إلى صـ 130


[ ص: 123 ] فعلى قراءة الكسر فمعنى ( يصدون ) يضجون ويصيحون ، وقيل : يضحكون ، وقيل : معنى القراءتين واحد ، كيعرشون ويعرشون ، ويعكفون ويعكفون .

وعلى قراءة الضم فهو من الصدود ، والفاعل المحذوف في قوله : ( ضرب ) قال جمهور المفسرين هو عبد الله بن الزبعرى السهمي قبل إسلامه .

أي ولما ضرب ابن الزبعرى المذكور عيسى ابن مريم فاجأك قومك بالضجيج والصياح والضحك ، فرحا منهم وزعما منهم أن ابن الزبعرى خصمك ، أو فاجأك صدودهم عن الإيمان بسبب ذلك المثل .

والظاهر أن لفظة ( من ) هنا سببية ، ومعلوم أن أهل العربية يذكرون أن من معاني ( من ) السببية ، ومنه قوله - تعالى - : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] . أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا .

ومن ذلك قول الحالفين في أيمان القسامة : أقسم بالله لمن ضربه مات .

وإيضاح معنى ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا - أن الله لما أنزل قوله - تعالى - : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 98 ] قال ابن الزبعرى : إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن كل معبود من دون الله في النار ، وإننا وأصنامنا جميعا في النار ، وهذا عيسى ابن مريم قد عبده النصارى من دون الله ، فإن كان ابن مريم مع النصارى الذين عبدوه في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه .

وقالوا مثل ذلك في عزير والملائكة ; لأن عزيرا عبده اليهود ، والملائكة عبدهم بعض العرب .

فاتضح أن ضربه عيسى مثلا ، يعني أنه على ما يزعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قاله ، من أن كل معبود وعابده في النار ، يقتضي أن يكون عيسى مثلا لأصنامهم ، في كون الجميع في النار ، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يثني على عيسى الثناء الجميل ، ويبين للناس أنه عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه .

فزعم ابن الزبعرى أن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اقتضى مساواة الأصنام مع عيسى في دخول [ ص: 124 ] النار مع أنه - صلى الله عليه وسلم - يعترف بأن عيسى رسول الله ، وأنه ليس في النار ، دل ذلك على بطلان كلامه عنده .

وعند ذلك أنزل الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون لا يحزنهم الفزع الأكبر الآية [ 21 \ 101 - 103 ] . وأنزل الله أيضا قوله - تعالى - : ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية .

وعلى هذا القول فمعنى قوله - تعالى - : ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا عيسى مثلا إلا من أجل الجدل والخصومة بالباطل .

وقيل : إن ( جدلا ) حال ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، وقد أوضحنا توجيهه مرارا .

والمراد بالجدل هنا الخصومة بالباطل لقصد الغلبة بغير حق .

قال جماعة من العلماء : والدليل على أنهم قصدوا الجدل بشيء يعلمون في أنفسهم أنه باطل ، أن الآية التي تذرعوا بها إلى الجدل لا تدل البتة على ما زعموه ، وهم أهل اللسان ، ولا تخفى عليهم معاني الكلمات .

والآية المذكورة إنما عبر الله فيها بلفظة " ما " التي هي في الموضع العربي لغير العقلاء ; لأنه قال : إنكم وما تعبدون [ 21 \ 98 ] ولم يقل : ومن تعبدون ، وذلك صريح في أن المراد الأصنام ، وأنه لا يتناول عيسى ولا عزيرا ولا الملائكة ، كما أوضح - تعالى - أنه لم يرد ذلك بقوله - تعالى - بعده : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية [ 21 \ 101 ] .

وإذا كانوا يعلمون من لغتهم أن الآية الكريمة لم تتناول عيسى بمقتضى لسانهم العربي ، الذي نزل به القرآن - تحققنا أنهم ما ضربوا عيسى مثلا إلا لأجل الجدل والخصومة بالباطل .

ووجه التعبير في صيغة الجمع في قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا مع أن ضارب المثل واحد وهو ابن الزبعرى - يرجع إلى أمرين : أحدهما : أن من أساليب اللغة العربية إسناد فعل الرجل الواحد من القبيلة إلى جميع [ ص: 125 ] القبيلة ، ومن أصرح الشواهد العربية في ذلك قوله :

فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

فإنه نسب الضرب إلى جميع بني عبس مع تصريحه بأن السيف في يد رجل واحد منهم ، وهو ورقاء بن زهير ، والشاعر يشير بذلك إلى قتل خالد بن جعفر الكلابي لزهير بن جذيمة العبسي ، وأن ورقاء بن زهير ضرب بسيف بني عبس رأس خالد بن جعفر الكلابي ، الذي قتل أباه ونبا عنه ، أي لم يؤثر في رأسه ، فإن معنى : نبا السيف - ارتفع عن الضريبة ولم يقطع .

والشاعر يهجو بني عبس بذلك .

والحروب التي نشأت عن هذه القصة وقتل الحارث بن ظالم المري لخالد المذكور ، كل ذلك معروف في محله .

والأمر الثاني : أن جميع كفار قريش صوبوا ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا ، وفرحوا بذلك ، ووافقوه عليه ، فصاروا كالمتمالئين عليه .

وبهذين الأمرين المذكورين جمع المفسرون بين صيغة الجمع في قوله : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] وبين صيغة الإفراد في قوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] .

وقال بعض العلماء : الفاعل المحذوف في قوله : ( ولما ضرب ابن مريم مثلا ) هو عامة قريش .

والذين قالوا : إن كفار قريش لما سمعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر عيسى ، وسمعوا قول الله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] - قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ما تريد بذكر عيسى إلا أن نعبدك كما عبد النصارى عيسى .

وعلى هذا فالمعنى أنهم ضربوا عيسى مثلا للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عبادة الناس لكل منهما ، زاعمين أنه يريد أن يعبد كما عبد عيسى .

وعلى هذا القول فمعنى قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا ، أي ما ضربوا لك هذا [ ص: 126 ] المثل إلا لأجل الخصومة بالباطل ، مع أنهم يعلمون أنك لا ترضى أن تعبد بوجه من الوجوه .

وقوله - تعالى - : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 \ 64 ] .

وإن كان من القرآن المدني النازل بعد الهجرة فمعناه يكرره عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرا قبل الهجرة ، كما هو معلوم .

وكذلك قوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] .

ولا شك أن كفار قريش متيقنون في جميع المدة التي أقامها - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة بعد الرسالة ، وهي ثلاث عشرة سنة - أنه لا يدعو إلا إلى عبادة الله وحده لا شريك له .

فادعاؤهم أنه يريد أن يعبدوه افتراء منهم ، وهم يعلمون أنهم مفترون في ذلك .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أآلهتنا خير أم هو ؟

التحقيق أن الضمير في قوله : هو راجع إلى عيسى ، لا إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - .

قال بعض العلماء : ومرادهم بالاستفهام تفضيل معبوداتهم على عيسى .

قيل : لأنهم يتخذون الملائكة آلهة ، والملائكة أفضل عندهم من عيسى .

وعلى هذا فمرادهم أن عيسى عبد من دون الله ، ولم يكن ذلك سببا لكونه في النار ، ومعبوداتنا خير من عيسى ، فكيف تزعم أنهم في النار ؟

وقال بعض العلماء : أرادوا تفضيل عيسى على آلهتهم .

والمعنى على هذا أنهم يقولون : عيسى خير من آلهتنا ، أي في زعمك ، وأنت تزعم أنه في النار بمقتضى عموم ما تتلوه من قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم [ 21 \ 98 ] .

وعيسى عبده النصارى من دون الله ، فدلالة قولك على أن عيسى في النار ، مع [ ص: 127 ] اعترافك بخلاف ذلك يدل على أن ما تقوله من أنا وآلهتنا في النار - ليس بحق أيضا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : بل هم قوم خصمون أي لد ، مبالغون في الخصومة بالباطل ، كما قال - تعالى - : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] أي شديدي الخصومة .

وقوله - تعالى - : وهو ألد الخصام [ 2 \ 204 ] لأن الفعل بفتح فكسر كخصم - من صيغ المبالغة ، كما هو معلوم في محله .

وقد علمت مما ذكرنا أن قوله - تعالى - هنا : ولما ضرب ابن مريم مثلا الآية - إنما بينته الآيات التي ذكرنا ببيان سببه .

ومعلوم أن الآية قد يتضح معناها ببيان سببها .

فعلى القول الأول ، أنهم ضربوا عيسى مثلا لأصنامهم في دخول النار ، فإن ذلك المثل يفهم من أن سبب نزول الآية نزول قوله - تعالى - قبلها : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ; لأنها لما نزلت قالوا : إن عيسى عبد من دون الله كآلهتهم ، فهم بالنسبة لما دلت عليه - سواء .

وقد علمت بطلان هذا مما ذكرناه آنفا .

وعلى القول الثاني أنهم ضربوا عيسى مثلا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - في أن عيسى قد عبد ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يعبد كما عبد عيسى ، فكون سبب ذلك سماعهم لقوله - تعالى - : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] . وسماعهم للآيات المكية النازلة في شأن عيسى - يوضح المراد بالمثل .

وأما الآيات التي بينت قوله : ما ضربوه لك إلا جدلا فبيانها له واضح على كلا القولين . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إن هو إلا عبد أنعمنا عليه .

والتحقيق أن الضمير في قوله : ( هو ) عائد إلى عيسى أيضا ، لا إلى محمد - عليهما الصلاة والسلام - .

وقوله هنا : عبد أنعمنا عليه لم يبين هنا شيئا من الأنعام الذي أنعم به على عبده [ ص: 128 ] عيسى ، ولكنه بين ذلك في " المائدة " في قوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات [ 5 \ 110 ] . وفي " آل عمران " في قوله - تعالى - : إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين إلى قوله : ومن الصالحين [ 3 \ 45 - 46 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها .

التحقيق أن الضمير في قوله : ( وإنه ) راجع إلى عيسى لا إلى القرآن ، ولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .

ومعنى قوله : لعلم للساعة على القول الحق الصحيح الذي يشهد له القرآن العظيم والسنة المتواترة - هو أن نزول عيسى في آخر الزمان حيا علم للساعة ، أي علامة لقرب مجيئها ; لأنه من أشراطها الدالة على قربها .

وإطلاق علم الساعة على نفس عيسى - جار على أمرين ، كلاهما أسلوب عربي معروف .

أحدهما : أن نزول عيسى المذكور لما كان علامة لقربها ، كانت تلك العلامة سببا لعلم قربها ، فأطلق في الآية المسبب وأريد السبب .

وإطلاق المسبب وإرادة السبب - أسلوب عربي معروف في القرآن وفي كلام العرب .

ومن أمثلته في القرآن قوله - تعالى - : وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] . فالرزق مسبب عن المطر ، والمطر سببه ، فأطلق المسبب الذي هو الرزق وأريد سببه الذي هو المطر ، للملابسة القوية التي بين السبب والمسبب .

ومعلوم أن البلاغيين ومن وافقهم يزعمون أن مثل ذلك من نوع ما يسمونه المجاز المرسل ، وأن الملابسة بين السبب والمسبب من علاقات المجاز المرسل عندهم .

[ ص: 129 ] والثاني من الأمرين : أن غاية ما في ذلك أن الكلام على حذف مضاف ، والتقدير : وإنه لذو علم للساعة ، أي وإنه لصاحب إعلام الناس بقرب مجيئها ، لكونه علامة لذلك ، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، وإليه أشار في الخلاصة بقوله : وما يلي المضاف يأت خلفا عنه في الإعراب إذا ما حذفا

وهذا الأخير أحد الوجهين اللذين وجه بهما علماء العربية النعت بالمصدر ، كقولك : زيد كرم وعمرو عدل ، أي ذو كرم وذو عدل ، كما قال - تعالى - : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] . وقد أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله : ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا

أما دلالة القرآن الكريم على هذا القول الصحيح ففي قوله - تعالى - في سورة " النساء " : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته [ 4 \ 159 ] أي ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى ، وذلك صريح في أن عيسى حي وقت نزول آية " النساء " هذه ، وأنه لا يموت حتى يؤمن به أهل الكتاب .

ومعلوم أنهم لا يؤمنون به إلا بعد نزوله إلى الأرض .

فإن قيل قد ذهبت جماعة من المفسرين ، من الصحابة فمن بعدهم إلى أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى الكتابي ، أي إلا ليؤمنن به الكتابي قبل موت الكتابي .

فالجواب أن يكون الضمير راجعا إلى عيسى ، يجب المصير إليه ، دون القول الآخر ; لأنه أرجح منه من أربعة أوجه : الأول : أنه هو ظاهر القرآن المتبادر منه ، وعليه تنسجم الضمائر بعضها مع بعض .

والقول الآخر بخلاف ذلك .

وإيضاح هذا أن الله - تعالى - قال : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ، ثم قال - تعالى - : وما قتلوه ، أي عيسى ، وما صلبوه أي عيسى ، ولكن شبه لهم أي عيسى ، وإن الذين اختلفوا فيه أي عيسى ، لفي شك منه أي عيسى ، ما لهم به من علم أي عيسى ، وما قتلوه يقينا أي عيسى ، بل رفعه الله [ ص: 130 ] أي عيسى ، وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به [ 4 \ 159 ] أي عيسى ، قبل موته أي عيسى ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا [ 4 \ 157 - 159 ] أي يكون هو - أي عيسى - عليهم شهيدا .

فهذا السياق القرآني الذي ترى - ظاهر ظهورا لا ينبغي العدول عنه ، في أن الضمير في قوله : ( قبل موته ) راجع إلى عيسى .

الوجه الثاني : من مرجحات هذا القول أنه على هذا القول الصحيح ، فمفسر الضمير ملفوظ مصرح به في قوله - تعالى - : وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله [ 4 \ 157 ] .

وأما على القول الآخر فمفسر الضمير ليس مذكورا في الآية أصلا ، بل هو مقدر ، تقديره : ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته ، أي موت أحد أهل الكتاب المقدر .

ومما لا شك فيه أن ما لا يحتاج إلى تقدير أرجح وأولى مما يحتاج إلى تقدير .

الوجه الثالث من مرجحات هذا القول الصحيح أنه تشهد له السنة النبوية المتواترة ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تواترت عنه الأحاديث بأن عيسى حي الآن ، وأنه سينزل في آخر الزمان حكما مقسطا . ولا ينكر تواتر السنة بذلك إلا مكابر .

قال ابن كثير في تفسيره بعد أن ذكر هذا القول الصحيح ونسبه إلى جماعة من المفسرين - ما نصه : وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع - إن شاء الله تعالى - ا هـ .

وقوله : بالدليل القاطع - يعني السنة المتواترة ; لأنها قطعية ، وهو صادق في ذلك .

وقال ابن كثير في تفسير آية " الزخرف " هذه ما نصه :

وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخبر بنزول عيسى - عليه السلام - قبل يوم القيامة إماما عادلا وحكما مقسطا " . ا هـ منه .

وهو صادق في تواتر الأحاديث بذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:26 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (478)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 131 إلى صـ 138



[ ص: 131 ] وأما القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى الكتاب - فهو خلاف ظاهر القرآن ، ولم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة .

الوجه الرابع : هو أن القول الأول الصحيح واضح لا إشكال فيه ، ولا يحتاج إلى تأويل ولا تخصيص ، بخلاف القول الآخر ، فهو مشكل لا يكاد يصدق إلا مع تخصيص ، والتأويلات التي يروونها فيه عن ابن عباس وغيره ظاهرة البعد والسقوط ; لأنه على القول بأن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، فلا إشكال ولا خفاء ، ولا حاجة إلى تأويل ، ولا إلى تخصيص .

وأما على القول بأنه راجع إلى الكتابي فإنه مشكل جدا بالنسبة لكل من فاجأه الموت من أهل الكتاب ، كالذي يسقط من عال إلى أسفل ، والذي يقطع رأسه بالسيف وهو غافل ، والذي يموت في نومه ونحو ذلك ، فلا يصدق هذا العموم المذكور في الآية على هذا النوع من أهل الكتاب ، إلا إذا ادعى إخراجهم منه بمخصص .

ولا سبيل إلى تخصيص عمومات القرآن إلا بدليل يجب الرجوع إليه من المخصصات المتصلة أو المنفصلة .

وما يذكر عن ابن عباس من أنه سئل عن الذي يقطع رأسه من أهل الكتاب ، فقال : إن رأسه يتكلم بالإيمان بعيسى ، وإن الذي يهوي من عال إلى أسفل يؤمن به وهو يهوي - لا يخفى بعده وسقوطه ، وأنه لا دليل البتة عليه كما ترى .

وبهذا كله تعلم أن الضمير في قوله : قبل موته راجع إلى عيسى ، وأن تلك الآية من سورة " النساء " تبين قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة كما ذكرنا .

فإن قيل : إن كثيرا ممن لا تحقيق عندهم يزعمون أن عيسى قد توفي ، ويعتقدون مثل ما يعتقده ضلال اليهود والنصارى ، ويستدلون على ذلك بقوله - تعالى - : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي [ 3 \ 55 ] . وقوله : فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم [ 5 \ 117 ] .

فالجواب أنه لا دلالة في إحدى الآيتين البتة على أن عيسى قد توفي فعلا .

[ ص: 132 ] أما قوله - تعالى - : إني متوفيك فإن دلالته المزعومة على ذلك منفية من أربعة أوجه : الأول : أن قوله : متوفيك حقيقة لغوية في أخذ الشيء كاملا غير ناقص ، والعرب تقول : توفى فلان دينه يتوفاه فهو متوف له إذا قبضه وحازه إليه كاملا من غير نقص .

فمعنى : إني متوفيك في الوضع اللغوي ، أي حائزك إلي كاملا بروحك وجسمك .

ولكن الحقيقة العرفية خصصت التوفي المذكور بقبض الروح دون الجسم ، ونحو هذا مما دار بين الحقيقة اللغوية العرفية فيه لعلماء الأصول ثلاثة مذاهب : الأول : هو تقديم الحقيقة العرفية ، وتخصيص عموم الحقيقة اللغوية بها .

وهذا هو المقرر في أصول الشافعي وأحمد ، وهو المقرر في أصول مالك ، إلا أنهم في الفروع ربما لم يعتمدوه في بعض المسائل .

وإلى تقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية أشار في مراقي السعود بقوله :

واللفظ محمول على الشرعي إن لم يكن فمطلق العرفي فاللغوي على الجلي ولم يجب بحث عن المجاز في الذي انتخب

المذهب الثاني : هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية بناء على أن العرفية - وإن ترجحت بعرف الاستعمال - فإن اللغوية مترجحة بأصل الوضع .

وهذا القول مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - .

المذهب الثالث : أنه لا تقدم العرفية على اللغوية ، ولا اللغوية على العرفية ، بل يحكم باستوائهما ومعادلة الاحتمالين فيهما ، فيحكم على اللفظ بأنه مجمل ، لاحتمال هذه واحتمال تلك .

وهذا اختيار ابن السبكي ومن وافقه ، وإلى هذين المذهبين الأخيرين أشار في مراقي السعود بقوله :

ومذهب النعمان عكس ما مضى والقول بالإجمال فيه مرتضى


[ ص: 133 ] وإذا علمت هذا ، فاعلم أنه على المذهب الأول الذي هو تقديم الحقيقة اللغوية على العرفية ، فإن قوله - تعالى - : إني متوفيك لا يدل إلا على أنه قبضه إليه بروحه وجسمه ، ولا يدل على الموت أصلا ، كما أن توفي الغريم لدينه لا يدل على موت دينه .

وأما على المذهب الثاني : وهو تقديم الحقيقة العرفية على اللغوية ، فإن لفظ التوفي حينئذ يدل في الجملة على الموت .

ولكن سترى إن - شاء الله - أنه وإن دل على ذلك في الجملة ، لا يدل على أن عيسى قد توفي فعلا .

وقد ذكرنا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " آل عمران " - وجه عدم دلالة الآية على موت عيسى فعلا ، أعني قوله - تعالى - : إني متوفيك فقلنا ما نصه : والجواب عن هذا ، من ثلاثة أوجه : الأول : أن قوله - تعالى - : متوفيك لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى ، وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا على أن ذلك اليوم قد مضى .

وأما عطفه ( ورافعك إلي ) على قوله : ( متوفيك ) فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .

وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين ، وهو الحق خلافا ، لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمرو الزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .

وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .

وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي .

حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أبدأ بما بدأ الله به " يعني الصفا - لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب .

[ ص: 134 ] وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكره عنه صاحب الضياء اللامع .

وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية ، فكذلك لا تقتضي المنع منهما .

فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول ، كقوله : إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 \ 158 ] بدليل الحديث المتقدم .

وقد يكون المعطوف بها مرتبا ، كقول حسان : هجوت محمدا وأجبت عنه

على رواية الواو .

وقد يراد بها المعية ، كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] . وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] . ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .

الوجه الثاني : أن معنى متوفيك أي منيمك ، ( ورافعك إلي ) أي في تلك النومة .

وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله - تعالى - : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] ، وعزى ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين .

الوجه الثالث : أن متوفيك ، اسم فاعل ؛ توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه إذا قبضه إليه ، فيكون معنى متوفيك على هذا : قابضك منهم إلي حيا ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير .

وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ثم أحياه - فلا معول عليه; إذ لا دليل عليه . ا هـ . من دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب .

وقد قدمنا في هذا البحث أن دلالة قوله - تعالى - : متوفيك على موت عيسى فعلا - منفية من أربعة أوجه ، وقد ذكرنا منها ثلاثة من غير تنظيم : [ ص: 135 ] أولها : أن متوفيك حقيقة لغوية في أخذه بروحه وجسمه .

الثاني : أن متوفيك وصف محتمل للحال والاستقبال والماضي ، ولا دليل في الآية على أن ذلك التوفي قد وقع ومضى ، بل السنة المتواترة والقرآن دالان على خلاف ذلك ، كما أوضحنا في هذا المبحث .

الثالث : أنه توفي نوم ، وقد ذكرنا الآيات الدالة على أن النوم يطلق عليه الوفاة ، فكل من النوم والموت يصدق عليه اسم التوفي ، وهما مشتركان في الاستعمال العرفي .

فهذه الأوجه الثلاثة ذكرناها كلها في الكلام الذي نقلنا من كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " .

وذكرنا الأول منها بانفراده ; لنبين مذاهب الأصوليين فيه .

أما قوله - تعالى - : فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] ، فدلالته على أن عيسى مات منفية من وجهين : الأول منهما : أن عيسى يقول ذلك يوم القيامة ، ولا شك أنه يموت قبل يوم القيامة ، فإخباره يوم القيامة بموته لا يدل على أنه الآن قد مات كما لا يخفى .

والثاني منهما : أن ظاهر الآية أنه توفي رفع وقبض للروح والجسد ، لا توفي موت .

وإيضاح ذلك أن مقابلته لذلك التوفي بالديمومة فيهم في قوله : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني الآية [ 5 \ 117 ] - تدل على ذلك ; لأنه لو كان توفي موت ، لقال ما دمت حيا ، فلما توفيتني ; لأن الذي يقابل بالموت هو الحياة كما في قوله : ‎وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] .

أما التوفي المقابل بالديمومة فيهم فالظاهر أنه توفي انتقال عنهم إلى موضع آخر .

وغاية ما في ذلك هو حمل اللفظ على حقيقته اللغوية مع قرينة صارفة عن قصد العرفية ، وهذا لا إشكال فيه .

وأما الوجه الرابع من الأوجه المذكورة سابقا : أن الذين زعموا أن عيسى قد مات ، قالوا : إنه لا سبب لذلك الموت إلا أن اليهود قتلوه وصلبوه ، فإذا تحقق نفي هذا السبب [ ص: 136 ] وقطعهم أنه لم يمت بسبب غيره - تحققنا أنه لم يمت أصلا ، وذلك السبب الذي زعموه ، منفي يقينا بلا شك ; لأن الله - جل وعلا - قال : وما قتلوه وما صلبوه [ 4 \ 157 ] . وقال - تعالى - : وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .

وضمير رفعه ظاهر في رفع الجسم والروح معا كما لا يخفى .

وقد بين الله - جل وعلا - مستند اليهود في اعتقادهم أنهم قتلوه ، بأن الله ألقى شبهه على إنسان آخر فصار من يراه يعتقد اعتقادا جازما أنه عيسى .

فرآه اليهود لما أجمعوا على قتل عيسى فاعتقدوا لأجل ذلك الشبه الذي ألقي عليه اعتقادا جازما أنه عيسى ; فقتلوه .

فهم يعتقدون صدقهم في أنهم قتلوه وصلبوه ، ولكن العليم اللطيف الخبير أوحى إلى نبيه في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أنهم لم يقتلوه ولم يصلبوه .

فمحمد - صلى الله عليه وسلم - والذين اتبعوه عندهم علم من الله بأمر عيسى لم يكن عند اليهود ولا النصارى ، كما أوضحه - تعالى - بقوله : وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه [ 4 \ 157 - 158 ] .

والحاصل أن القرآن العظيم على التفسير الصحيح والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلاهما دال على أن عيسى حي ، وأنه سينزل في آخر الزمان ، وأن نزوله من علامات الساعة ، وأن معتمد الذين زعموا أنهم قتلوه ومن تبعهم هو إلقاء شبهه على غيره ، واعتقادهم الكاذب أن ذلك المقتول الذي شبه بعيسى هو عيسى .

وقد عرفت دلالة الوحي على بطلان ذلك ، وأن قوله : متوفيك لا يدل على موته فعلا .

وقد رأيت توجيه ذلك من أربعة أوجه ، وأنه على المقرر في الأصول في المذاهب الثلاثة التي ذكرنا عنهم ، ولا إشكال في أنه لم يمت فعلا .

أما على القول بتقديم الحقيقة اللغوية فالأمر واضح ; لأن الآية على ذلك لا تدل على الموت .

[ ص: 137 ] وأما على القول بالإجمال ، فالمقرر في الأصول أن المحمل لا يحمل على واحد من معنييه ، ولا معانيه ، بل يطلب بيان المراد منه بدليل منفصل .

وقد دل الكتاب هنا والسنة المتواترة على أنه لم يمت وأنه حي .

وأما على القول بتقديم الحقيقة العرفية على الحقيقة اللغوية ، فإنه يجاب عنه من أوجه : الأول : أن التوفي محمول على النوم ، وحمله عليه يدخل في اسم الحقيقة العرفية .

والثاني : أنا وإن سلمنا أنه توفي موت ، فالصيغة لا تدل على أنه قد وقع فعلا .

الثالث : أن القول المذكور بتقديم العرفية محله فيما إذا لم يوجد دليل صارف عن إرادة العرفية اللغوية ، فإن دل على ذلك دليل وجب تقديم اللغوية قولا واحدا .

وقد قدمنا مرارا دلالة الكتاب والسنة المتواترة على إرادة اللغوية هنا ، دون العرفية .

واعلم بأن القول بتقديم اللغوية على العرفية محله فيما إذا لم تتناس اللغوية بالكلية ، فإن أميتت الحقيقة اللغوية بالكلية ، وجب المصير إلى العرفية إجماعا ، وإليه أشار في مراقي السعود بقوله :

أجمع إن حقيقة تمات على التقدم له الإثبات


فمن حلف ليأكلن من هذه النخلة ، فمقتضى الحقيقة اللغوية أنه لا يبر يمينه حتى يأكل من نفس النخلة ، لا من ثمرتها .

ومقتضى الحقيقة العرفية أنه يأكل من ثمرتها لا من نفس جذعها .

والمصير إلى العرفية هنا واجب إجماعا ; لأن اللغوية في مثل هذا أميتت بالكلية ، فلا يقصد عاقل البتة الأكل من جذع النخلة .

أما الحقيقة اللغوية في قوله - تعالى - : إني متوفيك فإنها ليست من الحقيقة المماتة كما لا يخفى .

ومن المعلوم في الأصول أن العرفية تسمى حقيقة عرفية ومجازا لغويا ، وأن اللغوية تسمى عندهم حقيقة لغوية ، ومجازا عرفيا .

[ ص: 138 ] وقد قدمنا مرارا أنا أوضحنا أن القرآن الكريم لا مجاز فيه على التحقيق في رسالتنا المسماة " منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز " .

فاتضح مما ذكرنا كله أن آية " الزخرف " هذه تبينها آية " النساء " المذكورة ، وأن عيسى لم يمت ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، وإنما قلنا : إن قوله - تعالى - هنا : وإنه لعلم للساعة أي علامة ودليل على قرب مجيئها ; لأن وقت مجيئها بالفعل لا يعلمه إلا الله .

وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك مرارا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فلا تمترن بها أي لا تشكن في قيام الساعة ; فإنه لا شك فيه .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له مرارا كقوله - تعالى - : وأن الساعة آتية لا ريب فيها [ 22 \ 7 ] . وقوله : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] . وقوله : ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [ 6 \ 12 ] . وقوله : فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه [ 3 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين .

وقد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة مرارا كقوله : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا الآية [ 35 \ 6 ] . وقوله : أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الآية [ 18 \ 50 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم .

قوله هنا : ظلموا أي كفروا ، بدليل قوله في مريم في القصة بعينها : فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم [ 19 \ 37 ] .

وقوله : من مشهد يوم عظيم يوضحه قوله هنا : من عذاب يوم أليم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:28 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (479)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 139 إلى صـ 146


وقد قدمنا مرارا الآيات الدالة على إطلاق الظلم على الكفر ، كقوله : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] . وقوله : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] . وقوله : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 139 ] ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أي بشرك ، كما فسره به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الثابت في صحيح البخاري .
قوله - تعالى - : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون .

الاستفهام بهل هنا بمعنى النفي ، و ( ينظرون ) بمعنى ينتظرون ، أي ما ينتظر الكفار إلا الساعة ، أي القيامة ، ( أن تأتيهم بغتة ) أي في حال كونها مباغتة لهم ، أي مفاجئة لهم ، ( وهم لا يشعرون ) أي بمفاجأتها في حال غفلتهم وعدم شعورهم بمجيئها .

والظاهر أن المصدر المنسبك من أن وصلتها في قوله : أن تأتيهم في محل نصب على أنه بدل اشتمال من الساعة ، وكون ينظرون بمعنى ينتظرون معروف في كلام العرب ، ومنه قول امرئ القيس :

فإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر تنفعني لدى أم جندب

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الساعة تأتيهم بغتة - جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة [ 7 \ 187 ] . وقوله - تعالى - في " القتال " : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها [ 47 \ 18 ] . وقوله - تعالى - : ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية الآية [ 36 \ 49 - 50 ] .

فالمراد بالصيحة : القيامة .

وقوله : وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية الآية - يدل على أنها تأتيهم وهم في غفلة وعدم شعور بإتيانها ، إلى غير ذلك من الآيات . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة بعض صفات الذين ينتفي عنهم الخوف والحزن يوم القيامة ; فذكر منها هنا الإيمان بآيات الله والإسلام ، وذكر بعضا منها في غير هذا الموضع .

[ ص: 140 ] فمن ذلك الإيمان والتقوى ، وذلك في قوله - تعالى - في سورة " يونس " : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 10 \ 62 - 63 ] .

ومن ذلك الاستقامة ، وقولهم : ربنا الله ، وذلك في قوله في " فصلت " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا [ 41 ] . وقوله - تعالى - في " الأحقاف " : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 46 \ 13 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

والخوف في لغة العرب : الغم من أمر مستقبل .

والحزن : الغم من أمر ماض .

وربما استعمل كل منهما في موضع الآخر .

وإطلاق الخوف على الغم أسلوب عربي معروف .

قال بعض العلماء : ومنه قوله - تعالى - : إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ 2 \ 229 ] .

قال معناه : إلا أن يعلما .

ومنه قول أبي محجن الثقفي :

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي في الممات عروقها ولا تدفنني في الفلاة فإنني
أخاف إذا ما مت ألا أذوقها فقوله : أخاف ، أي أعلم لأنه لا يشك في أنه لا يشربها بعد موته .

وقوله في هذه الآية الكريمة : الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ظاهره المغايرة بين الإيمان والإسلام .

وقد دلت بعض الآيات على اتحادهما كقوله - تعالى - : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 - 36 ] .

ولا منافاة في ذلك ، فإن الإيمان يطلق تارة على جميع ما يطلق عليه الإسلام من الاعتقاد والعمل ، كما ثبت في الصحيح في حديث وفد عبد القيس ، والأحاديث بمثل ذلك كثيرة جدا .

[ ص: 141 ] ومن أصرحها في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان بضع وسبعون " .

وفي بعض الروايات الثابتة في الصحيح : " وستون شعبة أعلاها شهادة ألا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق " .

فقد سمى - صلى الله عليه وسلم - " إماطة الأذى عن الطريق " إيمانا .

وقد أطال البيهقي - رحمه الله - في شعب الإيمان ، في ذكر الأعمال التي جاء الكتاب والسنة بتسميتها إيمانا .

فالإيمان الشرعي التام والإسلام الشرعي التام معناهما واحد .

وقد يطلق الإيمان إطلاقا آخر على خصوص ركنه الأكبر الذي هو الإيمان بالقلب ، كما في حديث جبريل الثابت في الصحيح .

والقلب مضغة في الجسد إذا صلحت صلح الجسد كله ، فغيره تابع له ، وعلى هذا تحصل المغايرة في الجملة بين الإيمان والإسلام .

فالإيمان ، على هذا الإطلاق اعتقاد ، والإسلام شامل للعمل .

واعلم أن مغايرته - تعالى - بين الإيمان والإسلام في قوله - تعالى - : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ 49 \ 14 ] .

قال بعض العلماء : المراد بالإيمان هنا معناه الشرعي ، والمراد بالإسلام معناه اللغوي ، لأن إذعان الجوارح وانقيادها دون إيمان القلب - إسلام لغة لا شرعا .

وقال بعض العلماء : المراد بكل منهما معناه الشرعي ، ولكن نفي الإيمان في قوله : ولما يدخل الإيمان ، يراد به عند من قال هذا نفي كمال الإيمان ، لا نفي أصله ، ولكن ظاهر الآية لا يساعد على هذا ; لأن قوله : ولما يدخل فعل في سياق النفي ، وهو صيغة عموم على التحقيق ، وإن لم يؤكد بمصدر ، ووجهه واضح جدا كما قدمناه مرارا .

وهو أن الفعل الصناعي ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين ، وعن مصدر وزمن ونسبة عند البلاغيين ، كما حرروه في مبحث الاستعارة التبعية ، وهو أصوب .

[ ص: 142 ] فالمصدر كامن في مفهوم الفعل الصناعي إجماعا ، وهو نكرة لم تتعرف بشيء ، فيئول إلى معنى النكرة في سياق النفي .

وقد أشار صاحب مراقي السعود إلى أن الفعل في سياق النفي أو الشرط من صيغ العموم ، بقوله :

ونحو لا شربت أو وإن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا


ووجه إهمال ( لا ) في هذه الآية في قوله - تعالى - : لا خوف [ 46 \ 13 ] - أن ( لا ) الثانية التي هي ولا هم يحزنون [ 46 \ 13 ] بعدها معرفة ، وهي الضمير ، وهي لا تعمل في المعارف ، بل في النكرات ، فلما وجب إهمال الثانية أهملت الأولى لينسجم الحرفان بعضهما مع بعض في إهمالهما معا .
قوله - تعالى - : ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون .

قوله - تعالى - في هذه الآية : وأزواجكم فيه لعلماء التفسير وجهان : أحدهما ، أن المراد بأزواجهم نظراؤهم وأشباههم في الطاعة وتقوى الله ، واقتصر على هذا القول ابن كثير .

والثاني : أن المراد بأزواجهم نساؤهم في الجنة; لأن هذا الأخير أبلغ في التنعم والتلذذ من الأول .

ولذا يكثر في القرآن ذكر إكرام أهل الجنة بكونهم مع نسائهم دون الامتنان عليهم ، بكونهم مع نظرائهم وأشباههم في الطاعة .

قال - تعالى - : إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 55 ] .

وقال كثير من أهل العلم : إن المراد بالشغل المذكور في الآية ، هو افتضاض الأبكار . وقال - تعالى - : وزوجناهم بحور عين [ 52 \ 20 ] . وقال - تعالى - : وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون [ 56 \ 22 - 23 ] . وقال - تعالى - : فيهن خيرات حسان إلى قوله : حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 22 - 23 ] . وقال : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] . [ ص: 143 ] وقال - تعالى - : وعندهم قاصرات الطرف أتراب [ 38 \ 52 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد قدمنا أن مفرد الأزواج زوج بلا هاء ، وأن الزوجة بالتاء لغة لا لحن ، خلافا لمن زعم أن الزوجة لحن من لحن الفقهاء ، وأن ذلك لا أصل له في اللغة .

والحق أن ذلك لغة عربية ، ومنه قول الفرزدق :

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي كساع إلى أسد الشرى يستبيلها

وقول الحماسي :

فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والظاعنون إلي ثم تصدعوا


وفي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في صفية : " إنها زوجتي " .

وقوله : تحبرون أقوال العلماء فيه راجعة إلى شيء واحد ، وهو أنهم يكرمون بأعظم أنواع الإكرام وأتمها .
قوله - تعالى - : يطاف عليهم بصحاف من ذهب .

قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وجميع الآيات التي فيها الأنعام على أهل الجنة بأواني الذهب والفضة ، والتحلي بهما ، ولبس الحرير ، ومنه السندس والإستبرق ، وفي سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] .
قوله - تعالى - : وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن كل ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، أي تلتذ به الأعين ، أي برؤيته لحسنه ، كما قال - تعالى - : صفراء فاقع لونها تسر الناظرين [ 2 \ 69 ] . وأسند اللذة إلى العين ، وهي في الحقيقة مسندة لصاحب العين ، كإسناد الكذب والخطيئة إلى الناصية ، وهي مقدم شعر الرأس ، في قوله - تعالى - : ناصية كاذبة خاطئة [ 96 \ 16 ] وكإسناد الخشوع والعمل والنصب إلى الوجوه ، في قوله - تعالى - : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة الآية [ 88 \ 2 - 3 ] .

[ ص: 144 ] ومعلوم أن الكذب والخطيئة مسندان في الحقيقة لصاحب الناصية ، كما أن الخشوع والعمل والنصب مسندات إلى أصحاب الوجوه .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الجنة فيها كل مشتهى ، وكل مستلذ - جاء مبسوطا موضحة أنواعه في آيات كثيرة من كتاب الله ، وجاء محمد أيضا إجمالا شاملا لكل شيء من النعيم .

أما إجمال ذلك ففي قوله - تعالى - : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ 32 \ 17 ] .

وأما بسط ذلك وتفصيله فقد بين القرآن أن من ذلك النعيم المذكور في الآية - المشارب ، والمآكل والمناكح ، والفرش والسرر ، والأواني ، وأنواع الحلي والملابس ، والخدم إلى غير ذلك ، وسنذكر بعض الآيات الدالة على كل شيء من ذلك .

أما المآكل فقد قال - تعالى - : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون [ 43 \ 73 ] . وقال : ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 32 - 33 ] . وقال - تعالى - : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة [ 56 \ 32 - 33 ] . وقال - تعالى - : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها الآية [ 2 \ 25 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

أما المشارب ، فقد قال - تعالى - : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [ 76 \ 5 - 6 ] . وقال - تعالى - : ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا الآية [ 76 \ 17 - 18 ] . وقوله - تعالى - : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 17 - 19 ] . وقال - تعالى - : يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 45 - 47 ] . وقال - تعالى - : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات [ 47 \ 15 ] . وقال - تعالى - : كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية [ 69 \ 24 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 145 ] وأما الملابس والأواني والحلي ، فقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة " النحل " .

وأما المناكح فقد قدمنا بعض الآيات الدالة عليها قريبا ، وهي كثيرة كقوله - تعالى - : ولهم فيها أزواج مطهرة الآية [ 2 \ 25 ] . ويكفي ما قدمنا من ذلك قريبا .

وأما ما يتكئون عليه من الفرش والسرر ونحو ذلك ، ففي آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق [ 55 \ 45 ] . وقوله - تعالى - : هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 56 ] . وقوله - تعالى - : على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين [ 56 \ 15 - 16 ] .

والسرر الموضونة هي المنسوجة بقضبان الذهب .

وقوله - تعالى - : إخوانا على سرر متقابلين [ 15 \ 47 ] . وقوله - تعالى - : فيها سرر مرفوعة [ 88 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان [ 55 \ 76 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما خدمهم فقد قال - تعالى - في ذلك : يطوف عليهم ولدان مخلدون الآية [ 56 \ 17 ] . وقال - تعالى - في سورة " الإنسان " في صفة هؤلاء الغلمان : إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] وذكر نعيم أهل الجنة بأبلغ صيغة في قوله - تعالى - : وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا [ 76 \ 20 ] .

والآيات الدالة على أنواع نعيم الجنة وحسنها وكمالها كالظلال والعيون والأنهار وغير ذلك - كثيرة جدا ، ولنكتف منها بما ذكرنا .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : وأنتم فيها خالدون [ 43 \ 71 ] - قد قدمنا الآيات الموضحة ; لأن خلودهم المذكور لا انقطاع له البتة ، كقوله - تعالى - : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] أي غير مقطوع ، وقوله - تعالى - : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] . وقوله - تعالى - : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
قوله - تعالى - : وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون .

[ ص: 146 ] قد قدمنا الكلام على هذه الآية الكريمة ونحوها من الآيات الدالة على أن العمل سبب لدخول الجنة ، كقوله - تعالى - : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] . وقوله - تعالى - : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] . وقوله - تعالى - : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون [ 32 \ 17 ] .

وبينا أقرب أوجه الجمع بين هذه الآيات الكريمة وما بمعناها مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لن يدخل أحدكم عمله الجنة " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله . قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " .

وذكرنا في ذلك أن العمل الذي بينت الآيات كونه سبب دخول الجنة - هو العمل الذي تقبله الله برحمة منه وفضل ، وأن العمل الذي لا يدخل الجنة هو الذي لم يتقبله الله .

والله يقول : إنما يتقبل الله من المتقين [ 5 \ 27 ] .
قوله - تعالى - : ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون .

اللام في قوله : ليقض لام الدعاء .

والظاهر أن المعنى أن مرادهم بذلك سؤال مالك خازن النار أن يدعو الله لهم بالموت .

والدليل على ذلك أمران : الأول : أنهم لو أرادوا دعاء الله بأنفسهم أن يميتهم لما نادوا : يا مالك ، ولما خاطبوه في قولهم : ربك .

والثاني : أن الله بين في سورة " المؤمن " أن أهل النار يطلبون من خزنة النار أن يدعوا الله لهم ليخفف عنهم العذاب ، وذلك في قوله - تعالى - : وقال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب [ 40 \ 49 ] . وقوله : ليقض علينا ربك أي ليمتنا ، فنستريح بالموت من العذاب .

ونظيره قوله - تعالى - : فوكزه موسى فقضى عليه [ 28 \ 15 ] أي أماته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-04, 12:30 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (480)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 147 إلى صـ 154



وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : قال إنكم ماكثون - دليل على أنهم لا يجابون [ ص: 147 ] إلى الموت ، بل يمكثون في النار معذبين إلى غير نهاية .

وقد دل القرآن العظيم على أنهم لا يموتون فيها فيستريحوا بالموت ، ولا تغني هي عنهم ، ولا يخفف عنهم عذابها ، ولا يخرجون منها .

أما كونهم لا يموتون فيها الذي دل عليه قوله هنا : قال إنكم ماكثون - فقد دلت عليه آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] . وقوله - تعالى - : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا [ 87 \ 11 - 13 ] . وقوله - تعالى - : والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا الآية [ 35 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت الآية [ 14 \ 17 ] .

وأما كون النار لا تغني عنهم ، فقد بينه - تعالى - بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] . فمن يدعي أن للنار خبوة نهائية وفناء - رد عليه بهذه الآية الكريمة .

وأما كون العذاب لا يخفف عنه فقد دلت عليه آيات كثيرة جدا ، كقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها [ 35 \ 36 ] . وقوله - تعالى - : فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون [ 16 \ 85 ] . وقوله - تعالى - : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 \ 30 ] . وقوله - تعالى - : لا يفتر عنهم الآية [ 43 \ 75 ] . وقوله : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] . وقوله - تعالى - : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] على الأصح في الأخيرين .

وأما كونهم لا يخرجون منها فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] . وقوله - تعالى - في " المائدة " : يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] . وقوله - تعالى - في " الحج " : كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها الآية [ 22 \ 22 ] . وقوله - تعالى - في " السجدة " : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 \ 20 ] . وقوله - تعالى - في " الجاثية " : فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون [ 45 \ 35 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد أوضحنا هذا المبحث إيضاحا شافيا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات [ ص: 148 ] الكتاب " في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله [ 6 \ 128 ] . وفي سورة " النبإ " في الكلام على قوله - تعالى - : لابثين فيها أحقابا [ 78 \ 23 ] وسنوضحه أيضا - إن شاء الله - في هذا الكتاب المبارك في الكلام على آية " النبإ " المذكورة ، ونوضح هناك - إن شاء الله - إزالة إشكال يورده الملحدون على الآيات التي فيها إيضاح هذا المبحث .
قوله - تعالى - : لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الشورى " في الكلام على قوله - تعالى - : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] .
قوله - تعالى - : بلى ورسلنا لديهم يكتبون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في هذه السورة الكريمة في الكلام على قوله - تعالى - : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 9 ] وأكثرنا من الآيات الموضحة لذلك في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : كلا سنكتب ما يقول الآية [ 19 \ 79 ] .
قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين .

اختلف العلماء في معنى إن في هذه الآية .

فقالت جماعة من أهل العلم : إنها شرطية ، واختاره غير واحد ، وممن اختاره ابن جرير الطبري ، والذين قالوا : إنها شرطية ، اختلفوا في المراد بقوله : فأنا أول العابدين .

فقال بعضهم : فأنا أول العابدين لذلك الولد .

وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله على فرض أن له ولدا .

وقال بعضهم : فأنا أول العابدين لله جازمين بأنه لا يمكن أن يكون له ولد .

وقالت جماعة آخرون : إن لفظة إن في الآية نافية .

والمعنى : ما كان لله ولد ، وعلى القول بأنها نافية ففي معنى قوله : فأنا أول العابدين ثلاثة أوجه : الأول - وهو أقربها - : أن المعنى : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين لله المنزهين له [ ص: 149 ] عن الولد ، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .

والثاني : أن معنى قوله : فأنا أول العابدين أي الآنفين المستنكفين من ذلك ، يعني القول الباطل المفترى على ربنا الذي هو ادعاء الولد له .

والعرب تقول : عبد - بكسر الباء - يعبد - بفتحها - فهو عبد - بفتح فكسر - على القياس ، وعابد أيضا سماعا إذا اشتدت أنفته واستنكافه وغضبه ، ومنه قول الفرزدق :

أولئك قومي إن هجوني هجوتهم وأعبد أن أهجو كليبا بدارم

فقوله : وأعبد ، يعني آنف وأستنكف .

ومنه أيضا قول الآخر : متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ويعبد عليه لا محالة ظالما

وفي قصة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المشهورة ، أنه جيء بامرأة من جهينة تزوجت ، فولدت لستة أشهر ، فبعث بها عثمان لترجم ، اعتقادا منه أنها كانت حاملا قبل العقد لولادتها قبل تسعة أشهر ، فقال له علي - رضي الله عنهما - : إن الله يقول : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ 46 \ 15 ] ويقول - جل وعلا - : وفصاله في عامين [ 31 \ 14 ] فلم يبق عن الفصال من المدة إلا ستة أشهر .

فما عبد عثمان - رضي الله عنه - أن بعث إليها لترد ولا ترجم .

ومحل الشاهد من القصة ، فوالله : ( ما عبد عثمان ) أي ما أنف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق .

الوجه الثالث : أن المعنى فأنا أول العابدين أي الجاحدين النافين أن يكون لله ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في معنى هذه الآية الكريمة أنه يتعين المصير إلى القول بأن ( إن ) نافية ، وأن القول بكونها شرطية لا يمكن أن يصح له معنى بحسب وضع اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء .

[ ص: 150 ] وإنما اخترنا أن إن هي النافية لا الشرطية ، وقلنا : إن المصير إلى ذلك متعين في نظرنا - لأربعة أمور : الأول : أن هذا القول جار على الأسلوب العربي جريانا واضحا ، لا إشكال فيه ، فكون ( إن كان ) بمعنى ما كان - كثير في القرآن وفي كلام العرب ، كقوله - تعالى - : إن كانت إلا صيحة واحدة [ 36 \ 29 ] أي ما كانت إلا صيحة واحدة .

فقولك مثلا معنى الآية الكريمة : ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الخاضعين للعظيم الأعظم ، المنزه عن الولد ، أو الآنفين المستنكفين من أن يوصف ربنا بما لا يليق بكماله وجلاله من نسبة الولد إليه ، أو الجاحدين النافين أن يكون لربنا ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - لا إشكال فيه ; لأنه جار على اللغة العربية التي نزل بها القرآن ، دال على تنزيه الله تنزيها تاما عن الولد ، من غير إيهام البتة لخلاف ذلك .

الأمر الثاني : أن تنزيه الله عن الولد بالعبارات التي لا إيهام فيها - هو الذي جاءت به الآيات الكثيرة في القرآن ، كما قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا الآية [ 18 \ 4 ] . وفي سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا [ 19 \ 88 - 89 ] . والآيات الكثيرة التي ذكرناها في ذلك تبين أن ( إن ) نافية .

فالنفي الصريح الذي لا نزاع فيه يبين أن المراد في محل النزاع - النفي الصريح .

وخير ما يفسر به القرآن القرآن ; فكون المعبر به في الآية ( ما كان للرحمن ولد ) [ 43 \ 81 ] بصيغة النفي الصريح - مطابق لقوله - تعالى - في سورة " بني إسرائيل " : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية [ 17 \ 111 ] . وقوله - تعالى - في أول " الفرقان " : ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 25 \ 2 ] . وقوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد الآية [ 23 \ 91 ] . وقوله - تعالى - : لم يلد ولم يولد [ 112 \ 3 ] . وقوله - تعالى - : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون [ 37 \ 151 - 152 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما على القول بأن ( إن ) شرطية ، وأن قوله - تعالى - : فأنا أول العابدين - جزاء [ ص: 151 ] لذلك الشرط ، فإن ذلك لا نظير له البتة في كتاب الله ، ولا توجد فيه آية تدل على هذا المعنى .

الأمر الثالث : هو أن القول بأن ( إن ) شرطية لا يمكن أن يصح له معنى في اللغة العربية ، إلا معنى محذور لا يجوز القول به بحال ، وكتاب الله - جل وعلا - يجب تنزيهه عن حمله على معان محذورة لا يجوز القول بها .

وإيضاح هذا أنه على القول بأن ( إن ) شرطية ، وقوله : فأنا أول العابدين جزاء الشرط - لا معنى لصدقه البتة إلا بصحة الربط بين الشرط والجزاء .

والتحقيق الذي لا شك فيه أن مدار الصدق والكذب في الشرطية المتصلة - منصب على صحة الربط بين مقدمها الذي هو الشرط ، وتاليها الذي هو الجزاء ، والبرهان القاطع على صحة هذا هو كون الشرطية المتصلة تكون في غاية الصدق مع كذب طرفيها معا ، أو أحدهما لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها ، فمثال كذبهما معا مع صدقها قوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فهذه قضية في غاية الصدق كما ترى ، مع أنها لو أزيلت أداة الربط بين طرفيها كان كل واحد من طرفيها قضية كاذبة بلا شك ، ونعني بأداة الربط لفظة ( لو ) من الطرف الأول ، واللام من الطرف الثاني ، فإنهما لو أزيلا وحذفا صار الطرف الأول : كان فيهما آلهة إلا الله ، وهذه قضية في منتهى الكذب ، وصار الطرف الثاني فسدتا ، أي السماوات والأرض ، وهذه قضية في غاية الكذب كما ترى .

فاتضح بهذا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين الطرفين وعدم صحته .

فإن كان الربط صحيحا فهي صادقة ، ولو كذب طرفاها أو أحدهما عند إزالة الربط .

وإن كان الربط بينهما كاذبا كانت كاذبة كما لو قلت : لو كان هذا إنسانا لكان حجرا ، فكذب الربط بينهما وكذب القضية بسببه كلاهما واضح .

وأمثلة صدق الشرطية مع كذب طرفيها كثيرة جدا ، كالآية التي ذكرنا ، وكقولك : لو كان الإنسان حجرا لكان جمادا ، ولو كان الفرس ياقوتا لكان حجرا ، فكل هذه القضايا ونحوها صادقة مع كذب طرفيها لو أزيلت أداة الربط .

ومثال صدقها مع كذب أحدهما قولك : لو كان زيد في السماء ما نجا من الموت ; [ ص: 152 ] فإنها شرطية صادقة لصدق الربط بين طرفيها ، مع أنها كاذبة في أحد الطرفين دون الآخر ; لأن عدم النجاة من الموت صدق ، وكون زيد في السماء كذب ، هكذا مثل بهذا المثال البناني ، وفيه عندي أن هذه الشرطية التي مثل بها اتفاقية لا لزومية ، ولا دخل للاتفاقيات في هذا المبحث .

والمثال الصحيح : لو كان الإنسان حجرا لكان جسما .

واعلم أن قوما زعموا أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات منصب على خصوص التالي الذي هو الجزاء ، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك .

وزعموا أن هذا المعنى هو المراد عند أهل اللسان العربي .

والتحقيق الأول .

ولم يقل أحد البتة بقول ثالث في مدار الصدق والكذب في الشرطيات .

فإذا حققت هذا فاعلم أن الآية الكريمة - على القول بأنها جملة شرط وجزاء - لا يصح الربط بين طرفيها البتة بحال على واحد من القولين اللذين لا ثالث لهما إلا على وجه محذور لا يصح القول به بحال .

وإيضاح ذلك أنه على القول الأخير : أن مصب الصدق والكذب في الشرطيات إنما هو التالي الذي هو الجزاء ، وأن المقدم الذي هو الشرط قيد في ذلك - فمعنى الآية عليه باطل ، بل هو كفر; لأن معناه أن كونه أول العابدين يشترط فيه أن يكون للرحمن ولد - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - .

لأن مفهوم الشرط أنه إن لم يكن له ولد لم يكن أول العابدين ، وفساد هذا المعنى كما ترى .

وأما على القول الأول الذي هو الصحيح أن مدار الصدق والكذب في الشرطيات على صحة الربط بين طرفي الشرطية .

فإنه على القول بأن الآية الكريمة جملة شرط وجزاء - لا يصح الربط بين طرفيها البتة أيضا ، إلا على وجه محذور لا يجوز المصير إليه بحال; لأن كون المعبود ذا ولد ، واستحقاقه هو أو ولده العبادة ، لا يصح الربط بينهما البتة إلا على معنى ، هو كفر بالله ; لأن المستحق للعبادة لا يعقل بحال أن يكون ولدا أو والدا .

[ ص: 153 ] وبه تعلم أن الشرط المزعوم في قوله : إن كان للرحمن ولد - إنما يعلق به محال لاستحالة كون الرحمن ذا ولد .

ومعلوم أن المحال لا يعلق عليه إلا المحال .

فتعليق عبادة الله التي هي أصل الدين على كونه ذا ولد - ظهور فساده كما ترى ، وإنما تصدق الشرطية في مثل هذا لو كان المعلق عليه مستحيلا ، فادعاء أن ( إن ) في الآية شرطية مثل ما لو قيل : لو كان معه آلهة لكنت أول العابدين له ، وهذا لا يصدق بحال; لأن واحدا من آلهة متعددة لا يمكن أن يعبد ، فالربط بين طرفيها مثل هذه القضية لا يصح بحال .

ويتضح لك ذلك بمعنى قوله : وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض الآية [ 23 \ 91 ] .

فإن قوله : ( إذا ) أي لو كان معه غيره من الآلهة لذهب كل واحد منهم بما خلق واستقل به ، وغالب بعضهم بعضا ولم ينتظم للسماوات والأرض نظام ، ولفسد كل شيء ، كما قال - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا [ 17 \ 42 ] على الصحيح الذي هو الحق من التفسيرين .

ومعنى ابتغائهم إليه - تعالى - سبيلا - هو طلبهم طريقا إلى مغالبته كما يفعله بعض الملوك مع بعضهم .

والحاصل أن الشرط إن علق به مستحيل فلا يمكن أن يصح الربط بينه وبين الجزاء ، إلا إذا كان الجزاء مستحيلا أيضا ; لأن الشرط المستحيل لا يمكن أن يوجد به إلا الجزاء المستحيل .

أما كون الشرط مستحيلا والجزاء هو أساس الدين وعماد الأمر - فهذا مما لا يصح بحال .

ومن ذهب إليه من أهل العلم والدين لا شك في غلطه .

ولا شك في أن كل شرطية صدقت مع بطلان مقدمها الذي هو الشرط ، وصحة تاليها [ ص: 154 ] الذي هو الجزاء - لا يصح التمثيل بها لهذه الآية بوجه من الوجوه ، وأن ما ظنه الفخر الرازي من صحة التمثيل لها بذلك غلط فاحش منه بلا شك ، وإيضاح ذلك أن كل شرطية كاذبة الشرط صادقة الجزاء عند إزالة الربط - لا بد أن يكون موجب ذلك فيها أحد أمرين لا ثالث لهما البتة .

وكلاهما يكون الصدق به من أجل أمر خاص لا يمكن وجود مثله في الآية الكريمة التي نحن بصددها ، بل هو مناقض لمعنى الآية .

والاستدلال بوجود أحد المتناقضين على وجود الآخر ضروري البطلان ، ونعني بأول الأمرين المذكورين كون الشرطية اتفاقية لا لزومية أصلا .

وبالثاني منهما كون الصدق المذكور من أجل خصوص المادة .

ومعلوم أن الصدق من أجل خصوص المادة لا عبرة به في العقليات ، وأنه في حكم الكذب لعدم اضطراده; لأنه يصدق في مادة ، ويكذب في أخرى .

والمعتبر إنما هو الصدق اللازم المضطرد ، الذي لا يختلف باختلاف المادة بحال .

ولا شك أن كل قضية شرطها محال لا يضطرد صدقها إلا إذا كان جزاؤها محالا خاصة .

فإن وجدت قضية باطلة الشرط صحيحة الجزاء ، فلا بد أن يكون ذلك ، لكونها اتفاقية ، أو لأجل خصوص المادة فقط .

فمثال وقوع ذلك لكونها اتفاقية قولك : إن كان زيد في السماء لم ينج من الموت .

فالشرط الذي هو كونه في السماء باطل ، والجزاء الذي هو كونه لم ينج من الموت صحيح .

وإنما صح هذا لكون هذه الشرطية اتفاقية .

ومعلوم أن الاتفاقية لا علاقة بين طرفيها أصلا ، فلا يقتضي ثبوت أحدهما ولا نفيه ثبوت الآخر ولا نفيه ، فلا ارتباط بين طرفيها في المعنى أصلا ، وإنما هو في اللفظ فقط .

فكون زيد في السماء لا علاقة له بعدم نجاته من الموت أصلا ، ولا ارتباط بينهما إلا في اللفظ ، فهو كقولك : إن كان الإنسان ناطقا فالفرس صاهل .

https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-22, 11:18 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (481)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 155 إلى صـ 162


وقد قدمنا إيضاح الفرق بين الشرطية اللزومية والشرطية الاتفاقية في سورة [ ص: 155 ] " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا [ 18 \ 57 ] فراجعه .

ومعلوم أن قوله : قل إن كان للرحمن ولد لم يقل أحد إنها شرطية اتفاقية ، ولم يدع أحد أنها لا علاقة بين طرفيها أصلا .

ومثال وقوع ذلك لأجل خصوص المادة فقط - ما مثل به الفخر الرازي لهذه الآية الكريمة ، مع عدم انتباهه لشدة المنافاة بين الآية الكريمة وبين ما مثل لها به ، فإنه لما قال : إن الشرط الذي هو إن كان للرحمن ولد باطل ، والجزاء الذي هو : فأنا أول العابدين صحيح .

مثل لذلك بقوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم ، يعني أن قوله : إن كان الإنسان حجرا شرط باطل ، فهو كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فكون الإنسان حجرا ، وكون الرحمن ذا ولد - كلاهما شرط باطل .

فلما صح الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم - دل ذلك على أن الجزاء الصحيح في قوله : فأنا أول العابدين يصح ترتيبه على الشرط الباطل الذي هو إن كان للرحمن ولد .

وهذا غلط فاحش جدا ، وتسوية بين المتنافيين غاية المنافاة ; لأن الجزاء المرتب على الشرط الباطل في قوله : إن كان الإنسان حجرا فهو جسم - إنما صدق لأجل خصوص المادة ، لا لمعنى اقتضاه الربط البتة .

وإيضاح ذلك أن النسبة بين الجسم والحجر ، والنسبة بين الإنسان والجسم - هي العموم والخصوص المطلق في كليهما .

فالجسم أعم مطلقا من الحجر ، والحجر أخص مطلقا من الجسم ، كما أن الجسم أعم من الإنسان أيضا عموما مطلقا ، والإنسان أخص من الجسم أيضا خصوصا مطلقا ; فالجسم جنس قريب للحجر ، وجنس بعيد للإنسان ، وإن شئت قلت : جنس متوسط له .

وإيضاح ذلك أن تقول في التقسيم الأول : الجسم إما نام ؛ أي يكبر تدريجا أو غير نام ، فغير النامي كالحجر مثلا ، ثم تقسم النامي تقسيما ثانيا ، فتقول : [ ص: 156 ] النامي إما حساس أو غير حساس ، فغير الحساس منه كالنبات .

ثم تقسم الحساس تقسيما ثالثا ، فتقول : الحساس إما ناطق أو غير ناطق ، والناطق منه هو الإنسان .

فاتضح أن كلا من الإنسان والحجر يدخل في عموم الجسم ، والحكم بالأعم على الأخص صادق في الإيجاب بلا نزاع ولا تفصيل .

فقولك : الإنسان جسم صادق في كل تركيب ، ولا يمكن أن يكذب بوجه ، وذلك للملابسة الخاصة بينهما من كون الجسم جنسا للإنسان ، وكون الإنسان فردا من أفراد أنواع الجسم ، فلأجل خصوص هذه الملابسة بينهما - كان الحكم على الإنسان بأنه جسم صادقا على كل حال ، سواء كان الحكم بذلك غير معلق على شيء ، أو كان معلقا على باطل أو حق .

فالاستدلال : يصدق هذا المثال على صدق الربط بين الشرط والجزاء في قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين بطلانه كالشمس في رابعة النهار .

والعجب كل العجب من عاقل يقوله; لأن المثال المذكور إنما صدق ؛ لأن الإنسان يشمله مسمى الجسم .

أما من كان له ولد فالنسبة بينه وبين المعبود الحق هي تباين المقابلة ; لأن المقابلة بين المعبود بحق وبين والد أو ولد هي المقابلة بين الشيء ومساوي نقيضه ; لأن من يولد أو يولد له لا يمكن أن يكون معبودا بحق بحال .

وإيضاح المنافاة بين الأمرين أنك لو قلت : الإنسان جسم - لقلت الحق ، ولو قلت : المولود له معبود ، أو المولود معبود - قلت الباطل الذي هو الكفر البواح .

ومما يوضح ما ذكرنا إجماع جميع النظار على أنه إن كانت إحدى مقدمتي الدليل باطلة ، وكانت النتيجة صحيحة - أن ذلك لا يكون إلا لأجل خصوص المادة فقط ، وأن ذلك الصدق لا عبرة به ، فحكمه حكم الكذب ، ولا يعتبر إلا الصدق اللازم المضطرد في جميع الأحوال .

فلو قلت مثلا : كل إنسان حجر ، وكل حجر جسم ; لأنتج من الشكل الأول كل [ ص: 157 ] إنسان جسم ، وهذه النتيجة في غاية الصدق كما ترى .

مع أن المقدمة الصغرى من الدليل التي هي قولك : كل إنسان حجر في غاية الكذب كما ترى .

وإنما صدقت النتيجة لخصوص المادة كما أوضحنا ، ولولا ذلك لكانت كاذبة ; لأن النتيجة لازم الدليل ، والحق لا يكون لازما للباطل ، فإن وقع شيء من ذلك فلخصوص المادة كما أوضحنا .

وبهذا التحقيق تعلم أن الشرط الباطل لا يلزم ، وتطرد صحة ربطه ، إلا بجزاء باطل مثله .

وما يظنه بعض أهل العلم من أن قوله - تعالى - : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك [ 10 \ 94 ] كقوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين - فهو غلط فاحش ، والفرق بين معنى الآيتين شاسع ، فظن استوائها في المعنى باطل .

وإيضاح ذلك أن قوله - تعالى - : فإن كنت في شك الآية ، معناه المقصود منه جار على الأسلوب العربي ، لا إبهام فيه ; لأنا أوضحنا سابقا أن مدار صدق الشرطية على صحة الربط بين شرطها وجزائها ، فهي صادقة ولو كذب طرفاها عند إزالة الربط كما تقدم إيضاحه قريبا .

فربط قوله : فإن كنت في شك بقوله : فاسأل الذين يقرءون الكتاب - ربط صحيح لا إشكال فيه ; لأن الشاك في الأمر شأنه أن يسأل العالم به عنه كما لا يخفى ، فهي قضية صادقة ، مع أن شرطها وجزاءها كلاهما باطل بانفراده ، فهي كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] فهي شرطية صادقة لصحة الربط بين طرفيها ، وإن كان الطرفان باطلين عند إزالة الربط .

أما قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين على القول بأن ( إن ) شرطية - لا تمكن صحة الربط بين شرطها وجزائها البتة ; لأن الربط بين المعبود وبين كونه والدا أو ولدا لا يصح بحال .

ولذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا أشك ، ولا أسأل أهل الكتاب " فنفى الطرفين [ ص: 158 ] مع أن الربط صحيح ، ولا يمكن أن ينفي - صلى الله عليه وسلم - هو ولا غيره الطرفين في الآية الأخرى ، فلا يقول هو ولا غيره : ليس له ولد ، ولا أعبده .

وعلى كل حال ، فالربط بين الشك وسؤال الشاك للعالم أمر صحيح ، بخلاف الربط بين العبادة وكون المعبود والدا أو ولدا ، فلا يصح .

فاتضح الفرق بين الآيتين ، وحديث : " لا أشك ولا أسأل أهل الكتاب " . رواه قتادة بن دعامة مرسلا .

وبنحوه قال بعض الصحابة فمن بعدهم ، ومعناه صحيح بلا شك .

وما قاله الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة يستغربه كل من رآه ; لقبحه وشناعته ، ولم أعلم أحدا من الكفار في ما قص الله في كتابه عنهم يتجرأ على مثله أو قريب منه ، وهذا مع عدم فهمه لما يقول وتناقض كلامه .

وسنذكر هنا كلامه القبيح للتنبيه على شناعة غلطه الديني واللغوي .

قال في الكشاف ما نصه : قل إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ، ( فأنا أول ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .

وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض ، وهو المبالغة في نفي الولد والإطناب فيه ، وألا يترك للناطق به شبهة إلا مضمحلة ، مع الترجمة عن نفسه بإثبات القدم في باب التوحيد ، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها ، فكان المعلق بها محالا مثلها ، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة ، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها .

ونظيره أن يقول العدلي للمجبر : إن كان الله - تعالى - خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول : هو شيطان ، وليس بإله .

فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفي أن يكون الله - تعالى - خالقا للكفر ، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه ، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا ، مع الدلالة على سماحة المذهب وضلالة الذاهب إليه ، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن [ ص: 159 ] نفسه بالبراءة منه ، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه .

ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير - رحمه الله - للحجاج حين قال له : أما والله لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى - : لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك .

وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد ، المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه ، فقيل : ( إن كان للرحمن ولد ) في زعمكم ( فأنا أول العابدين ) الموحدين لله المكذبين قولكم لإضافة الولد إليه . ا هـ

الغرض من كلام الزمخشري .

وفي كلامه هذا من الجهل بالله وشدة الجراءة عليه ، والتخبط والتناقض في المعاني اللغوية - ما الله عالم به .

ولا أظن أن ذلك يخفى على عاقل تأمله .

وسنبين لك ما يتضح به ذلك ; فإنه أولا قال : ( إن كان للرحمن ولد ) وضح ذلك ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها ( فأنا أول ) من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له ، كما يعظم الرجل ولد الملك لتعظيم أبيه .

فكلامه هذا لا يخفى بطلانه على عاقل ; لأنه على فرض صحة نسبة الولد إليه ، وقيام البرهان الصحيح والحجة الواضحة على أنه له ولد - فلا شك أن ذلك يقتضي أن ذلك الولد لا يستحق العبادة بحال ، ولو كان في ذلك تعظيم لأبيه ; لأن أباه مثله في عدم استحقاق العبادة ، والكفر بعبادة كل والد وكل مولود شرط في إيمان كل موحد ، فمن أي وجه يكون هذا الكلام صحيحا .

أما في اللغة العربية فلا يكون صحيحا البتة .

وما أظنه يصح في لغة من لغات العجم ; فالربط بين هذا الشرط وهذا الجزاء لا يصح بوجه .

فمعنى الآية عليه لا يصح بوجه ; لأن المعلق على المحال لا بد أن يكون محالا مثله .

[ ص: 160 ] والزمخشري في كلامه كلما أراد أن يأتي بمثال في الآية خارجا عنها اضطر إلى أن لا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا .

فضربه للآية المثل بقصة ابن جبير مع الحجاج - دليل واضح على ما ذكرنا وعلى تناقضه وتخبطه .

فإنه قال فيها : إن الحجاج قال لسعيد بن جبير : لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى .

قال سعيد للحجاج : لو علمت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك .

فهو يدل على أنه علق المحال على المحال ، ولو كان غير متناقض للمعنى الذي مثل له به الزمخشري لقال : لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله .

فقوله : لو علمت أن ذلك إليك في معنى قل إن كان للرحمن ولد ، فنسبة الولد والشريك إليه معناهما في الاستحالة وادعاء النقص واحد .

فلو كان سعيد يفهم الآية كفهمك الباطل لقال : لو علمت أن ذلك إليك لكنت أول العابدين لله .

ولكنه لم يقل هذا ; لأنه ليس له معنى صحيح يجوز المصير إليه .

وكذلك تمثيل الزمخشري للآية الكريمة في كلامه القبيح البشع الشنيع الذي يتقاصر عن التلفظ به كل كافر .

فقد اضطر فيه أيضا إلى ألا يعلق على المحال في زعمه إلا محالا شنيعا ; فإنه قال فيه : ونظيره أن يقول العدلي للمجبر : إن كان الله - تعالى - خالقا للكفر في القلوب ، ومعذبا عليه عذابا سرمدا ، فأنا أول من يقول هو شيطان ، وليس بإله .

فانظر قول هذا الضال في ضربه المثل في معنى هذه الآية الكريمة بقول الضال الذي يسميه العدلي : إن كان الله خالقا للكفر في القلوب . . . إلخ .

فخلق الله للكفر في القلوب وتعذيبه الكفار على كفرهم - مستحيل عنده كاستحالة نسبة الولد لله ، وهذا المستحيل في زعمه الباطل ، إنما علق عليه أفظع أنواع المستحيل [ ص: 161 ] وهو زعمه الخبيث أن الله إن كان خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه - فهو شيطان لا إله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - .

فانظر رحمك الله فظاعة جهل هذا الإنسان بالله ، وشدة تناقضه في المعنى العربي للآية .

لأنه جعل قوله : إن كان الله خالقا للكفر ومعذبا عليه بمعنى " إن كان للرحمن ولد " في أن الشرط فيهما مستحيل ، وجعل قوله في الله إنه شيطان لا إله - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا - .

كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنا أول العابدين .

فاللازم لكلامه أن يقول : لو كان خالقا للكفر فأنا أول العابدين له ، ولا يخفى أن الادعاء على الله أنه شيطان مناقض لقوله : فأنا أول العابدين .

وقد أعرضت عن الإطالة في بيان بطلان كلامه وشدة ضلاله وتناقضه ; لشناعته ووضوح بطلانه ، فهي عبارات مزخرفة ، وشقشقة لا طائل تحتها ، وهي تحمل في طياتها الكفر والجهل بالمعنى العربي للآية ، والتناقض الواضح ، وكم من كلام مليء بزخرف القول ، وهو عقيم لا فائدة فيه ، ولا طائل تحته كما قيل : وإني وإني ثم إني وإنني إذا انقطعت نعلي جعلت لها شسعا فظل يعمل أياما رويته وشبه الماء بعد الجهد بالماء

واعلم أن الكلام على القدر وخلق أفعال العباد ، قدمنا منه جملا كافية في هذه السورة الكريمة ، في الكلام على قوله - تعالى - : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] . ولا يخفى تصريح القرآن بأن الله - تعالى - خالق كل شيء ، كما قال - تعالى - : الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] . وقال - تعالى - : وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] . وقال : هل من خالق غير الله [ 35 \ 2 ] . وقال - تعالى - : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] .

فالإيمان بالقدر خيره وشره الذي هو من عقائد المسلمين جعله الزمخشري يقتضي أن لله شيطان - سبحان الله وتعالى عما يقوله الزمخشري علوا كبيرا - .

[ ص: 162 ] وجزى الزمخشري بما هو أهله .

الأمر الرابع : هو دلالة استقراء القرآن العظيم أن الله - تعالى - إذا أراد أن يفرض المستحيل ليبين الحق بفرضه - علقه أولا بالأداة التي تدل على عدم وجوده ، وهي لفظة ( لو ) ، ولم يعلق عليه البتة إلا محالا مثله ، كقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] . وقوله - تعالى - : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا الآية [ 21 \ 17 ] .

وأما تعليق ذلك بأداة لا تقتضي عدم وجوده كلفظة ( إن ) مع كون الجزاء غير مستحيل - فليس معهودا في القرآن .

ومما يوضح هذا المعنى الذي ذكرنا - المحاورة التي ذكرها جماعة من المفسرين ، التي وقعت بين النضر بن الحارث والوليد بن المغيرة ، وهي وإن كانت أسانيدها غير قائمة ، فإن معناها اللغوي صحيح .

وهي أن النضر بن الحارث كان يقول : الملائكة بنات الله ، فأنزل الله قوله - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد الآية .

فقال النضر للوليد بن المغيرة : ألا ترى أنه قد صدقني ؟

فقال الوليد : لا ، ما صدقك ، ولكنه يقول : ما كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ، أي الموحدين من أهل مكة المنزهين له عن الولد . فمحاورة هذين الكافرين ، العالمين بالعربية مطابقة لما قررنا .

لأن النضر قال : إن معنى الآية على أن ( إن ) شرطية مطابق لما يعتقده الكفار من نسبة الولد إلى الله ، وهو معنى محذور وأن الوليد قال : إن ( إن ) نافية ، وأن معنى الآية على ذلك هو مخالفة الكفار وتنزيه الله عن الولد .

وبجميع ما ذكرنا يتضح أن ( إن ) في الآية الكريمة نافية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-22, 11:20 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (482)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 163 إلى صـ 170

وذلك مروي عن ابن عباس والحسن والسدي وقتادة وابن زيد وزهير بن محمد وغيرهم .
[ ص: 163 ] تنبيه

اعلم أن ما قاله ابن جرير وغير واحد من أن القول بأن ( إن ) نافية - يلزمه إيهام المحذور الذي لا يجوز في حق الله .

قالوا : لأنه إن كان المعنى : ما كان لله ولد ; فإنه لا يدل على نفي الولد إلا في الماضي ، فللكفار أن يقولوا : إذا صدقت ، لم يكن له في الماضي ولد . ولكن الولد طرأ عليه بعد ذلك لما صاهر الجن ، وولدت له بناته التي هي الملائكة .

وإن هذا المحذور يمنع من الحمل على النفي لا شك في عدم صحته ; لدلالة الآيات القرآنية بكثرة على أن هذا الإيهام لا أثر له ولو كان له أثر لما كان الله يمدح نفسه بالثناء عليه بلفظة ( كان ) الدالة على خصوص الزمن الماضي في نحو قوله - تعالى - : وكان الله عزيزا حكيما [ 4 \ 158 ] . وكان الله عليما حكيما [ 4 \ 17 ] . وكان الله غفورا رحيما [ 4 \ 96 ] . وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 27 ] . إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] . إلى غير ذلك من الآيات التي يصعب حصرها .

فإن معنى كل تلك الآيات أنه كان ولم يزل .

فلو كان الكفار يقولون ذلك الذي زعموه الذي هو قولهم : صدقت ، ما كان له ولد في الماضي ، ولكنه طرأ له - لقالوا مثله في الآيات التي ذكرنا .

كأن يقولوا : كان عليما حكيما [ 4 \ 11 ] في الماضي ، ولكنه طرأ عليه عدم ذلك . وهكذا في جميع الآيات المذكورة ونحوها .

وأيضا فإن المحذور الذي زعموه لم يمنع من إطلاق نفي الكون الماضي في قوله - تعالى - : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] . وقوله : وما كنت متخذ المضلين عضدا [ 18 \ 51 ] . وقوله : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

ومن أوضحها في محل النزاع قوله - تعالى - : وما كان معه من إله الآية [ 23 \ 91 ] .

ولم يمنع من نفي القرآن للولد في الزمن الماضي في قوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد [ 23 \ 91 ] [ ص: 164 ] فإن الكفار لم يقولوا يوما ما : صدقت ، ما اتخذه في الماضي ، ولكنه طرأ عليه اتخاذه .

وكذلك في قوله : ولم يتخذ ولدا [ 17 \ 111 ] . وقوله : لم يلد [ 112 \ 3 ] ; لأن ( لم ) تنقل المضارع إلى معنى الماضي .

والكفار لم يقولوا يوما : صدقت ، لم يتخذ ولدا في الماضي ، ولكنه طرأ عليه اتخاذه ، ولم يقولوا : لم يلد في الماضي ، ولكنه ولد أخيرا .

والحاصل أن الكفار لم يقروا أن الله منزه عن الولد لا في الماضي ولا في الحال ، ولا في الاستقبال .

ومعلوم أن الولادة المزعومة حدث متحدد .

وبذلك تعلم أن ما زعموه من إيهام المحذور في كون ( إن ) في الآية نافية - لا أساس له ولا معول عليه ، وأن ما ادعوه من كونها شرطية ليس لها معنى في اللغة العربية ، إلا المعنى المحذور الذي لا يجوز في حق الله بحال .

واعلم أن كلام الفخر الرازي في هذه الآية الكريمة الذي يقتضي إمكان صحة الربط بين طرفيها على أنها شرطية لا شك في غلطه فيه .

وأما إبطاله لقول من قال : إن المعنى : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول العابدين له والمكذبين لكم في ذلك ، فهو إبطال صحيح ، وكلامه فيه في غاية الحسن والدقة ، وهو يقتضي إبطاله بنفسه ، لجميع ما كان يقرره في الآية الكريمة .

والحاصل أن كون معنى ( إن ) في الآية الكريمة هو النفي لا إشكال فيه ، ولا محذور ولا إيهام ، وأن الآيات القرآنية تشهد له لكثرة الآيات المطابقة لهذا المعنى في القرآن .

وأما كون معنى الآية الشرط والجزاء فلا يصح له معنى غير محذور في اللغة ، وليس له في كتاب الله نظير ، لإجماع أهل اللسان العربي على اختلاف المعنى في التعليق بإن والتعليق بلو .

لأن التعليق بـ ( لو ) يدل على عدم الشرط ، وعدم الشرط استلزم عدم المشروط بخلاف ( إن ) .

[ ص: 165 ] فالتعليق بها يدل على الشك في وجود الشرط بلا نزاع .

وما خرج عن ذلك من التعليق بها مع العلم بوجود الشرط أو العلم بنفيه ، فلأسباب أخر ، وأدلة خارجة ، ولا يجوز حملها على أحد الأمرين المذكورين ، إلا بدليل منفصل كما أوضحناه في غير هذا الموضع .
تنبيه

اعلم أن ما ذكرنا من أن ( لو ) تقتضي عدم وجود الشرط ، وأن ( إن ) تقتضي الشك فيه - لا يرد عليه قوله - تعالى - : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الآية [ 10 \ 94 ] . كما أشرنا له قريبا .

لأن التحقيق أن الخطاب في قوله : ( فإن كنت في شك ) خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به من يمكن أن يشك في ذلك من أمته .

وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تجعل مع الله إلها آخر الآية [ 17 \ 22 ] - دلالة القرآن الصريحة على أنه - صلى الله عليه وسلم - يتوجه إليه الخطاب من الله ، والمراد به التشريع لأمته ، ولا يراد هو - صلى الله عليه وسلم - البتة بذلك الخطاب .

وقدمنا هناك أن من أصرح الآيات القرآنية في ذلك قوله - تعالى - : وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] . فالتحقيق أن الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - والمراد أمته لا هو نفسه ; لأنه هو المشرع لهم بأمر الله .

وإيضاح ذلك أو معنى : إما يبلغن عندك الكبر أي إن يبلغ عندك الكبر يا نبي الله والداك أو أحدهما ، فلا تقل لهما : أف .

ومعلوم أن أباه مات وهو حمل ، وأمه ماتت وهو في صباه ، فلا يمكن أن يكون المراد : إن يبلغ الكبر عندك هما أو أحدهما ، والواقع أنهما قد ماتا قبل ذلك بأزمان .

وبذلك يتحقق أن المراد بالخطاب غيره من أمته الذي يمكن إدراك والديه أو أحدهما الكبر عنده .

وقد قدمنا أن مثل هذا أسلوب عربي معروف ، وأوردنا شاهدا لذلك ؛ رجز سهل بن مالك الفزاري في قوله : [ ص: 166 ]

يا أخت خير البدو والحضاره كيف ترين في فتى فزاره أصبح يهوى حرة معطاره
إياك أعني واسمعي يا جاره

وقد بسطنا القصة هناك ، وبينا أن قول من قال : إن الخطاب في قوله - تعالى - : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما الآية [ 17 \ 23 ] لكل من يصح خطابه من أمته - صلى الله عليه وسلم - لا له هو نفسه - باطل ; بدليل قوله - تعالى - بعده في سياق الآيات : ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة الآية [ 17 \ 39 ] .

والحاصل أن آية : فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الآية [ 10 \ 94 ] لا ينقض بها الضابط الذي ذكرنا ; لأنها كقوله : لا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 22 ] . لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] . فلا تكونن من الممترين [ 10 \ 94 ] . ولا تطع الكافرين والمنافقين [ 33 \ 48 ] . ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

ومعلوم أنه هو - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل شيئا من ذلك البتة ، ولكنه يؤمر وينهى ليشرع لأمته على لسانه .

وبذلك تعلم اطراد الضابط الذي ذكرنا في لفظة لو ، ولفظة إن ، وأنه لا ينتقض بهذه الآية .

هذا ما ظهر لنا في هذه الآية الكريمة ، ولا شك أنه لا محذور فيه ولا غرر ولا إيهام ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون .

قد قدمنا معنى لفظة سبحان ، وما تدل عليه من تنزيه الله عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، وإعراب لفظة سبحان مع بعض الشواهد العربية في أول سورة " بني إسرائيل " .

ولما قال - تعالى - : قل إن كان للرحمن ولد الآية - نزه نفسه تنزيها تاما عما يصفونه به من نسبة الولد إليه ، مبينا أن رب السماوات والأرض ورب العرش - جدير بالتنزيه عن الولد ، وعن كل ما لا يليق بكماله وجلاله .

[ ص: 167 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من أنه لما ذكر وصف الكفار له بما لا يليق به ، نزه نفسه عن ذلك معلما خلقه في كتابه أن ينزهوه عن كل ما لا يليق به - جاء مثله موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ما اتخذ الله من ولد إلى قوله - تعالى - : سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون [ 23 \ 91 - 92 ] . وقوله - تعالى - : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ 17 \ 42 - 43 ] . وقوله - تعالى - : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون [ 21 \ 22 ] . وقوله - تعالى - : سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا [ 4 \ 171 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الحجر " في الكلام على قوله - تعالى - : ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل الآية [ 15 \ 3 ] .
قوله - تعالى - : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] .
قوله - تعالى - : وعنده علم الساعة .

قد بينا الآيات الموضحة في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو الآية [ 6 \ 59 ] .

وفي " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو الآية [ 7 \ 178 ] وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يقبل منها شفاعة الآية [ 2 \ 48 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
[ ص: 168 ] قوله - تعالى - : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " بني " إسرائيل في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
قوله - تعالى - : وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون .

قرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، والكسائي - : ( وقيله ) بفتح اللام وضم الهاء ، وقرأه عاصم وحمزة : ( وقيله ) بكسر اللام والهاء .

قال بعض العلماء : إعرابه بأنه عطف محل على ( الساعة ) لأن قوله - تعالى - : وعنده علم الساعة [ 43 \ 85 ] - مصدر مضاف إلى مفعوله .

فلفظ الساعة مجرور لفظا بالإضافة ، منصوب محلا بالمفعولية ، وما كان كذلك جاز في تابعه النصب نظرا إلى المحل ، والخفض نظرا إلى اللفظ ، كما قال في الخلاصة : وجر ما يتبع ما جر ومن راعى في الاتباع المحل فحسن

وقال في نظيره في الوصف : واخفض أو انصب تابع الذي انخفض كمبتغي جاه ومالا من نهض

وقال بعضهم : هو معطوف على سرهم [ 43 \ 80 ] .

وعليه فالمعنى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم [ 43 \ 80 ] . وقيله يارب الآية .

وقال بعضهم : هو منصوب على أنه مفعول مطلق .

أي ، وقال : قيله ، وهو بمعنى قوله ، إلا أن القاف لما كسرت أبدلت الواو ياء لمجانسة الكسرة .

قالوا : ونظير هذا الإعراب قول كعب بن زهير

: تمشي الوشاة جنابيها وقيلهم إنك يا بن أبي سلمى لمقتول

أي ويقولون قيلهم .

[ ص: 169 ] وقال بعضهم : هو منصوب بيعلم محذوفة ; لأن العطف الذي ذكرنا على قوله : سرهم ، والعطف على ( الساعة ) يقال فيه : إنه يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يصلح لكونه اعتراضا ، وتقدير الناصب إذا دل المقام عليه لا إشكال فيه . كما قال في الخلاصة : ويحذف الناصبها إن علما وقد يكون حذفه ملتزما

وأما على قراءة الخفض فهو معطوف على الساعة ، أي وعنده علم الساعة ، وعلم ( قيله يا رب ) .

واختار الزمخشري أنه مخفوض بالقسم ، ولا يخفى بعده كما نبه عليه أبو حيان .

والتحقيق أن الضمير في ( قيله ) للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

والدليل على ذلك أن قوله بعد : فاصفح عنهم وقل سلام [ 43 \ 89 ] - خطاب له - صلى الله عليه وسلم - بلا نزاع ، فادعاء أن الضمير في ( قيله ) لعيسى لا دليل عليه ولا وجه له .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من شكواه - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه عدم إيمان قومه - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 ] . وذكر مثله عن موسى في قوله - تعالى - في " الدخان " : فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون [ 44 \ 22 ] . وعن نوح قوله - تعالى - : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا [ 71 \ 5 - 6 ] . إلى آخر الآيات .
قوله - تعالى - : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون .

قرأ هذا الحرف ابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي - : ( فسوف يعلمون ) بياء الغيبة ، وقرأ نافع وابن عامر : ( فسوف تعلمون ) بتاء الخطاب .

وهذه الآية الكريمة تضمنت ثلاثة أمور : الأول : أمره - صلى الله عليه وسلم - بالصفح عن الكفار .

والثاني : أن يقول لهم سلام .

[ ص: 170 ] والثالث : تهديد الكفار بأنهم سيعلمون حقيقة الأمر وصحة ما يوعد به الكافر من عذاب النار .

وهذه الأمور الثلاثة جاءت موضحة في غير هذا الموضع ؛ كقوله - تعالى - في الأول : وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل [ 15 \ 85 ] . وقوله - تعالى - : ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم [ 22 \ 48 ] .

والصفح : الإعراض عن المؤاخذة بالذنب .

قال بعضهم : وهو أبلغ من العفو .

قالوا : لأن الصفح أصله مشتق من صفحة العنق ، فكأنه يولي المذنب بصفحة عنقه معرضا عن عتابه فما فوقه .

وأما الأمر الثاني : فقد بين - تعالى - أنه هو شأن عباده الطيبين .

ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - سيدهم ، كما قال - تعالى - : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 \ 63 ] . وقال - تعالى - : وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين [ 28 \ 55 ] . وقال عن إبراهيم : إنه قال له أبوه : لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا [ 19 \ 46 ] . قال له : سلام عليك [ 19 \ 47 ] .

ومعنى السلام في الآيات المذكورة إخبارهم بسلامة الكفار من أذاهم ، ومن مجازاتهم لهم بالسوء ، أي سلمتم منا لا نسافهكم ، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا .

وأما الأمر الثالث الذي هو تهديد الكفار بأنهم سيعلمون الحقيقة - قد جاء موضحا في آيات كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ولتعلمن نبأه بعد حين [ 38 \ 88 ] . وقوله - تعالى - : لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون [ 6 \ 67 ] . وقوله : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون [ 78 \ 4 - 5 ] . وقوله - تعالى - : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون [ 102 \ 3 - 4 ] . وقوله - تعالى - : لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 6 - 7 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-22, 11:23 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (483)
سُورَةُ الزُّخْرُفِ
صـ 171 إلى صـ 178


[ ص: 171 ] وكثير من أهل العلم يقول : إن قوله - تعالى - : فاصفح عنهم وما في معناه - منسوخ بآيات السيف ، وجماعات من المحققين يقولون : هو ليس بمنسوخ .

والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال والصفح عن الجهلة والإعراض عنهم - وصف كريم ، وأدب سماوي ، لا يتعارض مع ذلك ، والعلم عند الله - تعالى - .
[ ص: 172 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الدُّخَانِ

قَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ .

أَبْهَمَ - تَعَالَى - هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هُنَا ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهَا هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [ 97 \ 1 ] وَبَيَّنَ كَوْنَهَا ( مُبَارَكَةٍ ) الْمَذْكُورَةَ هُنَا فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [ 97 \ 3 ] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ .

فَقَوْلُهُ : فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ أَيْ كَثِيرَةِ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ .

وَلَا شَكَّ أَنَّ لَيْلَةً هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، إِلَى آخِرِ الصِّفَاتِ الَّتِي وُصِفَتْ بِهَا فِي سُورَةِ " الْقَدْرِ " - كَثِيرَةُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ جِدًّا .

وَقَدْ بَيَّنَ - تَعَالَى - أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [ 2 \ 185 ] .

فَدَعْوَى أَنَّهَا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِ ، لَا شَكَّ فِي أَنَّهَا دَعْوَى بَاطِلَةٌ لِمُخَالَفَتِهَ ا لِنَصِّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحِ .

وَلَا شَكَّ كُلُّ مَا خَالَفَ الْحَقَّ فَهُوَ بَاطِلٌ .

وَالْأَحَادِيثُ - الَّتِي يُورِدُهَا بَعْضُهُمْ فِي أَنَّهَا مِنْ شَعْبَانَ - الْمُخَالِفَةُ لِصَرِيحِ الْقُرْآنِ - لَا أَسَاسَ لَهَا ، وَلَا يَصِحُّ سَنَدُ شَيْءٍ مِنْهَا ، كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُحَقِّقِينَ .

فَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ مُسْلِمٍ يُخَالِفُ نَصَّ الْقُرْآنِ الصَّرِيحَ بِلَا مُسْتَنَدِ كِتَابٍ ، وَلَا سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ .
قوله - تعالى - : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا .

معنى قوله : يفرق ، أي يفصل ويبين ، ويكتب في الليلة المباركة التي هي ليلة القدر - كل أمر حكيم ، أي ذي حكمة بالغة ; لأن كل ما يفعله الله مشتمل على أنواع الحكم الباهرة .

وقال بعضهم : حكيم ، أي محكم ، لا تغيير فيه ولا تبديل .

[ ص: 173 ] وكلا الأمرين حق ; لأن ما سبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل ، ولأن جميع أفعاله في غاية الحكمة .

وهي في الاصطلاح وضع الأمور في مواضعها وإيقاعها في مواقعها .

وإيضاح معنى الآية أن الله - تبارك وتعالى - في كل ليلة قدر من السنة يبين للملائكة ويكتب لهم بالتفصيل والإيضاح جميع ما يقع في تلك السنة إلى ليلة القدر من السنة الجديدة .

فتبين في ذلك الآجال والأرزاق ، والفقر والغنى ، والخصب والجدب والصحة والمرض ، والحروب والزلازل ، وجميع ما يقع في تلك السنة كائنا ما كان .

قال الزمخشري في الكشاف : ومعنى ( يفرق ) يفصل ويكتب كل أمر حكيم من أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم فيها إلى الأخرى القابلة . إلى أن قال : فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى جبرائيل ، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت ا هـ محل الغرض منه بلفظه .

ومرادنا بيان معنى الآية ، لا التزام صحة دفع النسخ المذكورة للملائكة المذكورين ; لأنا لم نعلم له مستندا .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، يدل أيضا على أن الليلة المباركة هي ليلة القدر ; فهو بيان قرآني آخر .

وإيضاح ذلك أن معنى قوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر أي في ليلة التقدير لجميع أمور السنة ، من رزق وموت ، وحياة وولادة ، ومرض وصحة ، وخصب وجدب ، وغير ذلك من جميع أمور السنة .

قال بعضهم : حتى إن الرجل لينكح ويتصرف في أموره ويولد له ، وقد خرج اسمه في الموتى في تلك السنة .

وعلى هذا التفسير الصحيح لليلة القدر ، فالتقدير المذكور هو بعينه المراد بقوله : فيها يفرق كل أمر حكيم .

[ ص: 174 ] وقد قدمنا في سورة " الأنبياء " في الكلام على قوله - تعالى - : فظن أن لن نقدر عليه [ 21 \ 87 ] - أن قدر بفتح الدال مخففا يقدر ، ويقدر بالكسر والضم كيضرب وينصر قدرا بمعنى قدر تقديرا ، وأن ثعلبا أنشد لذلك قول الشاعر :

فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبدا ما أروق السلم النضر ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر

وبينا هناك ، أن ذلك هو معنى ليلة القدر ; لأن الله يقدر فيها وقائع السنة .

وبينا أن ذلك هو معنى قوله - تعالى - : فيها يفرق كل أمر حكيم وأوضحنا هناك أن القدر بفتح الدال ، والقدر بسكونها - هما ما يقدره الله من قضائه ، ومنه قول هدبة بن الخشرم :

ألا يا لقومي للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري


واعلم أن قول من قال : إنما سميت ليلة القدر لعظمها وشرفها على غيرها من الليالي من قولهم : فلان ذو قدر ، أي ذو شرف ومكانة رفيعة - لا ينافي القول الأول ; لاتصافها بالأمرين معا ، وصحة وصفها بكل منهما ، كما أوضحنا مثله مرارا .

واختلف العلماء في إعراب قوله : أمرا من عندنا . قال بعضهم : هو مصدر منكر في موضع الحال ، أي أنزلناه في حال كوننا آمرين به .

وممن قال بهذا الأخفش .

وقال بعضهم : هو ما ناب عن المطلق من قوله : ( أنزلناه ) ، وجعل ( أمرا ) بمعنى : إنزالا .

وممن قال به المبرد .

وقال بعضهم هو ما ناب عن المطلق من ( يفرق ) ، فجعل ( أمرا ) بمعنى فرقا ، أو فرق بمعنى ( أمرا ) .

وممن قال بهذا الفراء والزجاج .

وقال بعضهم هو حال من ( أمرا ) ، أي ( يفرق فيها بين كل أمر حكيم ) في حال [ ص: 175 ] كونه ( أمرا من عندنا ) وهذا الوجه جيد ظاهر ، وإنما ساغ إتيان الحال من النكرة وهي متأخرة عنها ; لأن النكرة التي هي ( أمر ) وصفت بقوله ( حكيم ) كما لا يخفى .

وقال بعضهم ( أمرا ) مفعول به لقوله : ( منذرين ) [ 44 \ 3 ] . وقيل غير ذلك .

واختار الزمخشري أنه منصوب بالاختصاص ، فقال : جعل كل أمر جزلا فخما ، بأن وصفه بالحكيم ، ثم زاده جزالة وأكسبه فخامة ، بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا ، كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا ، وهذا الوجه أيضا ممكن ، والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : إنا كنا مرسلين رحمة من ربك .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا الآية [ 18 \ 65 ] . وفي سورة " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها الآية [ 35 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون .

هذا الذي ادعوه على النبي - صلى الله عليه وسلم - افتراء ، من أنه معلم ، يعنون أن هذا القرآن علمه إياه بشر ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - مجنون - قد بينا الآيات الموضحة لإبطاله .

أما دعواهم أنه معلم فقد قدمنا الآيات الدالة على تلك الدعوى في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر [ 16 \ 103 ] . وفي سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون إلى قوله فهي تملى عليه بكرة وأصيلا [ 25 \ 4 - 5 ] .

وبينا الآيات الموضحة لافترائهم وتعنتهم في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين [ 16 \ 103 ] .

وفي الفرقان في الكلام على قوله - تعالى - : فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها الآية [ 25 \ 4 - 5 ] .

وأما دعواهم أنه مجنون ، فقد قدمنا الآيات الموضحة لها ولإبطالها في سورة " قد [ ص: 176 ] أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق الآية [ 23 \ 70 ] .
قوله - تعالى - : وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلي عباد الله .

الرسول الكريم هو موسى ، والآيات الدالة على أن موسى هو الذي أرسل لفرعون وقومه - كثيرة ومعروفة .

وقوله : أدوا إلي أي سلموا إلي عباد الله ، يعني بني إسرائيل ، وأرسلوهم معي .

فقوله : عباد الله مفعول به لقوله : أدوا .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن موسى طلب من فرعون أن يسلم له بني إسرائيل ويرسلهم معه - جاء موضحا في آيات أخر ، مصرحا فيها بأن عباد الله هم بنو إسرائيل ، كقوله - تعالى - في " طه " : فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم [ 20 \ 47 ] . وقوله - تعالى - في " الشعراء " : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل الآية [ 26 \ 16 - 17 ] .

والتحقيق أن ( أن ) في قوله : أن أدوا هي المفسرة ; لأن مجيء الرسول يتضمن معنى القول ، لا المخففة من الثقيلة ، وأن قوله : عباد الله مفعول به كما ذكرنا ، وكما أوضحته آية " طه " وآية " الشعراء " لا منادى مضاف .
قوله - تعالى - : وإني عذت بربي وربكم .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب [ 40 \ 27 ] .
وله - تعالى - : كذلك وأورثناها قوما آخرين .

لم يبين هنا من هؤلاء القوم الذين أورثهم ما ذكره هنا ، ولكنه بين في سورة " الشعراء " أنهم بنو إسرائيل ، وذلك في قوله - تعالى - : كذلك وأورثناها بني إسرائيل الآية [ ص: 177 ] [ 26 \ 59 ] كما تقدم في الترجمة ، وفي " الأعراف " .
قوله - تعالى - : ولقد نجينا بني إسراءيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه نجى بني إسرائيل من العذاب المهين الذي كان يعذبهم به فرعون وقومه - جاء موضحا في آيات أخر ، مصرحا فيها بأنواع العذاب المذكور ، كقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم إلى قوله : وأنتم تنظرون [ 2 \ 49 - 50 ] . وقوله في " الأعراف " : وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم الآية [ 7 \ 141 ] . وقوله - تعالى - في " المؤمن " : فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه الآية [ 40 \ 25 ] . وقوله - تعالى - عن " إبراهيم " : وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم الآية [ 14 \ 16 ] .

وقوله في " الشعراء " : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل [ 26 \ 22 ] فتعبيده إياهم من أنواع عذابه لهم ، إلى غير ذلك من الآيات .

وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، من أن فرعون كان عاليا من المسرفين - أوضحه أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " يونس " : وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين [ 10 \ 83 ] . وقوله - تعالى - في أول " القصص " : إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين [ 28 \ 4 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم .

قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الحج " في الكلام على قوله - تعالى - : يصب من فوق رءوسهم الحميم [ 22 \ 19 ] .

[ ص: 178 ] وقد تركنا إحالات متعددة بينا فيها بعض آيات سورة " الدخان " هذه ، خشية الإطالة بكثرة الإحالة .
قوله - تعالى - : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون .

قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين الآية [ 19 \ 97 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-22, 11:26 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (484)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 179 إلى صـ 186



[ ص: 179 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْجَاثِيَةِ

قَوْلُهُ - تَعَالَى - : إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .

ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ ، مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ " الْجَاثِيَةِ " - سِتَّةَ بَرَاهِينَ مِنْ بَرَاهِينِ التَّوْحِيدِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ ، وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ ، وَأَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ - تَعَالَى - .

الْأَوَّلُ مِنْهَا : خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ .

الثَّانِي : خَلْقُهُ النَّاسَ .

الثَّالِثُ : خَلْقُهُ الدَّوَابَّ .

الرَّابِعُ : اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ .

الْخَامِسُ : إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ .

السَّادِسُ : تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ .

وَذَكَرَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينَ إِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ الْمُوقِنُونَ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ عَنِ اللَّهِ حُجَجَهُ وَآيَاتِهِ ، فَكَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُخْتَصُّونَ بِهَا دُونَ غَيْرِهِمْ .

وَلِذَا قَالَ : لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ قَالَ : آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، ثُمَّ قَالَ : آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .

وَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ السِّتَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ - جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ جِدًّا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ .

[ ص: 180 ] أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ 50 \ 6 - 8 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 34 \ 9 ] . وَقَوْلِهِ : قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [ 10 \ 101 ] . وَقَوْلِهِ : أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 158 ] . وَقَوْلِهِ : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 30 \ 22 ] فِي " الرُّومِ " وَ " الشُّورَى " [ 42 \ 29 ] . وَقَوْلِهِ : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [ 40 \ 64 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً [ 40 \ 64 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ [ 51 \ 47 - 48 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا إِلَى قَوْلِهِ : وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا [ 78 \ 6 - 12 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا مَعْرُوفَةٌ .

وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ النَّاسَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَفِي خَلْقِكُمْ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ . [ 30 \ 20 ] . وَقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْآيَةَ [ 2 \ 21 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ : مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [ 71 \ 13 - 14 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [ 39 \ 6 ] . وَقَوْلِهِ : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [ 51 \ 21 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ .

وَأَمَّا الثَّالِثُ مِنْهَا ، وَهُوَ خَلْقُهُ الدَّوَابَّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ فَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَيْضًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ " الشُّورَى " : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [ 42 \ 29 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ الْآيَةَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ [ ص: 181 ] مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 39 \ 6 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [ 39 \ 6 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ وَمَعْلُومَةٌ .

وَأَمَّا الرَّابِعُ مِنْهَا ، وَهُوَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ : لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " آلِ عِمْرَانَ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [ 3 \ 190 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " فُصِّلَتْ " : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الْآيَةَ [ 41 \ 37 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا الْآيَةَ [ 36 \ 37 - 38 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [ 24 \ 44 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [ 28 \ 71 - 73 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [ 23 \ 80 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .

وَأَمَّا الْخَامِسُ مِنْهَا ، وَهُوَ إِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ بِهِ ، وَإِنْبَاتُ الرِّزْقِ فِيهَا ، الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي " الْبَقَرَةِ " : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِلَى قَوْلِهِ : لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا إِلَى قَوْلِهِ : مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُ مْ [ 80 \ 24 - 32 ] .

[ ص: 182 ] وَإِيضَاحُ هَذَا الْبُرْهَانِ بِاخْتِصَارٍ أَنَّ قَوْلَهُ - تَعَالَى - : فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ - أَمْرٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لِكُلِّ إِنْسَانٍ مُكَلَّفٍ أَنْ يَنْظُرَ وَيَتَأَمَّلَ فِي طَعَامِهِ ، كَالْخَبْزِ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَعِيشُ بِهِ ، مِنْ خَلْقِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ سَبَبًا لِنَبَاتِهِ .

هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَخْلُقَهُ ؟

الْجَوَابُ : لَا .

ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ بِالْفِعْلِ ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنْزِلَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ النَّفْعُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِإِنْزَالِهِ عَلَى الْأَرْضِ رَشًّا صَغِيرًا ، حَتَّى تُرْوَى بِهِ الْأَرْضُ تَدْرِيجًا ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ بِهِ هَدْمٌ وَلَا غَرَقٌ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ [ 24 \ 43 ] ؟ .

الْجَوَابُ : لَا .

ثُمَّ هَبْ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ خُلِقَ فِعْلًا ، وَأُنْزِلَ فِي الْأَرْضِ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ الْأَتَمِّ الْأَكْمَلِ ، هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَشُقَّ الْأَرْضَ وَيُخْرِجَ مِنْهَا مِسْمَارَ النَّبَاتِ ؟

الْجَوَابُ : لَا .

ثُمَّ هَبْ أَنَّ النَّبَاتَ خَرَجَ مِنَ الْأَرْضِ ، وَانْشَقَّتْ عَنْهُ ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُخْرِجَ السُّنْبُلَ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ ؟

الْجَوَابُ : لَا .

ثُمَّ هَبْ أَنَّ السُّنْبُلَ خَرَجَ مِنَ النَّبَاتِ ، فَهَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يُنَمِّيَ حَبَّهُ وَيَنْقُلَهُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ حَتَّى يُدْرَكَ وَيَكُونَ صَالِحًا لِلْغِذَاءِ وَالْقُوتِ ؟

الْجَوَابُ : لَا .

وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى - : انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ 6 \ 99 ] . وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا [ 78 \ 14 - 16 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ [ 36 \ 33 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .

[ ص: 183 ] وَاعْلَمْ أَنَّ إِطْلَاقَهُ - تَعَالَى - الرِّزْقَ عَلَى الْمَاءِ فِي آيَةِ " الْجَاثِيَةِ " هَذِهِ - قَدْ أَوْضَحْنَا وَجْهَهُ فِي سُورَةِ " الْمُؤْمِنِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا الْآيَةَ [ 40 \ 13 ] .

وَأَمَّا السَّادِسُ مِنْهَا ، وَهُوَ تَصْرِيفُ الرِّيَاحِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ - فَقَدْ جَاءَ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِهِ فِي " الْبَقَرَةِ " : وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ [ 30 \ 46 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [ 15 \ 22 ] . إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
تنبيه

اعلم أن هذه البراهين العظيمة المذكورة في أول سورة " الجاثية " هذه - ثلاثة منها من براهين البعث التي يكثر في القرآن العظيم الاستدلال بها على البعث ، كثرة مستفيضة .

وقد أوضحناها في مواضع من هذا الكتاب المبارك في سورة " البقرة " وسورة " النحل " وغيرهما ، وأحلنا عليها مرارا كثيرة في هذا الكتاب المبارك ، وسنعيد طرفا منها هنا لأهميتها إن شاء الله - تعالى - .

والأول من البراهين المذكورة : هو خلق السماوات والأرض المذكور هنا في سورة " الجاثية " هذه إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ، لأن خلقه - جل وعلا - للسماوات والأرض - من أعظم البراهين على بعث الناس بعد الموت ; لأن من خلق الأعظم الأكبر لا شك في قدرته على خلق الأضعف الأصغر .

والآيات الدالة على هذا كثيرة ، كقوله - تعالى - : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] أي ومن قدر على خلق الأكبر فلا شك أنه قادر على خلق الأصغر ، وقوله - تعالى - : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم [ 36 \ 81 ] . وقوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير [ 46 \ 33 ] . وقوله - تعالى - : [ ص: 184 ] أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم الآية [ 17 \ 99 ] . وقوله - تعالى - : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 27 - 33 ] .

ونظير آية " النازعات " هذه قوله - تعالى - في أول " الصافات " : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا الآية [ 37 \ 11 ] ; لأن قوله : أم من خلقنا يشير به إلى خلق السماوات والأرض وما ذكر معهما المذكور في قوله - تعالى - : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق إلى قوله فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 5 - 10 ] .

وأما الثاني من البراهين المذكورة : فهو خلقه - تعالى - للناس المرة الأولى ; لأن من ابتدع - خلقهم على غير مثال سابق - لا شك في قدرته على إعادة خلقهم مرة أخرى ، كما لا يخفى .

والاستدلال بهذا البرهان على البعث كثير جدا في كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] إلى آخر الآيات .

وقوله - تعالى - : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] . وقوله - تعالى - : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا فوربك لنحشرنهم والشياطين الآية [ 19 \ 66 - 68 ] . وقوله - تعالى - : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الآية [ 30 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] . وقوله - تعالى - : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] . وقوله - تعالى - : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] . وقوله - تعالى - : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى [ 53 \ 45 - 47 ] . وقوله - تعالى - : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] . وقوله - تعالى - : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ ص: 185 ] إلى قوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 1 - 7 ] يعني أي شيء يحملك على التكذيب بالدين - أي بالبعث والجزاء - وقد علمت أني خلقتك الخلق الأول في أحسن تقويم ، وأنت تعلم أنه لا يخفى على عاقل أن من ابتدع الإيجاد الأول لا شك في قدرته على إعادته مرة أخرى . إلى غير ذلك من الآيات .

وأما البرهان الثالث منها ، وهو إحياء الأرض بعد موتها المذكور في قوله - تعالى - في سورة " الجاثية " هذه : وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها ، فإنه يكثر الاستدلال به أيضا على البعث في القرآن العظيم ; لأن من أحيا الأرض بعد موتها قادر على إحياء الناس بعد موتهم ; لأن الجميع أحياء بعد موت .

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير [ 41 \ 39 ] . وقوله - تعالى - : وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 5 - 7 ] . وقوله - تعالى - : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] . وقوله - تعالى - : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] .

فقوله - تعالى - : كذلك نخرج الموتى أي نبعثهم من قبورهم أحياء كما أخرجنا تلك الثمرات بعد عدمها ، وأحيينا بإخراجها ذلك البلد الميت ، وقوله - تعالى - : يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون [ 30 \ 19 ] يعني تخرجون من قبوركم أحياء بعد الموت . وقوله - تعالى - : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج [ 50 \ 11 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق .

أشار - جل وعلا - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى آيات هذا القرآن العظيم ، وبين لنبيه أنه يتلوها عليه متلبسة بالحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه .

[ ص: 186 ] وما ذكره - جل وعلا - في آية " الجاثية " هذه - ذكره في آيات أخر بلفظه ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين [ 2 \ 251 - 252 ] . وقوله - تعالى - في " آل عمران " : وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين [ 3 \ 107 - 108 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : تلك - بمعنى هذه .

ومن أساليب اللغة العربية إطلاق الإشارة إلى البعيد على الإشارة إلى القريب ، كقوله : ذلك الكتاب [ 2 \ 2 ] بمعنى : هذا الكتاب . كما حكاه البخاري عن أبي عبيدة معمر بن المثنى ، ومن شواهده قول خفاف بن ندبة السلمي :

فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا أنني أنا ذلكا

يعني أنا هذا .

وقد أوضحنا هذا المبحث ، وذكرنا أوجهه في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) - في أول سورة " البقرة " ، وقوله - تعالى - : نتلوها أي نقرؤها عليك .

وأسند - جل وعلا - تلاوتها إلى نفسه ; لأنها كلامه الذي أنزله على رسوله بواسطة الملك ، وأمر الملك أن يتلوه عليه مبلغا عنه - جل وعلا - .

ونظير ذلك قوله - تعالى - : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه [ 75 \ 16 - 19 ] .

فقوله : فإذا قرأناه ، أي قرأه عليك الملك المرسل به من قبلنا مبلغا عنا ، وسمعته منه ، فاتبع قرآنه ، أي فاتبع قراءته واقرأه كما سمعته يقرؤه .

وقد أشار - تعالى - إلى ذلك في قوله : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-22, 11:29 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (485)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 187 إلى صـ 194


وسماعه - صلى الله عليه وسلم - القرآن من الملك المبلغ عن الله كلام الله وفهمه له - هو معنى تنزيله إياه [ ص: 187 ] على قلبه في قوله - تعالى - : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله [ 2 \ 97 ] . وقوله - تعالى - : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 192 - 195 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية : تلك آيات الله [ 45 \ 6 ] يعني آياته الشرعية الدينية .

واعلم أن لفظ الآية يطلق في اللغة العربية إطلاقين ، وفي القرآن العظيم إطلاقين أيضا .

أما إطلاقاه في اللغة العربية :

فالأول منهما - وهو المشهور في كلام العرب - فهو إطلاق الآية بمعنى العلامة ، وهذا مستفيض في كلام العرب ، ومنه قول نابغة ذبيان :

توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع


ثم بين أن مراده بالآيات علامات الدار في قوله بعده :



رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع


وأما الثاني منهما فهو إطلاق الآية بمعنى الجماعة ، يقولون : جاء القوم بآيتهم ، أي بجماعتهم .

ومنه قول برج بن مسهر :

خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا


وقوله : بآياتنا ، يعني بجماعتنا .

وأما إطلاقاه في القرآن العظيم : فالأول منهما : إطلاق الآية على الشرعية الدينية ، كآيات هذا القرآن العظيم ، ومنه قوله هنا : تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الآية .

وأما الثاني منهما : فهو إطلاق الآية على الآية الكونية القدرية ، كقوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب [ 3 \ 190 ] .

أما الآية الكونية القدرية فهي بمعنى الآية اللغوية التي هي العلامة ; لأن الآيات الكونية علامات قاطعة ، على أن خالقها هو الرب المعبود وحده .

[ ص: 188 ] وأما الآية الشرعية الدينية ، فقال بعض العلماء : إنها أيضا من الآية التي هي العلامة ; لأن آيات هذا القرآن العظيم - علامات على صدق من جاء بها ، لما تضمنته من برهان الإعجاز ، أو لأن فيها علامات يعرف بها مبدأ الآيات ومنتهاها .

وقال بعض العلماء : إنها من الآية بمعنى الجماعة ، لتضمنها جملة وجماعة من كلمات القرآن وحروفه .

واختار غير واحد أن أصل الآية أيية - بفتح الهمزة وفتح الياءين بعدها - فاجتمع في الياءين موجبا إعلال ; لأن كلا منهما متحركة حركة أصلية بعد فتح متصل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

من واو وياء بتحريك أصل ألفا أبدل بعد فتح متصل
إن حرك التالي . . . . . . . . . . . إلخ
.

والمعروف في علم التصريف أنه إن اجتمع موجبا إعلال في كلمة واحدة فالأكثر في اللغة العربية تصحيح الأول منهما ، وإعلال الثاني بإبداله ألفا ، كالهوى والنوى والطوى والشوى ، وربما صحح الثاني وأعل الأول ، كغاية وراية ، وآية - على الأصح من أقوال عديدة - ومعلوم أن إعلالهما لا يصح ، ولهذا أشار في الخلاصة بقوله :

وإن لحرفين ذا الإعلال استحق صحح أول وعكس قد يحق


قوله - تعالى - : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن من كفر بالله وبآيات الله ، ولم يؤمن بذلك مع ظهور الأدلة والبراهين على لزوم الإيمان بالله وآياته ; أنه يستبعد أن يؤمن بشيء آخر ; لأنه لو كان يؤمن بحديث لآمن بالله وبآياته ; لظهور الأدلة على ذلك ، وأن من لم يؤمن بآيات الله متوعد بالويل ، وأنه أفاك أثيم ، والأفاك : كثير الإفك ، وهو أسوأ الكذب ، والأثيم : هو مرتكب الإثم بقلبه وجوارحه ، فهو مجرم بقلبه ولسانه وجوارحه - قد ذكره - تعالى - في غير هذا الموضع ، فتوعد المكذبين لهذا القرآن بالويل يوم القيامة ، وبين استبعاد إيمانهم بأي حديث بعد أن لم يؤمنوا بهذا القرآن ، وذلك بقوله في آخر المرسلات : [ ص: 189 ] وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون [ 47 \ 48 - 50 ] . فقوله - تعالى - : ويل يومئذ للمكذبين كقوله هنا : ويل لكل أفاك أثيم .

وقد كرر - تعالى - وعيد المكذبين بالويل في سورة " المرسلات " كما هو معلوم ، وقوله في آخر " المرسلات " : فبأي حديث بعده يؤمنون كقوله هنا في " الجاثية " : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون .

ومعلوم أن الإيمان بالله على الوجه الصحيح يستلزم الإيمان بآياته ، وأن الإيمان بآياته كذلك يستلزم الإيمان به - تعالى - وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم يدل على أن من يسمع القرآن يتلى ، ثم يصر على الكفر والمعاصي في حالة كونه متكبرا عن الانقياد إلى الحق الذي تضمنته آيات القرآن كأنه لم يسمع آيات الله ، له البشارة يوم القيامة بالعذاب الأليم ، وهو الخلود في النار ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " لقمان " : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب [ 31 \ 7 ] . وقوله - تعالى - في " الحج " : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير [ 22 \ 72 ] . وقوله - تعالى - : ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم [ 47 \ 16 ] . فقوله - تعالى - عنهم : ماذا قال آنفا - يدل على أنهم ما كانوا يبالون بما يتلو عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآيات والهدى .

وقد ذكرنا كثيرا من الآيات المتعلقة بهذا المبحث في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل [ 41 \ 4 - 5 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية : كأن لم يسمعها خففت فيه لفظة ( كأن ) ، ومعلوم أن كأن إذا خففت كان اسمها مقدرا ، وهو ضمير الشأن ، والجملة خبرها ، كما قال في الخلاصة : [ ص: 190 ]

وخففت كأن أيضا فنوي منصوبها وثابتا أيضا روي

وقد قدمنا في أول سورة " الكهف " أن البشارة تطلق غالبا على الإخبار بما يسر ، وأنها ربما أطلقت في القرآن وفي كلام العرب على الإخبار بما يسوء أيضا . وأوضحنا ذلك بشواهده العربية . وقوله في هذه الآية الكريمة : ويل لكل أفاك أثيم قال بعض العلماء : ويل واد في جهنم .

والأظهر أن لفظة ويل كلمة عذاب وهلاك ، وأنها مصدر لا لفظ له من فعله ، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون .

قرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم - : يؤمنون ، بياء الغيبة .

وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وشعبة عن عاصم - : تؤمنون ، بتاء الخطاب .

وقرأه ورش عن نافع ، والسوسي عن أبي عمرو - : يومنون ، بإبدال الهمزة واوا وصلا ووقفا .

وقرأه حمزة بإبدال الهمزة واوا في الوقف دون الوصل .

والباقون بتحقيق الهمزة مطلقا .
قوله - تعالى - : وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة توعد الأفاك الأثيم بالويل ، والبشارة بالعذاب الأليم .

وقد قدمنا قريبا أن من صفاته أنه إذا سمع آيات الله تتلى عليه أصر مستكبرا كأن لم يسمعها ، وذكر في هذه الآية الكريمة أنه إذا علم من آيات الله شيئا اتخذها هزوا ، أي مهزوءا بها ، مستخفا بها ، ثم توعده على ذلك بالعذاب المهين .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الكفار يتخذون آيات الله هزوا ، وأنهم سيعذبون على ذلك يوم القيامة - قد بينه - تعالى - في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في آخر [ ص: 191 ] " الكهف " : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا [ 18 \ 106 ] . وقوله - تعالى - في " الكهف " أيضا : ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه الآية [ 18 \ 56 - 35 ] . وقوله - تعالى - في سورة " الجاثية " هذه : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا [ 45 \ 34 - 35 ] .

وقرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حمزة وحفص عن عاصم - : هزؤا بضم الزاي بعدها همزة محققة .

وقرأه حفص عن عاصم بضم الزاي وإبدال الهمزة واوا .

وقرأه حمزة هزءا ، بسكون الزاي بعدها همزة محققة في حالة الوصل .

وأما في حالة الوقف ، فعن حمزة نقل حركة الهمزة إلى الزاي ، فتكون الزاي مفتوحة بعدها ألف ، وعنه إبدالها واوا محركة بحركة الهمزة .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لهم عذاب مهين أي لأن عذاب الكفار الذين كانوا يستهزءون بآيات الله لا يراد به إلا إهانتهم وخزيهم وشدة إيلامهم بأنواع العذاب .

وليس فيه تطهير ولا تمحيص لهم ، بخلاف عصاة المسلمين ، فإنهم وإن عذبوا فسيصيرون إلى الجنة بعد ذلك العذاب .

فليس المقصود بعذابهم مجرد الإهانة ، بل ليئولوا بعده إلى الرحمة ودار الكرامة .
قوله - تعالى - : من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم .

قوله - تعالى - : من ورائهم جهنم قد قدمنا الآيات الموضحة له مع الشواهد العربية في سورة " إبراهيم " في الكلام على قوله - تعالى - : واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد من ورائه جهنم . الآية [ 14 \ 15 - 16 ] . وبينا هناك أن أصح الوجهين أن ( وراء ) بمعنى أمام .

فمعنى من ورائه جهنم أي أمامه جهنم يصلاها يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : [ ص: 192 ] وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] أي أمامهم ملك .

وذكرنا هناك الشواهد العربية على إطلاق وراء بمعنى أمام ، وبينا أن هذا هو التحقيق في معنى الآية ، وكذلك آية " الجاثية " هذه ، فقوله - تعالى - : من ورائهم جهنم أي أمامهم جهنم يصلونها يوم القيامة .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء .

أوضح فيه أن ما كسبه الكفار في دار الدنيا من الأموال والأولاد لا يغني عنهم شيئا يوم القيامة ، أي لا ينفعهم بشيء ، فلا يجلب لهم بسببه نفع ولا يدفع عنهم بسببه ضر ، وإنما اتخذوه من الأولياء في دار الدنيا من دون الله ، كالمعبودات التي كانوا يعبدونها ، ويزعمون أنها شركاء لله - لا ينفعهم يوم القيامة أيضا بشيء .

وهاتان المسألتان اللتان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، قد أوضحهما الله في آيات كثيرة من كتابه .

أما الأولى منهما ، وهي كونهم لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا - فقد أوضحها في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 1 - 2 ] . وقوله - تعالى - : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة الآية [ 104 \ 2 - 4 ] . وقوله - تعالى - : قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 39 \ 50 ] . وقوله - تعالى - : يا‎ليتها كانت القاضية ما أغنى عني ماليه الآية [ 69 \ 27 - 28 ] . وقوله - تعالى - : قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون [ 7 \ 48 ] . وقوله - تعالى - عن إبراهيم : ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون الآية [ 26 \ 87 - 88 ] . وقوله - تعالى - : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار [ 3 \ 10 ] . وقوله - تعالى - : إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 3 \ 116 ] . وقوله - تعالى - في " المجادلة " : [ ص: 193 ] اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا الآية [ 58 \ 16 - 17 ] .

والآيات بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد قدمنا كثيرا منها في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .

وأما الثانية منهما ، وهي كونهم لا تنفعهم المعبودات التي اتخذوها أولياء من دون الله - فقد أوضحها - تعالى - في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " هود " : وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [ 11 \ 101 ] . وقوله - تعالى - : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون [ 46 \ 28 ] . وقوله - تعالى - : وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون [ 28 \ 64 ] . وقوله - تعالى - : ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا [ 18 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء الآية [ 46 \ 5 - 6 ] . وقوله - تعالى - : ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 13 - 14 ] . وقوله - تعالى - : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا [ 19 \ 81 - 82 ] . وقوله - تعالى - : وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين [ 29 \ 25 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ، الأولياء جمع ولي .

والمراد بالأولياء هنا : المعبودات التي يوالونها بالعبادة من دون الله ، وما في قوله : وما كسبوا و ما اتخذوا - موصولة - وهي في محل رفع في الموضعين ; لأن ما الأولى فاعل يغني ، وما الثانية معطوفة عليها ، وزيادة لا قبل المعطوف على منفي - معروفة . وقوله : ولا يغني أي لا ينفع . والظاهر أن أصله من الغناء - بالفتح والمد - وهو النفع .

[ ص: 194 ] ومنه قول الشاعر :

وقل غناء عنك مال جمعته إذا صار ميراثا وواراك لاحد

فقوله : قل غناء ، أي قل نفعا . وقول الآخر

: قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا


فقوله : الغناء أي النفع .

والبيت من شواهد إعمال المصدر المعرف بالألف واللام ; لأن قوله : قول الأحبة ، فاعل قوله : الغناء . وأما الغناء - بالكسر والمد - فهو الألحان المطربة .

وأما الغنى - بالكسر والقصر - فهو ضد الفقر .

وأما الغنى - بالفتح والقصر - فهو الإقامة ، من قولهم : غني بالمكان - بكسر النون - يغنى - بفتحها - غنى - بفتحتين - إذا أقام به .

ومنه قوله - تعالى - : كأن لم تغن بالأمس [ 10 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : كأن لم يغنوا فيها [ 7 \ 92 ] كأنهم لم يقيموا فيها .

وأما الغنى - بالضم والقصر - فهو جمع غنية ، وهي ما يستغني به الإنسان .

وأما الغناء - بالمد والضم - فلا أعلمه في العربية .

وهذه اللغات التي ذكرنا في مادة غني كنت تلقيتها في أول شبابي في درس من دروس الفقه لقننيها شيخي الكبير أحمد الأفرم بن محمد المختار الجكني ، وذكر لي بيتي رجز في ذلك لبعض أفاضل علماء القطر ، وهما قوله :


وضد فقر كإلى ، وكسحاب النفع ، والمطرب أيضا ككتاب
وكفتى إقامة وكهنا جمع لغنية لما به الغنى
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-22, 11:33 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (486)
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ
صـ 195 إلى صـ 202


قوله - تعالى - : هذا هدى والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم .

الإشارة في قوله : هذا هدى راجعة للقرآن العظيم المعبر عنه بآيات الله في قوله : تلك آيات الله [ 45 \ 6 ] . وقوله : فبأي حديث بعد الله وآياته الآية [ 45 \ 6 ] . [ ص: 195 ] وقوله : يسمع آيات الله تتلى عليه [ 45 \ 8 ] . وقوله : وإذا علم من آياتنا شيئا [ 45 \ 9 ] .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن هذا القرآن هدى ، وأن من كفر بآياته له العذاب الأليم - جاء موضحا في غير هذا الموضع .

أما كون القرآن هدى ، فقد ذكره - تعالى - في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] . وقوله - تعالى - : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين [ 16 \ 89 ] . وقوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] . وقوله - تعالى - : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [ 2 \ 185 ] . وقوله : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] . وقوله - تعالى - : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [ 41 \ 44 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وأما كون من كفر بالقرآن يحصل له بسبب ذلك العذاب الأليم - فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه الآية [ 11 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : وقد آتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا [ 20 \ 99 - 101 ] . وقوله - تعالى - : ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا [ 18 \ 106 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .

وقد قدمنا في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : وأما ثمود فهديناهم الآية [ 41 \ 17 ] . وغير ذلك من المواضع - أن الهدى يطلق في القرآن إطلاقا عاما ، بمعنى أن الهدى هو البيان والإرشاد وإيضاح الحق ، كقوله : وأما ثمود فهديناهم أي بينا لهم الحق وأوضحناه ، وأرشدناهم إليه وإن لم يتبعوه ، وكقوله : هدى للناس [ 2 \ 185 ] . وقوله هنا : هذا هدى - وأنه يطلق أيضا في القرآن بمعناه الخاص ، وهو التفضل بالتوفيق إلى طريق الحق والاصطفاء ، كقوله : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] . وقوله : قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء [ 41 \ 44 ] . وقوله : والذين اهتدوا زادهم هدى [ ص: 196 ] [ 47 \ 17 ] . وقوله : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وقد أوضحنا في سورة " فصلت " أن معرفة إطلاق الهدى المذكورين ، يزول بها الإشكال الواقع في آيات من كتاب الله .

والهدى مصدر هداه على غير قياس ، وهو هنا من جنس النعت بالمصدر ، وبينا فيما مضى مرارا أن تنزيل المصدر منزلة الوصف إما على حذف مضاف ، وإما على المبالغة .

وعلى الأول فالمعنى : هذا القرآن ذو هدى ، أي يحصل بسببه الهدى لمن اتبعه ، كقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

وعلى الثاني فالمعنى أن المراد المبالغة في اتصاف القرآن بالهدى حتى أطلق عليه أنه هو نفس الهدى .

وقوله في هذه الآية الكريمة : " لهم عذاب من رجز أليم " أصح القولين فيه أن المراد بالرجز العذاب ، ولا تكرار في الآية ; لأن العذاب أنواع متفاوتة ، والمعنى : لهم عذاب من جنس العذاب الأليم ، والأليم معناه المؤلم . أي : الموصوف بشدة الألم وفظاعته .

والتحقيق إن شاء الله : أن العرب تطلق الفعيل وصفا بمعنى المفعل ، فما يذكر عن الأصمعي من أنه أنكر ذلك إن صح عنه فهو غلط منه ; لأن إطلاق الفعيل بمعنى المفعل معروف في القرآن العظيم وفي كلام العرب ، ومن إطلاقه في القرآن العظيم قوله تعالى عذاب أليم [ 2 \ 104 ] أي مؤلم ، وقوله - تعالى - : بديع السماوات والأرض [ 2 \ 117 ] أي مبدعهما ، وقوله - تعالى - : إن هو إلا نذير لكم الآية [ 34 \ 46 ] أي منذر لكم ، ونظير ذلك من كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع

فقوله : الداعي السميع ، يعني الداعي المسمع . وقوله أيضا :

وخيل قد دلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع


أي موجع . وقول غيلان بن عقبة : [ ص: 197 ]

ويرفع من صدور شمردلات يصك وجوهها وهج أليم


أي مؤلم . وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن كثير ، وحفص عن عاصم : من رجز أليم ، بخفض أليم على أنه نعت لرجز .

وقرأه ابن كثير ، وحفص عن عاصم : من رجز أليم ، برفع أليم على أنه نعت لعذاب .
قوله - تعالى - : الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا الآية [ 16 \ 14 ] . وفي سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : والذي خلق الأزواج كلها إلى قوله : وما كنا له مقرنين [ 43 \ 12 - 13 ] . قوله - تعالى - : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم الآية [ 17 \ 7 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : وفضلناهم على العالمين [ 45 \ 16 ] .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه فضل بني إسرائيل على العالمين ، وذكر هذا المعنى في موضع آخر من كتابه ، كقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين [ 2 \ 47 - 122 ] في الموضعين . وقوله في " الدخان " : ولقد اخترناهم على علم على العالمين [ 44 \ 32 ] . وقوله في " الأعراف " : قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين [ 7 \ 140 ] .

ولكن الله - جل وعلا - بين أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير من بني إسرائيل وأكرم على الله ، كما صرح بذلك في قوله : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف الآية [ ص: 198 ] [ 3 \ 110 ] . فـ ( خير ) صيغة تفضيل ، والآية نص صريح في أنهم خير من جميع الأمم ، بني إسرائيل وغيرهم .

ومما يزيد ذلك إيضاحا حديث معاوية بن حيدة القشيري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أمته : " أنتم توفون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله " : وقد رواه عنه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم ، وهو حديث مشهور .

وقال ابن كثير : حسنه الترمذي ، ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : ولا شك في صحة معنى حديث معاوية بن حيدة المذكور - رضي الله عنه - ; لأنه يشهد له النص المعصوم المتواتر في قوله - تعالى - : كنتم خير أمة أخرجت للناس [ 3 \ 110 ] وقد قال - تعالى - : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [ 2 \ 143 ] . وقوله : وسطا أي خيارا عدولا .

واعلم أن ما ذكرنا من كون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضل من بني إسرائيل ، كما دلت عليه الآية والحديث المذكوران وغيرهما من الأدلة - لا يعارض الآيات المذكورات آنفا في تفضيل بني إسرائيل .

لأن ذلك التفضيل الوارد في بني إسرائيل ذكر فيهم حال عدم وجود أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - .

والمعدوم في حال عدمه ليس بشيء حتى يفضل أو يفضل عليه .

ولكنه - تعالى - بعد وجود أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - صرح بأنها خير الأمم .

وهذا واضح ; لأن كل ما جاء في القرآن من تفضيل بني إسرائيل - إنما يراد به ذكر أحوال سابقة .

لأنهم في وقت نزول القرآن كفروا به وكذبوا ، كما قال - تعالى - : فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ 2 \ 89 ] .

ومعلوم أن الله لم يذكر لهم في القرآن فضلا إلا ما يراد به أنه كان في زمنهم السابق ، لا في وقت نزول القرآن .

ومعلوم أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تكن موجودة في ذلك الزمن السابق الذي هو ظرف [ ص: 199 ] تفضيل بني إسرائيل ، وأنها بعد وجودها ، صرح الله بأنها هي خير الأمم ، كما أوضحنا . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها .

وقد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم [ 43 \ 43 ] .
قوله - تعالى - : ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون .

نهى الله - جل وعلا - نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون .

وقد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا [ 17 \ 22 ] - أنه - جل وعلا - يأمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وينهاه ، ليشرع بذلك الأمر والنهي لأمته ، كقوله هنا : ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون [ 45 \ 18 ] .

ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع أهواء الذين لا يعلمون ، ولكن النهي المذكور فيه التشريع لأمته ، كقوله - تعالى - : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : فلا تطع المكذبين [ 68 \ 8 ] . وقوله : ولا تطع كل حلاف مهين [ 68 \ 10 ] . وقوله : ولا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 39 ] . وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة .

وقد بينا الأدلة القرآنية على أنه - صلى الله عليه وسلم - يخاطب ، والمراد به التشريع لأمته ، في آية " بني إسرائيل " المذكورة .

وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من النهي عن اتباع أهوائهم - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " الشورى " : ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] . وقوله - تعالى - في " الأنعام " : فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون [ 6 \ 150 ] . وقوله - تعالى - في " القصص " : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 28 \ 50 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

[ ص: 200 ] وقد بين - تعالى - في " قد أفلح المؤمنون " أن الحق لو اتبع أهواءهم لفسد العالم ، وذلك في قوله - تعالى - : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن [ 23 \ 71 ] .

والأهواء : جمع هوى بفتحتين وأصله مصدر ، والهمزة فيه مبدلة من ياء ، كما هو معلوم .
قوله - تعالى - : وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض .

قد قدمنا في هذا الكتاب المبارك مرارا أن الظلم في لغة العرب أصله وضع الشيء في غير موضعه .

وأن أعظم أنواعه الشرك بالله ; لأن وضع العبادة في غير من خلق ورزق هو أشنع أنواع وضع الشيء في غير موضعه .

ولذا كثر في القرآن العظيم إطلاق الظلم بمعنى الشرك ، كقوله - تعالى - : والكافرون هم الظالمون [ 2 \ 254 ] . وقوله - تعالى - : ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين [ 10 \ 106 ] . وقوله - تعالى - : ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [ 25 \ 27 ] . وقوله - تعالى - عن لقمان : يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] . وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر قوله - تعالى - : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم [ 6 \ 82 ] بأن معناه : ولم يلبسوا إيمانهم بشرك .

وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من أن الظالمين بعضهم أولياء بعض - جاء مذكورا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في آخر " الأنفال " : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [ 8 \ 73 ] . وقوله - تعالى - : وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون [ 6 \ 129 ] . وقوله - تعالى - : والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله الآية [ 7 ] . وقوله - تعالى - : فقاتلوا أولياء الشيطان الآية [ 4 \ 76 ] . وقوله - تعالى - : إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه [ 3 \ 175 ] . وقوله : [ ص: 201 ] إنما سلطانه على الذين يتولونه الآية [ 16 \ 100 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : والله ولي المتقين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ولي المتقين ، وهم الذين يمتثلون أمره ويجتنبون نهيه .

وذكر في موضع آخر أن المتقين أولياؤه ، فهو وليهم وهم أولياؤه ; لأنهم يوالونه بالطاعة والإيمان ، وهو يواليهم بالرحمة والجزاء ، وذلك في قوله - تعالى - : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

ثم بين المراد بأوليائه في قوله : الذين آمنوا وكانوا يتقون [ 10 \ 63 ] . فقوله - تعالى - : وكانوا يتقون كقوله في آية " الجاثية " هذه : والله ولي المتقين .

وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أنه ولي المؤمنين ، وأنهم أولياؤه ، كقوله - تعالى - : إنما وليكم الله ورسوله الآية [ 5 \ 55 ] . وقوله - تعالى - : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور [ 2 \ 257 ] . وقوله - تعالى - : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا الآية [ 47 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين [ 7 \ 196 ] . وقوله - تعالى - في الملائكة : قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم الآية [ 34 \ 41 ] . إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه بأبسط من هذا .
قوله - تعالى - : هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون .

الإشارة في قوله : هذا للقرآن العظيم .

والبصائر جمع بصيرة ، والمراد بها البرهان القاطع الذي لا يترك في الحق لبسا ، كقوله - تعالى - : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة [ 12 \ 108 ] أي على علم ودليل واضح .

والمعنى أن هذا القرآن براهين قاطعة ، وأدلة ساطعة ، على أن الله هو المعبود وحده ، وأن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - حق .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن القرآن بصائر للناس - جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله ، كقوله - تعالى - في أخريات " الأعراف " : [ ص: 202 ] قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 203 ] . وقوله - تعالى - في " الأنعام " : قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ [ 6 \ 104 ] .

وما تضمنته آية " الجاثية " من أن القرآن بصائر وهدى ورحمة ، ذكر - تعالى - مثله في سورة " القصص " عن كتاب موسى الذي هو التوراة في قوله - تعالى - : ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون [ 28 \ 43 ] .

وما تضمنته آية " الجاثية " هذه من كون القرآن هدى ورحمة - جاء موضحا في غير هذا الموضع .

أما كونه هدى فقد ذكرنا الآيات الموضحة له قريبا .

وأما كونه رحمة فقد ذكرنا الآيات الموضحة له في " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا [ 18 \ 1 ] . وفي أولها في الكلام على قوله - تعالى - : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] . وفي " فاطر " في الكلام على قوله - تعالى - : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها [ 35 \ 2 ] . وفي " الزخرف " في الكلام على قوله : أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 32 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : لقوم يوقنون أي لأنهم هم المنتفعون به .

وفي هذه الآية الكريمة سؤال عربي معروف ، وهو أن المبتدأ الذي هو قوله : هذا اسم إشارة إلى مذكر مفرد ، والخبر الذي هو بصائر جمع مكسر مؤنث .

فيقال : كيف يسند الجمع المؤنث المكسر إلى المفرد المذكر ؟ والجواب : أن مجموع القرآن كتاب واحد ، تصح الإشارة إليه بهذا ، وهذا الكتاب الواحد يشتمل على براهين كثيرة ، فصح إسناد البصائر إليه لاشتماله عليها كما لا يخفى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-22, 11:37 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (487)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 203 إلى صـ 210


قوله - تعالى - : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة ( ص ) في الكلام على قوله - تعالى - : [ ص: 203 ] أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه .

قد أوضحنا معناه في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا [ 25 \ 43 ] .
قوله - تعالى - : وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة .

قد أوضحنا معناه في سورة " البقرة " في الكلام على قوله - تعالى - : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] .
قوله - تعالى - : وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إنكار الكفار للبعث بعد الموت - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - عنهم : وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] . وقوله : أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين [ 23 \ 35 - 37 ] . وقوله - تعالى - عنهم : أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد [ 50 \ 3 ] . وقوله - تعالى - عنهم : أئنا لمردودون في الحافرة أئذا كنا عظاما نخرة قالوا تلك إذا كرة خاسرة [ 79 \ 10 - 12 ] . وقوله - تعالى - : قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقد قدمنا البراهين القاطعة القرآنية على تكذيبهم في إنكارهم البعث ، وبينا دلالتها على أن البعث واقع لا محالة - في سورة " البقرة " ، وسورة " النحل " ، وسورة " الحج " ، وأول سورة " الجاثية " هذه ، وأحلنا على ذلك مرارا .

وبينا في سورة " الفرقان " الآيات الموضحة أن إنكار البعث كفر بالله ، والآيات التي [ ص: 204 ] فيها وعيد منكري البعث بالنار في الكلام على قوله - تعالى - : بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله - تعالى - : ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " المؤمن " في الكلام على قوله - تعالى - : فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون [ 40 \ 78 ] .
قوله - تعالى - : كل أمة تدعى إلى كتابها الآية .

قد قدمنا إيضاحه في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] .
قوله - تعالى - : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا [ 19 \ 79 ] . وفي غير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " طه " في الكلام على قوله - تعالى - : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] .
قوله - تعالى - : فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون .

قد أوضحنا معنى قوله : يستعتبون ، في سورة " النحل " في الكلام على قوله - تعالى - : ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون [ 16 \ 84 ] .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاليوم لا يخرجون منها - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون [ 43 \ 77 ] .
قوله - تعالى - : فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين .

أتبع الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة حمده - جل وعلا - بوصفه بأنه رب السماوات [ ص: 205 ] والأرض ورب العالمين ، وفي ذلك دلالة على أن رب السماوات والأرض ، ورب العالمين - مستحق لكل حمد ولكل ثناء جميل .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - في سورة " الفاتحة " : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] . وقوله - تعالى - في آخر " الزمر " : وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين [ 39 \ 75 ] . وقوله - تعالى - : فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 45 ] . وقوله - تعالى - في أول " الأنعام " : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] . وقوله - تعالى - في أول " سبإ " : الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير [ 34 \ 1 ] . وقوله في أول " فاطر " : الحمد لله فاطر السماوات والأرض الآية [ 35 \ 1 ] .
قوله - تعالى - : وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن له الكبرياء في السماوات والأرض ، يعني أنه المختص بالعظمة والكمال والجلال والسلطان في السماوات والأرض ; لأنه هو معبود أهل السماوات والأرض ، الذي يلزمهم تكبيره وتعظيمه وتمجيده ، والخضوع والذل له .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما [ 43 \ 84 - 85 ] .

فقوله : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله معناه أنه هو وحده الذي يعظم ويعبد في السماوات والأرض ، ويكبر ويخضع له ويذل .

وقوله - تعالى - : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم [ 30 \ 27 ] .

فقوله : وله المثل الأعلى في السماوات والأرض معناه أن له الوصف الأكمل الذي هو أعظم الأوصاف وأكملها وأجلها في السماوات والأرض .

وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " إن الله يقول : العظمة إزاري [ ص: 206 ] والكبرياء ردائي ، فمن نازعني في واحد منهما أسكنته ناري " .
[ ص: 207 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَحْقَافِ

قَوْلُهُ - تَعَالَى - : حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ .

قَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " هُودٍ " ، وَقَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى قَوْلِهِ : تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ، فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الزُّمَرِ " .
قوله - تعالى - : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى .

صيغة الجمع في قوله : خلقنا - للتعظيم .

وقوله : إلا بالحق ، أي خلقا متلبسا بالحق .

والحق ضد الباطل ، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبسا بالحق أنه خلقهما لحكم باهرة ، ولم يخلقهما باطلا ، ولا عبثا ، ولا لعبا ، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسا به - إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده - جل وعلا - كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] ثم أقام البرهان على أنه هو الإله الواحد بقوله بعده : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] .

فتلبس خلقه للسماوات والأرض بالحق واضح جدا ، من قوله - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون بعد قوله : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو ; لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله - هو أعظم الحق .

وكقوله - تعالى - : [ ص: 208 ] ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] ; لأن قوله : اعبدوا ربكم فيه معنى الإثبات من لا إله إلا الله .

وقوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه .

وقد أقام الله - جل وعلا - البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما - في قوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء الآية .

وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بأعظم الحق ، الذي هو إقامة البرهان القاطع ، على توحيده - جل وعلا - ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان القاطع المذكور على توحيده - جل وعلا - علم من استقراء القرآن أن العلامة الفارقة من يستحق العبادة ، وبين من لا يستحقها ، هي كونه خالقا لغيره ، فمن كان خالقا لغيره ، فهو المعبود بحق ، ومن كان لا يقدر على خلق شيء ، فهو مخلوق محتاج ، لا يصح أن يعبد بحال .

فالآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا ، كقوله - تعالى - في آية " البقرة " المذكورة آنفا : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية .

فقوله : الذي خلقكم يدل على أن المعبود هو الخالق وحده ، وقوله - تعالى - : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] . يعني وخالق كل شيء هو المعبود وحده .

وقد أوضح - تعالى - هذا في سورة " النحل " ; لأنه - تعالى - لما ذكر فيها البراهين القاطعة على توحيده - جل وعلا - ، في قوله : خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون إلى قوله : وعلامات وبالنجم هم يهتدون [ 16 \ 3 - 16 ] - أتبع ذلك بقوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] .

وذلك واضح جدا في أن من يخلق غيره هو المعبود ، وأن من لا يخلق شيئا لا يصح أن يعبد .

[ ص: 209 ] ولهذا قال - تعالى - قريبا منه : والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون [ 16 \ 20 ] . وقال - تعالى - في " الأعراف " : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] . وقال - تعالى - في " الحج " : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له [ 22 \ 73 ] أي ومن لا يقدر أن يخلق شيئا لا يصح أن يكون معبودا بحال ، وقال - تعالى - : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى الآية [ 87 \ 1 - 2 ] .

ولما بين - تعالى - في أول سورة " الفرقان " صفات من يستحق أن يعبد ، ومن لا يستحق ذلك - قال في صفات من يستحق العبادة : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] .

وقال في صفات من لا يصح أن يعبد : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون الآية [ 25 \ 3 ] .

والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا ، وكل تلك الآيات تدل دلالة واضحة على أنه - تعالى - ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بالحق .

وقد بين - جل وعلا - أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما ، خلقا متلبسا به - تعليمه خلقه أنه - تعالى - على كل شيء قدير ، وأنه قد أحاط بكل شيء علما ، وذلك في قوله - تعالى - : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] .

فلام التعليل في قوله : لتعلموا ، متعلقة بقوله : خلق سبع سماوات الآية ، وبه تعلم أنه ما خلق السماوات السبع والأرضين السبع ، وجعل الأمر يتنزل بينهن - إلا خلقا متلبسا بالحق .

ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقا متلبسا به ، هو تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملا ، ثم جزاؤهم على أعمالهم ، كما قال - تعالى - في أول [ ص: 210 ] سورة " هود " : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .

فلام التعليل في قوله : ليبلوكم ، متعلقة بقوله : خلق السماوات والأرض وبه تعلم أنه ما خلقهما إلا خلقا متلبسا بالحق .

ونظير ذلك قوله - تعالى - في أول " الكهف " : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] . وقوله - تعالى - في أول " الملك " : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .

ومما يوضح أنه ما خلق السماوات والأرض إلا خلقا متلبسا بالحق - قوله - تعالى - في آخر " الذاريات " : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون [ 51 \ 56 - 57 ] .

سواء قلنا : إن معنى إلا ليعبدون ، أي لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم ; لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له ، كما قال - تعالى - : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] . وقال - تعالى - : فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون [ 41 \ 38 ] .

أو قلنا : إن معنى إلا ليعبدون ، أي إلا ليقروا لي بالعبودية ، ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي ; لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعا ، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه - تعالى - كرها .

ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال .

وقد بين - تعالى - أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقا متلبسا به - جزاء الناس بأعمالهم ، كقوله - تعالى - في " النجم " : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .

فقوله - تعالى - : ولله ما في السماوات وما في الأرض أي هو خالقها ومن فيهما ليجزي الذين أساءوا بما عملوا الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:02 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (488)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 211 إلى صـ 218



ويوضح ذلك قوله - تعالى - في " يونس " : [ ص: 211 ] إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 10 \ 4 ] .

ولما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، لا لحكمة تكليف وحساب وجزاء - هددهم بالويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ ، في قوله - تعالى - : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] .

وقد نزه - تعالى - نفسه عن كونه خلق الخلق عبثا ، لا لتكليف وحساب وجزاء ، وأنكر ذلك على من ظنه ، في قوله - تعالى - : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .

فقوله : ( فتعالى الله ) أي تنزه وتعاظم وتقدس عن أن يكون خلقهم لا لحكمة تكليف وبعث ، وحساب وجزاء .

وهذا الذي نزه - تعالى - عنه نفسه - نزهه عنه أولو الألباب ، كما قال - تعالى - : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم إلى قوله : ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار [ 3 \ 190 - 191 ] . فقوله عنهم : سبحانك أي تنزيها لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلا ، لا لحكمة تكليف وبعث ، وحساب وجزاء .

وقوله - جل وعلا - في آية " الأحقاف " هذه : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق - يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلا ، ولا لعبا ولا عبثا .

وهذا المفهوم جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا الآية [ 38 \ 27 ] . وقوله - تعالى - : ربنا ما خلقت هذا باطلا [ 3 \ 191 ] . وقوله - تعالى - : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق [ 44 \ 38 - 39 ] .

وقوله - تعالى - في آية " الأحقاف " هذه : وأجل مسمى معطوف على قوله : بالحق أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بالحق ، وبتقدير [ ص: 212 ] أجل مسمى ، أي وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض ، وهو يوم القيامة كما صرح الله بذلك في أخريات " الحجر " في قوله - تعالى - : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية الآية [ 15 \ 85 ] .

فقوله في " الحجر " : وإن الساعة لآتية بعد قوله : إلا بالحق يوضح معنى قوله في " الأحقاف " : إلا بالحق وأجل مسمى .

وقد بين - تعالى - في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمدا ينتهي إليه أمرهما ، كما قال - تعالى - : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [ 39 \ 67 ] . وقال - تعالى - : يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب [ 21 \ 104 ] . وقوله - تعالى - : يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات [ 14 \ 48 ] . وقوله : وإذا السماء كشطت [ 81 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : يوم ترجف الأرض والجبال الآية [ 73 \ 14 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : والذين كفروا عما أنذروا معرضون .

ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن الكفار معرضون عما أنذرتهم به الرسل - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " البقرة " : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 2 \ 6 ] . وقوله في " يس " : وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 36 \ 10 ] . وقوله - تعالى - : وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين [ 6 \ 4 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

والإعراض عن الشيء : الصدود عنه ، وعدم الإقبال إليه .

قال بعض العلماء : وأصله من العرض - بالضم - وهو الجانب; لأن المعرض عن الشي يوليه بجانب عنقه صادا عنه .

والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد ، فكل إنذار إعلام ، وليس كل إعلام إنذارا .

وقد أوضحنا معاني الإنذار في أول سورة " الأعراف " .

وما في قوله : عما أنذروا قال بعض العلماء : هي موصولة ، والعائد محذوف ، أي الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه ، أي خوفوه من عذاب يوم [ ص: 213 ] القيامة . وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مضطرد كما هو معلوم .

وقال بعض العلماء : هي مصدرية ، أي والذين كفروا معرضون عن الإنذار ، ولكليهما وجه .
قوله - تعالى - : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين .

قد ذكرنا قريبا أن قوله : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق [ 15 \ 85 ] - يتضمن البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله . وأن العلامة الفارقة بين المعبود بحق ، وبين غيره هي كونه خالقا . وأول سورة " الأحقاف " هذه يزيد ذلك إيضاحا ; لأنه ذكر من صفات المعبود بحق أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق ، وذكر من المعبودات الأخرى التي عبادتها كفر مخلد في النار أنها لا تخلق شيئا .

فقوله - تعالى - : قل أرأيتم ما تدعون من دون الله [ 46 \ 4 ] أي هذه المعبودات التي تعبدونها من دون الله ، أروني ماذا خلقوا من الأرض .

فقوله : أروني - يراد به التعجيز والمبالغة في عدم خلقهم شيئا .

وعلى أن ما استفهامية ، و ذا موصولة - فالمعنى أروني ما الذي خلقوه من الأرض . وعلى أن ما و ذا بمنزلة كلمة واحدة يراد بها الاستفهام - فالمعنى : أروني أي شيء خلقوه من الأرض ؟

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من لم يخلق شيئا في الأرض ولم يكن له شرك في السماوات ، لا يصح أن يكون معبودا بحال - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " فاطر " : قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا الآية [ 35 \ 40 ] . وقوله في " لقمان " : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ 31 \ 11 ] . وقوله في " سبأ " : قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير [ 34 \ 22 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمنا طرفا منها قريبا .

[ ص: 214 ] وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : ائتوني بكتاب من قبل هذا - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون [ 43 \ 21 ] .
قوله - تعالى - : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الجاثية " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء [ 45 \ 10 ] . وفي سورة " مريم " في الكلام على قوله - تعالى - : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا [ 19 \ 81 ] .
قوله - تعالى - : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا قرئت عليهم آيات هذا القرآن العظيم ، الذي هو الحق ، ادعوا أنها سحر مبين واضح .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من افترائهم على القرآن أنه سحر ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ساحر - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - في " سبأ " : وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين [ 34 \ 43 ] . وقوله - تعالى - في " الزخرف " : ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون [ 43 ] . وقوله - تعالى - : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم إلى قوله : أفتأتون السحر وأنتم تبصرون [ 21 \ 2 - 3 ] . وقوله - تعالى - : ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 11 \ 7 ] .

والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله - تعالى - أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا .

أم هذه هي المنقطعة ، وقد قدمنا أنها تأتي بمعنى الإضراب ، وتأتي بمعنى همزة الإنكار ، وتأتي بمعناهما معا ، وهو الظاهر في هذه الآية الكريمة .

فأم فيها على ذلك تفيد معنى الإضراب والإنكار معا ، فهو بمعنى دع هذا ، واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه أن محمدا افترى هذا القرآن ، وقد كذبهم الله في [ ص: 215 ] هذه الدعوى في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله الآية [ 10 \ 38 ] . وقوله : أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات [ 11 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه [ 10 \ 37 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا أي إن كنت افتريت هذا القرآن ، على سبيل الفرض .

والتقدير : عاجلني الله بعقوبته الشديدة ، وأنتم لا تملكون لي منه شيئا ، أي لا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على الافتراء ، فكيف أفتريه لكم ، وأنتم لا تقدرون على دفع عذاب الله عني ؟

وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين [ 69 \ 44 - 47 ] .

فقوله - تعالى - في آية " الحاقة " هذه : ولو تقول علينا بعض الأقاويل كقوله في آية " الأحقاف " : قل إن افتريته .

وقوله في " الحاقة " : فما منكم من أحد عنه حاجزين يوضح معنى قوله فلا تملكون لي من الله شيئا ; لأن معنى قوله : فما منكم من أحد عنه حاجزين ، أنهم لا يقدرون على أن يحجزوا عنه ، أي يدفعوا عنه عقاب الله له بالقتل ، لو تقول عليه بعض الأقاويل .

وذلك هو معنى قوله : فلا تملكون لي من الله شيئا أي لا تقدرون على دفع عذابه عني .

ونظير ذلك في المعنى قوله - تعالى - : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] . وقوله - تعالى - : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] .

وما تضمنته آية " الأحقاف " هذه وآية " الحاقة " المبينة لها ، من أنه لو افترى على الله [ ص: 216 ] أو تقول عليه عاجله بالعذاب ، وأنه لا يقدر أحد على دفعه عنه - جاء معناه في بعض الآيات ، كقوله - تعالى - في " يونس " : قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] أي إني أخاف - إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره - عذاب يوم عظيم .

وذكر الله - تعالى - مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخر ، كقوله عن صالح : قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته الآية [ 11 \ 63 ] . وقوله - تعالى - عن نوح : قوم من ينصرني من الله إن طردتهم الآية ] .
قوله - تعالى - : قل ما كنت بدعا من الرسل .

الأظهر في قوله : بدعا أنه فعل بمعنى المفعول ، فهو بمعنى مبتدع ، والمبتدع هو الذي أبدع على غير مثال سابق .

ومعنى الآية : قل لهم يا نبي الله : ما كنت أول رسول أرسل إلى البشر ، بل قد أرسل الله قبلي جميع الرسل إلى البشر ، فلا وجه لاستبعادكم رسالتي ، واستنكاركم إياها ; لأن الله أرسل قبلي رسلا كثيرة .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية [ 13 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات الآية [ 30 \ 47 ] . وقوله - تعالى - : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده الآية [ 4 \ 163 ] . وقوله - تعالى - : حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم [ 42 \ 1 - 3 ] . وقوله - تعالى - : ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك الآية [ 41 \ 43 ] . وقوله - تعالى - : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية [ 3 \ 144 ] . وقوله - تعالى - : ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا الآية [ 6 \ 34 ] . والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله - تعالى - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم .

[ ص: 217 ] التحقيق - إن شاء الله - أن معنى الآية الكريمة : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في دار الدنيا ، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي ، أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء .

وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة .

وما أدري ما يفعل بكم : أيخسف بكم ، أو تنزل عليكم حجارة من السماء ، ونحو ذلك .

وهذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين .

وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله ، كقوله - تعالى - : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء الآية [ 7 \ 188 ] . وقوله - تعالى - آمرا له - صلى الله عليه وسلم - : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 6 \ 50 ] .

وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس وأنس وغيرهما من أن المراد : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أي في الآخرة - فهو خلاف التحقيق ، كما سترى إيضاحه - إن شاء الله - .

فقد روي عن ابن عباس وأنس وقتادة والضحاك وعكرمة والحسن - في أحد قوليه - أنه لما نزل قوله - تعالى - : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم - فرح المشركون واليهود والمنافقون ، وقالوا : كيف نتبع نبيا لا يدري ما يفعل به ولا بنا ، وأنه لا فضل له علينا ، ولولا أنه ابتدع الذي يقوله من عند نفسه ، لأخبره الذي بعثه بما يفعل به .

فنزلت ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ 48 \ 2 ] فنسخت هذه الآية .

وقالت الصحابة : هنيئا لك يا رسول الله ، لقد بين لك الله ما يفعل بك ، فليت شعرنا ما هو ما فاعل بنا .

فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية [ 48 \ 5 ] . ونزلت : وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا [ 33 \ 47 ] .

فالظاهر أن هذا كله خلاف التحقيق ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجهل مصيره يوم القيامة لعصمته - صلوات الله وسلامه عليه - وقد قال له الله - تعالى - : وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 4 - 5 ] وأن قوله : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم [ ص: 218 ] في أمور الدنيا ، كما قدمنا . فإن قيل : قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث أم العلاء الأنصارية ما يدل على أن قوله : ما يفعل بي أي في الآخرة ، فإن حديثها في قصة وفاة عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - عندهم ، ودخول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ، أنها قالت : رحمة الله عليك أبا السائب ، شهادتي عليك ; لقد أكرمك الله - عز وجل - تعني عثمان بن مظعون ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " وما يدريك أن الله أكرمه ؟ " فقلت : لا أدري ، بأبي أنت وأمي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " الحديث .

فالجواب هو ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فقد قال في تفسير هذه الآية الكريمة ، بعد أن ساق حديث أم العلاء المذكور بالسند الذي رواه به أحمد - رحمه الله - انفرد به البخاري دون مسلم ، وفي لفظ له " ما أدري وأنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يفعل به " ، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ; بدليل قولها : فأحزنني ذلك . ا هـ محل الغرض منه . وهو الصواب - إن شاء الله - والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به .

جواب الشرط في هذه الآية محذوف .

وأظهر الأقوال في تقديره : إن كان هذا القرآن من عند الله وكفرتم به ، وجحدتموه - فأنتم ضلال ظالمون . وكون جزاء الشرط في هذه الآية كونهم ضالين ظالمين - بينه قوله - تعالى - في آخر " فصلت " : قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد [ 41 \ 52 ] . وقوله في آية " الأحقاف " هذه : فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين .

وقال أبو حيان في البحر : مفعولا أرأيتم محذوفان ; لدلالة المعنى عليهما .

والتقدير : أرأيتم حالكم ، إن كان كذا ، ألستم ظالمين .

فالأول : حالكم ، والثاني : ألستم ظالمين ، وجواب الشرط محذوف ، أي فقد ظلمتم .

ولذلك جاء فعل الشرط ماضيا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:04 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (489)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 219 إلى صـ 226




[ ص: 219 ] وبعض العلماء يقول : إن أرأيتم بمعنى أخبروني . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وشهد شاهد من بني إسراءيل على مثله .

التحقيق - إن شاء الله - أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف ، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها ، كقولهم : مثلك لا يفعل هذا ، يعنون لا ينبغي لك أنت أن تفعله .

وعلى هذا فالمعنى : وشهد شاهد من بني إسرائيل على أن هذا القرآن وحي منزل حقا من عند الله ، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له; ولذا قال - تعالى - : فآمن واستكبرتم .

ومما يوضح هذا تكرر إطلاق المثل في القرآن مرادا به الذات ، كقوله - تعالى - : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات الآية [ 6 \ 122 ] .

فقوله : كمن مثله في الظلمات ، أي كمن هو نفسه في الظلمات ، وقوله - تعالى - : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا [ 2 \ 137 ] أي فإن آمنوا بما آمنتم به ، لا بشيء آخر مماثل له - على التحقيق - .

ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن عباس وابن مسعود فإن آمنوا بما آمنتم به الآية .

القول بأن لفظة ( ما ) في الآية مصدرية ، وأن المراد تشبيه الإيمان بالإيمان ، أي فإن آمنوا بإيمان مثل إيمانكم فقد اهتدوا ، لا يخفى بعده .

والشاهد في الآية هو عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - كما قال الجمهور ، وعليه فهذه الآية مدنية في سورة مكية .

وقيل : إن الشاهد موسى بن عمران - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وقيل غير ذلك .
قوله - تعالى - : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه .

[ ص: 220 ] أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، أنهم كفار مكة ، وأن مرادهم أن فقراء المسلمين وضعفاءهم : كبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم - أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير .

وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير ; لزعمهم أن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه ، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه ، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة .

وهذا المعنى الذي استظهرناه في هذه الآية الكريمة - تدل له آيات كثيرة من كتاب الله ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

أما ادعاؤهم أن ما أعطوا من المال والأولاد والجاه في الدنيا ، دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة ، وتكذيب الله لهم في ذلك - فقد جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله - تعالى - : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] . وقوله - تعالى - : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا الآية [ 19 \ 77 - 79 ] . وقوله - تعالى - : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 \ 35 ] مع قوله : وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الآية [ 34 \ 37 ] . وقوله - تعالى - : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ [ 41 \ 50 ] .

وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا في سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] .

وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم ، وزعمهم أنهم أحقر عند الله من أن يصيبهم بخير ، وأنما هم عليه لو كان خيرا لسبقهم إليه أصحاب الغنى والجاه والولد من الكفار - فقد دلت عليه آيات أخر ، كقوله - تعالى - في " الأنعام " : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا [ 6 \ 53 ] .

فهمزة الإنكار في قوله : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ، تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير .

[ ص: 221 ] وقد رد الله عليهم بقوله : أليس الله بأعلم بالشاكرين وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم الآية [ 6 \ 53 - 54 ] . وقوله - تعالى - في " الأعراف " : ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون [ 7 \ 48 - 49 ] . وقوله - تعالى - في " ص " : وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار أأتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار [ 38 \ 62 - 63 ] .

فقد قال غير واحد : إن الرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار هم ضعفاء المسلمين الذين كانوا يسخرون منهم في دار الدنيا ، ويزعمون أنهم أحقر من أن ينالهم الله بخير ، ويدل له قوله : أأتخذناهم سخريا وسيسخر ضعفاء المسلمين في الجنة من الكفار الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا وهم في النار ، كما قال - تعالى - : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون إلى قوله - تعالى - : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] . وقوله - تعالى - : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة الآية [ 2 \ 212 ] .
قوله - تعالى - : وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا .

قد قدمنا الآيات الموضحة في سورة " الشعراء " في الكلام على قوله - تعالى - : لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين [ 26 \ 194 - 195 ] وفي سورة " الزمر " في الكلام على قوله - تعالى - : قرءانا عربيا غير ذي عوج الآية [ 39 \ 28 ] .
قوله - تعالى - : لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين .

قد قدمنا الآيات الموضحة له مع بيان أنواع الإنذار في القرآن في أول سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به الآية [ 7 \ 2 ] . وفي أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله - تعالى - : لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الآية [ 18 \ 2 ] .
قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

[ ص: 222 ] قد قدمنا الكلام عليه في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة الآية [ 41 ] .
قوله - تعالى - : ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا .

قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : حسنا بضم الحاء وسكون السين ، وكذلك هو في مصاحفهم .

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي : إحسانا بهمزة مكسورة وإسكان الحاء ، وألف بعد السين .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا [ 17 \ 23 ] . وقال أبو حيان في البحر : قيل : ضمن ووصينا معنى ألزمنا ، فيتعدى لاثنين ، فانتصب حسنا وإحسانا على المفعول الثاني لوصينا .

وقيل : التقدير إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان ، ويجوز أن يكون حسنا بمعنى إحسان ، فيكون مفعولا به ، أي ووصيناه بها لإحساننا إليهما ، فيكون الإحسان من الله - تعالى - .

وقيل : النصب على المصدر على تضمين معنى أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا . ا هـ منه ، وكلها له وجه .
قوله - تعالى - : حملته أمه كرها ووضعته كرها .

قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر : كرها بفتح الكاف في الموضعين .

وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر : كرها بضم الكاف في الموضعين .

وهما لغتان كالضعف والضعف .

ومعنى حملته كرها أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة .

[ ص: 223 ] ومن المعلوم ما تلاقيه الحامل من المشقة والضعف ، إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها .

ومعنى وضعته كرها : أنها في حالة وضع الولد تلاقي من ألم الطلق وكربه مشقة شديدة ، كما هو معلوم .

وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه ، لا شك أنها يعظم حقها بها ، ويتحتم برها والإحسان إليها ، كما لا يخفى .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل ، ودلت عليه آية أخرى ، وهي قوله - تعالى - في " لقمان " : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن [ 31 \ 14 ] أي تهن به وهنا على وهن ، أي ضعفا على ضعف; لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها ، ازدادت ضعفا على ضعف .

وقوله في آية " الأحقاف " هذه كرها في الموضعين - مصدر منكر ، وهو حال ، أي حملته ذات كره ووضعته ذات كره ، وإتيان المصدر المنكر حالا كثير ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :

ومصدر منكر حالا يقع بكثرة كبغتة زيد طلع

وقال بعضهم : كرها في الموضعين نعت لمصدر ، أي حملته حملا ذا كره ، ووضعته وضعا ذا كره . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : وحمله وفصاله ثلاثون شهرا .

هذه الآية الكريمة ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل ، ولكنها بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل ; لأن هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " صرحت بأن أمد الحمل والفصال معا - ثلاثون شهرا .

وقوله - تعالى - في " لقمان " : وفصاله في عامين . وقوله في " البقرة " : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين [ 2 \ 233 ] - يبين أن أمد الفصال عامان ، وهما أربعة وعشرون شهرا ، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر ، فتعين كونها أمدا للحمل ، وهي أقله ، ولا خلاف في ذلك بين العلماء .

[ ص: 224 ] ودلالة هذه الآيات على أن ستة أشهر أمد الحمل - هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة .

وقد أوضحنا الكلام عليها في مباحث الحج ، في سورة " الحج " في مبحث أقوال أهل العلم في حكم المبيت بمزدلفة ، وأشرنا لهذا النوع من البيان في ترجمة هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة .

قد قدمنا الكلام عليه في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله - تعالى - : حتى يبلغ أشده [ 6 \ 152 ] وفي ترجمة هذا الكتاب المبارك .
قوله - تعالى - : والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أولئك الذين حق عليهم القول .

التحقيق - إن شاء الله - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه بمعنى الذين ، وأن الآية عامة في كل عاق لوالديه مكذب بالبعث .

والدليل من القرآن على أن ( الذي ) بمعنى الذين ، وأن المراد به العموم - أن الذي في قوله : والذي قال لوالديه مبتدأ خبره قوله - تعالى - : أولئك الذين حق عليهم القول الآية .

والإخبار عن لفظة الذي في قوله : أولئك الذين حق عليهم القول بصيغة الجمع - صريح في أن المراد بالذي العموم لا الإفراد . وخير ما يفسر به القرآن القرآن .

وبهذا الدليل القرآني تعلم أن قول من قال في هذه الآية الكريمة أنها نازلة في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - ليس بصحيح ، كما جزمت عائشة - رضي الله عنها - ببطلانه .

وفي نفس آية " الأحقاف " هذه دليل آخر واضح على بطلانه ، وهو أن الله صرح بأن الذين قالوا تلك المقالة حق عليهم القول ، وهو قوله : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] .

[ ص: 225 ] ومعلوم أن عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما - أسلم وحسن إسلامه ، وهو من خيار المسلمين وأفاضل الصحابة - رضي الله عنهم - .

وغاية ما في هذه الآية الكريمة هو إطلاق ( الذي ) وإرادة ( الذين ) ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب ; لأن لفظ الذي مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها ، وقد تقرر في علم الأصول أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :



صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع

فمن إطلاق الذي وإرادة الذين في القرآن - هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " . وقوله - تعالى - في سورة " البقرة " : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية [ 2 \ 17 ] . أي كمثل الذين استوقدوا ، بدليل قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] بصيغة الجمع في الضمائر الثلاثة التي هي بنورهم و تركهم ، والواو في لا يبصرون .

وقوله - تعالى - في " البقرة " أيضا : كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] أي كالذين ينفقون ; بدليل قوله : لا يقدرون على شيء مما كسبوا [ 2 \ 264 ] . وقوله في " الزمر " : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ 39 \ 33 ] . وقوله في " التوبة " : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 \ 69 ] أي كالذين خاضوا بناء على أنها موصولة لا مصدرية ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أشهب بن رميلة :

فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد


وقول عديل بن الفرخ العجلي :

وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي


وقول الراجز :

يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد
إلا الذي قاموا بإطراف المسد

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أف لكما كلمة تضجر . وقائل ذلك عاق [ ص: 226 ] لوالديه غير مجتنب نهي الله في قوله : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف الآية [ 17 \ 23 ] . وقوله : أتعدانني فعل ، مضارع وعد ، وحذف واوه في المضارع مطرد ، كما ذكره في الخلاصة بقوله :

فا أمر أو مضارع من كوعد احذف وفي كعدة ذاك اطرد


والنون الأولى نون الرفع ، والثانية نون الوقاية ، كما لا يخفى .

وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وابن عامر في رواية ابن ذكوان وعاصم وحمزة والكسائي : أتعدانني ، بنونين مكسورتين مخففتين وياء ساكنة .

وقرأه هشام عن ابن عامر بنون مشددة مكسورة وبياء ساكنة .

وقرأه نافع وابن كثير بنونين مكسورتين مخففتين وياء مفتوحة ، والهمزة للإنكار .

وقوله : أن أخرج أي أبعث من قبري حيا بعد الموت .

والمصدر المنسبك من أن وصلتها هو المفعول الثاني لتعدانني ، يعني أتعدانني الخروج من قبري حيا بعد الموت ، والحال قد مضت القرون ، أي هلكت الأمم الأولى ، ولم يحي منهم أحد ، ولم يرجع بعد أن مات .

وهما ، أي والداه ، يستغيثان الله ، أي يطلبانه أن يغيثهما بأن يهدي ولدهما إلى الحق والإقرار بالبعث ، ويقولان لولدهما : ويلك آمن ، أي بالله وبالبعث بعد الموت .

والمراد بقولهما : ويلك - حثه على الإيمان . إن وعد الله حق ، أي وعده بالبعث بعد الموت حق لا شك فيه ، فيقول ذلك الولد العاق المنكر للبعث : ما هذا إن الذي تعدانني إياه من البعث بعد الموت إلا أساطير الأولين .

والأساطير جمع أسطورة . وقيل : جمع إسطارة ، ومراده بها ما سطره الأولون ، أي كتبوه من الأشياء التي لا حقيقة لها .

وقوله : أولئك ترجع الإشارة فيه إلى العاقين المكذبين بالبعث المذكورين في قوله : والذي قال لوالديه أف لكما الآية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:07 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (490)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 227 إلى صـ 234




[ ص: 227 ] وقوله : حق عليهم القول أي وجبت عليهم كلمة العذاب .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة " يس " في الكلام على قوله - تعالى - : لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون [ 36 \ 7 ] .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن منكري البعث يحق عليهم القول لكفرهم - قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الفرقان " في الكلام على قوله - تعالى - : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] .
قوله - تعالى - : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون .

معنى الآية الكريمة أنه يقال للكفار يوم يعرضون على النار : أذهبتم طيباتكم .

فقول : يعرضون على النار - قال بعض العلماء : معناه يباشرون حرها ، كقول العرب : عرضهم على السيف إذا قتلهم به ، وهو معنى معروف في كلام العرب .

وقد ذكر - تعالى - مثل ما ذكر هنا في قوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق [ 46 \ 34 ] وهذا يدل على أن المراد بالعرض مباشرة العذاب ; لقوله : قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون [ 6 ] . وقوله - تعالى - : وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا [ 40 \ 45 - 46 ] ; لأنه عرض عذاب .

وقال بعض العلماء : معنى عرضهم على النار هو تقريبهم منها ، والكشف لهم عنها حتى يروها ، كما قال - تعالى - : ورأى المجرمون النار الآية [ 18 \ 53 ] . وقال - تعالى - : وجيء يومئذ بجهنم [ 89 \ 23 ] .

وقال بعض العلماء في الكلام قلب ، وهو مروي عن ابن عباس وغيره . قالوا : والمعنى : ويوم تعرض النار على الذين كفروا . قالوا : وهو كقول العرب : عرضت الناقة على الحوض . يعنون عرضت الحوض على الناقة ، ويدل لهذا قوله - تعالى - : وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا [ 18 \ 100 ] .

[ ص: 228 ] قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : هذا النوع الذي ذكروه من القلب في الآية ، كقلب الفاعل مفعولا ، والمفعول فاعلا ، ونحو ذلك - اختلف فيه علماء العربية ، فمنعه البلاغيون إلا في التشبيه ، فأجازوا قلب المشبه مشبها به والمشبه به مشبها بشرط أن يتضمن ذلك نكتة وسرا لطيفا ، كما هو المعروف عندهم في مبحث التشبيه المقلوب .

وأجازه كثير من علماء العربية .

والذي يظهر لنا أنه أسلوب عربي نطقت به العرب في لغتها ، إلا أنه يحفظ ما سمع منه ، ولا يقاس عليه ، ومن أمثلته في التشبيه قول الراجز :

ومنهل مغبرة أرجاؤه كأن لون أرضه سماؤه

أي كأن سماءه لون أرضه ، وقول الآخر :

وبدا الصباح كأن غرته وجه الخليفة حين يمتدح


لأن أصل المراد تشبيه وجه الخليفة بغرة الصباح ، فقلب التشبيه ليوهم أن الفرع أقوى من الأصل في وجه الشبه .

قالوا : ومن أمثلته في القرآن وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة [ 28 \ 76 ] ; لأن العصبة من الرجال هي التي تنوء بالمفاتيح ، أي تنهض بها بمشقة وجهد لكثرتها وثقلها ، وقوله - تعالى - : فعميت عليهم الأنباء [ 28 \ 66 ] . أي عموا عنها . ومن أمثلته في كلام العرب قول كعب بن زهير :

كأن أوب ذراعيها إذا عرقت وقد تلفع بالقور العساقيل


لأن معنى قوله : تلفع لبس اللفاع وهو اللحاف ، والقور : الحجارة العظام ، والعساقيل : السراب .

والكلام مقلوب ; لأن القور هي التي تلتحف بالعساقيل لا العكس ، كما أوضحه لبيد في معلقته بقوله :

فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى واجتاب أردية السراب إكامها


فصرح بأن الإكام التي هي الحجارة اجتابت ، أي لبست ، أردية السراب .

والأردية جمع رداء ، وهذا النوع من القلب وإن أجازه بعضهم فلا ينبغي حمل الآية [ ص: 229 ] عليه ; لأنه خلاف الظاهر ، ولا دليل عليه يجب الرجوع إليه .

وظاهر الآية جار على الأسلوب العربي الفصيح ، كما أوضحه أبو حيان في البحر المحيط .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها قرأه ابن كثير وابن عامر : أأذهبتم بهمزتين ، وهما على أصولهما في ذلك .

فابن كثير يسهل الثانية بدون ألف إدخال بين الهمزتين .

وهشام يحققها ويسهلها مع ألف الإدخال . وابن ذكوان يحققها من غير إدخال .

وقرأه نافع وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي : أذهبتم طيباتكم بهمزة واحدة على الخبر من غير استفهام .

واعلم أن للعلماء كلاما كثيرا في هذه الآية قائلين : إنها تدل على أنه ينبغي التقشف والإقلال من التمتع بالمآكل والمشارب والملابس ، ونحو ذلك .

وإن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يفعل ذلك خوفا منه أن يدخل في عموم من يقال لهم يوم القيامة : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية . والمفسرون يذكرون هنا آثارا كثيرة في ذلك ، وأحوال أهل الصفة وما لاقوه من شدة العيش .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : التحقيق : إن شاء الله في معنى هذه الآية هو أنها في الكفار ، وليست في المؤمنين الذين يتمتعون باللذات التي أباحها الله لهم ; لأنه - تعالى - ما أباحها لهم ليذهب بها حسناتهم .

وإنما قلنا : إن هذا هو التحقيق ; لأن الكتاب والسنة الصحيحة دالان عليه ، والله - تعالى - يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .

أما كون الآية في الكفار فقد صرح الله - تعالى - به في قوله : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم الآية .

والقرآن والسنة الصحيحة قد دلا على أن الكافر إن عمل عملا صالحا مطابقا للشرع ، مخلصا فيه لله ، كالكافر الذي يبر والديه ، ويصل الرحم ويقري الضيف ، وينفس عن المكروب ، ويعين المظلوم يبتغي بذلك وجه الله - يثاب بعمله في دار الدنيا خاصة بالرزق [ ص: 230 ] والعافية ، ونحو ذلك ، ولا نصيب له في الآخرة .

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله - تعالى - : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 15 - 16 ] . وقوله - تعالى - : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب [ 42 \ 20 ] .

وقد قيد - تعالى - هذا الثواب الدنيوي المذكور في الآيات بمشيئته وإرادته ، في قوله - تعالى - : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا [ 17 \ 18 ] .

وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة; يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .

وفي لفظ له عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة في الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة ، ويعقبه رزقا في الدنيا على طاعته " ا هـ .

فهذا الحديث الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا فقط ، وأن المؤمن يجازى بحسناته في الدنيا والآخرة معا ، وبمقتضى ذلك يتعين تعيينا لا محيص عنه أن الذي أذهب طيباته في الدنيا واستمتع بها هو الكافر; لأنه لا يجزى بحسناته إلا في الدنيا خاصة .

وأما المؤمن الذي يجزى بحسناته في الدنيا والآخرة معا - فلم يذهب طيباته في الدنيا ; لأن حسناته مدخرة له في الآخرة ، مع أن الله - تعالى - يثيبه بها في الدنيا ، كما قال - تعالى - : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ 65 \ 2 - 3 ] فجعل المخرج من الضيق له ورزقه من حيث لا يحتسب - ثوابا في الدنيا ، وليس ينقص أجر تقواه في الآخرة .

والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وعلى كل حال فالله - جل وعلا - أباح لعباده على [ ص: 231 ] لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - الطيبات في الحياة الدنيا ، وأجاز لهم التمتع بها ، ومع ذلك جعلها خاصة بهم في الآخرة ، كما قال - تعالى - : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 \ 32 ] .

فدل هذا النص القرآني أن تمتع المؤمنين بالزينة والطيبات من الرزق في الحياة الدنيا لم يمنعهم من اختصاصهم بالتنعم بذلك يوم القيامة ، وهو صريح في أنهم لم يذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا .

ولا ينافي هذا أن من كان يعاني شدة الفقر في الدنيا كأصحاب الصفة ، يكون لهم أجر زائد على ذلك ; لأن المؤمنين يؤجرون بما يصيبهم في الدنيا من المصائب والشدائد ، كما هو معلوم .

والنصوص الدالة على أن الكافر هو الذي يذهب طيباته في الحياة الدنيا ; لأنه يجزى في الدنيا فقط كالآيات المذكورة ، وحديث أنس المذكور عند مسلم - قد قدمناها موضحة في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا وذكرنا هناك أسانيد الحديث المذكور وألفاظه .

وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فاليوم تجزون عذاب الهون أي عذاب الهوان ، وهو الذل والصغار .

وقوله - تعالى - : بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ، الباء في قوله : بما كنتم - سببية ، وما مصدرية ، أي تجزون عذاب الهون بسبب كونكم مستكبرين في الأرض ، وكونكم فاسقين .

وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون الاستكبار في الأرض والفسق من أسباب عذاب الهون ، وهو عذاب النار - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : أليس في جهنم مثوى للمتكبرين [ 39 \ 60 ] . وقوله - تعالى - : وأما الذين فسقوا فمأواهم النار الآية [ 32 \ 20 ] .

وقد قدمنا النتائج الوخيمة الناشئة عن التكبر في سورة " الأعراف " في الكلام على قوله - تعالى - : فما يكون لك أن تتكبر فيها الآية [ 7 \ 13 ] .

[ ص: 232 ] وقوله - تعالى - : بغير الحق مع أنه من المعلوم أنهم لا يستكبرون في الأرض إلا استكبارا متلبسا بغير الحق ، كقوله - تعالى - : ولا طائر يطير بجناحيه [ 6 \ 38 ] ومعلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه ، وقوله : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم [ 2 \ 79 ] . ومعلوم أنهم لا يكتبونه إلا بأيديهم ، ونحو ذلك من الآيات ، وهو أسلوب عربي نزل به القرآن .
قوله - تعالى - : واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف .

أبهم - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أخا عاد ولم يعينه ، ولكنه بين في آيات أخرى أنه هود - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - كقوله - تعالى - : وإلى عاد أخاهم هودا في سورة " الأعراف " [ 7 \ 65 ] . وسورة " هود " [ 11 \ 50 ] . وغير ذلك من المواضع .
قوله - تعالى - : ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن النبي هودا نهى قومه أن يعبدوا غير الله ، وأمرهم بعبادته - تعالى - وحده ، وأنه خوفهم من عذاب الله ، إن تمادوا في شركهم به .

وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية جاءا موضحين في آيات أخر .

أما الأول منهما ففي قوله - تعالى - : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره في سورة " الأعراف " [ 7 \ 65 ] . وسورة " هود " [ 11 \ 50 ] . ونحو ذلك من الآيات .

وأما خوفه عليهم العذاب العظيم فقد ذكره في " الشعراء " في قوله - تعالى - : واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم [ 26 \ 132 - 135 ] . وهو يوم القيامة .
قوله - تعالى - : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين .

ومعنى قوله - تعالى - : لتأفكنا عن آلهتنا ، أي لتصرفنا عن عبادتها إلى عبادة الله وحده .

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين : [ ص: 233 ] أحدهما : إنكار عاد على هود أنه جاءهم ، ليتركوا عبادة الأوثان ، ويعبدوا الله وحده .

والثاني : أنهم قالوا له : ائتنا بما تعدنا من العذاب وعجله لنا إن كنت صادقا فيما تقول ، عنادا منهم وعتوا .

وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 7 \ 70 ] .
قوله - تعالى - : وأبلغكم ما أرسلت به .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبي الله هودا قال لقومه إنه يبلغهم ما أرسل به إليهم; لأنه ليس عليه إلا البلاغ ، وهذا المعنى جاء مذكورا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - في " الأعراف " : قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين [ 7 \ 67 - 68 ] . وقوله - تعالى - في سورة " هود " : فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم الآية [ 11 \ 57 ] .
قوله - تعالى - : بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " فصلت " في الكلام على قوله - تعالى - : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ 41 \ 16 ] .
قوله - تعالى - : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه .

لفظة إن في هذه الآية الكريمة فيها للمفسرين ثلاثة أوجه ، يدل استقراء القرآن على أن واحدا منها هو الحق ، دون الاثنين الآخرين .

قال بعض العلماء : إن شرطية ، وجزاء الشرط محذوف ، والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم وبغيتم .

وقال بعضهم : إن زائدة بعد ما الموصولة حملا لـ ما الموصولة على ما النافية ; لأن ما النافية تزاد بعدها لفظة إن كما هو معلوم .

[ ص: 234 ] كقول قتيلة بنت الحارث أو النضر العبدرية :

أبلغ بها ميتا بأن تحية ما إن نزل بها النجائب تخفقوا

وقول دريد بن الصمة في الخنساء :

ما إن رأيت ولا سمعت به كاليوم طالي أينق جرب


فـ ( إن ) زائدة بعد ( ما ) النافية في البيتين ، وهو كثير ، وقد حملوا على ذلك ( ما ) الموصولة ، فقالوا : تزاد بعدها ( إن ) كآية " الأحقاف " هذه . وأنشد لذلك الأخفش : يرجي المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب

أي يرجي المرء الشيء الذي لا يراه ، وإن زائدة ، وهذان هما الوجهان اللذان لا تظهر صحة واحد منهما .

لأن الأول منهما فيه حذف وتقدير .

والثاني منهما فيه زيادة كلمة .

وكل ذلك لا يصار إليه إلا بدليل يجب الرجوع إليه .

أما الوجه الثالث الذي هو الصواب - إن شاء الله - فهو أن لفظة ( إن ) نافية بعد ( ما ) الموصولة ، أي ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من القوة في الأجسام ، وكثرة الأموال والأولاد والعدد .

وإنما قلنا : إن القرآن يشهد لهذا القول لكثرة الآيات الدالة عليه ، فإن الله - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه يهدد كفار مكة بأن الأمم الماضية كانت أشد منهم بطشا وقوة ، وأكثر منهم عددا وأموالا وأولادا ، فلما كذبوا الرسل أهلكهم الله ليخافوا من تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهلكهم الله بسببه ، كما أهلك الأمم التي هي أقوى منهم ، كقوله - تعالى - في " المؤمن " : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ 40 \ 82 ] .

وقوله فيها أيضا : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم الآية [ 40 \ 21 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:10 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (491)
سُورَةُ الْأَحْقَافِ
صـ 235 إلى صـ 242


[ ص: 235 ] وقوله - تعالى - في " الروم " : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها الآية [ 30 \ 9 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " الزخرف " في الكلام على قوله - تعالى - : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين [ 43 \ 10 ] .
قوله - تعالى - : فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " الجاثية " في الكلام على قوله - تعالى - : ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ الآية \ 10 ] .
قوله - تعالى - : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم .

ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من سورة " الأحقاف " أنه صرف إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - نفرا من الجن والنفر دون العشرة يستمعون القرآن وأنهم لما حضروه ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا أي اسكتوا مستمعين ، وأنه لما قضى ، أي انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قراءته ولوا أي رجعوا إلى قومهم من الجن في حال كونهم منذرين ، أي مخوفين لهم من عذاب الله إن لم يؤمنوا بالله ، ويجيبوا داعيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأخبروا قومهم أن هذا الكتاب الذي سمعوه يتلى ، المنزل من بعد موسى - يهدي إلى الحق ، وهو ضد الباطل ، وإلى طريق مستقيم ، أي لا اعوجاج فيه .

وقد دل القرآن العظيم أن استماع هؤلاء النفر من الجن ، وقولهم ما قالوا عن القرآن كله - وقع ولم يعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أوحى الله ذلك إليه ، كما قال - تعالى - في القصة بعينها مع بيانها وبسطها ، بتفصيل الأقوال التي قالتها الجن ، بعد استماعهم القرآن العظيم : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ 82 \ 1 - 2 ] إلى آخر الآيات .
[ ص: 236 ] قوله - تعالى - : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .

منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وآمن به ، وبما جاء به من الحق - غفر الله له ذنوبه ، وأجاره من العذاب الأليم . ومفهومها ، أعني مفهوم مخالفتها المعروف بدليل الخطاب ، أن من لم يجب داعي الله من الجن ، ولم يؤمن به لم يغفر له ، ولم يجره من عذاب أليم ، بل يعذبه ويدخله النار ، وهذا المفهوم جاء مصرحا به مبينا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] . وقوله - تعالى - : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] . وقوله - تعالى - : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] . وقوله - تعالى - : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

أما دخول المؤمنين المجيبين داعي الله من الجن الجنة - فلم تتعرض له الآية الكريمة بإثبات ولا نفي ، وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجن يدخلون الجنة ، وهي قوله - تعالى - في سورة " الرحمن " : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 46 - 47 ] . وبه تعلم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم ، قائلين : إنه يفهم من هذه الآية ، من أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة ، وأن جزاء إيمانهم وإجابتهم داعي الله ، هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط ، كما هو نص الآية - كله خلاف التحقيق .

وقد أوضحنا ذلك في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في الكلام على هذه الآية ، من سورة " الأحقاف " فقلنا فيه ما نصه : هذه الآية يفهم من ظاهرها ، أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه ، وإجارته من عذاب أليم ، لا دخوله الجنة .

وقد تمسك جماعة من العلماء منهم ، الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بظاهر هذه الآية ، فقالوا : إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة ، مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة ، وهي قوله - تعالى - : ولمن خاف مقام ربه جنتان ; لأنه - تعالى - بين شموله للجن والإنس ، بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان .

[ ص: 237 ] ويستأنس لهذا بقوله - تعالى - : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] . فإنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس .

والجواب عن هذا أن آية " الأحقاف " نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات ، وآية " الرحمن " نص فيها على دخولهم الجنة ; لأنه - تعالى - قال فيها : ولمن خاف مقام ربه جنتان .

وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم ، فقوله : ولمن خاف ، يعم كل خائف مقام ربه ، ثم صرح بشمول ذلك الجن والإنس معا بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان .

فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه ، أي نعمه على الإنس والجن ، فلا تعارض بين الآيتين ; لأن إحداهما بينت ما لم تعرض له الأخرى .

ولو سلمنا أن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ، يفهم منه عدم دخولهم الجنة ، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم ، وقوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق .

والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول .

ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى وجدناه معدوما من أصله ; للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية ، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ، ولا ثالث .

ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين .

أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح .

وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة ، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف - واضح .

فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب ، وليس داخلا في واحد منهما ، فظهر عدم دخوله فيه أصلا .

أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط ، فلأن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم [ ص: 238 ] فعل مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب .

وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر ، لا بالجملة قبله ، كما قيل به .

وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور ، فتقرير المعنى : أجيبوا داعي الله وآمنوا به إن تفعلوا ذلك يغفر لكم ، فيتوهم في الآية مفهوم هذا الشرط المقدر .

والجواب عن هذا : أن مفهوم الشرط عند القائل به ، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه ، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته ، فمفهوم أن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم ، أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به ; لم يغفر لهم ، وهو كذلك .

أما جزاء الشرط فلا مفهوم له ; لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة ، فيذكر بعضها جزاء له ، فلا يدل على نفي غيره .

كما لو قلت لشخص مثلا : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت .

فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع ; لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة ، كالغرم .

وكذلك الغفران والإجارة من العذاب ودخول الجنة - كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به .

فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ، ثم بين في موضع آخر ، وهذا لا إشكال فيه .

وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب ، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه ، أعني المسند إليه ، سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك .

وقد أوضحنا اللقب غاية في " المائدة " .

والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب ، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما ، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية سندان لا مسند إليهما ، بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ، ولا يستند إلى الفعل [ ص: 239 ] إجماعا ، ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية .

ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه ; لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره ، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة ، كما عللوا به مفهوم الصفة .

وأجيب من جهة الجمهور : بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم ، لا لتخصيصه بالحكم; إذ لا يمكن الإسناد بدون مسند إليه .

ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به - إنما هو في المسند إليه لا في المسند ; لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها ، فيقصد بعضها بالذكر دون بعض فيختص الحكم بالمذكور .

أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد والأوصاف أصلا ، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية .

ولو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان - فإن المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده ; لأن كل فرد منها حيوان بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال ، فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد; لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرش مثلا .

والحكم بالمباين على المباين باطل إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء .

وعامة النظار على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الأفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية ، أو الذهني إن كانت حقيقية .

أما المحمول من حيث هو فلا تراعى فيه الأفراد البتة .

وإنما يراعى فيه مطلق الماهية ، ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب - فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به ، وربما كان اعتباره كفرا ، كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى : ( محمد رسول الله ) [ 48 \ 29 ] فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يكن رسول الله ، فهذا كفر بإجماع المسلمين .

فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ولا عقلا ، سواء كان [ ص: 240 ] اسم جنس ، أو اسم عين ، أو اسم جمع أو غير ذلك .

فقولك : جاء زيد ، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو .

وقولك : رأيت أسدا ، لا يفهم منه عدم رؤيتك لغير الأسد .

والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر ، واسم العين فلا يعتبر ، لا يظهر .

فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية .

ولا بقول ابن خويز منداد وابن القصار من المالكية ، ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب ; لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به ، إلا أنه يقول : لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة ، كما علل به مفهوم الصفة ; لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه ، وهو واضح لا إشكال فيه .

وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي ، وأنه أضعف المفاهيم - بقوله :

أضعفها اللقب وهو ما أبي من دونه نظم الكلام العرب

وحاصل فقه هذه المسألة أن الجن مكلفون على لسان نبينا - صلى الله عليه وسلم - بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين ، وهو صريح قوله - تعالى - : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] . وقوله - تعالى - : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] . وقوله - تعالى - : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] . إلى غير ذلك من الآيات .

وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ، ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين .

والظاهر دخولهم الجنة كما بينا ، والعلم عند الله - تعالى - . ا هـ . منه بلفظه .
قوله - تعالى - : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير .

قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية ، وأنها من الآيات الدالة على البعث في [ ص: 241 ] " البقرة " و " النحل " و " الجاثية " ، وغير ذلك من المواضع ، وأحلنا على ذلك مرارا ، والباء في قوله : بقادر يسوغه أن النفي متناول ل ( أن ) فما بعدها ، فهو في معنى أليس الله بقادر ؟

ويوضح ذلك قوله بعد : بلى . مقررا لقدرته على البعث وغيره .
قوله - تعالى - : فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل . اختلف العلماء في المراد بأولي العزم من الرسل في هذه الآية الكريمة اختلافا كثيرا .

وأشهر الأقوال في ذلك أنهم خمسة ، وهم الذين قدمنا ذكرهم في " الأحزاب " و " الشورى " ، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - .

وعلى هذا القول فالرسل الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصبر كما صبروا - أربعة ، فصار هو - صلى الله عليه وسلم - خامسهم .

واعلم أن القول بأن المراد بأولي العزم جميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأن لفظة من في قوله : من الرسل بيانية يظهر أنه خلاف التحقيق ، كما دل على ذلك بعض الآيات القرآنية ، كقوله - تعالى - : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت الآية [ 68 \ 48 ] ، فأمر الله - جل وعلا - نبيه في آية " القلم " هذه بالصبر ، ونهاه عن أن يكون مثل يونس ; لأنه هو صاحب الحوت ، وكقوله : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما [ 20 \ 115 ] . فآية " القلم " ، وآية " طه " المذكورتان كلتاهما تدل على أن أولي العزم من الرسل الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصبر كصبرهم ليسوا جميع الرسل . والعلم عند الله - تعالى - .
قوله - تعالى - : ولا تستعجل لهم .

نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية الكريمة ، أن يستعجل العذاب لقومه ، أي يدعو الله عليهم بتعجيله لهم ، فمفعول ( تستعجل ) محذوف ، تقديره العذاب ، كما قاله القرطبي ، وهو الظاهر .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن طلب تعجيل العذاب لهم - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا [ 73 \ 11 ] . وقوله - تعالى - : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ 86 \ 17 ] .

[ ص: 242 ] فإن قوله : ومهلهم قليلا ، وقوله : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا موضح لمعنى قوله : ولا تستعجل لهم .

والمراد بالآيات ، نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن طلب تعجيل العذاب لهم ; لأنهم معذبون لا محالة ، عند انتهاء المدة المحددة للإمهال ، كما يوضحه قوله - تعالى - : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا [ 19 \ 84 ] . وقوله - تعالى - : نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ [ 31 \ 24 ] . وقوله - تعالى - : قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار الآية [ 2 \ 126 ] . وقوله - تعالى - : لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد [ 3 \ 196 - 197 ] . وقوله - تعالى - : قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون [ 10 \ 69 - 70 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
قوله - تعالى - : كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " يونس " في الكلام على قوله - تعالى - : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم [ 10 \ 45 ] . وفي سورة " قد أفلح المؤمنون " في الكلام على قوله - تعالى - : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين [ 23 \ 113 ] .

وبينا في الكلام على آية " قد أفلح المؤمنون " وجه إزالة إشكال معروف في الآيات المذكورة .
قوله - تعالى - : بلاغ .

التحقيق - إن شاء الله - أن أصوب القولين في قوله : بلاغ أنه خبر مبتدإ محذوف تقديره : هذا بلاغ ، أي هذا القرآن بلاغ من الله إلى خلقه .

ويدل لهذا قوله - تعالى - في سورة " إبراهيم " : هذا بلاغ للناس ولينذروا به [ 14 \ 52 ] . وقوله في " الأنبياء " : إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين [ 21 \ 106 ] . وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:13 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (492)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 243 إلى صـ 250



والبلاغ اسم مصدر بمعنى التبليغ ، وقد علم باستقراء اللغة العربية أن الفعال يأتي [ ص: 243 ] كثيرا بمعنى التفعيل ، كبلغه بلاغا ، أي تبليغا ، وكلمه كلاما ، أي تكليما ، وطلقها طلاقا ، وسرحها سراحا ، وبينه بيانا .

كل ذلك بمعنى التفعيل ; لأن فعل - مضعفة العين ، غير معتلة اللام ولا مهموزته - قياس مصدرها التفعيل .

وما جاء منه على خلاف ذلك - يحفظ ولا يقاس عليه ، كما هو معلوم في محله .

أما القول بأن المعنى : وذلك اللبث بلاغ ، فهو خلاف الظاهر كما ترى ، والعلم عند الله - تعالى - .
[ ص: 244 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ مُحَمَّدٍ

سُورَةُ الْقِتَالِ وَهِيَ سُورَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

قَوْلُهُ - تَعَالَى - : الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ .

قَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الصُّدُودِ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ لَازِمَةٌ .

وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مِنَ الصَّدِّ ; لِأَنَّ صَدَّ فِي الْآيَةِ مُتَعَدِّيَةٌ .

وَعَلَيْهِ فَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ ، أَيْ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، أَيْ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ .

وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ هُوَ الصَّوَابُ ; لِأَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ لَازِمَةٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ : كَفَرُوا ; لِأَنَّ الْكُفْرَ هُوَ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الصُّدُودِ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ .

وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ صَدَّ مُتَعَدِّيَةٌ فَلَا تَكْرَارَ ; لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ ضَالُّونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ، مُضِلُّونَ لِغَيْرِهِمْ بِصَدِّهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّ هُمْ أَجْرَهُمْ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] ، أَنَّ اللَّفْظَ إِذَا دَارَ بَيْنَ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْسِيسِ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى التَّأْسِيسِ ، إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَيْ أَبْطَلَ ثَوَابَهَا ، فَمَا عَمِلَهُ الْكَافِرُ مِنْ حَسَنٍ فِي الدُّنْيَا ، كَقَرْيِ الضَّيْفِ ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ ، وَحَمْيِ الْجَارِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَالتَّنْفِيسِ عَنِ الْمَكْرُوبِ ، يَبْطُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيَضْمَحِلُّ وَيَكُونُ لَا أَثَرَ لَهُ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : [ ص: 245 ] وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [ 25 \ 23 ] . وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ .

وَقِيلَ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ، أَيْ أَبْطَلَ كَيْدَهُمُ الَّذِي أَرَادُوا أَنْ يَكِيدُوا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ أَيْ غَفَرَ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَتَجَاوَزَ لَهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ أَيْ أَصْلَحَ لَهُمْ شَأْنَهُمْ وَحَالَهُمْ إِصْلَاحًا لَا فَسَادَ مَعَهُ ، وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنْ يُبْطِلَ أَعْمَالَ الْكَافِرِينَ ، وَيُبْقِيَ أَعْمَالَ الْمُؤْمِنِينَ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ 1 \ 15 - 16 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [ 42 \ 20 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [ 25 \ 23 - 24 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا مَعَ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِيهِ ، مَعَ زِيَادَةِ إِيضَاحٍ مُهِمَّةٍ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [ 17 \ 19 ] . وَفِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] . وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي سُورَةِ " الْأَحْقَافِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُ مْ بِهَا الْآيَةَ [ 46 \ 20 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ أَصْلُهُ مِنَ الضَّلَالِ بِمَعْنَى الْغَيْبَةِ وَالِاضْمِحْلَا لِ ، لَا مِنَ الضَّالَّةِ كَمَا زَعَمَهُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ : وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ 6 \ 24 ] .

وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ وَاللُّغَةِ فِي سُورَةِ " الشُّعَرَاءِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ : قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [ 26 \ 20 ] . وَفِي آخِرِ " الْكَهْفِ " فِي الْكَلَامِ [ ص: 246 ] عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الْآيَةَ [ 18 \ 104 ] . وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْكَهْفِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ الْآيَةَ [ 18 \ 2 ] . وَفِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ - تَعَالَى - : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [ 47 \ 2 ] .

قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ : هُوَ عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ بَعْدَ بِعْثَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - . ا هـ مِنْهُ .

وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [ 11 \ 17 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَهُوَ الْحَقُّ جُمْلَةٌ اعْتِرَاضِيَّةٌ تَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ اللَّهِ بِأَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُنَزَّلَ عَلَى هَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الْحَقُّ مِنَ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ [ 6 \ 66 ] . قَالَ - تَعَالَى - : وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ [ 69

- 51 ] . وَقَالَ - تَعَالَى - : قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ الْآيَةَ [ 10 \ 108 ] . وَقَالَ - تَعَالَى - : يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ الْآيَةَ [ 4 \ 170 ] . وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - : ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ [ 47 \ 3 ] أَيْ ذَلِكَ الْمَذْكُورُ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ ، أَيْ إِبْطَالِهَا وَاضْمِحْلَالِه َا وَبَقَاءِ ثَوَابِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَتَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ ، كُلُّهُ وَاقِعٌ بِسَبَبِ أَنَّ الْكُفَّارَ اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ ، وَمَنِ اتَّبَعَ الْبَاطِلَ فَعَمَلُهُ بَاطِلٌ .

وَالزَّائِلُ الْمُضْمَحِلُّ تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ بَاطِلًا ، وَضِدُّهُ الْحَقُّ .

وَبِسَبَبِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ ، وَمُتَّبِعُ الْحَقِّ أَعْمَالُهُ حَقٌّ ، فَهِيَ ثَابِتَةٌ بَاقِيَةٌ ، لَا زَائِلَةٌ مُضْمَحِلَّةٌ .

[ ص: 247 ] وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ اخْتِلَافَ الْأَعْمَالِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الثَّوَابِ ، لَا يَتَوَهَّمُ اسْتِوَاءَهُمَا إِلَّا الْكَافِرُ الْجَاهِلُ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْإِنْكَارَ عَلَيْهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين َ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ 68 \ 35 - 36 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِين َ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ 38 \ 28 ] . وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [ 45 \ 21 ] .

وَقَوْلُهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ .

قَالَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيّ ُ : فَإِنْ قُلْتَ : أَيْنَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ ؟

قُلْتُ : فِي جَعْلِ اتِّبَاعِ الْبَاطِلِ مَثَلًا لِعَمَلِ الْكُفَّارِ ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ مَثَلًا لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ . أَوْ فِي أَنَّ جَعَلَ الْإِضْلَالَ مَثَلًا لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مَثَلًا لِفَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ . ا هـ مِنْهُ .

وَأَصْلُ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ يُرَادُ مِنْهُ بَيَانُ الشَّيْءِ بِذِكْرِ نَظِيرِهِ الَّذِي هُوَ مَثَلٌ لَهُ .
قوله - تعالى - : فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها .

قوله - تعالى - : فضرب الرقاب مصدر نائب عن فعله ، وهو بمعنى فعل الأمر ، ومعلوم أن صيغ الأمر في اللغة العربية أربع : وهي فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : أقم الصلاة لدلوك الشمس الآية [ 17 \ 78 ] .

واسم فعل الأمر ، كقوله - تعالى - : عليكم أنفسكم الآية [ 5 \ 105 ] .

والفعل المضارع المجزوم بلام الأمر كقوله - تعالى - : ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] .

والمصدر النائب عن فعله ، كقوله - تعالى - : فضرب الرقاب ، أي فاضربوا رقابهم ، وقوله - تعالى - : حتى إذا أثخنتموهم ، أي أوجعتم فيهم قتلا .

[ ص: 248 ] فالإثخان هو الإكثار من قتل العدو حتى يضعف ويثقل عن النهوض .

وقوله : فشدوا الوثاق ، أي فأسروهم ، والوثاق - بالفتح والكسر - اسم لما يؤسر به الأسير من قيد ونحوه .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الأمر بقتل الكفار حتى يثخنهم المسلمون ، ثم بعد ذلك يأسرونهم - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، كقوله - تعالى - : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ 8 \ 68 ] . وقد أمر بقتلهم في آيات أخر ، كقوله - تعالى - : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] . وقوله : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] . وقوله - تعالى - : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] . وقوله : فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم الآية [ 8 \ 57 ] . وقوله - تعالى - في هذه الآية الكريمة : فإما منا بعد وإما فداء أي فإما تمنون عليهم منا ، أو تفادونهم فداء .

ومعلوم أن المصدر إذا سيق لتفصيل وجب حذف عامله ، كما قال في الخلاصة :

وما لتفصيل كإما منا عامله يحذف حيث عنا

ومنه قول الشاعر :

لأجهدن فإما درء واقعة تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل


وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بالآيات التي ذكرنا قبلها ، وممن يروى عنه هذا القول ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك وابن جريج .

وذكر ابن جرير عن أبي بكر - رضي الله عنه - ما يؤيده .

ونسخ هذه الآية هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - فإنه لا يجوز عنده المن ولا الفداء ; لأن الآية منسوخة عنده ، بل يخير عنده الإمام بين القتل والاسترقاق .

ومعلوم أن آيات السيف النازلة في براءة نزلت بعد سورة القتال هذه .

وأكثر أهل العلم يقولون : إن الآية ليست منسوخة ، وإن جميع الآيات المذكورة [ ص: 249 ] محكمة ، فالإمام مخير ، وله أن يفعل ما رآه مصلحة للمسلمين من من وفداء وقتل واسترقاق .

قالوا : قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث أسيرين يوم بدر ، وأخذ فداء غيرهما من الأسارى .

ومن على ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ، وكان يسترق السبي من العرب وغيرهم .

وقال الشوكاني في نيل الأوطار : والحاصل أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق ، فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات ، والمجوز قائم في مقام المنع ، وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة ، وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم ، كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ اهـ محل الغرض منه .

ومعلوم أن بني ناجية من العرب .

قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : لم يختلف المسلمون في جواز الملك بالرق .

ومعلوم أن سببه أسر المسلمين الكفار في الجهاد ، والله - تبارك وتعالى - في كتابه يعبر عن الملك بالرق بعبارة هي أبلغ العبارات ، في توكيد ثبوت ملك الرقيق ، وهي ملك اليمين ; لأن ما ملكته يمين الإنسان فهو مملوك له تماما ، وتحت تصرفه تماما ، كقوله - تعالى - : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 3 ] . وقوله : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين في سورة " قد أفلح المؤمنون " [ 23 \ 5 - 6 ] . و " سأل سائل " [ 70 \ 29 - 30 ] . وقوله : والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم الآية [ 4 \ 24 ] . وقوله : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم الآية [ 24 \ 33 ] . وقوله : والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [ 4 \ 36 ] . وقوله : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك الآية [ 33 \ 52 ] . وقوله : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك الآية [ 33 \ 50 ] . وقوله : [ ص: 250 ] أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن [ 24 \ 31 ] . وقوله : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات [ 16 \ 71 ] . وقوله : فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم [ 16 \ 71 ] . وقوله : هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء الآية [ 30 \ 28 ] . فالمراد بملك اليمين في جميع هذه الآيات كلها الملك بالرق ، والأحاديث والآيات بمثل ذلك يتعذر حصرها ، وهي معلومة ، فلا ينكر الرق في الإسلام إلا مكابر أو ملحد أو من لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله .

وقد قدمنا حكمة الملك بالرق وإزالة الإشكال في ملك الرقيق المسلم في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله - تعالى - : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .

ومن المعلوم أن كثيرا من أجلاء علماء المسلمين ومحدثيهم الكبار كانوا أرقاء مملوكين ، أو أبناء أرقاء مملوكين .

فهذا محمد بن سيرين كان أبوه سيرين عبدا لأنس بن مالك .

وهذا مكحول كان عبدا لامرأة من هذيل ، فأعتقته .

ومثل هذا أكثر من أن يحصى ، كما هو معلوم .

واعلم أن ما يدعيه بعض من المتعصبين لنفي الرق في الإسلام من أن آية " القتال " هذه دلت على نفي الرق من أصله ; لأنها أوجبت واحدا من أمرين لا ثالث لهما ، وهما المن والفداء فقط - فهو استدلال ساقط من وجهين : أحدهما : أن فيه استدلالا بالآية ، على شيء لم يدخل فيها ، ولم تتناوله أصلا ، والاستدلال إن كان كذلك فسقوطه كما ترى .

وإيضاح ذلك أن هذه الآية التي فيها تقسيم حكم الأسارى إلى من وفداء ، لم تتناول قطعا إلا الرجال المقاتلين من الكفار ; لأن قوله : فضرب الرقاب ، وقوله : حتى إذا أثخنتموهم - صريح في ذلك كما ترى .

وعلى إثخان هؤلاء المقاتلين رتب بالفاء قوله : فشدوا الوثاق .

فظهر أن الآية لم تتناول أنثى ولا صغيرا البتة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:16 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (493)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 251 إلى صـ 258



ويزيد ذلك إيضاحا أن النهي عن قتل نساء الكفار وصبيانهم ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 251 ] وأكثر أهل الرق في أقطار الدنيا إنما هو من النساء والصبيان .

ولو كان الذي يدعي نفي الرق من أصله يعترف بأن الآية ، لا يمكن أن يستدل بها على شيء غير الرجال المقاتلين ، لقصر نفي الرق الذي زعمه على الرجال الذين أسروا في حال كونهم مقاتلين ، ولو قصره على هؤلاء ، لم يمكنه أن يقول بنفي الرق من أصله كما ترى .

الوجه الثاني : هو ما قدمنا من الأدلة على ثبوت الرق في الإسلام . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : حتى تضع الحرب أوزارها أي : إذا لقيتم الكفار فاضربوا أعناقهم حتى إذا أثخنتموهم قتلا فأسروهم حتى تضع الحرب أوزارها أي حتى تنتهي الحرب .

وأظهر الأقوال في معنى وضع الحرب أوزارها أنه وضع السلاح ، والعرب تسمي السلاح وزرا ، وتطلق العرب الأوزار على آلات الحرب وما يساعد فيها كالخيل ، ومنه قول الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا وفي معنى أوزار الحرب أقوال أخر معروفة تركناها ، لأن هذا أظهرها عندنا . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم . ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين ، إن نصروا ربهم ، نصرهم على أعدائهم ، وثبت أقدامهم ، أي عصمهم من الفرار والهزيمة .

وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة ، وبين في بعضها صفات الذين وعدهم بهذا النصر كقوله تعالى : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] ، ثم بين صفات الموعودين بهذا النصر في قوله تعالى بعده : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ 22 \ 41 ] ، وكقوله تعالى : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ 40 \ 51 ] ، وقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

[ ص: 252 ] وقوله تعالى في بيان صفات من وعدهم بالنصر في الآيات المذكورة : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف [ 22 \ 41 ] .

يدل على أن الذين لا يقيمون الصلاة ، ولا يؤتون الزكاة ، ولا يأمرون بالمعروف ، ولا ينهون عن المنكر ، ليس لهم وعد من الله بالنصر البتة .

فمثلهم كمثل الأجير الذي لم يعمل لمستأجره شيئا ، ثم جاءه يطلب منه الأجرة .

فالذين يرتكبون جميع المعاصي ممن يتسمون باسم المسلمين ، ثم يقولون : إن الله سينصرنا - مغررون ; لأنهم ليسوا من حزب الله الموعودين بنصره كما لا يخفى .

ومعنى نصر المؤمنين لله - نصرهم لدينه ولكتابه ، وسعيهم وجهادهم في أن تكون كلمته هي العليا ، وأن تقام حدوده في أرضه ، وتمتثل أوامره وتجتنب نواهيه ، ويحكم في عباده بما أنزل على رسوله - صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها . قد قدمنا إيضاحه في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : وما هي من الظالمين ببعيد [ 11 \ 83 ] ، وأحلنا على الآيات الموضحة لذلك في سورة الروم في الكلام على قوله تعالى : أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض [ 30 \ 9 ] ، وأوضحناها في الزخرف في الكلام على قوله : فأهلكنا أشد منهم بطشا [ 43 \ 8 ] ، وفي الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه [ 46 \ 26 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم . الآيات التي توضح معنى هذه الآية ، هي المشار إليها في نفس الآية ، التي ذكرنا قبلها .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة ، من إخراج كفار مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - منها بينه في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم [ 60 \ ] ، [ ص: 253 ] وقوله تعالى : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك [ 8 - 30 ] .

وقد أخرجوه فعلا بمكرهم المذكور ، وبين - جل وعلا - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الذين أخرجوا من ديارهم لا ذنب لهم يستوجبون به الإخراج إلا الإيمان بالله ، كما قال تعالى : الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله [ 22 \ 40 ] ، وقال تعالى : يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم [ 60 \ 1 ] ، أي يخرجون الرسول وإياكم لأجل إيمانكم بربكم .

وقال تعالى في إخراجهم له : ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول [ 9 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقرأ هذا الحرف عامة السبعة ، غير ابن كثير بهمزة مفتوحة بعد الكاف وياء مشددة مكسورة ونون ساكنة .

وقرأه ابن كثير : " وكائن " بألف بعد الكاف ، وهمزة مكسورة .

وكلهم عند الوقف يقفون على النون الساكنة ، كحال الصلة ، إلا أبا عمرو فإنه يقف على الياء .

وقد قدمنا أوجه القراءة في " كأين " ومعناها ، وما فيها من اللغات ، مع بعض الشواهد العربية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة [ 22 \ 45 ] .
قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين

أنهار الماء وأنهار الخمر التي ذكرها الله في هذه الآية بين بعض صفاتها في آيات أخرى ، كقوله تعالى : تجري من تحتها الأنهار [ 47 \ 12 ] في آيات كثيرة ، وقوله : وماء مسكوب [ 56 \ 31 ] ، وقوله : إن المتقين في ظلال وعيون [ 77 \ 41 ] ، وقوله : [ ص: 254 ] فيها عين جارية [ 88 \ 12 ] ، وقد بين تعالى من صفات خمر الجنة أنها لا تسكر شاربها ، ولا تسبب له الصداع الذي هو وجع الرأس في آيات من كتابه ، كقوله تعالى : لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] ، وقوله : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 47 ] .

وقد قدمنا معنى هذه الآيات بإيضاح في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه [ 5 \ 90 ] . الآية

وقوله تعالى في الآية الكريمة : غير آسن أي غير متغير اللون ولا الطعم . والآسن والآجن معناهما واحد ، ومنه قول ذي الرمة :

ومنهل آجن قفر محاضره تذرو الرياح على جماته البعرا وقول الراجز :

ومنهل فيه الغراب ميت كأنه من الأجون زيت
سقيت منها القوم واستقيت

وبما ذكرنا تعلم أن قوله : غير آسن كقوله : من لبن لم يتغير طعمه .
قوله تعالى : ولهم فيها من كل الثمرات .

قد بين تعالى في سورة البقرة أن الثمار التي يرزقها أهل الجنة يشبه بعضها بعضا في الجودة والحسن والكمال ، ليس فيها شيء رديء ، وذلك في قوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها [ 2 \ 25 ] .
قوله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم .

قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم [ 22 \ 19 ] .
قوله تعالى : فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة [ 47 \ 18 ] .

[ ص: 255 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون [ 43 \ 66 ] .
قوله تعالى : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم .

التحقيق إن شاء الله تعالى في معنى هذه الآية الكريمة ، أن الكفار يوم القيامة ، إذا جاءتهم الساعة ، يتذكرون ويؤمنون بالله ورسله ، وأن الإيمان في ذلك الوقت لا ينفعهم لفوات وقته ، فقوله : ذكراهم مبتدأ خبره فأنى لهم أي كيف تنفعهم ذكراهم وإيمانهم بالله ، وقد فات الوقت الذي يقبل فيه الإيمان .

والضمير المرفوع في جاءتهم عائد إلى الساعة التي هي القيامة .

وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، من أن الكفار يوم القيامة يؤمنون ، ولا ينفعهم إيمانهم - جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد [ 34 \ 52 ] ، وقوله تعالى : وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ 86 \ 23 ] .

وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : هل ينظرون إلا تأويله إلى قوله : أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .

فظهر أن قوله : فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم على حذف مضاف ، أي أنى لهم نفع ذكراهم .

والذكرى اسم مصدر بمعنى الاتعاظ الحامل على الإيمان .
قوله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت .

ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه إذا أنزل سورة محكمة ، أي متقنة الألفاظ والمعاني ، واضحة الدلالة ، لا نسخ فيها وذكر فيها وجوب قتال الكفار ، تسبب عن ذلك ، كون الذين في قلوبهم مرض أي شك ونفاق ، ينظرون كنظر الإنسان الذي يغشى عليه ; لأنه في سياق الموت ، لأن نظر من كان كذلك تدور فيه عينه ويزيغ بصره .

[ ص: 256 ] وهذا إنما وقع لهم من شدة الخوف من بأس الكفار المأمور بقتالهم .

وقد صرح - جل وعلا - بأن ذلك من الخوف المذكور في قوله : فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت [ 33 \ 19 ] .

وقد بين تعالى أن الأغنياء من هؤلاء المنافقين ، إذا أنزل الله سورة فيها الأمر بالجهاد ، استأذنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في التخلف عن الجهاد ، وذمهم الله على ذلك ، وذلك في قوله تعالى : وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 9 \ 86 ] .
قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها .

الهمزة في قوله : أفلا يتدبرون للإنكار ، والفاء عاطفة على جملة محذوفة ، على أصح القولين ، والتقدير : أيعرضون عن كتاب الله فلا يتدبرون القرآن ; كما أشار له في الخلاصة بقوله :

وحذف متبوع بدا هنا استبح

وقوله تعالى : أم على قلوب أقفالها " أم " فيه منقطعة بمعنى بل ، فقد أنكر تعالى عليهم إعراضهم عن تدبر القرآن ، بأداة الإنكار التي هي الهمزة ، وبين أن قلوبهم عليها أقفال لا تنفتح لخير ، ولا لفهم قرآن .

وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله ، جاء موضحا في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا [ 4 \ 82 ] ، وقوله تعالى : أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 \ 68 ] ، وقوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .

وقد ذم - جل وعلا - المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة ، كقوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها [ 18 \ 57 ] ، وقوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها [ 32 \ 22 ] .

[ ص: 257 ] ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها ، وإدراك معانيها والعمل بها ، فإنه معرض عنها ، غير متدبر لها فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهما يقدر به على التدبر ، وقد شكا النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن ، كما قال تعالى : وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ 25 - 30 ] .

وهذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن وتفهمه وتعلمه والعمل به ، أمر لا بد منه للمسلمين .

وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المشتغلين بذلك هم خير الناس . كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال : " خيركم من تعلم القرآن وعلمه " وقال تعالى : ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون [ 3 \ 79 ] .

فإعراض كثير من الأقطار عن النظر في كتاب الله وتفهمه والعمل به وبالسنة الثابتة المبينة له ، من أعظم المناكر وأشنعها ، وإن ظن فاعلوه أنهم على هدى .

ولا يخفى على عاقل أن القول بمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اكتفاء عنهما بالمذاهب المدونة ، وانتفاء الحاجة إلى تعلمهما ; لوجود ما يكفي عنهما من مذاهب الأئمة - من أعظم الباطل .

وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة ومخالف لأقوال الأئمة الأربعة .

[ ص: 258 ] فمرتكبه مخالف لله ولرسوله ولأصحاب رسوله جميعا وللأئمة رحمهم الله ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين : إن تدبر هذا القرآن العظيم ، وتفهمه والعمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصة ، وإن كل من لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة عندهم التي لم يستند اشتراط كثير منها إلى دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس جلي ، ولا أثر عن الصحابة - قول لا مستند له من دليل شرعي أصلا .

بل الحق الذي لا شك فيه ، أن كل من له قدرة من المسلمين ، على التعلم والتفهم ، وإدراك معاني الكتاب والسنة ، يجب عليه تعلمهما ، والعمل بما علم منهما .

أما العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوع إجماعا .

وأما ما علمه منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح . فله أن يعمل به . ولو آية واحدة أو حديثا واحدا .

ومعلوم أن هذا الذم والإنكار على من يتدبر كتاب الله - عام لجميع الناس .

ومما يوضح ذلك أن المخاطبين الأولين به الذين نزل فيهم هم المنافقون والكفار ، ليس أحد منهم مستكملا لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول ، بل ليس عندهم شيء منها أصلا . فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به والاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالإصلاح الأصولي لما وبخ الله الكفار وأنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه ، ولما أقام عليهم الحجة به حتى يحصلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين ، كما ترى .

ومعلوم أن من المقرر في الأصول أن صورة سبب النزول قطعية الدخول ، وإذا فدخول الكفار والمنافقين في الآيات المذكورة قطعي ، ولو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لما أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله ، وعدم عملهم به .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:18 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (494)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 259 إلى صـ 266



وقد علمت أن الواقع خلاف ذلك قطعا ، ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا [ ص: 259 ] فيما فيه مجال للاجتهاد . والأمور المنصوصة في نصوص صحيحة من الكتاب والسنة ، لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد ، حتى تشترط فيها شروط الاجتهاد ، بل ليس فيها إلا الاتباع ، وبذلك تعلم أن ما ذكره صاحب مراقي السعود تبعا للقرافي من قوله : من لم يكن مجتهدا فالعمل منه بمعنى النص مما يحظل لا يصح على إطلاقه بحال لمعارضته لآيات وأحاديث كثيرة من غير استناد إلى دليل .

ومن المعلوم أنه لا يصح تخصيص عمومات الكتاب والسنة ، إلا بدليل يجب الرجوع إليه .

ومن المعلوم أيضا أن عمومات الآيات والأحاديث الدالة على حث جميع الناس على العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله - أكثر من أن تحصى ، كقوله - صلى الله عليه وسلم : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي " وقوله - صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي " الحديث ، ونحو ذلك مما لا يحصى .

فتخصيص جميع تلك النصوص بخصوص المجتهدين ، وتحريم الانتفاع بهدي الكتاب والسنة على غيرهم تحريما باتا يحتاج إلى دليل من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرين على أنفسهم بأنهم من المقلدين .

ومعلوم أن المقلد الصرف ، لا يجوز عده من العلماء ولا من ورثة الأنبياء ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله .

وقال صاحب مراقي السعود في نشر البنود في شرحه لبيته المذكور [ ص: 260 ] آنفا ما نصه : يعني أن غير المجتهد يحظل له ، أي يمنع أن يعمل بمعنى نص من كتاب أو سنة وإن صح سندها لاحتمال عوارضه من نسخ وتقييد ، وتخصيص وغير ذلك من العوارض التي لا يضبطها إلا المجتهد ، فلا يخلصه من الله إلا تقليد مجتهد ، قاله القرافي . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وبه تعلم أنه لا مستند له ، ولا للقرافي الذي تبعه في منع جميع المسلمين غير المجتهدين من العمل بكتاب الله ، وسنة رسوله ، إلا مطلق احتمال العوارض ، التي تعرض لنصوص الكتاب والسنة ، من نسخ أو تخصيص أو تقييد ونحو ذلك ، وهو مردود من وجهين :

الأول : أن الأصل السلامة من النسخ حتى يثبت ورود الناسخ ، والعام ظاهر في العموم حتى يثبت ورود المخصص ، والمطلق ظاهر في الإطلاق حتى يثبت ورود المقيد ، والنص يجب العمل به حتى يثبت النسخ بدليل شرعي ، والظاهر يجب العمل به عموما كان أو إطلاقا أو غيرهما حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، كما هو معروف في محله .

وأول من زعم أنه لا يجوز العمل بالعام حتى يبحث عن المخصص فلا يوجد ، ونحو ذلك - أبو العباس بن سريج ، وتبعه جماعات من المتأخرين ، حتى حكموا على ذلك الإجماع حكاية لا أساس لها .

وقد أوضح ابن القاسم العبادي في الآيات البينات غلطهم في ذلك ، في كلامه على شرح المحل لقول ابن السبكي في جمع الجوامع ، ويتمسك بالعام في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البحث عن المخصص ، وكذا بعد الوفاة ، خلافا لابن سريج ا هـ .

وعلى كل حال فظواهر النصوص من عموم وإطلاق ونحو ذلك ، لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه ، من مخصص أو مقيد ، لا لمجرد مطلق الاحتمال ، كما هو معلوم في محله .

[ ص: 261 ] فادعاء كثير من المتأخرين ، أنه يجب ترك العمل به حتى يبحث عن المخصص والمقيد مثلا - خلاف التحقيق .

الوجه الثاني : أن غير المجتهد إذا تعلم آيات القرآن ، أو بعض أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعمل بها ، تعلم ذلك النص العام أو المطلق ، وتعلم معه مخصصه ومقيده إن كان مخصصا أو مقيدا ، وتعلم ناسخه إن كان منسوخا ، وتعلم ذلك سهل جدا ، بسؤال العلماء العارفين به ، ومراجعة كتب التفسير والحديث المعتد بها في ذلك ، والصحابة كانوا في العصر الأول يتعلم أحدهم آية فيعمل بها ، وحديثا فيعمل به ، ولا يمتنع من العمل بذلك حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق ، وربما عمل الإنسان بما علم فعلمه ما لم يكن يعلم ، كما يشير له قوله تعالى : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا [ 8 \ 29 ] ، على القول بأن الفرقان هو العلم النافع الذي يفرق به بين الحق والباطل .

وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به الآية [ 57 \ 28 ] .

وهذه التقوى التي دلت الآيات على أن الله يعلم صاحبها بسببها ما لم يكن يعلم ، لا تزيد على عمله بما علم ، من أمر الله وعليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم .

فالقول بمنع العمل بما علم من الكتاب والسنة ، حتى يحصل رتبة الاجتهاد المطلق ، هو عين السعي في حرمان جميع المسلمين من الانتفاع بنور القرآن ، حتى يحصلوا شرطا مفقودا في اعتقاد القائلين بذلك . وادعاء مثل هذا على الله وعلى كتابه وعلى سنة رسوله - هو كما ترى .
[ ص: 262 ] تنبيه مهم :

يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة ، أن يتأمل فيه ليرى لنفسه المخرج من هذه الورطة العظمى ، والطامة الكبرى ، التي عمت جل بلاد المسلمين من المعمورة .

وهي ادعاء الاستغناء عن كتاب الله وسنة رسوله ، استغناء تاما في جميع الأحكام من عبادات ومعاملات ، وحدود وغير ذلك ، بالمذاهب المدونة .

وبناء هذا على مقدمتين :

إحداهما : أن العمل بالكتاب والسنة لا يجوز إلا للمجتهدين .

والثانية : أن المجتهدين معدومون عدما كليا ، لا وجود لأحد منهم في الدنيا ، وأنه بناء على هاتين المقدمتين ، يمنع العمل بكتاب الله وسنة رسوله منعا باتا على جميع أهل الأرض ، ويستغنى عنهما بالمذاهب المدونة .

وزاد كثير منهم على هذا منع تقليد غير المذاهب الأربعة ، وأن ذلك يلزم استمراره إلى آخر الزمان .

فتأمل يا أخي رحمك الله : كيف يسوغ لمسلم ، أن يقول بمنع الاهتداء بكتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعدم وجوب تعلمهما والعمل بهما استغناء عنهما بكلام رجال غير معصومين ولا خلاف في أنهم يخطئون .

فإن كان قصدهم أن الكتاب والسنة ، لا حاجة إلى تعلمهما ، وأنهما يغني غيرهما ، فهذا بهتان عظيم ، ومنكر من القول وزور .

وإن كان قصدهم أن تعلمهما صعب لا يقدر عليه ، فهو أيضا زعم باطل ; لأن تعلم الكتاب والسنة أيسر من تعلم مسائل الآراء والاجتهاد المنتشرة ، مع كونها في غاية التعقيد [ ص: 263 ] والكثرة ، والله - جل وعلا - يقول في سورة القمر مرات متعددة : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 - 22 - 32 - 40 ] ، ويقول تعالى في الدخان : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] ، ويقول في مريم : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] .

فهو كتاب ميسر بتيسير الله لمن وفقه الله للعمل به ، والله - جل وعلا - يقول : بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم [ 29 \ 49 ] ، ويقول : ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 52 ] .

فلا شك أن الذي يتباعد عن هداه يحاول التباعد عن هدى الله ورحمته .

ولا شك أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله إلى أرضه ، ليستضاء به ، فيعلم في ضوئه الحق من الباطل ، والحسن من القبيح ، والنافع من الضار ، والرشد من الغي .

قال الله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] .

وقال تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 ] ، وقال تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] ، وقال تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] ، وقال تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ 7 \ 157 ] .

فإذا علمت أيها المسلم أن هذا القرآن العظيم ، هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به ، ويهتدى بهداه في أرضه ، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور .

فلا تكن خفاشي البصيرة ، واحذر أن تكون ممن قيل فيهم :



خفافيش أعماها النهار بضوئه

ووافقها قطع من الليل مظلم

مثل النهار يزيد أبصار الورى

نورا ويعمي أعين الخفاش [ ص: 264 ] يكاد البرق يخطف أبصارهم [ 2 \ 20 ] ، أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب [ 13 \ 19 ] .

ولا شك أن من عميت بصيرته عن النور تخبط في الظلام ، ومن لم يجعل الله له نورا ، فما له من نور .

وبهذا تعلم أيها المسلم المنصف ، أنه يجب عليك الجد والاجتهاد في تعلم كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالوسائل النافعة المنتجة ، والعمل بكل ما علمك الله منهما علما صحيحا .

ولتعلم أن تعلم كتاب الله وسنة رسوله في هذا الزمان أيسر منه بكثير في القرون الأولى ، لسهولة معرفة جميع ما يتعلق بذلك ، من ناسخ ومنسوخ وعام وخاص ، ومطلق ومقيد ، ومجمل ومبين وأحوال الرجال ، من رواة الحديث ، والتمييز بين الصحيح والضعيف ; لأن الجميع ضبط وأتقن ودون ، فالجميع سهل التناول اليوم .

فكل آية من كتاب الله قد علم ما جاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم من الصحابة والتابعين وكبار المفسرين .

وجميع الأحاديث الواردة عنه - صلى الله عليه وسلم - حفظت ودونت ، وعلمت أحوال متونها وأسانيدها ، وما يتطرق إليها من العلل والضعف .

فجميع الشروط التي اشترطوها في الاجتهاد يسهل تحصيلها جدا على كل من رزقه الله فهما وعلما .

والناسخ والمنسوخ ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، ونحو ذلك تسهل معرفته اليوم على كل ناظر في الكتاب والسنة ممن رزقه الله فهما ووفقه لتعلم كتاب الله وسنة رسوله .

واعلم أيها المسلم المنصف ، أن من أشنع الباطل وأعظم القول بغير الحق ، على الله وكتابه وعلى النبي وسنته المطهرة ، ما قاله الشيخ أحمد الصاوي في حاشيته على الجلالين في سورة الكهف وآل عمران واغتر بقوله في ذلك خلق لا يحصى من المتسمين باسم طلبة العلم ; لكونهم لا يميزون بين حق وباطل .

[ ص: 265 ] فقد قال الصاوي أحمد المذكور في الكلام على قوله تعالى ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا [ 18 \ 23 ] بعد أن ذكر الأقوال في انفصال الاستثناء عن المستثنى منه بزمان - ما نصه : وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله ، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تتصل ، وأن يقصد بها حل اليمين ، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس ، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة ، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية ، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل ، وربما أداه ذلك للكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر . انتهى منه بلفظه .

فانظر يا أخي - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام وما أبطله ، وما أجرأ قائله على الله وكتابه ، وعلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه سبحانك هذا بهتان عظيم .

أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة ، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة ، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم ، كما سنرى إيضاحه إن شاء الله بما لا مزيد عليه في المسائل الآتية بعد هذه المسألة ، فالذي ينصره هو الضال المضل .

وأما قوله : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، فهذا أيضا من أشنع [ ص: 266 ] الباطل وأعظمه ، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - سبحانك هذا بهتان عظيم .

والتحقيق الذي لا شك فيه ، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حال من الأحوال بوجه من الوجوه ، حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح .

والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله ، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلا ; لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفرا ، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشد من بعد الشمس من اللمس .

ومما يوضح لك ذلك : أن آية الكهف هذه التي ظن الصاوي أن ظاهرها حل الأيمان بالتعليق بالمشيئة المتأخر زمنها عن اليمين ، وأن ذلك مخالف للمذاهب الأربعة : وبنى على ذلك أن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، كله باطل لا أساس له .

وظاهر الآية بعيد مما ظن ، بل الظن الذي ظنه والزعم الذي زعمه لا تشير الآية إليه أصلا ، ولا تدل عليه لا بدلالة المطابقة ، ولا التضمن ولا الالتزام ، فضلا على أن تكون ظاهرة فيه .

وسبب نزولها يزيد ذلك إيضاحا ; لأن سبب نزول الآية أن الكفار سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، فقال لهم : سأخبركم غدا ، ولم يقل إن شاء الله ، فعاتبه ربه بعدم تفويض الأمر إليه ، وعدم تعليقه بمشيئته - جل وعلا - فتأخر عنه الوحي .

ثم علمه الله في الآية الأدب معه ، في قوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .

ثم قال لنبيه : واذكر ربك إذا نسيت [ 18 \ 24 ] ، يعني إن قلت سأفعل كذا غدا ، ثم نسيت أن تقول : إن شاء الله ، ثم تذكرت بعد ذلك ، فاذكر ربك ، أي قل : إن شاء الله ، أي لتتدارك بذلك الأدب مع الله الذي فاتك عند وقته ، بسبب النسيان ، وتخرج من عهدة النهي في قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:21 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (495)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 267 إلى صـ 274




[ ص: 267 ] والتعليق بهذه المشيئة المتأخرة لأجل المعنى المذكور الذي هو ظاهر الآية الصحيح لا يخالف مذهبا من المذاهب الأربعة ولا غيرهم ، وهو التحقيق في مراد ابن عباس بما ينقل عنه من جواز تأخير الاستثناء كما أوضحه كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله .

وقد قدمنا إيضاحه في الكلام على آية الكهف هذه . فيا أتباع الصاوي المقلدين له تقليدا أعمى على جهالة عمياء ، أين دل ظاهر آية الكهف هذه على اليمين بالله ، أو بالطلاق ، أو بالعتق ، أو بغير ذلك من الأيمان ؟

هل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف لما قال للكفار : سأخبركم غدا ؟

وهل قال الله : ولا تقولن لشيء إني حالف سأفعل ذلك غدا ؟

ومن أين جئتم باليمين ، حتى قلتم : إن ظاهر القرآن هو حل الأيمان بالمشيئة المتأخرة عنها ، وبنيتم على ذلك أن ظاهر الآية مخالف لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن العمل بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟

ومما يزيد ما ذكرنا إيضاحا ما قاله الصاوي أيضا في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله [ 3 \ 7 ] ، فإنه قال على كلام الجلال ما نصه : زيغ أي ميل عن الحق للباطل ، قوله : بوقوعهم في الشبهات واللبس ، أي كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظاهر القرآن ، فإن العلماء ذكروا أن من أصول الكفر الأخذ بظواهر الكتاب والسنة ا هـ .

فانظر - رحمك الله - ما أشنع هذا الكلام ، وما أبطله ، وما أجرأ قائله على انتهاك حرمات الله وكتابه ونبيه وسنته - صلى الله عليه وسلم - وما أدله على أن صاحبه لا يدري ما يتكلم به . فإنه جعل ما قاله نصارى نجران هو ظاهر كتاب الله ، ولذا جعل مثلهم من حذا حذوهم ، فأخذ بظاهر القرآن .

وذكر أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أنه لا يدري وجه ادعاء نصارى نجران على ظاهر القرآن أنه كفر ، مع أنه مسلم أن ادعاءهم على ظاهر القرآن أنه كفرهم ومن حذا حذوهم ادعاء صحيح ، إلا أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .

[ ص: 268 ] وقد قال قبل هذا : قيل سبب نزولها أن وفد نجران قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم : ألست تقول : إن عيسى روح الله وكلمته ؟ فقال : نعم ، فقالوا : حسبنا ، أي كفانا ذلك في كونه ابن الله . فنزلت الآية .

فاتضح أن الصاوي يعتقد أن ادعاء نصارى نجران أن ظاهر قوله تعالى : وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 \ 171 ] ، هو أن عيسى ابن الله ادعاء صحيح ، وبنى على ذلك أن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .

وهذا كله من أشنع الباطل وأعظمه ، فالآية لا يفهم من ظاهرها البتة ، بوجه من الوجوه ، ولا بدلالة من الدلالات ، أن عيسى ابن الله ، وادعاء نصارى نجران ذلك كذب بحت .

فقول الصاوي كنصارى نجران ، ومن حذا حذوهم ممن أخذ بظواهر القرآن صريح في أنه يعتقد أن ما ادعاه وفد نجران من كون عيسى ابن الله هو ظاهر القرآن اعتقاد باطل باطل باطل ، حاشا القرآن العظيم من أن يكون هذا الكفر البواح ظاهره ، بل هو لا يدل عليه البتة فضلا عن أن يكون ظاهره ، وقوله : وروح منه كقوله تعالى : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، أي كل ذلك من عيسى ومن تسخير السماوات والأرض مبدؤه ومنشؤه - جل وعلا .

فلفظة " من " في الآيتين لابتداء الغاية ، وذلك هو ظاهر القرآن وهو الحق خلافا لما زعمه الصاوي وحكاه عن نصارى نجران .

وقد اتضح بما ذكرنا أن الذين يقولون : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يعلمون ما هي الظواهر ، وأنهم يعتقدون شيئا ظاهر النص ، والواقع أن النص لا يدل عليه بحال من الأحوال فضلا عن أن يكون ظاهره .

فبنوا باطلا على باطل ، ولا شك أن الباطل لا يبنى عليه إلا الباطل .

ولو تصوروا معاني ظواهر الكتاب والسنة على حقيقتها لمنعهم ذلك من أن يقولوا ما قالوا .

فتصور الصاوي أن ظاهر آية الكهف المتقدمة هو حل الأيمان ، بالتعليق بالمشيئة [ ص: 269 ] المتأخر زمنها عن اليمين ، وبناؤه على ذلك مخالفة ظاهر الآية لمذاهب الأئمة الأربعة ، وأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، مع أن الآية لا تشير أصلا إلى ما اعتقد أنه ظاهرها .

وكذلك اعتقاده أن ظاهر آية آل عمران المذكورة هو ما زعمه نصارى نجران ، من أن عيسى ابن الله فإنه كله باطل وليس شيء مما زعم - ظاهر القرآن مطلقا ، كما لا يخفى على عاقل .

وقول الصاوي في كلامه المذكور في سورة آل عمران : إن العلماء قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ، قول باطل لا يشك في بطلانه من عنده أدنى معرفة .

ومن هم العلماء الذين قالوا : إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ؟

سموهم لنا ، وبينوا لنا من هم ؟

والحق الذي لا شك فيه أن هذا القول لا يقوله عالم ، ولا متعلم ; لأن ظواهر الكتاب والسنة هي نور الله الذي أنزله على رسوله ليستضاء به في أرضه وتقام به حدوده ، وتنفذ به أوامره ، وينصف به بين عباده في أرضه .

والنصوص القطعية التي لا احتمال فيها قليلة جدا لا يكاد يوجد منها إلا أمثلة قليلة جدا كقوله تعالى :فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة [ 2 \ 196 ] .

والغالب الذي هو الأكثر هو كون نصوص الكتاب والسنة ظواهر .

وقد أجمع جميع المسلمين على أن العمل بالظاهر واجب حتى يرد دليل شرعي صارف عنه إلى المحتمل المرجوح ، وعلى هذا كل من تكلم في الأصول .

فتنفير الناس وإبعادها عن كتاب الله ، وسنة رسوله ، بدعوى أن الأخذ بظواهرهما من [ ص: 270 ] أصول الكفر هو من أشنع الباطل وأعظمه كما ترى .

وأصول الكفر يجب على كل مسلم أن يحذر منها كل الحذر ، ويتباعد منها كل التباعد ويتجنب أسبابها كل الاجتناب فيلزم على هذا القول المنكر الشنيع وجوب التباعد من الأخذ بظواهر الوحي .

وهذا كما ترى ، وبما ذكرنا يتبين أن من أعظم أسباب الضلال ادعاء أن ظواهر الكتاب والسنة دالة على معان قبيحة ، ليست بلائقة .

والواقع في نفس الأمر بعدها وبراءتها من ذلك .

وسبب تلك الدعوى الشنيعة على ظواهر كتاب الله ، وسنة رسوله ، هو عدم معرفة مدعيها .

ولأجل هذه البلية العظمى ، والطامة الكبرى ، زعم كثير من النظار الذين عندهم فهم ، أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله ، لأن ظواهرها المتبادرة منها هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه ، وعقد ذلك المقرئ في إضاءته في قوله :

والنص إن أوهم غير اللائق بالله كالتشبيه بالخلائق فاصرفه عن ظاهره إجماعا واقطع عن الممتنع الأطماعا وهذه الدعوى الباطلة من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى ، وأحاديث رسوله - صلى الله عليه وسلم .

والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها ، لكل مسلم راجع عقله ، هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه . ولا بد أن نتساءل هنا ، فنقول :

أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال ؟

والجواب الذي لا جواب غيره : بلى .

وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال إن اللفظ الدال على صفته [ ص: 271 ] تعالى ظاهره المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق ؟

والجواب الذي لا جواب غيره : لا .

فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظا أنزله الله في كتابه مثلا دالا على صفة من صفات الله أثنى بها تعالى على نفسه يكون ظاهره المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق ؟ سبحانك هذا بهتان عظيم .

فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف وصفاتهما متخالفة كل التخالف .

فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق ؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق ؟

فكل لفظ دل على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقا بالخالق منزها عن مشابهة صفات المخلوق .

وكذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق .

فالظاهر المتبادر من لفظ اليد بالنسبة للمخلوق ، هو كونها جارحة هي عظم ولحم ودم ، وهذا هو الذي يتبادر إلى الذهن في نحو قوله تعالى : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] .

والظاهر المتبادر من اليد بالنسبة للخالق في نحو قوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، أنها صفة كمال وجلال ، لائقة بالله - جل وعلا - ثابتة له على الوجه اللائق بكماله وجلاله .

وقد بين - جل وعلا - عظم هذه الصفة وما هي عليه من الكمال والجلال ، وبين أنها من صفات التأثير كالقدرة ، قال تعالى في تعظيم شأنها : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون [ 39 \ 67 ] .

[ ص: 272 ] وبين أنها صفة تأثير كالقدرة في قوله تعالى : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ، فتصريحه تعالى بأنه خلق نبيه آدم بهذه الصفة العظيمة التي هي صفات كماله وجلاله يدل على أنها من صفات التأثير كما ترى .

ولا يصح هنا تأويل اليد بالقدرة البتة ، لإجماع أهل الحق والباطل ، كلهم على أنه لا يجوز تثنية القدرة .

ولا يخطر في ذهن المسلم المراجع عقله دخول الجارحة التي هي عظم ولحم ودم في معنى هذا اللفظ الدال على هذه الصفة العظيمة من صفات خالق السماوات والأرض .

فاعلم أيها المدعي أن ظاهر لفظ اليد في الآية المذكورة وأمثالها لا يليق بالله ; لأن ظاهرها التشبيه بجارحة الإنسان ، وأنها يجب صرفها عن هذا الظاهر الخبيث ، ولم تكتف بهذا حتى ادعيت الإجماع على صرفها عن ظاهرها - أن قولك هذا كله افتراء عظيم على الله تعالى ، وعلى كتابه العظيم ، وأنك بسببه كنت أعظم المشبهين والمجسمين ، وقد جرك شؤم هذا التشبيه إلى ورطة التعطيل ، فنفيت الوصف الذي أثبته الله في كتابه لنفسه بدعوى أنه لا يليق به ، وأولته بمعنى آخر من تلقاء نفسك بلا مستند من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا قول أحد من السلف .

وماذا عليك لو صدقت الله ، وآمنت بما مدح به نفسه على الوجه اللائق بكماله وجلاله من غير كيف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ؟

وبأي موجب سوغت لذهنك أن يخطر فيه صفة المخلوق عند ذكر صفة الخالق ؟

هل تلتبس صفة الخالق بصفة المخلوق عن أحد حتى يفهم صفة المخلوق من اللفظ الدال على صفة الخالق ؟

فاخش الله يا إنسان ، واحذر من التقول على الله بلا علم ، وآمن بما جاء في كتاب الله مع تنزيه الله عن مشابهة خلقه .

واعلم أن الله الذي أحاط علمه بكل شيء لا يخفى عليه الفرق بين الوصف اللائق به والوصف غير اللائق به ، حتى يأتي إنسان فيتحكم في ذلك فيقول : هذا الذي وصفت به [ ص: 273 ] نفسك غير لائق بك ، وأنا أنفيه عنك بلا مستند منك ، ولا من رسولك ، وآتيك بدله بالوصف اللائق بك .

فاليد مثلا التي وصفت بها نفسك لا تليق بك لدلالتها على التشبيه بالجارحة ، وأنا أنفيها عنك نفيا باتا ، وأبدلها لك بوصف لائق بك ، وهو النعمة أو القدرة مثلا أو الجود .

سبحانك هذا بهتان عظيم .

فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور .

ومن الغريب أن بعض الجاحدين لصفات الله المئولين لها بمعان لم ترد عن الله ، ولا عن رسوله يؤمنون فيها ببعض الكتاب دون بعض .

فيقرون بأن الصفات السبع التي تشتق منها أوصاف ثابتة لله مع التنزيه ، ونعني بها القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام ; لأنها يشتق منها قادر حي عليم إلخ ، وكذلك في بعض الصفات الجامعة كالعظمة والكبرياء والملك والجلال مثلا ; لأنها يشتق منها العظيم المتكبر والجليل والملك ، وهكذا يجحدون كل صفة ثبتت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يشتق منها غيرها كصفة اليد والوجه ونحو ذلك ، ولا شك أن هذا التفريق بين صفات الله التي أثبتها لنفسه ، أو أثبتها له رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا وجه له البتة بوجه من الوجوه .

ولم يرد عن الله ، ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - الإذن في الإيمان ببعض صفاته وجحد بعضها وتأويله ; لأنها لا يشتق منها .

وهل يتصور عاقل أن يكون عدم الاشتقاق مسوغا لجحد ما وصف الله به نفسه ؟

ولا شك عند كل مسلم راجع عقله ، أن عدم الاشتقاق لا يرد به كلام الله فيما أثنى به على نفسه ، ولا كلام رسوله فيما وصف به ربه .

والسبب الموجب للإيمان إيجابا حتما كليا هو كونه من عند الله ، وهذا السبب هو الذي علم الراسخون في العلم أنه الموجب للإيمان بكل ما جاء عن الله ، سواء استأثر الله [ ص: 274 ] بعلمه كالمتشابه ، أو كان مما يعلمه الراسخون في العلم ، كما قال الله عنهم : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .

فلا شك أن قوله تعالى : لما خلقت بيدي من عند ربنا ، وقوله تعالى : والله على كل شيء قدير [ 2 \ 284 ] من عند ربنا أيضا فيجب علينا الإيمان بالجميع ; لأنه كله من عند ربنا .

أما الذي يفرق بينه ، وهو عالم بأن كله من عند ربه ، بأن هذا يشتق منه ، وهذا لا يشتق منه فقد آمن ببعض الكتاب دون بعض .

والمقصود أن كل ما جاء من عند الله يجب الإيمان به ، سواء كان من المتشابه ، أو من غير المتشابه ، وسواء كان يشتق منه أو لا .

ومعلوم أن مالكا - رحمه الله - سئل كيف استوى ؟ فقال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب .

وما يزعمه بعضهم من أن القدرة والإرادة مثلا ونحوهما ليست كاليد ، والوجه ، بدعوى أن القدرة والإرادة مثلا ظهرت آثارهما في العالم العلوي والسفلي ، بخلاف غيرهما كصفة اليد ونحوها فهو من أعظم الباطل .

ومما يوضح ذلك أن الذي يقوله هو وأبوه وجده من آثار صفة اليد التي خلق الله بها نبيه آدم .

ونحن نرجو أن يغفر الله تعالى للذين ماتوا على هذا الاعتقاد ; لأنهم لا يقصدون تشبيه الله بخلقه ، وإنما يحاولون تنزيهه عن مشابهة خلقه .

فقصدهم حسن ، ولكن طريقهم إلى ذلك القصد سيئة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:24 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (496)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 275 إلى صـ 282



وإنما نشأ لهم ذلك السوء بسبب أنهم ظنوا لفظ الصفة التي مدح الله بها نفسه يدل ظاهره على مشابهة صفة الخلق فنفوا الصفة التي ظنوا أنها لا تليق قصدا منهم لتنزيه الله ، وأولوها بمعنى آخر يقتضي التنزيه في ظنهم فهم كما قال الشافعي رحمه الله : رام نفعا فضر من غير قصد ومن البر ما يكون عقوقا ونحن نرجو أن يغفر الله لهم خطأهم ، وأن يكونوا داخلين في قوله تعالى : [ ص: 275 ] وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 5 ] .

وخطؤهم المذكور لا شك فيه ، ولو وفقهم الله لتطهير قلوبهم من التشبيه أولا ، وجزموا بأن ظاهر صفة الخالق هو التنزيه عن مشابهة صفة المخلوق ، لسلموا مما وقعوا فيه .

ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عالم كل العلم ، بأن الظاهر المتبادر ، مما مدح الله به نفسه في آيات الصفات هو التنزيه التام عن صفات الخلق ، ولو كان يخطر في ذهنه أن ظاهره لا يليق ; لأنه تشبيه بصفات الخلق ، لبادر كل المبادرة إلى بيان ذلك ; لأنه لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، ولا سيما في العقائد ، ولا سيما فيما ظاهره الكفر والتشبيه .

فسكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيان هذا يدل على أن ما زعمه المئولون لا أساس له كما ترى .

فإن قيل : إن هذا القرآن العظيم نزل بلسان عربي مبين ، والعرب لا تعرف في لغتها كيفية لليد مثلا ، إلا كيفية المعاني المعروفة عندها كالجارحة ، وغيرها من معاني اليد المعروفة في اللغة ، فبينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم .

فالجواب من وجهين :

الوجه الأول : أن العرب لا تدرك كيفيات صفات الله من لغتها ، لشدة منافاة صفة الله لصفة الخلق .

والعرب لا تعرف عقولهم كيفيات إلا لصفات الخلق ، فلا تعرف العرب كيفية للسمع والبصر ، إلا هذه المشاهدة في حاسة الأذن والعين ، أما سمع لا يقوم بأذن ، وبصر لا يقوم بحدقة ، فهذا لا يعرفون له كيفية البتة .

فلا فرق بين السمع والبصر ، وبين اليد والاستواء ، فالذي تعرف كيفيته العرب من لغتها من جميع ذلك هو المشاهد في المخلوقات .

[ ص: 276 ] وأما الذي اتصف الله به من ذلك ، فلا تعرف له العرب كيفية ، ولا حدا لمخالفة صفاته لصفات الخلق ، إلا أنهم يعرفون من لغتهم أصل المعنى ، كما قال الإمام مالك رحمه الله : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .

كما يعرفون من لغتهم أن بين الخالق والمخلوق ، والرازق والمرزوق ، والمحيي والمحيا ، والمميت والممات - فوارق عظيمة لا حد لها تستلزم المخالفة التامة ، بين صفات الخالق والمخلوق .

الوجه الثاني : أن نقول لمن قال : بينوا لنا كيفية لليد ملائمة لما ذكرتم ، من كونها صفة كمال وجلال ، منزهة عن مشابهة جارحة المخلوق .

هل عرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة باليد ، فلا بد أن يقول : لا . فإن قال ذلك .

قلنا : معرفة كيفية الصفات تتوقف على معرفة كيفية الذات .

فالذات والصفات من باب واحد .

فكما أن ذاته - جل وعلا - تخالف جميع الذوات ، فإن صفاته تخالف جميع الصفات .

ومعلوم أن الصفات تختلف وتتباين باختلاف موصوفاتها .

ألا ترى مثلا أن لفظة رأس كلمة واحدة ؟

إن أضفتها إلى الإنسان ، فقلت : رأس الإنسان ، وإلى الوادي ، فقلت : رأس الوادي ، وإلى المال ، فقلت : رأس المال ، وإلى الجبل ، فقلت : رأس الجبل .

فإن كلمة الرأس اختلفت معانيها ، وتباينت تباينا شديدا بحسب اختلاف إضافتها ، مع أنها في مخلوقات حقيرة .

[ ص: 277 ] فما بالك بما أضيف من الصفات إلى الله ، وما أضيف منها إلى خلقه ، فإنه يتباين كتباين الخالق والمخلوق ، كما لا يخفى .

فاتضح بما ذكر أن الشرط في قول المقرئ في إضاءته :



والنص إن أوهم غير اللائق شرط مفقود قطعا ; لأن نصوص الوحي الواردة في صفات الله لا تدل ظواهرها البتة إلا على تنزيه الله ، ومخالفته لخلقه في الذات والصفات والأفعال .

فكل المسلمين الذين يراجعون عقولهم ، لا يشك أحد منهم في أن الظاهر المتبادر السابق إلى ذهن المسلم هو مخالفة الله لخلقه ، كما نص عليه بقوله : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، وقوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، وبذلك تعلم أن الإجماع الذي بناه على ذلك في قوله :



فاصرفه عن ظاهره إجماعا إجماع مفقود أصلا ، ولا وجود له البتة ; لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة .

فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله ، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله ، ولا من تابعيهم ، ولم يقله أحد من الأئمة الأربعة ، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين .

وإنما لم يقولوا بذلك ; لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه ، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى .

ولأجل هذا كله قلنا في مقدمة هذا الكتاب المبارك : إن الله تبارك وتعالى موصوف [ ص: 278 ] بتلك الصفات حقيقة لا مجازا ; لأنا نعتقد اعتقادا جازما لا يتطرق إليه شك أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تدل البتة إلا على التنزيه عن مشابهة الخلق واتصافه تعالى بالكمال والجلال .

وإثبات التنزيه والكمال والجلال لله حقيقة لا مجازا - لا ينكره مسلم .

ومما يدعو إلى التصريح بلفظ الحقيقة ، ونفي المجاز ، كثرة الجاهلين الزاعمين أن تلك الصفات لا حقائق لها ، وأنها كلها مجازات .

وجعلوا ذلك طريقا إلى نفيها ; لأن المجاز يجوز نفيه ، والحقيقة لا يجوز نفيها .

فقالوا مثلا : اليد مجاز يراد به القدرة والنعمة أو الجود ، فنفوا صفة اليد ، لأنها مجاز .

وقالوا : على العرش استوى مجاز فنفوا الاستواء ; لأنه مجاز .

وقالوا : معنى " استوى " استولى ، وشبهوا استيلاءه باستيلاء بشر بن مروان على العراق .

ولو تدبروا كتاب الله لمنعهم ذلك من تبديل الاستواء بالاستيلاء ، وتبديل اليد بالقدرة أو النعمة ; لأن الله - جل وعلا - يقول في محكم كتابه في سورة البقرة : فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون [ 2 \ 59 ] ، ويقول في الأعراف فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون [ 7 \ 162 ] ، فالقول الذي قاله الله لهم هو قوله " حطة " وهي فعلة من الحط بمعنى الوضع خبر مبتدأ محذوف ، أي دعاؤنا ومسألتنا لك حطة لذنوبنا ، أي حط ووضع لها عنا فهي بمعنى طلب المغفرة ، وفي بعض روايات الحديث في شأنهم أنهم بدلوا هذا القول بأن زادوا نونا فقالوا : حنطة ، وهي القمح .

وأهل التأويل قيل لهم : على العرش استوى ، فزادوا لاما ، فقالوا : استولى .

[ ص: 279 ] وهذه اللام التي زادوها أشبه شيء بالنون التي زادها اليهود في قوله تعالى : وقولوا حطة . ويقول الله - جل وعلا - في منع تبديل القرآن بغيره : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .

ولا شك أن من بدل استوى باستولى مثلا لم يتبع ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .

فعليه أن يجتنب التبديل ويخاف العذاب العظيم ، الذي خافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو عصى الله فبدل قرآنا بغيره المذكور في قوله : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم .

واليهود لم ينكروا أن اللفظ الذي قاله الله لهم : هو لفظ حطة ولكنهم حرفوه بالزيادة المذكورة .

وأهل هذه المقالة لم ينكروا أن كلمة القرآن هي استوى ، ولكن حرفوها وقالوا في معناها : استولى وإنما أبدلوها بها ; لأنها أصلح في زعمهم من لفظ كلمة القرآن ، لأن كلمة القرآن توهم غير اللائق ، وكلمة استولى في زعمهم هي المنزهة اللائقة بالله مع أنه لا يعقل تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء الله على عرشه المزعوم ، باستيلاء بشر على العراق .

وهل كان أحد يغالب الله على عرشه حتى غلبه على العرش واستولى عليه ؟

وهل يوجد شيء إلا والله مستول عليه ، فالله مستول على كل شيء .

وهل يجوز أن يقال إنه تعالى استوى على كل شيء غير العرش ؟

فافهم .

[ ص: 280 ] وعلى كل حال ، فإن المئول زعم أن الاستواء يوهم غير اللائق بالله لاستلزامه مشابهة استواء الخلق ، وجاء بدله بالاستيلاء ، لأنه هو اللائق به في زعمه ، ولم ينتبه .

لأن تشبيه استيلاء الله على عرشه باستيلاء بشر بن مروان على العراق هو أفظع أنواع التشبيه ، وليس بلائق قطعا ، إلا أنه يقول : إن الاستيلاء المزعوم منزه عن مشابهة استيلاء الخلق ، مع أنه ضرب له المثل باستيلاء بشر على العراق والله يقول : فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون [ 16 \ 74 ] .

ونحن نقول : أيها المئول هذا التأويل ، نحن نسألك إذا علمت أنه لا بد من تنزيه أحد اللفظين أعني لفظ استوى الذي أنزل الله به الملك على النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا يتلى ، كل حرف منه عشر حسنات ، ومن أنكر أنه من كتاب الله كفر .

ولفظة استولى التي جاء بها قوم من تلقاء أنفسهم من غير استناد إلى نص من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من السلف .

فأي الكلمتين أحق بالتنزيه في رأيك . الأحق بالتنزيه كلمة القرآن المنزلة من الله على رسوله ، أم كلمتكم التي جئتم بها من تلقاء أنفسكم ، من غير مستند أصلا ؟

ونحن لا يخفى علينا الجواب الصحيح ، عن هذا السؤال إن كنت لا تعرفه .

واعلم أن ما ذكرنا من أن ما وصف الله به نفسه من الصفات ، فهو موصوف به حقيقة لا مجازا ، على الوجه اللائق بكماله وجلاله .

وأنه لا فرق البتة بين صفة يشتق منها وصف ، كالسمع والبصر والحياة .

وبين صفة لا يشتق منها كالوجه واليد .

وأن تأويل الصفات كتأويل الاستواء بالاستيلاء ، لا يجوز ولا يصح .

هو معتقد أبي الحسن الأشعري رحمه الله .

وهو معتقد عامة السلف ، وهو الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .

فمن ادعى على أبي الحسن الأشعري أنه يئول صفة من الصفات ، كالوجه واليد والاستواء ، ونحو ذلك فقد افترى عليه افتراء عظيما .

[ ص: 281 ] بل الأشعري رحمه الله مصرح في كتبه العظيمة التي صنفها بعد رجوعه عن الاعتزال ، ( كالموجز ) ، ( ومقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ) ، ( والإبانة عن أصول الديانة ) أن معتقده الذي يدين الله به هو ما كان عليه السلف الصالح من الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإثبات ذلك كله من غير كيف ولا تشبيه ولا تعطيل .

وأن ذلك لا يصح تأويله ، ولا القول بالمجاز فيه .

وأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو مذهب المعتزلة ومن ضاهاهم .

وهو أعلم الناس بأقوال المعتزلة ، لأنه كان أعظم إمام في مذهبهم ، قبل أن يهديه الله إلى الحق ، وسنذكر لك هنا بعض نصوص أبي الحسن الأشعري رحمه الله لتعلم صحة ما ذكرنا عنه .

قال رحمه الله ( في كتاب الإبانة عن أصول الديانة ) الذي قال غير واحد أنه آخر كتاب صنفه ، ما نصه :

فإن قال لنا قائل : قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة ، والمرجئة ، فعرفونا قولكم الذي به تقولون ، وديانتكم التي بها تدينون ، قيل له :

قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها ، التمسك بكتاب ربنا عز وجل وسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث .

ونحن بذلك معتصمون ، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ، ولمن خالف قوله مجانبون .

لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين ، وزيغ الزائغين وشك الشاكين . فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم ، وعلى جميع أئمة المسلمين .

وجملة قولنا : أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئا .

وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو فرد صمد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن [ ص: 282 ] محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، والساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور .

وأن الله استوى على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له وجها كما قال : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وأن له عينان بلا كيف كما قال : تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وبه تعلم أن من يفتري على الأشعري - أنه من المئولين المدعين أن ظاهر آيات الصفات وأحاديثها لا يليق بالله - كاذب عليه كذبا شنيعا .

وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة أيضا في إثبات الاستواء لله تعالى ما نصه :

إن قال قائل : ما تقولون في الاستواء ؟ قيل له : نقول : إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال : الرحمن على العرش استوى . وقد قال الله عز وجل : إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وقد قال : بل رفعه الله إليه [ 4 \ 158 ] ، وقال عز وجل : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه [ 32 \ 5 ] ، وقال حكاية عن فرعون : ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا [ 40 \ 36 ] .

فكذب فرعون نبي الله موسى عليه السلام في قوله : ( إن الله عز وجل فوق السماوات ) . وقال عز وجل : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض .

فالسماوات فوقها العرش ، فلما كان العرش فوق السماوات قال : أأمنتم من في السماء لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات ، وكل ما علا فهو سماء ، فالعرش أعلى السماوات . هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة المذكور .

وقد أطال رحمه الله في الكلام بذكر الأدلة القرآنية في إثبات صفة الاستواء ، وصفة العلو لله - جل وعلا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:26 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (497)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 283 إلى صـ 290



ومن جملة كلامه المشار إليه ما نصه :

[ ص: 283 ] وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية : إن قول الله عز وجل : الرحمن على العرش استوى أنه استولى وملك وقهر ، وأن الله عز وجل في كل مكان . وجحدوا أن يكون الله عز وجل على عرشه كما قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة .

ولو كان هذا كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض ، فالله سبحانه قادر عليها وعلى الحشوش ، وعلى كل ما في العالم .

فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأفراد ، لأنه قادر على الأشياء مستول عليها .

وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول :

إن الله عز وجل مستو على الحشوش والأخلية ، لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها .

ووجب أن يكون معناه استواء يختص العرش دون الأشياء كلها .

وزعمت المعتزلة والحرورية والجهمية أن الله عز وجل في كل مكان فلزمهم أنه في بطن مريم وفي الحشوش والأخلية .

وهذا خلاف الدين - تعالى الله عن قولهم . ا هـ .

هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في آخر مصنفاته ، وهو كتاب الإبانة عن أصول الديانة .

وتراه صرح رحمه الله بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء هو قول المعتزلة والجهمية والحرورية لا قول أحد من أهل السنة وأقام البراهين الواضحة على بطلان ذلك .

فليعلم مئولو الاستواء بالاستيلاء أن سلفه في ذلك المعتزلة والجهمية والحرورية ، لا أبو الحسن الأشعري رحمه الله ولا أحد من السلف .

وقد أوضحنا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم الآية [ 6 \ 3 ] أن قول الجهمية ومن تبعهم : إن الله في كل مكان - قول باطل .

[ ص: 284 ] لأن جميع الأمكنة الموجودة أحقر وأقل وأصغر ، من أن يسع شيء منها خالق السماوات والأرض ، الذي هو أعظم وأكبر من كل شيء ، وهو محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء .

فانظر إيضاح ذلك في الأنعام .

واعلم أن ما يزعمه كثير من الجهلة ، من أن ما في القرآن العظيم من صفة الاستواء والعلو والفوقية يستلزم الجهة ، وأن ذلك محال على الله ، وأنه يجب نفي الاستواء والعلو والفوقية ، وتأويلها بما لا دليل عليه من المعاني كله باطل .

وسببه سوء الظن بالله وبكتابه ، وعلى كل حال فمدعي لزوم الجهة لظواهر نصوص القرآن العظيم . واستلزام ذلك للنقص الموجب للتأويل يقال له :

ما مرادك بالجهة ؟

إن كنت تريد بالجهة مكانا موجودا انحصر فيه الله ، فهذا ليس بظاهر القرآن ، ولم يقله أحد من المسلمين .

وإن كنت تريد بالجهة العدم المحض .

فالعدم عبارة عن لا شيء .

فميز أولا بين الشيء الموجود ، وبين لا شيء .

وقد قال أيضا أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة أيضا ما نصه :

فإن سئلنا : أتقولون : إن لله يدين ؟ قيل : نقول ذلك ، وقد دل عليه قوله عز وجل : يد الله فوق أيديهم [ 48 \ 10 ] ، وقوله عز وجل : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] .

وأطال رحمه الله الكلام في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات صفة اليدين لله .

ومن جملة ما قال ما نصه :

ويقال لهم : لم أنكرتم أن يكون الله عز وجل عنى بقوله : يدي يدين ليستا نعمتين .

فإن قالوا : لأن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة .

[ ص: 285 ] قيل لهم : ولم قضيتم أن اليد إذا لم تكن نعمة لم تكن إلا جارحة ؟

فإن رجوعنا إلى شاهدنا ، وإلى ما نجده فيما بيننا من الخلق ؟

فقالوا : اليد إذا لم تكن نعمة في الشاهد لم تكن إلا جارحة .

قيل لهم : إن عملتم على الشاهد وقضيتم به على الله عز وجل فكذلك لم نجد حيا من الخلق إلا جسما لحما ودما ، فاقضوا بذلك على الله عز وجل .

وإلا فأنتم لقولكم متأولون ولاعتلالكم ناقضون .

وإن أثبتم حيا لا كالأحياء منا .

فلم أنكرتم أن تكون اليدان اللتان أخبر الله عز وجل عنهما ، يدين ليستا نعمتين ، ولا جارحتين ، ولا كالأيدي ؟

وكذلك يقال لهم :

لم تجدوا مدبرا حكيما إلا إنسانا ، ثم أثبتم أن للدنيا مدبرا حكيما ، ليس كالإنسان ، وخالفتم الشاهد ونقضتم اعتلالكم .

فلا تمنعوا من إثبات يدين ليستا نعمتين ولا جارحتين ، من أجل أن ذلك خلاف الشاهد انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وبه تعلم أن الأشعري رحمه الله يعتقد أن الصفات التي أنكرها المئولون كصفة اليد ، من جملة صفات المعاني كالحياة ونحوها ، وأنه لا فرق البتة بين صفة اليد وصفة الحياة فما اتصف الله به من جميع ذلك فهو منزه عن مشابهة ما اتصف به الخلق منه .

واللازم لمن شبه في بعض الصفات ونزه في بعضها أن يشبه في جميعها أو ينزه في جميعها ، كما قاله الأشعري .

أما ادعاء ظهور التشبيه في بعضها دون بعض ، فلا وجه له بحال من الأحوال ، لأن الموصوف بها واحد ، وهو منزه عن مشابهة صفات خلقه .

ومن جملة كلام أبي الحسن الأشعري رحمه الله المشار إليها آنفا في إثبات الصفات ما نصه :

[ ص: 286 ] فإن قال قائل : لم أنكرتم أن يكون قوله : مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، وقوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] على المجاز ؟ .

قيل له : حكم كلام الله عز وجل أن يكون على ظاهره وحقيقته ، ولا يخرج الشيء عن ظاهره إلى المجاز إلا لحجة .

ألا ترون أنه إذا كان ظاهر الكلام العموم ، فإذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص ، فليس هو على حقيقة الظاهر ؟

وليس يجوز أن يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة ؟

كذلك قول الله عز وجل : لما خلقت بيدي على ظاهره وحقيقته من إثبات اليدين ، ولا يجوز أن يعدل به عن ظاهر اليدين إلى ما ادعاه خصومنا إلا بحجة .

ولو جاز ذلك لمدع أن يدعي أن ما ظاهره العموم ، فهو على الخصوص ، وما ظاهره الخصوص فهو على العموم بغير حجة .

وإذا لم يجز هذا لمدعيه بغير برهان لم يجز لكم ما ادعيتموه أنه مجاز بغير حجة .

بل واجب أن يكون قوله : لما خلقت بيدي إثبات يدين لله تعالى في الحقيقة غير نعمتين إذا كانت النعمتان لا يجوز عند أهل اللسان أن يقول قائلهم : فعلت بيدي وهو يعني النعمتين . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وفيه تصريح أبي الحسن الأشعري رحمه الله ، بأن صفات الله كصفة اليد ثابتة له حقيقة لا مجازا ، وأن المدعين أنها مجاز هم خصومه وهو خصمهم كما ترى .

وإنما قال رحمه الله : إنه تعالى متصف بها حقيقة لا مجازا ، لأنه لا يشك في أن ظاهر صفة الله هو مخالفة صفة الخلق ، وتنزيهها عن مشابهتها كما هو شأن السلف الصالح كلهم .

فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه ، لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدال على الصفة كصفة اليد والوجه إلا أنها صفة كمال منزهة عن مشابهة صفات الخلق .

[ ص: 287 ] فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له .
تنبيه مهم

فإن قيل : دل الكتاب والسنة وإجماع السلف على أن الله وصف نفسه بصفة اليدين كقوله تعالى : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وقوله تعالى : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] ، وقوله تعالى : وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الآية [ 39 \ 67 ] .

والأحاديث الدالة على مثل ما دلت عليه الآيات المذكورة كثيرة ، كما هو معلوم ، وأجمع المسلمون على أنه - جل وعلا - لا يجوز أن يوصف بصفة الأيدي مع أنه تعالى قال : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون [ 36 \ 71 ] ، فلم أجمع المسلمون على تقديم آية لما خلقت بيدي على آية مما عملت أيدينا ؟

فالجواب : أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي ، ولا بين المسلمين أن صيغ الجموع تأتي لمعنيين أحدهما إرادة التعظيم فقط ، فلا يدخل في صيغة الجمع تعدد أصلا ، لأن صيغة الجمع المراد بها التعظيم - إنما يراد بها واحد .

والثاني أن يراد بصيغة الجمع معنى الجمع المعروف ، وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن القرآن العظيم يكثر فيه جدا إطلاق الله - جل وعلا - على نفسه صيغة الجمع ، يريد بذلك تعظيم نفسه ، ولا يريد بذلك تعددا ولا أن معه غيره ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، كقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .

فصيغة الجمع في قوله : إنا وفي قوله : نحن وفي قوله : نزلنا وقوله : لحافظون لا يراد بها أن معه منزلا للذكر ، وحافظا له غيره تعالى .

بل هو وحده المنزل له والحافظ له ، وكذلك قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] ، وقوله : أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، وقوله : أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، ونحو هذا كثير في القرآن جدا ، وبه تعلم أن صيغة الجمع في قوله : إنا . وفي قوله : خلقنا وفي قوله : عملت أيدينا إنما يراد بها التعظيم ، ولا يراد بها التعدد أصلا .

[ ص: 288 ] وإذا كان يراد بها التعظيم ، لا التعدد ؛ علم بذلك أنها لا تصح بها معارضة قوله : لما خلقت بيدي ، لأنها دلت على صفة اليدين . والجمع في قوله : أيدينا لمجرد التعظيم .

وما كان كذلك لا يدل على التعدد فيطلب الدليل من غيره ، فإن دل على أن المراد بالتعظيم واحد حكم بذلك ، كالآيات المتقدمة .

وإن دل على معنى آخر حكم به .

فقوله مثلا : وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ، قام فيه البرهان القطعي أنه حافظ واحد ، وكذلك قوله : أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] ، أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، فإنه قد قام في كل ذلك البرهان القطعي على أنه خالق واحد ، ومنزل واحد ، ومنشئ واحد .

وأما قوله : مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، فقد دل البرهان القطعي على أن الله موصوف بصفة اليدين كما صرح به في قوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، كما تقدم إيضاحه قريبا .

وقد علمت أن صيغة الجمع في قوله : لحافظون [ 15 \ 9 ] ، وقوله : أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] ، وقوله : أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] ، وقوله : أم نحن المنشئون [ 56 \ 72 ] ، وقوله : خلقنا لهم مما عملت أيدينا [ 36 \ 71 ] ، لا يراد بشيء منه معنى الجمع ، وإنما يراد به التعظيم فقط .

وقد أجاب أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب الإبانة بما يقرب من هذا في المعنى .

واعلم أن لفظ اليدين قد يستعمل في اللغة العربية استعمالا خاصا ، بلفظ خاص لا تقصد به في ذلك النعمة ولا الجارحة ولا القدرة ، وإنما يراد به معنى أمام .

واللفظ المختص بهذا المعنى هو لفظة اليدين التي أضيفت إليها لفظة " بين " خاصة ، أعني لفظة " بين يديه " ، فإن المراد بهذه اللفظة أمامه . وهو استعمال عربي معروف مشهور في لغة العرب لا يقصد فيه معنى الجارحة ولا النعمة ولا القدرة ، ولا أي صفة كائنة ما كانت .

[ ص: 289 ] وإنما يراد به أمام فقط كقوله تعالى : وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه [ 34 \ 31 ] ، أي ولا بالذي كان أمامه سابقا عليه من الكتب .

وكقوله : ومصدقا لما بين يديه من التوراة [ 5 \ 46 ] ، أي مصدقا لما كان أمامه متقدما عليه من التوراة .

وكقوله : فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم [ 41 \ 25 ] ، فالمراد بلفظ " ما بين أيديهم " ما أمامهم .

وكقوله تعالى : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] ، أي يرسل الرياح مبشرات أمام رحمته التي هي المطر ، إلى غير ذلك من الآيات .

ومما يوضح لك ذلك أنه لا يمكن تأويل اليدين في ذلك بنعمتين ولا قدرتين ولا جارحتين . ولا غير ذلك من الصفات ، فهذا أسلوب خاص دال على معنى خاص . بلفظ خاص مشهور في كلام العرب فلا صلة له باللفظ الدال على الجارحة ، بالنسبة إلى الإنسان ولا باللفظ الدال على صفة الكمال والجلال الثابتة لله تعالى . فافهم .

وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله في كتابه " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " الذي ذكر فيه أقوال جميع أهل الأهواء والبدع والمئولين والنافين لصفات الله أو بعضها ما نصه :

جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وما جاء من عند الله ، وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يردون من ذلك شيئا .

وأن الله سبحانه إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن الجنة حق ، وأن النار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وأن الله سبحانه على عرشه ، كما قال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال : خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، وكما قال : بل يداه مبسوطتان [ 5 \ 64 ] . إلى أن قال في كلامه هذا بعد أن سرد مذهب أهل السنة والجماعة - ما نصه :

فهذه جملة ما يأمرون به ويستعملونه ويرونه ، وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول ، وإليه [ ص: 290 ] نذهب ، وما توفيقنا إلا بالله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وبه نستعين ، وعليه نتوكل ، وإليه المصير ، هذا لفظ أبي الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب المقالات المذكور .

وبه تعلم أنه يؤمن بكل ما جاء عن الله في كتابه وما ثبت عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يرد من ذلك شيئا ولا ينفيه بل يؤمن به ويثبته لله ، بلا كيف ولا تشبيه ، كما هو مذهب أهل السنة . وقال أبو الحسن الأشعري أيضا في كتاب المقالات المذكور ما نصه :

وقال أهل السنة وأصحاب الحديث : ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وإنه على العرش كما قال عز وجل : الرحمن على العرش استوى ولا نقدم بين يدي الله في القول ، بل نقول : استوى بلا كيف . ثم أطال الكلام رحمه الله في إثبات الصفات كما قدمنا عنه ، ثم قال ما نصه : وقالت المعتزلة : إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

فتراه صرح في كتاب المقالات المذكور ، بأن تأويل الاستواء بالاستيلاء ، هو قول المعتزلة لا قوله هو ، ولا قول أحد من أهل السنة .

وزاد في كتاب الإبانة مع المعتزلة الجهمية والحرورية كما قدمنا .

وبكل ما ذكرنا تعلم أن الأشعري رجع عن الاعتزال إلى مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها .

وقد قدمنا إيضاح الحق في آيات الصفات بالأدلة القرآنية بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 7 \ 54 ] .

واعلم أن أئمة القائلين بالتأويل رجعوا قبل موتهم عنه ، لأنه مذهب غير مأمون العاقبة ; لأن مبناه على ادعاء أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها ، لا تليق بالله لظهورها وتبادرها في مشابهة صفات الخلق .

ثم نفي تلك الصفات الواردة في الآيات والأحاديث ، لأجل تلك الدعوى الكاذبة المشئومة ، ثم تأويلها بأشياء أخر ، دون مستند من كتاب أو سنة ، أو قول صحابي أو أحد من السلف .

وكل مذهب هذه حاله ، فإنه جدير بالعاقل المفكر أن يرجع عنه إلى مذهب السلف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:29 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (498)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 291 إلى صـ 298


[ ص: 291 ] وقد أشار تعالى في سورة الفرقان أن وصف الله بالاستواء صادر عن خبير بالله ، وبصفاته عالم بما يليق به ، وبما لا يليق وذلك في قوله تعالى : الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 25 \ 59 ] .

فتأمل قوله : فاسأل به خبيرا ، بعد قوله : ثم استوى على العرش الرحمن ، تعلم أن من وصف الرحمن بالاستواء على العرش خبير بالرحمن وبصفاته لا يخفى عليه اللائق من الصفات وغير اللائق .

فالذي نبأنا بأنه استوى على عرشه هو العليم الخبير الذي هو الرحمن .

وقد قال تعالى : ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 14 ] .

وبذلك تعلم أن من يدعي أن الاستواء يستلزم التشبيه ، وأنه غير لائق - غير خبير ، نعم والله هو غير خبير .

وسنذكر هنا إن شاء الله أن أئمة المتكلمين المشهورين رجعوا كلهم عن تأويل الصفات .

أما كبيرهم الذي هو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى أبي الحسن الأشعري ، وهو القاضي محمد بن الطيب المعروف بأبي بكر الباقلاني ، فإنه كان يؤمن بالصفات على مذهب السلف ويمنع تأويلها منعا باتا ، ويقول فيها بمثل ما قدمنا عن الأشعري ، وسنذكر لك هنا بعض كلامه .

قال الباقلاني المذكور في كتاب التمهيد ما نصه :

باب في أن لله وجها ويدين ، فإن قال قائل : فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين ؟ قيل له : قوله : ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام [ 55 \ 27 ] .

وقوله : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، فأثبت لنفسه وجها ويدين .

فإن قالوا : فما أنكرتم أن يكون المعنى في قوله : خلقت بيدي أنه خلقه بقدرته أو بنعمته ، لأن اليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة ، وبمعنى القدرة ، كما يقال : لي عند فلان يد بيضاء . يراد به نعمة .

[ ص: 292 ] وكما يقال : هذا الشيء في يد فلان وتحت يد فلان ، يراد به أنه تحت قدرته وفي ملكه .

ويقال : رجل أيد إذا كان قادرا .

وكما قال تعالى : خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما [ 36 \ 71 ] ، يريد عملنا بقدرتنا . وقال الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين

فكذلك قوله : خلقت بيدي يعني بقدرتي أو نعمتي .

يقال لهم هذا باطل ; لأن قوله : بيدي يقتضي إثبات يدين هما صفة له .

فلو كان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان .

وأنتم لا تزعمون أن للباري سبحانه قدرة واحدة ، فكيف يجوز أن تثبتوا له قدرتين ؟

وقد أجمع المسلمون من مثبتي الصفات والنافين لها على أنه لا يجوز أن يكون له تعالى قدرتان فبطل ما قلتم .

وكذلك لا يجوز أن يكون الله تعالى خلق آدم بنعمتين ; لأن نعم الله تعالى على آدم وعلى غيره لا تحصى .

ولأن القائل لا يجوز أن يقول : رفعت الشيء بيدي أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يعني نعمته .

وكذلك لا يجوز أن يقال : لي عند فلان يدان يعني نعمتين .

وإنما يقال لي عنده يدان بيضاوان ، لأن القول : يد - لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات .

ويدل على فساد تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك إبليس ، وعن أن يقول : وأي فضل لآدم علي يقتضي أن أسجد له ، وأنا أيضا بيدك خلقتني التي هي قدرتك وبنعمتك خلقتني ؟

وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيديه - دليل على فساد ما قالوه .

[ ص: 293 ] فإن قال قائل : فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة ؟ إذ كنتم لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة .

يقال له : لا يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك .

وكما لا يجب متى كان قائما بذاته أن يكون جوهرا أو جسما ، لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وهو صريح في أنه يرى أن صفة الوجه ، وصفة اليد ، وصفة العلم ، والحياة والقدرة كلها من صفات المعاني ، ولا وجه للفرق بينها ، وجميع صفات الله مخالفة لجميع صفات خلقه .

وقال الباقلاني أيضا في كتاب التمهيد ما نصه :

فإن قالوا : فهل تقولون : إنه في كل مكان ؟

قيل : معاذ الله ، بل هو مستو على العرش كما أخبر في كتابه ، فقال : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، وقال تعالى : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، وقال : أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض .

ولو كان في كل مكان ، لكان في جوف الإنسان وفمه وفي الحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها ، تعالى عن ذلك ، ولوجب أن يزيد بزيادة الأماكن إذ خلق منها ما لم يكن خلقه ، وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان .

ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى وراء ظهورنا وعن أيماننا وشمائلنا .

وهذا ما قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله ، إلى أن قال رحمه الله : ولا يجوز أن يكون معنى استوائه على العرش هو استيلاؤه عليه كما قال الشاعر :



قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
لأن الاستيلاء هو القدرة والقهر ، والله تعالى لم يزل قادرا قاهرا عزيزا مقتدرا .

وقوله : ثم استوى على العرش [ 25 \ 59 ] ، يقتضي استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن فيبطل ما قالوه .

[ ص: 294 ] فإن قال قائل : ففصلوا لي صفات ذاته من صفات أفعاله ، لأعرف ذلك .

قيل له : صفات ذاته هي التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها .

وهي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان . انتهى محل الغرض منه بلفظه .

وقد نقلناه من نسخة هي أجود نسخة موجودة لكتاب التمهيد للباقلاني المذكور .

وترى تصريحه فيها بأن صفة الوجه واليد من صفات المعاني كالحياة والعلم والقدرة والإرادة ، كما هو قول أبي الحسن الأشعري الذي قدمنا إيضاحه .

واعلم أن إمام الحرمين ، أبا المعالي الجويني ، كان في زمانه من أعظم أئمة القائلين بالتأويل ، وقد قرر التأويل وانتصر له في كتابه الإرشاد .

ولكنه رجع عن ذلك في رسالته العقيدة النظامية فإنه قال فيها :

اختلف مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة ، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما تبرزه أفهام أرباب اللسان منها .

فرأى بعضهم تأويلها ، والتزام هذا المنهج في آي الكتاب ، وفيما صح من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم .

وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها ، وتفويض معانيها إلى الرب سبحانه .

والذي نرتضيه رأيا وندين لله به عقدا - اتباع سلف الأمة ، فالأولى الاتباع وترك الابتداع ، والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة ، وهو مستند معظم الشريعة .

وقد درج صحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمشتغلون بأعباء الشريعة .

وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها .

[ ص: 295 ] فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة .

فإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعا بأنه الوجه المتبع بحق .

فعلى ذي الدين أن يعتقد تنزه الرب تعالى عن صفات المحدثات ، ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب .

ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة .

فلتجر آية الاستواء والمجيء وقوله : لما خلقت بيدي [ 38 \ 75 ] ، ويبقى وجه ربك [ 55 \ 27 ] ، وقوله : تجري بأعيننا [ 54 \ 14 ] ، وما صح عن الرسول عليه السلام كخبر النزول وغيره على ما ذكرنا ، فهذا بيان ما يجب لله تعالى . انتهى كلامه بلفظه من الرسالة النظامية المذكورة مع أن رجوع الجويني فيها إلى أن الحق هو مذهب السلف أمر معلوم .

وكذلك أبو حامد الغزالي ، كان في زمانه من أعظم القائلين بالتأويل ، ثم رجع عن ذلك ، وبين أن الحق الذي لا شك فيه هو مذهب السلف .

وقال في كتابه : إلجام العوام عن علم الكلام :

اعلم أن الحق الصريح الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر - هو مذهب السلف ، أعني الصحابة والتابعين ، ثم قال : إن البرهان الكلي على أن الحق في مذهب السلف وحده ينكشف بتسليم أربعة أصول مسلمة عند كل عاقل .

ثم بين أن الأول من تلك الأصول المذكورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو أعرف الخلق بصلاح أحوال العباد في دينهم ودنياهم .

الأصل الثاني : أنه بلغ كل ما أوحي إليه من صلاح العباد في معادهم ومعاشهم ، ولم يكتم منه شيئا .

[ ص: 296 ] الأصل الثالث : أن أعرف الناس بمعاني كلام الله وأحراهم بالوقوف على أسراره هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين لازموه وحضروا التنزيل وعرفوا التأويل .

والأصل الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دعوا الخلق إلى التأويل ، ولو كان التأويل من الدين أو علم الدين لأقبلوا عليه ليلا ونهارا ودعوا إليه أولادهم وأهلهم .

ثم قال الغزالي : وبهذه الأصول الأربعة المسلمة عند كل مسلم نعلم بالقطع أن الحق ما قالوه والصواب ما رأوه .

انتهى باختصار .

ولا شك أن استدلال الغزالي هذا لأن مذهب السلف هو الحق - استدلال لا شك في صحته ، ووضوح وجه الدليل فيه ، وأن التأويل لو كان سائغا أو لازما لبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، ولقال به أصحابه وتابعوهم كما لا يخفى .

وذكر غير واحد عن الغزالي أنه رجع في آخر حياته إلى تلاوة كتاب الله وحفظ الأحاديث الصحيحة والاعتراف بأن الحق هو ما في كتاب الله وسنة رسوله .

وذكر بعضهم أنه مات وعلى صدره صحيح البخاري رحمه الله .

واعلم أيضا أن الفخر الرازي الذي كان في زمانه أعظم أئمة التأويل - رجع عن ذلك المذهب إلى مذهب السلف معترفا بأن طريق الحق هي اتباع القرآن في صفات الله .

وقد قال في ذلك في كتابه : أقسام اللذات : لقد اختبرت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فلم أجدها تروي غليلا ، ولا تشفي عليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات : الرحمن على العرش استوى [ 20 \ 5 ] ، إليه يصعد الكلم الطيب [ 35 \ 10 ] ، وفي النفي : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] ، هل تعلم له سميا [ 19 \ 65 ] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي . ا هـ .

وقد بين هذا المعنى في أبياته المشهورة التي يقول فيها :



نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال


[ ص: 297 ] إلى آخر الأبيات .

وكذلك غالب أكابر الذين كانوا يخوضون في الفلسفة والكلام ، فإنه ينتهي بهم أمرهم إلى الحيرة وعدم الثقة بما كانوا يقررون .

وقد ذكر عن الحفيد ابن رشد وهو من أعلم الناس بالفلسفة أنه قال :

ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ؟

وذكروا عن الشهرستاني أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم ، وقد قال في ذلك : لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر على ذقن أو قارعا سن نادم وأمثال هذا كثيرة .

فيا أيها المعاصرون المتعصبون لدعوى أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها خبيث لا يليق بالله لاستلزامه التشبيه بصفات الخلق ، وأنها يجب نفيها وتأويلها بمعان ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يقلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه ولا من التابعين .

فمن هو سلفكم في هذه الدعوى الباطلة المخالفة لإجماع السلف ؟

إن كنتم تزعمون أن الأشعري يقول مثل قولكم ، وأنه سلفكم في ذلك فهو بريء منكم ومن دعواكم .

وهو مصرح في كتبه التي صنفها بعد الرجوع عن الاعتزال أن القائلين بالتأويل هم المعتزلة ، وهم خصومه وهو خصمهم ، كما أوضحنا كلامه في الإباحة والمقالات .

وقد بينا أن أساطين القول بالتأويل قد اعترفوا بأن التأويل لا مستند له ، وأن الحق هو اتباع مذهب السلف كما أوضحنا ذلك عن أبي بكر الباقلاني ، وأبي المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، وأبي عبد الله الفخر الرازي ، وغيرهم ممن ذكرنا .

فنوصيكم وأنفسنا بتقوى الله ، وألا تجادلوا في آيات الله بغير سلطان أتاكم ، والله - جل وعلا - يقول في كتابه : إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير [ 40 \ 56 ] .

[ ص: 298 ] ويقول تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [ 31 \ 20 - 21 ] .
المسألة الثانية في الكلام على الاجتهاد .

اعلم أولا أنا قدمنا بطلان قول الظاهرية بمنع الاجتهاد مطلقا ، وأن من الاجتهاد ما هو صحيح موافق للشرع الكريم ، وبسطنا أدلة ذلك بإيضاح في سورة الأنبياء في الكلام على قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث الآية [ 21 \ 78 ] .

وبينا طرفا منه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وغرضنا في هذه المسألة هو أن نبين أن تدبر القرآن وانتفاع متدبره بالعمل بما علم منه الذي دل عليه قوله تعالى في هذه الآية الكريمة التي نحن بصددها التي هي قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها لا يتوقف على تحصيل الاجتهاد المطلق بشروطه المعروفة عند متأخري الأصوليين .

اعلم أولا : أن المتأخرين من أهل الأصول الذين يقولون بمنع العمل بالكتاب والسنة مطلقا إلا للمجتهدين ، يقولون : إن شروط الاجتهاد هي كون المجتهد بالغا ، عاقلا شديد الفهم .

طبعا عارفا بالدليل العقلي ، الذي هو استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد نقل صارف عنه .

عارفا باللغة العربية ، وبالنحو من صرف وبلاغة مع معرفة الحقائق الشرعية والعرفية .

وبعضهم يزيد المحتاج إليه من فن المنطق كشرائط الحدود ، والرسوم ، وشرائط البرهان .

عارفا بالأصول ، عارفا بأدلة الأحكام من الكتاب والسنة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg

ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (499)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 299 إلى صـ 306



[ ص: 299 ] ولا يشترط عندهم حفظ النصوص ، بل يكفي عندهم علمه بمداركها في المصحف وكتب الحديث .

عارفا بمواقع الإجماع والخلاف .

عارفا بشروط المتواتر ، والآحاد والصحيح والضعيف .

عارفا بالناسخ والمنسوخ .

عارفا بأسباب النزول .

عارفا بأحوال الصحابة ، وأحوال رواة الحديث ، اختلفوا في شرط عدم إنكاره للقياس . ا هـ .

ولا يخفى أن مستندهم في اشتراطهم لهذه الشروط ليس نصا من كتاب ولا سنة يصرح بأن هذه الشروط كلها لا يصح دونها عمل بكتاب ولا سنة ، ولا إجماعا دالا على ذلك .

وإنما مستندهم في ذلك هو تحقيق المناط في ظنهم .

وإيضاح ذلك هو أن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين كلها دال على أن العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يشترط له إلا شرط واحد ، وهو العلم بحكم ما يعمل به منهما .

ولا يشترط في العمل بالوحي شرط زائد على العلم بحكمه البتة .

وهذا مما لا يكاد ينازع فيه أحد .

ومراد متأخري الأصوليين بجميع الشروط التي اشترطوها هو تحقيق المناط .

لأن العلم بالوحي لما كان هو مناط العمل به أرادوا أن يحققوا هذا المناط ، أي يبينوا الطرق التي يتحقق بها حصول العلم الذي هو مناط العمل .

فاشترطوا جميع الشروط المذكورة ، ظنا منهم أنه لا يمكن تحقيق حصول العلم بالوحي دونها .

وهذا الظن فيه نظر ; لأن كل إنسان له فهم إذا أراد العمل بنص من كتاب أو سنة فلا [ ص: 300 ] يمتنع عليه ، ولا يستحيل أن يتعلم معناه ويبحث عنه ، هل هو منسوخ أو مخصص أو مقيد حتى يعلم ذلك فيعمل به .

وسؤال أهل العلم : هل لهذا النص ناسخ أو مخصص أو مقيد مثلا . وإخبارهم بذلك ليس من نوع التقليد ، بل هو من نوع الاتباع .

وسنبين إن شاء الله الفرق بين التقليد والاتباع في مسألة التقليد الآتية .

والحاصل أن نصوص الكتاب والسنة التي لا تحصى واردة بإلزام جميع المكلفين بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

وليس في شيء منها التخصيص بمن حصل شروط الاجتهاد المذكورة . وسنذكر طرفا منها لنبين أنه لا يجوز تخصيصها بتحصيل الشروط المذكورة .

قال الله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] ، والمراد بـ ما أنزل إليكم هو القرآن والسنة المبينة له لا آراء الرجال .

وقال تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [ 4 \ 61 ] .

فدلت هذه الآية الكريمة أن من دعي إلى العمل بالقرآن والسنة وصد عن ذلك - أنه من جملة المنافقين ; لأن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .

وقال تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] ، والرد إلى الله والرسول هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى الرسول بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إلى سنته .

وتعليقه الإيمان في قوله : إن كنتم تؤمنون بالله على رد التنازع إلى كتاب الله وسنة رسوله ، يفهم منه أن من يرد التنازع إلى غيرهما لم يكن يؤمن بالله .

وقال تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون [ 39 \ 55 ] ، ولا شك أن القرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا ، والسنة [ ص: 301 ] مبينة له ، وقد هدد من لم يتبع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا بقوله : من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون .

وقال تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب [ 39 \ 18 ] ، ولا شك أن كتاب الله وسنة رسوله أحسن من آراء الرجال .

وقال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 59 \ 7 ] ، وقوله : إن الله شديد العقاب فيه تهديد شديد لمن لم يعمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما إن كان يظن أن أقوال الرجال تكفي عنها .

وقال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر [ 33 \ 21 ] ، والأسوة : الاقتداء ، فيلزم المسلم أن يجعل قدوته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك باتباع سنته .

وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [ 4 \ 65 ] ، وقد أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل ما اختلفوا فيه .

وقال تعالى : فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 28 \ 50 ] .

والاستجابة له - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته هي الرجوع إلى سنته - صلى الله عليه وسلم - وهي مبينة لكتاب الله .

وقد جاء في القرآن العظيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتبع شيئا إلا الوحي ، وأن من أطاعه - صلى الله عليه وسلم - فقد أطاع الله .

قال تعالى في سورة يونس : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] .

وقال تعالى في الأنعام : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي [ 6 \ 50 ] .

وقال تعالى في الأحقاف : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] .

[ ص: 302 ] وقال تعالى في الأنبياء : قل إنما أنذركم بالوحي الآية [ 21 \ 45 ] ، فحصر الإنذار في الوحي دون غيره .

وقال تعالى : قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي الآية [ 34 \ 50 ] ، فبين أن الاهتداء إنما هو بالوحي ، والآيات بمثل هذا كثيرة .

وإذا علمت منها أن طريقه - صلى الله عليه وسلم - هي اتباع الوحي ، فاعلم أن القرآن دل على أن من أطاعه - صلى الله عليه وسلم - فهو مطيع لله كما قال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ 3 \ 31 ] .

ولم يضمن الله لأحد ألا يكون ضالا في الدنيا ولا شقيا في الآخرة إلا لمتبعي الوحي وحده .

قال تعالى في طه : فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى [ 20 \ 123 ] ، وقد دلت آية طه هذه على انتفاء الضلال والشقاوة عن متبعي الوحي .

ودلت آية البقرة على انتفاء الخوف والحزن عنه ، وذلك في قوله تعالى : فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] .

ولا شك أن انتفاء الضلال والشقاوة والخوف والحزن عن متبعي الوحي المصرح به في القرآن ، لا يتحقق فيمن يقلد عالما ليس بمعصوم ، لا يدري أصواب ما قلده فيه أم خطأ . في حال كونه معرضا عن التدبر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

ولا سيما إن كان يظن أن آراء العالم الذي قلده ، كافية مغنية ، عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

والآيات القرآنية الدالة على لزوم اتباع الوحي ، والعمل به ، لا تكاد تحصى ، وكذلك الأحاديث النبوية الدالة على لزوم العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا تكاد تحصى ; لأن طاعة الرسول طاعة الله .

وقد قال تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 59 \ 7 ] ، [ ص: 303 ] وقال تعالى : وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون [ 3 \ 132 ] .

وقال تعالى : قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [ 3 \ 32 ] .

وقال : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم [ 4 \ 69 ] .

وقال تعالى : ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما [ 33 \ 71 ] .

وقال تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا [ 4 \ 80 ] .

وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] .

وقال تعالى : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [ 4 \ 13 - 14 ] .

وقال تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين [ 5 \ 92 ] .

وقال تعالى : وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين [ 8 \ 1 ] .

وقال تعالى : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين [ 24 \ 54 ] .

وقال : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [ 24 \ 56 ] .

وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم [ 47 \ 33 ] .

[ ص: 304 ] وقال تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون [ 24 \ 51 - 52 ] .

وقال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] .

وقال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله [ 9 \ 71 ] .

ولا شك عند أحد من أهل العلم أن طاعة الله ورسوله المذكورة في هذه الآيات ونحوها من نصوص الوحي ، محصورة في العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .

فنصوص القرآن والسنة كلها دالة على لزوم تدبر الوحي ، وتفهمه وتعلمه والعمل به ، فتخصيص تلك النصوص كلها ، بدعوى أن تدبر الوحي وتفهمه والعمل به : لا يصح شيء منه إلا لخصوص المجتهدين الجامعين لشروط الاجتهاد المعروفة عند متأخري الأصوليين - يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل على ذلك البتة .

بل أدلة الكتاب والسنة دالة على وجوب تدبر الوحي وتفهمه وتعلمه والعمل بكل ما علم منه ، علما صحيحا قليلا كان أو كثيرا .

وهذه المسألة الثانية يتداخل بعض الكلام فيها ، مع بعض الكلام في المسألة الأولى ، فهما شبه المسألة الواحدة .
المسألة الثالثة في التقليد في بيان معناه لغة واصطلاحا وأقسامه وبيان ما يصح منها وما لا يصح

اعلم أن التقليد في اللغة : هو جعل القلادة في العنق .

وتقليد الولاة هو جعل الولايات قلائد في أعناقهم ، ومنه قول لقيط الإيادي :



وقلدوا أمركم لله دركم رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا وأما التقليد في اصطلاح الفقهاء : فهو الأخذ بمذهب الغير من غير معرفة دليله .

والمراد بالمذهب هو ما يصح فيه الاجتهاد خاصة .

[ ص: 305 ] ولا يصح الاجتهاد البتة في شيء يخالف نصا من كتابه أو سنة ثابتة ، سالما من المعارض ; لأن الكتاب والسنة حجة على كل أحد كائنا من كان ، لا تسوغ مخالفتهما البتة لأحد كائنا من كان فيجب التفطن ; لأن المذهب الذي فيه التقليد يختص بالأمور الاجتهادية ولا يتناول ما جاء فيه نص صحيح من الوحي سالم من المعارض .

قال الشيخ الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره : مختصرا على مذهب الإمام مالك بن أنس ما نصه :

( والمذهب لغة : الطريق ومكان الذهاب ، ثم صار عند الفقهاء حقيقة عرفية فيما ذهب إليه إمام من الأئمة من الأحكام الاجتهادية ) انتهى محل الغرض منه بلفظه .

فقوله : من الأحكام الاجتهادية تدل على أن اسم المذهب لم يتناول مواقع النصوص الشرعية السالمة من المعارض .

وذلك أمر لا خلاف فيه ; لإجماع العلماء على أن المجتهد المطلق إذا أقام باجتهاده دليلا ، مخالفا لنص من كتاب أو سنة أو إجماع ، أن دليله ذلك باطل بلا خلاف .

وأنه يرد بالقادح المسمى في الأصول بفساد الاعتبار .

وفساد الاعتبار الذي هو مخالفة الدليل لنص أو إجماع من القوادح التي لا نزاع في إبطال الدليل بها ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود في القوادح :

والخلف للنص أو إجماع دعا فسادا لاعتبار كل من وعى وبما ذكرنا
تعلم أنه لا اجتهاد أصلا ولا تقليد أصلا في شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة أو إجماع .

وإذا عرفت ذلك فاعلم أن بعض الناس من المتأخرين أجاز التقليد ، ولو كان فيه مخالفة نصوص الوحي ، كما ذكرنا عن الصاوي وأضرابه .

وعليه أكثر المقلدين للمذاهب في هذا الزمان وأزمان قبله .

وبعض العلماء منع التقليد مطلقا ، وممن ذهب إلى ذلك ابن خويز منداد من المالكية ، والشوكاني في القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد .

[ ص: 306 ] والتحقيق : أن التقليد منه ما هو جائز ، ومنه ما ليس بجائز ، ومنه ما خالف فيه المتأخرون المتقدمين من الصحابة وغيرهم من القرون الثلاثة المفضلة .
وسنذكر كل الأقسام هنا ، إن شاء الله مع بيان الأدلة .

أما التقليد الجائز الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين ، فهو تقليد العامي عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به ، وهذا النوع من التقليد كان شائعا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا خلاف فيه .

فقد كان العامي يسأل من شاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم النازلة تنزل به ، فيفتيه فيعمل بفتياه .

وإذا نزلت به نازلة أخرى لم يرتبط بالصحابي الذي أفتاه أولا بل يسأل عنها من شاء من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يعمل بفتياه .

قال صاحب نشر البنود في شرحه لقوله في مراقي السعود :



رجوعه لغيره في آخر يجوز للإجماع عند الأكثر ما نصه : يعني أن العامي يجوز له عند الأكثر الرجوع إلى قول غير المجتهد الذي استفتاه أولا في حكم آخر لإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، على أنه يسوغ للعامي السؤال لكل عالم ، ولأن كل مسألة لها حكم نفسها .

فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله ، فكذلك في المسألة الأخرى . قاله الحطاب شارح مختصر الخليل .

قال القرافي : انعقد الإجماع على أن من أسلم ، فله أن يقلد من شاء من العلماء من غير حجر .

وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر وقلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ، ويعمل بقولهم بغير نكير .

فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل . انتهى محل الغرض منه .

وما ذكره من انعقاد الإجماعين صحيح كما لا يخفى ، فالأقوال المخالفة لهما من متأخري الأصوليين كلها - مخالفة للإجماع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg