مشاهدة النسخة كاملة : تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:35 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (500)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 307 إلى صـ 314
[ ص: 307 ] وبعض العلماء يقول : إن تقليد العامي المذكور للعالم وعمله بفتياه من الاتباع لا من التقليد .
والصواب : أن ذلك تقليد مشروع مجمع على مشروعيته .
وأما ما ليس من التقليد بجائز بلا خلاف ، فهو تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده ، مجتهدا آخر يرى خلاف ما ظهر له هو ؛ للإجماع على أن المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لا يجوز له أن يقلد غيره المخالف لرأيه .
وأما نوع التقليد الذي خالف فيه المتأخرون الصحابة وغيرهم من القرون المشهود لهم بالخير ، فهو تقليد رجل واحد معين دون غيره ، من جميع العلماء .
فإن هذا النوع من التقليد ، لم يرد به نص من كتاب ولا سنة ، ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير .
وهو مخالف لأقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله ، فلم يقل أحد منهم بالجمود على قول رجل واحد معين دون غيره ، من جميع علماء المسلمين .
فتقليد العالم المعين من بدع القرن الرابع ، ومن يدعي خلاف ذلك ، فليعين لنا رجلا واحدا من القرون الثلاثة الأول ، التزم مذهب رجل واحد معين ، ولن يستطيع ذلك أبدا ; لأنه لم يقع البتة .
وسنذكر هنا إن شاء الله جملا من كلام أهل العلم في فساد هذا النوع من التقليد وحجج القائلين به ، ومناقشتها ، وبعد إيضاح ذلك كله نبين ما يظهر لنا بالدليل أنه هو الحق والصواب إن شاء الله .
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كتابه جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله ، ما نصه :
باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع : قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه ، فقال : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] .
[ ص: 308 ] وروي عن حذيفة وغيره ، قالوا : " لم يعبدوهم من دون الله ولكنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم " .
وقال عدي بن حاتم : أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي الصليب ، فقال لي : " يا عدي : ألق هذا الوثن من عنقك ، فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال : قلت : يا رسول الله : إنا لم نتخذهم أربابا . قال : بلى ، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه ؟ فقلت : بلى ، فقال : تلك عبادتهم " .
حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن أبي البختري في قوله عز وجل : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أما إنهم لو أمروهم أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ، ولكنهم أمروهم ، فجعلوا حلال الله حرامه ، وحرامه حلاله فأطاعوهم ، فكانت تلك الربوبية .
قال : وحدثنا ابن وضاح ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن أبي البختري ، قال : قيل لحذيفة في قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله أكانوا يعبدونهم ؟ فقال : لا ، ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيحلونه ، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه .
وقال جل وعز : وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ 43 \ 23 - 24 ] .
فمنعهم الاقتداء بآبائهم من قبول الاهتداء ، فقالوا : إنا بما أرسلتم به كافرون [ 43 \ 24 ] .
وفي هؤلاء ومثلهم قال الله عز وجل : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [ 8 \ 22 ] .
وقال : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم [ 2 \ 166 - 167 ] .
[ ص: 309 ] وقال عز وجل عائبا لأهل الكفر وذاما لهم : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [ 21 \ 52 - 53 ] .
وقال : وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل [ 33 \ 67 ] .
ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء .
وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها ; لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر .
وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلد ، كما لو قلد رجل فكفر وقلد آخر فأذنب ، وقلد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها ، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة ; لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا ، وإن اختلفت الآثام فيه .
وقال الله عز وجل : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] ، وقد ثبت الاحتجاج بما قدمنا في الباب هذا ، وفي ثبوته إبطال التقليد أيضا .
فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها ، وهي الكتاب والسنة أو ما كان في معناهما بدليل جامع بين ذلك .
أخبرنا عبد الوارث ، ثم ساق السند إلى أن قال : حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة ، قال : وما هي يا رسول الله ؟
قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " .
وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله " . هذا لفظ أبي عمر في جامعه .
وكثير بن عبد الله المذكور في الإسناد ضعيف ، وأبوه عبد الله مقبول ، ولكن المتنين المرويين بالإسناد المذكور كلاهما له شواهد كثيرة تدل على أن أصله صحيح .
ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر في جامعه بإسناده عن زياد بن حدير ، عن عمر بن [ ص: 310 ] الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون .
ثم ذكر بالإسناد المذكور عن ابن مهدي عن جعفر بن حبان ، عن الحسن قال : قال أبو الدرداء : إن فيما أخشى عليكم زلة العالم ، وجدال المنافق بالقرآن ، والقرآن حق وعلى القرآن منار كأعلام الطريق .
ثم أخرج بإسناده عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول في مجلسه كل يوم ، قلما يخطئه أن يقول ذلك : " الله حكم قسط ، هلك المرتابون ، إن وراءكم فتنا يكثر فيها المال ، ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق ، والمرأة والصبي ، والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول : قد قرأت القرآن ، فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره ، فإياكم وما ابتدع ، فإن كل بدعة ضلالة ، وإياكم وزيغة الحكيم " إلى آخر ما ذكره رحمه الله من الآثار الدالة على نحو ما تقدم من أن زلة العالم من أخوف المخاوف على هذه الأمة .
وإنما كانت كذلك لأن من يقلد العالم تقليدا أعمى يقلده فيما زل فيه فيتقول على الله أن تلك الزلة التي قلد فيها العالم من دين الله ، وأنها مما أمر الله بها ورسوله ، وهذا كما ترى والتنبيه عليه هو مراد ابن عبد البر .
ومرادنا أيضا بإيراد الآثار المذكورة .
ثم قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه ما نصه : وشبه الحكماء زلة العالم بانكسار السفينة ، لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير .
وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ ، لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه .
حدثنا عبد الرحمن بن يحيى ، ثم ساق السند إلى أن قال : عن ابن مسعود أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك .
ثم ساق الروايات في تفسيرهم الإمعة ، ومعنى الإمعة معروف .
قال الجوهري في صحاحه : يقال الإمع والإمعة أيضا للذي يكون لضعف رأيه مع كل أحد ، ومنه قول ابن مسعود : لا يكونن أحدكم إمعة . انتهى منه .
[ ص: 311 ] ولقد أصاب من قال :
شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ولا تكن مثل عير قيد فانقادا وذكر ابن عبد البر بإسناده عن ابن مسعود في تفسير الإمعة ، أنه قال : كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره ، وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال .
ثم ذكر أبو عمر بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ويل للأتباع من عثرات العالم ، قيل : كيف ذلك ؟ قال : يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فيترك قوله ذلك ثم تمضي الأتباع .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكميل بن زياد النخعي ، وهو حديث مشهور عند أهل العلم ، يستغنى عن الإسناد لشهرته عندهم : يا كميل إن هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إلى ركن وثيق ، إلى آخر الحديث .
وفيه : أف لحامل حق لا يصيره له ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم يدر ، مشغوف بما لا يدري حقيقته ، فهو فتنة لمن افتتن به ، وإن من الخير كله من عرفه الله دينه ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه .
ولا شك أن المقلد غيره تقليدا أعمى يدخل فيما ذكره علي رضي الله عنه في هذا الحديث ; لأنه لا يدري عن دين الله شيئا إلا أن الإمام الفلاني عمل بهذا .
فعلمه محصور في أن من يقلده من الأئمة ذهب إلى كذا ولا يدري أمصيب هو فيه أم مخطئ .
ومثل هذا لم يستضئ بنور العلم ، ولم يلجأ إلى ركن وثيق لجواز الخطأ على متبوعه ، وعدم ميزه هو بين الخطأ والصواب .
ثم ذكر أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال :
ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر .
[ ص: 312 ] وقال في جامعه أيضا رحمه الله : وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قد ذكرناه في كتابنا هذا أنه قال : " تذهب العلماء ثم تتخذ الناس رؤساء جهالا يسألون فيفتون بغير علم ، فيضلون ويضلون " .
وهذا كله نفي للتقليد ، وإبطال له لمن فهمه وهدى لرشده .
ثم ذكر رحمه الله آثارا نحو ما تقدم ثم قال : وقال : عبيد الله بن المعتمر : لا فرق بين بهيمة تقاد وإنسان يقلد .
وهذا كله لغير العامة ، فإن العامة لا بد لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها ; لأنها لا تتبين موقع الحجة ، ولا تصل لعدم الفهم إلى علم ذلك ، لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلا بنيل أسفلها ، وهذا هو الحائل بين العامة وبين طلب الحجة . والله أعلم .
ولم تختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ، وأنهم المرادون بقول الله عز وجل : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] .
وأجمعوا على أن الأعمى لا بد له من تقليد غيره ممن يثق بميزه في القبلة إذا أشكلت عليه .
فكذلك من لا علم له ولا بصر بمعنى ما يدين به لا بد من تقليد عالمه ، وكذلك لم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا .
وذلك والله أعلم لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحريم والتحليل ، والقول في العلم .
ثم ذكر أبو عمر بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ، ومن استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه ، ومن أفتى بفتيا من غير ثبت فإنما إثمها على من أفتاه " .
ثم ذكر بسنده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : من أفتى بفتيا وهو يعمى عنها كان إثمها عليه ا هـ .
ولا شك أن المقلد أعمى عما يفتى به ; لأن علمه به محصور في أن فلانا قاله مع [ ص: 313 ] علمه بأن فلانا ليس بمعصوم من الخطأ والزلل .
ثم قال أبو عمر رحمه الله : وقال أهل العلم والنظر حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به ، فمن بان له الشيء فقد علمه .
قالوا : والمقلد لا علم له ، ولم يختلفوا في ذلك إلى أن قال رحمه الله : وقال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والاتباع ما ثبت عليه حجة .
وقال في موضع آخر من كتابه : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله لدليل يوجب عليك ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح ، وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع .
وقال أبو عمر في آخر كلامه في هذا الباب ما نصه : ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار .
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في كلامه عن التقليد ما نصه : وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم .
فأحسن ما رأيت من ذلك قول المزني رحمه الله ، وأنا أورده قال : يقال لمن حكم بالتقليد هل لك من حجة فيما حكمت به ؟
فإن قال : نعم ، أبطل التقليد ; لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد .
وإن قال : حكمت به بغير حجة .
قيل له : فلم أرقت الدماء ، وأبحت الفروج وأتلفت الأموال ، وقد حرم الله ذلك إلا بحجة ؟
قال الله عز وجل : إن عندكم من سلطان بهذا [ 10 \ 68 ] ، أي من حجة بهذا ؟
فإن قال : أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة ، لأني قلدت كبيرا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خفيت علي .
قيل له : إذا جاز تقليد معلمك لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت عليك ، فتقليد معلم [ ص: 314 ] معلمك أولى ; لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلمك : كما لم يقل معلمك إلا بحجة خفيت عليك .
فإن قال : نعم ، ترك تقليد معلمه إلى تقليد معلم معلمه .
وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي الأمر إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وإن أبى ذلك نقض قوله .
وقيل له : كيف تجوز تقليد من هو أصغر ، وأقل علما ؟
ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علما ، وهذا تناقض ؟
فإن قال : لأن معلمي وإن كان أصغر فقد جمع علم من هو فوقه إلى علمه ، فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك .
قيل له : كذلك من تعلم من معلمك ، فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك ، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك . لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى علمك .
فإن قلد قوله جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء ، أولى بالتقليد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع والتابع من دونه في قياس قوله . والأعلى للأدنى أبدا .
وكفى بقول يئول إلى هذا تناقضا وفسادا ا هـ .
ثم قال أبو عمر رحمه الله بعد هذا ما نصه : يقال لمن قال بالتقليد : لم قلت به ، وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا ؟
فإن قال : قلدت لأن كتاب الله لا علم لي بتأويله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم أحصها ، والذي قلدته قد علم ذلك فقلدت من هو أعلم مني .
قيل له : أما العلماء ، إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحق لا شك فيه ، ولكن قد اختلفوا فيما قلدت فيه بعضهم دون بعض ، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:37 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (501)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 315 إلى صـ 322
[ ص: 315 ] وكلهم عالم ، والعالم الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه .
فإن قال : قلدته لأني أعلم أنه صواب .
قيل له : علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سنة أو إجماع ؟
فإن قال : نعم . أبطل التقليد وطولب بما ادعاه من الدليل .
وإن قال : قلدته لأنه أعلم مني .
قيل له : فقلد كل من هو أعلم منك ، فإنك تجد من ذلك خلقا كثيرا ، ولا تخص من قلدته إذ علتك فيه أنه أعلم منك .
فإن قال : قلدته ; لأنه أعلم الناس .
قيل له : فإنه إذا أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحا .
فإن قال : أنا أقلد بعض الصحابة . قيل له : فما حجتك في ترك من لم تقلد منهم ، ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله ؟
على أن القول لا يصح لفضل قائله ، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه .
وقد ذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم عن مالك ، قال : ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز وجل : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه [ 39 \ 18 ] . فإن قال قصري وقلة علمي يحملني على التقليد .
قيل له : أما من قلد فيما ينزل من أحكام شريعته عالما يتفق له على علمه ، فيصدر في ذلك عما يخبره فمعذور ، لأنه قد أدى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله ولا بد له من تقليد عالم فيما جهله ، لإجماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة ; لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك .
ولكن من كانت هذه حاله ، هل تجوز له الفتيا في شرائع دين الله ؟ فيحمل غيره على إباحة الفروج ، وإراقة الدماء ، واسترقاق الرقاب ، وإزالة الأملاك ويصيرها إلى غير من كانت في يديه بقول لا يعرف صحته ، ولا قام له الدليل عليه ؟
[ ص: 316 ] وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب ، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما خالفه فيه ، فإن أجاز الفتوى لمن جهل الأصل والمعنى لحفظه الفروع ، لزمه أن يجيزه للعامة .
وكفى بهذا جهلا وردا للقرآن ، قال الله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 7 \ 36 ] ، وقال : أتقولون على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 28 ] .
وقد أجمع العلماء على أن ما لم يتبين ويتيقن فليس بعلم ، وإنما هو ظن ، والظن لا يغني من الحق شيئا . انتهى كله من جامع ابن عبد البر رحمه الله .
واعلم أن حاصل جميع حجج المقلدين منحصر في قولهم : نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول الله تعالى : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] .
فأمر سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه ، وهذا نص قولنا ، وقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا يعلم إلى سؤال من يعلم ، فقال في حديث صاحب الشجة : " ألا سألوا إذا لم يعلموا ، إنما شفاء العيي السؤال " .
وقال أبو العسيف : الذي زنى بامرأة مستأجرة : " وإني سألت أهل العلم فأخبروني أن ما على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم ، فلم ينكر عليه تقليد من هو أعلم منه " :
وهذا عالم الأرض عمر قد قلد أبا بكر .
فروى شعبة عن عاصم الأحول ، عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة : أقضي فيها فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء : هو ما دون الولد والوالد ، فقال عمر بن الخطاب : إنني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر .
وصح عنه أنه قال له : رأينا لرأيك تبع ، وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ بقول عمر .
وقال الشعبي عن مسروق : كان ستة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتون الناس : ابن مسعود ، وعمر بن الخطاب ، وعلي ، وزيد بن ثابت ، وأبي بن كعب ، وأبو موسى .
وكان ثلاثة منهم يدعون قولهم لقول ثلاثة .
[ ص: 317 ] كان عبد الله يدع قوله لقول عمر ، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي ، وكان زيد يدع قوله لقول أبي بن كعب .
وقال جندب : ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس .
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن معاذا قد سن لكم سنة فكذلك فافعلوا " في شأن الصلاة حيث أخر فصلى ما فاته من الصلاة مع الإمام بعد الفراغ ، وكانوا يصلون ما فاتهم أولا ، ثم يدخلون مع الإمام .
قال المقلدة : وقد أمر الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر وهم العلماء أو العلماء والأمراء ، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به ، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم .
وقال تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [ 9 \ 100 ] .
وتقليدهم اتباع لهم ففاعله ممن رضي الله عنهم ، ويكفي ذلك الحديث المشهور " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " .
وقال عبد الله بن مسعود : من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا ، وأعمقها علما وأقلها تكلفا ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه ، وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم حقهم ، وتمسكوا بهديهم ; فإنهم كانوا على الهدي المستقيم .
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .
وقال : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ، واهتدوا بهدي عمار ، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد " .
وقد كتب عمر إلى شريح : أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قضى به الصالحون .
[ ص: 318 ] وقد منع عمر عن بيع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة .
وألزم بالطلاق الثلاث فتبعوه أيضا .
واحتلم مرة ، فقال له عمرو بن العاص : خذ ثوبا غير ثوبك ، فقال : لو فعلتها صارت سنة .
وقال أبي بن كعب وغيره من الصحابة : ما استبان لك فاعمل به ، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه .
وقد كان الصحابة يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي بين أظهرهم ، وهذا تقليد لهم قطعا ; إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم .
وقد قال تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [ 9 \ 122 ] ، فأوجب عليهم قبول ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم ، وهذا تقليد منهم للعلماء .
وصح عن ابن الزبير ، أنه سئل عن الجد والإخوة ، فقال : أما الذي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذته خليلا " فإنه أنزله أبا ، وهذا ظاهر في تقليده له .
وقد أمر الله سبحانه بقبول شهادة الشاهد ، وذلك تقليد له .
وجاءت الشريعة بقبول قول القائف ، والخارص والقاسم والمقوم للمتلفات ، وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد ، وذلك تقليد محض .
وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرف والمعدل ، وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد ، وذلك تقليد محض لهؤلاء .
وأجمعوا على جواز شراء اللحمان ، والثياب والأطعمة وغيرها ، من غير سؤال عن أسباب حلها ، وتحريمها اكتفاء بتقليد أربابها .
ولو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء فضلاء لضاعت مصالح العباد ، وتعطلت الصنائع والمتاجر ، وكان الناس كلهم علماء مجتهدين ، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا ، والقدر قد منع من وقوعه .
[ ص: 319 ] وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يهدين إليه زوجته ، وجواز وطئها تقليدا لهن في كونها هي زوجته .
وأجمعوا على أن الأعمى يقلد في القبلة ، وعلى تقليد الأئمة في الطهارة ، وقراءة الفاتحة ، وما يصح به الاقتداء ، وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيباح للزوج وطؤها بالتقليد .
ويباح للولي تزويجها بالتقليد لها في انقضاء عدتها ، وعلى جواز تقليد الناس للمؤذنين في دخول أوقات الصلوات ، ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل .
وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث : أرضعتك وأرضعت امرأتك ، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بفراقها ، وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك .
وقد صرح الأئمة بجواز التقليد ، فقال حفص بن غياث : سمعت سفيان يقول : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه .
وقال محمد بن الحسن : يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه ، ولا يجوز له تقليد من هو مثله .
وقد صرح الشافعي بالتقليد ، فقال : في الضبع بعير ، قلته تقليدا لعمر .
وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب ، قلته تقليدا لعثمان .
وقال في مسألة الجد مع الإخوة إنه يقاسمهم ، ثم قال : وإنما قلت بقول زيد . وعنه قبلنا أكثر الفرائض .
قال في موضع آخر من كتابه الجديد : قلته تقليدا العطاء .
وهذا أبو حنيفة رحمه الله في مسائل الآبار ليس معه فيها إلا تقليد من تقدمه من التابعين فيها .
وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ، ويصرح في موطئه بأنه أدرك العمل على هذا ، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا .
[ ص: 320 ] ويقول في غير موضع : ما رأيت أحدا أقتدي به يفعله ، ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال .
وقد قال الشافعي في الصحابة : رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا ، ونحن نقول ونصدق أن رأي الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا .
وقد جعل الله سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين ، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا ، وذلك عام في كل علم وصناعة .
وقد فاوت الله سبحانه بين قوى الأذهان ، كما فاوت بين الأبدان ، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله ، والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها .
ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء ، بل جعل سبحانه وتعالى هذا عالما ، وهذا متعلما وهذا متبعا للعالم مؤتما به بمنزلة المأموم مع الإمام والتابع مع المتبوع ، وأين حرم الله تعالى على الجاهل أن يكون متبعا للعالم مؤتما به مقلدا له يسير بسيره وينزل بنزوله .
وقد علم الله سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق ، فهل فرض على كل منهم عين أن يأخذ حكم نازلة من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها ؟
وهل ذلك في إمكان أحد فضلا عن كونه مشروعا ؟
وهؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتحوا البلاد ، وكان الحديث العهد بالإسلام يسألهم فيفتونه .
ولا يقولون له عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل ولا يعرف ذلك عن أحد منهم البتة .
وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود ؟ فهو من لوازم الشرع والقدر .
والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد . وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها .
ونقول لمن احتج على إبطاله : كل حجة أثرية ذكرتها فأنت مقلد لحملتها ورواتها إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم ، فليس بيدك إلا تقليد الراوي .
[ ص: 321 ] وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد ، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم ، فما الذي سوغ لك تقليد الراوي والشاهد ، ومنعنا من تقليد العالم ، وهذا سمع بأذنه ما رواه ، وهذا عقل بقلبه ما سمعه فأدى هذا مسموعه ، وأدى هذا معقوله .
وفرض على هذا تأدية ما سمعه ، وعلى هذا تأدية ما عقله ، وعلى من لم يبلغ منزلتهما القبول منهما .
ثم يقال للمانعين من التقليد : أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ ، بأن يكون مقلده مخطئا في فتواه ، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ، ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه .
وهذا كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها ، فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه ، وهذا متفق عليه بين العقلاء ا هـ .
هذا هو غاية ما يحتج به المقلدون ، وقد ذكره ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ، وبين بطلانه من واحد وثمانين وجها .
وسنذكر هنا إن شاء الله جملا مختصرة من كلامه الطويل تكفي المنصف ، وتزيد المسألة إن شاء الله إيضاحا وإقناعا .
قال في إعلام الموقعين بعد ذكره حجج المقلدين التي ذكرناها آنفا ما نصه : قال أصحاب الحجة : عجبا لكم معاشر المقلدين ، الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ، ولا معدودين في زمرة أهله ، كيف أبطلتم مذهبكم ، بنفس دليلكم ، فما للمقلد وما للاستدلال ؟ وأين منصب المقلد من منصب المستدل ؟
وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها ، من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس ، وكنتم في ذلك متشبهين بما لم تعطوه ، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه ، وذلك ثوب زور لبستموه ، ومنصب لستم من أهله غصبتموه .
فأخبرونا : هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه ، وبرهان دلكم عليه ، فنزلتم به من [ ص: 322 ] الاستدلال أقرب منزل ، وكنتم به عن التقليد بمعزل ، أم سلكتم سبيله اتفاقا ، وتخمينا من غير دليل .
وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين سبيل ، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكم ، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم .
ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة ، قلتم لسنا من أهل هذه السبيل ، وإن خاطبناكم بحكم التقليد ، فلا معنى لما أقمتموه من الدليل .
والعجب أن كل طائفة من الطوائف ، وكل أمة من الأمم ، تدعي أنها على حق ، حاشا فرقة التقليد ، فإنهم لا يدعون ذلك ، ولو ادعوه لكانوا مبطلين ، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليها ، وبرهان دلهم عليها ، وإنما سبيلهم محض التقليد ، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل ، ولا الحالي من العاطل .
وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم ، وقالوا نحن على مذاهبهم ، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه ، فإنهم بنوا على الحجة ونهوا عن التقليد وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه ، فخالفوهم في ذلك كله .
وقالوا : نحن من أتباعهم ، تلك أمانيهم ، وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم ، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم .
وأعجب من هذا أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد ، وتحريمه ، وأنه لا يحل القول به في دين الله ، ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته .
ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط .
وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس .
والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده إذ طريق ذلك مسدودة عليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:40 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (502)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 323 إلى صـ 330
ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه لا يفارق قوله ، ويترك له كل ما خالفه [ ص: 323 ] من كتاب أو سنة أو قول صاحب ، أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره ، وهذا من أعجب العجب .
وأيضا فإنا نعلم بالضرورة ، أنه لم يكن في عصر الصحابة ، رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله ، فلم يسقط منها شيئا وأسقط أقوال غيره ، فلم يأخذ منها شيئا .
ونعلم بالضرورة ، أن هذا لم يكن في عصر التابعين ، ولا تابعي التابعين .
فليكذبنا المقلدون برجل واحد ، سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه - صلى الله عليه وسلم - فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه ، يبيحون به الفروج ، والدماء والأموال ، ويحرمونها ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم ، ولهم بين يدي الله موقف شديد يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وعلى كل حال ، فأنتم أيها المقلدون : تقولون إنه لا يجوز العمل بالوحي إلا بخصوص المجتهدين فلم سوغتم لأنفسكم الاستدلال على التقليد بآية : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] ، وآية فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة الآية [ 9 \ 122 ] .
هل رجعتم عن قولكم بأن الاستدلال بالوحي لا يجوز لغير المجتهد ، أو ارتكبتم ما تعتقدون أنه حرم من استدلالكم بالقرآن مع شدة بعدكم عن رتبة الاجتهاد ؟
وفي هذا رد إجمالي لجميع ما استدللتم به على التقليد الذي أنتم عليه .
ثم يقال : أليست هذه الآيات التي استدللتم بها في زعمكم من ظواهر الكتاب ، التي سن لكم الصاوي وأمثاله أن العمل بها من أصول الكفر ، فإنه لم يستثن شيئا من ظواهر القرآن يكون العمل به ليس من أصول الكفر .
فلم تجرأتم على شيء هو من أصول الكفر وسوغتم لأنفسكم الاستدلال بالقرآن ، مع أنه لا يجوز عندكم إلا للمجتهدين .
وسنذكر رد استدلال المقلدين تفصيلا ، بإيجاز إن شاء الله تعالى .
[ ص: 324 ] أما استدلالهم بآية فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [ 16 \ 43 ] ، فهو استدلال في غير محله . فإن الآية لا تدل على هذا النوع من التقليد الأعمى الذي هو عليه من التزام جميع أقوال رجل واحد وترك جميع ما سواها .
ولا شك أن المراد بأهل الذكر أهل الوحي الذين يعلمون ما جاء من عند الله كعلماء الكتاب والسنة .
فقد أمروا أن يسألوا أهل الذكر ليفتوهم بمقتضى ذلك الذكر الذي هو الوحي .
ومن سأل عن الوحي وأعلم به وبين له كان عمله به اتباعا للوحي لا تقليدا ، واتباع الوحي لا نزاع في صحته .
وإن كانت الآية تدل على نوع تقليد في الجملة ، فهي لا تدل إلا على التقليد الذي قدمنا أنه لا خلاف فيه بين المسلمين ، وهو تقليد العامي الذي تنزل به النازلة عالما من العلماء ، وعمله بما أفتاه به من غير التزام منه لجميع ما يقوله ذلك العالم ، ولا تركه لجميع ما يقوله غيره .
وأما استدلالهم بالحديث الوارد في الرجل الذي أصابته شجة في رأسه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه : هل يعلمون له رخصة في التيمم ؟ فقالوا : ما نرى لك رخصة وأنت قادر على الماء ، فاغتسل فمات ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا إذا لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العيي السؤال " .
فهو استدلال أيضا في غير محله ، وهو حجة أيضا على المقلدين لا لهم .
قال في إعلام الموقعين في بيان وجه ذلك ما نصه : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أرشد المستفتين ، كصاحب الشجة بالسؤال عن حكمه ، وسنته فقال : قتلوه قتلهم الله ، فدعا عليهم حين أفتوا بغير علم ، وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد ; فإنه ليس علما باتفاق الناس .
فإنما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فاعله ، فهو حرام وذلك أحد أدلة التحريم ، فما احتج به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم .
وكذلك سؤال أبي العسيف الذي زنى بامرأة مستأجرة لأهل العلم ، فإنه لما أخبروه [ ص: 325 ] بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في البكر الزاني أقره على ذلك ، ولم ينكره ، فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم .
وأما استدلالهم بأن عمر قال في الكلالة : إني لأستحيي من الله أن أخالف أبا بكر ، وأن ذلك تقليد منه له . فلا حجة لهم فيه أيضا .
وخلاف عمر لأبي بكر رضي الله عنهما أشهر من أن يذكر .
كما خالفه في سبي أهل الردة فسباهم أبو بكر ، وخالفه عمر .
وبلغ خلافه إلى أن ردهن حرائر إلى أهلهن إلا لمن ولدت لسيدها منهن ، ونقض حكمه ، ومن جملتهن خولة الحنفية أم محمد بن علي .
وخالفه في أرض العنوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر .
وخالفه في المفاضلة في العطاء ، فرأى أبو بكر التسوية ، ورأى عمر المفاضلة .
وخالفه في الاستخلاف ، فاستخلف أبو بكر عمر على المسلمين ، ولم يستخلف عليهم عمر أحدا إيثارا لفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فعل أبي بكر رضي الله عنهم .
وخالفه في الجد والإخوة ، مع أن خلاف أبي بكر الذي استحيا منه عمر هو خلافه في قوله : إن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله منه بريء - هو ما دون الولد والوالد فاستحيا عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه ، وأنه ليس كلامه كله صوابا مأمونا عليه الخطأ .
ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقر عند موته أنه لم يقض في الكلالة بشيء ، وقد اعترف أنه لم يفهمها ، قاله في إعلام الموقعين .
ومن العجب استدلال المقلدين على تقليدهم ، باستحياء عمر من مخالفة أبي بكر ، مع أنهم لم يستحيوا من مخالفة أبي بكر وعمر ، وجميع الصحابة ، ومخالفة الكتاب والسنة إذا كان ذلك لا يوافق مذهب إمامهم ، كما هو معلوم من عادتهم .
وكما أوضحه الصاوي في الكلام الذي قدمنا على قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .
[ ص: 326 ] فقد قدمنا هناك أنه قال : إن من خرج عن المذاهب الأربعة فهو ضال مضل ، ولو وافق الصحابة ، والحديث الصحيح والآية ، وربما أداه ذلك إلى الكفر ; لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر .
فمن هذا مذهبه ودينه كيف يستدل باستحياء عمر من مخالفة أبي بكر ؟
بل كيف يستدل بنص من نصوص الوحي ، أو قول أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟
مع أن أبا بكر خليفة راشد أمر النبي بالاقتداء به في قوله : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " الحديث ، فليس الاقتداء بالخلفاء كالاقتداء بغيرهم .
وأما استدلالهم على تقليدهم بقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما : رأينا لرأيك تبع ، فيكفي في رده ما قدمنا قريبا ، من مخالفة عمر لأبي بكر ، مع القصة التي قال له فيها : رأينا لرأيك تبع ، رد فيها على أبي بكر بعض ما قاله .
وأيد الصحابة ما قال عمر في رده على أبي بكر رضي الله عنهما .
لأن الحديث المذكور في وفد بزاخة من أسد وغطفان حين قدموا على أبي بكر يسألونه الصلح ، فخيرهم أبو بكر بين الحرب المجلية والسلم المخزية .
فقالوا : هذه المجلية قد عرفناها ، فما المخزية ؟
قال : تنزع منكم الحلقة والكراع ، ونغنم ما أصبنا لكم وتردون لنا ما أصبتم منا ؟ وتدون لنا قتلانا إلى آخر كلامه .
وفيه : فقام عمر بن الخطاب فقال : قد رأيت رأيا سنشير عليك ، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت ، وما ذكرت من أن نغنم ما أصبنا منكم ، وتردون ما أصبتم منا ، فنعم ما ذكرت ، وأما ما ذكرت من أن تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار ، فإن قتلانا قد قاتلت فقتلت على ما أمر الله ، أجورها على الله ، ليس لها ديات .
فتتابع القوم على ما قال عمر رضي الله عنه .
فهذه القصة الثابتة : هي التي في بعض ألفاظها : ورأينا لرأيك تبع .
[ ص: 327 ] وأنت ترى عمر رضي الله عنه لم يقلد فيها أبا بكر رضي الله عنه ، إلا فيما يعتقد صوابه .
فإن ما ظهر له أنه صواب قال له فيه : نعم ما ذكرت .
وما ظهر له أنه ليس بصواب رده على أبي بكر ، وهو قول أبي بكر بدفع ديات الشهداء ; لأن عمر يعتقد أن الشهيد في سبيل الله لا دية له ; لأن الله يقول : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ 9 \ 111 ] .
وذلك يوضح لك أن الصحابة رضي الله عنهم لا يعدلون عن الكتاب والسنة إلى قول أحد .
وأما احتجاجهم بتقليد ابن مسعود لعمر فهو ظاهر السقوط ، ولو وافق عمر في بعض المسائل فهو من قبيل موافقة بعض العلماء لبعض ، لاتفاق رأيهم لا لتقليد بعضهم لبعض .
وقد خالف ابن مسعود عمر رضي الله عنهما في مسائل كثيرة جدا ، كمخالفته له في أم الولد ; لأن ابن مسعود يقول فيها : إنها تعتق من نصيب ولدها ، ومن ذلك أن ابن مسعود كان يطبق في ركوعه إلى أن مات ، وعمر كان يضع يديه على ركبتيه .
وكان ابن مسعود يقول في الحرام : هي يمين ، وعمر يقول : إنه طلقة واحدة .
وكان ابن مسعود يحرم النكاح بين الزانيين وعمر يتوبهما ، وينكح أحدهما الآخر .
وكان ابن مسعود يرى بيع الأمة طلاقها ، وعمر يرى عدم ذلك ، وأمثال هذا كثيرة معلومة .
مع أن ابن مسعود يقول : إنه أعلم الصحابة بكتاب الله وأنه لو كان أحد أعلم منه به لرحل إليه ، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة .
وقد قدمنا عنه قوله : كن عالما أو متعلما ، ولا تكن إمعة .
فليس ابن مسعود من أهل التقليد ، مع أن المقلدين المحتجين بتقليد ابن مسعود [ ص: 328 ] لعمر ، لا يقلدون ابن مسعود ، ولا عمر ولا غيرهما من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
ولا يأخذون بقول الله ولا رسوله وإنما يفضلون على ذلك كله تقليد أحد الأئمة أصحاب المذاهب رحمهم الله .
وأما استدلالهم على التقليد بأن عبد الله كان يدع قوله لقول عمر .
وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي .
وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنه من المعلوم أن الصحابة المذكورين رضي الله عنهم لا يدعون سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد ، وهذا لا شك فيه .
وكان ابن عمر يدع قول عمر ، إذا ظهرت له السنة .
وكان ابن عباس يقول : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقولون : قال أبو بكر وعمر .
وأما استدلالهم على التقليد بأن معاذا رضي الله عنه صلى مسبوقا فصلى ما أدرك مع الإمام أولا ، ثم قضى ما فاته بعد سلام الإمام ، وكانوا قبل ذلك يصلون ما فاتهم أولا ، ثم يدخلون مع الإمام في الباقي .
وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في ذلك : " إن معاذا قد سن لكم سنة ، فكذلك فافعلوا " ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن ذلك لم يكن سنة إلا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما لا يخفى .
فلا حجة قطعا في قول أحد كائنا من كان ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود .
وإنما العبرة بقوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقريره ، وهذا معلوم بالضرورة من الدين .
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] .
قائلين إن المراد بأولي الأمر العلماء ، وأن طاعتهم المأمور بها في الآية هي تقليدهم ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنه لا يجوز طاعة أولي الأمر إجماعا فيما خالف كتابا أو سنة ، ولا طاعة لهم إلا في المعروف كما جاءت به الأحاديث الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 329 ] ولا نزاع بين المسلمين في أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
والتحقيق في معنى الآية الكريمة أن المراد بأولي الأمر : ما يشمل الأمراء والعلماء ; لأن العلماء مبلغون عن الله وعن رسوله ، والأمراء منفذون ، ولا تجوز طاعة أحد منهم إلا فيما أذن الله فيه ; لأن ما أمر به أولو الأمر لا يخلو من أحد أمرين :
أحدهما : أن يكون طاعة لله ولرسوله من غير نزاع ، وطاعة أولي الأمر في مثل هذا من طاعة الله ورسوله .
والثاني : أن يحصل فيه نزاع ، هل هو من طاعة الله ورسوله أو لا ؟
وفي هذه الحالة لا تجوز الطاعة العمياء لأولي الأمر ولا التقليد الأعمى كما صرح الله تعالى بذلك في نفس الآية .
لأنه تعالى لما قال : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] ، أتبع ذلك بقوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، فالآية صريحة في رد كل نزاع إلى الله ورسوله .
والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إليه في حياته ، والرد إلى سنته بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم .
وقد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 - 30 ] بعض الأحاديث الصحيحة الدالة على أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، كحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " .
وحديث علي رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في السرية الذين أمرهم أميرهم أن يدخلوا في النار : " لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا ، إنما الطاعة في المعروف " .
وفي الكتاب العزيز : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] .
ولا يخفى أن طاعة الله وطاعة رسوله المأمور بها في الآية لا يتحقق وجودها إلا بمعرفة أمر الله ورسوله ونهي الله ورسوله .
[ ص: 330 ] والمقلدون مقرون على أنفسهم بأنهم لا يعلمون أمر الله ولا نهيه ، ولا أمر رسوله ولا نهيه .
وغاية ما يدعون علمه هو أن الإمام الذي قلدوه قال كذا ، مع عجزهم عن التمييز بين ما هو خطأ وما هو صواب ، بل أكثرهم لا يميزون بين قول الإمام وبين ما ألحقه أتباعه بعده مما قاسوه على أصول مذهبه .
ولا شك أن طاعة العلماء هي اقتفاء ما كانوا عليه من النظر في كتاب الله وسنة رسوله وتقديمها على كل قول وعلى كل رأي كائنا ما كان .
فمن قلدهم التقليد الأعمى وترك الكتاب والسنة لأقوالهم ، فهو المخالف لهم المتباعد عن طاعتهم كما تقدم ، وكما سيأتي إن شاء الله .
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه [ 9 \ 100 ] ، قائلين : إن تقليدهم من جملة اتباعهم بإحسان ، فمقلدهم ممن رضي الله عنه بنص الآية فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الذين اتبعوهم بإحسان هم الذين ساروا على مثل ما كانوا عليه من العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، فلم يكن أحد منهم يقلد رجلا ويترك الكتاب والسنة لقوله .
فالمقلدون التقليد الأعمى ليسوا ممن اتبعوهم البتة ، بل هم أعظم الناس مخالفة لهم ، وأبعدهم عن اتباعهم ، فأتبع الناس لمالك مثلا ابن وهب ونظراؤه ، ممن يعرضون أقواله على الكتاب والسنة فيأخذون منها ما وافقهما دون غيره .
وأتبع الناس لأبي حنيفة أبو يوسف ومحمد مع كثرة مخالفتهما له ، لأجل الدليل من كتاب أو سنة .
وأتبع أصحاب أحمد بن حنبل له البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم ، لتقديمهم الدليل على قوله وقول غيره ، وهكذا .
وأما استدلالهم على تقليدهم ، بحديث : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فهو ظاهر السقوط أيضا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:43 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (503)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 331 إلى صـ 338
[ ص: 331 ] اعلم أولا أن الحديث لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به ، فجميع طرقه ليس فيها شيء قائم ، قال في إعلام الموقعين :
روي هذا الحديث من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر ، ومن حديث سعيد بن المسيب عن ابن عمر .
ومن طريق حمزة الجري ، عن نافع عن ابن عمر ، ولا يثبت شيء منها .
قال ابن عبد البر : حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد ; أن أبا عبد الله بن مضرح حدثهم : ثنا محمد بن أيوب الصموت قال : قال لنا البزار : وأما ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فهذا الكلام لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم . انتهى منه .
وضعف الحديث المذكور معروف عن أهل العلم .
مع أن المقلدين المحتجين به يمنعون تقليد الصحابة ، ويحرمون الاهتداء بتلك النجوم .
وهو تناقض عجيب لأنهم تركوا نفس ما دل عليه الحديث واستدلوا بالحديث على ما لم يتعرض له الحديث ، وهو تقديمهم تقليد أئمتهم على تقليد الصحابة .
مع أن قياسهم على الصحابة لا يصح لعظم الفارق ، وبما ذكرنا تعلم سقوط استدلالهم بما ذكروا عن ابن مسعود من قوله : " من كان مستنا منكم فليستن بمن قد مات أولئك أصحاب محمد " .
والله - جل وعلا - يقول : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [ 2 \ 44 ] .
وأما استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .
وقوله - صلى الله عليه وسلم : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " فهو حجة عليهم لا لهم ; لأن سنة الخلفاء الراشدين التي حث عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقرونة بسنته ليس فيها البتة تقليد أعمى ، ولا التزام قول رجل بعينه .
[ ص: 332 ] بل سنتهم هي اتباع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتقديمهما على كل شيء ; لأنهم هم أتبع الناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشدهم حرصا على العمل بما جاء به .
فالذي يقدم آراء الرجال على كتاب الله وسنة رسوله ويستدل على ذلك بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث ، هو كما ترى .
وأقوال الخلفاء رضي الله عنهم وأفعالهم كلها معروفة مدونة إلى الآن ليس فيها تقليد أعمى ، ولا جمود على قول رجل واحد .
وإنما هي عمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم ، ومشاورة لأصحابه فيما نزل من النوازل واستنباط ما لم يكن منصوصا من نصوص الكتاب والسنة على أحسن الوجوه وأتقنها ، وأقربها لرضا الله والاحتياط في طاعته .
وكانوا إذا بلغهم شيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجعوا إليه ولو كان مخالفا لرأيهم .
فقد رجع أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى قول المغيرة بن شعبة ، ومحمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض للجدة السدس .
وكان أبو بكر يرى أنها لا ميراث لها ، وقد قال لها لما جاءته : " لا أرى لك شيئا في كتاب الله ، ولا أعلم لك شيئا في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم " .
وقد رجع عمر إلى قول المذكورين في دية الجنين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل فيها غرة عبد أو وليدة .
ورجع عمر أيضا إلى حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر .
ورجع عمر أيضا إلى قول الضحاك بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .
ورجع عثمان بن عفان إلى حديث فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها بالسكنى في البيت الذي توفي عنها زوجها وهي فيه حتى تنقضي عدتها .
وكان عثمان بعد ذلك يفتي بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى تنقضي عدتها .
[ ص: 333 ] وأمثال هذا أكثر من أن تحصى ، وفي ذلك بيان واضح ، لأن سنة الخلفاء الراشدين هي المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وتقديم سنته على كل شيء ، فعلينا جميعا أن نعمل بمثل ما كانوا يعملون لنكون متبعين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنتهم .
أما المقلد المعرض عن سنتهم ، وعن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفضلا على ذلك تقليد أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد رحمهم الله ، فما كان يحق له أن يستدل بحديث : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث لأنه مقر بمقتضى تقليده بأنه أبعد الناس عن العمل بحديث " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث .
وأما استدلالهم بأن عمر كتب إلى شريح : أن اقض بما في كتاب الله فإن لم يكن في كتاب الله فبما في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يكن في سنة رسول الله فبما قضى به الصالحون فهو حجة عليهم أيضا لا لهم ; لأن فيه تقديم كتاب الله ، ثم سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم العمل بما قضى به الصالحون ، وخيرهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
ولو كان المقلدون يمتثلون هذا ، لما أنكر عليهم أهل العلم ، ولكن المقلدين المحتجين بهذا يمنعون العمل بكتاب الله وسنة رسوله ، والعمل بفتاوى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
ويوجبون الجمود على قول الإمام الذي قلدوه والتزموا بمذهبه .
ومن كانت هذه حاله ، فلا يحق له أن يستدل بشيء من هذه الأدلة .
وأما استدلالهم بأن عمر رضي الله عنه منع بيع أمهات الأولاد فتبعه الصحابة .
وألزم الطلاق الثلاث بكلمة واحدة وتبعه الصحابة ، فهو ظاهر السقوط أيضا .
وقد قدمنا أن متابعة بعض الصحابة لبعض إنما هي لاتفاقهم فيما رأوه ، لا لأن بعضهم مقلد بعضا تقليدا أعمى .
وقد قدمنا إيضاح ذلك بما يكفي .
مع أن المقلدين المحتجين بهذا يمنعون تقليد عمر ، وسائر الصحابة ، فمن عجائبهم أنهم يستدلون بما يعتقدون أن العمل به ممنوع .
[ ص: 334 ] وأما استدلالهم بأن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم : خذ ثوبا غير ثوبك ، فقال : لو فعلت صارت سنة . فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن عمر بن الخطاب خاف أن يفعل شيئا فيعتقد من لا علم عنده أنه إنما فعله لكونه سنة ، فامتنع من فعله لأجل هذا المحذور .
مع أن المقلد يرى منع تقليد عمر رضي الله عنه .
وأما استدلالهم بما ذكروه عن أبي وغيره أنه قال : ما استبان لك فاعمل به ، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه ، فهو حجة عليهم أيضا لا لهم .
لأن قوله : ما استبان لك فاعمل به ، صريح في أن ما استبان من كتاب الله وسنة رسوله ، يجب العمل به ولا يجوز العدول عنه لقول أحد .
وهذا نقيض ما عليه المقلدون ، فهم دائما يستدلون على مذهبهم بما يناقضه .
والأظهر أن مراد أبي بن كعب بقوله : فكله إلى عالمه ، أي فكل علمه إلى الله .
فمراده بما اشتبه المتشابه ، ومراده بعالمه : الله .
فهو يشير إلى قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .
فالذين قالوا " آمنا به كل من عند ربنا " فقد وكلوا ما اشتبه عليهم إلى عالمه وهو الله .
ويحتمل أن يكون مراد أبي بقوله : فكله إلى عالمه أي فكله إلى من هو أعلم به منك من العلماء ، وهذا هو الذي فهمه ابن القيم في إعلام الموقعين من كلام أبي .
وعلى هذا الاحتمال فلا حجة فيه أيضا للمقلدين ; لأن من خفي عليه شيء من العلم فوكله إلى من هو أعلم به منه ، فقد أصاب .
ولا يلزم من ذلك الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله بل هو عمل بالقرآن لقوله تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم [ 17 \ 36 ] .
[ ص: 335 ] وأما استدلالهم على تقليدهم بأن الصحابة كانوا يفتون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - موجود بين أظهرهم ، وأن ذلك تقليد لهم فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأنهم ما كانوا يفتونهم في حالة وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم إلا بما علمهم من الكتاب والسنة كما لا يخفى .
ومن أفتى منهم وغلط في فتواه أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتواه التي ليست مطابقة للحق ، وردها عليه كإنكاره على أبي السنابل بن بعكك قوله لسبيعة الأسلمية لما مات زوجها ووضعت حملها بعد ذلك بأيام : " إنها لا تنقضي عدتها إلا بعد أربعة أشهر وعشر ليال " .
وقد استدل أبو السنابل على ما أفتى به بعموم قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا [ 2 \ 234 ] .
وقد رد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فتواه مبينا أن عموم قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا [ 2 \ 234 ] مخصص بقوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 \ 4 ] .
وكإنكاره - صلى الله عليه وسلم - على الذين أفتوا صاحب الشجة بأنهم لم يجدوا له رخصة وهو يقدر على الماء .
وقد قدمنا قصته ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيهم : " قتلوه قتلهم الله " الحديث .
والظاهر أنهم استندوا في فتواهم لما فهموه من قوله تعالى : فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا [ 4 \ 43 ] ، وغفلوا عن قوله : وإن كنتم مرضى [ 4 \ 43 ] ، وأمثال هذا كثيرة .
وأما استدلالهم على التقليد بقوله تعالى : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [ 9 \ 122 ] ، قائلين إن الآية أوجبت قبول إنذارهم ، وأن ذلك تقليد لهم ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الإنذار في قوله : ولينذروا قومهم لا يكون برأي .
وإنما يكون بالوحي خاصة ، وقد حصر تعالى الإنذار في الوحي بأداة الحصر التي هي " إنما " في قوله : قل إنما أنذركم بالوحي [ 21 \ 45 ] .
وبه تعلم أن الإنذار لا يقوم إلا بالحجة فمن لم تقم عليه الحجة ، لم يكن قد أنذر ، كما [ ص: 336 ] أن النذير من أقام الحجة ، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير .
فما لا شك فيه أن هذا الإنذار المذكور في قوله : ولينذروا ، والتحذير من مخالفته في قوله : لعلهم يحذرون ليس برأي ولا اجتهاد .
وإنما هو إنذار بالوحي ممن تفقه في الدين ، وصار ينذر بما علمه من الدين ، كما يدل عليه قوله تعالى قبله ليتفقهوا في الدين [ 9 \ 122 ] ، فهو يدل على أن قوله : ولينذروا قومهم أي بما تفقهوا فيه من الدين .
وليس التفقه في الدين إلا علم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
فتبين أن الآية لا دليل فيها البتة لطائفة التقليد ، الذين يوجبون تقليد إمام بعينه ، من غير أن يرد من أقواله شيء ، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء .
ونجعل أقواله عيارا لكتاب الله وسنة رسوله فما وافق أقواله منهما قبل وما لم يوافقها منهما رد .
وهذا النوع من التقليد لا شك في بطلانه ، وعدم جوازه .
فالآية الكريمة بعيدة كل البعد من الدلالة عليه ، مع أن استدلال المقلدين بها على تقليدهم استدلال بشيء يعتقدون أن الاستدلال به ممنوع باتا ، لأنه استدلال بقرآن .
وأما قبول إنذارهم فهو من الاتباع لا من التقليد ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
وأما استدلالهم بأن ابن الزبير ، قال ما يدل على تقليده لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في أن الجد يحجب الإخوة ، فهو ظاهر السقوط أيضا .
وقد قدمنا مرارا في رد استدلالهم بتقليد الصحابة بعضهم بعضا ما يكفي ، فأغنى عن إعادته هنا .
وأما استدلالهم بقبول شهادة الشاهد في الحقوق . قائلين : إن قبول شهادته فيما شهد به تقليد له ، فهو ظاهر السقوط لظهور الفرق بينه وبين ما استدلوا عليه به . من تقليد رجل واحد بعينه ، بحيث لا يترك من أقواله شيء ولا يؤخذ مما خالفها شيء ، ولو كان كتابا أو سنة .
[ ص: 337 ] وذلك من وجهين :
أحدهما : أن العمل بشهادة الشاهد أخذ بكتاب الله وسنة رسوله ، لأن الله يقول : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] ، ويقول : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - القضاء بالشاهد واليمين في الأموال ، وفي الحديث : " شاهداك أو يمينه " وهو حديث صحيح .
فالأخذ بشهادة الشاهد إذا من العمل بكتاب الله وسنة رسوله لا من التقليد لرجل واحد بعينه تقليدا أعمى .
الوجه الثاني : أن الشاهد إنما يخبر عما أدركه بإحدى حواسه ، والمدرك بالحاسة يحصل به القطع لمن أدركه بخلاف الرأي ، فإن صاحبه لا يقطع بصحة ما ظهر له من الرأي .
ولذا أجمع العلماء على الفرق بين خبر التواتر المستند إلى حس ، وبين خبر التواتر المستند إلى عقل .
فأجمعوا على أن الأول يوجب العلم المفيد للقطع لاستناده إلى الحس .
وأن الثاني لا يوجبه ، ولو كان خبر التواتر يفيد العلم في المعقولات لكان قدم العالم مقطوعا به ; لأنه تواتر عليه من الفلاسفة خلق لا يحصيهم إلا الله .
مع أن حدوث العالم أمر قطعي لا شك فيه ، فالذين تواتروا من الفلاسفة على قدم العالم الذي هو من المعقولات لا من المحسوسات لو تواتر عشرهم على أمر محسوس لأفاد العلم اليقيني فيه .
فالشاهد إن أخبر عن محسوس ، وكان عدلا ، فهو عدل مخبر عما قطع به قطعا لا يتطرق إليه الشك ، بخلاف المجتهد ، فإنه عدل أخبر عما ظنه ، فوضوح الفرق بين الأمرين كما ترى .
[ ص: 338 ] وأما استدلالهم على تقليدهم بقبول قول القائف والخارص والمقوم والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد .
وتقليد الأعمى في القبلة .
وتقليد المؤذنين في الوقب والمترجمين والمعرفين ، والمعدلين ، والمجرحين .
وتقليده المرأة في طهرها ، فهو كله ظاهر السقوط أيضا .
لأن جميع ذلك لا يقبل منه إلا ما قام عليه دليل من كتاب أو سنة ، فالعمل به من العمل بالدليل الشرعي لا من التقليد الأعمى .
وذلك كله من قبيل الشهادة ، والإخبار بما عرفه القائف والخارص إلى آخره ، لا من قبيل الفتوى في الدين .
وقد استدل العلماء على قبول قول القائف بسرور النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول مجزز بن الأعور المدلجي في أسامة وزيد : " هذه الأقدام بعضها من بعض " .
فلو كان قول القائف لا يقبل ؛ لما أقره النبي - صلى الله عليه وسلم ، ولما برقت أسارير وجهه سرورا به .
فقبوله لذلك ، فهو اتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وقد قدمنا الأحاديث النبوية الدالة على قبول قول الخارص ، وبينا أن بعضها ثابت في الصحيح ، ورد قول من منع ذلك في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ 6 \ 141 ] ، فهذا مثال ما ثبت بالسنة من قبول قول المذكورين .
ومثال ما دل عليه القرآن من ذلك قبول قول الحكمين في المثل في جزاء الصيد ; لأن الله نص عليه في قوله تعالى : فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] .
وهكذا كل من ذكروا ، فإن قبول قولهم إنما صح بدليل شرعي يدل على قبوله من كتاب أو سنة أو إجماع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:48 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (504)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 339 إلى صـ 346
[ ص: 339 ] مع أن الإخبار عن جميع ما ذكر إخبار عن محسوس ، والتقليد الذي استدلوا به عليه إخبار عن معقول مظنون .
والفرق بين الأمرين قدمناه قريبا ، فليس شيء من ذلك تقليدا أعمى بدون حجة .
وأما استدلالهم على التقليد المذكور بجواز شراء اللحوم والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها اكتفاء بتقليد أربابها ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; لأن الاكتفاء بقول الذابح والبائع ليس بتقليد أعمى في حكم ديني لهما .
وإنما هو عمل بالأدلة الشرعية ; لأنها دلت على أن ما في أسواق المسلمين من اللحوم والسلع محمول على الجواز والصحة ، حتى يظهر ما يخالف ذلك .
ومما يدل على ذلك ، ما صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " إن قوما قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوا ، قال : وكانوا حديثي عهد بالكفر " .
قال المجد في المنتقى بعد أن ساق الحديث : رواه البخاري والنسائي وابن ماجه ، وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد . انتهى منه .
وقد أجمع العلماء على هذا ، فالعمل به عمل بالدليل الشرعي ; لأن الله لو كلف الناس ألا يشتري أحد منهم شيئا حتى يعلم حليته فوقعوا في حرج عظيم تتعطل به المعيشة ويختل به نظامها .
فأجاز الله تعالى ذلك برفع الحرج كما قال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، فالاستدلال به على التقليد الأعمى فاسد ، لأنه أخذ بالحجة والدليل ، وليس من التقليد .
وأما استدلالهم على التقليد بأن الله لو كلف الناس كلهم الاجتهاد ، وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد ، وتعطلت الصنائع والمتاجر ، وهذا مما لا سبيل إليه شرعا وقدرا ، فهو ظاهر السقوط أيضا .
ومن أوضح الأدلة على سقوطه أن القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير ، لم يكن فيهم تقليد رجل واحد بعينه هذا التقليد الأعمى .
[ ص: 340 ] ولم تتعطل متاجرهم ، ولا صنائعهم ، ولم يرتكبوا ما يمنعه الشرع ولا القدر ، بل كانوا كلهم لا يقدمون شيئا على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
وكان فيهم علماء مجتهدون يعلمون بالكتاب والسنة ويفتون بهما ، وكان فيهم قوم دون رتبتهم في العلم ، يتعلمون من كتاب الله وسنة رسوله ما يحتاجون للعمل به في أنفسهم ، وهم متبعون لا مقلدون .
وفيهم طائفة أخرى ، هي العوام لا قدرة لها على التعلم ، وكانوا يستفتون فيما نزل من النوازل من شاءوا من العلماء ، وتارة يسألونه عن الدليل فيما أفتاهم به .
وتارة يكتفون بفتواه ولا يسألون ، ولم يتقيدوا بنفس ذلك العالم الذي يستفتونه ، فإذا نزلت بهم نازلة أخرى ، سألوا عنها غيره من العلماء إن شاءوا ، ولا إشكال في هذا الذي مضت عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم ، ولا يلزمه تعطيل صنائع ولا متاجر ، ولا يمنعه شرع ولا قدر .
فكيف يستدل منصف للتقليد الأعمى ، بأن الناس لو لم ترتكبه لوقعوا في المحذور المذكور .
وعلى كل حال فكل عاقل لم يعمه التعصب ، يعلم أن تقليد إمام واحد بعينه ، بحيث لا يترك من أقواله شيء ، ولا يؤخذ من أقوال غيره شيء ، وجعل أقواله عيارا لكتاب الله ، وسنة رسوله ، فما وافق أقواله منهما جاز العمل به ، وما خالفها منهما وجب اطراحه ، وترك العمل به - لا وجه له البتة .
وهو مخالف لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وإجماع الأئمة الأربعة ، فالواجب على المسلمين تعلم كتاب الله وسنة رسوله ، والعمل بما علموا منهما .
والواجب على العوام الذين لا قدرة لهم على التعلم سؤال أهل العلم ، والعمل بما أفتوهم به .
وسيأتي لهذا زيادة إيضاح وإقناع للمنصف في التنبيهات الآتية إن شاء الله تعالى .
وقد بينا هنا بطلان جميع الحجج التي يحتج بها المقلدون التقليد المذكور ، وما لم [ ص: 341 ] نذكر من حججهم ، قد أوضحنا رده وإبطاله فيما ذكرنا .
تنبيهات مهمة تتعلق بهذه الآية الكريمة : التنبيه الأول : اعلم أن المقلدين اغتروا بقضيتين ظنوهما صادقتين ، وهما بعيدتان من الصدق . وظن صدقهما يدخل أوليا في عموم قوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 10 \ 36 ] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " .
أما الأولى منهما فهي ظنهم أن الإمام الذي قلدوه لا بد أن يكون قد اطلع على جميع معاني كتاب الله ، ولم يفته منها شيء ، وعلى جميع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفته منها شيء
ولذلك فإن كل آية وكل حديث قد خالفا قوله فلا شك عندهم أن ذلك الإمام اطلع على تلك الآية وعلم معناها ، وعلى ذلك الحديث وعلم معناه ، وأنه ما ترك العمل بهما إلا لأنه اطلع على ما هو أقوى منهما وأرجح .
ولذلك يجب تقديم ذلك الأرجح الذي تخيلوه شيء من الوحي الموجود بين أيديهم .
وهذا الظن كذب باطل بلا شك .
والأئمة كلهم معترفون بأنهم ما أحاطوا بجميع نصوص الوحي ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله .
ومن أصرح ذلك أن الإمام مالكا رحمه الله ، إمام دار الهجرة المجمع على علمه وفضله وجلالته ، لما أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما جمعه في موطئه لم يقبل ذلك من أبي جعفر ورده عليه .
وأخبره أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقوا في أقطار الدنيا ، كلهم عنده علم ليس عند الآخر .
ولم يجمع الحديث جمعا تاما بحيث أمكن جمع جميع السنة إلا بعد الأئمة الأربعة ; لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين تفرقوا في أقطار الدنيا روي عنهم كثير من [ ص: 342 ] الأحاديث لم يكن عند غيرهم ، ولم يتيسر الاطلاع عليه إلا بعد أزمان ، وكثرة علم العالم لا تستلزم اطلاعه على جميع النصوص .
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو عجز عن أن يفهم معنى الكلالة حتى مات رضي الله عنه ، وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها كثيرا فبينها له ولم يفهم .
فقد ثبت عنه رضي الله عنه أنه قال : ما سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال لي : " يكفيك آية الصيف في آخر سورة النساء " ، فهذا من أوضح البيان ; لأن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بآية الصيف يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ 4 \ 176 ] ، والآية تبين معنى الكلالة بيانا شافيا ، لأنها أوضحت أنها : ما دون الولد والوالد .
فبينت نفي الولد بدلالة المطابقة في قوله تعالى : إن امرؤ هلك ليس له ولد [ 4 \ 176 ] ، وبينت نفي الوالد بدلالة الالتزام في قوله تعالى : وله أخت فلها نصف ما ترك [ 4 \ 176 ] ; لأن ميراث الأخت يستلزم نفي الولد .
ومع هذا البيان النبوي الواضح لهذه الآية الكريمة ، فإن عمر رضي الله عنه لم يفهم ، وقد صح عنه أن الكلالة لم تزل مشكلة عليه .
وقد خفي معنى هذا أيضا على أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال في الكلالة : أقول فيها برأيي . فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، هو ما دون الولد والوالد .
فوافق رأيه معنى الآية ، والظاهر أنه لو كان فاهما للآية لكفته عن الرأي ; كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه : " تكفيك آية الصيف " ، وهو تصريح منه - صلى الله عليه وسلم - بأن في الآية كفاية عن كل ما سواها في الحكم المسئول عنه .
ومما يوضح ذلك أن عمر طلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - بيان الآية ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز في حقه - صلى الله عليه وسلم ، فما أحال عمر على الآية إلا لأن فيها من البيان ما يشفي ويكفي .
وقد خفي على أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم : " أعطى الجدة السدس [ ص: 343 ] حتى أخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السدس " فرجع إلى قولهما .
ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم : قضى في دية الجنين بغرة عبد أو وليدة حتى أخبره المذكوران قبل .
ولم يعلم عمر رضي الله عنه بأن المرأة ترث من دية زوجها . حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه : أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها .
ولم يعلم أيضا بأخذ الجزية من المجوسي حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الجزية من مجوس هجر .
ولم يعلم بحكم الاستئذان ثلاثا حتى أخبره أبو موسى الأشعري وأبو سعيد الخدري رضي الله عنه .
ولم يعلم عثمان رضي الله عنه بوجوب السكنى للمتوفى عنها حتى أخبرته فريعة بنت مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم ألزمها بالسكنى في المحل الذي مات عنها زوجها فيه حتى تنقضي عدتها .
وأمثال هذا أكثر من أن تحصر ، فهؤلاء الخلفاء الراشدون وهم هم ، خفي عليهم كثير من قضايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه مع ملازمتهم له ، وشدة حرصهم على الأخذ منه ، فتعلموه ممن هو دونهم في الفضل والعلم .
فما ظنك بغيرهم من الأئمة الذين نشأوا وتعلموا بعد تفرق الصحابة في أقطار الدنيا ؟
وروى عنه الأحاديث عدول من الأقطار التي ذهبوا إليها ؟
والحاصل أن ظن إحاطة الإمام بجميع نصوص الشرع ومعانيها ظن لا يغني من الحق شيئا ، وليس بصحيح قطعا ; لأنه لا شك أنه يفوته بعض الأحاديث فلم يطلع عليها ويرويه بعض العدول عن الصحابة فيثبت عند غيره .
وهو معذور في ترك العمل به ، بعدم اطلاعه عليه مع أنه بذل المجهود في البحث ; ولذا كان له أجر الاجتهاد والعذر في الخطأ .
[ ص: 344 ] وقد يكون الإمام اطلع على الحديث ، ولكن السند الذي بلغه به ضعيف فيتركه لضعف السند .
ويكون غيره اطلع على رواية أخرى صحيحة يثبت بها الحديث فهو معذور في تركه ، لأنه لم يطلع إلا على السند الضعيف ، ولم تبلغه الطريق الصحيحة الأخرى .
وقد يترك الحديث لشيء يظنه أرجح منه ، ويكون الواقع أن الحديث أرجح من ذلك الشيء الذي ظنه لقيام أدلة أخرى على ذلك لم يطلع عليها إلى أسباب أخر كثيرة ، كترك الأئمة للعمل ببعض النصوص .
وبهذا كله تعلم أن ظن اطلاع الإمام على كل شيء من أحكام الشرع وإصابته في معانيها كلها - ظن باطل ، وكل واحد من الأئمة يصرح ببطلان هذا الظن كما سترى إيضاحه إن شاء الله .
فاللازم هو ما قاله الأئمة أنفسهم رحمهم الله من أنهم قد يخطئون ، ونهوا عن اتباعهم في كل شيء يخالف نصا من كتاب أو سنة .
فالمتبع لهم حقيقة ، هو من لا يقدم على كتاب الله وسنة رسوله شيئا .
أما الذي يقدم أقوال الرجال على الكتاب وصحيح السنة ، فهو مخالف لهم لا متبع لهم ، ودعواه اتباعهم كذب محض .
وأما القضية الثانية : فهي ظن المقلدين أن لهم مثل ما للإمام من العذر في الخطأ .
وإيضاحه : أنهم يظنون أن الإمام لو أخطأ في بعض الأحكام وقلدوه في ذلك الخطأ يكون لهم من العذر في الخطأ والأجر مثل ما لذلك الإمام الذي قلدوه ; لأنهم متبعون له فيجري عليهم ما جرى عليه .
وهذا ظن كاذب باطل بلا شك . لأن الإمام الذي قلدوه بذل جهده في تعلم كتاب الله وسنة رسوله وأقوال أصحابه وفتاواهم .
فقد شمر وما قصر فيما يلزم من تعلم الوحي والعمل به وطاعة الله على ضوء الوحي المنزل ، ومن كان هذا شأنه فهو جدير بالعذر في خطئه والأجر في اجتهاده .
وأما مقلدوه فقد تركوا النظر في كتاب الله وسنة رسوله ، وأعرضوا عن تعلمهما [ ص: 345 ] إعراضا كليا مع يسره وسهولته ونزلوا أقوال الرجال الذين يخطئون ويصيبون منزلة الوحي المنزل من الله .
فأين هؤلاء من الأئمة الذين قلدوهم ؟
وهذا الفرق العظيم بينهم وبينهم ، يدل دلالة واضحة ، على أنهم ليسوا مأجورين في الخطأ في تقليد أعمى إذ لا اقتداء ولا أسوة في غير الحق .
وليسوا معذورين لأنهم تركوا ما يلزمهم تعلمه من أمر الله ونهيه على ضوء وحيه المنزل .
والذي يجب عليهم من تعلم ذلك هو ما تدعوهم الحاجة للعمل به ، كأحكام عباداتهم ومعاملاتهم .
وأغلب ذلك تدل عليه نصوص واضحة ، سهلة التناول من الكتاب والسنة .
والحاصل أن المعرض عن كتاب الله ، وسنة رسوله المفرط في تعلم دينه ، مما أنزل الله ، وما سنه رسوله ، المقدم كلام الناس على كتاب الله ، وسنة رسوله ، لا يكون له البتة ما للإمام الذي لم يعرض عن كتاب الله وسنة رسوله ، ولم يقدم عليهما شيئا ولم يفرط في تعلم الأمر والنهي من الكتاب والسنة .
فأين هذا من هذا ؟
سارت مشرقة وسرت مغربا شتان بين مشرق ومغرب
التنبيه الثاني
اعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله ، متفقون على منع تقليدهم التقليد الأعمى الذي يتعصب له من يدعون أنهم أتباعهم .
ولو كانوا أتباعهم حقا لما خالفوهم في تقليدهم الذي منعوا منه ونهوا عنه .
قال الإمام أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن ، قال : حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد القاضي المالكي ، قال : حدثنا موسى بن إسحاق ، قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر ، قال : حدثنا معن بن عيسى ، قال : [ ص: 346 ] سمعت مالك بن أنس يقول : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
فمالك رحمه الله مع علمه وجلالته وفضله يعترف بالخطأ وينهى عن القول بما خالف الوحي من رأيه ، فمن كان مالكيا فليمتثل قول مالك ولا يخالفه بلا مستند .
وقال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه أيضا : أخبرني أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي ، حدثني أبي ، حدثنا محمد بن عمر بن لبابة ، قال : حدثنا مالك بن علي القرشي ، قال : أنبأنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ، قال : دخلت على مالك فوجدته باكيا فسلمت عليه فرد علي ثم سكت عني يبكي ، فقلت له : يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك ؟ فقال لي : يا ابن قعنب ، إنا لله على ما فرط مني ، ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في هذا الأمر بسوط ، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي ، وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سبقت إليه . انتهى محل الغرض منه بلفظه .
ومن المعلوم بالضرورة أن مالكا رحمه الله لا يسره ولا يرضيه تقديم رأيه هذا الذي يسترجع ويبكي ندما عليه ، ويتمنى لو ضرب بالسياط ولم يكن صدر منه ، على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
فليتق الله وليستحي من الله من يقدم مثل هذا الرأي على الكتاب والسنة زاعما أنه متبع مالكا في ذلك .
وهو مخالف فيه لمالك ، ومخالف فيه لله ورسوله ، ولأصحابه ولكل من يعتد به من أهل العلم .
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين : وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة .
فقال الشافعي : مثل الذي يطلب العلم بلا حجة ، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري ، ذكره البيهقي .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-02-23, 12:50 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (505)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 347 إلى صـ 354
وقال إسماعيل بن عيسى المزني في أول مختصره : اختصرت هذا من علم الشافعي ، [ ص: 347 ] ومن معنى قوله ؛ لأقربه على من أراده مع إعلامه نهيه عن تقليده وتقليد غيره ؛ لينظر فيه لدينه ، ويحتاط فيه لنفسه إلى أن قال : وقال أحمد بن حنبل : لا تقلدني ، ولا تقلد مالكا ، ولا الثوري ولا الأوزاعي ، وخذ من حيث أخذوا .
وقال : من قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال .
وقال بشر بن الوليد : قال أبو يوسف : لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا .
وقد صرح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب ، فكيف بمن ترك قول الله ورسوله لقول من هو دون إبراهيم أو مثله . انتهى محل الغرض منه .
ومما لا شك فيه أن الأئمة الأربعة رحمهم الله نهوا عن تقليدهم في كل ما خالف كتابا أو سنة كما نقله عنهم أصحابهم ، كما هو مقرر في كتب الحنفية عن أبي حنيفة .
وكتب الشافعية عن الشافعي القائل : إذا صح الحديث فهو مذهبي .
وكتب المالكية ، والحنابلة عن مالك وأحمد رحمهم الله جميعا .
وكذلك كان غيرهم من أفاضل العلماء يمنعون من تقليدهم فيما لم يوافق الكتاب والسنة وقد يتحفظون منه ولا يرضون .
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : وذكر محمد بن حارث في أخبار سحنون بن سعيد عن سحنون ، قال : كان مالك بن أنس ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، ومحمد بن إبراهيم بن دينار ، وغيرهم يختلفون إلى ابن هرمز ، فكان إذا سأله مالك وعبد العزيز أجابهما .
وإذا سأله محمد بن إبراهيم بن دينار وذووه لم يجبهم فقال له : يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما ، وأسألك أنا وذوي فلا تجيبنا ؟ فقال : أوقع ذلك يا ابن أخي في قلبك ؟ قال : نعم ، فقال له : إني قد كبرت سني ورق عظمي ، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني ، [ ص: 348 ] ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان ، إذا سمعا مني حقا قبلاه ، وإذا سمعا خطأ تركاه ، وأنت وذووك ما أجبتكم به قبلتموه .
قال محمد بن حارث : هذا والله هو الدين الكامل ، والعقل الراجح ، لا كمن يأتي بالهذيان ، ويريد أن ينزل من القلوب منزلة القرآن . انتهى منه .
التنبيه الثالث
اعلم أن المقلدين للأئمة هذا التقليد الأعمى قد دل كتاب الله ، وسنة رسوله ، وإجماع من يعتد به من أهل العلم ، أنه لا يجوز لأحد منهم أن يقول : هذا حلال وهذا حرام ; لأن الحلال ما أحله الله ، على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه أو سنة رسوله ، والحرام ما حرمه الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه ، أو سنة رسوله .
ولا يجوز البتة للمقلد أن يزيد على قوله : هذا الحكم قاله الإمام الذي قلدته أو أفتى به .
أما دلالة القرآن على منع ذلك فقد قال تعالى : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] ، وقال تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون [ 16 \ 116 ] ، وقال تعالى : قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا .
ومعلوم أن العبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب كما بيناه مرارا ، وأوضحنا أدلته من السنة الصحيحة .
ومما يوضح هذا أن المقلد الذي يقول : هذا حلال وهذا حرام من غير علم بأن الله حرمه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقول على الله بغير علم قطعا .
فهو داخل بلا شك في عموم قوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 7 \ 33 ] .
فدخوله في قوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون كما [ ص: 349 ] ترى ، وهو داخل أيضا في عموم قوله تعالى : إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 169 ] .
وأما السنة ، فقد قال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع بن الجراح عن سفيان . ح ، وحدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا يحيى بن آدم ، حدثنا سفيان ، قال : أملاه علينا إملاء .
ح وحدثني عبد الله بن هاشم - واللفظ له - حدثني عبد الرحمن يعني ابن مهدي ، حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : " اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله " الحديث .
وفيه : " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري ، أتصيب حكم الله فيهم أم لا " . هذا لفظ مسلم في صحيحه .
وفيه النهي الصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسبة حكم إلى الله ، حتى يعلم بأن هذا حكم الله الذي شرعه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم ، ولأجل هذا كان أهل العلم لا يتجرءون على القول بالتحريم والتحليل إلا بنص من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : حدثنا عبد الوارث بن سفيان ، قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، قال : حدثنا ابن وضاح ، قال : حدثنا يوسف بن عدي ، قال : حدثنا عبيدة بن حميد عن عطاء بن السائب ، قال : قال الربيع بن خيثم : إياكم أن يقول الرجل في شيء : إن الله حرم هذا أو نهى عنه ، فيقول الله : كذبت لم أحرمه ولم أنه عنه .
قال : أو يقول : إن الله أحل هذا وأمر به ، فيقول : كذبت لم أحله ولم آمر به .
وذكر ابن وهب وعتيق بن يعقوب أنهما سمعا مالك بن أنس يقول : لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء : هذا حلال وهذا حرام .
ما كانوا يجترئون على ذلك ، وإنما كانوا يقولون : نكره هذا ، ونرى هذا حسنا ، ونتقي هذا ، ولا نرى هذا .
[ ص: 350 ] وزاد عتيق بن يعقوب : ولا يقولون حلال وحرام .
أما سمعت قول الله عز وجل : قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [ 10 \ 59 ] .
الحلال ما أحله الله ورسوله ، والحرام ما حرمه الله ورسوله .
قال أبو عمر : معنى قول مالك هذا أن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم نقل فيه حلال ولا حرام والله أعلم . انتهى محل الغرض منه .
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسيره في الكلام على قوله تعالى : ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام [ 16 \ 116 ] ما نصه : أسند الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا هارون عن حفص عن الأعمش ، قال : ما سمعت إبراهيم قط يقول : حلال ولا حرام ، ولكن كان يقول : كانوا يكرهون وكانوا يستحبون .
وقال ابن وهب : قال مالك : لم يكن من فتيا الناس أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام .
ولكن يقولون : إياكم وكذا وكذا . ولم أكن لأصنع هذا .
ومعنى هذا أن التحليل والتحريم إنما هو لله عز وجل وليس لأحد أن يقول أو يصرح بهذا في عين من الأعيان ، إلا أن يكون البارئ تعالى صرح بذلك عنه .
وما يؤدي إليه الاجتهاد في أنه حرام يقول : إني أكره كذا .
وكذلك كان مالك يفعل اقتداء بمن تقدم من أهل الفتوى . انتهى محل الغرض منه .
وإذا كان مالك وإبراهيم النخعي وغيرهما من أكابر أهل العلم لا يتجرءون أن يقولوا في شيء من مسائل الاجتهاد والرأي : هذا حلال أو حرام .
فما ظنك بغيرهم من المقلدين الذين لم يستضيئوا بشيء من نور الوحي ؟
فتجرؤهم على التحريم والتحليل بلا مستند من الكتاب إنما نشأ لهم من الجهل بكتاب الله وسنة رسوله ، وآثار السلف الصالح .
وآية يونس المتقدمة صريحة فيما ذكرنا صراحة تغني عن كل ما سواها ; لأنه تعالى لما قال : فجعلتم منه حراما وحلالا [ 10 \ 59 ] أتبع ذلك بقوله : قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون .
[ ص: 351 ] ولم يجعل واسطة بين إذنه في ذلك وبين الافتراء عليه ، فمن كان عنده إذن من الله بتحريم هذا أو تحليلا فليعتمد على إذن الله في ذلك .
ومن لم يكن عنده إذن من الله في ذلك فليحذر من الافتراء على الله ، إذ لا واسطة بين الأمرين .
ومعلوم أن العبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سببها .
فالذين يقولون من الجهلة المقلدين : هذا حلال وهذا حرام ، وهذا حكم الله ، ظنا منهم أن أقوال الإمام الذي قلدوه تقوم مقام الكتاب والسنة وتغني عنهما ، وأن ترك الكتاب والسنة والاكتفاء بأقوال من قلدوه أسلم لدينه أعمتهم ظلمات الجهل المتراكمة عن الحقائق حتى صاروا يقولون هذا .
فهم كما ترى ، مع أن الإمام الذي قلدوه ، ما كان يتجرأ على مثل الذي تجرءوا عليه ; لأن علمه يمنعه من ذلك .
والله - جل وعلا - يقول : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب [ 39 \ 9 ] .
التنبيه الرابع
اعلم أن مما لا بد منه معرفة الفرق بين الاتباع والتقليد ، وأن محل الاتباع لا يجوز التقليد فيه بحال .
وإيضاح ذلك : أن كل حكم ظهر دليله من كتاب الله ، أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع المسلمين ، لا يجوز فيه التقليد بحال ; لأن كل اجتهاد يخالف النص ، فهو اجتهاد باطل ، ولا تقليد إلا في محل الاجتهاد ; لأن نصوص الكتاب والسنة ، حاكمة على كل المجتهدين ، فليس لأحد منهم مخالفتها كائنا من كان .
ولا يجوز التقليد فيما خالف كتابا أو سنة أو إجماعا إذ لا أسوة في غير الحق ، فليس فيما دلت عليه النصوص إلا الاتباع فقط .
ولا اجتهاد ، ولا تقليد فيما دل عليه نص ، من كتاب أو سنة - سالم من المعارض .
[ ص: 352 ] والفرق بين التقليد والاتباع أمر معروف عند أهل العلم ، لا يكاد ينازع في صحة معناه أحد من أهل العلم .
وقد قدمنا كلام ابن خويز منداد الذي نقله عنه ابن عبد البر في جامعه ، وهو قوله : التقليد معناه في الشرع الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع منه في الشريعة ، والاتباع ما ثبت عليه حجة .
وقال في موضع آخر من كتابه : كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده ، والتقليد في دين الله غير صحيح .
وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه ، والاتباع في الدين مسوغ والتقليد ممنوع . ا هـ .
وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين : وقد فرق الإمام أحمد رحمه الله بين التقليد والاتباع .
فقال أبو داود : سمعته يقول : الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه ، ثم هو من بعد في التابعين مخير . انتهى محل الغرض منه .
قال مقيده عفا الله عنه ، وغفر له : أما كون العمل بالوحي اتباعا لا تقليدا فهو أمر قطعي ، والآيات الدالة على تسميته اتباعا كثيرة جدا ; كقوله تعالى : اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون [ 7 \ 3 ] .
وقوله تعالى : واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم [ 39 \ 55 ] .
وقوله تعالى : قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [ 7 \ 203 ] .
وقوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] .
وقوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون [ 6 \ 155 ] .
[ ص: 353 ] وقوله تعالى : اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] .
وقوله تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
فالعمل بالوحي ، هو الاتباع كما دلت عليه الآيات .
ومن المعلوم الذي لا شك فيه ، أن اتباع الوحي المأمور به في الآيات لا يصح اجتهاد يخالفه من الوجوه ، ولا يجوز التقليد في شيء يخالفه .
فاتضح من هذا الفرق بين الاتباع والتقليد ، وأن مواضع الاتباع ليست محلا أصلا للاجتهاد ولا للتقليد ، فنصوص الوحي الصحيحة الواضحة الدلالة السالمة من المعارض لا اجتهاد ولا تقليد معها البتة ; لأن اتباعها والإذعان لها فرض على كل أحد كائنا من كان كما لا يخفى .
وبهذا تعلم أن شروط المجتهد التي يشترطها الأصوليون إنما تشترط في الاجتهاد ، وموضع الاتباع ليس محل اجتهاد .
فجعل شروط المجتهد في المتبع مع تباين الاجتهاد والاتباع وتباين مواضعهما خلط وخبط ، كما ترى .
والتحقيق أن اتباع الوحي لا يشترط فيه إلا علمه بما يعمل به من ذلك الوحي الذي يتبعه ، وأنه يصح علم حديث والعمل به ، وعلم آية والعمل بها .
ولا يتوقف ذلك على تحصيل جميع شروط الاجتهاد ، فيلزم المكلف أن يتعلم ما يحتاج إليه من الكتاب والسنة ، ويعمل بكل ما علم من ذلك ، كما كان عليه أول هذه الأمة ، من القرون المشهود لها بالخير .
التنبيه الخامس
اعلم أنه لا يخفى علينا أن المقلدين التقليد الأعمى المذكور ، يقولون :
هذا الذي تدعوننا إليه وتأمروننا به من العمل بالكتاب والسنة ، وتقديمهما على آراء [ ص: 354 ] الرجال من التكليف بما لا يطاق ; لأنا لا قدرة لنا على معرفة الكتاب والسنة حتى نعمل بهما .
ولا يمكننا معرفة شيء من الشرع إلا عن طريق الإمام الذي نقلده ; لأنا لم نتعلم نحن ولا آباؤنا شيئا غير ذلك .
فإذا لم نقلد إمامنا بقينا في حيرة لا نعلم شيئا من أحكام عباداتنا ولا معاملاتنا ، وتعطلت بيننا الأحكام إذ لا نعرف قضاء ولا فتوى ولا غير ذلك من الأحكام إلا عن طريق مذهب إمامنا ; لأن أحكامه مدونة عندنا وهي التي نتعلمها ونتدارسها دون غيرها من الكتاب أو السنة وأقوال الصحابة ومذاهب الأئمة الآخرين .
ونحن نقول : والله لقد ضيقتم واسعا . وادعيتم العجز ، وعدم القدرة في أمر سهل ، ولا شك أن الأحوال الراهنة للمقلدين التقليد الأعمى للمذاهب المدونة تقتضي صعوبة شديدة جدا في طريق التحول من التقليد الأعمى إلى الاستضاءة بنور الوحي .
وذلك إنما نشأ من شدة التفريط في تعلم الكتاب والسنة والإعراض عنهما إعراضا كليا يتوارثه الأبناء عن الآباء ، والآباء عن الأجداد ، فالداء المستحكم من مئات السنين لا بد لعلاجه من زمن طويل .
ونحن لا نقول : إن الجاهل بالكتاب والسنة يعمل بهما باجتهاده ، بل نعوذ بالله من أن نقول ذلك .
ولكنا نقول : إن الكتاب والسنة يجب تعلمهما ، ولا يجوز الإعراض عنهما وأن كل ما علمه المكلف منهما علما صحيحا ناشئا عن تعلم صحيح وجب عليه العمل به ، فالبلية العظمى إنما نشأت من توارث الإعراض عنهما إعراضا كليا اكتفاء عنهما بغيرهما ، وهذا من أعظم المنكر وأشنع الباطل .
فالذي ندعو إليه هو المبادرة بالرجوع إليهما بتعلمهما أولا ثم العمل بهما والتوبة إلى الله من الإعراض عنهما .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:27 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (506)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 355 إلى صـ 362
ودعوى أن تعلمهما غير مقدور عليه ، لا يشك في بطلانها عاقل ، ونعيذ أنفسنا وإخواننا بالله أن يدعوا على أنفسهم أن على قلوبهم أكنة ، وفي آذانهم وقرا يمنعهم من فهم كتاب الله ; لأن ذلك قول الكفار لا قول المسلمين ، قال الله تعالى : [ ص: 355 ] حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون [ 41 \ 1 - 5 ] .
فاحذر يا أخي وارحم نفسك أن تقول مثل قول هؤلاء الكفرة وكنت تسمع ربك يقول : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 ] ، ويقول : فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون [ 44 \ 58 ] .
ويقول كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .
فلا تخرج نفسك من عموم أولي الألباب الذين هم أصحاب العقول ; لأنك إن فعلت ذلك اعترفت على نفسك أنك لست من جملة العقلاء .
وعلى كل حال فلا يخلو المقلدون التقليد الأعمى ، من أحد أمرين :
أحدهما : ألا يلتفتوا إلى نصح ناصح ، بل يستمرون على تقليدهم الأعمى ، والإعراض عن نور الوحي عمدا ، وتقديم رأي الرجال عليه .
وهذا القسم منهم لا نعلم له عذرا في كتاب الله ولا سنة رسوله ، ولا في قول أحد من الصحابة ، ولا أحد من القرون المشهود لهم بالخير ; لأن حقيقة ما هم عليه هو الإعراض عما أنزل الله عمدا مع سهولة تعلم القدر المحتاج إليه منه ، والاستغناء عنه بأقوال الأئمة .
ومن كان هذا شأنه وهو تام العقل والفهم قادر على التعلم فعدم عذره كما ترى .
الأمر الثاني : هو أن يندم المقلدون على ما كانوا عليه من التفريط في تعلم الوحي ، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
ويبادروا إلى الرجوع إلى الكتاب والسنة ويشرعوا في ذلك بجد . تائبين مما كانوا عليه من التفريط قبل ذلك ، وهذا القسم على هدى من الله ، وهو الذي ندعو إخواننا إليه .
التنبيه السادس
لا خلاف بين أهل العلم في أن الضرورة لها أحوال خاصة تستوجب أحكاما غير [ ص: 356 ] أحكام الاختيار .
فكل مسلم ألجأته الضرورة إلى شيء إلجاء صحيحا حقيقيا ، فهو في سعة من أمره فيه .
وقد استثنى الله - جل وعلا - حالة الاضطرار في خمس آيات من كتابه ، ذكر فيها المحرمات الأربع التي هي من أغلظ المحرمات تحريما وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، فإن الله تعالى كلما ذكر تحريمها استثنى منها حالة الضرورة ، فأخرجها من حكم التحريم .
قال تعالى في سورة الأنعام : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم [ 6 \ 145 ] .
وقال في الأنعام أيضا : وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه [ 6 \ 119 ] .
وقال تعالى في النحل : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم [ 16 \ 115 ] .
وقال تعالى في البقرة : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم [ 2 \ 173 ] .
وقال تعالى في المائدة : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به إلى قوله : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ 5 \ 3 ] .
وبهذا تعلم أن المضطر للتقليد الأعمى اضطرارا حقيقيا ، بحيث يكون لا قدرة له البتة ، على غيره مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلا على الفهم ، أو له قدرة على الفهم وقد عاقته عوائق قاهرة عن التعلم .
أو هو في أثناء التعلم ولكنه يتعلم تدريجا لأنه لا يقدر على تعلم كل ما يحتاجه في وقت واحد .
[ ص: 357 ] أو لم يجد كفئا يتعلم منه ونحو ذلك فهو معذور في التقليد المذكور للضرورة ; لأنه لا مندوحة له عنه .
أما القادر على التعلم المفرط فيه ، والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي ، فهذا الذي ليس بمعذور .
التنبيه السابع
اعلم أن موقفنا من الأئمة رحمهم الله من الأربعة وغيرهم هو موقف سائر المسلمين المنصفين منهم .
وهو موالاتهم ، ومحبتهم ، وتعظيمهم ، وإجلالهم ، والثناء عليهم ، بما هم عليه من العلم والتقوى ، واتباعهم في العمل بالكتاب والسنة وتقديمهما على رأيهم ، وتعلم أقوالهم للاستعانة بها على الحق ، وترك ما خالف الكتاب والسنة منها .
وأما المسائل التي لا نص فيها فالصواب النظر في اجتهادهم فيها ، وقد يكون اتباع اجتهادهم أصوب من اجتهادنا لأنفسنا ; لأنهم أكثر علما وتقوى منا .
ولكن علينا أن ننظر ونحتاط لأنفسنا في أقرب الأقوال إلى رضا الله وأحوطها وأبعدها من الاشتباه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .
وقال : " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " .
وحقيقة القول الفصل في الأئمة - رحمهم الله - أنهم من خيار علماء المسلمين ، وأنهم ليسوا معصومين من الخطأ ، فكل ما أصابوا فيه فلهم فيه أجر الاجتهاد وأجر الإصابة ، وما أخطئوا فيه فهم مأجورون فيه باجتهادهم معذورون في خطئهم فهم مأجورون على كل حال ، لا يلحقهم ذم ولا عيب ولا نقص في ذلك .
ولكن كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - حاكمان عليهم وعلى أقوالهم كما لا يخفى .
فلا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم فلا تك ممن يذمهم وينتقصهم ولا ممن يعتقد أقوالهم مغنية عن كتاب الله وسنة رسوله أو مقدمة عليهما .
[ ص: 358 ] التنبيه الثامن
اعلم أن كلا من الأئمة أخذت عليه مسائل . قال بعض العلماء : إنه خالف فيها السنة ، وسنذكر طرفا من ذلك هنا إن شاء الله .
أما الإمام أبو حنيفة رحمه الله فهو أكثر الأئمة في ذلك ; لأنه أكثرهم رأيا .
ولكثرة المسائل التي حصل فيها القيل والقال من ذلك لا نحتاج إلى بسط تفصيلها .
وبعض المسائل التي قيل فيها ذلك يظهر أنه لم تبلغه السنة فيها ، وبعضها قد بلغته السنة فيها ، ولكنه تركها لشيء آخر ظنه أرجح منها ، كتركه العمل لحديث القضاء بالشاهد واليمين في الأموال .
وحديث تغريب الزاني البكر ; لأنه ترك العمل بذلك ونحوه احتراما للنصوص القرآنية في ظنه ; لأنه يعتقد أن الزيادة على النص نسخ وأن القضاء بالشاهد واليمين نسخ ; لقوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] .
فاحترم النص القرآني المتواتر ، فلم يرض نسخه بخبر آحاد سنده دون سنده ; لأن نسخ المتواتر بالآحاد عنده رفع للأقوى بالأضعف ، وذلك لا يصح .
وكذلك حديث تغريب الزاني البكر فهو عنده زيادة ناسخة لقوله تعالى : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، والمتواتر لا ينسخ بالآحاد .
فتركه العمل بهذا النوع من الأحاديث بناه على مقدمتين :
إحداهما : أن الزيادة على النص نسخ .
والثانية : أن المتواتر لا ينسخ بالآحاد .
وخالفه في المقدمة الأولى جمهور العلماء ، ووافقوه في الثانية .
والذي يظهر لنا ونعتقده اعتقادا جازما أن كلتا المقدمتين ليست بصحيحة .
أما الزيادة فيجب فيها التفصيل ، فإن كانت أثبتت حكما نفاه النص أو نفت حكما أثبته النص فهي نسخ .
[ ص: 359 ] وإن كانت لم تتعرض للنص بنفي ولا إثبات بل زادت شيئا سكت عنه النص فلا يمكن أن تكون نسخا لأنها إنما رفعت الإباحة العقلية التي هي البراءة الأصلية ، ورفعها ليس نسخا إجماعا .
وأما نسخ المتواتر بالآحاد ، فالتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا مانع منه ولا محذور فيه ، ولا وجه لمنعه البتة ، وإن خالف في ذلك جمهور أهل الأصول ; لأن أخبار الآحاد الصحيحة الثابت تأخرها عن المتواتر لا وجه لردها ، ولا تعارض البتة بينها وبين المتواتر إذ لا تناقض بين خبرين اختلف زمنهما ، لجواز صدق كل منهما في وقته .
فلو أخبرك مثلا عدد يستحيل تواطؤهم على الكذب ، بأن أخاك الغائب لم يزل غائبا ولم يأت منزله ; لأنهم كانوا بمنزله وليس بموجود ، ثم أخبرك بعد ذلك رجل واحد بأن أخاك موجود في منزله الآن ، فهل يسوغ لك أن تقول له كذبت ، لأني أخبرني عدد كثير قبلك أنه لم يأت ؟
ولو قلت له ذلك لقال لك هم في وقت إخبارهم لك صادقون ، ولكن أخاك جاء بعد ذلك .
فالمتواتر في وقت نزوله صادق ، وخبر الآحاد الوارد بعده صادق أيضا ; لأنه أفاد تجدد شيء لم يكن ، فحصر المحرمات مثلا في الأربع المذكورة في قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة الآية [ 6 \ 145 ] صادق في ذلك الوقت ، لا يوجد محرم على طاعم يطعمه إلا تلك المحرمات الأربع .
فلا تحرم في ذلك الوقت الحمر الأهلية ، ولا ذو الناب من السباع ، ولا الخمر ، ولا غير ذلك .
فإذا جاء بعد خبر آحاد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية بخيبر ، فهل يسوغ لقائل أن يقول :
هذا الخبر الصحيح مردود لأنه يعارض حصر المحرمات في الأربع المذكورة في آية : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ 6 \ 145 ] ؟
ولو قال ذلك لقيل له : هذا الخبر الصحيح لا تناقضه الآية ، لأنه إنما أفاد حكما [ ص: 360 ] جديدا طارئا لم يكن مشروعا من قبل ، وأحكام الشريعة تتجدد شيئا فشيئا ، والآية لم تدل على استمرار الحصر المذكور فيها .
فتبين أن زيادة حكم طارئ لا تناقض بينها وبين ما كان قبلها .
وإيضاح هذا أن نسخ المتواتر بالآحاد إنما رفع استمرار حكم المتواتر ودلالة المتواتر على استمرار حكمه ليست قطعية حتى يمنع نسخها بأخبار الآحاد الصحيحة .
وقد قدمنا إيضاح هذا في سورة الأنعام ، وقصدنا مطلق المثال لما يقال : إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله خالف فيه السنة برأيه .
وغرضنا أن نبين أنه رحمه الله لم يخالف شيئا من ذلك ، إلا لشيء اعتقده مسوغا لذلك ، وأنه لا يترك السنة إلا لشيء يراه مستوجبا لذلك شرعا .
ومما يبين ذلك أنه كان يقدم ضعيف الحديث على الرأي .
قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين ما نصه : وأصحاب أبي حنيفة رحمه الله مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي .
وعلى ذلك بنى مذهبه كما قدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي .
وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس .
ومنع قطع يد السارق لسرقة أقل من عشرة دراهم ، والحديث فيه ضعيف .
وجعل أكثر الحيض عشرة أيام والحديث فيه ضعيف .
وشرط في إقامة الجمعة المصر ، والحديث فيه كذلك .
وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير مرفوعة .
فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحابة قوله ، وقول الإمام أحمد : وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعف في اصطلاح المتأخرين ; بل ما يسميه المتأخرون حسنا قد يسميه المتقدمون ضعيفا . انتهى محل الغرض منه .
ومن أمثلة ما ذكر أن أبا حنيفة رحمه الله خالف فيها السنة لزوم الطمأنينة في الصلاة ، وتعين تكبيرة الإحرام في الدخول فيها ، والسلام للخروج منها ، [ ص: 361 ] وقراءة الفاتحة فيها ، والنية في الوضوء ، والغسل ، إلى غير ذلك من مسائل كثيرة .
ولا يتسع المقام هنا لذكر ما استدل به أبو حنيفة لذلك ومناقشة الأدلة .
بل المقصود بيان أن الأئمة لا يخلو أحد منهم من أن يؤخذ عليه شيء خالف فيه سنة وأنهم لم يخالفوها إلا لشيء سوغ لهم ذلك .
وعند المناقشة الدقيقة قد يظهر أن الحق قد يكون معهم وقد يكون الأمر بخلاف ذلك .
وعلى كل حال فهم مأجورون ومعذورون كما تقدم إيضاحه .
وقد أخذ بعض العلماء على مالك رحمه الله أشياء قال : إنه خالف فيها السنة قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في جامعه : وقد ذكر يحيى بن سلام قال : سمعت عبد الله بن غانم في مجلس إبراهيم بن الأغلب يحدث عن الليث بن سعد أنه قال : أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة ، كلها مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما قال مالك فيها برأيه ، قال : ولقد كتبت إليه في ذلك . انتهى محل الغرض منه .
ومعلوم أن مثل كلام الليث هذا عن مالك لا أثر له ، لأنه لم يعين المسائل المذكورة ولا أدلتها .
فيجوز أن يكون الصواب فيها مع مالك لأدلة خفيت على الليث ، فليس خفاؤها على مالك بأولى من خفائها على الليث .
ولا شك أن مذهب مالك المدون فيه فروع تخالف بعض نصوص الوحي . والظاهر أن بعضها لم يبلغه رحمه الله ولو بلغه لعمل به .
وأن بعضها بلغه وترك العمل به لشيء آخر يعتقده دليلا أقوى منه .
ومن أمثلة ما لم يبلغه النص فيه - صيام ست من شوال بعد صوم رمضان .
قال رحمه الله في الموطأ ما نصه : إني لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف .
وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته ، [ ص: 362 ] وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة والجفاء ، ولو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ، ورأوهم يعلمون ذلك . انتهى منه بلفظه .
وفيه تصريح مالك رحمه الله بأنه لم يبلغه صيام ست من شوال عن أحد من السلف ، وهو صريح في أنه لم يبلغه عن النبي - صلى الله عليه وسلم .
ولا شك أنه لو بلغه الترغيب فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان يصومها ويأمر بصومها ، فضلا عن أن يقول بكراهتها .
وهو لا يشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرأف وأرحم بالأمة منه ; لأن الله وصفه - صلى الله عليه وسلم - في القرآن بأنه رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] .
فلو كان صوم السنة يلزمه المحذور الذي كرهها مالك من أجله لما رغب فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولراعى المحذور الذي راعاه مالك .
ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ألغى المحذور المذكور وأهدره ، لعلمه بأن شهر رمضان أشهر من أن يلتبس بشيء من شوال .
كما أن النوافل المرغب فيها قبل الصلوات المكتوبة وبعدها لم يكرهها أحد من أهل العلم خشية أن يلحقها الجهلة بالمكتوبات لشهرة المكتوبات الخمس وعدم التباسها بغيرها .
وعلى كل حال ، فإنه ليس لإمام من الأئمة أن يقول هذا الأمر الذي شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكروه لخشية أن يظنه الجهال من جنس الواجب .
وصيام الستة المذكورة ، وترغيب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه ثابت عنه .
قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن أيوب ، وقتيبة بن سعيد ، وعلي بن حجر جميعا عن إسماعيل ، قال ابن أيوب : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ; أنه حدثه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر " انتهى منه بلفظه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:30 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (507)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 363 إلى صـ 370
وفيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بالترغيب في صوم الستة المذكورة فالقول بكراهتها من [ ص: 363 ] غير مستند من أدلة الوحي خشية إلحاق الجهال لها برمضان ، لا يليق بجلالة مالك وعلمه وورعه ، لكن الحديث لم يبلغه كما هو صريح كلامه نفسه رحمه الله في قوله : لم يبلغني ذلك عن أحد من السلف ، ولو بلغه الحديث لعمل به ; لأنه رحمه الله من أكثر الناس اتباعا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحرصهم على العمل بسنته .
والحديث المذكور رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي ، وصوم السنة المذكور رواه أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جماعة من أصحابه ، منهم ثوبان ، وجابر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، والبراء بن عازب كما بينه صاحب نيل الأوطار .
وعلى كل حال فالحديث صحيح ويكفي في ذلك إسناد مسلم المذكور ، ولا عبرة بكلام من تكلم في سعد بن سعيد لتوثيق بعض أهل العلم له واعتماد مسلم عليه في صحيحه .
ومن أمثلة ما لم تبلغ مالكا رحمه الله فيه السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إفراد صوم يوم الجمعة ، فقد قال رحمه الله في الموطأ ما نصه : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ، ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة ، وصيامه حسن ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه ، وأراه كان يتحراه . انتهى منه بلفظه .
وفيه تصريحه رحمه الله بأنه لم يسمع أحدا من أهل العلم ينهى عن صوم الجمعة .
وأن ذلك حسن عنده ، وأنه رأى بعض أهل العلم يتحرى يوم الجمعة ليصومه .
وهذا تصريح منه رحمه الله بأنه لم يبلغه نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم الجمعة وحده ، وأمره من صامه أن يصوم معه يوما غيره وإلا أفطر إن ابتدأ صيامه ناويا إفراده .
ولو بلغته السنة في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمل بها وترك العمل بغيرها ; لأن النهي عن صوم يوم الجمعة وحده ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
قال البخاري رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج ، عن عبد الحميد بن جبير بن شيبة ، عن محمد بن عباد ، قال : سألت جابرا رضي الله عنه : أنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صوم الجمعة ؟ قال : نعم . زاد غير أبي عاصم : يعني أن ينفرد بصومه .
حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي حدثنا الأعمش ، حدثنا أبو صالح عن [ ص: 364 ] أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده " .
حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى عن شعبة ، ح وحدثني محمد ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة ، فقال : أصمت أمس ؟ قالت : لا ، قال : تريدين أن تصومي غدا ؟ قالت : لا . قال : فأفطري " .
وقال حماد بن الجعد سمع قتادة حدثني أبو أيوب : أن جويرية حدثته فأمرها ، فأفطرت ، انتهى من صحيح البخاري بلفظه .
وقال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الحميد بن جبير عن محمد بن عباد بن جعفر " سألت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت أنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيام يوم الجمعة ؟ فقال : نعم ، ورب هذا البيت " .
وقال مسلم أيضا : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص وأبو معاوية عن الأعمش ، ح وحدثنا يحيى بن يحيى واللفظ له أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده " .
وفي لفظ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام ، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " هذا لفظ مسلم في صحيحه .
ولا شك أن هذه الأحاديث لو بلغت مالكا ما خالفها ، فهو معذور في كونها لم تبلغه .
وقال النووي في شرح مسلم : وأما قول مالك في الموطأ : لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن به يقتدى نهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن ، وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه .
فهذا الذي قاله هو الذي رآه ، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو ، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره .
[ ص: 365 ] وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة ، فيتعين القول به ، ومالك معذور ، فإنه لم يبلغه .
قال الداودي من أصحاب مالك : لم يبلغ مالكا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه . انتهى منه .
وهذا هو الحق الذي لا شك فيه ; لأن مالكا من أورع العلماء وأكثر الناس اتباعا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يدعها وهو عالم بها .
وقوله في هذا الحديث : " إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم " أي كأن ينذر أحد صوم اليوم الذي يشفي الله فيه مريضه ، فوافق ذلك يوم الجمعة ; لأن صومه له لأجل النذر ، الذي لم يقصد بأصله تعيين يوم الجمعة .
وإنما النهي فيمن قصد بصومه نفس يوم الجمعة دون غيره .
والغرض عندنا إنما هو المثال لبعض الأحكام التي لم تبلغ مالكا فيها السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو بلغته لعمل بها .
ومعلوم أن هنالك بعضا من النصوص ترك مالك العمل به مع أنه بلغه ; لأنه يعتقد أن ما ترك النص من أجله أرجح من النص .
وهذا يحتاج فيه إلى مناقشات دقيقة بين الأدلة ، فقد يكون الحق في ذلك مع هذا الإمام تارة ومع غيره أخرى .
فقد ترك مالك العمل بحديث خيار المجلس مع أنه حديث متفق عليه ، وقد بلغ مالكا .
وقد حلف عبد الحميد الصائغ من المالكية بالمشي إلى مكة على أنه لا يفتي بثلاث . قالها مالك .
ومراده بالثلاث المذكورة - عدم القول بخيار المجلس هذا مع صحة الحديث فيه .
وجنسية القمح والشعير مع صحة الأحاديث الدالة على أنهما جنسان .
والتدمية البيضاء ، ولا شك أن مالكا بلغه حديث خيار المجلس هذا .
[ ص: 366 ] فقد روى في الموطأ عن نافع عن عبد الله بن عمر ; أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار " .
قال مالك : وليس لهذا عندنا حد معروف ، ولا أمر معمول به فيه . انتهى منه بلفظه .
مع أن مالكا لم يعمل بهذا الحديث الصحيح : وأشار في الموطأ إلى بعض الأسباب التي منعته من العمل به في قوله : وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه ، لأن خيار المجلس لم يحدد بحد معروف .
فصار القول به مانعا من انعقاد البيع إلى حد غير معروف .
وقد يكون المتعاقدان في سفينة في البحر لا يمكنهم التفرق بالأبدان ، وقد يكونان مسجونين في محل لا يمكنهما التفرق فيه .
وقد حمل مالك التفرق المذكور في الحديث على التفرق في الكلام ، وصيغة العقد ، قال : وقد أطلق التفرق على التفرق في الكلام دون الأبدان في قوله تعالى : وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته [ 4 \ 130 ] ، فالتفرق في الآية إنما هو بالتكلم بصيغة الطلاق لا بالأبدان .
وقوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة [ 98 \ 4 ] ، فالتفرق في الآية تفرق بالكلام والاعتقاد ، فلا يشترط أن يكون بالأبدان .
وحجج من احتج لمالك في عدم أخذه بحديث خيار المجلس هذا كثيرة معروفة .
منها ما هو في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم [ 2 \ 282 ] ، وقوله : أوفوا بالعقود [ 5 \ 1 ] ، وقوله : إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم [ 4 \ 29 ] .
ومنها ما هو بغير ذلك ، وليس غرضنا هنا بسط الحجج ومناقشتها ، وإنما غرضنا المثال ; لأن الإمام قد يترك نصا بلغه لاعتقاد أن ما ترك من أجله النص أرجح من نفس النص ، وأنه يجب على المسلم مراعاة المخرج والنجاة لنفسه فينظر في الأدلة ، ويعمل بأقواها وأقربها إلى رضا الله .
كما حلف عبد الحميد الصائغ بالمشي إلى مكة ، لا يفتي بقول مالك في هذا .
[ ص: 367 ] مع أنه عالم مالكي ، لأنه رأى الأدلة واضحة وضوحا لا لبس فيه في أن المراد بالتفرق التفرق بالأبدان .
وقد صرح بذلك جماعة من الصحابة منهم ابن عمر راوي الحديث ، ولم يعلم لهم مخالف من الصحابة .
ولا شك أن المنصف إذا تأمل تأملا صادقا خاليا من التعصب عرف أن الحق هو ثبوت خيار المجلس ، وأن المراد بالتفرق التفرق في الأبدان لا بالكلام ; لأن معنى التفرق بالكلام هو حصول الإيجاب من البائع والقبول من المشتري .
وكل عاقل يعلم أن الخيار حاصل لكل من البائع والمشتري ضرورة قبل حصول الإيجاب والقبول ، فحمل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا حمل له على تحصيل حاصل ، وهو كما ترى .
مع أن حمل الكلام على هذا المعنى يستلزم أن المراد بالمتبايعين في الحديث المتساومان ; لأنه لا يصدق عليهما اسم المتبايعين حقيقة إلا بعد حصول الإيجاب والقبول .
وحمل المتبايعين في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المتساومين اللذين لم ينعقد بينهما بيع خلاف الظاهر أيضا كما ترى .
وأما كون القمح والشعير جنسا واحدا ، فقد استدل له مالك ببعض الآثار التي ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم .
قال في الموطأ : إنه بلغه أن سليمان بن يسار قال : فني علف حمار سعد بن أبي وقاص فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرا ، ولا تأخذ إلا مثله . انتهى منه بلفظه .
وفي الموطأ أيضا عن نافع عن سليمان بن يسار أنه أخبره أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فني علف دابته ، فقال لغلامه : خذ من حنطة أهلك فابتع بها شعيرا ولا تأخذ إلا مثله . انتهى منه بلفظه .
وفي الموطأ أيضا : أن مالكا بلغه عن القاسم بن محمد عن ابن معيقيب الدوسي مثل [ ص: 368 ] ذلك . قال مالك : وهو الأمر عندنا . انتهى منه بلفظه .
فهذه الآثار هي عمدة مالك رحمه الله في كون القمح والشعير جنسا واحدا ، وعضد ذلك بتقارب منفعتهما .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن القمح والشعير جنسان ، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تصح معارضتها البتة بمثل هذه الآثار المروية عمن ذكر .
وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه " انتهى منه بلفظه .
وهو صريح بأن القمح والشعير جنسان مختلفان ، كاختلافهما مع التمر والملح ، وأن التفاضل جائز مع اختلاف الجنس إن كان يدا بيد ، وروى مسلم في صحيحه والإمام أحمد عن عبادة بن الصامت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد " انتهى منه بلفظه .
وللنسائي وابن ماجه وأبي داود نحوه ، وفي آخره : وأمرنا أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا .
قال المجد في المنتقى لما ساق هذا الحديث - ما نصه : وهو صريح في كون البر والشعير جنسين ، وما قاله صحيح كما ترى .
والأحاديث بمثل هذا كثيرة ، وقد قدمنا طرفا منها في سورة البقرة ، والمقصود هنا بيان صراحة الأحاديث الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن القمح والشعير جنسان لا جنس واحد ، وأنهما لا يجوز ترك العمل بها مع صحتها ووضوحها ، ولا أن يقدم عليها أثر موقوف على سعد بن أبي وقاص ولا أثر موقوف على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث ، ولا أثر موقوف على ابن معيقيب .
واعلم أنه لا يصح الاستدلال لكون القمح والشعير جنسا واحدا بحديث معمر بن عبد الله الثابت في صحيح مسلم وغيره ، قال : كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الطعام بالطعام مثلا بمثل " الحديث ، وذلك لأمرين : [ ص: 369 ] أحدهما أن معمرا المذكور قال في آخر الحديث : وكان طعامهم يومئذ الشعير ، فقد عين أن عرفهم المقارن للخطاب يخصص الطعام المذكور بالشعير .
والمقرر في أصول مالك : أن العرف المقارن للخطاب من المخصصات المنفصلة التي يخصص بها العام قال في مراقي السعود في ذلك :
والعرف حيث قارن الخطابا ودع ضمير البعض والأسبابا الأمر الثاني : إن الاستدلال بالحديث المذكور على فرض اعتبار عمومه ، وعدم تخصيصه بالعرف المذكور ، يقتضي أن الطعام كله جنس واحد فيدخل التمر والملح لصدق الطعام عليهما ، وهذا لا قائل به كما ترى .
فالظاهر أن الإمام مالكا رحمه الله ومن وافقه من أهل العلم ، لم تبلغهم هذه الأحاديث الصحيحة المصرحة ، بأن القمح والشعير والتمر والملح أجناس .
وأن القمح يباع بالشعير كيف شاء المتبايعان إن كان يدا بيد .
وأما التدمية البيضاء فقول مالك فيها يظهر لنا قوته واتجاهه ، وإن خالف في ذلك بعض أصحابه وأكثر أهل العلم .
وقد بين وجه قول مالك فيها ابن عبد البر وابن العربي وغيرهما .
والمسائل التي قال بعض أهل العلم إن مالكا خالف فيها السنة المعروفة منها ما ذكرنا .
ومنها مسألة سجود الشكر وسجدات التلاوة في المفصل ، وعدم الجهر بآمين ، وعدم رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ، وعدم قول الإمام : ربنا ولك الحمد ، وعدم ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر ، وترك السجدة الثانية في الحج ، وغير ذلك من المسائل .
وقد قدمنا أن بعض ما ترك مالك من النصوص قد بلغته فيه السنة ولكنه رأى غيرها أرجح منها ، وأن بعضها لم يبلغه ، وأن الحق قد يكون معه في بعض المسائل التي أخذت عليه ، وقد يكون مع غيره ، كما قال مالك نفسه رحمه الله : كل كلام فيه مقبول ومردود ، إلا كلام صاحب هذا القبر .
وهو تارة يقدم دليل القرآن المطلق أو العام على السنة التي هي أخبار آحاد ; لأن [ ص: 370 ] القرآن أقوى سندا وإن كانت السنة أظهر دلالة ، ولأجل هذا لم يبح ميتة الجراد بدون ذكاة ; لأنه يقدم عموم حرمت عليكم الميتة [ 5 \ 3 ] . على حديث : " أحلت لنا ميتتان ودمان " الحديث ، وقدم عموم قوله تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية [ 7 \ 55 ] ، على الأحاديث الواردة بالجهر بآمين لأن التأمين دعاء ، والدعاء مأمور بإخفائه في الآية المذكورة .
فالآية أقوى سندا وأحاديث الجهر بالتأمين أظهر دلالة في محل النزاع . ومن المعلوم أن أكثر أهل العلم يقدمون السنة في نحو هذا .
وقد قدم مالك رحمه الله دليل القرآن فيما ذكرنا كما قدمه أيضا في الثانية من سجدتي الحج لأن نص الآية الكريمة فيها كالصريح في أن المراد سجود الصلاة ، لأن الله يقول فيها : ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم [ 22 \ 77 ] ، فذكر الركوع مع السجود يدل على أن المراد سجود الصلاة .
والأمر بالصلاة في القرآن لا يستلزم سجود التلاوة كقوله : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] .
ولذلك لا يسجد عند قوله تعالى في آخر الحجر : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين [ 15 \ 98 ] .
قالوا : لأن معنى قوله : فسبح بحمد ربك أي : صل لربك متلبسا بحمده ، وكن من الساجدين في صلاتك .
ولا شك أن قوله تعالى في ثانية الحج : ياأيها الذين آمنوا اركعوا الآية [ 22 \ 77 ] أصرح في إرادة سجود الصلاة من قوله تعالى : فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:33 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (508)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 371 إلى صـ 378
ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم ; لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم ، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته ، والمخطئ منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطئه ، ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله ، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة [ ص: 371 ] رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجب تقديمهما على أقوالهم ، لأنهم غير معصومين من الخطأ ، وأن مذاهبهم المدونة لا يصح ولا يجوز الاستغناء بها عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن على كل مسلم قادر على التعليم أن يتعلم الكتاب والسنة ، ومعرفة مذاهب الأئمة تعينه على ذلك ، والنظر فيما استدل به كل منهم يعينه على معرفة أرجح الأقوال وأقربها إلى رضا الله .
وكذلك الشافعي وأحمد رحمهما الله ، فإن كل واحد منهما لا يخلو من شيء قد أخذ عليه ، ومرادنا هنا التمثيل لذلك ، وأن الوحي مقدم على أقوالهم جميعا ، وليس قصدنا الإكثار من ذلك .
وهذه أمثلة بالمطلوب وكان الشيخ رحمه الله أرجأ إيرادها فنذكرها على ما هو ظاهر من المذهبين ونرجو أن تكون موافقة لما أراد . وبالله التوفيق .
فمما هو في مذهب أحمد رحمه الله صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من الشعبان حينما يشك فيه هل هو تمام شعبان أو أول رمضان . وذلك حينما تكون السماء مغيمة خشية أن يظهر الهلال خلف الغيم أو القتر .
ولا يكون يوم شك إذا كانت السماء صحوا لأنه إذا رئي الهلال فهو من رمضان وإلا فهو من شعبان .
فمذهب أحمد هو صوم هذا اليوم المشكوك فيه احتياطا لرمضان ، وهو نص المعنى إلا أنه ذكر عن أحمد روايات أخر . ولكن صومه هو المقدم في المذهب . ولكنه مخالف لصريح النص في قوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك : " من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم " - صلى الله عليه وسلم .
قال في بلوغ المرام : ذكره البخاري تعليقا ووصله ، قال في سبل السلام : واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر ، أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان ، والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه . ا هـ .
يعني بما في معناه قوله - صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " . متفق عليه ، ولمسلم " فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " وللبخاري : " فأكملوا العدة ثلاثين " .
وشبهة أحمد في قوله - صلى الله عليه وسلم : " فاقدروا له " بمعنى فضيقوا عليه كما في قوله [ ص: 372 ] تعالى : ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله [ 65 \ 7 ] ، ولكن هذا معارض للنص الصريح في معنى " فاقدروا له ثلاثين " وقوله : " فأكملوا العدة ثلاثين " أي سواء في شعبان أو في تمام رمضان عند الفطر ، ولم يقل بصومه من الأئمة إلا أحمد رحمه الله .
ومما هو عند الشافعي قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة الأجنبية بدون حائل مع ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عائشة رضي الله عنها : " كنت أنام معترضة في القبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي فإذا سجد غمزني في رجلي فأقبضها فإذا قام مددتها " .
وقد أجابوا عن ذلك باحتمال سترها بحائل فجاء قولها " افتقدت رسول الله ذات ليلة فقمت أطلبه والحجرات ليس فيه آنذاك السرج حتى وقعت كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، فقلت : والله إنك لفي واد وأنا في واد " .
فلما قام للركعة الثانية ظنته ذهب عند بعض نسائه فاغتسل ثم جاء يصلي عندها فقامت وأدخلت يدها في شعر رأسه تتحسس هل اغتسل أم لا . إلخ .
ولهم أجوبة على كل ذلك ولكنها لا تنهض مع هذه النصوص الصريحة .
وشبهة الشافعي في ذلك في معنى : لامستم النساء من قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا [ 4 \ 43 ] ، ولم يقل بنقض الوضوء به من الأئمة إلا الشافعي رحمه الله .
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يتأتى من أحد أئمة المسلمين أن يخالف نصا صريحا من كتاب أو سنة ، بدون أن تكون لديه شبهة معارضة بنص آخر ، أو عدم بلوغ النص إليه ، أو عدم صحته عنده أو غير ذلك مما هو معروف في هذا المقام .
وإنما أوردنا هذين المثالين تتمة للبحث ولمجرد المثال .
التنبيه التاسع
اعلم أن كل من يرى أنه لا بد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة ، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا أحد غير ذلك الإمام [ ص: 373 ] يجب عليه أن يتنبه تنبها تاما للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقا ، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه ، وما زاده المتأخرون وقتا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه ، لتبرأ منها ، وأنكر على ملحقها ، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح .
ويزيده بطلانا نسبته إلى الله ورسوله ، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله ، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم .
ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى : كأقل الطهر ، يعني أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما .
والذين يعتقدون مذهب مالك يعتقدون أن مالكا يقول : بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما ، وهذا لم يقله مالك أبدا ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه .
والذي كان يقوله مالك : أن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام ، وهو الذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه كأبي محمد بن أبي زيد في رسالته رحمه الله .
والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول ابن مسلمة واعتمده صاحب التلقين ، وجعله ابن شاش المشهور ، أي مشهور مذهب مالك .
مع أن مالكا لم يقله ولم يعلم به ، وأمثال هذا كثيرة جدا في مذهب مالك وغيره .
ومثال استحسان المتأخرين ما لم يقله الإمام مما لا شك أنه لو بلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم : وعاشوراء وتاسوعاء - ما نصه : قال الشيخ زروق في شرح القرطبية : صيام المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه .
قال : إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه ، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه . انتهى .
قلت : لعله يعني ابن عباد . فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه : وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما [ ص: 374 ] يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب - أمر مباح لا ينكر على أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح .
والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود ، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان - أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة .
ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر ، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هنالك .
فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل ، وكنت إذ ذاك صائما فقلت لهم : إني صائم ، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه : إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد ، فتأملت كلامه فوجدته حقا ، وكأنني كنت نائما فأيقظني . انتهى بلفظه .
فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا قول أحد من أصحابه ولا من تابعيه .
ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالك ، ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس ، ولم يجر على أصول مذهبه ، لأن علة تحريم صوم يوم العيد والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما ، وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج . والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها ، وهي الصوم ، فإذا انتهت عبادة الحج أو عبادة الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر .
فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله ، والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز .
[ ص: 375 ] فإلحاق يوم المولد بيوم العيد إلحاق لا أساس له ، لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ، ولا إلحاق البتة إلا بجامع أو نفي فارق .
وكل من لم يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
ومعلوم أن جعل يوم المولد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة ، فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المولد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ، ولا قول أحد ممن يقتدى به .
ومما لا نزاع فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله رحمة للعالمين ، كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] ، ورسالته - صلى الله عليه وسلم - هي أعظم نعمة على الخلق ، كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا [ 14 \ 28 ] ، والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه ، والتقول عليه بما لم يقله .
فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر ، أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه ، وأنه ما دام من مذهب مالك ، فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق .
وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه .
ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم - ظاهر الفساد ، لأن المناسب لنعم الله هو طاعته بأنواع الطاعات كالصوم .
ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض أو إتيان الغائب ، وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه .
ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر ; ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى : [ ص: 376 ] الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] .
وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان ، فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضيا لصومه لا لجعل أيامه أعيادا يستقبح صومها ، لأن الله تعالى قال : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [ 2 \ 185 ] .
وهذا هو أعظم النعم ، وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فافهم .
والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينها وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها ، التي يدخلها المتأخرون وقتا بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علما بكتاب الله وسنة رسوله .
ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلا أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباد وابن عاشر وأمثالهما .
التنبيه العاشر
اعلم أن الدعوى التي اتفق عليها متأخرو الأصوليين التي تتضمن حكمهم على خالق السماوات والأرض - جل وعلا - لا يجوز لمسلم يريد الحق والإنصاف أن يعتقدها ، ولا أن يصدقهم فيها لظهور عدم صحتها ومخالفتها للنص ، والحكم فيها على الله بلا مستند ، وهو - جل وعلا - الذي يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .
وهذه الدعوى المذكورة هي المتركبة مما يأتي ، وهو أن الاجتهاد قد انقرض في الدنيا وانسد بابه ، وأن الله تعالى محكوم عليه بأن لا يخلق مجتهدا ولا يعلم أحدا من خلقه علما يمكن أن يكون به مجتهدا إلى ظهور المهدي المنتظر .
وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحدا كائنا من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة ، كما نص على هذه الدعوى حاكيا إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله :
والمجمع اليوم عليه الأربعه وقفو غيرها الجميع منعه [ ص: 377 ] حتى يجيء الفاطم المجدد
دين الهدى لأنه مجتهد ومراده بالفاطمي المهدي المنتظر ; لأنه شريف .
وقوله : حتى يجيء ، حرف غاية ، والمغيا به منع تقليد أحد غير الأربعة المذكور في قوله : وقفو غيرها الجميع منعه .
وهذا صريح في أنهم حاكمون على الله القدير العليم ، بأنه لا يخلق مجتهدا قبل وجود المهدي المنتظر ، وهذا الذي قاله صاحب مراقي السعود هو المقرر في كتب المتأخرين من الأصوليين من أهل المذاهب المدونة .
وهذا الحكم على الله الذي كل يوم هو في شأن بأنه لا يخلق مجتهدا قبل المهدي من مدة انقراض الاجتهاد المزعوم هو يا أخي كما ترى .
ولا شك أنك إن لم يعمك التعصب المذهبي تقطع أنه لا مستند له ، وهذا الذي ذكره صاحب مراقي السعود قد صرح بما يناقضه في قوله قبله :
والأرض لا عن قائم مجتهد تخلو إلى تزلزل القواعد
وهذا النقيض الأخير هو الصحيح الموافق للحق ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " الحديث . وهو حديث مشهور متفق عليه لا نزاع في صحته .
ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وليست البتة من المقلدين التقليد الأعمى .
لأن الحق هو ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة كما قال تعالى في سورة النساء : ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم [ 4 \ 170 ] ، وقال في الأنعام : وكذب به قومك وهو الحق [ 6 \ 66 ] ، وقال في النمل : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] ، وقال في يونس : ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم [ 10 \ 108 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
فدعوى أن الأرض لم يبق فيها مجتهد البتة ، وأن ذلك مستمر إلى ظهور المهدي [ ص: 378 ] المنتظر مناقضة لهذا الحديث الثابت ثبوتا لا مطعن فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم .
ومما لا نزاع فيه أن كل ما يناقض الحق فهو ضلال ، لأن الله - جل وعلا - يقول : فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون [ 10 \ 32 ] ، والعلم عند الله تعالى .
التنبيه الحادي عشر
اعلم يا أخي أن هذا الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واعتقاد الاستغناء عنهما بالمذاهب المدونة الذي عم جل من في المعمورة من المسلمين من أعظم المآسي والمصائب ، والدواهي التي دهت المسلمين من مدة قرون عديدة .
ولا شك أن النتائج الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن الكتاب والسنة من جملتها ما عليه المسلمون في واقعهم الآن من تحكيم القوانين الوضعية المنافي لأصل الإسلام ; لأن الكفار إنما احتاجوهم بفصلهم عن دينهم بالغزو الفكري عن طرق الثقافة وإدخال الشبه والشكوك في دين الإسلام .
ولو كان المسلمون يتعلمون كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويعملون بما فيهما لكان ذلك حصنا منيعا لهم من تأثير الغزو الفكري في عقائدهم ودينهم .
ولكن لما تركوا الوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال لم تقم لهم أقوال الرجال ومذاهب الأئمة رحمهم الله مقام كلام الله والاعتصام بالقرآن ، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحصن بسنته .
ولذلك وجد الغزو الفكري طريقا إلى قلوب الناشئة من المسلمين ، ولو كان سلاحهم المضاد القرآن والسنة لم يجد إليهم سبيلا .
ولا شك أن كل منصف يعلم أن كلام الناس ، ولو بلغوا ما بلغوا من العلم والفضل - لا يمكن أن يقوم مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
وبالجملة فمما لا شك فيه أن هذا الغزو الفكري الذي قضى على كيان المسلمين ، ووحدتهم وفصلهم عن دينهم ، لو صادفهم وهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله لرجع مدحورا في غاية الفشل لوضوح أدلة الكتاب والسنة ، وكون الغزو الفكري المذكور لم يستند إلا على الباطل والتمويه كما هو معلوم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:36 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (509)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 379 إلى صـ 386
[ ص: 379 ] قوله تعالى : إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم
الظاهر أن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، قوم كفروا بعد إيمانهم .
وقال بعض العلماء : هم اليهود الذين كانوا يؤمنون بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - فلما بعث وتحققوا أنه هو النبي الموصوف في كتبهم كفروا به .
وعلى هذا القول فارتدادهم على أدبارهم هو كفرهم به بعد أن عرفوه وتيقنوه ، وعلى هذا فالهدى الذي تبين لهم هو صحة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ومعرفته بالعلامات الموجودة في كتبهم .
وعلى هذا القول فهذه الآية يوضحها قوله تعالى في سورة البقرة : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين [ 2 \ 89 ] ; لأن قوله : فلما جاءهم ما عرفوا مبين معنى قوله : من بعد ما تبين لهم الهدى ، وقوله : كفروا وصدوكم مبين معنى قوله : ارتدوا على أدبارهم .
وقال بعض العلماء : نزلت الآية المذكورة في المنافقين .
وقد بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن سبب ارتداد هؤلاء القوم من بعد ما تبين لهم الهدى ، هو إغواء الشيطان لهم كما قال تعالى مشيرا إلى علة ذلك : الشيطان سول لهم أي زين لهم الكفر والارتداد عن الدين ، وأملى لهم أي مد لهم في الأمل ووعدهم طول العمر .
قال الزمخشري : سول سهل لهم ركوب العظائم من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا ، وأملى لهم ومد لهم في الآمال والأماني . انتهى .
[ ص: 380 ] وإيضاح هذا أن هؤلاء المرتدين على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى وقع لهم ذلك بسبب أن الشيطان سول لهم ذلك أي سهله لهم وزينه لهم وحسنه لهم ومناهم بطول الأعمار ; لأن طول الأمل من أعظم أسباب ارتكاب الكفر والمعاصي .
وفي هذا الحرف قراءتان سبعيتان : قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو وأملى لهم بفتح الهمزة واللام بعدها ألف وهو فعل ماض مبني للفاعل ، وفاعله ضمير يعود إلى الشيطان .
وأصل الإملاء الإمهال والمد في الأجل ، ومنه قوله تعالى : وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 183 ] ، وقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما [ 3 \ 178 ] .
ومعنى إملاء الشيطان لهم وعده إياهم بطول الأعمار ، كما قال تعالى : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] .
وقال تعالى : واستفزز من استطعت منهم بصوتك إلى قوله : وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] .
وقال بعض العلماء : ضمير الفاعل في قوله : وأملى لهم على قراءة الجمهور راجع إلى الله تعالى .
والمعنى : الشيطان سول لهم أي سهل لهم الكفر والمعاصي ، وزين ذلك وحسنه لهم ، والله - جل وعلا - أملى لهم : أي أمهلهم إمهال استدراج .
وكون التسويل من الشيطان والإمهال من الله ، قد تشهد لهم آيات من كتاب الله كقوله تعالى في تزيين الشيطان لهم : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم [ 8 \ 48 ] ، وقوله تعالى : تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم [ 16 \ 63 ] ، وقوله تعالى : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم [ 14 \ 22 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وكقوله تعالى في إملاء الله لهم استدراجا : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 44 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 381 ] ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، وقوله تعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 \ 75 ] ، وقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، وقوله تعالى : ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون [ 7 \ 95 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 \ 55 - 56 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقرأ هذا الحرف أبو عمرو وحده من السبعة " وأملي لهم " بضم الهمزة وكسر اللام ، بعدها ياء مفتوحة بصيغة الماضي المبني للمفعول والفاعل المحذوف ، فيه الوجهان المذكوران آنفا في فاعل : وأملى لهم على قراءة الجمهور بالبناء للفاعل .
وقد ذكرنا قريبا ما يشهد لكل منهما من القرآن كقوله تعالى في إملاء الشيطان لهم : يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 4 \ 120 ] ، وقوله في إملاء الله لهم : وأملي لهم إن كيدي متين [ 68 \ 45 ] ، كما تقدم قريبا .
والإشارة في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر راجعة إلى قوله تعالى : الشيطان سول لهم وأملى لهم .
أي ذلك التسويل والإملاء المفضي إلى الكفر بسبب أنهم : قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر .
وظاهر الآية يدل على أن بعض الأمر الذي قالوا لهم سنطيعكم فيه مما نزل الله وكرهه أولئك المطاعون .
والآية الكريمة تدل على أن كل من أطاع من كره ما نزل الله في معاونته له على كراهته ومؤازرته له على ذلك الباطل ، أنه كافر بالله بدليل قوله تعالى فيمن كان كذلك : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 47 \ 27 - 28 ] .
وقد قدمنا ما يوضح ذلك من القرآن في سورة الشورى في الكلام على قوله [ ص: 382 ] تعالى : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، وفي مواضع عديدة من هذا الكتاب المبارك .
وبينا في سورة الشورى أيضا شدة كراهة الكفار لما نزل الله ، وبينا ذلك بالآيات القرآنية في الكلام على قوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] ، وقد قدمنا مرارا أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : والله يعلم إسرارهم قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة عن عاصم " أسرارهم " بفتح الهمزة ، جمع سر .
وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم إسرارهم بكسر الهمزة مصدر أسر كقوله : وأسررت لهم إسرارا [ 71 \ 9 ] ، وقد قالوا لهم ذلك سرا فأفشاه الله العالم بكل ما يسرون وما يعلنون .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم أي : فكيف يكون حال هؤلاء إذا توفتهم الملائكة ؟ أي قبض ملك الموت وأعوانه أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الملائكة يتوفون الكفار وهم يضربون وجوههم وأدبارهم جاء موضحا في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنفال : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 8 \ 50 ] ، وقوله في الأنعام : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون [ 6 \ 93 ] .
فقوله : باسطو أيديهم أي بالضرب المذكور .
والإشارة في قوله : ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله راجعة إلى المصدر الكامن في الفعل الصناعي أعني قوله : يضربون وجوههم ، أي ذلك بضرب وقت الموت واقع بسبب بأنهم اتبعوا ما أسخط الله أي أغضبه من الكفر به ، وطاعة الكفار الكارهين لما نزله .
والإسخاط استجلاب السخط ، وهو الغضب هنا .
[ ص: 383 ] وقوله : وكرهوا رضوانه لأن من أطاع من كره ما نزل الله فقد كره رضوان الله ; لأن رضوانه تعالى ليس إلا في العمل بما نزل ، فاستلزمت كراهة ما نزل كراهة رضوانه لأن رضوانه فيما نزل ، ومن أطاع كارهه ، فهو ككارهه .
وقوله : فأحبط أعمالهم أي أبطلها ، لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة ، وقد أوضحنا المقام في ذلك إيضاحا تاما في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا [ 17 \ 19 ] .
وفي سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ 16 \ 97 ] .
واعلم أن هذه الآية الكريمة ، قد قال بعض العلماء : إنها نزلت في المنافقين .
وقال بعضهم : إنها نزلت في اليهود ، وإن المنافقين أو اليهود قالوا للكفار الذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر ، وهو عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتعويق عن الجهاد ونحو ذلك .
وبعضهم يقول : إن الذين اتبعوا ما أسخط الله هم اليهود حين كفروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرفوه وكرهوا رضوانه ، وهو الإيمان به - صلى الله عليه وسلم .
والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذه الآيات عامة في كل ما يتناوله لفظها ، وأن كل ما فيها من الوعيد عام لمن أطاع من كره ما نزل الله .
مسألة
اعلم أن كل مسلم ، يجب عليه في هذا الزمان تأمل هذه الآيات ، من سورة محمد وتدبرها ، والحذر التام مما تضمنته من الوعيد الشديد ; لأن كثيرا ممن ينتسبون للمسلمين داخلون بلا شك فيما تضمنته من الوعيد الشديد .
لأن عامة الكفار من شرقيين وغربيين كارهون لما نزل الله على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو هذا القرآن وما يبينه به النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنن .
[ ص: 384 ] فكل من قال لهؤلاء الكفار الكارهين لما نزله الله : سنطيعكم في بعض الأمر ، فهو داخل في وعيد الآية .
وأحرى من ذلك من يقول لهم : سنطيعكم في الأمر كالذين يتبعون القوانين الوضعية مطيعين بذلك للذين كرهوا ما نزل الله ، فإن هؤلاء لا شك أنهم ممن تتوفاهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم .
وأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه ، وأنه محبط أعمالهم .
فاحذر كل الحذر من الدخول في الذين قالوا : سنطيعكم في بعض الأمر .
قوله تعالى : ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم
اللام في قوله " لنبلونكم " موطئة لقسم محذوف .
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير شعبة عن عاصم بالنون الدالة على العظمة في الأفعال الثلاثة ، أعني لنبلونكم ، ونعلم ، ونبلو .
وقرأه شعبة عن عاصم بالمثناة التحتية .
وضمير الفاعل يعود إلى الله وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الله - جل وعلا - يبلو الناس أي يختبرهم بالتكاليف ، كبذل الأنفس والأموال في الجهاد ليتميز بذلك صادقهم من كاذبهم ، ومؤمنهم من كافرهم - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [ 2 \ 214 ] .
وقوله تعالى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [ 3 \ 142 ] .
وقوله تعالى : أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون [ 3 \ 142 ] .
وقوله تعالى : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين [ 9 \ 16 ] .
وقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 29 \ 1 - 3 ] .
[ ص: 385 ] وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة حتى نعلم المجاهدين [ 3 \ 179 ] .
وقد قدمنا إزالة الإشكال في نحوه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [ 2 \ 143 ] .
فقلنا في ذلك ما نصه : ظاهر هذه الآية قد يتوهم منه الجاهل أنه تعالى يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، بل هو تعالى عالم بكل ما سيكون قبل أن يكون .
وقد بين أنه لا يستفيد بالاختبار علما لم يكن يعلمه بقوله - جل وعلا : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] .
فقوله : والله عليم بذات الصدور بعد قوله : " ليبتلي " - دليل قاطع على أنه لم يستفد بالاختبار شيئا لم يكن عالما به ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ; لأن العليم بذات الصدور غني عن الاختبار .
وفي هذه الآية بيان عظيم لجميع الآيات التي يذكر الله فيها اختباره لخلقه .
ومعنى إلا لنعلم أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب فلا ينافي أنه كان عالما به قبل ذلك ، وفائدة الاختبار ظهور الأمر للناس ، أما عالم السر والنجوى ، فهو عالم بكل ما سيكون ، كما لا يخفى . ا هـ .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : ( وهذا العلم هو العلم الذي يقع عليه به الجزاء لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم ، فتأويله : حتى نعلم المجاهدين علم شهادة ، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة ، ونبلو أخباركم نختبرها ونظهرها ) انتهى محل الغرض منه .
وقال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : [ ص: 386 ] ( ولنبلونكم أيها المؤمنون بالقتل وجهاد أعداء الله حتى نعلم المجاهدين منكم ، يقول : حتى يعلم حزبي وأوليائي أهل الجهاد في الله منكم وأهل الصبر على قتال أعدائه فيظهر ذلك لهم ويعرف ذوو البصائر منكم في دينه من ذوي الشك والحيرة فيه ، وأهل الإيمان من أهل النفاق ، ونبلو أخباركم فنعرف الصادق منكم من الكاذب ) انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وما ذكره من أن المراد بقوله حتى نعلم المجاهدين الآية : حتى يعلم حزبنا وأولياؤنا المجاهدين منكم والصابرين - له وجه ، وقد يرشد له قوله تعالى : ونبلو أخباركم أي نظهرها ونبرزها للناس .
وقوله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب [ 3 \ 179 ] ; لأن المراد بميز الخبيث من الطيب ظهور ذلك للناس .
ولذا قال : وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 3 \ 179 ] ، فتعلموا ما ينطوي عليه الخبيث والطيب ، ولكن الله عرفكم بذلك بالاختبار والابتلاء الذي تظهر بسببه طوايا الناس من خبث وطيب .
والقول الأول وجيه أيضا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم الظاهر أن " صدوا " في هذه الآية متعدية ، والمفعول محذوف ، أي كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فهم ضالون مضلون .
وقد قدمنا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم [ 16 \ 97 ] أن التأسيس مقدم على التوكيد كما هو مقرر في الأصول .
و " صدوا " هنا إن قدرت لازمة فمعنى الصدود الكفر ، فتكون كالتوكيد لقوله : كفروا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (510)
سُورَةُ الْفَتْحِ
صـ 387 إلى صـ 394
[ ص: 387 ] وإن قدرت متعدية كان ذلك تأسيسا ; لأن قوله : كفروا يدل على كفرهم في أنفسهم .
وقوله : " وصدوا " على أنه متعد يدل على أنهم حملوا غيرهم على الكفر وصدوه عن الحق ، وهذا أرجح مما قبله .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وشاقوا الرسول أي خالفوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - مخالفة شديدة .
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين . أحدهما أن الذين كفروا وصدوا غيرهم عن الحق وخالفوه - صلى الله عليه وسلم - لن يضروا الله بكفرهم شيئا ، لأنه غني لذاته الغنى المطلق .
والثاني أنهم إنما يضرون بذلك أنفسهم ، لأن ذلك الكفر سبب لإحباط أعمالهم ، كما قال تعالى : وسيحبط أعمالهم .
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات من كتاب الله .
فمن الآيات الدالة على الأول الذي هو غنى الله عن خلقه ، وعدم تضرره بمعصيتهم - قوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .
وقوله تعالى : إن تكفروا فإن الله غني عنكم [ 39 \ 7 ] .
وقوله تعالى : وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] .
وقوله تعالى : قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض [ 10 \ 68 ] .
وقوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد [ 64 \ 6 ] .
وقوله تعالى : ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على الثاني وهو إحباط أعمالهم بالكفر أي إبطالها به - قوله [ ص: 388 ] تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] .
وقوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] .
وقوله تعالى : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] .
وقوله تعالى : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 16 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول .
قد قدمنا كثيرا جدا من الآيات المماثلة له قريبا في جملة كلامنا الطويل على قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن الآية [ 4 \ 82 ] ، [ 47 \ 24 ] .
قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن من مات على الكفر لن يغفر الله له ، لأن النار وجبت له بموته على الكفر - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين [ 3 \ 91 ] .
وقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون [ 2 \ 161 - 162 ] .
وقوله تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] .
وقوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 2 \ 217 ] .
قوله تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم . [ ص: 389 ] قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم إلى السلم بفتح السين .
وقرأ حمزة وشعبة " إلى السلم " بكسر السين .
وقوله تعالى : فلا تهنوا أي لا تضعفوا وتذلوا ، ومنه قوله تعالى : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله [ 3 \ 146 ] .
وقوله تعالى : ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين [ 8 \ 18 ] ، أي مضعف كيدهم ، وقول زهير بن أبي سلمى :
وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت فأصبح الحبل منها واهنا خلقا وقوله تعالى : وأنتم الأعلون جملة حالية ، أي : فلا تضعفوا عن قتال الكفار وتدعوا إلى السلم أي تبدءوا بطلب السلم أي الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي والحال أنكم أنتم الأعلون ، أي الأقهرون والأغلبون لأعدائكم ، ولأنكم ترجون من الله من النصر والثواب ما لا يرجون .
وهذا التفسير في قوله : وأنتم الأعلون هو الصواب .
وتدل عليه آيات من كتاب الله كقوله تعالى بعده والله معكم لأن من كان الله معه هو الأعلى وهو الغالب وهو القاهر المنصور الموعود بالثواب ، فهو جدير بأن لا يضعف عن مقاومة الكفار ولا يبدؤهم بطلب الصلح والمهادنة .
وكقوله تعالى : وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 173 ] ، وقوله تعالى : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ 40 \ 51 ] ، وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 \ 47 ] ، وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم [ 9 \ 14 ] .
ومما يوضح معنى آية القتال هذه قوله تعالى : ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون [ 4 \ 104 ] ; لأن قوله تعالى : وترجون من الله ما لا يرجون من النصر الذي وعدكم الله به والغلبة وجزيل الثواب .
[ ص: 390 ] وذلك كقوله هنا : وأنتم الأعلون وقوله : والله معكم أي بالنصر والإعانة والثواب .
واعلم أن آية القتال هذه لا تعارض بينها وبين آية الأنفال حتى يقال إن إحداهما ناسخة للأخرى ، بل هما محكمتان ، وكل واحدة منهما منزلة على حال غير الحال التي نزلت عليه الأخرى .
فالنهي في آية القتال هذه في قوله تعالى : فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم إنما هو عن الابتداء بطلب السلم .
والأمر بالجنوح إلى السلم في آية الأنفال محله فيما إذا ابتدأ الكفار بطلب السلم والجنوح لها ، كما هو صريح قوله تعالى : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله الآية [ 8 \ 61 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة والله معكم قد قدمنا الآيات الموضحة له في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] ، وهذا الذي ذكرنا في معنى هذه الآية أولى وأصوب مما فسرها به ابن كثير رحمه الله .
وهو أن المعنى : لا تدعوا إلى الصلح والمهادنة وأنتم الأعلون أي في حال قوتكم وقدرتكم على الجهاد ، أي : وإما إن كنتم في ضعف وعدم قوة فلا مانع من أن تدعوا إلى السلم أي الصلح والمهادنة ، ومنه قول العباس بن مرداس السلمي :
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم .
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة من عدم نقصه تعالى شيئا من ثواب الأعمال جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا [ 49 \ 14 ] ، أي لا ينقصكم من ثوابها شيئا .
وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .
[ ص: 391 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مرارا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ولن يتركم أصله من الوتر ، وهو الفرد .
فأصل قوله : " لن يتركم " لن يفردكم ويجردكم من أعمالكم بل يوفيكم إياها .
قوله تعالى : وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم .
هذه الأجور التي وعد الله بها من آمن واتقى جاءت مبينة في آيات كثيرة كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم [ 57 \ 28 ] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولا يسألكم أموالكم . في هذه الآية الكريمة أوجه معلومة عند أهل التفسير منها أن المعنى : ولا يسألكم النبي - صلى الله عليه وسلم - أموالكم أجرا على ما بلغكم من الوحي المتضمن لخير الدنيا والآخرة .
وهذا الوجه تشهد له آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله [ 34 \ 47 ] .
وقوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] .
وقوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ 52 \ 40 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] ، وذكرنا بعض ذلك في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] .
قوله تعالى : والله الغني وأنتم الفقراء . قد قدمنا الآيات الموضحة له قريبا في الكلام على قوله تعالى : إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى الآية [ 47 \ 32 ] .
[ ص: 392 ] قوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم . وقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [ 4 \ 133 ] .
[ ص: 393 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْفَتْحِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا .
التَّحْقِيقُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ ; لِأَنَّهُ فَتْحٌ عَظِيمٌ .
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ هُوَ السَّبَبُ الَّذِي تَهَيَّأَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْتَمِعُوا بِالْكُفَّارِ فَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَبَيَّنُوا لَهُمْ مَحَاسِنَهُ ، فَدَخَلَ كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ .
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذِي الْقِعْدَةِ عَامَ سِتٍّ كَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَ ةٍ .
وَلَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزْوَ مَكَّةَ حِينَ نَقَضَ الْكُفَّارُ الْعَهْدَ ، كَانَ خُرُوجُهُ إِلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ عَامَ ثَمَانٍ .
وَكَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ ، وَذَلِكَ يُوَضِّحُ أَنَّ الصُّلْحَ الْمَذْكُورَ مِنْ أَعْظَمِ الْفُتُوحِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ فَتْحَ مَكَّةَ ، وَإِنْ قَالَ بِذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا قُلْنَا ، وَلِأَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ سُورَةَ الْفَتْحِ هَذِهِ نَزَلَتْ بَعْدَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي طَرِيقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ .
وَلَفْظُ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ : إِنَّا فَتَحْنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَتْحَ قَدْ مَضَى ، فَدَعْوَى أَنَّهُ فَتَحَ مَكَّةَ وَلَمْ يَقَعْ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِقُرْبِ سَنَتَيْنِ - خِلَافُ الظَّاهِرِ .
وَالْآيَةُ الَّتِي فِي فَتْحِ مَكَّةَ دَلَّتْ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لَا عَلَى الْمُضِيِّ ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ الْآيَةَ [ 110 \ 1 ] .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي كِتَابِنَا " دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ " مَعْنَى اللَّامِ فِي قَوْلِهِ : [ ص: 394 ] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ الْآيَةَ [ 48 \ 2 ] .
قوله تعالى : ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم .
ما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الإيمان يزيد دلت عليه آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا [ 8 \ 2 ] ، وقوله تعالى : فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون [ 9 \ 124 ] ، وقوله تعالى : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا [ 74 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، وقد أوضحناه مرارا .
والحق الذي لا شك فيه أن الإيمان يزيد وينقص ، كما عليه أهل السنة والجماعة ، وقد دل عليه الوحي من الكتاب والسنة كما تقدم .
قوله تعالى : ولله جنود السماوات والأرض .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن له جنود السماوات والأرض ، وبين في المدثر أن جنوده هذه لا يعلمها إلا هو ، وذلك في قوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو [ 74 \ 31 ] .
قوله تعالى : ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء .
أظهر الأقوال وأصحها في الآية أن اللام في قوله : ليدخل متعلقة بقوله : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم [ 48 \ 4 ] .
وإيضاح المعنى هو الذي أنزل السكينة ، أي السكون والطمأنينة إلى الحق في قلوب المؤمنين ، ليزدادوا بذلك إيمانا لأجل أن يدخلهم بالطمأنينة إلى الحق ، وازدياد الإيمان جنات تجري من تحتها الأنهار .
ومفهوم المخالفة في قوله : في قلوب المؤمنين أن قلوب غير المؤمنين ليست كذلك وهو كذلك ولذا كان جزاؤهم مخالفا لجزاء المؤمنين كما صرح تعالى بذلك في قوله : ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:47 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (511)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 395 إلى صـ 402
[ ص: 395 ] وإيضاح المعنى أنه تعالى وفق المؤمنين بإنزال السكينة وازدياد الإيمان ، وأشقى غيرهم من المشركين والمنافقين فلم يوفقهم بذلك ليجازي كلا بمقتضى عمله .
وهذه الآية شبيهة في المعنى بقوله تعالى في آخر الأحزاب : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات [ 33 \ 73 ] .
قوله تعالى : وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه يجازي المشركين والمشركات والمنافقين والمنافقات بثلاث عقوبات وهي غضبه ، ولعنته ، ونار جهنم .
وقد بين في بعض الآيات بعض نتائج هذه الأشياء الثلاثة ، كقوله في الغضب : ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى [ 20 \ 81 ] ، وقوله في اللعنة : ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا [ 4 \ 52 ] ، وقوله في نار جهنم : ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته [ 3 \ 192 ] .
قوله تعالى : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أنه أرسل نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - شاهدا ومبشرا ونذيرا .
وقد بين تعالى أنه يبعثه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة شاهدا على أمته ، وأنه مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين . قال تعالى في شهادته - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة على أمته : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] ، وقوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء [ 16 \ 89 ] .
فآية النساء وآية النحل المذكورتان الدالتان على شهادته - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة على أمته تبينان آية الفتح هذه .
وما ذكرنا من أنه مبشر للمؤمنين ونذير للكافرين أوضحه في قوله تعالى : فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] .
[ ص: 396 ] وقد أوضحنا هذا في أول سورة الكهف ، وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة - ذكره وزيادة في سورة الأحزاب في قوله تعالى : ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ 33 \ 45 - 46 ] .
وقوله هنا : إنا أرسلناك شاهدا حال مقدرة ، وقوله : ومبشرا ونذيرا كلاهما حال معطوف على حال .
قوله تعالى : قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا .
أمر الله - جل وعلا - نبيه أن يقول للمنافقين الذين تخلفوا عنه واعتذروا بأعذار كاذبة : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا [ 48 \ 11 ] أي لا أحد يملك دفع الضر الذي أراد الله إنزاله بكم ولا منع النفع الذي أراد نفعكم به فلا نافع إلا هو ولا ضار إلا هو تعالى ، ولا يقدر أحد على دفع ضر أراده ولا منع نفع أراده .
وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأحزاب قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا [ 33 \ 17 ] .
وقوله تعالى في آخر يونس : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله الآية [ 10 \ 107 ] .
وقوله في الأنعام : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] .
وقوله تعالى في المائدة : قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا [ 5 \ 17 ] .
وقوله تعالى في فاطر : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له الآية [ 35 \ 2 ] .
وقوله تعالى في الملك : قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم [ 67 \ 28 ] .
[ ص: 397 ] وقد ذكرنا بعض الآيات الدالة على هذا في أول سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة الآية [ 35 \ 2 ] . وفي سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا [ 46 \ 8 ] .
قوله تعالى : فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المؤمنين . والسكينة تشمل الطمأنينة والسكون إلى الحق والثبات والشجاعة عند البأس .
وقد ذكر - جل وعلا - إنزاله السكينة على رسوله وعلى المؤمنين في براءة في قوله : ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين [ 9 \ 26 ] ، وذكر إنزال سكينته على رسوله في قوله في براءة : إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه الآية [ 9 \ 40 ] .
وذكر إنزاله سكينته على المؤمنين في قوله : فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم الآية [ 48 \ 18 ] .
وهذه الآيات كلها لم يبين فيها موضع إنزال السكينة ، وقد بين في هذه السورة الكريمة أن محل إنزال السكينة هو القلوب ، وذلك في قوله : هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين الآية [ 48 \ 4 ] .
قوله تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله .
ما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ذكره في سورة التوبة ، وسورة الصف ، وزاد فيهما أنه فاعل ذلك ، ولو كان المشركون يكرهونه ، فقال في الموضعين : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ 9 \ 33 ] ، [ 61 - 9 ] .
قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] .
[ ص: 398 ] قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع .
قرأ هذا الحرف ابن كثير وابن ذكوان وابن عامر " شطأه " بفتح الطاء ، والباقون من السبعة بسكون الطاء .
وقرأ عامة السبعة غير ابن ذكوان : فآزره بألف بعد الهمزة .
وقرأه ابن ذكوان عن عامر " فأزره " بلا ألف بعد الهمزة مجردا .
وقرأ عامة السبعة غير قنبل على سوقه بواو ساكنة بعد السين .
وقرأه قنبل عن ابن كثير بهمزة ساكنة بدلا من الواو ، وعنه ضم الهمزة بعد السين ، بعدها واو ساكنة .
وهذه الآية الكريمة قد بين الله فيها أنه ضرب المثل في الإنجيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنهم كالزرع يظهر في أول نباته رقيقا ضعيفا متفرقا ، ثم ينبت بعضه حول بعض ، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتد وتعجب جودته أصحاب الزراعة ، العارفين بها ، فكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا في أول الإسلام في قلة وضعف ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة حتى بلغوا ما بلغوا .
وقوله تعالى : كزرع أخرج شطأه أي فراخه فنبت في جوانبه . وقوله : فآزره على قراءة الجمهور من المؤازرة ، بمعنى المعاونة والتقوية ، وقال بعض العلماء : فآزره أي ساواه في الطول ، وبكل واحد من المعنيين فسر قول امرئ القيس :
بمحنية قد آزر الصال نبتها مجر جيوش غانمين وخيب وأما على قراءة ابن ذكوان فآزره بلا ألف ، فالمعنى شد أزره أي قواه .
ومنه قوله تعالى عن موسى : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري الآية [ 20 \ 29 - 31 ] ، وقوله : فاستغلظ أي صار ذلك الزرع غليظا بعد أن كان رقيقا ، وقوله : فاستوى أي استتم وتكامل على سوقه أي على قصبه .
[ ص: 399 ] وما تضمنته الآية الكريمة من المثل المذكور في الإنجيل المضروب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بأنهم يكونون في مبدأ أمرهم في قلة وضعف ، ثم بعد ذلك يكثرون ويقوون - جاء موضحا في آيات من كتاب الله تعالى كقوله : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره [ 8 \ 26 ] .
وقوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [ 3 \ 123 ] ، وقوله تعالى : اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون الآية [ 5 \ 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
[ ص: 400 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : لَا تُقَدِّمُوا فِيهِ لِعُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ أَصَحُّهَا وَأَظْهَرُهَا أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " اللَّازِمِ بِمَعْنَى تَقَدَّمَ .
وَمِنْهُ مُقَدِّمَةُ الْجَيْشِ ، وَمُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ بِكَسْرِ الدَّالِّ فِيهِمَا ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلِ " قَدَّمَ " بِمَعْنَى تَقَدَّمَ .
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قِرَاءَةُ يَعْقُوبَ مِنَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ هُمْ تَمَامُ الْعَشَرَةِ : " لَا تَقَدَّمُوا " بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ ، وَأَصْلُهُ : لَا تَتَقَدَّمُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " الْمُتَعَدِّي ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِإِرَادَةِ التَّعْمِيمِ ، أَيْ : لَا تُقَدِّمُوا قَوْلًا وَلَا فِعْلًا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَلْ أَمْسِكُوا عَنْ ذَلِكَ حَتَّى تَصْدُرُوا فِيهِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : أَنَّهُ مُضَارِعُ " قَدَّمَ " الْمُتَعَدِّي ، وَلَكِنَّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى اللَّازِمِ ، وَقُطِعَ النَّظَرُ عَنْ وُقُوعِهَا عَلَى مَفْعُولِهَا ، لِأَنَّ الْمُرَادَ هُوَ أَصْلُ الْفِعْلِ دُونَ وُقُوعِهِ عَلَى مَفْعُولٍ .
وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [ 40 \ 68 ] ، أَيْ هُوَ الْمُتَّصِفُ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ، وَلَا يُرَادُ فِي ذَلِكَ وُقُوعُهُمَا عَلَى مَفْعُولٍ .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ 39 \ 9 ] ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِالْعِلْمِ لَا يَسْتَوُونَ مَعَ غَيْرِ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ .
وَلَا يُرَادُ هُنَا وُقُوعُ الْعِلْمِ عَلَى مَفْعُولٍ ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ : لَا تُقَدِّمُوا لَا تَكُونُوا مِنَ الْمُتَّصِفِينَ بِالتَّقْدِيمِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ : أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [ 4 \ 82 ] أَنَّ لَفْظَةَ : بَيْنَ يَدَيْهِ [ 2 \ 97 ] ، مَعْنَاهَا أَمَامَهُ ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ .
[ ص: 401 ] وَالْمَعْنَى لَا تَتَقَدَّمُوا أَمَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ : فَتَقُولُوا فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا إِذْنٍ مِنَ اللَّهِ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا تَشْرِيعُ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَتَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ ، وَتَحْلِيلُ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ ، لِأَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَلَا حَلَالَ إِلَّا مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الشُّورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [ 42 \ 10 ] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [ 18 \ 26 ] ، وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [ 17 \ 9 ] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ بِامْتِثَالِ أَمْرِهِ وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ .
وَقَوْلُهُ : إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَهُوَ سَمِيعٌ لِكُلِّ مَا تَقُولُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَغَيْرِهِ ، عَلِيمٌ بِكُلِّ مَا تَفْعَلُونَ مِنَ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَغَيْرِهِ .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون .
سبب نزول هذه الآية الكريمة ، أنه لما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد تميم ، أشار عليه أبو بكر رضي الله عنه أن يؤمر عليهم القعقاع بن معبد بن زرارة بن عدس ، وأشار عليه عمر أن يؤمر عليهم الأقرع بن حابس بن عقال ، فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي ، فقال عمر : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما فأنزل الله : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ذكره البخاري في صحيحه وغيره .
وهذه الآية الكريمة علم الله فيها المؤمنين أن يعظموا النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحترموه ويوقروه ، فنهاهم عن رفع أصواتهم فوق صوته ، وعن أن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض ، أي ينادونه باسمه : يا محمد ، يا أحمد ، كما ينادي بعضهم بعضا .
وإنما أمروا أن يخاطبوه خطابا يليق بمقامه ليس كخطاب بعضهم لبعض ، كأن [ ص: 402 ] يقولوا : يا نبي الله أو يا رسول الله ونحو ذلك .
وقوله : أن تحبط أعمالكم أي لا تفعلوا ذلك لئلا تحبط أعمالكم ، أو ينهاكم عن ذلك كراهة أن تحبط أعمالكم ، وأنتم لا تشعرون أي : لا تعلمون بذلك .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من لزوم توقير النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه واحترامه جاء مبينا في مواضع أخر كقوله تعالى : لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه [ 48 \ 9 ] ، على القول بأن الضمير في وتعزروه وتوقروه للنبي - صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا [ 24 \ 63 ] ، كما تقدم وقوله تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه [ 7 \ 157 ] ، وقوله هنا : ولا تجهروا له بالقول أي لا تنادوه باسمه : كـ : يا محمد .
وقد دلت آيات من كتاب الله على أن الله تعالى لا يخاطبه في كتابه باسمه ، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم والتوقير ، كقوله : ياأيها النبي [ 9 \ 73 ] ، ياأيها الرسول [ 5 \ 41 ] ، ياأيها المزمل [ 73 \ 1 ] ، ياأيها المدثر [ 74 \ 1 ] ، مع أنه ينادي غيره من الأنبياء بأسمائهم كقوله : وقلنا ياآدم [ 2 \ 35 ] ، وقوله : وناديناه أن ياإبراهيم [ 37 \ 104 ] ، وقوله : قال يانوح إنه ليس من أهلك [ 11 \ 46 ] ، قيل يانوح اهبط بسلام منا [ 11 \ 48 ] ، وقوله : قال ياموسى إني اصطفيتك على الناس [ 7 \ 144 ] ، وقوله : إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك [ 3 \ 55 ] ، وقوله : ياداود إنا جعلناك خليفة [ 38 \ 29 ] .
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يذكر اسمه في القرآن في خطاب ، وإنما يذكر في غير ذلك كقوله : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل [ 3 \ 144 ] ، وقوله : وآمنوا بما نزل على محمد [ 47 \ 2 ] ، وقوله : محمد رسول الله والذين معه [ 48 \ 29 ] .
وقد بين تعالى أن توقيره واحترامه - صلى الله عليه وسلم - بغض الصوت عنده لا يكون إلا من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، أي أخلصها لها وأن لهم بذلك عند الله المغفرة والأجر العظيم ، وذلك في قوله تعالى : إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم [ 49 \ 3 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (512)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 403 إلى صـ 410
[ ص: 403 ] وقال بعض العلماء في قوله : ولا تجهروا له بالقول أي لا ترفعوا عنده الصوت كرفع بعضكم صوته عند بعض .
قال القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه : وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة ، وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها . انتهى محل الغرض منه .
وظاهر هذه الآية الكريمة أن الإنسان قد يحبط عمله وهو لا يشعر ، وقد قال القرطبي : إنه لا يحبط عمله بغير شعوره ، وظاهر الآية يرد عليه .
وقد قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية ما نصه : وقوله عز وجل أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده خشية أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يكتب له بها الجنة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض " انتهى محل الغرض منه بلفظه .
ومعلوم أن حرمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته كحرمته في أيام حياته ، وبه تعلم أن ما جرت به العادة اليوم من اجتماع الناس قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وهم في صخب ولغط . وأصواتهم مرتفعة ارتفاعا مزعجا كله لا يجوز ، ولا يليق ، وإقرارهم عليه من المنكر .
وقد شدد عمر رضي الله عنه النكير على رجلين رفعا أصواتهما في مسجده - صلى الله عليه وسلم - وقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا .
مسألتان
الأولى : اعلم أن عدم احترام النبي - صلى الله عليه وسلم - المشعر بالغض منه ، أو تنقيصه - صلى الله عليه وسلم - والاستخفاف به أو الاستهزاء به - ردة عن الإسلام وكفر بالله .
وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت [ ص: 404 ] راحلته : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [ 9 \ 65 - 66 ] .
المسألة الثانية : وهي من أهم المسائل ، اعلم أنه يجب على كل إنسان أن يميز بين حقوق الله تعالى التي هي من خصائص ربوبيته ، التي لا يجوز صرفها لغيره ، وبين حقوق خلقه كحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضع كل شيء في موضعه ، على ضوء ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا القرآن العظيم والسنة الصحيحة .
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن من الحقوق الخاصة بالله التي هي من خصائص ربوبيته - التجاء عبده إليه إذا دهمته الكروب التي لا يقدر على كشفها إلا الله .
فالتجاء المضطر الذي أحاطت به الكروب ودهمته الدواهي لا يجوز إلا لله وحده ، لأنه من خصائص الربوبية ، فصرف ذلك الحق لله وإخلاصه له هو عين طاعة الله ومرضاته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ومرضاته ، وهو عين التوقير والتعظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأن أعظم أنواع توقيره وتعظيمه هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص التوحيد والعبادة له وحده - جل وعلا .
وقد بين - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه أن التجاء المضطر من عباده إليه وحده في أوقات الشدة والكرب من خصائص ربوبيته تعالى .
من أصرح ذلك الآيات التي في سورة النمل ، أعني قوله تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى إلى قوله : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 59 - 64 ] .
فإنه - جل وعلا - قال في هذه الآيات الكريمات العظيمات : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون [ 27 \ 59 ] .
ثم بين خصائص ربوبيته الدالة على أنه المعبود وحده ، فقال : أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 27 \ 60 ] .
فهذه المذكورات التي هي خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق ذات البهجة ، التي لا يقدر على إنبات شجرها إلا الله - من خصائص ربوبية الله ; [ ص: 405 ] ولذا قال تعالى بعدها : أإله مع الله يقدر على خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق به ، والجواب لا ; لأنه لا إله إلا الله وحده .
ثم قال تعالى : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 27 \ 61 ] .
فهذه المذكورات أيضا ، التي هي جعل الأرض قرارا ، وجعل الأنهار خلالها ، وجعل الجبال الرواسي فيها ، وجعل الحاجز بين البحرين - من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعد ذكرها أإله مع الله ؟ والجواب : لا .
فالاعتراف لله - جل وعلا - بأن خلق السماوات والأرض وإنزال الماء وإنبات النبات ونحو ذلك مما ذكر في الآيات من خصائص ربوبيته - جل وعلا - هو الحق ، وهو من طاعة الله ورسوله ، ومن تعظيم الله وتعظيم رسوله بالاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم الله .
ثم قال تعالى وهو محل الشاهد : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون [ 27 \ 62 ] .
فهذه المذكورات التي هي إجابة المضطر إذا دعا ، وكشف السوء وجعل الناس خلفاء في الأرض من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعدها أإله مع الله قليلا ما تذكرون .
فتأمل قوله تعالى : أإله مع الله مع قوله : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء - تعلم أن إجابة المضطرين إذا التجئوا ودعوا وكشف السوء عن المكروبين ، لا فرق في كونه من خصائص الربوبية بينه وبين خلق السماوات والأرض ، وإنزال الماء وإنبات النبات ، ونصب الجبال وإجراء الأنهار ، لأنه - جل وعلا - ذكر الجميع بنسق واحد في سياق واحد ، وأتبع جميعه بقوله : أإله مع الله .
فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله توجه إليه الإنكار السماوي الذي هو في ضمن قوله : أإله مع الله فلا فرق البتة بين تلك المذكورات في كونها كلها من خصائص الربوبية .
ثم قال تعالى : أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون [ 27 \ 63 ] .
[ ص: 406 ] فهذه المذكورات التي هي هدي الناس في ظلمات البر والبحر ، وإرسال الرياح بشرا ، أي مبشرات ، بين يدي رحمته التي هي المطر - من خصائص ربوبيته - جل وعلا .
ولذا قال تعالى : أإله مع الله ، ثم نزه - جل وعلا - نفسه عن أن يكون معه إله يستحق شيئا مما ذكر فقال - جل وعلا : تعالى الله عما يشركون .
ثم قال تعالى : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] .
فهذه المذكورات التي هي بدء خلق الناس وإعادته يوم البعث ، ورزقه للناس من السماء بإنزال المطر ، ومن الأرض بإنبات النبات - من خصائص ربوبيته - جل وعلا - ولذا قال بعدها أإله مع الله .
ثم عجز - جل وعلا - كل من يدعي شيئا من ذلك كله لغير الله ، فقال آمرا نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يخاطبهم بصيغة التعجيز : قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين .
وقد اتضح من هذه الآيات القرآنية أن إجابة المضطرين الداعين ، وكشف السوء عن المكروبين ، من خصائص الربوبية كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء ، وإنبات النبات ، والحجز بين البحرين إلى آخر ما ذكر .
وكون إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين من خصائص الربوبية ، كما أوضحه تعالى في هذه الآيات من سورة النمل - جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى مخاطبا نبيه - صلى الله عليه وسلم : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده [ 10 \ 107 ] .
وقوله تعالى : وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير [ 6 \ 17 ] .
وقوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له [ 35 \ 2 ] .
فعلينا معاشر المسلمين أن نتأمل هذه الآيات القرآنية ونعتقد ما تضمنته ونعمل به [ ص: 407 ] لنكون بذلك مطيعين لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - معظمين لله ولرسوله ; لأن أعظم أنواع تعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو اتباعه والاقتداء به في إخلاص العبادة لله - جل وعلا - وحده .
فإخلاص العبادة له - جل وعلا - وحده هو الذي كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - ويأمر به وقد قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ 98 \ 5 ] ، وقال تعالى : قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين إلى قوله : قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه [ 39 \ 11 - 15 ] .
واعلم أن الكفار في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يعلمون علما يقينا أن ما ذكر من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب ، من خصائص الربوبية وكانوا إذا دهمتهم الكروب ، كإحاطة الأمواج بهم في البحر في وقت العواصف يخلصون الدعاء لله وحده ، لعلمهم أن كشف ذلك من خصائصه ، فإذا أنجاهم من الكرب رجعوا إلى الإشراك .
وقد بين الله - جل وعلا - هذا في آيات من كتابه كقوله تعالى : هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق [ 10 \ 22 - 23 ] .
وقوله تعالى : قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم الآية [ 6 \ 63 - 65 ] .
وقوله تعالى : قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون [ 6 \ 40 ] .
وقوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا [ 17 \ 67 - 69 ] .
[ ص: 408 ] وقوله تعالى : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون [ 29 \ 65 ] .
وقوله تعالى : وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد [ 31 \ 32 ] .
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه [ 17 \ 67 ] ، أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه أنه لما فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة ذهب فارا منه إلى بلاد الحبشة فركب في البحر متوجها إلى الحبشة فجاءتهم ريح عاصف ، فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده . فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره ، فإنه لا ينفع في البر غيره . اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد - صلى الله عليه وسلم - فلأجدنه رءوفا رحيما ، فخرجوا من البحر فخرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه . انتهى .
وقد قدمنا هناك أن بعض المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالا من هؤلاء الكفار المذكورين ; لأنهم في وقت الشدائد يلجئون لغير الله طالبين منه ما يطلب المؤمنون من الله ، وبما ذكر تعلم أن ما انتشر في أقطار الدنيا من الالتجاء في أوقات الكروب والشدائد إلى غير الله - جل وعلا - كما يفعلون ذلك قرب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعند قبور من يعتقدون فيهم الصلاح زاعمين أن ذلك من دين الله ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه ومحبة الصالحين ، كله من أعظم الباطل ، وهو انتهاك لحرمات الله وحرمات رسوله .
لأن صرف الحقوق الخاصة بالخالق التي هي من خصائص ربوبيته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره ممن يعتقد فيهم الصلاح - مستوجب سخط الله وسخط النبي - صلى الله عليه وسلم - وسخط كل متبع له بالحق .
ومعلوم أنه صلوات الله وسلامه عليه لم يأمر بذلك هو ولا أحد من أصحابه ، وهو ممنوع في شريعة كل نبي من الأنبياء ، والله - جل وعلا - يقول : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 79 - 80 ] .
[ ص: 409 ] بل الذي كان يأمر به - صلى الله عليه وسلم - هو ما يأمره الله بالأمر به في قوله تعالى : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون [ 3 \ 64 ] .
واعلم أن كل عاقل إذا رأى رجلا متدينا في زعمه مدعيا حب النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وهو يعظم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمدحه بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وأنزل الماء من السماء وأنبت به الحدائق ذات البهجة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا إلى آخر ما تضمنته الآيات المتقدمة ، فإن ذلك العاقل لا يشك في أن ذلك المادح المعظم في زعمه من أعداء الله ورسوله المتعدين لحدود الله .
وقد علمت من الآيات المحكمات أنه لا فرق بين ذلك وبين إجابة المضطرين وكشف السوء عن المكروبين .
فعلينا معاشر المسلمين أن ننتبه من نومة الجهل وأن نعظم ربنا بامتثال أمره واجتناب نهيه ، وإخلاص العبادة له ، وتعظيم نبينا - صلى الله عليه وسلم - باتباعه والاقتداء به في تعظيم الله والإخلاص له والاقتداء به في كل ما جاء به .
وألا نخالفه - صلى الله عليه وسلم - ولا نعصيه ، وألا نفعل شيئا يشعر بعدم التعظيم والاحترام ، كرفع الأصوات قرب قبره - صلى الله عليه وسلم - وقصدنا النصيحة والشفقة لإخواننا المسلمين ليعملوا بكتاب الله ، ويعظموا نبيه - صلى الله عليه وسلم - تعظيم الموافق لما جاء به - صلى الله عليه وسلم - ويتركوا ما يسميه الجهلة محبة وتعظيما وهو في الحقيقة احتقار وازدراء وانتهاك لحرمات الله ، ورسوله - صلى الله عليه وسلم : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا [ 4 \ 123 - 124 ] .
واعلم أيضا رحمك الله : أنه لا فرق بين ما ذكرنا من إجابة المضطر وكشف السوء عن المكروب ، وبين تحصيل المطالب التي لا يقدر عليها إلا الله ، كالحصول على الأولاد والأموال وسائر أنواع الخير .
[ ص: 410 ] فإن التجاء العبد إلى ربه في ذلك أيضا من خصائص ربوبيته - جل وعلا - كما قال تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض [ 10 \ 31 ] وقال تعالى : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له [ 29 \ 17 ] وقال تعالى : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور [ 42 \ 49 ] وقال تعالى : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات [ 16 \ 72 ] وقال تعالى : واسألوا الله من فضله [ 4 \ 32 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وفي الحديث : " إذا سألت فاسأل الله " .
وقد أثنى الله - جل وعلا - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالتجائهم إليه وقت الكرب يوم بدر في قوله : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم [ 8 \ 9 ] ، فنبينا - صلى الله عليه وسلم - كان هو وأصحابه إذا أصابهم أمر أو كرب التجئوا إلى الله وأخلصوا له الدعاء ، فعلينا أن نتبع ولا نبتدع .
تنبيه
اعلم أنه يجب على كل مسلم أن يتأمل في معنى العبادة ، وهي تشمل جميع ما أمر الله أن يتقرب إليه به من جميع القربات فيخلص تقربه بذلك إلى الله ولا يصرف شيئا منه لغير الله كائنا ما كان .
والظاهر أن ذلك يشمل هيئات العبادة فلا ينبغي للمسلم عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يضع يده اليمنى على اليسرى كهيئة المصلي ، لأن هيئة الصلاة داخلة في جملتها فينبغي أن تكون خالصة لله ، كما كان - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه يخلصون العبادات وهيئاتها لله وحده .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .
نزلت هذه الآية الكريمة في الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وقد أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بني المصطلق ليأتيهم بصدقات أموالهم فلما سمعوا به تلقوه فرحا به ، فخاف منهم وظن أنهم يريدون قتله ، فرجع إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وزعم له أنهم منعوا الصدقة وأرادوا قتله ، فقدم وفد منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه بكذب الوليد ، فأنزل الله هذه الآية ، وهي تدل على عدم تصديق الفاسق في خبره .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:52 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (513)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 411 إلى صـ 418
[ ص: 411 ] وصرح تعالى في موضع آخر بالنهي عن قبول شهادة الفاسق ، وذلك في قوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، ولا خلاف بين العلماء في رد شهادة الفاسق وعدم قبول خبره .
وقد دلت هذه الآية من سورة الحجرات على أمرين :
الأول منهما : أن الفاسق إن جاء بنبأ ممكن معرفة حقيقته ، وهل ما قاله فيه الفاسق حق أو كذب - فإنه يجب فيه التثبت .
والثاني : هو ما استدل عليه بها أهل الأصول من قبول خبر العدل لأن قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا بدل بدليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته أن الجائي بنبأ إن كان غير فاسق بل عدلا لا يلزم التبين في نبئه على قراءة : فتبينوا . ولا التثبت على قراءة : فتثبتوا ، وهو كذلك .
وأما شهادة الفاسق فهي مردودة كما دلت عليه آية النور المذكورة آنفا .
وقد قدمنا معنى الفسق وأنواعه في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
وقوله : أن تصيبوا قوما أي لئلا تصيبوا قوما ، أو كراهة أن تصيبوا قوما بجهالة ، أي لظنكم النبأ الذي جاء به الفاسق حقا فتصبحوا على ما فعلتم من إصابتكم للقوم المذكورين نادمين لظهور كذب الفاسق فيما أنبأ به عنهم ; لأنهم لو لم يتبينوا في نبأ الوليد عن بني المصطلق لعاملوهم معاملة المرتدين ؟ ولو فعلوا ذلك لندموا .
وقرأ هذا الحرف عامة السبعة غير حمزة والكسائي : فتبينوا بالباء التحتية الموحدة بعدها مثناة تحتية مشددة ثم نون ، وقرأه حمزة والكسائي : " فتثبتوا " بالثاء المثلثة بعدها ياء تحتية موحدة مشددة ، ثم تاء مثناة فوقية .
والأول من التبين ، والثاني من التثبت .
ومعنى القراءتين واحد ، وهو الأمر بالتأني وعدم العجلة حتى تظهر الحقيقة فيما أنبأ به الفاسق .
[ ص: 412 ] قوله تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان .
وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أنه هو الذي حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم ، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان - جاء موضحا في آيات كثيرة ، مصرح فيها بأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كقوله تعالى : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا [ 18 \ 17 ] .
وقوله تعالى : ومن يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه [ 17 \ 97 ] .
وقوله تعالى : من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون [ 7 \ 178 ] .
وقوله تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 7 - 8 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، نرجو الله الرحيم الكريم أن يهدينا وألا يضلنا .
قوله تعالى : إنما المؤمنون إخوة .
هذه الأخوة التي أثبت الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة للمؤمنين بعضهم لبعض هي أخوة الدين لا النسب .
وقد بين تعالى أن الأخوة تكون في الدين في قوله تعالى : فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين [ 33 \ 5 ] .
وقد قدمنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] أن الأخوة الدينية أعظم وأقوى من الأخوة النسبية ، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن . قوله : لا يسخر قوم من قوم أي لا يستخفوا ولا يستهزئوا بهم ، والعرب تقول : سخر منه بكسر الخاء ، يسخر بفتح الخاء على القياس ، إذا استهزأ به واستخف .
[ ص: 413 ] وقد نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة عن السخرية من الناس ، مبينا أن المسخور منه قد يكون خيرا من الساخر .
ومن أقبح القبيح استخفاف الدنيء الأرذل بالأكرم الأفضل ، واستهزاؤه به .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي عن السخرية جاء ذم فاعله وعقوبته عند الله في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم [ 9 \ 79 ] .
وقد بين تعالى أن الكفار المترفين في الدنيا كانوا يسخرون من ضعاف المؤمنين في دار الدنيا ، وأن أولئك يسخرون من الكفار يوم القيامة ، كما قال تعالى : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] ، وقال تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون إلى قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون [ 83 \ 29 - 36 ] .
فلا ينبغي لمن رأى مسلما في حالة رثة تظهر بها عليه آثار الفقر والضعف أن يسخر منه ؛ لهذه الآيات التي ذكرنا .
قوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم .
أي لا يلمز أحدكم أخاه كما تقدم إيضاحه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
وقد أوعد الله - جل وعلا - الذين يلمزون الناس في قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة [ 104 \ 12 ] ، والهمزة كثير الهمز للناس ، واللمزة كثير اللمز .
قال بعض العلماء : الهمز يكون بالفعل كالغمز بالعين احتقارا وازدراء ، واللمز باللسان ، وتدخل فيه الغيبة .
وقد صرح الله تعالى بالنهي عن ذلك في قوله : ولا يغتب بعضكم بعضا [ 49 \ 12 ] ، ونفر عنه غاية التنفير في قوله تعالى : أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه [ 49 \ 12 ] ، فيجب على المسلم أن يتباعد كل التباعد من الوقوع في عرض أخيه .
[ ص: 414 ] قوله تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه خلق الناس من ذكر وأنثى ، ولم يبين هنا كيفية خلقه للذكر والأنثى المذكورين ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من كتاب الله ، فبين أنه خلق ذلك الذكر الذي هو آدم من تراب ، وقد بين الأطوار التي مر بها ذلك التراب ، كصيرورته طينا لازبا وحمأ مسنونا وصلصالا كالفخار .
وبين أنه خلق تلك الأنثى التي هي حواء من ذلك الذكر الذي هو آدم فقال في سورة النساء : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] وقال تعالى في الأعراف : هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ 7 \ 189 ] ، وقال تعالى في الزمر : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها [ 39 \ 6 ] .
وقد قدمنا أنه خلق نوع الإنسان على أربعة أنواع مختلفة :
الأول منها : خلقه لا من أنثى ولا من ذكر وهو آدم عليه السلام .
والثاني : خلقه من ذكر بدون أنثى وهو حواء .
والثالث : خلقه من أنثى بدون ذكر وهو عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
الرابع : خلقه من ذكر وأنثى وهو سائر الآدميين ، وهذا يدل على كمال قدرته - جل وعلا .
مسألة
قد دلت هذه الآيات القرآنية المذكورة على أن المرأة الأولى كان وجودها الأول مستندا إلى وجود الرجل وفرعا عنه .
وهذا أمر كوني قدري من الله ، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه .
وقد جاء الشرع الكريم المنزل من الله ليعمل به في أرضه بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي .
فجعل الرجل قائما عليها وجعلها مستندة إليه في جميع شئونها كما قال تعالى : [ ص: 415 ] الرجال قوامون على النساء الآية [ 4 \ 34 ] .
فمحاولة استواء المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة لا يمكن أن تتحقق ؛ لأن الفوارق بين النوعين كونا وقدرا أولا ، وشرعا منزلا ثانيا - تمنع من ذلك منعا باتا .
ولقوة الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى ، صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن المتشبه من النوعين بالآخر .
ولا شك أن سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر ، لتحطيم هذه الفوارق التي لا يمكن أن تتحطم .
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : " لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال " .
وقد قدمنا هذا الحديث بسنده في سورة بني إسرائيل ، وبينا هناك أن من لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو ملعون في كتاب الله ، فلو كانت الفوارق بين الذكر والأنثى يمكن تحطيمها وإزالتها لم يستوجب من أراد ذلك اللعن من الله ورسوله .
ولأجل تلك الفوارق العظيمة الكونية القدرية بين الذكر والأنثى ، فرق الله - جل وعلا - بينهما في الطلاق ، فجعله بيد الرجل دون المرأة ، وفي الميراث ، وفي نسبة الأولاد إليه .
وفي تعدد الزوجات دون الأزواج : صرح بأن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان الآية [ 2 \ 282 ] ، فالله الذي خلقهما لا شك أنه أعلم بحقيقتهما ، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة .
وقد قال تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى [ 53 \ 21 - 22 ] ، أي غير عادلة لعدم استواء النصيبين لفضل الذكر على الأنثى .
ولذلك وقعت امرأة عمران في مشكلة لما ولدت مريم ، كما قال تعالى عنها : فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى الآية [ 3 \ 36 ] فامرأة عمران تقول : وليس الذكر كالأنثى ، وهي صادقة في ذلك بلا شك .
[ ص: 416 ] والكفرة وأتباعهم يقولون : إن الذكر والأنثى سواء .
ولا شك عند كل عاقل في صدق هذه السالبة وكذب هذه الموجبة .
وقد أوضحنا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] وجه الحكمة في جعل الطلاق بيد الرجل وتفضيل الذكر على الأنثى في الميراث وتعدد الزوجات ، وكون الولد ينسب إلى الرجل ، وذكرنا طرفا من ذلك في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : وللرجال عليهن درجة [ 2 \ 228 ] ، وبينا أن الفوارق الطبيعية بينهما كون الذكورة شرفا وكمالا وقوة طبيعية خلقية ، وكون الأنوثة بعكس ذلك .
وبينا أن العقلاء جميعا مطبقون على الاعتراف بذلك ، وأن من أوضح الأدلة التي بينها القرآن على ذلك اتفاق العقلاء على أن الأنثى من حين نشأتها تحلى بأنواع الزينة من حلي وحلل ، وذلك لجبر النقص الجبلي الخلقي الذي هو الأنوثة كما قال الشاعر :
وما الحلي إلا زينة من نقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا وقد بينا أن الله تعالى أوضح هذا بقوله : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ 43 \ 18 ] ، فأنكر على الكفار أنهم مع ادعاء الولد له تعالى جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما خلقة وجبلة وهو الأنثى .
ولذلك نشأت في الحلية من صغرها ، لتغطية النقص الذي هو الأنوثة وجبره بالزينة ، فهو في الخصام غير مبين .
لأن الأنثى لضعفها الخلقي الطبيعي لا تقدر أن تبين في الخصام إبانة الفحول الذكور ، إذا اهتضمت وظلمت لضعفها الطبيعي .
وإنكار الله تعالى على الكفار أنهم مع ادعائهم له الولد جعلوا له أنقص الولدين وأضعفهما - كثير في القرآن كقوله تعالى : أاصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون [ 37 \ 153 - 154 ] ، وقوله : أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، وقوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [ 39 \ 4 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
[ ص: 417 ] وأما الذكر فإنه لا ينشأ في الحلية ، لأن كمال ذكورته وشرفها وقوتها الطبيعية التي لا تحتاج معه إلى التزين بالحلية التي تحتاج إليه الأنثى ، لكماله بذكورته ونقصها بأنوثتها .
ومما لا نزاع فيه بين العقلاء أن الذكر والأنثى إذا تعاشرا المعاشرة البشرية الطبيعية التي لا بقاء للبشر دونها ، فإن المرأة تتأثر بذلك تأثرا طبعيا كونيا قدريا مانعا لها من مزاولة الأعمال كالحمل والنفاس وما ينشأ عن ذلك من الضعف والمرض والألم .
بخلاف الرجل فإنه لا يتأثر بشيء من ذلك ، ومع هذه الفوارق لا يتجرأ على القول بمساواتهما في جميع الميادين إلا مكابر في المحسوس ، فلا يدعو إلى المساواة بينهما إلا من أعمى الله بصيرته .
وقد قدمنا في الموضعين اللذين أشرنا لهما من هذا الكتاب المبارك ما يكفي المنصف ، فأغنى عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .
لما كان قوله تعالى : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ 49 \ 13 ] ، يدل على استواء الناس في الأصل ; لأن أباهم واحد وأمهم واحدة وكان في ذلك أكبر زاجر عن التفاخر بالأنساب وتطاول بعض الناس على بعض ، بين تعالى أنه جعلهم شعوبا وقبائل لأجل أن يتعارفوا أي يعرف بعضهم بعضا ، ويتميز بعضهم عن بعض لا لأجل أن يفتخر بعضهم على بعض ويتطاول عليه .
وذلك يدل على أن كون بعضهم أفضل من بعض وأكرم منه إنما يكون بسبب آخر غير الأنساب .
وقد بين الله ذلك هنا بقوله : إن أكرمكم عند الله [ 49 \ 13 ] ، فاتضح من هذا أن الفضل والكرم إنما هو بتقوى الله لا بغيره من الانتساب إلى القبائل ، ولقد صدق من قال :
فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وقد ذكروا أن سلمان رضي الله عنه كان يقول :
[ ص: 418 ]
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وهذه الآيات القرآنية ، تدل على أن دين الإسلام سماوي صحيح ، لا نظر فيه إلى الألوان ولا إلى العناصر ، ولا إلى الجهات ، وإنما المعتبر فيه تقوى الله - جل وعلا - وطاعته ، فأكرم الناس وأفضلهم أتقاهم لله ، ولا كرم ولا فضل لغير المتقي ، ولو كان رفيع النسب .
والشعوب جمع شعب ، وهو الطبقة الأولى من الطبقات الست التي عليها العرب وهي : الشعب ، والقبيلة ، والعمارة ، والبطن ، والفخذ ، والفصيلة .
فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ يجمع الفصائل .
خزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس فصيلة .
وسميت الشعوب ، لأن القبائل تتشعب منها . ا هـ .
ولم يذكر من هذه الست في القرآن إلا ثلاث : الشعوب ، والقبائل كما في هذه الآية ، والفصيلة في المعارج في قوله : وفصيلته التي تؤويه [ 70 \ 13 ] ، وقد قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات موضحا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
واعلم أن العرب قد تطلق بعض هذه الست على بعض كإطلاق البطن على القبيلة في قول الشاعر :
وإن كلابا هذه عشر أبطن وأنت بريء من قبائلها العشر
كما قدمناه في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : ثلاثة قروء [ 2 \ 228 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:55 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (514)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ .
صـ 419 إلى صـ 426
قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن هؤلاء الأعراب وهم أهل البادية من العرب [ ص: 419 ] قالوا آمنا ، وأن الله - جل وعلا - أمر نبيه أن يقول لهم : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ، وهذا يدل على نفي الإيمان عنهم وثبوت الإسلام لهم .
وذلك يستلزم أن الإيمان أخص من الإسلام لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم .
وقد قدمنا مرارا أن مسمى الإيمان الشرعي الصحيح والإسلام الشرعي الصحيح - هو استسلام القلب بالاعتقاد واللسان بالإقرار ، والجوارح بالعمل ، فمؤداهما واحد كما يدل له قوله تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 \ 35 - 36 ] .
وإذا كان ذلك كذلك فإنه يحتاج إلى بيان وجه الفرق بين الإيمان والإسلام في هذه الآية الكريمة ، لأن الله نفى عنهم الإيمان دون الإسلام ، ولذلك وجهان معروفان عند العلماء أظهرهما عندي أن الإيمان المنفي عنهم في هذه الآية هو مسماه الشرعي الصحيح ، والإسلام المثبت لهم فيها هو الإسلام اللغوي الذي هو الاستسلام والانقياد بالجوارح دون القلب .
وإنما ساغ إطلاق الحقيقة اللغوية هنا على الإسلام مع أن الحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية على الصحيح ، لأن الشرع الكريم جاء باعتبار الظاهر . وأن توكل كل السرائر إلى الله .
فانقياد الجوارح في الظاهر بالعمل واللسان بالإقرار يكتفى به شرعا ، وإن كان القلب منطويا على الكفر .
ولهذا ساغ إرادة الحقيقة اللغوية في قوله : ولكن قولوا أسلمنا ; لأن انقياد اللسان والجوارح في الظاهر إسلام لغوي مكتفى به شرعا عن التنقيب عن القلب .
وكل انقياد واستسلام وإذعان يسمى إسلاما لغة . ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل العدوي مسلم الجاهلية :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها
جميعا وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا [ ص: 420 ] وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الريح تصرف حالا فحالا فالمراد بالإسلام في هذه الأبيات : الاستسلام والانقياد ، وإذا حمل الإسلام في قوله : ولكن قولوا أسلمنا انقدنا واستسلمنا بالألسنة والجوارح . فلا إشكال في الآية .
وعلى هذا القول فالأعراب المذكورون منافقون ، لأنهم مسلمون في الظاهر ، وهم كفار في الباطن .
الوجه الثاني : أن المراد بنفي الإيمان في قوله : لم تؤمنوا نفي كمال الإيمان ، لا نفيه من أصله .
وعليه فلا إشكال أيضا ، لأنهم مسلمون مع أن إيمانهم غير تام ، وهذا لا إشكال فيه عند أهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص .
وإنما استظهرنا الوجه الأول ، وهو أن المراد بالإسلام معناه اللغوي دون الشرعي ، وأن الأعراب المذكورين كفار في الباطن وإن أسلموا في الظاهر ، لأن قوله - جل وعلا : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم [ 49 \ 14 ] ، يدل على ذلك دلالة كما ترى ، لأن قوله : يدخل فعل في سياق النفي وهو من صيغ العموم كما أوضحناه مرارا ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :
ونحو لا شربت أو إن شربا واتفقوا إن مصدر قد جلبا
فقوله : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم : في معنى لا دخول للإيمان في قلوبكم .
والذين قالوا بالثاني . قالوا : إن المراد بنفي دخوله نفي كماله ، والأول أظهر كما ترى .
وقوله تعالى : في هذه الآية الكريمة : قالت الأعراب : المراد به بعض الأعراب ، وقد استظهرنا أنهم منافقون لدلالة القرآن على ذلك ، وهم من جنس الأعراب الذين قال الله فيهم : ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر [ 9 \ 98 ] ، وإنما قلنا : إن المراد بعض الأعراب في هذه الآية ، لأن الله بين في موضع آخر أن منهم من ليس كذلك ، وذلك في قوله تعالى : [ ص: 421 ] ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .
قوله تعالى : قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم . لما قال هؤلاء الأعراب : آمنا ، وأمر الله نبيه أن يكذبهم في قوله : قل لم تؤمنوا وقوله : ولما يدخل الإيمان في قلوبكم أمر نبيهم أن يقول لهم بصيغة الإنكار : أتعلمون الله بدينكم وذلك بادعائكم أنكم مؤمنون والله لا يخفى عليه شيء من حالكم ، وهو عالم بأنكم لم تؤمنوا وعالم بكل ما في السماوات والأرض ، وعالم بكل شيء .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تقبيح تزكية النفس بالكذب جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
قوله تعالى : إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] .
[ ص: 422 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ ق .
قَوْلُهُ تَعَالَى : ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ .
الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ مَحْذُوفٌ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَالْمُقْسَمِ عَلَيْهِ الْمَحْذُوفِ فِي سُورَةِ ص ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهَا .
وقوله تعالى هنا : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد . قد قدمنا في سورة ص أن من المقسم عليه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صادق وأن رسالته حق ، كما دل عليه قوله في ص : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] ، وقد دل على ذلك قوله هنا : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، وقد قدمنا في " ص " أنه يدخل في المقسم عليه تكذيب الكفار في إنكارهم البعث ، ويدل عليه قوله هنا : فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ، والحاصل أن المقسم عليه في ص ، بقوله : والقرآن ذي الذكر [ 38 \ 1 ] ، وفي " ق " بقوله : والقرآن المجيد - محذوف وهو تكذيب الكفار في إنكارهم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنكارهم البعث ، وإنكارهم كون المعبود واحدا ، وقد بينا الآيات الدالة على ذلك في سورة ص ، وذكرنا هناك أن كون المقسم عليه في سورة ق هذه المحذوف يدخل فيه إنكارهم لرسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدليل قوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وتكذيبهم في إنكارهم للبعث بدليل قوله : فقال الكافرون هذا شيء عجيب وبينا وجه إيضاح ذلك بالآيات المذكورة هناك وغيرها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج .
الهمزة في قوله : أفلم تتعلق بمحذوف ، والفاء عاطفة عليه ، كما قدمنا مرارا أنه أظهر الوجهين ، وأنه أشار إليه في الخلاصة بقوله :
[ ص: 423 ] وحذف متبوع بدا هنا استبح والتقدير : أأعرضوا عن آيات الله فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج . أي ليس فيها من شقوق ولا تصدع ولا تفطر ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تعظيم شأن كيفية بنائه تعالى للسماء وتزيينه لها وكونها لا تصدع ولا شقوق فيها جاء كله موضحا في آيات أخر كقوله - جل وعلا - في بنائه للسماء : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها [ 79 \ 27 - 28 ] ، وقوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون [ 51 \ 47 ] ، وقوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] ، وقوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] ، وقوله تعالى : ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين [ 23 \ 17 ] ، وقوله تعالى في أول الرعد : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش [ 13 \ 2 ] ، وقوله تعالى في لقمان : خلق السماوات بغير عمد ترونها الآية [ 31 \ 10 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وكقوله تعالى في تزيينه للسماء ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ 67 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا الآية [ 41 \ 12 ] ، وقوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] ، وقوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين [ 15 \ 6 ] ، وكقوله تعالى في حفظه للسماء من أن يكون فيها فروج أي شقوق : فارجع البصر هل ترى من فطور [ 67 \ 3 ] ، والفطور والفروج بمعنى واحد ، وهو الشقوق والصدوع . وقوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون [ 21 \ 32 ] .
أما إذا كان يوم القيامة فإن السماء تتشقق وتتفطر ، وتكون فيها الفروج كما قال تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام [ 25 \ 25 ] ، وقال تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة [ 55 \ 37 ] ، وقال تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء الآية [ 69 \ 16 ] ، وقال تعالى : إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت [ 84 \ 1 - 2 ] ، وقال تعالى : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] ، وقال تعالى : يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] ، وقال تعالى : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت [ 77 \ 8 - 9 ] .
[ ص: 424 ] قوله تعالى : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه مد الأرض وألقى فيها الجبال الرواسي وأنبت فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ، وهذا الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله ، كقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين إلى قوله : لقوم يتفكرون ، وكقوله : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه [ 31 \ 10 - 11 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : كل زوج بهيج أي من كل صنف حسن من أصناف النبات ، وقوله : تبصرة أي قدرنا الأرض وألقينا فيها الرواسي وأنبتنا فيها أصناف النبات الحسنة لأجل أن نبصر عبادنا كمال قدرتنا على البعث وعلى كل شيء وعلى استحقاقنا للعبادة دون غيرنا .
قوله تعالى : وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج .
قوله : كذلك الخروج ، معناه أن الله تبارك وتعالى : يبين أن إحياء الأرض بعد موتها بإنبات النبات فيها بعد انعدامه واضمحلاله - دليل على بعث الناس بعد الموت بعد كونهم ترابا وعظاما ، فقوله : كذلك الخروج يعني أن خروج الناس أحياء من قبورهم بعد الموت كخروج النبات من الأرض بعد عدمه ، بجامع استواء الجميع في أنه جاء بعد عدم ، وهذا أحد براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في صدر سورة البقرة وأول النحل وأول الجاثية ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : كل كذب الرسل فحق وعيد .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من كذب الرسل يحق عليه العذاب ، أي يتحتم ويثبت في حقه ثبوتا لا يصح معه تخلفه عنه ، وهو دليل واضح على أن ما قاله بعض أهل [ ص: 425 ] العلم من أن الله يصح أن يخلف وعيده ، لأنه قال : إنه لا يخلف وعده ولم يقل إنه لا يخلف وعيده ، وأن إخلاف الوعيد حسن لا قبيح ، وإنما القبيح هو إخلاف الوعد ، وأن الشاعر قال :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي لا يصح بحال ، لأن وعيده تعالى للكفار حق ووجب عليهم بتكذيبهم للرسل كما دل عليه قوله هنا : كل كذب الرسل فحق وعيد .
وقد تقرر في الأصول أن الفاء من حروف العلة كقوله : سها فسجد ، أي لعلة سهوه وسرق فقطعت يده ، أي لعلة سرقته ، ومنه قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، فتكذيبهم الرسل علة صحيحة لكون الوعيد بالعذاب حق ووجب عليهم ، فدعوى جواز تخلفه باطلة بلا شك ، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، والتحقيق : أن المراد بالقول الذي لا يبدل لديه هو الوعيد الذي قدم به إليهم .
وقوله تعالى في سورة " ص " إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] ، وبهذا تعلم أن الوعيد الذي لا يمتنع إخلافه هو وعيد عصاة المسلمين بتعذيبهم على كبائر الذنوب ، لأن الله تعالى أوضح ذلك في قوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] ، وهذا في الحقيقة تجاوز من الله عن ذنوب عباده المؤمنين العاصين ، ولا إشكال في ذلك ، وقد أوضحنا هذا في كتابنا : " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله [ 6 \ 128 ] .
قوله تعالى : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد .
هذه الآية الكريمة من براهين البعث ، لأن من لم يعي بخلق الناس ولم يعجز عن إيجادهم الأول لا شك في قدرته على إعادتهم وخلقهم مرة أخرى ; لأن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من البدء . والآيات الدالة على هذا كثيرة جدا ، كقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] ، [ ص: 426 ] وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد أوضحنا الآيات الدالة على براهين البعث التي يكثر الاستدلال عليه بها في القرآن ، كخلق الناس أولا ، وخلق السماوات والأرض وما فيهما وإحياء الأرض بعد موتها ، وغير ذلك في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك في البقرة والنحل والحج والجاثية وغير ذلك ، وأحلنا على ذلك مرارا كثيرة .
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور [ 11 \ 5 ] .
قوله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .
قوله إذ : منصوب بقوله : أقرب ، أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان جميع ما يصدر منه ، والمراد أن الذي خلق الإنسان ويعلم ما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد في وقت كتابة الحفظة أعماله لا حاجة له لكتب الأعمال ، لأنه عالم بها ، لا يخفى عليه منها شيء ، وإنما أمر بكتابة الحفظة للأعمال لحكم أخرى كإقامة الحجة على العبد يوم القيامة ، كما أوضحه بقوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، ومفعول التلقي في الفعل الذي هو يتلقى ، والوصف الذي هو المتلقيان محذوف تقديره : إذ يتلقى المتلقيان جميع ما يصدر عن الإنسان فيكتبانه عليه .
قال الزمخشري : والتلقي التلقن بالحفظ والكتابة ا هـ منه ، والمعنى واضح لأن الملك يتلقى عمل الإنسان عند صدوره منه فيكتبه عليه ، والمتلقيان هما الملكان اللذان يكتبان أعمال الإنسان ، وقد دلت الآية الكريمة على أن مقعد أحدهما عن يمينه ومقعد الآخر عن شماله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-16, 11:59 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (515)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 427 إلى صـ 434
[ ص: 427 ] والقعيد : قال بعضهم : معناه القاعد ، والأظهر أن معناه المقاعد ، وقد يكثر في العربية إطلاق الفعيل وإرادة المفاعل ، كالجليس بمعنى المجالس ، والأكيل بمعنى المآكل ، والنديم بمعنى المنادم ، وقال بعضهم : القعيد هنا هو الملازم ، وكل ملازم دائما أو غالبا يقال له قعيد ، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي :
قعيدك ألا تسمعيني ملامة ولا تنكئي قرح الفؤاد فييجعا والمعنى عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهو أسلوب عربي معروف ، وأنشد له سيبويه في كتابه قول عمرو بن أحمر الباهلي :
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني وقول قيس بن الخطيم الأنصاري :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
وقول ضابئ بن الحارث البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
فقول ابن أحمر : كنت منه ووالدي بريئا أي كنت بريئا منه وكان والدي بريئا منه .
وقول ابن الخطيم : نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض : أي نحن راضون وأنت راض .
وقول ضابئ بن الحارث : فإني وقيار بها لغريب : يعني : إني لغريب وقيار غريب ، وهذا أسلوب عربي معروف ، ودعوى أن قوله في الآية : قعيد هي الأولى أخرت وحذفت الثانية لدلالتها عليها لا دليل عليه ، ولا حاجة إليه كما ترى ، لأن المحذوف إذا صحت الدلالة عليه بالأخير فلا حاجة إلى أن هذا الأخير أصله هو الأول ، ولا دليل عليه .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما يلفظ من قول ، أي ما ينطق بنطق ولا يتكلم بكلام إلا لديه ، أي إلا والحال أن عنده رقيبا ، أي ملكا مراقبا لأعماله حافظا لها شاهدا عليها لا يفوته منها شيء . عتيد : أي حاضر ليس بغائب يكتب عليه ما يقول من خير وشر ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإنسان عليه حفظة من الملائكة [ ص: 428 ] يكتبون أعماله ، جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله . كقوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 10 - 12 ] ، وقوله تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون [ 43 \ 80 ] ، وقوله تعالى : وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [ 45 \ 28 - 29 ]
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : كلا سنكتب ما يقول الآية [ 19 \ 79 ]
وفي سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : ستكتب شهادتهم ويسألون [ 43 \ 19 ] ، وقد ذكر جماعة من أهل العلم أن القعيد الذي هو عن اليمين يكتب الحسنات ، والذي عن الشمال يكتب السيئات ، وأن صاحب الحسنات أمين على صاحب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : أمهله ولا تكتبها عليه لعله يتوب أو يستغفر ؟ وبعضهم يقول : يمهله سبع ساعات . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه :
اعلم أن العلماء اختلفوا في عمل العبد الجائز الذي لا ثواب ولا عقاب عليه ، هل تكتبه الحفظة عليه أو لا ؟ فقال بعضهم : يكتب عليه كل شيء حتى الأنين في المرض ، وهذا هو ظاهر قوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] ; لأن قوله : " من قول " نكرة في سياق النفي زيدت قبلها لفظة " من " ، فهي نص صريح في العموم .
وقال بعض العلماء : لا يكتب من الأعمال إلا ما فيه ثواب أو عقاب ، وكلهم مجمعون على أنه لا جزاء إلا فيما فيه ثواب أو عقاب فالذين يقولون : لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب ، والذين يقولون : يكتب الجميع - متفقون على إسقاط ما لا ثواب فيه ولا عقاب ، إلا أن بعضهم يقولون : لا يكتب أصلا ، وبعضهم يقولون : يكتب أولا ، ثم يمحى . وزعم بعضهم أن محو ذلك ، وإثبات ما فيه ثواب أو عقاب هو معنى قوله تعالى : [ ص: 429 ] يمحوا الله ما يشاء ويثبت الآية [ 13 \ 39 ] .
والذين قالوا : لا يكتب ما لا جزاء فيه . قالوا : إن في الآية نعتا محذوفا سوغ حذفه العلم به ، لأن كل الناس يعلمون أن الجائز لا ثواب فيه ولا عقاب ، وتقدير النعت المحذوف : ما يلفظ من قول مستوجب للجزاء ، وقد قدمنا أن حذف النعت إذا دل عليه - أسلوب عربي معروف ، وقدمنا أن منه قوله تعالى : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أي كل سفينة صحيحة لا عيب فيها بدليل قوله : فأردت أن أعيبها [ 18 \ 79 ] ، وقوله تعالى : وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة [ 17 \ 58 ] ، أي قرية ظالمة بدليل قوله تعالى : وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [ 28 \ 59 ] ، وإن من شواهده قول المرقش الأكبر :
ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد أي لها فرع فاحم وجيد طويل . وقول عبيد بن الأبرص :
من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل
أي قول فصل ، وفعل جميل ، ونائل جزل .
قوله تعالى : لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النمل في الكلام على قوله تعالى : بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون [ 27 \ 66 ] .
قوله تعالى : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد .
قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع وشعبة عن عاصم يوم نقول بالنون الدالة على العظمة . وقرأه نافع وشعبة " يوم يقول " بالياء ، وعلى قراءتهما فالفاعل ضمير يعود إلى الله ، واعلم أن الاستفهام في قوله : هل من مزيد فيه للعلماء قولان معروفان : الأول : أن الاستفهام إنكاري كقوله تعالى : هل يهلك إلا القوم الظالمون [ 6 \ 47 ] ، أي ما يهلك إلا القوم الظالمون ، وعلى هذا فمعنى هل من مزيد لا محل للزيادة لشدة امتلاء النار ، واستدل بعضهم لهذا الوجه بآيات من كتاب الله كقوله تعالى : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 430 ] وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 11 \ 119 ] ، قال فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين [ 38 \ 84 - 85 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " يس " في الكلام على قوله تعالى : لقد حق القول على أكثرهم [ 36 \ 7 ] ، لأن إقسامه تعالى في هذه الآية المدلول عليه بلام التوطئة في " لأملأن " على أنه يملأ جهنم من الجنة والناس - دليل على أنها لا بد أن تمتلئ ، ولذا قالوا : إن معنى هل من مزيد لا مزيد ، لأني قد امتلأت فليس في محل للمزيد .
وأما القول الآخر ، فهو أن المراد بالاستفهام في قول النار : هل من مزيد ؟ هو طلبها للزيادة ، وأنها لا تزال كذلك حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول : قط قط أي كفاني قد امتلأت ، وهذا الأخير هو الأصح ، ولما ثبت في الصحيحين ، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم : " إن جهنم لا تزال تقول : هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط " ، لأن في هذا الحديث المتفق عليه التصريح بقولها : قط قط ، أي كفاني قد امتلأت ، وأن قولها قبل ذلك : هل من مزيد لطلب الزيادة ، وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الصفات ، وقد قدمنا الكلام عليها مستوفى في سورة الأعراف والقتال . واعلم أن قول النار في هذه الآية : هل من مزيد - قول حقيقي ينطقها الله به ، فزعم بعض أهل العلم أنه كقول الحوض :
امتلأ الحوض فقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني وإن المراد بقولها ذلك هو ما يفهم من حالها خلاف التحقيق ، وقد أوضحنا ذلك بأدلته في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 12 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد .
قوله : " أزلفت " أي قربت ، وقوله : " غير بعيد " فيه معنى التوكيد لقوله : " أزلفت " سواء أعربت " غير بعيد " بأنها حال أو ظرف ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إزلاف الجنة للمتقين جاء في مواضع أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت [ 81 \ 12 - 13 ] ، وقوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين [ 26 \ 90 - 91 ] .
[ ص: 431 ] قال البغوي رحمه الله في تفسير هذه الآية : غير بعيد ينظرون إليها قبل أن يدخلوها .
قوله تعالى : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد . قوله : لهم ما يشاءون فيها قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ولدينا مزيد . قال بعض العلماء : المزيد النظر إلى وجه الله الكريم ، ويستأنس لذلك بقوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، لأن الحسنى الجنة ، والزيادة النظر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين [ 43 \ 8 ] .
قوله تعالى : ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام [ 7 \ 54 ] ، وبينا هناك أن الله أوضح ذلك في فصلت في قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين - إلى قوله : فقضاهن سبع سماوات في يومين [ 41 \ 9 - 12 ] ، وأوضحنا ذلك في سورة فصلت .
واللغوب : التعب والإعياء من العمل .
قوله تعالى : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما يقوله الكفار والتسبيح بحمده - جل وعلا - أطراف النهار ، قد ذكره الله في غير هذا الموضع كقوله تعالى [ ص: 432 ] في أخريات طه : فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى [ 20 \ 130 ] ، وأمره له بالتسبيح بعد أمره له بالصبر على أذى الكفار فيه - دليل على أن التسبيح يعينه الله به على الصبر المأمور به ، والصلاة داخلة في التسبيح المذكور كما قدمنا إيضاح ذلك ، وذكرنا فيه حديث نعيم بن همار في آخر الحجر في الكلام على قوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين [ 15 \ 97 - 98 ] ، وبينا هنالك أن الله أمر بالاستعانة بالصبر وبالصلاة كما قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة الآية [ 2 \ 45 ] .
قوله تعالى : يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة " يس " في الكلام على قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
قوله تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير .
قرأ هذا الحرف نافع ، وابن كثير ، وابن عامر : " تشقق " بتشديد الشين بإدغام إحدى التاءين فيها ، وقرأ الباقون بتخفيف الشين لحذف إحدى التاءين ، وقوله تعالى : سراعا : جمع سريع ، وهو حال من الضمير المجرور في قوله : عنهم أي تشقق الأرض عنهم في حال كونهم مسرعين إلى الداعي وهو الملك الذي ينفخ في الصور ، ويدعو الناس إلى الحساب والجزاء ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الناس يوم البعث يخرجون من قبورهم مسرعين إلى المحشر قاصدين نحو الداعي ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون [ 70 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] ، وقوله : ينسلون أي يسرعون ، وقوله تعالى : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي الآية [ 54 \ 7 - 8 ] ، فقوله : مهطعين : أي مسرعين مادي أعناقهم على الأصح ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " يس " في الكلام على قوله : فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] .
[ ص: 433 ] قوله تعالى : وما أنت عليهم بجبار .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] .
قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة [ 35 \ 18 ] .
[ ص: 434 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَا تِ أَمْرًا إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ .
أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذَّارِيَاتِ الرِّيَاحُ ، وَهُوَ الْحَقُّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الذَّرْوَ صِفَةٌ مَشْهُورَةٌ مِنْ صِفَاتِ الرِّيَاحِ .
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [ 18 \ 45 ] ، وَمَعْنَى تَذْرُوهُ : تَرْفَعُهُ وَتُفَرِّقُهُ ، فَهِيَ تَذْرُو التُّرَابَ وَالْمَطَرَ وَغَيْرَهُمَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ :
وَمَنْهَلٍ آجِنٍ قَفْرٍ مَحَاضِرُهُ تَذْرُو الرِّيَاحُ عَلَى جَمَّاتِهِ الْبَعَرَا وَلَا يَخْفَى سُقُوطُ قَوْلِ مَنْ قَالَ : إِنَّ الذَّارِيَاتِ النِّسَاءُ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَامِلَاتِ وِقْرًا : السَّحَابُ ، أَيِ الْمُزْنُ تَحْمِلُ وِقْرًا ثِقَلًا مِنَ الْمَاءِ .
وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ تَصْرِيحُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - بِوَصْفِ السَّحَابِ بِالثِّقَالِ ، وَهُوَ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ ، وَذَلِكَ لِثِقَلِ السَّحَابَةِ بِوَقْرِ الْمَاءِ الَّذِي تَحْمِلُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [ 13 \ 12 ] ، وَهُوَ جَمْعُ سَحَابَةٍ ثَقِيلَةٍ ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [ 7 \ 57 ] .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ بِالْحَامِلَاتِ وِقْرًا : السُّفُنُ تَحْمِلُ الْأَثْقَالَ مِنَ النَّاسِ وَأَمْتِعَتِهُم ْ ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ : إِنَّ " الْحَامِلَاتِ وِقْرًا " الرِّيَاحُ أَيْضًا كَانَ وَجْهُهُ ظَاهِرًا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-17, 12:02 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (516)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 435 إلى صـ 442
وَدَلَالَةُ بَعْضِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ وَاضِحَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ الرِّيَاحَ تَحْمِلُ السَّحَابَ الثِّقَالَ بِالْمَاءِ ، وَإِذَا كَانَتِ الرِّيَاحُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ السَّحَابَ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ، فَنِسْبَةُ حَمْلِ ذَلِكَ الْوِقْرِ إِلَيْهَا أَظْهَرُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى السَّحَابِ الَّتِي هِيَ مَحْمُولَةٌ لِلرِّيَاحِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ [ ص: 435 ] تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [ 7 \ 57 ] .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا ، أَيْ حَتَّى إِذَا حَمَلَتِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا ، فَالْإِقْلَالُ الْحَمْلُ ، وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَى الرِّيحِ . وَدَلَالَةُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا هِيَ الرِّيَاحُ - ظَاهِرَةٌ كَمَا تَرَى ، وَيَصِحُّ شُمُولُ الْآيَةِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ هُوَ الْأَجْوَدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِيهِ ، وَكَلَامَهُمْ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ وَغَيْرِهَا .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا : هِيَ حَوَامِلُ الْأَجِنَّةِ مِنَ الْإِنَاثِ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِيَاتِ يُسْرًا : السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ يُسْرًا ، أَيْ : جَرْيًا ذَا يُسْرٍ أَيْ سُهُولَةٍ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ حَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا نَحْوَهُ مِرَارًا : أَيْ فَالْجَارِيَاتِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُيَسَّرَةً مُسَخَّرًا لَهَا الْبَحْرٌ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ كَثْرَةُ إِطْلَاقِ الْوَصْفِ بِالْجَرْيِ عَلَى السُّفُنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ [ 42 \ 32 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [ 69 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [ 22 \ 65 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [ 45 \ 12 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقِيلَ : الْجَارِيَاتُ الرِّيَاحُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْمُقَسِّمَا تِ أَمْرًا : هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُرْسِلُهَا اللَّهُ فِي شُئُونٍ وَأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمُقَسِّمَا تِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْمُدَبِّرَا تِ أَمْرًا [ 79 \ 5 ] ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِتَسْخِيرِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِكِتَابَةِ الْأَعْمَالِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِإِهْلَاكِ الْأُمَمِ ، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ صَالِحٍ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ : " أَمْرًا " مَفْعُولٌ بِهِ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْمُقَسِّمَاتُ ، وَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَمْثِلَةَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ تَنْكِيرِ الْمُفْرَدِ كَمَا [ ص: 436 ] هُنَا ، وَتَعْرِيفِهِ وَإِضَافَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [ 22 \ 5 ] ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ قَوْلُهُ : إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ، وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّوْكِيدِ هُوَ شِدَّةُ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ .
وَقَوْلُهُ : إِنَّمَا تُوعَدُونَ " مَا " فِيهِ مَوْصُولَةٌ ، وَالْعَائِدُ إِلَى الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ ، وَالْوَصْفُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ، أَيْ : إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصَادِقٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ صِيغَةَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي " لَصَادِقٌ " بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ أَوِ الْمَوْعُودَ بِهِ لَمَصْدُوقٌ فِيهِ لَا مَكْذُوبٌ بِهِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [ 69 \ 21 ] ، أَيْ مَرْضِيَّةٍ . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ صِدْقِ مَا يُوعَدُونَهُ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [ 3 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [ 6 \ 134 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [ 56 \ 3 ] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْجَزَاءُ ، أَيْ وَإِنَّ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [ 24 \ 25 ] ، أَيْ جَزَاءَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [ 53 \ 40 - 41 ] .
وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَ الْخَلْقَ لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ ظَنُّ الْكُفَّارِ ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ السَّيِّئِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ ، قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ ظَنَّ عَدَمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، وَمُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ 23 \ 115 - 116 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ 38 \ 27 ] ، فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ " ص " هَذِهِ : بَاطِلًا أَيْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ .
قوله تعالى : والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك .
[ ص: 437 ] قوله تعالى : ذات الحبك فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا ، فذهب بعض أهل العلم ، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك ، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق ، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك ، وهو جمع حبيكة أو حباك ، قالوا : ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك ، ومن هذا المعنى قول زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق بضاحي مائة حبك وقول الراجز :
كأنما جللها الحواك طنفسة في وشيها حباك
وممن نقل عنه هذا القول الكلبي والضحاك .
وقال بعض أهل العلم : " ذات الحبك " أي ذات الخلق الحسن المحكم ، وممن قال به - ابن عباس وعكرمة وقتادة .
وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 3 - 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى هذا القول فالحبك مصدر ، لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه ، تقول فيه العرب : حبكه حبكا بالفتح على القياس . والحبك بضمتين بمعناه .
وقال بعض العلماء : ذات الحبك : أي الزينة .
وممن روي عنه هذا سعيد بن جبير والحسن ، وعلى هذا القول فالآية كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح [ 67 \ 5 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في " ق " في الكلام على قوله : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها [ 50 \ 6 ] .
وقال بعض العلماء : ذات الحبك أي ذات الشدة ، وهذا القول يدل له قوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] .
[ ص: 438 ] والعرب تسمي شدة الخلق حبكا ، ومنه قيل للفرس الشديد الخلق : محبوك .
ومنه قول امرئ القيس :
قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر
والآية تشمل الجميع ، فكل الأقوال حق ، والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى : إنكم لفي قول مختلف ، أي إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وشأن القرآن ، لأن بعضهم يقول : هو شعر ، وبعضهم يقول : سحر ، وبعضهم يقول : كهانة ، وبعضهم يقول : أساطير الأولين ، وقول من قال في قول مختلف أي لأن بعضهم مصدق ، وبعضهم مكذب - خلاف التحقيق .
ويدل على أن الاختلاف إنما هو بين المكذبين دون المصدقين - قوله تعالى في ق : بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج [ 50 \ 5 ] ، أي مختلط ، وقال بعضهم : مختلف ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى : يؤفك عنه من أفك أظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري ، أن لفظة " عن " في الآية سببية كقوله تعالى : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] ، أي بسبب قولك ، ومن أجله ، والضمير المجرور بـ " عن " راجع إلى القول المختلف ، والمعنى : " يؤفك " أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله . " عنه " أي عن ذلك القول المختلف أي بسببه . " من أفك " أي من سبقت له الشقاوة في الأزل ، فحرم الهدى وأفك عنه ، لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضا ويناقضه .
ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى ، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام ، الذي يقول فيه بعضهم : إن الرسول ساحر ، وبعضهم يقول شاعر ، وبعضهم يقول : كذاب - ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض ، فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف ، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه .
وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صالي الجحيم [ 37 \ 161 - 163 ] .
[ ص: 439 ] ومعنى هذه الآية أن دين الكفار ، الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان ، مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه " ما هم بفاتنين " أي ليسوا بمضلين عليه أحدا لظهور فساده وبطلانه " إلا من هو صال الجحيم " أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه ، هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة .
وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله : يؤفك عنه راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن ، أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن ، من أفك أي صرف عن الحق ، وحرم الهدى لشدة ظهور الحق في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن منزل من الله ، وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى .
وقول من قال : يؤفك عنه ، أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك ، أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه .
والذين قالوا هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل ، وعن الباطل إلى الحق ، ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه الإفك مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون .
لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه على أن سبب نيل هذه الجنات والعيون هو تقوى الله ، والسبب الشرعي هو العلة الشرعية على الأصح . وكون التقوى سبب دخول الجنات الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .
قوله تعالى : وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الجاثية .
قوله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون .
[ ص: 440 ] اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء ، فذهبت جماعة من أهل العلم أن المراد أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر وهو نازل من السماء ، ويكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر لهذا المعنى ، كقوله تعالى : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] .
وقوله تعالى : واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق [ 45 \ 5 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة المؤمن .
وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده ، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا ، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق .
وقال بعض أهل العلم : معنى قوله : وفي السماء رزقكم أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة ، والله - جل وعلا - يدبر أمر الأرض من السماء ، كما قال تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه الآية [ 32 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وما توعدون " ما " في محل رفع ، عطف على قوله : رزقكم ، والمراد بما يوعدون ، قال بعض أهل العلم : الجنة ، لأن الجنة فوق السماوات ، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح ، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور ، قال فيه : بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال له - صلى الله عليه وسلم : " إلى أين يا أبا ليلى . قال : إلى الجنة ، قال : نعم إن شاء الله " .
وقال بعض أهل العلم : وما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء ، كما بيناه في القول الثاني في المراد بالرزق في الآية ، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب لهذا القول الثاني في معنى الرزق .
وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع ، فمن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية وفي السماء رزقكم وما توعدون [ ص: 441 ] فقال : ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ، فدخل خربة يمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب ، وكان له أخ أحسن منه نية ، فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت .
ومن ذلك أيضا : ما ذكره الزمخشري في تفسير هذه الآية ، قال : وعن الأصمعي ، قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل علي ، فتلوت : والذاريات ، فلما بلغت قوله تعالى : وفي السماء رزقكم قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح ، وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ 51 \ 23 ] ، فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين ، قائلا ثلاثا ، وخرجت معها نفسه . انتهى .
قوله تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما .
إلى آخر القصة ، قد قدمنا إيضاحه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ونبئهم عن ضيف إبراهيم [ 15 \ 51 ] ، وفي سورة هود في القصة المذكورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم .
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا الآية [ 41 \ 16 ] .
[ ص: 442 ] قوله تعالى : فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون [ 41 \ 7 ] .
قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " ق " في الكلام على قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها الآية [ 50 \ 6 ] .
تنبيه :
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بنيناها بأيد ، ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم ، لأن قوله : بأيد ليس جمع يد : وإنما الأيد القوة ، فوزن قوله هنا بأيد فعل ، ووزن الأيدي أفعل ، فالهمزة في قوله : بأيد في مكان الفاء ، والياء في مكان العين ، والدال في مكان اللام ، ولو كان قوله تعالى : بأيد جمع يد لكان وزنه أفعلا ، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء ، والدال في مكان العين ، والياء المحذوفة لكونه منقوصا هي اللام .
والأيد ، والآد في لغة العرب بمعنى القوة ، ورجل أيد قوي ، ومنه قوله تعالى : وأيدناه بروح القدس [ 2 \ 87 ] ، أي قويناه به ، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطا فاحشا ، والمعنى : والسماء بنيناها بقوة .
قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوما إلا قالوا ساحر أو مجنون ، ثم قال : أتواصوا به ، ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال ، لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا فقال : بل هم قوم طاغون أي الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعا على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون هو اتحاد في الطغيان الذي هو مجاوزة الحد في الكفر .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-17, 12:05 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (517)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 443 إلى صـ 450
[ ص: 443 ] وهذا يدل على أنهم إنما اتفقوا ، لأن قلوب بعضهم تشبه قلوب بعض في الكفر والطغيان ، فتشابهت مقالاتهم للرسل لأجل تشابه قلوبهم .
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة البقرة : كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم [ 2 \ 118 ] .
قوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم .
نفيه - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة للوم عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه أدى الأمانة ونصح للأمة .
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وقوله تعالى : فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب [ 13 \ 40 ] ، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة معلومة .
قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يجعل الله شيئا لحكم متعددة فيذكر بعض حكمه في بعض المواضع ، فإنا نذكر بقية حكمه ، والآيات الدالة عليها ، وقد قدمنا أمثلة ذلك .
ومن ذلك القبيل هذه الآية الكريمة ، فإنها تضمنت واحدة من حكم التذكير وهي رجاء انتفاع المذكر به ، لأنه تعالى قال هنا : وذكر ، ورتب عليه قوله : فإن الذكرى تنفع المؤمنين .
ومن حكم ذلك أيضا خروج المذكر من عهدة التكليف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد جمع الله هاتين الحكمتين في قوله : قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ 7 \ 134 ] .
ومن حكم ذلك أيضا النيابة عن الرسل في إقامة حجة الله على خلقه في أرضه ; لأن الله تعالى يقول : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
[ ص: 444 ] وقد بين هذه الحجة في آخر " طه " في قوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك [ 20 \ 134 ] .
وأشار لها في القصص في قوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] .
وقد قدمنا هذه الحكم في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] .
قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
اختلف العلماء في معنى قوله : ليعبدون ، فقال بعضهم : المعنى ما خلقتهم إلا ليعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء ، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم كما يدل عليه قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] ، وهذا القول نقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان .
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق فيها المجموع وأراد بعضهم .
وأمثال ذلك كثيرة في القرآن ، ومن أوضحها قراءة حمزة والكسائي : " فإن قتلوكم فاقتلوهم " ، من القتل لا من القتال ، وقد بينا هذا في مواضع متعددة ، وذكرنا أن من شواهده العربية قول الشاعر :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا من يدي ورقاء عن رأس خالد فتراه نسب الضرب لبني عبس مع تصريحه أن الضارب الذي نبا بيده السيف عن رأس خالد يعني ابن جعفر الكلابي ، هو ورقاء يعني ابن زهير العبسي .
وقد قدمنا في الحجرات أن من ذلك قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا [ 49 \ 147 ] ، بدليل قوله : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إلى قوله : سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .
وقال بعض العلماء : معنى قوله : إلا ليعبدون : أي " إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا [ ص: 445 ] أو كرها " ، لأن المؤمن يطيع باختياره والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه ، وهذا القول رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره ، ويدل له قوله تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها [ 13 \ 15 ] ، والسجود والعبادة كلاهما خضوع وتذلل لله - جل وعلا - وقد دلت الآية على أن بعضهم يفعل ذلك طوعا وبعضهم يفعله كرها .
وعن مجاهد أنه قال : إلا ليعبدون : أي إلا ليعرفوني . واستدل بعضهم لهذا القول بقوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، ونحو ذلك من الآيات وهو كثير في القرآن ، وقد أوضحنا كثرته فيه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
وقال بعض أهل العلم : وهو مروي عن مجاهد أيضا معنى قوله : إلا ليعبدون : أي إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني من وفقته منهم لعبادتي دون غيره ، وعلى هذا القول : فإرادة عبادتهم المدلول عليها باللام في قوله : ليعبدون - إرادة دينية شرعية وهي الملازمة للأمر ، وهي عامة لجميع من أمرتهم الرسل لطاعة الله ، لا إرادة كونية قدرية ، لأنها لو كانت كذلك لعبده جميع الإنس والجن ، والواقع خلاف ذلك بدليل قوله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد إلى آخر السورة .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق - إن شاء الله - في معنى هذه الآية الكريمة إلا ليعبدون ، أي إلا لآمرهم بعبادتي وأبتليهم أي أختبرهم بالتكاليف ، ثم أجازيهم على أعمالهم ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق في معنى الآية ، لأنه تدل عليه آيات محكمات من كتاب الله ، فقد صرح تعالى في آيات من كتابه أنه خلقهم ليبتليهم أيهم أحسن عملا ، وأنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم .
قال تعالى في أول سورة هود : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء [ 11 \ 7 ] ، ثم بين الحكمة في ذلك فقال : ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين [ 11 \ 7 ] .
[ ص: 446 ] وقال تعالى في أول سورة الملك : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] .
وقال تعالى في أول سورة الكهف : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] .
فتصريحه - جل وعلا - في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق ، هي ابتلاؤهم أيهم أحسن عملا ، يفسر قوله : ليعبدون . وخير ما يفسر به القرآن - القرآن .
ومعلوم أن نتيجة العمل المقصود منه لا تتم إلا بجزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، ولذا صرح تعالى بأن حكمة خلقهم أولا وبعثهم ثانيا ، هو جزاء المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، وذلك في قوله تعالى في أول يونس : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون [ 10 \ 4 ] ، وقوله في النجم : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ 53 \ 31 ] .
وقد أنكر تعالى على الإنسان حسبانه وظنه أنه يترك سدى ، أي مهملا ، لم يؤمر ولم ينه ، وبين أنه ما نقله من طور إلى طور حتى أوجده إلا ليبعثه بعد الموت أي ويجازيه على عمله ، قال تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى إلى قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 36 - 40 ] .
والبراهين على البعث دالة على الجزاء ، وقد نزه تعالى نفسه عن هذا الظن الذي ظنه الكفار به تعالى ، وهو أنه لا يبعث الخلق ولا يجازيهم منكرا ذلك عليهم في قوله : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى [ 46 \ 3 ] .
تنبيه :
اعلم أن الآيات الدالة على حكمة خلق الله للسماوات والأرض وأهلهما وما بينهما [ ص: 447 ] قد يظن غير المتأمل أن بينهما اختلافا ، والواقع خلاف ذلك ; لأن كلام الله لا يخالف بعضه بعضا ، وإيضاح ذلك أن الله تبارك وتعالى ذكر في بعض الآيات أن حكمة خلقه للسماوات والأرض هي إعلام خلقه بأنه قادر على كل شيء ، وأنه محيط بكل شيء علما ، وذلك في قوله تعالى في آخر الطلاق : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] .
وذكر في مواضع كثيرة من كتابه أنه خلق الخلق ليبين للناس كونه هو المعبود وحده ، كقوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] ، ثم أقام البرهان على أنه إله واحد بقوله بعده : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار إلى قوله : لآيات لقوم يعقلون [ 2 \ 164 ] ، ولما قال : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] ، بين أن خلقهم برهان على أنه المعبود وحده بقوله بعده : الذي خلقكم والذين من قبلكم الآية [ 2 \ 21 ] .
والاستدلال على أن المعبود واحد بكونه هو الخالق - كثير جدا في القرآن ، وقد أوضحنا الآيات الدالة عليه في أول سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا الآية [ 25 \ 2 - 3 ] ، وفي سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء الآية [ 13 \ 16 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
وذكر في بعض الآيات أنه خلق السماوات والأرض ليبتلي الناس ، وذلك في قوله : وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .
وذكر في بعض الآيات أنه خلقهم ليجزيهم بأعمالهم وذلك في قوله : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط الآية [ 10 \ 4 ] ، وذكر في آية الذاريات هذه أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه ، فقد يظن غير العالم أن بين هذه الآيات اختلافا مع أنها لا اختلاف بينها ، لأن الحكم المذكور فيها كلها راجع إلى شيء واحد ، وهو معرفة الله وطاعته ومعرفة وعده ووعيده ، فقوله : لتعلموا أن الله على كل شيء قدير [ 65 \ 12 ] ، [ ص: 448 ] وقوله : اعبدوا ربكم الذي خلقكم [ 2 \ 21 ] راجع إلى شيء واحد هو العلم بالله ، لأن من عرف الله أطاعه ووحده .
وهذا العلم يعلمهم الله إياه ويرسل لهم الرسل بمقتضاه ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حي عن بينة ، فالتكليف بعد العلم ، والجزاء بعد التكليف ، فظهر بهذا اتفاق الآيات لأن الجزاء لا بد له من تكليف ، وهو الابتلاء المذكور في الآيات والتكليف لا بد له من علم ، ولذا دل بعض الآيات على أن حكمة الخلق للمخلوقات هي العلم بالخالق ، ودل بعضها على أنها الابتلاء ، ودل بعضها على أنها الجزاء ، وكل ذلك حق لا اختلاف فيه ، وبعضه مرتب على بعض .
وقد بينا معنى إلا ليعبدون في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ولذلك خلقهم [ 11 \ 119 ] ، وبينا هناك أن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله : ولذلك خلقهم أي ولأجل الاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم ، وفي قوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس [ 7 \ 179 ] إرادة كونية قدرية ، وأن الإرادة المدلول عليها باللام في قوله : إلا ليعبدون ، إرادة دينية شرعية .
وبينا هناك أيضا الأحاديث الدالة على أن الله خلق الخلق منقسما إلى شقي وسعيد ، وأنه كتب ذلك وقدره قبل أن يخلقهم ، وقال تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، : وقال : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] .
والحاصل : أن الله دعا جميع الناس على ألسنة رسله إلى الإيمان به وعبادته وحده وأمرهم بذلك ، وأمره بذلك مستلزم للإرادة الدينية الشرعية ، ثم إن الله - جل وعلا - يهدي من يشاء منهم ويضل من يشاء بإرادته الكونية القدرية فيصيرون إلى ما سبق به العلم من شقاوة وسعادة ، وبهذا تعلم وجه الجمع بين قوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس . وقوله : ولذلك خلقهم ، وبين قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وإنما ذكرنا أن الإرادة قد تكون دينية شرعية ، وهي ملازمة للأمر والرضا ، وقد تكون كونية قدرية وليست ملازمة لهما ، لأن الله يأمر الجميع بالأفعال المرادة منهم دينا ، ويريد ذلك كونا وقدرا من بعضهم دون بعض ، كما قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] ، [ ص: 449 ] فقوله : إلا ليطاع أي : فيما جاء به من عندنا ، لأنه مطلوب مراد من المكلفين شرعا ودينا ، وقوله : بإذن الله يدل على أنه لا يقع من ذلك إلا ما أراده الله كونا وقدرا ، والله - جل وعلا - يقول : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل ميسر لما خلق له " ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم [ 6 \ 14 ] .
قوله تعالى : فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون .
أصل الذنوب في لغة العرب الدلو ، وعادة العرب أنهم يقتسمون ماء الآبار والقلب بالدلو ، فيأخذ هذا منه ملء دلو ، ويأخذ الآخر كذلك ، ومن هنا أطلقوا اسم الذنوب التي هي الدلو على النصيب . قال الراجز في اقتسامهم الماء بالدلو :
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب ويروى :
إنا إذا شاربنا شريب له ذنوب ولنا ذنوب
فإن أبى كان لنا القليب ومن إطلاق الذنوب على مطلق النصيب قول علقمة بن عبدة التميمي ، وقيل عبيد :
وفي كل حي قد خبطت بنعمة فحق لشأس من نداك ذنوب
وقول أبي ذؤيب :
لعمرك والمنايا طارقات لكل بني أب منها ذنوب
فالذنوب في البيتين النصيب ، ومعنى الآية الكريمة : فإن للذين ظلموا بتكذيب [ ص: 450 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ذنوبا ، أي نصيبا من عذاب الله مثل ذنوب أصحابهم من الأمم الماضية من العذاب لما كذبوا رسلهم .
وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين [ 39 \ 50 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فلا يستعجلون قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات [ 13 \ 6 ] ، وفي سورة مريم في الكلام على قوله : فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا [ 19 \ 84 ] ، وغير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من تهديد الكفار بالويل من يوم القيامة لما ينالهم فيه من عذاب النار - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى في " ص " : فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقوله في إبراهيم : وويل للكافرين من عذاب شديد [ 14 \ 2 ] ، وقوله في المرسلات : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقد قدمنا أن كلمة وويل ، قال فيها بعض أهل العلم : إنها مصدر لا فعل له من لفظه ، ومعناه الهلاك الشديد ، وقيل : هو واد في جهنم تستعيذ من حره ، والذي سوغ الابتداء بهذه النكرة أن فيها معنى الدعاء .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-17, 12:20 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (518)
سُورَةُ الطُّورِ .
صـ 451 إلى صـ 458
[ ص: 451 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الطُّورِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ .
هَذِهِ الْأَقْسَامُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا تَعَالَى فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْسَمَ بِبَعْضِهَا بِخُصُوصِهِ ، وَأَقْسَمَ بِجَمِيعِهَا فِي آيَةٍ عَامَّةٍ لَهَا وَلِغَيْرِهَا .
أَمَّا الَّذِي أَقْسَمَ مِنْهَا إِقْسَامًا خَاصًّا فَهُوَ الطُّورُ ، وَالْكِتَابُ الْمَسْطُورُ ، وَالسَّقْفُ الْمَرْفُوعُ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الطُّورَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِالطُّورِ فِي قَوْلِهِ : وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ [ 95 \ 21 ] .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمَسْطُورَ هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ مِنَ الْإِقْسَامِ بِهِ فِي كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [ 43 \ 1 - 2 ] ، [ 44 \ 1 - 2 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [ 36 \ 1 - 2 ] ، وَقِيلَ : هُوَ كِتَابُ الْأَعْمَالِ ، وَقِيلَ : غَيْرُ ذَلِكَ .
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ : هُوَ السَّمَاءُ ، وَقَدْ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [ 51 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [ 85 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [ 91 \ 5 ] ، وَالرَّقُّ بِفَتْحِ الرَّاءِ كُلُّ مَا يُكْتَبُ فِيهِ مِنْ صَحِيفَةٍ وَغَيْرِهَا ، وَقِيلَ هُوَ الْجِلْدُ الْمُرَقَّقُ لِيُكْتَبَ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ : مَنْشُورٍ أَيْ مَبْسُوطٍ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا [ 17 \ 13 ] ، وَقَوْلُهُ : بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [ 74 \ 52 ] .
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ : هُوَ الْبَيْتُ الْمَعْرُوفُ فِي السَّمَاءِ الْمُسَمَّى بِالضُّرَاحِ بِضَمِّ الضَّادِ ، وَقِيلَ فِيهِ مَعْمُورٌ ، لِكَثْرَةِ مَا يَغْشَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُتَعَبِّدِي نَ ، فَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ : " أَنَّهُ يَزُورُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ، وَلَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ بَعْدَهَا " .
[ ص: 452 ] وَقَوْلُهُ : وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ . أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَسْجُورَ هُوَ الْمُوقَدُ نَارًا ، قَالُوا : وَسَيَضْطَرِمُ الْبَحْرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا ، مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى : ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [ 40 \ 72 ] .
الْوَجْهُ الثَّانِي : هُوَ أَنَّ الْمَسْجُورَ بِمَعْنَى الْمَمْلُوءِ ، لِأَنَّهُ مَمْلُوءٌ مَاءً ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الْمَسْجُورِ عَلَى الْمَمْلُوءِ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ :
فَتَوَسَّطَا عُرْضَ السَّرِيِّ وَصَدَّعا مَسْجُورَةً مُتَجَاوِرًا قُلَّامُهَا فَقَوْلُهُ : مَسْجُورَةً أَيْ عَيْنًا مَمْلُوءَةً مَاءً ، وَقَوْلُ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ الْعُكْلِيِّ :
إِذَا شَاءَ طَالَعَ مَسْجُورَةً تَرَى حَوْلَهَا النَّبْعَ وَالسَّاسَمَا
وَهَذَانَ الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي مَعْنَى الْمَسْجُورِ هُمَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [ 81 \ 6 ] ، وَأَمَّا الْآيَةُ الْعَامَّةُ الَّتِي أَقْسَمَ فِيهَا تَعَالَى بِمَا يَشْمَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ وَغَيْرِهَا ، فَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ [ 69 \ 38 - 39 ] ، لِأَنَّ الْإِقْسَامَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ الذَّارِيَاتِ ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون .
الدع في لغة العرب : الدفع بقوة وعنف ، ومنه قوله تعالى : فذلك الذي يدع اليتيم ، أي يدفعه عن حقه بقوة وعنف ، وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين :
أحدهما : أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة .
والثاني : أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخا وتقريعا : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .
وهذان الأمران المذكوران في هذه الآية الكريمة جاءا موضحين في آيات أخر ، أما [ ص: 453 ] الأخير منهما ، وهو كونهم يقال لهم : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] ، وقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله في السجدة : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون [ 32 \ 20 ] ، وقوله في سبأ : فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون [ 34 \ 42 ] ، وقوله تعالى في المرسلات : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأما الأول منهما وهو كونهم يدفعون إلى النار بقوة فقد ذكره الله - جل وعلا - في آيات من كتابه كقوله تعالى : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم [ 44 \ 47 ] ، أي جروه بقوة وعنف إلى وسط النار . والعتل في لغة العرب : الجر بعنف وقوة ، ومنه قول الفرزدق :
ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل وقوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام [ 55 \ 41 ] ، أي تجمع الزبانية بين ناصية الواحد منهم ، أي مقدم شعر رأسه وقدمه ، ثم تدفعه في النار بقوة وشدة .
وقد بين - جل وعلا - أنهم أيضا يسحبون في النار على وجوههم في آيات من كتابه كقوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر [ 54 \ 48 ] ، وقوله تعالى : الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون [ 40 \ 70 - 72 ] .
وقوله في هذه الآية الكريمة " يوم يدعون " - بدل من قوله " يومئذ " في قوله تعالى قبله : فويل يومئذ للمكذبين [ 52 \ 11 ] .
قوله تعالى : اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الكفار معذبون في النار لا محالة ، سواء صبروا أو لم يصبروا ، فلا ينفعهم في ذلك صبر ولا جزع ، وقد أوضح هذا المعنى في قوله : قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص [ 14 \ 21 ] .
[ ص: 454 ] قوله تعالى : كل امرئ بما كسب رهين . ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الناس ، وقد بين تعالى في آيات أخر أن أصحاب اليمين خارجون من هذا العموم ، وذلك في قوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين [ 74 \ 38 - 41 ] .
ومن المعلوم أن التخصيص بيان ، كما تقرر في الأصول .
قوله تعالى : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون .
لم يذكر هنا شيء من صفات هذه الفاكهة ولا هذا اللحم إلا أنه مما يشتهون ، وقد بين صفات هذه الفاكهة في مواضع أخر كقوله تعالى : وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة [ 56 \ 32 - 33 ] ، وبين أنها أنواع في مواضع أخر كقوله : ولهم فيها من كل الثمرات [ 47 \ 15 ] ، وقوله تعالى : كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها الآية [ 2 \ 2 ] ، وقوله تعالى : أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون [ 37 \ 41 - 42 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ووصف اللحم المذكور بأنه من الطير ، والفاكهة بأنها مما يتخيرونه على غيره ، وذلك في قوله : وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 20 - 21 ] .
قوله تعالى : يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم .
قرأه ابن كثير وأبو عمرو : " لا لغو " بالبناء على الفتح ، " ولا تأثيم " كذلك لأنها " لا " التي لنفي الجنس فبنيت معها ، وهي إن كانت كذلك ؛ نص في العموم ، وقرأه الباقون من السبعة لا لغو فيها ولا تأثيم بالرفع والتنوين . لأن لا النافية للجنس إذا تكررت كما هنا جاز إعمالها وإهمالها ، والقراءتان في الآية فيهما المثال للوجهين ، وإعمالها كثير ، ومن شواهد إهمالها قراءة الجمهور في هذه الآية ، وقول الشاعر :
وما هجرتك حتى قلت معلنة لا ناقة لي في هذا ولا جمل وقوله : يتنازعون فيها كأسا : أي يتعاطون ، ويتناول بعضهم من بعض . " كأسا " أي خمرا ، فالتنازع يطلق لغة على كل تعاط وتناول ، فكل قوم يعطي بعضهم بعضا شيئا [ ص: 455 ] ويناوله إياه ، فهم يتنازعونه كتنازع كئوس الشراب والكلام ، وهذا المعنى معروف في كلام العرب .
ومنه في الشراب قول الأخطل :
وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسوار
نازعته طيب الراح الشمول وقد صاح الدجاج وحانت وقعة السار
فقوله : نازعته طيب الراح : أي ناولته كئوس الخمر وناولنيها ، ومنه في الكلام قول امرئ القيس :
ولما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
والكأس تطلق على إناء الخمر ، ولا تكاد العرب تطلق الكأس إلا على الإناء المملوء ، وهي مؤنثة ، وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لا لغو فيها ولا تأثيم يعني أن خمر الجنة التي يتعاطاها المؤمنون فيها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا ، فخمر الآخرة لا لغو فيها ، واللغو كل كلام ساقط لا خير فيه ، فخمر الآخرة لا تحمل شاربيها على الكلام الخبيث والهذيان ، لأنها لا تؤثر في عقولهم بخلاف خمر الدنيا ، فإنهم إن يشربوها سكروا وطاشت عقولهم ، فتكلموا بالكلام الخبيث والهذيان ، وكل ذلك من اللغو .
والتأثيم : هو ما ينسب به فاعله إلى الإثم ، فخمر الآخرة لا يأثم شاربها بشربها ، لأنها مباحة له ، فنعم بلذتها كما قال تعالى : وأنهار من خمر لذة للشاربين [ 47 \ 15 ] ، ولا تحمل شاربها على أن يفعل إثما بخلاف خمر الدنيا ، فشاربها يأثم بشربها ويحمله السكر على الوقوع في المحرمات كالقتل والزنا والقذف .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من مخالفة خمر الآخرة لخمر الدنيا ، جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [ 37 \ 45 - 47 ] ، وقوله : لا فيها غول : أي ليس فيها غول يغتال العقول فيذهبها كخمر الدنيا . ولا هم عنها ينزفون : أي لا يسكرون ، وكقوله تعالى : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 17 - 19 ] ، [ ص: 456 ] وقوله : لا يصدعون أي لا يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها .
وقد أوضحنا معنى هذه الآيات في صفة خمر الآخرة ، وبينا أنها مخالفة في جميع الصفات لخمر الدنيا ، وذكرنا الشواهد العربية في ذلك في سورة المائدة في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر الآية [ 5 \ 90 ] .
قوله تعالى : ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة يطوف عليهم " غلمان " جمع غلام ، أي خدم لهم ، وقد قدمنا إطلاقات الغلام وشواهدها العربية في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم [ 15 \ 53 ] .
ولم يبين هنا ما يطوفون عليهم به ، وذكر هنا حسنهم بقوله : كأنهم لؤلؤ مكنون في أصدافه ، لأن ذلك أبلغ في صفائه وحسنه ، وقيل : " مكنون " أي مخزون لنفاسته ، لأن النفيس هو الذي يخزن ويكن .
وبين تعالى في الواقعة بعض ما يطوفون عليهم به في قوله : يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين [ 56 \ 17 - 18 ] ، وزاد في هذه الآية كونهم مخلدين ، وذكر بعض ما يطاف عليهم به في قوله : يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب [ 76 \ 15 - 16 ] ، وقوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا [ 76 \ 15 - 16 ] .
والظاهر أن الفاعل المحذوف في قوله : ويطاف عليهم في آية الزخرف والإنسان المذكورتين هو الغلمان المذكورون في الطور والواقعة ، وذكر بعض صفات هؤلاء الغلمان في الإنسان في قوله تعالى : ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] .
قوله تعالى : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة ، أن أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا ، وأن [ ص: 457 ] المسئول عنهم يقول للسائل : إنا كنا قبل أي في دار الدنيا في أهلنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله ، ونحن بين أهلنا أحياء " فمن الله علينا " أي أكرمنا ، وتفضل علينا بسبب الخوف منه في دار الدنيا فهدانا ، ووفقنا في الدنيا ووقانا في الآخرة عذاب السموم ، والسموم النار ولفحها ووهجها ، وأصله الريح الحارة التي تدخل المسام ، والجمع سمائم . ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
أنامل لم تضرب على البهم بالضحى بهن ووجه لم تلحه السمائم وقد يطلق السموم على الريح الشديدة البرد ، ومنه قول الراجز :
اليوم يوم بارد سمومه من جزع اليوم فلا ألومه الفاء في قوله : فمن الله علينا تدل على أن علة ذلك هي الخوف من الله في دار الدنيا ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الإشفاق الذي هو الخوف الشديد من عذاب الله في دار الدنيا سبب للسلامة منه في الآخرة - يفهم من دليل خطابه ، أعني مفهوم مخالفته : أن من لم يخف من عذاب الله في الدنيا لم ينج منه في الآخرة .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة بمنطوقها ومفهومها جاء موضحا في غير هذا الموضوع . فذكر تعالى أن السرور في الدنيا وعدم الخوف من الله سبب العذاب يوم القيامة ، وذلك في قوله : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور الآية [ 84 \ 10 - 14 ] .
وقد تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله : إنه كان في أهله مسرورا علة لقوله : فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا .
والمسرور في أهله في دار الدنيا ليس بمشفق ولا خائف ، ويؤيد ذلك قوله بعده : إنه ظن أن لن يحور ؛ لأن معناه : ظن أن لن يرجع إلى الله حيا يوم القيامة ، ولا شك أن من ظن أنه لا يبعث بعد الموت لا يكون مشفقا في أهله خوفا من العذاب ، لأنه لا يؤمن بالحساب والجزاء . وكون " لن يحور " بمعنى لن يرجع - معروف في كلام العرب ، ومنه قول مهلهل بن ربيعة التغلبي :
[ ص: 458 ]
أليلتنا بذي حسم أنيري إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فقوله : فلا تحوري ، أي فلا ترجعي .
وقول لبيد بن ربيعة العامري :
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد ما هو ساطع
أي يرجع رمادا ، وقيل : يصير ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون الآية [ 56 \ 41 - 47 ] ، لأن تنعمهم في الدنيا المذكور في قوله : مترفين ، وإنكارهم للبعث المذكور في قوله : أئذا متنا وكنا ترابا الآية - دليل على عدم إشفاقهم في الدنيا ، وهو علة كونهم في سموم وحميم .
وقد قدمنا قريبا أن " إن " المكسورة المشددة من حروف التعليل ، فقوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين الآية - علة لقوله : في سموم وحميم الآية .
وقد ذكر - جل وعلا - أن الإشفاق من عذاب الله من أسباب دخول الجنة والنجاة من العذاب يوم القيامة ، كما دل عليه منطوق آية الطور هذه ، قال تعالى في المعارج : والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون إلى قوله : أولئك في جنات مكرمون الآيات [ 27 \ 35 ] ، وذكر ذلك من صفات أهل الجنة في قوله تعالى : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى قوله : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون [ 23 \ 57 - 61 ] ، وقد قال تعالى : والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] .
وقوله في آية الواقعة المذكورة : وكانوا يصرون على الحنث العظيم ، أي يديمون ويعزمون على الذنب الكبير ، كالشرك وإنكار البعث ، وقيل : المراد بالحنث حنثهم في اليمين الفاجرة كما في قوله تعالى : وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت [ 16 \ 38 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-17, 12:23 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (519)
سُورَةُ النَّجْمِ
صـ 459 إلى صـ 466
[ ص: 459 ] قوله تعالى : فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون .
نفى الله - جل وعلا - عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الآيتين الكريمتين ثلاث صفات قبيحة عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - رماه بها الكفار ، وهي الكهانة والجنون والشعر ، أما دعواهم أنه كاهن أو مجنون ، فقد نفاها صريحا بحرف النفي الذي هو " ما " في قوله : فما أنت وأكد النفي بالباء في قوله : بكاهن وأما كونه شاعرا فقد نفاه ضمنا بأم المنقطعة في قوله : أم يقولون شاعر ، لأنها تدل على الإضراب والإنكار المتضمن معنى النفي .
وقد جاءت آيات أخر بنفي هذه الصفات عنه - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى في نفي الجنون عنه في أول القلم : ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ 68 \ 2 ] ، وقوله في التكوير : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] ، وكقوله في نفي الصفتين الأخيرتين أعني الكهانة والشعر : وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون [ 69 \ 41 - 42 ] ، وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الشعراء وغيرها .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : نتربص به ريب المنون [ 52 \ 30 ] ، أي ننتظر به حوادث الدهر ، حتى يحدث له منها الموت ، فالمنون : الدهر ، وريبه : حوادثه التي يطرأ فيها الهلاك والتغيير ، والتحقيق أن الدهر هو المراد في قول أبي ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبه تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع لأن الضمير في قوله : وريبه يدل على أن المنون الدهر ، ومن ذلك أيضا قول الآخر :
تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوما أو يموت حليلها
وقال بعض العلماء : المنون في الآية الموت ، وإطلاق المنون على الموت معروف في كلام العرب ، ومنه قول أبي الغول الطهوي :
هم منعوا حمى الوقبى بضرب يؤلف بين أشتات المنون
لأن الذين ماتوا عند ذلك الماء المسمى بالوقبى ، جاءوا من جهات مختلفة ، فجمع الموت بينهم في محل واحد ، ولو ماتوا في بلادهم لكانت مناياهم في بلاد شتى .
[ ص: 460 ] قوله تعالى : فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين .
قد قدمنا أن الله تحداهم بسورة واحدة من هذا القرآن في سورة البقرة في قوله : فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله الآية [ 2 \ 23 ] ، وفي سورة يونس في قوله تعالى : قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله الآية [ 10 \ 3 8 ] .
وتحداهم في سورة هود بعشر سور منه في قوله : قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله الآية [ 11 \ 13 ] .
وتحداهم في سورة الطور هذه به كله في قوله : فليأتوا بحديث مثله الآية .
وبين في سورة بني إسرائيل أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك في قوله : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله الآية [ 17 \ 88 ] .
وقد أطلق - جل وعلا - اسم الحديث على القرآن في قوله هنا : فليأتوا بحديث مثله كما أطلق عليه ذلك في قوله : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها الآية [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه الآية [ 12 \ 111 ] .
قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون .
قد قدمنا الكلام عليه وعلى الآيات المشابهة له في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] .
قوله تعالى : أم لهم سلم يستمعون فيه الآية . قد قدمنا الكلام عليه وعلى الآيات المشابهة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها الآية [ 15 \ 16 - 17 ] .
قوله تعالى : أم له البنات ولكم البنون .
[ ص: 461 ] قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون [ 16 \ 57 ] ، وفي مواضع أخر متعددة .
قوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له وما يتعلق بها من الأحكام في سورة هود في الكلام على قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا الآية [ 11 \ 29 ] .
قوله تعالى : وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم الآية [ 6 \ 7 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا .
بين - جل وعلا - في هذه الآية أن كيد الكفار لا يغني عنهم شيئا في الآخرة في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين فإن كان لكم كيد فكيدون [ 77 \ 38 - 39 ] .
وبين أنه لا ينفعهم في الدنيا أيضا كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة : أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون [ 52 \ 42 ] ، وقوله : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا الآية [ 86 \ 15 - 16 ] ، وقوله : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 182 - 183 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون .
الظاهر أن قوله : عذابا دون ذلك هو ما عذبوا به في دار الدنيا من القتل وغيره .
كما دل على ذلك قوله : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر الآية [ 32 \ 21 ] ، وقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ولا مانع من دخول عذاب القبر في ذلك ، لأنه قد يدخل في ظاهر الآية ، وما قيل في معنى الآية غير هذا لا يتجه عندي . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 462 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ النَّجْمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا النَّجْمِ الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْمُرَادُ بِهِ النَّجْمُ إِذَا رُجِمَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الثُّرَيَّا ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ ، وَلَفْظَةُ النَّجْمِ عَلَمٌ لِلثُّرَيَّا بِالْغَلَبَةِ ، فَلَا تَكَادُ الْعَرَبُ تُطْلِقُ لَفْظَ النَّجْمِ مُجَرَّدًا إِلَّا عَلَيْهَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ :
أَقُولُ وَالنَّجْمُ قَدْ مَالَتْ أَوَاخِرُهُ إِلَى الْمَغِيبِ تَثَبَّتْ نَظْرَةً حَارِ فَقَوْلُهُ : وَالنَّجْمِ : يَعْنِي الثُّرَيَّا .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا هَوَى : أَيْ سَقَطَ مَعَ الصُّبْحِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ . وَقِيلَ : النَّجْمُ الزَّهْرَةُ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ نُجُومُ السَّمَاءِ ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْمُفْرَدِ وَإِرَادَةِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ : وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [ 54 \ 45 ] ، يَعْنِي الْأَدْبَارَ . وَقَوْلُهُ : وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [ 89 \ 22 ] ، أَيِ : الْمَلَائِكَةُ ، وَقَوْلُهُ : أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [ 25 \ 75 ] ، أَيِ الْغُرَفَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِهَذَا فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [ 22 \ 5 ] ، وَإِطْلَاقُ النَّجْمِ مُرَادًا بِهِ النُّجُومَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ :
ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرًا عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
وَقَوْلُ الرَّاعِي :
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ فِي مُسْتَحِيرَةٍ سَرِيعٍ بِأَيْدِي الْآكِلِينَ جُمُودُهَا
[ ص: 463 ] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، فَمَعْنَى هُوِيِّ النُّجُومِ سُقُوطُهَا إِذَا غَرَبَتْ أَوِ انْتِثَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقِيلَ : النَّجْمُ النَّبَاتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْجُمْلَةُ النَّازِلَةُ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَإِنَّهُ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْجُمًا مُنَجَّمًا فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْهُ وَقْتَ نُزُولِهَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا اسْمُ النَّجْمِ صِدْقًا عَرَبِيًّا صَحِيحًا كَمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا حَانَ وَقْتُهُ مِنَ الدِّيَةِ الْمُنَجَّمَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْكِتَابَةِ الْمُنَجَّمَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ .
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ : إِذَا هَوَى أَيْ نَزَلَ بِهِ الْمَلَكُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَقَوْلُهُ : هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا إِذَا اخْتَرَقَ الْهَوَا نَازِلًا مِنْ أعَلَى إِلَى أَسْفَلَ .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ الثُّرَيَّا وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ خُصُوصُهَا ، وَإِنِ اخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِ وَاحِدٍ - لَيْسَ بِوَجِيهٍ عِنْدِي .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ النَّجْمَ يُرَادُ بِهِ النُّجُومُ . وَإِنْ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ جَمْعُهُ تَعَالَى لِلنُّجُومِ فِي الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [ 56 \ 75 ] ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى هُنَا كَالْمُرَادِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فِي الْوَاقِعَةِ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْمُرَادِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مَسَاقِطُهَا إِذَا غَابَتْ . وَقَالَ بَعْضُهُمُ : انْتِثَارُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَنَازِلُهَا فِي السَّمَاءِ ، لِأَنَّ النَّازِلَ فِي مَحِلٍّ وَاقِعٍ فِيهِ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هِيَ مَوَاقِعُ نُجُومِ الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِهَا الْمَلَكُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ : أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي وَأَقْرَبُهَا لِلصَّوَابِ فِي نَظَرِي - أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، وَبِمَوَاقِعِ النُّجُومِ فِي الْوَاقِعَةِ هُوَ نُجُومُ الْقُرْآنِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْمَلَكُ نَجْمًا فَنَجْمًا ، وَذَلِكَ لِأَمْرَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا الَّذِي أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّجْمِ إِذَا هَوَى الَّذِي هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَقٍّ وَأَنَّهُ مَا ضَلَّ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى - مُوَافِقٌ فِي الْمَعْنَى لِمَا أَقْسَمَ عَلَيْهِ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ إِلَى قَوْلِهِ : تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ 56 \ 77 - 80 ] .
[ ص: 464 ] وَالْإِقْسَامُ بِالْقُرْآنِ عَلَى صِحَّةِ رِسَالَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنَ اللَّهِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [ 36 \ 1 - 5 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [ 43 \ 1 - 4 ] ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ الْقُرْآنُ .
وَالثَّانِي : أَنَّ كَوْنَ الْمُقْسَمِ بِهِ الْمُعَبَّرِ بِالنُّجُومِ هُوَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ - أَنْسَبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [ 56 \ 76 ] ، لَأَنَّ هَذَا التَّعْظِيمَ مِنَ اللَّهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَقْسَمَ بِهِ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ أَنْسَبُ لِذَلِكَ مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ وَنَجْمِ الْأَرْضِ . وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الضَّلَالُ يَقَعُ مِنَ الْجَهْلِ بِالْحَقِّ ، وَالْغَيُّ هُوَ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ مَعَ مَعْرِفَتِهِ ، أَيْ مَا جَهِلَ الْحَقَّ وَمَا عَدَلَ عَنْهُ ، بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِالْحَقِّ مُتَّبِعٌ لَهُ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِطْلَاقَاتِ الضَّلَالِ فِي الْقُرْآنِ بِشَوَاهِدِهَا الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [ 26 \ 20 ] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ الْآيَةَ [ 18 \ 103 - 104 ] .
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [ 27 \ 79 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ [ 22 \ 67 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ 42 \ 52 ] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ 43 \ 43 ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى اسْتَدَلَّ بِهِ عُلَمَاءُ [ ص: 465 ] الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَجْتَهِدُ ، وَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّهُ قَدْ يَقَعُ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ ، اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ [ 9 \ 43 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [ 8 \ 67 ] . وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ [ 9 \ 113 ] .
قَالُوا : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا عَنِ اجْتِهَادٍ ، لَمَا قَالَ : عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الْآيَةَ . وَلَمَا قَالَ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْآيَاتِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ : إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى مَعْنَاهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ إِلَّا شَيْئًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ ، فَمَنْ يَقُولُ : إِنَّهُ شِعْرٌ أَوْ سِحْرٌ أَوْ كِهَانَةٌ أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ - هُوَ أَكْذَبُ خَلْقِ اللَّهِ وَأَكْفَرُهُمْ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَذِنَ لِلْمُتَخَلِّفِ ينَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَأَسَرَ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ ، وَاسْتَغْفَرَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَنْزِلَ عَلَيْهِ وَحْيٌ خَاصٌّ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ .
قوله تعالى : علمه شديد القوى .
المراد بشديد القوى في هذه الآية هو جبريل عليه السلام ، والمعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الوحي ملك شديد القوى هو جبريل .
وهذه الآية الكريمة قد تضمنت أمرين :
أحدهما : أن هذا الوحي الذي من أعظمه هذا القرآن العظيم ، علمه جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر من الله .
والثاني : أن جبريل شديد القوة .
وهذان الأمران جاءا موضحين في غير هذا الموضع .
أما الأول منهما وهو كون جبريل نزل عليه بهذا الوحي وعلمه إياه ، فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله الآية [ 2 \ 97 ] وقوله تعالى : وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين [ 26 \ 192 - 194 ] وقوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] . [ ص: 466 ] وقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه [ 75 \ 16 - 18 ] ، أي إذا قرأه عليك الملك المرسل به إليك منا مبلغا له عنا فاتبع قرآنه ، أي اقرأ كما سمعته يقرأ .
وأما الأمر الثاني ، وهو شدة قوة جبريل النازل بهذا الوحي فقد ذكره في قوله : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين [ 81 \ 19 - 20 ] وقوله في آية التكوير هذه : لقول رسول أي لقوله المبلغ له عن الله ، فقرينة ذكر الرسول تدل على أنه إنما يبلغ شيئا أرسل به ، فالكلام كلام الله بألفاظه ومعانيه ، وجبريل مبلغ عن الله ، وبهذا الاعتبار نسب القول له . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سمعه إلا منه ، فهو القول الذي أرسله الله به ، وأمره بتبليغه ، كما تدل عليه قرينة ذكر الرسول ، وسيأتي إيضاح هذه المسألة إن شاء الله في سورة التكوير ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ما زاغ البصر وما طغى .
قد قدمنا بعض الكلام عليه في أول سورة الإسراء .
قوله تعالى : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ويجعلون لله البنات الآية [ 16 \ 57 ] ، وفي مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك .
قوله تعالى : فلله الآخرة والأولى .
بين - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن له الآخرة والأولى وهي الدنيا ، وبين هذا في غير هذا الموضع كقوله : إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى [ 92 \ 12 ] ، وبين في موضع آخر أن له كل شيء ، وذلك في قوله : إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء [ 27 \ 91 ] ، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-03-17, 12:27 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (520)
سُورَةُ النَّجْمِ
صـ 467 إلى صـ 474
قوله تعالى : وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : [ ص: 467 ] واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة الآية [ 2 \ 48 ] ، ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة .
وقد قدمنا الآيات الموضحة في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ 43 \ 19 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى : ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى [ 46 \ 3 ] ، وفي سورة الذاريات في الكلام على قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] .
قوله تعالى : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون [ 42 \ 37 ] .
قوله تعالى : إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء [ 4 \ 49 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى .
قوله : تولى : أي رجع وأدبر عن الحق ، وقوله : وأعطى قليلا ، قال بعضهم : قليلا من المال ، وقال بعضهم : أعطى قليلا من الكلام الطيب ، وقوله : وأكدى أي قطع ذلك العطاء ولم يتمه ، وأصله من أكدى صاحب الحفر إذا انتهى في حفره إلى [ ص: 468 ] صخرة لا يقدر على الحفر فيها ، وأصله من الكدية وهي الحجارة تعترض حافر البئر ونحوه فتمنعه الحفر ، وهذا الذي أعطى قليلا وأكدى اختلف فيه العلماء ، فقيل : هو الوليد بن المغيرة قارب أن يؤمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فعيره بعض المشركين ، فقال : أتركت دين الأشياخ وضللتهم ؟ قال : إني خشيت عذاب الله ، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه كذا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، فرجع الوليد إلى الشرك وأعطى الذي عيره بعض ذلك المال الذي ضمن ومنعه تمامه . فأنزل الله عز وجل الآية .
وعلى هذا فقوله : تولى : أي الوليد عن الإسلام بعد أن قارب ، وأعطى قليلا من المال للذي ضمن له أن يتحمل عنه ذنوبه . وأكدى : أي بخل عليه بالباقي ، وقيل : أعطى قليلا من الكلام الطيب كمدحه للقرآن ، واعترافه بصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، " وأكدى " أي انقطع عن ذلك ورجع عنه . وقيل : هو العاص بن وائل السهمي ، كان ربما وافق النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور ، وذلك هو معنى إعطائه القليل ثم انقطع عن ذلك ، وهو معنى إكدائه ، وهذا قول السدي ولم ينسجم مع قوله بعده : أعنده علم الغيب الآية [ 53 \ 35 ]
وعن محمد بن كعب القرظي أنه أبو جهل ، قال : والله ما يأمرنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا بمكارم الأخلاق ، وذلك معنى إعطائه قليلا ، وقطعه لذلك معروف .
واقتصر الزمخشري على أنه عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : روي أن عثمان بن عفان كان يعطي ماله في الخير ، فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وهو أخوه من الرضاعة : يوشك ألا يبقى لك شيء . فقال عثمان : إن لي ذنوبا وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى ، وأرجو عفوه ، فقال عبد الله : أعطني ناقتك برحلها ، وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها ، فأعطاه وأشهد عليه ، وأمسك عن العطاء فنزلت الآية .
ومعنى " تولى " ترك المركز يوم أحد ، فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك وأجمل . انتهى منه .
ولا يخفى سقوط هذا القول وبطلانه ، وأنه غير لائق بمنصب أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة سبعة أمور :
[ ص: 469 ] الأول : إنكار علم الغيب المدلول عليه بالهمزة في قوله : أعنده علم الغيب والمراد نفي علمه للغيب .
الثاني : أن لكل من إبراهيم وموسى صحفا لم ينبأ بما فيها هذا الكافر .
الثالث : أن إبراهيم وفى ، أي أتم القيام بالتكاليف التي كلفه ربه بها .
الرابع : أن في تلك الصحف أنه ألا تزر وازرة وزر أخرى .
الخامس : أن فيها أيضا أنه ليس للإنسان إلا ما سعى .
السادس : وأن سعيه سوف يرى .
السابع : أنه يجزاه الجزاء الأوفى ، أي الأكمل الأتم .
وهذه الأمور السبعة قد جاءت كلها موضحة في غير هذا الموضع .
أما الأول منها ، وهو عدم علمهم الغيب ، فقد ذكره تعالى في مواضع كثيرة كقوله تعالى : أم عندهم الغيب فهم يكتبون [ 68 \ 47 ] ، وقوله : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، وقوله : وما كان الله ليطلعكم على الغيب [ 3 \ 179 ] ، وقوله تعالى : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول الآية [ 72 \ 26 ] وقوله تعالى : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مرارا .
والثاني : الذي هو أن لإبراهيم وموسى صحفا لم يكن هذا المتولي المعطي قليلا المكدي عالما بها ، ذكره تعالى في قوله : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ 87 \ 18 - 19 ] .
والثالث منها : وهو إبراهيم وفى تكاليفه ، فقد ذكره تعالى في قوله : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن [ 2 \ 124 ] ، وقد قدمنا أن الأصح في الكلمات التي ابتلي بها أنها التكاليف .
وأما الرابع منها : وهو أنه ألا تزر وازرة وزر أخرى ، فقد ذكره تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون [ 29 \ 12 ] ، [ ص: 470 ] وقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا ، والجواب عما يرد عليها من الإشكال في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وذكرنا وجه الجمع بين الآيات الواردة في ذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون [ 16 \ 25 ] .
وأما الخامس منها : وهو أنه ليس للإنسان إلا ما سعى ، فقد جاء موضحا في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها الآية [ 17 \ 7 ] ، وقوله : من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها [ 45 \ 15 ] ، وقوله : ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون [ 30 \ 44 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى يدل على أن الإنسان لا يستحق أجرا إلا على سعيه بنفسه ، ولم تتعرض هذه الآية لانتفاعه بسعي غيره بنفي ولا إثبات ، لأن قوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى قد دلت اللام فيه على أنه لا يستحق ولا يملك شيئا إلا بسعيه ، ولم تتعرض لنفي الانتفاع بما ليس ملكا له ولا مستحقا له .
وقد جاءت آية من كتاب الله تدل على أن الإنسان قد ينتفع بسعي غيره وهي قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [ 52 \ 21 ] .
وقد أوضحنا وجه الجمع بين قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وبين قوله : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الآية في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة النجم ، وقلنا فيه ما نصه : والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره ، لأنه لم يقل : وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى ، وإنما قال : [ ص: 471 ] وأن ليس للإنسان ، وبين الأمرين فرق ظاهر ، لأن سعي الغير ملك لساعيه إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير ، وإن شاء أبقاه لنفسه .
وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه .
الثاني : أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم ، إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك . فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ، كما وقع في الصلاة في الجماعة ، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا ، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير ، سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة ، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان .
الثالث : أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولكن من سعي الآباء فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه ، بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم .
فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها ، لأن المقصود بالرفع إكرام الآباء لا الأولاد ، فانتفاع الأولاد تبع فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم ، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة . والعلم عند الله تعالى . ا هـ منه .
والأمر السادس والسابع : وهما أن عمله سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، فقد جاءا موضحين في آيات كثيرة كقوله تعالى : والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم الآية [ 7 \ 8 - 9 ] .
وقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] .
وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .
[ ص: 472 ] وقوله تعالى : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فهو يرى أي يعلم ذلك الغيب ، والآية تدل على أن سبب النزول لا يخلو من إعطاء شيء في مقابلة تحمل الذنوب عمن أعطى لأن فاعل ذلك ليس عنده علم الغيب فيعلم به أن الذي ضمن له تحمل ذنوبه بفعل ذلك ، ولم ينبأ بما في الصحف الأولى ، من أنه " ألا تزر وازرة وزر أخرى " أي لا تتحمل نفس ذنب نفس أخرى .
وقد قدمنا تفسيره موضحا في سورة بني إسرائيل ، وأنه لا يملك الإنسان ولا يستحق إلا سعي نفسه ، وقد اتضح بذلك أنه لا يمكن أن يتحمل إنسان ذنوب غيره ، وقد دلت على ذلك آيات كثيرة معلومة .
وقال أبو حيان في البحر : أفرأيت بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو الموصول وصلته . والمفعول الثاني هو جملة أعنده علم الغيب فهو يرى .
قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه خلق الزوجين أي النوعين الذكر والأنثى من نطفة ، وهي نطفة المني إذا تمنى أي تصب وتراق في الرحم ، على أصح القولين .
ويدل قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] ، وقوله تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى [ 75 \ 37 ] .
والعرب تقول : أمنى الرجل ومني ؛ إذا أراق المني وصبه .
وقال بعض العلماء : من نطفة إذا تمنى أي تقدر بأن يكون الله قدر أن ينشأ منها حمل ، من قول العرب : مني الماني إذا قدر . ومن هذا المعنى قول أبي قلابة الهذلي ، وقيل سويد بن عامر المصطلقي :
لا تأمن الموت في حل وفي حرم إن المنايا توافي كل إنسان واسلك سبيلك فيها غير محتشم
حتى تلاقي ما يمني لك الماني [ ص: 473 ] وقد قدمنا الكلام على النطفة مستوفى من جهات في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة الآية [ 16 \ 4 ] . وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث [ 22 \ 5 ] ، وفي كل من الموضعين زيادة ليست في الآخر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الاستدلال بخلق النوعين ، أعني الذكر والأنثى من النطفة جاء موضحا في غير هذا الموضع ، وأنه يستدل به على أمرين : هما قدرة الله على البعث ، وأنه ما خلق الإنسان إلا ليكلفه ويجازيه ، وقد جمع الأمرين قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 57 \ 36 - 40 ] ، فذكر دلالة ذلك على البعث في قوله : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ، وذكر أنه ما خلقه ليهمله من التكليف والجزاء ، منكرا على من ظن ذلك بقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي مهملا من التكليف والجزاء .
وقد قدمنا بعض الكلام على هذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا [ 25 \ 54 ] .
قوله تعالى : وأن عليه النشأة الأخرى .
قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وأحلنا عليها مرارا كثيرة .
قوله تعالى : وأنه أهلك عادا الأولى وثمود فما أبقى .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لما أهلك به عادا . والآيات الموضحة لما أهلك به ثمود في سورة فصلت في قوله تعالى في الكلام في شأن عاد : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا الآية [ 41 \ 16 ] . وقوله في شأن ثمود : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون الآية [ 41 \ 17 ] .
قوله تعالى : وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى .
قوله : وقوم نوح معطوف على قوله : وأنه أهلك عادا الأولى [ 53 \ 50 ] ، أي وأهلك قوم نوح ولم يبين هنا كيفية إهلاكهم ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر من [ ص: 474 ] كتابه كقوله تعالى : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم الآية [ 25 \ 37 ] .
وقوله تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون [ 29 \ 14 ] .
وقوله تعالى : ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ 21 \ 77 ] .
وقوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] .
وقوله تعالى : ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون [ 11 \ 37 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون قوم نوح أظلم وأطغى ، أي أشد ظلما وطغيانا من غيرهم ، قد بينه تعالى في آيات أخر كقوله تعالى : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 5 - 7 ] .
وقوله تعالى : قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ومكروا مكرا كبارا إلى قوله : وقد أضلوا كثيرا [ 71 \ 21 - 24 ] .
وقوله تعالى : إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 27 ] .
وقوله : ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه [ 11 \ 38 ] .
ومن أعظم الأدلة على ذلك قوله تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما [ 29 \ 14 ] ، لأن قوما لم يتأثروا بدعوة نبي كريم ناصح في هذا الزمن الطويل لا شك أنهم أظلم الناس وأطغاهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-08, 11:58 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (521)
سُورَةُ الْقَمَرِ .
صـ 475 إلى صـ 482
قوله تعالى : والمؤتفكة أهوى .
المؤتفكة مفتعلة من الإفك ، وهو القلب والصرف ، والمراد بها قرى قوم لوط بدليل قوله في غير هذا الموضع : والمؤتفكات [ 9 \ 70 ] ، بالجمع . فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع كما أوضحناه مرارا ، وأكثرنا من أمثلته في القرآن وفي كلام العرب [ ص: 475 ] وأحلنا عليه مرارا ، وإنما قيل لها : مؤتفكة ، لأن جبريل أفكها فائتفكت ، ومعنى أفكها أنه رفعها نحو السماء ثم قلبها جاعلا أعلاها أسفلها ، وجعل عاليها أسفلها هو ائتفاكها وإفكها .
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في سورة هود في قوله تعالى : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة الآية [ 11 \ 82 ] .
وقوله تعالى في سورة الحجر : فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل [ 15 \ 73 - 74 ] .
وقد بينا قصة قوم لوط في هود والحجر ، وقوله في هذه الآية الكريمة : أهوى تقول العرب : هوى الشيء إذا انحدر من عال إلى أسفل . وأهواه غيره إذا ألقاه من العلو إلى السفل ، لأن الملك رفع قراهم ثم أهواها أي ألقاها تهوي إلى الأرض منقلبة أعلاها أسفلها .
قوله تعالى : أزفت الآزفة .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : أتى أمر الله [ 16 \ 1 ] ، وفي سورة المؤمن في قوله تعالى : وأنذرهم يوم الآزفة [ 40 \ 18 ] .
قوله تعالى : أفمن هذا الحديث تعجبون .
قد قدمنا الآيات التي فيها إطلاق اسم الحديث على القرآن في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : فليأتوا بحديث مثله الآية [ 52 \ 34 ] .
[ ص: 476 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْقَمَرِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ .
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ . قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا . قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ . قَوْلُهُ تَعَالَى : يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي .
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ " يس " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [ 36 \ 51 ] ، وَفِي سُورَةِ " ق " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا [ 50 \ 44 ] .
قوله تعالى : يقول الكافرون هذا يوم عسر .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا [ 25 \ 24 ] ، وفي سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] .
قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
قرأ هذا الحرف ابن عامر : ففتحنا بتشديد التاء للتكثير ، وباقي السبعة بتخفيفها .
وقد ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن نبيه نوحا دعاه قائلا : إن قومه غلبوه [ ص: 477 ] سائلا ربه أن ينتصر له منهم ، وأن الله انتصر له منهم ، فأهلكهم بالغرق ، لأنه تعالى فتح أبواب السماء بماء منهمر أي متدفق منصب بكثرة وأنه تعالى فجر الأرض عيونا .
وقوله : عيونا ، تمييز محول عن المفعول ، والأصل فجرنا عيون الأرض . والتفجير : إخراج الماء منها بكثرة ، و " أل " في قوله : فالتقى الماء للجنس ، ومعناه التقى ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدر ، أي قدره الله وقضاه .
وقيل : إن معناه أن الماء النازل من السماء والمتفجر من الأرض جعلهما الله بمقدار ليس أحدهما أكثر من الآخر . والأول أظهر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من دعاء نوح ربه - جل وعلا - أن ينتصر له من قومه فينتقم منهم ، وأن الله أجابه فانتصر له منهم فأهلكهم جميعا بالغرق في هذا الماء المتلقى من السماء والأرض - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في الأنبياء : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين [ 21 \ 76 - 77 ] .
وقوله تعالى في الصافات : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم إلى قوله : ثم أغرقنا الآخرين [ 37 \ 75 - 82 ] .
وقد بين - جل وعلا - أن دعاء نوح فيه سؤاله الله أن يهلكهم إهلاكا مستأصلا . وتلك الآيات فيها بيان لقوله هنا : فانتصر وذلك كقوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 26 - 27 ] ، وما دعا نوح على قومه إلا بعد أن أوحى الله إليه أنه لا يؤمن منهم أحد غير القليل الذي آمن ، وذلك في قوله تعالى : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ 11 \ 36 ] ، وقد قال تعالى : وما آمن معه إلا قليل [ 11 \ 40 ] .
وقوله تعالى : عيونا قرأه ابن كثير ، وابن عامر في رواية ابن ذكوان ، وعاصم في رواية شعبة ، وحمزة ، والكسائي : " عيونا " بكسر العين لمجانسة الياء .
وقرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر في رواية هشام ، وعاصم في رواية حفص " عيونا " بضم العين على الأصل .
[ ص: 478 ] قوله تعالى : وحملناه على ذات ألواح ودسر .
لم يبين هنا ذات الألواح والدسر ، ولكنه بين في مواضع أخر أن المراد وحملناه على سفينة ذات ألواح ، أي من الخشب ودسر : أي مسامير تربط بعض الخشب ببعض ، وواحد الدسر دسار ككتاب وكتب ، وعلى هذا القول أكثر المفسرين .
وقال بعض العلماء وبعض أهل اللغة : الدسور الخيوط التي تشد بها ألواح السفينة .
وقال بعض العلماء : الدسور جؤجؤ السفينة أي صدرها ومقدمها الذي تدسر به الماء أي تدفعه وتمخره به ، قالوا : هو من الدسر وهو الدفع .
فمن الآيات الدالة على أن ذات الألواح والدسر السفينة - قوله تعالى : إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية [ 69 \ 11 ] ، أي السفينة ، كما أوضحناه في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام [ 42 \ 32 ] .
وقوله تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] ، وقوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون [ 36 \ 41 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ولقد تركناها آية فهل من مدكر .
الضمير في قوله تعالى : تركناها ، قال بعض العلماء : إنه عائد إلى هذه الفعلة العظيمة التي فعل بقوم نوح .
والمعنى : ولقد تركنا فعلتنا بقوم نوح وإهلاكنا لهم آية لمن بعدهم ، لينزجروا ويكفوا عن تكذيب الرسل ، لئلا نفعل بهم مثل ما فعلنا بقوم نوح ، وكون هذه الفعلة آية - نص عليه تعالى بقوله : وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية [ 25 \ 37 ] ، وقوله تعالى : فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 119 - 121 ] .
وقال بعض العلماء : الضمير في تركناها عائد إلى السفينة ، وكون سفينة نوح آية بينه الله تعالى في آيات من كتابه كقوله تعالى : فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين [ 29 \ 15 ] ، وقوله تعالى : وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون [ 36 \ 41 - 42 ] .
[ ص: 479 ] قوله تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .
قد قدمنا إيضاحه في سورة القتال في كلامنا الطويل على قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] .
قوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر .
قد قدمنا الآيات الموضحة له ، وكلام أهل العلم في يوم النحس المستمر في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ 41 \ 16 ] .
قوله تعالى : فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه . وقوله تعالى : أؤلقي الذكر عليه من بيننا .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهما في الكلام على قوله تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 38 \ 4 ] ، وقوله تعالى : أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري الآية [ 38 \ 8 ] .
قوله تعالى : إنا مرسلو الناقة فتنة لهم .
قوله : مرسلو الناقة ، أي : مخرجوها من الهضبة ، فتنة لهم أي ابتلاء واختبارا ، وهو مفعول من أجله ، لأنهم اقترحوا على صالح إخراج ناقة من صخرة ، وأنها إن خرجت لهم منها آمنوا به واتبعوه ، فأخرج الله الناقة من تلك الصخرة معجزة لصالح ، وفتنة لهم أي ابتلاء واختبارا ، وذلك أن تلك الناقة معجزة عاينوها ، وأن الله حذرهم على لسان نبيه صالح من أن يمسوها بسوء وأنهم إن تعرضوا لها بأذى أخذهم الله بعذابه .
والمفسرون يقولون : إنهم قالوا له : إن أخرجت لنا من هذه الصخرة ناقة وبراء عشراء اتبعناك .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله أرسل لهم هذه الناقة امتحانا واختبارا ، وأنهم إن تعرضوا لآية الله هذه ، التي هي الناقة بسوء أهلكهم - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة الأعراف : [ ص: 480 ] قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم [ 7 \ 73 ] ، وقوله تعالى في سورة هود عن صالح : ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب [ 11 \ 64 - 65 ] ، وقوله تعالى في الشعراء : قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم [ 26 \ 155 - 156 ] .
وقد بين تعالى أنهم عقروا الناقة فجاءهم العذاب المستأصل في آيات من كتابه كقوله تعالى في الأعراف : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم إلى قوله : فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين [ 7 \ 77 - 78 ] ، وقوله تعالى : فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم العذاب [ 26 \ 157 - 158 ] ، وقوله : فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم الآية [ 91 \ 14 ] .
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون الآية [ 41 \ 17 ] .
قوله تعالى : ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر .
قوله تعالى : ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر أي أخبر يا صالح ثمود أن الماء وهو ماء البئر التي كانت تشرب منها الناقة - قسمة بينهم ، فيوم للناقة ويوم لثمود ، فقوله : بينهم : أي بين الناقة وثمود ، وغلب العقلاء على الناقة كل شرب محتضر أي يحضره صاحبه ، فتحضر الناقة شرب يومها وتحضر ثمود شرب يومها .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آية أخرى وهي قوله تعالى في الشعراء : قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم [ 26 \ 155 ] ، وشرب الناقة هو الذي حذرهم منه صالح لئلا يتعرضوا له في قوله تعالى : فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها [ 91 \ 13 ] .
قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر .
قوله : فتعاطى ، قال أبو حيان في البحر : فتعاطى هو مطاوع عاطى ، وكأن [ ص: 481 ] هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضا ، فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده . انتهى محل الغرض منه .
والعرب تقول : تعاطى كذا إذا فعله أو تناوله ، وعاطاه إذا تناوله ، ومنه قول حسان رضي الله عنه :
كلتاهما حلب العصير فعاطني بزجاجة أرخاهما للمفصل
وقوله : فعقر أي تعاطى عقر الناقة فعقرها ، فمفعولا الفعلين محذوفان تقديرهما كما ذكرنا ، وعبر عن عاقر الناقة هنا بأنه صاحبهم ، وعبر عنه في الشمس بأنه أشقاهم وذلك في قوله : إذ انبعث أشقاها [ 91 \ 14 ] .
وهذه الآية الكريمة تشير إلى إزالة إشكال معروف في الآية . وإيضاح ذلك أن الله تعالى فيها نسب العقر لواحد لا لجماعة ، لأنه قال : فتعاطى فعقر بالإفراد مع أنه أسند عقر الناقة في آيات أخر إلى ثمود كلهم كقوله في سورة الأعراف : فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم الآية [ 7 \ 77 ] ، وقوله تعالى في هود : فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام [ 11 \ 65 ] ، وقوله في الشعراء : فعقروها فأصبحوا نادمين [ 26 \ 157 ] ، وقوله في الشمس : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] .
ووجه إشارة الآية إلى إزالة هذا الإشكال هو أن قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر يدل على أن ثمود اتفقوا كلهم على عقر الناقة ، فنادوا واحدا منهم لينفذ ما اتفقوا عليه ، أصالة عن نفسه ونيابة عن غيره . ومعلوم أن المتمالئين على العقر كلهم عاقرون ، وصحت نسبة العقر إلى المنفذ المباشر للعقر ، وصحت نسبته أيضا إلى الجميع ، لأنهم متمالئون كما دل عليه ترتيب تعاطي العقر بالفاء في قوله : فتعاطى فعقر على ندائهم صاحبهم لينوب عنهم في مباشرة العقر في قوله تعالى : فنادوا صاحبهم أي نادوه ليعقرها .
وجمع بعض العلماء بين هذه الآيات بوجه آخر ، وهو أن إطلاق المجموع مرادا به بعضه - أسلوب عربي مشهور ، وهو كثير في القرآن وفي كلام العرب .
وقد قدمنا في سورة الحجرات أن منه قراءة حمزة في قوله تعالى : فإن قاتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] [ ص: 482 ] بصيغة المجرد في الفعلين ، لأن من قتل ومات لا يمكن أن يؤمر بقتل قاتله ، بل المراد في إن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، ونظيره قول ابن مطيع :
فإن تقتلونا عند حرة واقم فإنا على الإسلام أول من قتل أي فإن تقتلوا بعضنا ، وإن منه أيضا : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا [ 49 \ 14 ] ، لأن هذا في بعضهم دون بعض ، بدليل قوله تعالى : ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر إلى قوله : سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم [ 9 \ 99 ] .
وقد قدمنا في الحجرات وغيرها أن من أصرح الشواهد العربية في ذلك قول الشاعر :
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
وقوله تعالى : فعقر : أي قتلها ، والعرب تطلق العقر على القتل والنحر والجرح ومنه قول امرئ القيس :
تقول وقد مال الغبيط بنا معا عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
ومن إطلاق العقر على نحر الإبل لقرى الضيف - قول جرير :
تعدون عقر الذيب أفضل مجدكم بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا
قوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة .
قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون [ 41 \ 17 ] .
قوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر .
قوله : إنا أرسلنا عليهم حاصبا : قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء [ 25 \ 40 ] ، وقوله : إلا آل لوط نجيناهم بسحر قد قدمنا الآيات الموضحة له إيضاحا شافيا بكثرة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-08, 11:58 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (522)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
صـ 483 إلى صـ 490
[ ص: 483 ] وقد تضمنت إيضاح قصة لوط وقومه في سورة هود وسورة الحجر في الكلام على القصة المذكورة في السورتين .
قوله تعالى : ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر . تضمنت هاتان الآيتان ثلاثة أمور :
الأول : أن آل فرعون جاءتهم النذر .
الثاني : أنهم كذبوا بآيات الله .
الثالث : أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة هنا جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله .
أما الأول منها وهو أن آل فرعون وقومه جاءهم النذر ، فقد أوضحه تعالى في آيات كثيرة من كتابه .
اعلم أولا أن قوله : جاء آل فرعون النذر ، قيل : هو جمع نذير وهو الرسول ، وقيل : هو مصدر بمعنى الإنذار ، فعلى أنه مصدر فقد بينت الآيات القرآنية بكثرة أن الذي جاءهم بذلك الإنذار هو موسى وهارون . وعلى أنه جمع نذير أي منذر ، فالمراد به موسى وهارون ، وقد جاء في آيات كثيرة إرسال موسى وهارون لفرعون كقوله تعالى في طه فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك [ 20 \ 47 ] .
ثم بين تعالى إنذارهما له في قوله : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ 20 \ 48 ] ، ونحوها من الآيات . وفي هذه الآية سؤال معروف ، وهو أن الله تبارك وتعالى أرسل لفرعون نبيين هما موسى وهارون ، كما قال تعالى : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 16 ] ، وهنا جمع النذر في قوله : ولقد جاء آل فرعون النذر ، وللعلماء عن هذا أجوبة ، أحدها أن أقل الجمع اثنان كما هو المقرر في أصول مالك بن أنس رحمه الله ، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله :
أقل معنى الجمع في المشتهر لاثنان في رأي الإمام الحميري
[ ص: 484 ] قالوا : ومنه قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] ، ولهما قلبان فقط وقوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ 4 \ 11 ] ، والمراد بالإخوة اثنان فصاعدا كما عليه الصحابة فمن بعدهم خلافا لابن عباس ، وقوله : وأطراف النهار [ 20 \ 130 ] ، وله طرفان . ومنها ما ذكره الزمخشري وغيره من أن المراد بالنذر موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون . ومنها أن النذر مصدر بمعنى الإنذار .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق في الجواب - أن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع المرسلين ، ومن كذب نذيرا واحدا فقد كذب جميع النذر ، لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة ، وهي مضمون لا إله إلا الله كما أوضحه تعالى بقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 43 \ 45 ] .
وأوضح تعالى أن من كذب بعضهم فقد كذب جميعهم في قوله تعالى : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا [ 4 \ 150 ] ، ، وأشار إلى ذلك في قوله : لا نفرق بين أحد من رسله [ 2 \ 285 ] ، وقوله : لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [ 2 \ 136 ] ، وقوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم الآية [ 4 \ 152 ] .
وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الرسل ، وذلك في قوله : كذبت قوم نوح المرسلين [ 26 \ 105 ] ، ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحا وحده ، حيث أفرد ذلك بقوله : إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إلى قوله : قال رب إن قومي كذبون [ 26 \ 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : كذبت عاد المرسلين [ 26 \ 123 ] ، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده ، حيث أفرده بقوله : إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون [ 26 \ 124 ] ، ونحو ذلك في قوله تعالى في [ ص: 485 ] قصة صالح وقومه ، ولوط وقومه ، وشعيب وأصحاب الأيكة ، كما هو معلوم ، وهو واضح لا خفاء فيه ، ويزيده إيضاحا قوله - صلى الله عليه وسلم : " إنا معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " يعني أنهم كلهم متفقون في الأصول وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع .
وأما الأمر الثاني : وهو كون فرعون وقومه كذبوا بآيات الله ، فقد جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] ، وقوله تعالى : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [ 20 \ 56 ] ، وقوله تعالى : فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى [ 79 \ 20 - 21 ] ، وقوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ 27 \ 12 - 14 ] .
وأما الأمر الثالث وهو قوله تعالى : فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، فقد جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين إلى قوله : فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم [ 51 \ 38 - 40 ] ، وقوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 \ 78 ] ، وقوله تعالى : وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله : أخذ عزيز مقتدر يوضحه قوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] .
وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم تلا قوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى الآية [ 11 \ 102 ] ، " ، والعزيز الغالب ، والمقتدر : شديد القدرة عظيمها .
قوله تعالى : أكفاركم خير من أولئكم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : فأهلكنا أشد منهم بطشا [ 43 \ 8 ] ، وفي صدر سورة الروم ، وغير ذلك من المواضع .
[ ص: 486 ] قوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا [ 52 \ 13 ] .
قوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الزخرف في بعض المناقشات التي ذكرناها في الكلام على قوله تعالى : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 43 \ 81 ] .
قوله تعالى : وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر .
الصحيح في معنى الآية أن كل شيء فعله الناس مكتوب عليهم في الزبر التي هي صحف الأعمال وكل صغير وكبير مستطر أي مكتوب عليهم لا يترك منه شيء .
وهذا المعنى جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] ، وقوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ 3 - 30 ] .
والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب . والمستطر معناه المسطور ، أي المكتوب ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر .
أي في جنات وأنهار كما أوضح تعالى ذلك في قوله : تجري من تحتها الأنهار [ 2 \ 25 ] ، وقوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى [ 47 \ 15 ] .
وقد ذكرنا كثيرا من أمثلة إطلاق المفرد ، وإرادة الجمع كما هنا في القرآن العظيم ، مع تنكير المفرد وتعريفه ، وإضافته ، وأكثرنا أيضا من الشواهد العربية على ذلك في سورة [ ص: 487 ] الحج في الكلام على قوله تعالى : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 488 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الرَّحْمَنِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا تَجَاهَلَ الْكُفَّارُ الرَّحْمَنَ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [ 25 \ 60 ] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفُرْقَانِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَأَدِلَّتَهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : عَلَّمَ الْقُرْآنَ . أَيْ عَلَّمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فَتَلَقَّتْهُ أُمَّتُهُ عَنْهُ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ رَدَّ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ تَعَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [ 16 \ 10 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [ 74 \ 24 ] ، أَيْ يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِهِ .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [ 25 \ 4 - 5 ] .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ ، بَلِ الرَّحْمَنُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 25 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ 11 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [ 41 \ 1 - 4 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص: 489 ] وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ 7 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [ 20 \ 113 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [ 25 \ 33 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [ 75 \ 17 - 19 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [ 42 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [ 12 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [ 4 \ 113 ] ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [ 2 \ 185 ] .
وَتَعْلِيمُهُ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ، قَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [ 35 \ 32 ] .
وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [ 18 \ 1 ] ، وَبَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَهُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِخَلْقِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ 28 \ 86 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ 44 \ 5 - 6 ] ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي الْكَهْفِ وَالزُّخْرُفِ .
عَلَّمَ الْقُرْآنَ حَذَفَ فِيهِ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْن ِ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي ، كَمَا ظَنَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ ، وَالصَّوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ ، مِنْ أَنَّ الْمَحْذُوفَ الْأَوَّلُ ، وَتَقْدِيرُهُ : عَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ : جِبْرِيلَ ، وَقِيلَ : الْإِنْسَانَ .
قوله تعالى : خلق الإنسان علمه البيان .
اعلم أولا أن خلق الإنسان وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة ، كما أشار تعالى لذلك بقوله في أول النحل : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] [ ص: 490 ] وقوله : في آخر " يس " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] .
فالإنسان بالأمس نطفة واليوم هو في غاية البيان وشدة الخصام يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث ، فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام ، مع أن الله خلقه من نطفة وجعله خصيما مبينا ؛ آية من آياته - جل وعلا - دالة على أنه المعبود وحده ، وأن البعث من القبور حق .
وقوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة خلق الإنسان لم يبين هنا أطوار خلقه للإنسان ، ولكنه بينها في آيات أخر كقوله تعالى في الفلاح : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 12 - 14 ] ، والآيات المبينة أطوار خلق الإنسان كثيرة معلومة .
وقد بينا ما يتعلق بالإنسان من الأحكام في جميع أطواره قبل ولادته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] ، وبينا هناك معنى النطفة والعلقة والمضغة في اللغة .
وقوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة علمه البيان التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أنه علم الإنسان البيان قد جاء موضحا في قوله تعالى : فإذا هو خصيم مبين في سورة النحل [ 16 \ 4 ] ، و " يس " [ 36 \ 77 ] ، وقوله : مبين على أنه اسم فاعل " أبان " المتعدية ، والمفعول محذوف للتعميم ، أي مبين كل ما يريد بيانه وإظهاره بلسانه مما في ضميره ، وذلك لأنه ربه علمه البيان ، وعلى أنه صفة مشبهة من " أبان " اللازمة ، وأن المعنى فإذا هو خصيم مبين ، أي : بين الخصومة ظاهرها ، فكذلك أيضا ، لأنه ما كان بين الخصومة إلا لأن الله علمه البيان .
وقد امتن الله - جل وعلا - على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان ، وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ 90 \ 9 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 12:00 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (523)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
صـ 491 إلى صـ 498
[ ص: 491 ] قوله تعالى : الشمس والقمر بحسبان .
الحسبان : مصدر زيدت فيه الألف والنون ، كما زيدت في الطغيان والرجحان والكفران ، فمعنى بحسبان أي بحساب وتقدير من العزيز العليم ، وذلك من آيات الله ونعمه أيضا على بني آدم ، لأنهم يعرفون به الشهور والسنين والأيام ، ويعرفون شهر الصوم وأشهر الحج ويوم الجمعة وعدد النساء اللاتي تعتد بالشهور ، كاليائسة والصغيرة والمتوفى عنها .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون [ 10 \ 5 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى : فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب [ 17 \ 12 ] .
قوله تعالى : والنجم والشجر يسجدان .
اختلف العلماء في المراد بالنجم في هذه الآية ، فقال بعض العلماء : النجم هو ما لا ساق له من النبات كالبقول ، والشجر هو ما له ساق ، وقال بعض أهل العلم : المراد بالنجم نجوم السماء .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي صوابه أن المراد بالنجم هو نجوم السماء ، والدليل على ذلك أن الله - جل وعلا - في سورة الحج صرح بسجود نجوم السماء والشجر ، ولم يذكر في آية من كتابه سجود ما ليس له ساق من النبات بخصوصه . ونعني بآية الحج قوله تعالى : ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر الآية [ 22 \ 18 ] .
فدلت هذه الآية أن الساجد من الشجر في آية الرحمن هو النجوم السماوية المذكورة مع الشمس والقمر في سورة الحج . وخير ما يفسر به القرآن القرآن ، وعلى هذا الذي اخترناه فالمراد بالنجم النجوم ، وقد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم ، [ ص: 492 ] وأول سورة الحج ، وذكرنا أن من الشواهد العربية لإطلاق النجم وإرادة النجم - قول الراعي :
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي :
أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصا والتراب
وقوله في هذه الآية الكريمة : يسجدان قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة الرعد في الكلام على قوله تعالى : ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال [ 13 \ 15 ] .
قوله تعالى : والسماء رفعها ووضع الميزان .
قوله : والسماء رفعها قد بينا الآيات الموضحة له في سورة " ق " في الكلام على قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها الآية [ 50 \ 6 ] .
وقوله : ووضع الميزان ، قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان الآية [ 42 \ 17 ] .
قوله تعالى : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] ، وذكرنا بعضه في سورة الشورى .
قوله تعالى : والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية أنه وضع الأرض للأنام وهو الخلق ، لأن وضع الأرض لهم على هذا الشكل العظيم ، القابل لجميع أنواع الانتفاع من إجراء الأنهار وحفر الآبار وزرع الحبوب والثمار ، ودفن الأموات وغير ذلك من أنواع المنافع من أعظم الآيات [ ص: 493 ] وأكبر الآلاء التي هي النعم ، ولذا قال تعالى بعده : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 13 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من امتنانه - جل وعلا - على خلقه بوضع الأرض لهم بما فيها من المنافع ، وجعلها آية لهم ، دالة على كمال قدرة ربهم واستحقاقه للعبادة وحده - جاء موضحا في آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين الآية [ 13 \ 3 ] .
وقوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه الآية [ 67 \ 15 ] .
وقوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 : 30 - 33 ] ، وقوله تعالى : والأرض فرشناها فنعم الماهدون [ 51 \ 48 ] ، وقوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض فراشا الآية [ 2 \ 22 ] .
وقوله تعالى : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ونزلنا من السماء ماء مباركا الآية [ 50 \ 7 ] .
وقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيها فاكهة أي فواكه كثيرة ، وقد قدمنا أن هذا أسلوب عربي معروف ، وأوضحنا ذلك بالآيات وكلام العرب .
وقوله : والنخل ذات الأكمام ذات أي صاحبة ، والأكمام جمع كم بكسر الكاف ، وهو ما يظهر من النخلة في ابتداء إثمارها ، شبه اللسان ثم ينفخ عن النور ، وقيل : هو ليفها ، واختار ابن جرير شموله للأمرين .
وقوله : والحب كالقمح ونحوه .
وقوله : ذو العصف قال أكثر العلماء : العصف ورق الزرع ، ومنه قوله تعالى : فجعلهم كعصف مأكول [ 105 \ 5 ] ، وقيل : العصف التبن .
وقوله : والريحان : اختلف العلماء في معناه ، فقال بعض أهل العلم : هو كل [ ص: 494 ] ما طاب ريحه من النبت وصار يشم للتمتع بريحه . وقال بعض العلماء : الريحان الرزق ، ومنه قول النجم بن تولب العكلي :
فروح الإله وريحانه ورحمته وسماء درر غمام ينزل رزق العباد
فأحيا البلاد وطاب الشجر
ويتعين كون الريحان بمعنى الرزق على قراءة حمزة والكسائي ، وأما على قراءة غيرهما فهو محتمل للأمرين المذكورين .
وإيضاح ذلك أن هذه الآية قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم : والحب ذو العصف والريحان بضم الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث ، وهو عطف على فاكهة أي : فيها فاكهة ، وفيها الحب إلخ ، وقرأه ابن عامر : " والحب ذا العصف والريحان " ، بفتح الباء والذال والنون من الكلمات الثلاث ، وفي رسم المصحف الشامي " ذا العصف " بألف بعد الذال ، مكان الواو ، والمعنى على قراءته : وخلق الحب ذا العصف والريحان ، وعلى هاتين القراءتين - فالريحان محتمل لكلا المعنيين المذكورين .
وقراءة حمزة والكسائي بضم الباء في " الحب " وضم الذال في " ذو العصف " وكسر نون الريحان عطفا على العصف ، وعلى هذا فالريحان لا يحتمل المشموم ؛ لأن الحب الذي هو القمح ونحوه - صاحب عصف وهو الورق أو التبن ، وليس صاحب مشموم طيب ريح .
فيتعين على هذه القراءة أن المراد بالعصف ما تأكله الأنعام من ورق وتبن . والمراد بالريحان ما يأكله الناس من نفس الحب ، فالآية على هذا المعنى كقوله : متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 33 ] ، وقوله تعالى : فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم [ 32 \ 27 ] .
وقوله تعالى : فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم [ 20 \ 53 - 54 ] ، وقوله تعالى : لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون الآية [ 16 \ 10 - 11 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيها فاكهة ما ذكره تعالى فيه من الامتنان بالفاكهة التي هي أنواع - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى في سورة [ ص: 495 ] الفلاح لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون [ 23 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وفاكهة وأبا [ 80 \ 31 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره هنا من الامتنان بالحب جاء موضحا في آيات أخر ، كقوله تعالى : فأنبتنا به جنات وحب الحصيد [ 50 \ 9 ] ، وقوله تعالى : فأنبتنا فيها حبا وعنبا [ 80 \ 27 - 28 ] ، وقوله تعالى : وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون [ 36 \ 33 ] ، وقوله تعالى : نخرج منه حبا متراكبا الآية [ 6 \ 99 ] ، وقوله تعالى : إن الله فالق الحب والنوى [ 6 \ 95 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما ذكره تعالى هنا من الامتنان بالنخل - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد [ 50 \ 10 ] ، وقوله تعالى : فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب الآية [ 23 \ 19 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وما ذكره هنا من الامتنان بالريحان على أنه الرزق كما في قراءة حمزة والكسائي - جاء موضحا في آيات كثيرة أيضا كقوله تعالى : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] ، وقوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض [ 10 \ 31 ] ، وقوله تعالى : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه [ 67 \ 21 ] ، وقوله تعالى : وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات الآية [ 40 \ 64 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
مسألة :
أخذ بعض علماء الأصول من هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات كقوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] - أن الأصل فيما على الأرض الإباحة ، حتى يرد دليل خاص بالمنع ، لأن الله امتن على الأنام بأنه وضع لهم الأرض ، وجعل لهم فيها أرزاقهم من القوت والتفكه في آية الرحمن هذه ، وامتن عليهم بأنه خلق لهم ما في الأرض جميعا في قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا .
ومعلوم أنه - جل وعلا - لا يمتن بحرام إذ لا منة في شيء محرم ، واستدلوا لذلك أيضا بحصر المحرمات في أشياء معينة في آيات من كتاب الله ، كقوله تعالى : [ ص: 496 ] قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير الآية [ 6 \ 145 ] ، وقوله تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن الآية [ 7 \ 33 ] ، وقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية [ 6 \ 151 ] .
وفي هذه المسألة قولان آخران :
أحدهما : أن الأصل فيما على الأرض التحريم حتى يدل دليل على الإباحة ، واحتجوا لهذا بأن جميع الأشياء مملوكة لله - جل وعلا - ، والأصل في ملك الغير منع التصرف فيه إلا بإذنه ، وفي هذا مناقشات معروفة في الأصول ، ليس هذا محل بسطها .
القول الثاني : هو الوقف وعدم الحكم فيها بمنع ولا إباحة حتى يقوم الدليل ، فتحصل أن في المسألة ثلاثة مذاهب : المنع ، والإباحة ، والوقف .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي صوابه في هذه المسألة هو التفصيل ، لأن الأعيان التي خلقها الله في الأرض للناس - بها ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون فيها نفع لا يشوبه ضرر كأنواع الفواكه وغيرها .
الثانية : أن يكون فيها ضرر لا يشوبه نفع كأكل الأعشاب السامة القاتلة .
الثالثة : أن يكون فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى ، فإن كان فيها نفع لا يشوبه ضرر ، فالتحقيق حملها على الإباحة حتى يقوم دليل على خلاف ذلك لعموم قوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا . وقوله : والأرض وضعها للأنام الآية .
وإن كان فيها ضرر لا يشوبه نفع فهي على التحريم لقوله - صلى الله عليه وسلم : " لا ضرر ولا ضرار " .
وإن كان فيها نفع من جهة وضرر من جهة أخرى فلها ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون النفع أرجح من الضرر .
والثانية : عكس هذا .
والثالثة : أن يتساوى الأمران .
فإن كان الضرر أرجح من النفع أو مساويا له فالمنع لحديث : " لا ضرر ولا [ ص: 497 ] ضرار " ولأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وإن كان النفع أرجح ، فالأظهر الجواز ، لأن المقرر في الأصول أن المصلحة الراجحة تقدم على المفسدة المرجوحة ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
وألغ إن يك الفساد أبعدا
أو رجح الإصلاح كالأسارى تفدى بما ينفع للنصارى
وانظر تدلي دولي العنب في كل مشرق وكل مغرب
ومراده : تقديم المصلحة الراجحة على المفسدة المرجوحة ، أو البعيدة ممثلا له بمثالين :
الأول منهما : أن تخليص أسارى المسلمين من أيدي العدو بالفداء مصلحة راجحة قدمت على المفسدة المرجوحة ، التي هي انتفاع العدو بالمال المدفوع لهم فداء للأسارى .
الثاني : أن انتفاع الناس بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على مفسدة عصر الخمر من العنب ، فلم يقل أحد بإزالة العنب من الدنيا لدفع ضرر عصر الخمر منه ، لأن الانتفاع بالعنب والزبيب مصلحة راجحة على تلك المفسدة . وهذا التفصيل الذي اخترنا قد أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
والحكم ما به يجيء الشرع وأصل كل ما يضر المنع
تنبيه :
اعلم أن علماء الأصول يقولون : إن الإنسان لا يحرم عليه فعل شيء إلا بدليل من الشرع ، ويقولون : إن الدليل على ذلك عقلي ، وهو البراءة الأصلية المعروفة بالإباحة العقلية ، وهي استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه .
ونحن نقول : إنه قد دلت آيات من كتاب الله على أن استصحاب العدم الأصلي قبل ورود الدليل الناقل عنه حجة في الإباحة ، ومن ذلك أن الله لما أنزل تشديده في تحريم الربا في قوله تعالى : فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله الآية [ 2 \ 279 ] ، وكانت وقت نزولها عندهم أموال مكتسبة من الربا ، اكتسبوها قبل نزول التحريم - بين الله تعالى لهم أن ما فعلوه من الربا على البراءة الأصلية قبل نزول التحريم لا حرج عليهم فيه ، إذ [ ص: 498 ] لا تحريم إلا ببيان ، وذلك في قوله تعالى : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف [ 2 \ 275 ] ، وقوله : ما سلف أي : ما مضى قبل نزول التحريم . ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف [ 4 \ 22 ] ، وقوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف [ 4 \ 23 ] . والأظهر أن الاستثناء فيهما في قوله : إلا ما قد سلف منقطع ، أي لكن ما سلف من ذلك قبل نزول التحريم فهو عفو ، لأنه على البراءة الأصلية .
ومن أصرح الآيات الدالة على ذلك - قوله تعالى : وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون [ 9 \ 115 ] ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما استغفر لعمه أبي طالب بعد موته على الشرك ، واستغفر المسلمون لموتاهم المشركين عاتبهم الله في قوله : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى الآية [ 9 \ 113 ] - ندموا على الاستغفار لهم ، فبين الله لهم أن استغفارهم لهم لا مؤاخذة به ، لأنه وقع قبل بيان منعه ، وهذا صريح فيما ذكرنا .
وقد قدمنا أن الأخذ بالبراءة الأصلية يعذر به في الأصول أيضا في الكلام على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وبينا هناك كلام أهل العلم في ذلك ، وأوضحنا ما جاء في ذلك من الآيات القرآنية . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار .
الصلصال : الطين اليابس الذي تسمع له صلصلة ، أي صوت إذا قرع بشيء ، وقيل : الصلصال المنتن ، والفخار الطين المطبوخ ، وهذه الآية بين الله فيها طورا من أطوار التراب الذي خلق منه آدم ، فبين في آيات أنه خلقه من تراب كقوله تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون [ 30 \ 20 ] ، وقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة [ 40 \ 67 ] ، وقوله تعالى : منها خلقناكم وفيها نعيدكم [ 20 \ 55 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 12:01 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (524)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
صـ 499 إلى صـ 506
[ ص: 499 ] وقد بينا في قوله تعالى : فإنا خلقناكم من تراب وقوله : منها خلقناكم أن المراد بخلقهم منها هو خلق أبيهم آدم منها ، لأنه أصلهم وهم فروعه ، ثم إن الله تعالى عجن هذا التراب بالماء فصار طينا ، ولذا قال : أأسجد لمن خلقت طينا [ 17 \ 61 ] ، وقال : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ 23 \ 12 ] ، وقال تعالى : وبدأ خلق الإنسان من طين [ 32 \ 7 ] ، وقال : أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب [ 37 \ 11 ] ، وقال تعالى : إني خالق بشرا من طين [ 38 \ 71 ] ، ثم خمر هذا الطين فصار حمأ مسنونا ، أي طينا أسود متغير الريح ، كما قال تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون الآية [ 15 \ 26 ] . قال تعالى : إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون [ 15 \ 28 ] ، وقال عن إبليس : قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون [ 15 \ 33 ] ، والمسنون قيل المتغير ، وقيل المصور ، وقيل الأملس ، ثم يبس هذا الطين فصار صلصالا . كما قال هنا : خلق الإنسان من صلصال كالفخار ، وقال : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون .
فالآيات يصدق بعضها بعضا ، ويتبين فيها أطوار ذلك التراب ; كما لا يخفى .
قوله : الجان أي وخلق الجان وهو أبو الجن ، وقيل : هو إبليس . وقيل : هو الواحد من الجن .
وعليه فالألف واللام للجنس ، والمارج : اللهب الذي لا دخان فيه ، وقوله : من نار بيان لمارج ، أي من لهب صاف كائن من النار .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه تعالى خلق الجان من النار - جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى في الحجر : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم [ 15 \ 26 ] ، وقوله تعالى : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين .
وقد أوضحنا الكلام على هذا في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] .
قوله تعالى : رب المشرقين ورب المغربين .
[ ص: 500 ] قد أوضحنا الكلام عليه في أول الصافات في الكلام على قوله تعالى : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق [ 37 \ 5 ] .
قوله تعالى : مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا [ 25 \ 53 ] .
قوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان .
قرأ هذا الحرف نافع وأبو عمرو : " يخرج " بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول ، وعليه فاللؤلؤ نائب فاعل " يخرج " وقرأه باقي السبعة : يخرج بفتح الياء وضم الراء مبنيا للفاعل ، وعليه فاللؤلؤ فاعل " يخرج " .
اعلم أن جماعة من أهل العلم قالوا : إن المراد بقوله في هذه الآية يخرج منهما أي من مجموعها الصادق بالبحر الملح ، وإن الآية من إطلاق المجموع وإرادة بعضه ، وإن اللؤلؤ والمرجان لا يخرجان من البحر الملح وحده دون العذب .
وهذا القول الذي قالوه في هذه الآية مع كثرتهم وجلالتهم لا شك في بطلانه ، لأن الله صرح بنقيضه في سورة فاطر ، ولا شك أن كل ما ناقض القرآن فهو باطل ، وذلك في قوله تعالى : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] ، فالتنوين في قوله : من كل تنوين عوض أي من كل واحد من العذب والملح تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ، وهي اللؤلؤ والمرجان ، وهذا مما لا نزاع فيه .
وقد أوضحنا هذا في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم الآية [ 6 \ 130 ] ، واللؤلؤ الدر ، والمرجان الخرز الأحمر . وقال بعضهم : المرجان صغار الدر واللؤلؤ كباره .
قوله تعالى : وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام .
[ ص: 501 ] قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشورى في الكلام على قوله تعالى : ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام [ 42 \ 32 ] .
قوله تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من فناء كل من على الأرض وبقاء وجهه - جل وعلا - المتصف بالجلال والإكرام - جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] ، وقوله تعالى : وتوكل على الحي الذي لا يموت [ 25 \ 58 ] ، وقوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت [ 3 \ 185 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والوجه صفة من صفات الله العلي وصف بها نفسه ، فعلينا أن نصدق ربنا ونؤمن بما وصف به نفسه مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق .
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة الأعراف ، وفي سورة القتال . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] ، وتكلمنا أيضا هناك على غيرها من الآيات التي يفسرها الجاهلون بكتاب الله بغير معانيها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن السماء ستنشق يوم القيامة ، وأنها إذا انشقت صارت وردة كالدهان ، وقوله : وردة : أي حمراء كلون الورد ، وقوله : كالدهان : فيه قولان معروفان للعلماء :
الأول منهما : أن الدهان هو الجلد الأحمر ، وعليه فالمعنى أنها تصير وردة متصفة بلون الورد مشابهة للجلد الأحمر في لونه .
[ ص: 502 ] والثاني : أن الدهان هو ما يدهن به ، وعليه ، فالدهان ، قيل : هو جمع دهن ، وقيل : هو مفرد ، لأن العرب تسمي ما يدهن به دهانا ، وهو مفرد ، ومنه قول امرئ القيس :
كأنهما مزادتا متعجل فريان لما تسلقا بدهان
وحقيقة الفرق بين القولين أنه على القول بأن الدهان هو الجلد الأحمر يكون الله وصف السماء عند انشقاقها يوم القيامة بوصف واحد وهو الحمرة فشبهها بحمرة الورد ، وحمرة الأديم الأحمر .
قال بعض أهل العلم : إنها يصل إليها حر النار فتحمر من شدة الحرارة . وقال بعض أهل العلم : أصل السماء حمراء إلا أنها لشدة بعدها وما دونها من الحواجز لم تصل العيون إلى إدراك لونها الأحمر على حقيقته ، وأنها يوم القيامة ترى على حقيقة لونها .
وأما على القول بأن الدهان هو ما يدهن به ، فإن الله قد وصف السماء عند انشقاقها بوصفين أحدهما حمرة لونها ، والثاني أنها تذوب وتصير مائعة كالدهن .
أما على القول الأول ، فلم نعلم آية من كتاب الله تبين هذه الآية ، بأن السماء ستحمر يوم القيامة حتى تكون كلون الجلد الأحمر .
وأما على القول الثاني الذي هو أنها تذوب وتصير مائعة ، فقد أوضحه الله في غير هذا الموضع وذلك في قوله تعالى في المعارج : إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا يوم تكون السماء كالمهل [ 70 \ 7 - 8 ] ، والمهل شيء ذائب على كلا القولين ، سواء قلنا : إنه دردي الزيت وهو عكره ، أو قلنا إنه الذائب من حديد أو نحاس أو نحوهما .
وقد أوضح تعالى في الكهف أن المهل شيء ذائب يشبه الماء ، شديد الحرارة ، وذلك في قوله تعالى : وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا [ 18 \ 29 ] .
والقول بأن الوردة تشبيه بالفرس الكميت وهو الأحمر لأن حمرته تتلون باختلاف الفصول ، فتشتد حمرتها في فصل ، وتميل إلى الصفرة في فصل ، وإلى الغبرة في فصل .
وأن المراد بالتشبيه كون السماء عند انشقاقها تتلون بألوان مختلفة واضح البعد عن ظاهر الآية . وقول من قال : إنها تذهب وتجيء - معناه له شاهد في كتاب الله ، وذلك في [ ص: 503 ] قوله تعالى : يوم تمور السماء مورا الآية [ 52 \ 9 ] ، ولكنه لا يخلو عندي من بعد .
وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من انشقاق السماء يوم القيامة - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : إذا السماء انشقت [ 84 \ 1 ] ، وقوله تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء [ 69 \ 15 - 16 ] ، وقوله : ويوم تشقق السماء بالغمام الآية [ 25 \ 25 ] ، وقوله : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة " ق " في الكلام على قوله تعالى : وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] .
قوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة لا يسأل إنسا ولا جانا عن ذنبه ، وبين هذا المعنى في قوله تعالى في القصص : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] .
وقد ذكر - جل وعلا - في آيات أخر أنه يسأل جميع الناس يوم القيامة الرسل والمرسل إليهم ، وذلك في قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] ، وقوله : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] .
وقد جاءت آيات من كتاب الله مبينة لوجه الجمع بين هذه الآيات التي قد يظن غير العالم أن بينها اختلافا .
اعلم أولا أن السؤال المنفي في قوله هنا فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ، وقوله : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] - أخص من السؤال المثبت في قوله : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ، لأن هذه فيها تعميم السؤال في كل عمل ، والآيتان قبلها ليس فيهما نفي السؤال إلا عن الذنوب خاصة ، وللجمع بين هذه الآيات أوجه معروفة عند العلماء .
الأول منهما : وهو الذي دل عليه القرآن ، وهو محل الشاهد عندنا من بيان القرآن بالقرآن هنا ، هو أن السؤال نوعان : أحدهما سؤال التوبيخ والتقريع وهو من أنواع العذاب ، والثاني هو سؤال الاستخبار والاستعلام .
فالسؤال المنفي في بعض الآيات هو سؤال الاستخبار والاستعلام ، لأن الله أعلم [ ص: 504 ] بأفعالهم منهم أنفسهم كما قال تعالى : أحصاه الله ونسوه [ 58 \ 6 ] .
وعليه فالمعنى : لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان سؤال استخبار واستعلام لأن الله أعلم بذنبه منه .
والسؤال المثبت في الآيات الأخرى هو سؤال التوبيخ والتقريع ، سواء كان عن ذنب أو غير ذنب . ومثال سؤالهم عن الذنوب سؤال توبيخ وتقريع قوله تعالى : فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون [ 3 \ 106 ] ، ومثاله عن غير ذنب قوله تعالى : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون [ 37 \ 24 - 26 ] ، وقوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون أفسحر هذا [ 52 \ 13 - 15 ] ، وقوله : ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] .
أما سؤال الموءودة في قوله : وإذا الموءودة سئلت [ 81 \ 8 ] ، فلا يعارض الآيات النافية السؤال عن الذنب ، لأنها سئلت عن أي ذنب قتلت وهذا ليس من ذنبها ، والمراد بسؤالها توبيخ قاتلها وتقريعه ، لأنها هي تقول لا ذنب لي فيرجع اللوم على من قتلها ظلما .
وكذلك سؤال الرسل ، فإن المراد به توبيخ من كذبهم وتقريعه ، مع إقامة الحجة عليه بأن الرسل قد بلغته ، وباقي أوجه الجمع بين الآيات لا يدل عليه قرآن ، وموضوع هذا الكتاب بيان القرآن بالقرآن ، وقد بينا بقيتها في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في أول سورة الأعراف .
وقد قدمنا طرفا من هذا الكتاب المبارك في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين [ 7 \ 6 ] .
قوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام .
قوله : بسيماهم : أي بعلامتهم المميزة لهم ، وقد دل القرآن على أنها هي سواد وجوههم وزرقة عيونهم ، كما قال تعالى : يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم الآية [ 3 \ 106 ] ، وقال تعالى : ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة [ 39 \ 70 ] [ ص: 505 ] وقال تعالى : وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 10 \ 27 ] ، وقال تعالى : ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة [ 80 \ 40 - 42 ] ، لأن معنى قوله : ترهقها قترة أي يعلوها ويغشاها سواد كالدخان الأسود ، وقال تعالى في زرقة عيونهم : ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [ 20 \ 102 ] ، ولا شيء أقبح وأشوه من سواد الوجوه وزرقة العيون ، ولذا لما أراد الشاعر أن يقبح علل البخيل بأسوأ الأوصاف وأقبحها ، فوصفها بسواد الوجوه وزرقة العيون حيث قال :
وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود
ولا سيما إذا اجتمع مع سواد الوجه اغبراره ، كما في قوله : عليها غبرة ترهقها قترة فإن ذلك يزيده قبحا على قبح .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فيؤخذ بالنواصي والأقدام ، وقد قدمنا تفسيره والآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا [ 52 \ 13 ] .
قوله تعالى : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن .
أما قوله : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور أيضا في الكلام على قوله تعالى : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .
وأما قوله تعالى : يطوفون بينها وبين حميم آن فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحج في الكلام على قوله : يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم الآية [ 22 \ 19 - 20 ] .
قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان .
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد يكون فيها وجهان صحيحان كلاهما يشهد له قرآن ، فنذكر ذلك كله مبينين أنه كله حق ، وذكرنا لذلك أمثلة متعددة في [ ص: 506 ] هذا الكتاب المبارك ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة .
وإيضاح ذلك أن هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء ، كلاهما يشهد له قرآن .
أحدهما : أن المراد بقوله : مقام ربه : أي قيامه بين يدي ربه ، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام ، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف ، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه ، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 ] ، فإن قوله : ونهى النفس عن الهوى : قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه ، فنهى نفسه عن هواها .
والوجه الثاني : أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المقام - هو الله تعالى ، أي : خاف هذا العبد قيام الله عليه ومراقبته لأعماله وإحصاءها عليه ، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم كقوله تعالى : الله لا إله إلا هو الحي القيوم [ 2 \ 255 ] ، وقوله تعالى : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت [ 13 \ 33 ] ، وقوله تعالى : ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه الآية [ 10 \ 61 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقد قدمنا في سورة الأحقاف في الكلام على قوله تعالى في شأن الجن : ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم الآية [ 46 \ 31 ] أن قوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان ، وتصريحه بالامتنان بذلك على الإنس والجن في قوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 47 ] نص قرآني على أن المؤمنين الخائفين مقام ربهم من الجن يدخلون الجنة .
قوله تعالى : متكئين على فرش بطائنها من إستبرق .
قد بينا في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : وتستخرجوا منه حلية تلبسونها [ 16 \ 14 ] ، جميع الآيات القرآنية الدالة على تنعم أهل الجنة بالسندس والإستبرق ، والحلية بالذهب والفضة ، وبينا أن جميع ذلك يحرم على ذكور هذه الأمة في دار الدنيا .
قوله تعالى : فيهن قاصرات الطرف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 12:01 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (525)
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
صـ 507 إلى صـ 514
[ ص: 507 ] قد قدمنا الكلام عليه مستوفى في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] .
قوله تعالى : حور مقصورات في الخيام .
قد قدمنا معنى القصر في الخيام ، وقصر الطرف على الأزواج في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] ، وقدمنا الآيات الدالة على صفات نساء أهل الجنة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب في سورة البقرة والصافات وغير ذلك .
[ ص: 508 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ . الَّذِي يَظْهَرُ لِي صَوَابُهُ أَنَّ " إِذَا " هُنَا هِيَ الظَّرْفِيَّةُ الْمُضَمَّنَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ ، وَأَنَّ قَوْلَهُ الْآتِيَ : إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [ 56 \ 4 ] ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ : إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَأَنَّ جَوَابَ " إِذَا " هُوَ قَوْلُهُ : فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَهَذَا هُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَيَّانَ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَسْلُوبَةُ مَعْنَى الشَّرْطِ هُنَا ، وَأَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِـ " اذْكُرْ " مَقَدَّرَةً أَوْ أَنَّهَا مُبْتَدَأٌ ، وَخِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِـ " لَيْسَ " الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهَا .
وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ جُمْهُورِ النَّحْوِيِّينَ أَنَّ " إِذَا " ظَرْفٌ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ مَنْصُوبٌ بِجَزَائِهِ ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى : إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ وَحَصَلَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الْعَظِيمَةُ ظَهَرَتْ مَنْزِلَةُ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابِ الْمَشْأَمَةِ .
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ أَيْ قَامَتِ الْقِيَامَةُ ، فَالْوَاقِعَةُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ كَالطَّامَّةِ وَالصَّاخَّةِ وَالْآزِفَةِ وَالْقَارِعَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - أَنَّ الْوَاقِعَةَ هِيَ الْقِيَامَةُ فِي قَوْلِهِ : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [ 69 \ 13 - 16 ] .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ فِيهِ أَوْجَهٌ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، كُلُّهَا حَقٌّ ، وَبَعْضُهَا يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ .
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْلَهُ كَاذِبَةٌ مَصْدَرٌ جَاءَ بِصِفَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ ، فَالْكَاذِبَةُ بِمَعْنَى الْكَذِبِ كَالْعَافِيَةِ بِمَعْنَى الْمُعَافَاةِ ، وَالْعَاقِبَةِ بِمَعْنَى الْعُقْبَى ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى عِنْدَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ : لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً [ 88 \ 11 ] ، قَالُوا : مَعْنَاهُ لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَغْوًا ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى لَيْسَ لِقِيَامِ الْقِيَامَةِ كَذِبٌ وَلَا تَخَلُّفٌ بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَاقِعٌ يَقِينًا لَا مَحَالَةَ .
[ ص: 509 ] وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُمْ : حَمَلَ الْفَارِسُ عَلَى قِرْنِهِ فَمَا كَذَبَ ، أَيْ : مَا تَأَخَّرَ وَلَا تَخَلَّفَ وَلَا جَبُنَ .
وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ :
لَيْثٌ بَعْثَرٌّ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إِذَا مَا كَذَبَ اللَّيْثُ عَنْ أَقْرَانِهِ صَدَقَا
وَهَذَا الْمَعْنَى قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُ مْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الْآيَةَ [ 4 \ 87 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا [ 22 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ [ 3 \ 9 ] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ الشُورَى فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ [ 42 \ 7 ] .
الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ : لِوَقْعَتِهَا ظَرْفِيَّةٌ ، وَ كَاذِبَةٌ اسْمُ فَاعِلِ صِفَةٍ لِمَحْذُوفٍ أَيْ لَيْسَ فِي وَقْعَةِ الْوَاقِعَةِ نَفْسٌ كَاذِبَةٌ بَلْ جَمِيعُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَادِقُونَ بِالِاعْتِرَافِ بِالْقِيَامَةِ مُصَدِّقُونَ بِهَا لَيْسَ فِيهِمْ نَفْسٌ كَاذِبَةٌ بِإِنْكَارِهَا وَلَا مُكَذِّبَةٌ بِهَا .
وَهَذَا الْمَعْنَى تَشْهَدُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [ 26 \ 201 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [ 22 \ 55 ] .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [ 27 \ 66 ] ، وَبَاقِي الْأَوْجُهِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى مَعْنَاهُ قُرْآنٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ بُعْدٍ عِنْدِي ، وَلِذَا لَمْ أَذْكُرْهُ ، وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ .
قوله تعالى : خافضة رافعة .
خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة رافعة ، ومفعول كل من الوصفين محذوف .
قال بعض العلماء : تقديره هي خافضة أقواما في دركات النار ، رافعة أقواما إلى الدرجات العلى إلى الجنة ، وهذا المعنى قد دلت عليه آيات كثيرة كقوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ 4 \ 145 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 510 ] ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار [ 20 \ 75 - 76 ] ، وقوله تعالى : وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 17 \ 21 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
وقال بعض العلماء : تقديره خافضة أقواما كانوا مرتفعين في الدنيا رافعة أقواما كانوا منخفضين في الدنيا ، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله تعالى ، كقوله تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون إلى قوله : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون [ 83 \ 29 - 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقال بعض العلماء : تقديره خافضة بعض الأجرام التي كانت مرتفعة كالنجوم التي تسقط وتتناثر يوم القيامة ، وذلك خفض لها بعد أن كانت مرتفعة ، كما قال تعالى : وإذا الكواكب انتثرت [ 82 \ 2 ] ، وقال تعالى : وإذا النجوم انكدرت [ 81 \ 2 ] .
رافعة أي رافعة بعض الأجرام التي كانت منخفضة كالجبال التي ترفع من أماكنها وتسير بين السماء والأرض كما قال تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] ، فقوله : وترى الأرض بارزة ، لأنها لم يبق على ظهرها شيء من الجبال ، وقال تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ 27 \ 88 ] .
وقد قدمنا أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن ذلك يوم القيامة ، وأنها تسير بين السماء والأرض كسير السحاب الذي هو المزن .
وقد صرح بأن الجبال تحمل هي والأرض أيضا يوم القيامة . وذلك في قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال الآية [ 69 \ 13 ] .
وعلى هذا القول ، فالمراد تعظيم شأن يوم القيامة ، وأنه يختل فيه نظام العالم ، وعلى القولين الأولين ، فالمراد الترغيب والترهيب ، ليخاف الناس في الدنيا من أسباب الخفض في الآخرة فيطيعوا الله ويرغبوا في أسباب الرفع فيطيعوه أيضا ، وقد قدمنا مرارا أن الصواب في مثل هذا حمل الآية على شمولها للجميع .
قوله تعالى : إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا .
[ ص: 511 ] قد قدمنا أن الأظهر عندنا أن قوله : إذا رجت بدل من قوله : إذا وقعت الواقعة ، والرج : التحريك الشديد ، وما دلت عليه هذه الآية من أن الأرض يوم القيامة تحرك تحريكا شديدا جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : إن زلزلة الساعة شيء عظيم [ 99 \ 1 ] . وقوله تعالى : وبست الجبال بسا في معناه . لأهل العلم أوجه متقاربة ، لا يكذب بعضها بعضا وكلها حق ، وكلها يشهد له قرآن .
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها أوجه كلها حق وكلها يشهد له قرآن ، فنذكر جميع الأوجه وأدلتها القرآنية .
الوجه الأول : قال أكثر المفسرين : وبست الجبال بسا أي فتتت تفتيتا حتى صارت كالبسيسة ، وهي دقيق ملتوت بسمن ، ومنه قول لص من غطفان أراد أن يخبز دقيقا عنده فخاف أن يعجل عنه ، فأمر صاحبيه أن يلتاه ليأكلوه دقيقا ملتوتا ، وهو البسيسة :
لا تخبزا خبزا وبسابسا ولا تطيلا بمناخ حبسا
وهذا الوجه يشهد له قرآن كقوله تعالى : يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا [ 73 \ 14 ] ، فقوله : كثيبا مهيلا أي رملا متهايلا ، ومنه قول امرئ القيس :
ويوما على ظهر الكثيب تعذرت علي وآلت حلفة لم تحلل
ومشابهة الدقيق المبسوس بالرمل المتهايل واضحة ، فقوله : وكانت الجبال كثيبا مهيلا مطابق في المعنى لتفسير وبست الجبال بسا بأن بسها هو تفتيتها وطحنها كما ترى .
وما دلت عليه هذه الآيات من أنها تسلب عنها قوة الحجرية وتتصف بعد الصلابة والقوة باللين الشديد الذي هو كلين الدقيق والرمل المتهايل . يشهد له في الجملة تشبيهها في بعض الآيات بالصوف المنفوش الذي هو العهن ، كقوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 5 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 512 ] يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن [ 70 \ 8 - 9 ] ، وأصل العهن أخص من مطلق الصوف لأنه الصوف المصبوغ خاصة . ومنه قول زهير بن أبي سلمى في معلقته :
كأن فتاة العهن في كل منزل نزلن به حب الفنا لم يحطم
وقال بعضهم : الجبال منها جدد بيض وحمر ومختلف ألوانها وغرابيب سود ، فإذا بست وفتتت يوم القيامة وطيرت في الجو أشبهت العهن إذا طيرته الريح في الهوا ، وهذا الوجه يدل عليه ترتيب كينونتها هباء منبثا بالفاء على قوله : وبست الجبال بسا لأن الهباء هو ما ينزل من الكوة من شعاع الشمس إذا قابلتها :
منبثا أي متفرقا ، ووصفها بالهباء المنبث أنسب لكون البس بمعنى التفتيت والطحن .
الوجه الثاني : أن معنى قوله : وبست الجبال بسا أي سيرت بين السماء والأرض ، وعلى هذا فالمراد ببسها سوقها وتسييرها من قول العرب : بسست الإبل أبسها ، بضم الباء وأبسستها أبسها بضم الهمزة وكسر الباء ، لغتان بمعنى سقتها ، ومنه حديث : " يخرج أقوام من المدينة إلى اليمن والشام ، والعراق يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " .
وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : ويوم نسير الجبال الآية [ 18 \ 47 ] ، وقوله : وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 10 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة النمل في الكلام على قوله : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ 27 \ 88 ] .
الوجه الثالث : أن معنى قوله : وبست الجبال بسا نزعت من أماكنها وقلعت ، وقد أوضحنا أن هذا الوجه راجع للوجه الأول مع الإيضاح التام لأحوال الجبال يوم القيامة ، وأطوارها ، بالآيات القرآنية ، وفي سورة " طه " في الكلام على قوله تعالى : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فكانت هباء منبثا كقوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، والهباء إذا انبث أي تفرق واضمحل وصار لا شيء ، والسراب قد قال الله تعالى فيه : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا [ 24 \ 39 ] .
قوله تعالى : وكنتم أزواجا ثلاثة .
[ ص: 513 ] أي صرتم أزواجا ثلاثة ، والعرب تطلق كان بمعنى صار ، ومنه ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين [ 2 \ 35 ] ، أي فتصيرا من الظالمين .
ومنه قول الشاعر :
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
وقوله : أزواجا : أي أصنافا ثلاثة ، ثم بين هذه الأزواج الثلاثة بقوله : فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 8 - 12 ] ، أما أصحاب الميمنة فهم أصحاب اليمين ، كما أوضحه تعالى بقوله : وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود [ 56 \ 27 - 28 ] ، وأصحاب المشأمة هم أصحاب الشمال كما أوضحه تعالى بقوله : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم الآيات [ 56 \ 41 - 42 ] .
قال بعض العلماء : قيل لهم أصحاب اليمين لأنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم .
وقيل : لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة .
وقيل : لأنهم عن يمين أبيهم آدم ، كما رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك ليلة الإسراء .
وقيل : سموا أصحاب اليمين وأصحاب الميمنة لأنهم ميامين ، أي مباركون على أنفسهم ، لأنهم أطاعوا ربهم فدخلوا الجنة ، واليمن البركة .
وسمي الآخرون أصحاب الشمال ، وقيل : لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم .
وقيل : لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار ، والعرب تسمي الشمال شؤما ، كما تسمي اليمين يمنا ، ومن هنا قيل لهم أصحاب المشأمة أو لأنهم مشائيم على أنفسهم : فعصوا الله فأدخلهم النار ، والمشائيم ضد الميامين ، ومنه قول الشاعر :
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ولا ناعب إلا ببين غرابها
وبين - جل وعلا - أن السابقين هم المقربون ، وذلك في قوله : والسابقون السابقون أولئك المقربون [ 56 \ 10 - 11 ] ، وهذه الأزواج الثلاثة المذكورة هي وجزاؤها في أول هذه السورة الكريمة جاءت هي [ ص: 514 ] وجزاؤها أيضا في آخرها ، وذلك في قوله : فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم [ 56 \ 88 - 94 ] .
والمكذبون هم أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال .
وذكر تعالى بعض صفات أصحاب الميمنة والمشأمة في البلد في قوله تعالى : فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة إلى قوله تعالى : أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة [ 90 \ 18 - 20 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ما أصحاب الميمنة ، وقوله : ما أصحاب المشأمة ، استفهام أريد به التعجب من شأن هؤلاء في السعادة ، وشأن هؤلاء في الشقاوة ، والجملة فيهما مبتدأ وخبر ، وهي خبر المبتدأ قبله ، وهو أصحاب الميمنة في الأول وأصحاب المشأمة في الثاني .
وهذا الأسلوب يكثر في القرآن نحو : الحاقة ما الحاقة [ 69 \ 1 - 2 ] ، القارعة ما القارعة [ 101 \ 1 - 2 ] ، والرابط في جملة الخبر في جميع الآيات المذكورة هو إعادة لفظ المبتدأ في جملة الخبر كما لا يخفى ، وقوله : والسابقون لم يذكر فيه استفهام تعجب كما ذكره فيما قبله ، ولكنه ذكر في مقابله تكرير لفظ السابقين .
والأظهر في إعرابه أنه مبتدأ وخبر على عادة العرب في تكريرهم اللفظ وقصدهم الإخبار بالثاني عن الأول ، يعنون أن اللفظ المخبر عنه هو المعروف خبره الذي لا يحتاج إلى تعريف ، ومنه قول أبي النجم :
أنا أبو النجم وشعري شعري لله دري ما أجن صدري
فقوله : وشعري شعري ، يعني : شعري هو الذي بلغك خبره ، وانتهى إليك وصفه .
قوله تعالى : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 12:02 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (526)
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
صـ 515 إلى صـ 522
وقوله : ثلة خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير هم ثلة ، والثلة الجماعة من الناس ، [ ص: 515 ] وأصلها القطعة من الشيء وهي الثل ، وهو الكسر .
وقال الزمخشري : والثلة من الثل ، وهو الكسر ، كما أن الأمة من الأم وهو الشبح ، كأنها جماعة كسرت من الناس ، وقطعت منهم . ا هـ . منه .
واعلم أن الثلة تشمل الجماعة الكثيرة ، ومنه قول الشاعر :
فجاءت إليهم ثلة خندفية بجيش كتيار من السيل مزبد
لأن قوله : تيار من السيل : يدل على كثرة هذا الجيش المعبر عنه بالثلة .
وقد اختلف أهل العلم في المراد بهذه الثلة من الأولين ، وهذا القليل من الآخرين المذكورين هنا ، كما اختلفوا في الثلتين المذكورتين في قوله : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ 56 \ 39 - 40 ] ، فقال بعض أهل العلم : كل هؤلاء المذكورين من هذه الأمة ، وإن المراد بالأولين منهم الصحابة .
وبعض العلماء يذكر معهم القرون المشهود لهم بالخير في قوله - صلى الله عليه وسلم : " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " الحديث ، والذين قالوا : هم كلهم من هذه الأمة ، قالوا : إنما المراد بالقليل وثلة من الآخرين وهم من بعد ذلك إلى قيام الساعة .
وقال بعض العلماء : المراد بالأولين في الموضعين الأمم الماضية قبل هذه الأمة ، فالمراد بالآخرين فيهما هو هذه الأمة .
قال مقيده عفا الله عنه ، وغفر له : ظاهر القرآن في هذا المقام أن الأولين في الموضعين من الأمم الماضية ، والآخرين فيهما من هذه الأمة ، وأن قوله تعالى : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين في السابقين خاصة ، وأن قوله : ثلة من الأولين وثلة من الآخرين في أصحاب اليمين خاصة .
وإنما قلنا : إن هذا هو ظاهر القرآن في الأمور الثلاثة ، التي هي شمول الآيات لجميع الأمم ، وكون قليل من الآخرين في خصوص السابقين ، وكون ثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين لأنه واضح من سياق الآيات .
أما شمول الآيات لجميع الأمم فقد دل عليه أول السورة ، لأن قوله : إذا وقعت الواقعة إلى قوله : فكانت هباء منبثا لا شك أنه لا يخص أمة دون أمة ، وأن [ ص: 516 ] الجميع مستوون في الأهوال والحساب والجزاء .
فدل ذلك على أن قوله : وكنتم أزواجا ثلاثة [ 56 \ 7 ] عام في جميع أهل المحشر ، فظهر أن السابقين وأصحاب اليمين منهم من هو من الأمم السابقة ، ومنهم من هو من هذه الأمة .
وعلى هذا فظاهر القرآن أن السابقين من الأمم الماضية أكثر من السابقين من هذه الأمة ، وأن أصحاب اليمين من الأمم السابقة ليست أكثر من أصحاب اليمين من هذه الأمة ، لأنه عبر في السابقين من هذه الأمة بقوله : وقليل من الآخرين وعبر عن أصحاب اليمين من هذه الأمة وثلة من الآخرين .
ولا غرابة في هذا ، لأن الأمم الماضية أمم كثيرة ، وفيها أنبياء كثيرة ورسل ، فلا مانع من أن يجتمع من سابقيها من لدن آدم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - أكثر من سابقي هذه الأمة وحدها .
أما أصحاب اليمين من هذه الأمة فيحتمل أن يكونوا أكثر من أصحاب اليمين من جميع الأمم ، لأن الثلة تتناول العدد الكثير ، وقد يكون أحد العددين الكثيرين أكثر من الآخر ، مع أنهما كليهما كثير .
ولهذا تعلم أن ما دل عليه ظاهر القرآن واختاره ابن جرير - لا ينافي ما جاء من أن نصف أهل الجنة من هذه الأمة .
فأما كون قوله : وقليل من الآخرين دل ظاهر القرآن على أنه في خصوص السابقين ، فلأن الله قال : والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم [ 56 \ 10 - 12 ] ، ثم قال تعالى مخبرا عن هؤلاء السابقين المقربين : ثلة من الأولين وقليل من الآخرين .
وأما كون قوله : وثلة من الآخرين في خصوص أصحاب اليمين ، فلأن الله تعالى قال : فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين [ 56 \ 36 - 40 ] ، والمعنى هم - أي أصحاب اليمين - ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، وهذا واضح كما ترى .
قوله تعالى : على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين .
[ ص: 517 ] السرر جمع سرير ، وقد بين تعالى أن سررهم مرفوعة في قوله في الغاشية : فيها سرر مرفوعة [ 18 \ 13 ] ، وقوله تعالى : موضونة منسوجة بالذهب ، وبعضهم يقول بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت ، وكل نسج أحكم ودخل بعضه في بعض تسميه العرب وضنا ، وتسمي المنسوج به موضونا ووضينا ، ومنه الدرع الموضونة إذا أحكم نسجها ودخل بعض حلقاتها في بعض .
ومنه قول الأعشى :
ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيرا فعيرا
وقوله أيضا :
وبيضاء كالنهي موضونة لها قونس فوق جيب البدن
ومن هذا القبيل تسمية البطان الذي ينسج من السيور ، مع إدخال بعضها في بعض - وضينا .
ومنه قول الراجز :
إليك تعدو قلقا وضينها معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
وهذه السرر المزينة هي المعبر عنها بالأرائك في قوله : متكئين فيها على الأرائك [ 18 \ 31 ] ، وقوله : هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 56 ] . وقوله في هذه الآية الكريمة متكئين حال من الضمير في قوله : على سرر والتقدير : استقروا على سرر في حال كونهم متكئين عليها .
وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من كونهم على سرر متقابلين ، أي ينظر بعضهم إلى وجه بعض ، كلهم يقابل الآخر بوجهه ، جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى في الحجر : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين [ 15 \ 47 ] وقوله في الصافات : أولئك لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون في جنات النعيم على سرر متقابلين [ 37 \ 41 - 44 ] .
[ ص: 518 ] قوله تعالى : يطوف عليهم ولدان مخلدون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون [ 52 \ 24 ] .
قوله تعالى : وكأس من معين لا يصدعون عنها ولا ينزفون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم [ 52 \ 23 ] ، وفي المائدة في الكلام على قوله تعالى : إنما الخمر والميسر الآية [ 5 \ 90 ] .
قوله تعالى : وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون [ 56 \ 22 ] .
قوله تعالى : وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى : ولهم فيها أزواج مطهرة الآية [ 2 \ 25 ] ، وفي الصافات في الكلام على قوله تعالى : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما .
قد قدمنا الكلام عليه بإيضاح في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : لا يسمعون فيها لغوا إلا سلاما ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا [ 19 \ 62 ] ، وتكلمنا هناك على الاستثناء المنقطع وذكرنا شواهده من القرآن وكلام العرب ، وبينا كلام أهل العلم في حكمه شرعا .
قوله تعالى : وظل ممدود وماء مسكوب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة .
أما قوله : وظل ممدود فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : وندخلهم ظلا ظليلا [ 4 \ 57 ] ، وأما قوله : وماء مسكوب [ ص: 519 ] فقد دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن [ 47 \ 15 ] ، وقوله : إن المتقين في جنات وعيون [ 15 \ 45 ] ، وقوله : ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء الآية [ 7 \ 50 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والمسكوب اسم مفعول ، سكب الماء ونحوه إذا صبه بكثرة ، والمفسرون يقولون : إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود ، وأن الماء يصل إليهم أينما كانوا كيف شاءوا ، كما قال تعالى : عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا [ 76 \ 6 ] ، وأما قوله : وفاكهة كثيرة : فقد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون [ 52 \ 22 ] .
قوله تعالى : إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا لأصحاب اليمين .
الضمير في أنشأناهن قال بعض أهل العلم : هو راجع إلى مذكور ، وقال بعض العلماء : هو راجع إلى غير مذكور ، إلا أنه دل عليه المقام .
فمن قال إنه راجع إلى مذكور ، قال : هو راجع إلى قوله : وفرش مرفوعة قال : لأن المراد بالفرش النساء ، والعرب تسمي المرأة لباسا وإزارا وفراشا ونعلا . وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله : مرفوعة رفع المنزلة والمكانة .
ومن قال : إنه راجع إلى غير مذكور ، قال : إنه راجع إلى نساء لم يذكرن ، ولكن ذكر الفرش دل عليهن ; لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن .
وقال بعض العلماء : المراد بهن الحور العين ، واستدل من قال ذلك بقوله : إنا أنشأناهن إنشاء لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع .
وقالت جماعة من أهل العلم : إن المراد بهن بنات آدم التي كن في الدنيا عجائز شمطا رمصا ، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه - صلى الله عليه وسلم - وعلى هذا القول : فمعنى أنشأناهن إنشاء أي خلقناهن خلقا جديدا .
وقوله تعالى : فجعلناهن أي فصيرناهن أبكارا ، وهو جمع بكر ، وهو ضد الثيب .
وقوله : عربا قرأه عامة القراء السبعة غير حمزة وشعبة عن عاصم عربا [ ص: 520 ] بضم العين والراء ، وقرأ حمزة وشعبة " عربا " بسكون الراء ، وهي لغة تميم ، ومعنى القراءتين واحد ، وهو جمع عروب ، وهي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل ، وهذا هو قول الجمهور . وهو الصواب إن شاء الله .
ومنه قول لبيد :
وفي الخباء عروب غير فاحشة ريا الروادف يعشى دونها البصر
وقوله تعالى : أترابا جمع ترب بكسر التاء ، والترب اللدة ، وإيضاحه أن ترب الإنسان ما ولد معه في وقت واحد ، ومعناه في الآية : أن نساء أهل الجنة على سن واحدة ليس فيهن شابة وعجوز ، ولكنهن كلهن على سن واحدة في غاية الشباب .
وبعض العلماء يقول : إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاثة وثلاثين سنة ، وجاءت بذلك آثار مروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب .
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :
أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب
وهذه الأوصاف الثلاثة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة من صفات نساء أهل الجنة - جاءت موضحة في آيات أخر .
أما كونهن يوم القيامة أبكارا ، فقد أوضحه في سورة الرحمن في قوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ، 74 ] ، في الموضعين ; لأن قوله : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان نص في عدم زوال بكارتهن ، وأما كونهن عربا أي متحببات إلى أزواجهن ، فقد دل عليه قوله في الصافات : وعندهم قاصرات الطرف عين [ 37 \ 48 ] ، لأن معناه أنهن قاصرات العيون على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لشدة محبتهن لهم واقتناعهن بهم ، كما قدمنا إيضاحه ، ولا شك أن المرأة التي لا تنظر إلى غير زوجها متحببة إليه حسنة التبعل معه .
وقوله في " ص " : وعندهم قاصرات الطرف أتراب [ 38 \ 52 ] ، وقوله في الرحمن : فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] ، [ ص: 521 ] وأما كونهن أترابا فقد بينه تعالى في قوله في آية " ص " هذه : وعندهم قاصرات الطرف أتراب ، وفي سورة النبأ في قوله تعالى : إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا [ 78 \ 31 - 33 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لأصحاب اليمين يتعلق بقوله : إنا أنشأناهن . وقوله : فجعلناهن أي : أنشأناهن وصيرناهن أبكارا لأصحاب اليمين .
قوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم .
قد قدمنا معنى أصحاب الشمال في هذه السورة الكريمة ، وأوضحنا معنى السموم في الآيات القرآنية التي يذكر فيها في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم [ 52 \ 27 ] .
وقد قدمنا صفات ظل أهل النار وظل أهل الجنة في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : وندخلهم ظلا ظليلا [ 4 \ 57 ] ، وبينا هناك أن صفات ظل أهل النار هي المذكورة في قوله هنا : وظل من يحموم لا بارد ولا كريم [ 56 \ 43 - 44 ] ، وقوله في المرسلات : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 : 30 - 31 ] .
وقوله : من يحموم أي من دخان أسود شديد السواد ، ووزن اليحموم يفعول ، وأصله من الحمم وهو الفحم ، وقيل : من الحم ، وهو الشحم المسود لاحتراقه بالنار .
قوله تعالى : إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا الآية [ 52 \ 26 - 27 ] .
قوله تعالى : وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون .
لما ذكر - جل وعلا - ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب ؛ بين بعض أسبابه ، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين أي متنعمين ، وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة ، لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وقوله تعالى : [ ص: 522 ] فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا [ 84 \ 11 - 13 ] ، وقد أوضحنا هذا في الكلام على آية الطور المذكورة آنفا .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من كون إنكار البعث سببا لدخول النار ، لأن قوله تعالى لما ذكر أنهم في سموم وحميم وظل من يحموم ؛ بين أن من أسباب ذلك أنهم قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 13 \ 5 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة الفرقان في الكلام على قوله تعالى : وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا [ 25 \ 11 ] . وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من إنكارهم بعث آبائهم الأولين في قوله : أوآباؤنا الأولون [ 56 \ 48 ] ، وأنه تعالى بين لهم أنه يبعث الأولين والآخرين في قوله : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] - جاء موضحا في غير هذا الموضع ، فبينا فيه أن البعث الذي أنكروا سيتحقق في حال كونهم أذلاء صاغرين ، وذلك في قوله تعالى في الصافات : وقالوا إن هذا إلا سحر مبين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون قل نعم وأنتم داخرون فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون [ 37 \ 15 - 19 ] .
وقوله : أوآباؤنا الأولون ، قرأه عامة القراء السبعة ، غير ابن عامر وقالون عن نافع : أوآباؤنا بفتح الواو على الاستفهام والعطف . وقد قدمنا مرارا أن همزة الاستفهام إذا جاءت بعدها أداة عطف كالواو والفاء وثم ، نحو : أوآباؤنا أفأمن أهل القرى [ 7 \ 97 ] ، أثم إذا ما وقع [ 10 \ 51 ] - أن في ذلك وجهين لعلماء العربية والمفسرين : الأول منهما أن أداة العطف عاطفة للجملة المصدرة بالاستفهام على ما قبلها ، وهمزة الاستفهام متأخرة رتبة عن حرف العطف ، ولكنها قدمت عليه لفظا لا معنى لأن الأصل في الاستفهام التصدير به كما هو معلوم في محله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 12:03 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (527)
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
صـ 523 إلى صـ 530
والمعنى على هذا واضح ، وهو أنهم أنكروا بعثهم أنفسهم بأداة الإنكار التي هي الهمزة ، وعطفوا على ذلك بالواو إنكارهم بعث آبائهم الأولين بأداة الإنكار التي هي [ ص: 523 ] الهمزة المقدمة عن محلها لفظا لا رتبة ، وهذا القول هو قول الأقدمين من علماء العربية ، واختاره أبو حيان في البحر المحيط وابن هشام في مغني اللبيب ، وهو الذي صرنا نميل إليه أخيرا بعد أن كنا نميل إلى غيره . الوجه الثاني : هو أن همزة الاستفهام في محلها الأصلي ، وأنها متعلقة بجملة محذوفة ، والجملة المصدرة بالاستفهام معطوفة على المحذوفة بحرف العطف الذي بعد الهمزة ، وهذا الوجه يميل إليه الزمخشري في أكثر المواضع من كشافه ، وربما مال إلى غيره .
وعلى هذا القول فالتقدير : أمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون ؟
وما ذكره الزمخشري هنا من أن قوله : " آباؤنا " معطوف على واو الرفع في قوله : لمبعوثون ، وأنه ساغ العطف على ضمير رفع متصل من غير توكيد بالضمير المنفصل لأجل الفصل بالهمزة - لا يصح ، وقد رده عليه أبو حيان وابن هشام وغيرهما .
وهذا الوجه الأخير مال إليه ابن مالك في الخلاصة في قوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح وعطفك الفعل على الفعل يصح وقرأ هذا الحرف قالون وابن عامر " أو آباؤنا " بسكون الواو ، والذي يظهر لي على قراءتهما " أو " بمعنى الواو العاطفة ، وأن قوله : " آباؤنا " ، معطوف على محل المنصوب الذي هو اسم " إن " ، لأن عطف المرفوع على منصوب " إن " بعد ذكر خبرها جائز بلا نزاع ، لأن اسمها وإن كان منصوبا فأصله الرفع لأنه مبتدأ في الأصل ، كما قال ابن مالك في الخلاصة :
وجائز رفعك معطوفا على منصوب إن بعد أن تستكملا وإنما قلنا : إن " أو " بمعنى الواو ، لأن إتيانها بمعنى الواو معروف في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن : فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا [ 775 - 6 \ ] ; لأن الذكر الملقى للعذر ، والنذر معا لا لأحدهما ، لأن المعنى أنها أتت للذكر إعذارا وإنذارا . وقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، أي ولا كفورا ، وهو كثير في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب :
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع [ ص: 524 ] فالمعنى ما بين الملجم مهره وسافع : أي آخذ بناصيته ليلجمه ، وقول نابغة ذبيان :
قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد فحسبوه فألفوه كما زعمت
ستا وستين لم تنقص ولم تزد
فقوله : أو نصفه بمعنى ونصفه كما هو ظاهر من معنى البيتين المذكورين ، لأن مرادها أنها تمنت أن يكون الحمام المار بها هو ونصفه معه لها مع حمامتها التي معها ، ليكون الجميع مائة حمامة ، فوجدوه ستا وستين ، ونصفها ثلاث وثلاثون فيكون المجموع تسعا وتسعين ، والمروي في ذلك عنها أنها قالت :
ليت الحمام ليه إلى حمامتيه
ونصفه قديه تم الحمام مايه
وقول توبة بن الحمير :
قد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقوله تعالى : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أجمع عامة القراء على إثبات همزة الاستفهام في قوله : أئذا متنا وأثبتها أيضا عامة السبعة غير نافع والكسائي في قوله : أئنا ، وقرأه نافع والكسائي : " إنا لمبعوثون " ، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر ، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع بقوله :
فصل واستفهام إن تكررا فصير الثاني منه خبرا
واعكسه في النمل وفوق الروم . . . . . . . . . . . . إلخ
والقراءات في الهمزتين في أئذا و أئنا معروفة ، فنافع يسهل الهمزة الثانية بين بين ، ورواية قالون عنه هي إدخال ألف بين الهمزتين الأولى المحققة والثانية المسهلة .
ورواية قالون هذه عن نافع بالتسهيل والإدخال مطابقة لقراءة أبي عمرو ، فأبو عمرو وقالون عن نافع يسهلان ويدخلان ، ورواية ورش عن نافع هي تسهيل الأخيرة منهما بين بين من غير إدخال ألف . وهذه هي قراءة ابن كثير وورش ، فابن كثير وورش يسهلان ولا يدخلان .
[ ص: 525 ] وقرأ هشام عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين ، وبينهما ألف الإدخال .
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين من غير ألف الإدخال ، هذه هي القراءات الصحيحة في مثل أئذا و أئنا ونحو ذلك في القرآن .
تنبيه :
اعلم - وفقني الله وإياك - أن ما جرى في الأقطار الإفريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة من أشنع المنكر وأعظم الباطل ، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم ، وتعد لحدود الله ، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري ، الذي يظن أن القراءة بالهاء الخالصة صحيحة ، وإنما قلنا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل عليه به جبريل البتة ، ولم يرو عن صحابي ولم يقرأ به أحد من القراء ، ولا يجوز بحال من الأحوال ، فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه ، وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء البتة ، هو كما ترى . وكون اللغة العربية قد سمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله .
ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها ، لأن جريان العمل بالباطل باطل ، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين ، وإنما الأسوة في الحق ، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا خلاف فيه .
وقوله تعالى : متنا ، وقرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم " متنا " بضم الميم وقرأه نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم متنا بكسر الميم ، وقد قدمنا مسوغ كسر الميم لغة في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : ياليتني مت قبل هذا [ 19 \ 23 ] .
قوله تعالى : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم .
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين في الآية المتقدمة ؛ أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن [ ص: 526 ] يخبرهم خبرا مؤكدا بأن الأولين والآخرين كلهم مجموعون يوم القيامة للحساب والجزاء بعد بعثهم .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من بعث الأولين والآخرين وجمعهم يوم القيامة - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] ، وقوله تعالى : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة [ 4 \ 87 ] ، وقوله تعالى : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 9 ] ، وقوله تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس [ 11 \ 103 ] ، وقوله تعالى : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين [ 77 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] .
وقد قدمنا هذا موضحا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] .
قوله تعالى : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم .
قد قدمنا إيضاح هذا وتفسيره في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى : ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم [ 37 \ 67 ] .
قوله تعالى : هذا نزلهم يوم الدين .
النزل بضمتين : هو رزق الضيف الذي يقدم له عند نزوله إكراما له ، ومنه قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا [ 18 \ 107 ] ، وربما استعملت العرب النزول في ضد ذلك على سبيل التهكم والاحتقار ، وجاء القرآن باستعمال النزول فيما يقدم لأهل النار من العذاب كقوله هنا في عذابهم المذكور في قولهم : لآكلون من شجر من زقوم إلى قوله : شرب الهيم هذا نزلهم [ 56 \ 52 - 56 ] ، أي هذا العذاب المذكور هو ضيافتهم ورزقهم المقدم لهم عند نزولهم في دارهم التي هي النار ، كقوله تعالى للكافر الحقير الذليل : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 49 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إطلاق النزول على عذاب أهل النار ، جاء موضحا [ ص: 527 ] في غير هذا الموضع كقوله في آخر هذه السورة الكريمة : فنزل من حميم وتصلية جحيم [ 56 \ 93 - 94 ] ، وقوله تعالى في آخر الكهف : إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا [ 18 \ 102 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعد الضبي :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
وقوله : يوم الدين ، أي يوم الجزاء كما تقدم مرارا .
قوله تعالى : نحن خلقناكم فلولا تصدقون .
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين ، وأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه تعالى باعث جميع الأولين والآخرين ، وذكر جزاء منكري البعث بأكل الزقوم وشرب الحميم - أتبع ذلك بالبراهين القاطعة الدالة على البعث فقال : نحن خلقناكم هذا الخلق الأول فلولا تصدقون ، أي : فهلا تصدقون بالبعث الذي هو الخلق الثاني ، لأن إعادة الخلق لا يمكن أن تكون أصعب من ابتدائه كما لا يخفى .
وهذا البرهان على البعث بدلالة الخلق الأول على الخلق الثاني - جاء موضحا في آيات كثيرة جدا كقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] ، وقوله تعالى : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد ذكرناها بإيضاح وكثرة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة والنحل والحج والجاثية ، وغير ذلك من المواضع وأحلنا عليها كثيرا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فلولا تصدقون " لولا " حرف تحضيض ، ومعناه الطلب بحث وشدة ، فالآية تدل على شدة حث الله للكفار وحضه لهم على التصديق بالبعث لظهور برهانه القاطع الذي هو خلقه لهم أولا .
قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون .
قد قدمنا قريبا كلام أهل العلم في همزة الاستفهام المتبوعة بأداة عطف ، وذكرناه قبل [ ص: 528 ] هذا مرارا ، وقوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون يعني أفرأيتم ما تصبونه من المني في أرحام النساء ، فلفظة " ما " موصولة ، والجملة الفعلية صلة الموصول ، والعائد إلى الصفة محذوف ، لأنه منصوب بفعل ، والتقدير : أفرأيتم ما تمنونه ، والعرب تقول : أمنى النطفة بصيغة الرباعي ، يمنيها بضم حرف المضارعة ، إذا أراقها في رحم المرأة ، ومنه قوله تعالى : من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 46 ] ، ومنى يمنى بصيغة الثلاثي لغة صحيحة ، إلا أن القراءة بها شاذة .
وممن قرأ " تمنون " بفتح التاء مضارع في الثلاثي المجرد - أبو السمال وابن السميقع ، وقوله تعالى : أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون استفهام تقرير ، فإنهم لا بد أن يقولوا : أنتم الخالقون ، فيقال لهم : إذا كنا خلقنا هذا الإنسان الخصيم المبين من تلك النطفة التي تمنى في الرحم ، فكيف تكذبون بقدرتنا على خلقه مرة أخرى ، وأنتم تعلمون أن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من الابتداء ، والضمير المنصوب في " تخلقونه " عائد إلى الموصول أي تخلقون ما تمنونه من النطف علقا ، ثم مضغا إلى آخر أطواره .
وهذا الذي تضمنته هذه الآية من البراهين القاطعة على كمال قدرة الله على البعث وغيره ، وعلى أنه المعبود وحده ، ببيان أطوار خلق الإنسان - جاء موضحا في آيات أخر ، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى بالآيات القرآنية ، وبينا ما يتعلق بكل طور من أطواره من الأحكام الشرعية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] .
وذكرنا أطوار خلق الإنسان في سورة الرحمن أيضا في الكلام على قوله تعالى : خلق الإنسان علمه البيان [ 55 \ 3 - 4 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
وبينا الآيات الدالة على أطوار خلقه جملة وتفصيلا في الحج .
تنبيه :
هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة مني تمنى - يجب على كل إنسان النظر فيه ، لأن الله - جل وعلا - وجه صفة الأمر بالنظر فيه إلى مني الإنسان ، والأصل في صيغة الأمر على التحقيق الوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وذلك في قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق الآية [ 86 \ 5 - 6 ] ، وقد قدمنا [ ص: 529 ] شرحها في أول سورة النحل ، وقرأ هذا الحرف نافع أفرأيتم بتسهيل الهمزة بعد الراء بين بين .
والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عنه إبدال الهمزة ألفا وإشباعها لسكون الياء بعدها .
وقرأ الكسائي : " أفريتم " بحذف الهمزة ، وقرأه باقي السبعة بتحقيق الهمزة .
وقوله تعالى : أأنتم قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين بتسهيل الهمزة الثانية . والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عن نافع إبدال الثانية ألفا مشبعا مدها لسكون النون بعدها ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وهشام عن ابن عامر في الرواية الأخرى بتحقيق الهمزتين ، وقالون ، وأبو عمرو وهشام بألف الإدخال بين الهمزتين والباقون بدونها .
قوله تعالى : نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون .
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير قدرنا بتشديد الدال ، وقرأه ابن كثير بتخفيفها ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير ، ويكون كل ذلك صحيحا ، وكله يشهد له قرآن ، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة .
وإيضاح ذلك أن قوله : قدرنا [ 56 \ 60 ] وجهان من التفسير ، وفيما تتعلق به : على أن نبدل [ 56 \ 61 ] وجهان أيضا ، فقال بعض العلماء : وهو اختيار ابن جرير أن قوله : قدرنا بينكم الموت أي قدرنا لموتكم آجالا مختلفة وأعمارا متفاوتة فمنكم من يموت صغيرا ومنكم من يموت شابا ، ومنكم من يموت شيخا .
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون [ 40 \ 67 ] ، وقوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ، وقوله تعالى : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ، وقوله : [ ص: 530 ] وما نحن بمسبوقين [ 56 \ 6 ] ، أي ما نحن بمغلوبين . والعرب تقول : سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه ، أي : وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلا أخرناه ولا يؤخر أجلا قدمناه .
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34 ] ، وقوله تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر [ 71 \ 4 ] ، وقوله تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى هذا القول ، فقوله تعالى : على أن نبدل أمثالكم [ 56 \ 61 ] ، ليس متعلقا بـ " مسبوقين " بل بقوله تعالى : نحن قدرنا بينكم الموت [ 56 \ 60 ] ، والمعنى : نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم ، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالا لهم نوجدهم .
وعلى هذا ، فمعنى تبديل أمثالهم - إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا ، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير ، وقراءة " قدرنا " بالتشديد مناسبة لهذا الوجه ، وكذلك لفظة " بينكم " .
الوجه الثاني : أن " قدرنا " بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق ، وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] ، وقوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت [ 21 \ 35 ] ، وقوله تعالى : وتوكل على الحي الذي لا يموت [ 25 \ 58 ] ، وعلى هذا القول فقوله : على أن نبدل [ 56 \ 61 ] ، متعلق بـ " مسبوقين " ، أي : ما نحن مغلوبين ، والمعنى : وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا ، فنحن قادرون على إهلاككم ، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلا منكم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 12:04 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (528)
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
صـ 531 إلى صـ 539
وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [ 4 \ 133 ] ، وقوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء [ 6 \ 133 ] ، وقوله تعالى : [ ص: 531 ] إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز [ 14 \ 19 - 20 ] ، وقوله تعالى : وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم [ 47 \ 38 ] ، وقد قدمنا هذا في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : إن يشأ يذهبكم أيها الناس الآية [ 4 \ 133 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وننشئكم في ما لا تعلمون [ 56 \ 61 ] ، فيه للعلماء أقوال متقاربة .
قال بعضهم : " ننشئكم " بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور والهيئات ، كأن ننشئكم قردة وخنازير ، كما فعلنا ببعض المجرمين قبلكم .
وقال بعضهم : " ننشئكم " فيما لا تعلمونه من الصفات ، فنغير صفاتكم ونجمل المؤمنين ببياض الوجوه ، ونقبح الكافرين بسواد الوجوه وزرقة العيون ، إلى غير ذلك من الأقوال .
قوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون .
تضمنت هذه الآية الكريمة برهانا قاطعا ثانيا على البعث وامتنانا عظيما على الخلق بخلق أرزاقهم لهم ، فقوله تعالى : أفرأيتم ما تحرثون [ 56 \ 63 ] ، يعني أفرأيتم البذر الذي تجعلونه في الأرض بعد حرثها أي تحريكها وتسويتها أأنتم تزرعونه أي تجعلونه زرعا ، ثم تنمونه إلى أن يصير مدركا صالحا للأكل أم نحن الزارعون له ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره هو أن يقال : أنت يا ربنا هو الزارع المنبت ، ونحن لا قدرة لنا على ذلك فيقال لهم : كل عاقل يعلم أن من أنبت هذا السنبل من هذا البذر الذي تعفن في باطن الأرض قادر على أن يبعثكم بعد موتكم . وكون إنبات النبات بعد عدمه من براهين البعث - جاء موضحا في آيات كقوله : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] ، وقوله تعالى : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ 30 \ 50 ] ، وقوله تعالى : حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون [ 7 \ 57 ] .
والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد قدمناها مستوفاة مع سائر آيات براهين البعث في مواضع كثيرة في سورة البقرة والنحل والجاثية ، وغير ذلك من المواضع ، [ ص: 532 ] وأحلنا عليها مرارا .
تنبيه :
اعلم أنه يجب على كل إنسان أن ينظر في هذا البرهان الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة ، لأن الله - جل وعلا - وجه في كتابه صيغة أمر صريحة عامة في كل ما يصدق عليه مسمى الإنسان بالنظر في هذا البرهان العظيم المتضمن للامتنان لأعظم النعم على الخلق ، وللدلالة على عظم الله وقدرته على البعث وغيره ، وشدة حاجة خلقه إليه مع غناه عنهم ، وذلك قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .
والمعنى : انظر أيها الإنسان الضعيف إلى طعامك كالخبز الذي تأكله ولا غنى لك عنه ، من هو الذي خلق الماء الذي صار سببا لإنباته ، هل يقدر أحد غير الله على خلق الماء ؟ أي إبرازه من أصل العدم إلى الوجود ، ثم هب أن الماء خلق ، هل يقدر أحد غير الله أن ينزله على هذا الأسلوب الهائل العظيم الذي يسقي به الأرض من غير هدم ولا غرق ؟ ثم هب أن الماء نزل في الأرض ، من هو الذي يقدر على شق الأرض عن مسار الزرع ؟ ثم هب أن الزرع طلع ، فمن هو الذي يقدر على إخراج السنبل منه ؟ ثم هب أن السنبل خرج منه ، فمن هو الذي يقدر على إنبات الحب فيه وتنميته حتى يدرك صالحا للأكل ؟
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [ 6 \ 99 ] ، والمعنى : انظروا إلى الثمر وقت طلوعه ضعيفا لا يصلح للأكل ، وانظروا إلى ينعه ، أي انظروا إليه بعد أن صار يانعا مدركا صالحا للأكل ، تعلموا أن الذي رباه ونماه حتى صار كما ترونه وقت ينعه - قادر على كل شيء ، منعم عليكم عظيم الإنعام ; ولذا قال : إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [ 6 \ 99 ] ، فاللازم أن يتأمل الإنسان وينظر في طعامه ويتدبر .
قوله تعالى : ثم شققنا الأرض [ 80 \ 25 ] أي عن النبات شقا إلى آخر ما بيناه . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : لو نشاء لجعلناه حطاما [ 56 \ 65 ] ، يعني لو نشاء تحطيم ذلك الزرع لجعلناه حطاما ، أي فتاتا وهشيما ، ولكنا لم نفعل ذلك رحمة بكم . ومفعول فعل المشيئة محذوف للاكتفاء عنه بجزاء الشرط ، وتقديره كما ذكرنا . وقوله : فظلتم تفكهون [ 56 \ 65 ] [ ص: 533 ] قال بعض العلماء : المعنى فظلتم تعجبون من تحطيم زرعكم .
وقال بعض العلماء : تفكهون بمعنى تندمون على ما خسرتم من الإنفاق عليه كقوله تعالى : فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها [ 18 \ 42 ] .
وقال بعض العلماء : تندمون على معصية الله التي كانت سببا لتحطيم زرعكم . والأول من الوجهين في سبب الندم هو الأظهر .
قوله تعالى : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون .
تضمنت هذه الآية الكريمة امتنانا عظيما على خلقه بالماء الذي يشربونه ، وذلك أيضا آية من آياته الدالة على عظمته وكمال قدرته وشدة حاجة خلقه إليه ، والمعنى : أفرأيتم الماء الذين تشربون ، الذي لا غنى لكم عنه لحظة ، ولو أعدمناه لهلكتم جميعا في أقرب وقت : أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 69 ] .
والجواب الذي لا جواب غيره - هو أنت يا ربنا ، هو منزله من المزن ، ونحن لا قدرة لنا على ذلك . فيقال لهم : إذا كنتم في هذا القدر من شدة الحاجة إليه تعالى فلم تكفرون به وتشربون ماءه وتأكلون رزقه وتعبدون غيره .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من الامتنان على الخلق بالماء وأنهم يلزمهم الإيمان بالله وطاعته شكرا لنعمة هذا الماء ، كما أشار له هنا بقوله : فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] - جاء في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين [ 15 \ 22 ] ، وقوله تعالى : هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون [ 16 \ 10 ] ، وقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا [ 25 \ 48 - 49 ] ، وقوله تعالى : وأسقيناكم ماء فراتا [ 77 \ 27 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله هنا : لو نشاء جعلناه أجاجا [ 56 \ 70 ] ، أي لو نشاء جعله أجاجا لفعلنا ، ولكن جعلناه عذبا فراتا سائغا شرابه ، وقد قدمنا في سورة الفرقان أن الماء الأجاج هو الجامع بين الملوحة والمرارة الشديدتين .
[ ص: 534 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كونه تعالى لو شاء لجعل الماء غير صالح للشراب - جاء معناه في آيات أخر كقوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين [ 67 : 30 ] ، وقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] ، لأن الذهاب بالماء وجعله غورا لم يصل إليه وجعله أجاجا ، كل ذلك في المعنى سواء بجامع عدم تأتي شرب الماء . وهذه الآيات المذكورة تدل على شدة حاجة الخلق إلى خالقهم كما ترى . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة أأنتم أنزلتموه من المزن [ 56 \ 69 ] ، يدل على أن جميع الماء الساكن في الأرض النابع من العيون والآبار ونحو ذلك ، أن أصله كله نازل من المزن ، وأن الله أسكنه في الأرض وخزنه فيها لخلقه .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض [ 23 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض [ 39 \ 21 ] ، وقد قدمنا هذا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين الآية [ 15 \ 22 ] ، وفي سورة " سبأ " في الكلام على قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها الآية [ 34 \ 2 ] . وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ، فلولا بمعنى هلا ، وهي حرف تحضيض ، وهو الطلب بحث وحض ، والمعنى أنهم يطلب منهم شكر هذا المنعم العظيم بحث وحض .
واعلم أن الشكر يطلق من العبد لربه ومن الرب لعبده .
فشكر العبد لربه ينحصر معناه في استعماله جميع نعمه فيما يرضيه تعالى . فشكر نعمة العين ألا ينظر بها إلا ما يرضي من خلقها ، وهكذا في جميع الجوارح . وشكر نعمة المال أن يقيم فيه أوامر ربه ويكون مع ذلك شاكر القلب واللسان . وشكر العبد لربه جاء في آيات كثيرة كقوله تعالى هنا : فلولا تشكرون [ 56 \ 70 ] ، وقوله تعالى : واشكروا لي ولا تكفرون [ 2 \ 152 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة معلومة .
وأما شكر الرب لعبده فهو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل ، ومنه قوله تعالى : ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم [ 2 \ 158 ] ، وقوله تعالى : إن ربنا لغفور شكور [ 35 \ 34 ] ، [ ص: 535 ] إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه لغوي
اعلم أن مادة الشكر تتعدى إلى النعمة تارة ، وإلى المنعم أخرى ، فإن عديت إلى النعمة تعدت إليها بنفسها دون حرف الجر كقوله تعالى : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي [ 27 \ 19 ] ، وإن عديت إلى المنعم تعدت إليه بحرف الجر الذي هو اللام كقولك : نحمد الله ونشكر له ، ولم تأت في القرآن معداة إلا باللام ، كقوله : واشكروا لي ولا تكفرون [ 2 \ 152 ] ، وقوله : أن اشكر لي ولوالديك [ 31 \ 14 ] ، وقوله : واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون [ 16 \ 114 ] ، وقوله : فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وهذه هي اللغة الفصحى ، وتعديتها للمفعول بدون اللام لغة لا لحن ، ومن ذلك قول أبي نخيلة :
شكرتك إن الشكر حبل من اتقى وما كل من أوليته نعمة يقضي
وقول جميل بن معمر :
خليلي عوجا اليوم حتى تسلما على عذبة الأنياب طيبة النشر
فإنكما إن عجتما لي ساعة شكرتكما حتى أغيب في قبري
وهذه الآيات من سورة الواقعة قد دلت على أن اقتران جواب " لو " باللام ، وعدم اقترانه بها كلاهما سائغ ، لأنه تعالى قال : لو نشاء لجعلناه حطاما [ 56 \ 65 ] ، باللام ثم قال : لو نشاء جعلناه أجاجا [ 56 \ 70 ] ، بدونها .
قوله تعالى : أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين .
قوله تعالى : التي تورون [ 56 \ 71 ] ، أي توقدونها من قولهم : أورى النار إذا قدحها وأوقدها ، والمعنى : أفرأيتم النار التي توقدونها من الشجر أأنتم أنشأتم شجرتها التي توقد منها ، أي أوجدتموها من العدم ؟
والجواب الذي لا جواب غيره : أنت يا ربنا هو الذي أنشأت شجرتها ، ونحن [ ص: 536 ] لا قدرة لنا بذلك فيقال : كيف تنكرون البعث وأنتم تعلمون أن من أنشأ شجرة النار وأخرجها منها قادر على كل شيء ؟
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون خلق النار من أدلة البعث - جاء موضحا في " يس " في قوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون [ 36 \ 79 - 80 ] . فقوله في آخر " يس " : توقدون [ 36 \ 80 ] هو معنى قوله في الواقعة : تورون [ 56 \ 71 ] . وقوله في آية " يس " : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا [ 36 \ 80 ] ، بعد قوله : يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] دليل واضح على أن خلق النار من أدلة البعث . وقوله هنا أأنتم أنشأتم شجرتها [ 56 \ 72 ] ، أي الشجرة التي توقد منها كالمرخ والعفار ، ومن أمثال العرب : في كل شجر نار ، واستنجد المرخ والعفار ، لأن المرخ والعفار هما أكثر الشجر نصيبا في استخراج النار منهما ، يأخذون قضيبا من المرخ ويحكمون به عودا من العفار فتخرج من بينهما النار ، ويقال : كل شجر فيه نار إلا العناب .
وقوله : نحن جعلناها تذكرة [ 56 \ 73 ] أي نذكر الناس بها في دار الدنيا إذا أحسوا شدة حرارتها - نار الآخرة التي هي أشد منها حرا لينزجروا عن الأعمال المقتضية لدخول النار ، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم : أن حرارة نار الآخرة مضاعفة على حرارة نار الدنيا سبعين مرة ، فهي تفوقها بتسع وستين ضعفا ، كل واحد منها مثل حرارة نار الدنيا .
وقوله تعالى : ومتاعا للمقوين [ 56 \ 73 ] ، أي منفعة للنازلين بالقواء من الأرض ، وهو الخلاء والفلاة التي ليس بها أحد ، وهم المسافرون ، لأنهم ينتفعون بالنار انتفاعا عظيما في الاستدفاء بها والاستضاءة وإصلاح الزاد .
وقد تقرر في الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة - كون اللفظ واردا للامتنان . وبه تعلم أنه لا يعتبر مفهوما للمقوين ، لأنه جيء به للامتنان أي وهي متاع أيضا لغير المقوين من الحاضرين بالعمران ، وكل شيء خلا من الناس يقال له أقوى ، فالرجال إذا كان في الخلا قيل له : أقوى . والدار إذا خلت من أهلها قيل لها أقوت .
ومنه قول نابغة ذبيان :
يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقول عنترة :
[ ص: 537 ]
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
وقيل للمقوين : أي للجائعين ، وقيل غير ذلك ، والذي عليه الجمهور هو ما ذكرنا .
قوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم .
قد قدمنا الكلام عليه في أول سورة النجم .
قوله تعالى : إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم .
أخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة ، وأكد إخباره بأن هذا القرآن العظيم هو حق اليقين ، وأمر نبيه بعد ذلك بأن يسبح باسم ربه العظيم .
وهذا الذي تضمنته هذه الآية ذكره الله - جل وعلا - في آخر سورة الحاقة في قوله في وصفه للقرآن وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم [ 69
- 52 ] ، والحق هو اليقين .
وقد قدمنا أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين أسلوب عربي ، وذكرنا كثرة وروده في القرآن وفي كلام العرب ، ومنه في القرآن قوله تعالى : ولدار الآخرة [ 12 \ 109 ] ، و " لدار " هي الآخرة ، وقوله : ومكر السيئ [ 35 \ 43 ] ، والمكر هو السيئ بدليل قوله بعده : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] .
وقوله : من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] ، والحبل هو الوريد ، وقوله : شهر رمضان [ 2 \ 185 ] ، والشهر هو رمضان .
ونظير ذلك من كلام العرب قول امرئ القيس :
كبكر المقاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
والبكر هي المقاناة .
وقول عنترة :
ومشك سابغة هتكت فروجها بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
لأن مراده بالمشك هنا الدرع نفسها بدليل قوله : هتكت فروجها ، يعني الدرع ، وإن كان أصل المشك لغة السير الذي تشد به الدرع ، لأن السير لا تمكن إرادته في بيت [ ص: 538 ] عنترة هذا خلافا لما ظنه صاحب تاج العروس ، بل مراد عنترة بالمشك الدرع ، وأضافه إلى السابغة التي هي الدرع كما ذكرنا ، وإلى هذا يشير ما ذكروه في باب العلم ، وعقده في الخلاصة بقوله :
وإن يكونا مفردين فأضف حتما وإلا أتبع الذي ردف
لأن الإضافة المذكورة من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظين ، وقد بينا في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " أن قوله في الخلاصة :
ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى وأول موهما إذا ورد
إن الذي يظهر لنا من استقراء القرآن والعربية أن ذلك أسلوب عربي ، وأن الاختلاف بين اللفظين كاف في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، وأنه لا حاجة إلى التأويل مع كثرة ورود ذلك في القرآن والعربية .
ويدل له تصريحهم بلزوم إضافة الاسم إلى اللقب إن كانا مفردين نحو سعيد كرز ، لأن ما لا بد له من تأويل لا يمكن أن يكون هو اللازم كما ترى ، فكونه أسلوبا أظهر .
وقوله : فسبح باسم ربك العظيم [ 56 \ 96 ] ، التسبيح : أصله الإبعاد عن السوء ، وتسبيح الله وتنزيهه عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، وذلك التنزيه واجب له في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله ، والظاهر أن الباء في قوله : باسم ربك [ 56 \ 96 ] داخلة على المفعول ، وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : وهزي إليك بجذع النخلة الآية [ 19 \ 25 ] أدلة كثيرة من القرآن وغيره على دخول الباء على المفعول الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه ، كقوله : وهزي إليك بجذع النخلة [ 19 \ 25 ] ، والمعنى : وهزي جذع النخلة .
وقوله : ومن يرد فيه بإلحاد [ 22 \ 25 ] ، أي إلحادا إلى آخر ما قدمنا من الأدلة الكثيرة ، وعليه فالمعنى : سبح اسم ربك العظيم كما يوضحه قوله في الأعلى سبح اسم ربك الأعلى [ 87 \ 1 ] .
وقال القرطبي : الاسم هنا بمعنى المسمى ، أي سبح ربك ، وإطلاق الاسم بمعنى المسمى معروف في كلام العرب ، ومنه قول لبيد :
[ ص: 539 ]
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
ولا يلزم في نظري أن الاسم بمعنى المسمى هنا لإمكان كون المراد نفس الاسم ، لأن أسماء الله ألحد فيها قوم ونزهها آخرون عن كل ما لا يليق ، ووصفها الله بأنها بالغة غاية الحسن ، وفي ذلك أكمل تنزيه لها لأنها مشتملة على صفاته الكريمة ، وذلك في قوله : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 \ 180 ] ، وقوله تعالى : أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 \ 110 ] .
ولسنا نريد أن نذكر كلام المتكلمين في الاسم والمسمى ، هل الاسم هو المسمى أو لا ؟ لأن مرادنا هنا بيان معنى الآية ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 12:04 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (529)
سُورَةُ الْحَدِيدِ .
صـ 540 إلى صـ 548
[ ص: 540 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْحَدِيدِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ .
قَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ التَّسْبِيحَ هُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ ، مِنْ قَوْلِهِمْ سَبَحَ إِذَا صَارَ بَعِيدًا ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْفَرَسِ : سَابِحٌ ، لِأَنَّهُ إِذَا جَرَى يَبْعُدُ بِسُرْعَةٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ :
إِذْ لَا أَزَالُ عَلَى رِحَالَةِ سَابِحٍ نَهْدٍ تَعَاوَرُهُ الْكُمَاةُ مُكَلَّمِ
وَقَوْلُ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ :
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النَّخْلِ حَوْلَهُمُ وَلَا تَخَاوَرُ فِي مَشْتَاهُمُ الْبَقَرُ
إِلَّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مُقْرَبَةً فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْفِكَرُ
وَهَذَا الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ " سَبَّحَ " قَدْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ بِدُونِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [ 33 \ 42 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [ 76 \ 26 ] ، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ هُنَا : سَبَّحَ لِلَّهِ ، وَعَلَى هَذَا فَسَبَّحَهُ وَسَبَّحَ لَهُ لُغَتَانِ كَنَصَحَهُ وَنَصَحَ لَهُ . وَشَكَرَهُ وَشَكَرَ لَهُ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي الْآيَةِ وَجْهًا آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، أَيْ أَحْدَثَ التَّسْبِيحَ لِأَجْلِ اللَّهِ أَيِ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ تَعَالَى ، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ وَأَبُو حَيَّانَ ، وَقِيلَ : سَبَّحَ لِلَّهِ أَيْ صَلَّى لَهُ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّسْبِيحَ يُطْلَقُ عَلَى الصَّلَاةِ ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُسَبِّحُونَ لِلَّهِ ، أَيْ يُنَزِّهُونَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ - بَيَّنَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [ 59 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الصَّفِّ : سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الْآيَةَ [ 61 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي الْجُمُعَةِ : يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الْآيَةَ [ 62 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ فِي التَّغَابُنِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْآيَةَ [ 64 \ 1 ] .
وَزَادَ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرْضَ يُسَبِّحْنَ لِلَّهِ مَعَ مَا فِيهِمَا [ ص: 541 ] مِنَ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَسْبِيحَ السَّمَاوَاتِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْجَمَادَاتِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَفْقَهُهُ أَيْ لَا نَفْهَمُهُ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [ 17 \ 44 ] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ الْمَذْكُورَ فِيهَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [ 21 \ 79 ] ، وَنَحْوِ ذَلِكَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ يَعْلَمُهُ اللَّهُ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهُ .
وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِيهَا الرَّدُّ الصَّرِيحُ عَلَى مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ تَسْبِيحَ الْجَمَادَاتِ هُوَ دَلَالَةُ إِيجَادِهَا عَلَى قُدْرَةِ خَالِقِهَا ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْكَائِنَاتِ عَلَى عَظَمَةِ خَالِقِهَا يَفْهَمُهَا كُلُّ الْعُقَلَاءِ ، كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ إِلَى قَوْلِهِ : لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ 2 \ 164 ] ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ الْآيَةَ [ 13 \ 15 ] ، وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ الْآيَةَ [ 18 \ 77 ] ، وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [ 23 \ 72 ] ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ .
وَقَدْ عَبَّرَ تَعَالَى هُنَا فِي أَوَّلِ الْحَدِيدِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فِي قَوْلِهِ : سَبَّحَ لِلَّهِ الْآيَةَ [ 57 \ 1 ] ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْحَشْرِ ، وَالصَّفِّ ، وَعَبَّرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّغَابُنِ ، وَغَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ : يُسَبِّحُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمَاضِي تَارَةً وَبِالْمُضَارِع ِ أُخْرَى لِيُبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ التَّسْبِيحَ لِلَّهِ هُوَ شَأْنُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلِ الْأَرْضِ ، وَدَأْبُهُمْ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَ لِ . ذَكَرَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيّ ُ وَأَبُو حَيَّانَ .
وَقَوْلُهُ : وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [ 57 \ 1 ] ، قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهُ مِرَارًا ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الْعَزِيزَ هُوَ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ ، وَأَنَّ الْعِزَّةَ هِيَ الْغَلَبَةُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [ 63 \ 8 ] ، وَقَوْلُهُ : وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ، أَيْ : غَلَبَنِي فِي الْخِصَامِ ، وَمِنْ أمْثَالِ الْعَرَبِ : مَنْ عَزَّ بَزَّ ، يَعْنُونَ : مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ :
[ ص: 542 ]
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا
وَالْحَكِيمُ : هُوَ مَنْ يَضَعُ الْأُمُورَ فِي مَوَاضِعِهَا وَيُوقِعُهَا فِي مَوَاقِعِهَا .
وَقَوْلُهُ : مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 57 \ 1 ] ، غُلِّبَ فِيهِ غَيْرُ الْعَاقِلِ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ تَعَالَى تَارَةً يُغَلِّبُ غَيْرَ الْعَاقِلِ ، فِي نَحْوِ : " مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " لِكَثْرَتِهِ ، وَتَارَةً يُغَلِّبُ الْعَاقِلَ لِأَهَمِّيَّتِه ِ . وَقَدْ جَمَعَ الْمِثَالُ لِلْأَمْرَيْنِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْبَقَرَةِ : بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ الْآيَةَ [ 2 \ 116 ] ، فَغَلَّبَ غَيْرَ الْعَاقِلِ فِي قَوْلِهِ : مَا فِي السَّمَاوَاتِ ، وَغَلَّبَ الْعَاقِلَ فِي قَوْلِهِ : قَانِتُونَ .
قوله تعالى : هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش .
قوله : في ستة أيام [ 57 \ 4 ] ، قد قدمنا إيضاحه في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى قوله تعالى : فقضاهن سبع سماوات في يومين الآيات [ 9 \ 12 ] ، وفي سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام الآية [ 7 \ 54 ] .
وقوله تعالى : ثم استوى على العرش [ 57 \ 4 ] ، قد قدمنا الآيات الموضحة له بكثرة في سورة الأعراف في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار الآية [ 7 \ 54 ] ، وذكرنا طرفا صالحا من ذلك في سورة القتال في كلامنا الطويل على قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] .
قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . قد قدمنا إيضاحه في أول سورة سبأ في الكلام على قوله تعالى : يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور الآية [ 34 \ 2 ] .
قوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم .
قد قدمنا إيضاحه وبينا الآيات القرآنية الدالة على المعية العامة والمعية الخاصة ، مع بيان معنى المعية في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : [ ص: 543 ] إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون الآية [ 16 \ 128 ] .
قوله تعالى : هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي ينزل على عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - آيات بينات ، أي واضحات . وهي هذا القرآن العظيم ؛ ليخرج الناس بهذا القرآن العظيم المعبر عنه بالآيات البينات ، من الظلمات : أي من ظلمات الكفر والمعاصي إلى نور التوحيد والهدى ، وهذا المعنى الذي تضمنته هذه الآية الكريمة جاء مبينا في قوله تعالى في الطلاق : فاتقوا الله ياأولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور الآيتان [ 65 \ 10 - 11 ] ، وآية الطلاق هذه بينت أن آية الحديد من العام المخصوص ، وأنه لا يخرج بهذا القرآن العظيم من الظلمات إلى النور إلا من وفقهم الله للإيمان والعمل الصالح ، فقوله في الحديد : ليخرجكم من الظلمات [ 57 \ 9 ] ، أي بشرط الإيمان والعمل الصالح بدليل قوله : ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات الآية [ 65 \ 11 ] .
فالدعوة إلى الإيمان بالقرآن والخروج بنوره من ظلمات الكفر عامة ، ولكن التوفيق إلى الخروج به من الظلمات إلى النور خاص بمن وفقهم الله ، كما دلت عليه آيات الطلاق المذكورة ، والله - جل وعلا - يقول : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون القرآن نورا يخرج الله به المؤمنين من الظلمات إلى النور جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : ياأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ 4 \ 174 ] ، وقوله تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم [ 5 \ 15 - 16 ] ، وقوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] ، وقوله تعالى : فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ 7 \ 157 ] ، وقوله تعالى : ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا الآية [ 42 \ 52 ] .
[ ص: 544 ] قوله تعالى : ولله ميراث السماوات والأرض .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها الآية [ 19 \ 40 ] .
قوله تعالى : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المؤمنين يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، وهو جمع يمين ، وأنهم يقال لهم : بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم [ 57 \ 12 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة مما ذكرنا - جاء موضحا في آيات أخر ، أما سعي نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، فقد بينه تعالى في سورة التحريم ، وزاد فيها بيان دعائهم الذين يدعون به في ذلك الوقت ، وذلك في قوله تعالى : يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا الآية [ 66 \ 8 ] .
وأما تبشيرهم بالجنات فقد جاء موضحا في مواضع أخر ، وبين الله فيها أن الملائكة تبشرهم وأن ربهم أيضا يبشرهم كقوله تعالى : يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم [ 9 \ 21 - 22 ] ، وقوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون إلى قوله : نزلا من غفور رحيم [ 41 : 30 - 32 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور .
الضمير المرفوع في " ينادونهم " راجع إلى المنافقين والمنافقات ، والضمير المنصوب راجع إلى المؤمنين والمؤمنات ، وقد ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة : أن المنافقين والمنافقات إذا رأوا نور المؤمنين يوم القيامة يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ، قالوا لهم : انظروا نقتبس من نوركم ، وقيل لهم جوابا لذلك : ارجعوا وراءكم فالتمسوا [ ص: 545 ] نورا ، وضرب بينهم بالسور المذكور أنهم ينادون المؤمنين : ألم نكن معكم ، أي في دار الدنيا ، كنا نشهد معكم الصلوات ونسير معكم في الغزوات وندين بدينكم ؟ قالوا : بلى ، أي كنتم معنا في دار الدنيا ، ولكنكم فتنتم أنفسكم .
وقد قدمنا مرارا معاني الفتنة وإطلاقاتها في القرآن ، وبينا أن من معاني إطلاقاتها في القرآن الضلال كالكفر والمعاصي ، وهو المراد هنا أي فتنتم أنفسكم : أي أضللتموها بالنفاق الذي هو كفر باطن ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 8 \ 39 ] ، أي لا يبقى شرك كما تقدم إيضاحه ، وقوله : وتربصتم [ 57 \ 14 ] ، التربص : الانتظار ، والأظهر أن المراد به هنا تربص المنافقين بالمؤمنين الدوائر أي انتظارهم بهم نوائب الدهر أن تهلكهم ، كقوله تعالى في منافقي الأعراب المذكورين في قوله : وممن حولكم من الأعراب منافقون [ 9 \ 101 ] ، ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء [ 9 \ 98 ] .
وقوله تعالى : وارتبتم أي شككتم في دين الإسلام ، وشكهم المذكور هنا وكفرهم بسببه بينه الله تعالى في قوله عنهم : إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 \ 45 ] .
وقوله تعالى : وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله [ 57 \ 14 ] ، الأماني جمع أمنية ، وهي ما يمنون به أنفسهم من الباطل ، كزعمهم أنهم مصلحون في نفاقهم ، وأن المؤمنين حقا سفهاء في صدقهم ، أي في إيمانهم ، كما بين تعالى ذلك في قوله : وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون الآية [ 2 \ 11 - 12 ] ، وقوله تعالى : وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء الآية [ 2 \ 13 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الأماني المذكورة من الغرور الذي اغتروا به - جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به إلى قوله : ولا يظلمون نقيرا [ 4 \ 123 - 124 ] .
وقوله : حتى جاء أمر الله [ 57 \ 14 ] ، الأظهر أنه الموت لأنه ينقطع به العمل .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وغركم بالله الغرور [ 57 \ 14 ] ، هو [ ص: 546 ] الشيطان ، وعبر عنه بصيغة المبالغة التي هي المفعول لكثرة غروره لبني آدم ، كما قال تعالى : وما يعدهم الشيطان إلا غرورا [ 17 \ 64 ] .
وما ذكره - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة من أن الشيطان الكثير الغرور غرهم بالله - جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى في آخر لقمان : إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور [ 35 \ 5 ] ، وقوله في أول فاطر : ياأيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير [ 35 \ 5 - 6 ] .
وقوله تعالى في آية لقمان وآية فاطر المذكورتين إن وعد الله حق [ 10 \ 55 ] وترتيبه على ذلك النهي عن أن يغرهم بالله الغرور - دليل واضح على أن مما يغرهم به الشيطان أن وعد الله بالبعث ليس بحق ، وأنه غير واقع . والغرور بالضم الخديعة .
قوله تعالى : فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به الآية [ 3 \ 91 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون .
قد قدمنا مرارا أن كل فعل مضارع في القرآن مجزوم بـ " لم " إذا تقدمتها همزة الاستفهام كما هنا - فيه وجهان من التفسير معروفان .
الأول منهما : هو أن تقلب مضارعته ماضوية ، ونفيه إثباتا ، فيكون بمعنى الماضي المثبت ، لأن " لم " حرف تقلب المضارع من معنى الاستقبال إلى معنى المضي ، وهمزة الاستفهام إنكارية ، فيها معنى النفي ، فيتسلط النفي الكامن فيها على النفي الصريح في " لم " فينفيه ، ونفي النفي إثبات ، فيرجع المعنى إلى الماضي المثبت . وعليه فالمعنى " ألم يأن للذين " أي : آن للذين آمنوا .
والوجه الثاني : أن الاستفهام في جميع ذلك للتقرير ، وهو حمل المخاطب على أن [ ص: 547 ] يقر فيقول : بلى . وقوله : " يأن " : هو مضارع " أنى يأنى " إذا جاء إناه أي وقته ، ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه :
ولقد أنى لك أن تناهى طائعا أو تستفيق إذا نهاك المرشد فقوله : أنى لك أن تناهى طائعا ، أي جاء الإناه الذي هو الوقت الذي تتناهى فيه طائعا ، أي حضر وقت تناهيك ، ويقال في العربية : آن يئين كباع يبيع ، وأنى يأني كرمى يرمي ، وقد جمع اللغتين قول الشاعر :
ألما يئن لي أن تجلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
والمعنى على كلا القولين أنه حان للمؤمنين ، وأنى لهم أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي جاء الحين والأوان لذلك ، لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه .
وقوله تعالى : أن تخشع قلوبهم [ 57 \ 16 ] ، المصدر المنسبك من " أن " وصلتها في محل رفع فاعل بـ " أن " ، والخشوع أصله في اللغة السكون والطمأنينة والانخفاض ، ومنه قول نابغة ذبيان :
رماد ككحل العين لأيا أبينه ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع
فقوله : " خاشع " أي منخفض مطمئن ، والخشوع في الشرع خشية من الله تداخل القلوب ، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون ، كما هو شأن الخائف .
وقوله : لذكر الله ، الأظهر منه أن المراد خشوع قلوبهم لأجل ذكر الله ، وهذا المعنى دل عليه قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ 8 \ 2 ] ، أي خافت عند ذكر الله ، فالوجل المذكور في آية الأنفال هذه ، والخشية المذكورة هنا معناهما واحد .
وقال بعض العلماء : المراد بذكر الله القرآن ، وعليه فقوله : وما نزل من الحق [ 57 \ 16 ] من عطف الشيء على نفسه مع اختلاف اللفظين ، كقوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى [ 87 \ 1 - 3 ] ، كما أوضحناه مرارا .
وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى : [ ص: 548 ] الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] . فالاقشعرار المذكور ولين الجلود والقلوب عند سماع هذا القرآن العظيم المعبر عنه بأحسن الحديث - يفسر معنى الخشوع لذكر الله ، وما نزل من الحق هنا كما ذكر .
وقوله تعالى : ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم [ 57 \ 16 ] ، قد قدمنا في سورة البقرة في الكلام على قوله : ثم قست قلوبكم [ 2 \ 74 ] بعض أسباب قسوة قلوبهم ، فذكرنا منها طول الأمد المذكور هنا في آية الحديد هذه ، وغير ذلك في بعض الآيات الأخر .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كثرة الفاسقين ، من أهل الكتاب - جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 3 \ 110 ] ، وقوله تعالى : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 57 \ 27 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الزمر في الكلام على قوله تعالى : ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما الآية [ 39 \ 21 ] ، وبينا هناك الآية الدالة على سبب اصفراره .
قوله تعالى : ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن كل ما أصاب من المصائب في الأرض كالقحط والجدب والجوائح في الزراعة والثمار وفي الأنفس من الأمراض والموت كله مكتوب في كتاب قبل خلق الناس ، وقبل وجود المصائب ، فقوله : من قبل أن نبرأها [ 57 \ 22 ] ، الضمير فيه عائد على الخليقة المفهومة في ضمن قوله : وفي أنفسكم [ 57 \ 22 ] ، أو إلى المصيبة ، واختار بعضهم رجوعه لذلك كله .
وقوله تعالى : إن ذلك على الله يسير [ 57 \ 22 ] ، أي سهل هين لإحاطة علمه وكمال قدرته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 12:05 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (530)
سُورَةُ الْحَدِيدِ .
صـ 549 إلى صـ 557
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أنه لا يصيب الناس شيء من المصائب إلا وهو [ ص: 549 ] مكتوب عند الله قبل ذلك - أوضحه الله تعالى في غير هذا الموضع ، كقوله تعالى : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ 9 \ 51 ] ، وقوله تعالى : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله [ 64 \ 11 ] ، وقوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين [ 2 \ 155 ] ، لأن قوله : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع [ 2 \ 155 ] قبل وقوع ذلك دليل على أن هذه المصائب معلومة له - جل وعلا - قبل وقوعها ، ولذا أخبرهم تعالى بأنها ستقع ، ليكونوا مستعدين لها وقت نزولها بهم ، لأن ذلك يعينهم على الصبر عليها .
ونقص الأموال والثمرات مما أصاب من مصيبة . ونقص الأنفس في قوله : والأنفس مما أصاب من مصيبة في الأنفس ، وقوله في آية الحديد هذه : لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [ 57 \ 23 ] ، أي بينا لكم أن الأشياء مقدرة مكتوبة قبل وجود الخلق ، وأن ما كتب واقع لا محالة لأجل ألا تحزنوا على شيء فاتكم ، لأن فواته لكم مقدر ، وما لا طمع فيه قل الأسى عليه ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، لأنكم إذا علمتم أن ما كتب لكم من الرزق والخير لا بد أن يأتيكم قل فرحكم به ، وقوله : " تأسوا " مضارع أسي بكسر السين يأسى بفتحها أسى بفتحتين على القياس ، بمعنى حزن ، ومنه قوله تعالى : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] . وقوله : " من مصيبة " مجرور في محل رفع ؛ لأنه فاعل " أصاب " جر بـ " من " المزيدة لتوكيد النفي ، و " ما " نافية .
قوله تعالى : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الشورى ، في الكلام على قوله : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان الآية [ 42 \ 17 ] ، وقدمنا هناك كلام أهل العلم في معناه .
قوله تعالى : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد .
بين الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة والتي قبلها أن إقامة دين الإسلام تنبني على أمرين : أحدهما هو ما ذكره بقوله : وأنزلنا معهم الكتاب والميزان [ 57 \ 25 ] ، لأن في ذلك إقامة البراهين على الحق ، وبين الحجة وإيضاح الأمر والنهي والثواب والعقاب . فإذا أصر الكفار على الكفر وتكذيب الرسل مع ذلك البيان والإيضاح ، فإن الله تبارك [ ص: 550 ] وتعالى أنزل الحديد ، أي : خلقه لبني آدم ليردع به المؤمنون الكافرين المعاندين ، وهو قتلهم إياهم بالسيوف والرماح والسهام ، وعلى هذا فقوله هنا : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد [ 57 \ 25 ] ، توضحه آيات كثيرة ، كقوله تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم [ 9 \ 14 ] ، وقوله تعالى : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] ، والآيات في مثل ذلك كثيرة معلومة .
وقوله : ومنافع للناس [ 57 \ 25 ] ، لا يخفى ما في الحديد من المنافع للناس ، وقد أشار الله إلى ذلك في قوله : ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع [ 13 \ 17 ] ، لأن مما يوقد عليه في النار ابتغاء المتاع - الحديد .
قوله تعالى : فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء الآية [ 43 \ 28 - 29 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم .
قد قدمنا أن التحقيق أن هذه الآية الكريمة من سورة الحديد في المؤمنين من هذه الأمة ، وأن سياقها واضح في ذلك ، وأن من زعم من أهل العلم أنها في أهل الكتاب فقد غلط ، وأن ما وعد الله به المؤمنين من هذه الأمة أعظم مما وعد به مؤمني أهل الكتاب وإتيانهم أجرهم مرتين كما قال تعالى فيهم : الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين الآية [ 28 \ 52 - 54 ] .
وكون ما وعد به المؤمنين من هذه الأمة أعظم ، أن إيتاء أهل الكتاب أجرهم مرتين أعطى المؤمنين من هذه الأمة مثله كما بينه بقوله : يؤتكم كفلين من رحمته [ 57 \ 28 ] ، وزادهم بقوله : ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم [ 57 \ 28 ] .
قوله تعالى : وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أن الفضل بيد الله وحده وأنه يؤتيه من يشاء - جاء [ ص: 551 ] موضحا في آيات كثيرة كقوله تعالى : وإن يردك بخير فلا راد لفضله [ 10 \ 107 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة فاطر في الكلام على قوله تعالى : ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده [ 35 \ 2 ] .
[ ص: 552 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْمُجَادِلَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ : فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [ 33 \ 4 ] ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَأَدِلَّتَهُمْ ، وَمُنَاقَشَتَهَ ا فِي مَسَائِلِ الظِّهَارِ ، وَمَسَائِلِ أَحْكَامِ الْكَفَّارَةِ بِالْعِتْقِ ، وَالصِّيَامِ ، وَالْإِطْعَامِ ، وَأَوْجُهَ الْقِرَاءَةِ فِي الْآيَةِ .
قوله تعالى : ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم إلى قوله : إن الله بكل شيء عليم .
قد قدمنا الكلام عليه في آخر سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] ، وذكرنا هناك معنى المعية الخاصة ، والمعية العامة ، والآيات القرآنية الدالة على كل واحدة منهما .
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان .
قد قدمنا الكلام عليه مع بيان الفرق بين النجوى بالخير ، والنجوى بالإثم والعدوان في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس [ 4 \ 114 ] .
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم .
قال بعض أهل العلم : معنى ألم تر إلى الذين تولوا : ألم ينته علمك إلى الذين تولوا .
وقد قدمنا الرد على من قال : إن لفظة " ألم تر " لا تعدى إلا بحرف الجر الذي هو [ ص: 553 ] " إلى " ، ولا تتعدى بنفسها إلى المفعول ، وبينا أن ذلك وإن كان هو الذي في القرآن في جميع المواضع فإن تعديتها إلى المفعول بنفسها صحيحة .
ومن شواهد ذلك قول امرئ القيس :
ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
والمراد إنكار الله على المنافقين توليهم القوم الذين غضب الله عليهم ، وهم اليهود والكفار ، وهذا الإنكار يدل على شدة منع ذلك التولي ، وقد صرح الله بالنهي عن ذلك في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم [ 60 \ 13 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون المنافقين ليسوا من المؤمنين ، ولا من القوم الذين تولوهم ، وهم الذين غضب الله عليهم من اليهود - جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم إلى قوله : مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء [ 4 \ 142 - 143 ] .
قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن المنافقين اتخذوا أيمانهم جنة ، والأيمان جمع يمين ، وهي الحلف ، والجنة هي الترس الذي يتقي به المقاتل وقع السلاح . والمعنى أنهم جعلوا الأيمان الكاذبة ، وهي حلفهم للمسلمين إنهم معهم وإنهم مخلصون في باطن الأمر - ترسا لهم يتقون به الشر الذي ينزل بهم لو صرحوا بكفرهم . وقوله تعالى : فصدوا عن سبيل الله الظاهر أنه من " صد " المتعدية ، وأن المفعول محذوف ، أي : فصدوا غيرهم ممن أطاعهم لأن صدودهم في أنفسهم دل عليه قوله : اتخذوا أيمانهم جنة والحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ، كما أوضحناه مرارا .
وهذان الأمران اللذان تضمنتهما هذه الآية الكريمة ، وهما كون المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة لتكون لهم جنة ، وأنهم يصدون غيرهم عن سبيل الله - جاءا موضحين في آيات أخر من كتاب الله ، أما أيمانهم الكاذبة فقد بينها الله - جل وعلا - في آيات كثيرة ، كقوله تعالى في هذه السورة ويحلفون على الكذب وهم يعلمون [ 58 \ 14 ] ، وقوله تعالى : يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه ، وقوله تعالى : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم الآية [ 9 \ 95 ] ، [ ص: 554 ] وقوله تعالى : وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون [ 9 \ 42 ] ، وقوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون [ 63 \ 2 ] .
وأما صدهم من أطاعهم عن سبيل الله فقد بينه الله في آيات من كتابه كقوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا [ 33 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا [ 3 \ 156 ] ، وقوله تعالى : الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا [ 3 \ 168 ] ، وقوله تعالى : وإن منكم لمن ليبطئن [ 4 \ 72 ] .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة فلهم عذاب مهين ، أي لأجل نفاقهم ، كما قال تعالى : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار الآية [ 4 \ 145 ] .
قوله تعالى : لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه إلى قوله : خيرا منها منقلبا [ 18 \ 35 - 36 ] .
قوله تعالى : استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله .
ما تضمنته هذه الآية الكريمة من إسناد إنساء ذكر الله إلى الشيطان - ذكره تعالى في غير هذا الموضع كقوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، ، وقوله تعالى : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ 12 \ 42 ] ، وفي معناه قول فتى موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ 18 \ 63 ] .
قوله تعالى : إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين .
ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أن الذين يحادون الله ورسوله داخلون في جملة الأذلين - لا يوجد أحد أذل منهم . وقوله : يحادون الله ورسوله أي يعادون ويحالفون ويشاقون ، وأصله مخالفة حدود الله التي حدها .
وقوله : في الأذلين أي الذين هم أعظم الناس ذلا . والذل : الصغار والهوان والحقارة .
[ ص: 555 ] وما تضمنته هذه الآية الكريمة من كون الذين يحادون الله ورسوله هم أذل خلق الله ، بينه - جل وعلا - في غير هذا الموضع ، وذلك بذكره أنواع عقوبتهم المفضية إلى الذل والخزي والهوان ، كقوله تعالى : ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم [ 9 \ 63 ] ، وقوله تعالى : إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم [ 58 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ 59 \ 3 - 4 ] ، وقوله تعالى : فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار [ 8 \ 12 - 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز .
قد دلت هذه الآية الكريمة على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم ، والغلبة نوعان : غلبة بالحجة والبيان ، وهي ثابتة لجميع الرسل ، وغلبة بالسيف والسنان ، وهي ثابتة لمن أمر بالقتال منهم دون من لم يؤمر به .
وقد دلت هذه الآية الكريمة ، وأمثالها من الآية كقوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] - أنه لن يقتل نبي في جهاد قط ، لأن المقتول ليس بغالب ، لأن القتل قسم مقابل للغلبة ، كما بينه تعالى في قوله : ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب الآية [ 4 \ 74 ] ، وقال تعالى : إنا لننصر رسلنا الآية [ 40 \ 51 ] ، وقد نفى عن المنصور كونه مغلوبا نفيا باتا في قوله تعالى : إن ينصركم الله فلا غالب لكم [ 3 \ 160 ] .
وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا كقوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون [ 2 \ 87 ] ، وقوله تعالى : قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم [ 3 \ 183 ] - ليسوا مقتولين في جهاد ، وأن نائب الفاعل في قوله تعالى : [ ص: 556 ] وكأين من نبي قاتل معه ربيون [ 3 \ 146 ] ، على قراءة " قتل " بالبناء للمفعول ، هو ربيون لا ضمير النبي .
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح بالآيات القرآنية في سورة آل عمران في الكلام على قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير [ 3 \ 146 ] ، وذكرنا بعضه في الصافات في الكلام على قوله تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين [ 37 \ 171 ] .
قوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم .
وردت هذه الآية الكريمة بلفظ الخبر ، والمراد بها الإنشاء ، وهذا النهي البليد ، والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله ، وإيراد الإنشاء بلفظ الخبر أقوى وأوكد من إيراده بلفظ الإنشاء ، كما هو معلوم في محله ، ومعنى قوله : يوادون من حاد الله ورسوله : أي يحبون ويوالون أعداء الله ورسوله .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من النهي والزجر العظيم عن موالاة أعداء الله - جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده [ 60 \ 4 ] ، وقوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم [ 48 \ 29 ] ، وقوله تعالى : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين [ 5 \ 54 ] ، وقوله تعالى : وليجدوا فيكم غلظة الآية [ 9 \ 123 ] ، وقوله تعالى : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ 9 \ 73 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ولو كانوا آباءهم زعم بعضهم أنها نزلت في أبي عبيدة بن الجراح ، قائلا : إنه قتل أباه كافرا يوم بدر أو يوم أحد ، وقيل : نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أبي المنافق المشهور ، وزعم من قال ؛ أن عبد الله استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل أبيه عبد الله بن أبي ، فنهاه . وقيل : نزلت في أبي بكر ، وزعم من قال ؛ أن أباه أبا قحافة سب النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه فضربه ابنه أبو بكر حتى سقط .
[ ص: 557 ] وقوله : أو أبناءهم ، زعم بعضهم أنها نزلت في أبي بكر حين طلب مبارزة ابنه عبد الرحمن يوم بدر .
وقوله : أو إخوانهم زعم بعضهم أنها نزلت في مصعب بن عمير قالوا : قتل أخاه عبيد بن عمير . وقال بعضهم : مر بأخيه يوم بدر يأسره رجل من المسلمين ، فقال : شدد عليه الأسر ، علم أن أمه ملية وستفديه .
وقوله : أو عشيرتهم قال بعضهم : نزلت في عبيدة بن الحارث بن المطلب ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، لما قتلوا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة في المبارزة يوم بدر ، وهم بنو عمهم ، لأنهم أولاد ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، وعبد شمس أخو هاشم كما لا يخفى .
وقوله تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان أي ثبته في قلوبهم بتوفيقه .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من تثبيت الإيمان في قلوبهم جاء موضحا في قوله تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة [ 49 \ 7 - 8 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:21 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (531)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 3 إلى صـ 10
[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
قوله تعالى : ( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) .
تقدم للشيخ - رحمه الله - كلام على معنى التسبيح عند قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ) [ 21 \ 79 ] .
وقال رحمه الله : التسبيح في اللغة الإبعاد عن السوء ، وفي اصطلاح الشرع تنزيه الله - جل وعلا - عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله ، وساق - رحمه الله - النصوص في تسبيح المخلوقات جميعها .
وقال في آخر المبحث : والظاهر أن قوله تعالى : وكنا فاعلين مؤكد لقوله تعالى : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) ، والموجب لهذا التأكيد أن تسخير الجبال وتسبيحها أمر عجب خارق للعادة ، مظنة لأن يكذب به الكفرة الجهلة [ من الجزء الرابع 337 ، وذكر عند أول سورة " الحديد " زيادة لذلك ] .
وفي مذكرة الدراسة مما أملاه - رحمه الله - في فصل الدراسة على أول سورة الجمعة : يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم [ 62 \ 1 ] قال : التسبيح التنزيه ، ( وما ) التي لغير العقلاء ؛ لتغلب غير العقلاء لكثرتهم ، وكان يمكن الاكتفاء بالإحالة على ما ذكره - رحمه الله تعالى - إلا أن الحاجة الآن تدعو إلى مزيد بيان بقدر المستطاع ؛ لتعلق المبحث بأمر بالغ الأهمية ، ونحن اليوم في عصر تغلب عليه العلمانية ، والمادية فنورد ما أمكن أملا في زيادة الإيضاح .
إن أصل التسبيح من مادة سبح ، والسباحة والتسبيح مشتركان في أصل المادة ، فبينهما اشتراك في أصل المعنى ، والسباحة في الماء ينجو بها صاحبها من الغرق ، وكذلك المسبح لله والمنزه له ينجو من الشرك ، ويحيا بالذكر والتمجيد لله تعالى .
وقد جاء الفعل هنا بصيغة الماضي : ( سبح لله ) كما جاء في أول سورة [ ص: 4 ] " الحديد " .
قال أبو حيان عندها : لما أمر الله تعالى الخلق بالتسبيح في آخر سورة الواقعة يعني في قوله تعالى : ( إن هذا لهو حق اليقين فسبح باسم ربك العظيم ) [ 56 \ 95 - 96 ] ، جاء في أول السورة التي تليها مباشرة بالفعل الماضي ؛ ليدل على أن التسبيح المأمور به قد فعله ، والتزم به كل ما في السماوات والأرض . ا هـ .
ومعلوم أن الفعل قد جاء أيضا بصيغة المضارع كما في آخر هذه السورة : ( يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ) [ 59 \ 24 ] ، وفي أول سورة " الجمعة " : ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم ) [ 62 \ 1 ] ، وفي أول سورة التغابن : ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [ 64 \ 1 ] ، وهذه الصيغة تدل على الدوام والاستمرار .
بل جاء الفعل بصيغة الأمر : ( سبح اسم ربك الأعلى ) [ 87 \ 1 ] ، ( فسبح باسم ربك العظيم ) [ 56 \ 74 ] .
وجاءت المادة بالمصدر : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) [ 17 \ 1 ] ، ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) [ 30 \ 17 ] ، ليدل ذلك كله بدوام واستمرار التسبيح لله تعالى من جميع خلقه ، كما سبح سبحانه نفسه ، وسبحته ملائكته ، ورسله على ما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه .
و ( ما ) في قوله تعالى : ( ما في السماوات وما في الأرض ) من صيغ العموم ، وأصل استعمالها لغير العقلاء ، وقد تستعمل للعاقل إذا نزل منزلة غير العاقل ، كما في قوله تعالى : ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ 4 \ 3 ] ، ومجيئها هنا لغير العاقل تغليبا له ؛ لكثرته كما تقدم ، فتكون شاملة للعاقل من باب أولى .
ومما يلفت النظر أن التسبيح الذي في معرض العموم كله في القرآن مسند إلى " ما " دون " من " إلا في موضع واحد ، هو قوله تعالى : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ) [ 71 \ 44 ] ، وهذا شاهد على شمول " ما " وعمومها المتقدم ذكرها ؛ لأنه سبحانه أسند التسبيح أولا إلى السماوات السبع والأرض صراحة بذواتهن ، وهن من غير العقلاء بما في كل منهن من أفلاك ، وكواكب ، وبروج ، أو جبال ، ووهاد ، وفجاج ، ثم عطف [ ص: 5 ] على غير العقلاء بصيغة " من " الخاصة بالعقلاء فقال : ( ومن فيهن ) ، وإن كانت " من " ، قد تستعمل لغير العقلاء إذا نزلن منزلة العقلاء كما في قول الشاعر :
أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطير
وبهذا شمل إسناد التسبيح لكل شيء في نطاق السماوات والأرض عاقل ، وغير عاقل ، وقد أكد هذا الشمول بصريح قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) [ 17 \ 44 ] ، وكلمة " شيء " أعم العمومات ، كما في قوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) [ 13 \ 6 ] ، فشملت السماوات والأرض ، والملائكة ، والإنس ، والجن ، والطير ، والحيوان ، والنبات ، والشجر ، والمدر ، وكل مخلوق لله تعالى .
وقد جاء في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة إثبات التسبيح من كل ذلك كل على حدة .
أولا : تسبيح الله تعالى نفسه : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ) [ 17 \ 1 ] ، ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ) [ 30 \ 17 - 18 ] ، ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) [ 21 \ 22 ] .
ثانيا : تسبيح الملائكة ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ 2 ] ، وقوله : ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم [ 39 \ 75 ] ، و ( يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ 21 \ 20 ] .
ثالثا : تسبيح الرعد : ( ويسبح الرعد بحمده ) [ 13 \ 13 ] .
رابعا : تسبيح السماوات السبع ، والأرض : ( تسبح له السماوات السبع والأرض ) [ 17 \ 44 ] .
خامسا : تسبيح الجبال : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) [ 38 \ 18 ] .
سادسا : تسبيح الطير : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) [ 21 \ 79 ] .
[ ص: 6 ] سابعا : تسبيح الإنسان : ( فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين ) [ 15 \ 98 ] ، ( فسبح باسم ربك العظيم ) [ 56 \ 74 ] ، ( فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) [ 19 \ 11 ] .
فهذا إسناد التسبيح صراحة لكل هذه العوالم مفصلة ومبينة ، واضحة .
وجاء مثل التسبيح ، ونظيره وهو السجود مسندا لعوالم أخرى وهي بقية ما في هذا الكون من أجناس وأصناف في قوله تعالى : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ) [ 22 \ 18 ] .
ويلاحظ هنا أنه تعالى أسند السجود أولا لمن في السماوات ومن في الأرض و " من " هي للعقلاء أي : الملائكة ، والإنس ، والجن ، ثم عطف على العقلاء غير العقلاء بأسمائهن من الشمس ، والقمر ، والنجوم ، والجبال ، والشجر ، والدواب فهذا شمول لم يبق كائن من الكائنات ، ولا ذرة في فلاة إلا شمله .
وبعد بيان هذا الشمول والعموم يأتي مبحث العام الباقي على عمومه ، والعام المخصوص ، وهل عموم " ما " هنا باق على عمومه أم دخله تخصيص ؟
قال جماعة من العلماء منهم ابن عباس : إن العموم باق على عمومه ، وإن لفظ التسبيح محمول على حقيقته في التنزيه والتحميد .
وقال قوم : إن العموم باق على عمومه لم يدخله خصوص ، ولكن التسبيح يختلف ، ولكل تسبيح بحسبه فمن العقلاء بالذكر والتحميد والتمجيد كالإنسان والملائكة والجن ، ومن غير العاقل سواء الحيوان والطير ، والنبات ، والجماد ، فيكون بالدلالة بأن يشهد على نفسه ، ويدل على أن الله تعالى خالق قادر .
وقال قوم : قد دخله التخصيص .
ونقل القرطبي عن عكرمة ، قال : الشجرة تسبح والأسطوان لا يسبح . وقال يزيد الرقاشي للحسن وهما في طعام وقد قدم الخوان : أيسبح هذا الخوان يا أبا سعيد ؟ فقال : قد كان يسبح مرة يريد أن التسبيح من الحي ، أو النامي سواء الحيوان ، أو النبات وما عداه [ ص: 7 ] فلا . وقال القرطبي : ويستدل لهذا القول من السنة بما ثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما - من وضع الجريد الأخضر على القبر ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه : " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " . أي : بسبب تسبيحهما ، فإذا يبسا انقطع تسبيحهما . ا هـ .
والصحيح من هذا كله الأول الذي قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو الذي يشهد له القرآن الكريم لعدة أمور :
أولا : لصريح قوله تعالى : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) [ 17 \ 44 ] .
ثانيا : أن الحامل لهم على القول بتسبيح الدلالة ، هو تحكيم الحس والعقل ، حينما لم يشاهدوا ذلك ولم تتصوره العقول ، ولكن الله تعالى نفى تحكيم العقل الحسي هنا ، وخطر على العقل بقوله تعالى : ( ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) .
ثالثا : قوله تعالى في حق نبي الله داود عليه السلام : ( وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير ) [ 21 \ 79 ] ، وقوله تعالى : ( إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ) [ 38 \ 18 ] ، فلو كان تسبيحها معه تسبيح دلالة كما يقولون لما كان لداود - عليه السلام - خصوصية على غيره .
رابعا : أخبر الله تعالى أن لهذه العوالم كلها إدراكا تاما كإدراك الإنسان أو أشد منه ، قال تعالى عن السماوات والأرض والجبال : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ) [ 33 \ 72 ] ، فأثبت تعالى لهذه العوالم إدراكا وإشفاقا من تحمل الأمانة ، بينما سجل على الإنسان ظلما وجهالة في تحمله إياها ، ولم يكن هذا العرض مجرد تسخير ، ولا هذا الإباء مجرد سلبية ، بل عن إدراك تام ، كما في قوله تعالى : ( ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ) [ 41 \ 11 ] ، فهما طائفتان لله ، وهما يأبين أن يحملن الأمانة إشفاقا منها .
وفي أواخر هذه السورة الكريمة سورة الحشر قوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) [ 59 \ 21 ] ، ومثله قوله تعالى : ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ) [ 2 \ 74 ] ، [ ص: 8 ] وهذا هو عين الإدراك أشد من إدراك الإنسان .
وفي الحديث : " لا يسمع صوت المؤذن من حجر ، ولا مدر ، ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة " فبم سيشهد إن لم يك مدركا الأذان والمؤذن .
وعن إدراك الطير قال تعالى عن الهدهد يخاطب نبي الله سليمان : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ) [ 27 \ 22 - 24 ] .
ففي هذا السياق عشر قضايا يدركها الهدهد ويفصح عنها لنبي الله سليمان .
الأولى : إدراكه أنه أحاط بما لم يكن في علم سليمان .
الثانية : معرفته لسبأ بعينها دون غيرها ، ومجيئه منها بنبأ يقين لا شك فيه .
الثالثة : معرفته لتولية المرأة عليهم مع إنكاره ذلك عليهم .
الرابعة : إداركه ما أوتيته سبأ من متاع الدنيا من كل شيء .
الخامسة : أن لها عرشا عظيما .
السادسة : إدراكه ما هم عليه من السجود للشمس من دون الله .
السابعة : إدراكه أن هذا شرك بالله تعالى .
الثامنة : أن هذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم .
التاسعة : أن هذا ضلال عن السبيل القويم .
العاشرة : أنهم لا يهتدون .
وقد اقتنع سليمان بإدراك الهدهد لهذا كله فقال له : ( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين ) [ 27 \ 27 ] ، وسلمه رسالة ، وبعثه سفيرا إلى بلقيس وقومها : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون [ 27 \ 28 ] ، وكانت سفارة موفقة جاءت [ ص: 9 ] بهم مسلمين في قوله تعالى عنها : وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين [ 27 \ 44 ] .
وكذلك ما جاء عن النملة في قوله تعالى عنها : ( حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون [ 27 \ 18 ] فقد أدركت مجيء الجيش ، وأنه لسليمان وجنوده وأدركت كثرتهم ، وأن عليها وعلى النمل أن يتجنبوا الطريق ، ويدخلوا مساكنهم ، وهذا الإدراك منها جعل سليمان - عليه السلام - يتبسم ضاحكا من قولها . وأن لها قولا علمه سليمان عليه السلام .
فقد جاء في السنة إثبات إدراك الحيوانات للمغيبات فضلا عن المشاهدات ، كما في حديث الموطأ في فضل يوم الجمعة : " وإن فيه خلق آدم ، وفيه أسكن الجنة " إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة في الأرض إلا وهي تصيخ بأذنها من فجر يوم الجمعة حتى طلوع الشمس إشفاقا من الساعة إلا الجن والإنس " ، فهذا إدراك وإشفاق من الحيوان ، وإيمان بالمغيب ، وهو قيام الساعة وإشفاق من الساعة أشد من الإنسان .
وقصة الجمل الذي ند على أهله وخضع له - صلى الله عليه وسلم - حتى قال الصديق : لكأنه يعلم أنك رسول الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " نعم إنه ما بين لابتيها إلا وهو يعلم أني رسول الله " .
فهذا كله يثبت إدراكا للحيوان بالمحسوس ، وبالمغيب إدراكا لا يقل عن إدراك الإنسان ، فما المانع من إثبات تسبيحها حقيقة على ما يعلمه الله تعالى منها ؟ وقد جاء النص صريحا في التسبيح المثبت لها في أنه تسبيح تحميد لا مطلق دلالة كما في قوله تعالى : ويسبح الرعد بحمده [ 13 \ 13 ] ، وقرنه مع تسبيح الملائكة : والملائكة من خيفته [ 13 \ 13 ] ، وهذا نص في محل النزاع ، وإثبات لنوع التسبيح المطلوب .
خامسا : لقد شهد المسلمون منطق الجماد بالتسبيح ، وسمعوه بالتحميد حسا كتسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم ، وكحنين الجذع للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى سمعه كل من في المسجد ، وما أخبر به صلى الله عليه وسلم : " إني لأعلم حجرا في مكة ما مررت عليه إلا وسلم علي " ، وما ثبت بفرد يثبت لبقية أفراد جنسه ، كما هو معلوم في قاعدة الواحد بالجنس ، والواحد بالنوع .
ومن هذا القبيل في أعظم من ذلك ما رواه البخاري في كتاب المناقب عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحدا ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان فرجف بهم فقال : " اثبت أحد فإن عليك نبيا ، وصديقا ، وشهيدين " .
[ ص: 10 ] وفي موطأ مالك : لما رجع - صلى الله عليه وسلم - من سفر طلع عليهم أحد فقال : " هذا جبل يحبنا ، ونحبه " .
فهذا جبل من كبار جبال المدينة يرتجف لصعود النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، فيخاطبه - صلى الله عليه وسلم - خطاب العاقل المدرك : " اثبت أحد ؛ فإن عليك نبيا ، وصديقا ، وشهيدين " ، فيعرف النبي ، ويعرف الصديق ، والشهيد فيثبت ، فبأي قانون كان ارتجافه ؟ وبأي معقول كان خطابه ؟ وبأي معنى كان ثبوته ؟ ثم هاهو يثبت له - صلى الله عليه وسلم - المحبة المتبادلة بقوله : " يحبنا ، ونحبه " .
وإذا ناقشنا أقوال القائلين بتخصيص هذا العموم من إثبات التسبيح للجمادات ونحوها ، لما وجدنا لهم وجهة نظر إلا أن الحس لم يشهد شيئا من ذلك ، وقد أوردنا الأمثلة على إثبات ذلك لسائر الأجناس ، وتقدم تنبيه الشيخ على تأكيد ذلك بقوله تعالى : وكنا فاعلين [ 21 \ 29 ] ردا على استبعاده .
ومن الأدلة القرآنية في هذا المقام ما جاء في سياق قوله تعالى : وإن من شيء إلا يسبح بحمده [ 17 \ 44 ] ، جاء بعدها قوله تعالى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا [ 17 \ 45 ] وهذا نص يكذب المستدلين بالحس ؛ لأن الله تعالى أخبر بأنه جعل بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تلك الحالة ، وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا يحجبه عنهم ، وهذا الحجاب مستور عن أعينهم فلا يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه محجوب عنهم ، ولا يرون الحجاب ؛ لأنه مستور ، وهذا هو الصحيح في هذه الآية .
وقد قال فيها بعض البلاغيين : إن مستورا هنا بمعنى ساترا ويقال لهم : إن جعل مستورا بمعنى ساترا تكرار لمعنى حجاب ؛ لأن قوله تعالى : جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا [ 17 \ 45 ] هو بمعنى ساترا ، أي : يستره عن الذين لا يؤمنون بالآخرة وليس في ذلك زيادة معنى ، ولا كبير معجزة ، ولكن الإعجاز في كون الحجاب مستورا عن أعينهم ، وفي هذا تحقيق وجود المعنيين ، وهما حجبه - صلى الله عليه وسلم - عنهم ، وستر الحجاب عن أعينهم ، وهذا أبلغ في حفظه - صلى الله عليه وسلم - منهم ؛ لأنه لو كان الحجاب مرئيا أي : ساترا فقط مع كونه مرئيا لربما اقتحموه عليه ، وأقوى في الإعجاز ؛ لأنه لو كان الحجاب مرئيا لكان كاحتجاب غيره من سائر الناس . ولكن حقيقة الإعجاز فيه هو كونه مستورا عن [ ص: 11 ] أعينهم ، وهذا ما رجحه ابن جرير .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:22 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (532)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 11 إلى صـ 18
وقد جاءت قصة امرأة أبي لهب مفصلة هذا الذي ذكرناه كما ساقها ابن كثير قال : لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة تبت يدا أبي لهب وتب إلى قوله : وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد [ 111 \ 1 - 5 ] ، جاءت امرأة أبي لهب وفي يدها فهر ، ولها ولولة ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أبي بكر - رضي الله عنه - عند الكعبة فقال له : إني أخاف عليك أن تؤذيك فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى عاصمني منها " ، وتلا قرآنا ، فجاءت ، ووقفت على أبي بكر وقالت : إن صاحبك هجاني . قال : لا ورب هذه البنية إنه ليس بشاعر ، ولا هاج ، فقالت : إنك مصدق وانصرفت . أي : ولم تره وهو جالس مع أبي بكر رضي الله عنه .
فهل يقال بعدم وجود الحجاب ؛ لأنه مستور لم يشاهد ، أم أننا نثبته كما أخبر تعالى وهو القادر على كل شيء ؟ وعليه وبعد إثباته نقول : ما الفرق بين إثبات حقيقة قوله تعالى هنا : حجابا مستورا ، وقوله تعالى : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ؟ ففي كلا المقامين إثبات أمر لا ندركه بالحس ، فالتسبيح لا نفقهه ، والحجاب لا نبصره .
وقد أوردنا هذه النماذج ، ولو مع بعض التكرار ، لما يوجد من تأثر البعض بدعوى الماديين أو العلمانيين ، الذين لا يثبتون إلا المحسوس ، لتعطي القارئ زيادة إيضاح ، ويعلم أن المؤمن بإيمانه يقف على علم ما لم يعلمه غيره ، ويتسع أفقه إلى ما وراء المحسوس ، ويعلم أن وراء حدود المادة عوالم يقصر العقل عن معالمها ، ولكن المؤمن يثبتها .
وقد رسم لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الطريق الصحيح في مثل هذا المقام من إثبات وإيمان ، كما في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الصبح ، ثم أقبل على الناس فقال : " بينما رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها فقالت : إنا لم نخلق لهذا ، وإنما خلقنا للحرث ، فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ؟ ! فقال : " إني أومن بهذا أنا ، وأبو بكر ، وعمر وما هما ثم ، وبينما رجل في غنمه ، إذ عدا الذئب فذهب منها بشاة فطلب حتى كأنه استنقذها منه ، فقال له الذئب هذا : استنقذتها مني ، فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري " فقال الناس : سبحان الله ذئب يتكلم ، قال : " فإني أومن بهذا أنا ، وأبو بكر ، وعمر ، وما هما ثم " .
ففي هذا النص الصريح نطق البقرة ونطق الذئب بكلام معقول من خصائص العقلاء على غير العادة ، مما استعجب له الناس وسبحوا الله إعظاما لما سمعوا ، ولكن [ ص: 12 ] الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدفع هذا الاستعجاب بإعلان إيمانه وتصديقه ، ويضم معه أبا بكر وعمر ، وإن كانا غائبين عن المجلس ، لعلمه منهما أنهما لا ينكران ما ثبت بالسند الصحيح لمجرد استبعاده عقلا .
وهنا يقال لمنكري التسبيح حقيقة وما المانع من ذلك ؟ أهو متعلق القدرة أم استبعاد العقل لعدم الإدراك الحسي ؟
فأما الأول : فممنوع ؛ لأن الله تعالى على كل شيء قدير ، وقد أخرج لقوم صالح ناقة عشراء من جوف الصخرة الصماء ، وأنطق الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم .
وأما الثاني : فلا سبيل إليه حتى ينتظر إدراكه وتحكيم العقل فيه ؛ فإن الله تعالى قال : ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] .
فلم يبق إلا الإيمان أشبه ما يكون بالمغيبات ، وإيمان تصديق وإثبات لا تكييف وإدراك وخالق الكائنات أعلم بحالها ، وبما خلقها عليه .
فيجب أن نؤمن بتسبيح كل ما في السماوات والأرض ، وإن كان مستغربا عقلا ، ولكن أخبر به خالقه سبحانه ، وشاهدنا المثال مسموعا من بعض أفراده .
قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم .
أجمع المفسرون أنها في بني النضير ، إلا قولا للحسن أنها في بني قريظة ، ورد هذا القول بأن بني قريظة لم يخرجوا ، ولم يجلوا ولكن قتلوا .
وقد سميت هذه السورة بسورة " بني النضير " ، حكاه القرطبي عن ابن عباس .
قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة " الحشر " قال : قل سورة " النضير " ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون - عليه السلام - نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم .
واتفق المفسرون على أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يكونوا عليه ولا له ، فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعته في التوراة ، لا ترد له راية ، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة ، فحالفوا عليه قريشا عند الكعبة ، فأخبر جبريل الرسول - صلى الله عليه وسلم بذلك - فأمر [ ص: 13 ] بقتل كعب ، فقتله محمد بن مسلمة غيلة ، وكان أخاه من الرضاعة ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم في دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري منصرفه من بئر معونة ، فهموا بطرح الحجر عليه - صلى الله عليه وسلم - فعصمه الله تعالى .
ولما قتل كعب أمر - صلى الله عليه وسلم - بالمسيرة إليهم ، وطالبهم بالخروج من المدينة ، فاستمهلوه عشرة أيام ؛ ليتجهزوا للخروج ، ولكن أرسل إليهم عبد الله بن أبي سرا : لا تخرجوا من الحصن ، ووعدهم بنصرهم بألفي مقاتل من قومه ، ومساعدة بني قريظة وحلفائهم من غطفان ، أو الخروج معهم ، فدربوا أنفسهم ، وامتنعوا بالتحصينات الداخلية ، فحاصرهم - صلى الله عليه وسلم - إحدى وعشرين ليلة .
وقيل : أجمعوا على الغدر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا له : اخرج في ثلاثين من أصحابك ، ويخرج إليك ثلاثون منا ؛ ليسمعوا منك ، فإن صدقوا آمنا كلنا ففعل ، فقالوا : كيف نفهم ونحن ستون ؟ اخرج في ثلاثة ، ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعلوا فاشتملوا على الخناجر ، وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها ، وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا ، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فساره بخبرهم قبل أن يصل - صلى الله عليه وسلم - إليهم ، فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم إحدى وعشرين ليلة ، فقذف الله في قلوبهم الرعب ، وآيسوا من نصر المنافقين الذي وعدهم به ابن أبي ، فطلبوا الصلح فأبى عليهم - صلى الله عليه وسلم - إلا الجلاء ، على أن يحمل كل أهل ثلاثة أبيات على بعير ما شاءوا من المتاع إلا الحلقة ، فكانوا يحملون كل ما استطاعوا ولو أبواب المنازل ، يخربون بيوتهم ويحملون ما استطاعوا معهم .
وقد أوردنا مجمل هذه القصة في سبب نزول هذه السورة ؛ لأن عليها تدور معاني هذه السورة كلها ، وكما قال الإمام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - في رسالة أصول التفسير : إن معرفة السبب تعين على معرفة التفسير ، وليعلم المسلمون مدى ما جبل عليه اليهود من غدر ، وما سلكوا من أساليب المراوغة فما أشبه الليلة بالبارحة .
والذي من منهج الشيخ - رحمه الله - في الأضواء قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم ، حيث أسند إخراجهم إلى الله تعالى مع وجود حصار المسلمين إياهم .
وقد تقدم للشيخ - رحمه الله - نظيره عند قوله تعالى : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا [ ص: 14 ] [ 33 \ 25 ] ، قال - رحمه الله تعالى - عندها : ذكر جل وعلا أنه قومه الذين كفروا وكذبوا الآية ، ولم يبين السبب الذي ردهم به ، ولكنه جل وعلا بين ذلك بقوله : فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها [ 33 \ 9 ] ا هـ .
وهنا أيضا في هذه الآية أسند إخراجهم إليه تعالى مع حصار المسلمين إياهم ، وقد بين تعالى السبب الحقيقي لإخراجهم في قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب ، وهذا من أهم أسباب إخراجهم ؛ لأنهم في موقف القوة وراء الحصون ، لم يتوقع المؤمنون خروجهم ، وظنوا هم أنهم مانعتهم حصونهم من الله ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقد كان هذا الإخراج من الله إياهم بوعد سابق من الله لرسوله في قوله تعالى : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم [ 2 \ 137 ] .
وبهذا الإخراج تحقق كفاية الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - منهم ، فقد كفاه إياهم بإخراجهم من ديارهم ، فكان إخراجهم حقا من الله تعالى ، وبوعد مسبق من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .
وقد أكد هذا بقوله تعالى مخاطبا للمسلمين في خصوصهم : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير [ 59 \ 6 ] وتسليط الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو بما بين صلى الله عليه وسلم في قوله : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " وهو ما يتمشى مع قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب [ 33 \ 26 ] .
وجملة هذا السياق هنا يتفق مع السياق في سورة الأحزاب عن بني قريظة سواء بسواء ، وذلك في قوله تعالى : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم [ 33 \ 26 - 27 ] ، وعليه ظهرت حقيقة إسناد إخراجهم لله تعالى ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب كما أنه هو تعالى الذي رد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا ، بما أرسل عليهم من الرياح ، والجنود ، وهو الذي كفى المؤمنين القتال ، وهو تعالى الذي أنزل بني قريظة من صياصيهم ، وورث المؤمنين ديارهم وأموالهم ، وكان الله على كل شيء قديرا .
ورشح لهذا كله التذييل في آخر الآية ، يطلب الاعتبار والاتعاظ بما فعل الله بهم : [ ص: 15 ] يا أولي الأبصار [ 59 \ 2 ] ، أي : بإخراج الذين كفروا من حصونهم ، وديارهم ومواطن قوتهم ، ما ظننتم أن يخرجوا ؛ لضعف اقتداركم ، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم لقوتها ومنعتها ، ولكن أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، وقذف في قلوبهم الرعب ، فلم يستطيعوا البقاء ، وكانت حقيقة إخراجهم من ديارهم هي من الله تعالى .
قوله تعالى : لأول الحشر .
اختلف في معنى الحشر في هذه الآية ، وبناء عليه اختلف في معنى الأول .
فقيل : المراد بالحشر أرض المحشر ، وهي الشام .
وقيل المراد بالحشر : الجمع .
واستدل القائلون بالأول بآثار منها : ما رواه ابن كثير عن عكرمة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : من شك في أن أرض المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ، وما رواه أبو حيان في البحر عن عكرمة أيضا ، والزهري ، وساق قوله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لبني النضير : " اخرجوا " ، قالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى أرض المحشر " ، وعلى هذا تكون الأولية هنا مكانية ، أي : لأول مكان من أرض المحشر ، وهي أرض الشام ، وأوائله خيبر وأذرعات .
وقيل : إن الحشر على معناه اللغوي وهو الجمع ، قال أبو حيان في البحر المحيط : الحشر الجمع للتوجه إلى ناحية ما ، ومن هذا المعنى قيل : الحشر هو حشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكتائب ؛ لقتالهم ، وهو أول حشر منه لهم وأول قتال قاتلهم ، وعليه فتكون الأولية زمانية وتقتضي حشرا بعده ، فقيل : هو حشر عمر إياهم بخيبر ، وقيل : نار تسوق الناس من المشرق إلى المغرب ، وهو حديث في الصحيح ، وقيل : البعث .
إلا أن هذه المعاني أعم من محل الخلاف ؛ لأن النار المذكورة ، والبعث ليستا خاصتين باليهود ، ولا ببني النضير خاصة ، ومما أشار إليه الشيخ - رحمه الله - أن من أنواع البيان الاستدلال على أحد المعاني بكونه هو الغالب في القرآن ، ومثل له في المقدمة بقوله تعالى : لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، فقد قال بعض العلماء : بأن المراد بهذه الغلبة : الغلبة بالحجة والبيان ، والغالب في القرآن استعمال الغلبة بالسيف والسنان ، وذلك دليل واضح على دخول تلك الغلبة في الآية ؛ لأن خير ما يبين به القرآن القرآن .
[ ص: 16 ] وهنا في هذه الآية ، فإن غلبة استعمال القرآن بل عموم استعماله في الحشر إنما هو للجمع ، ثم بين المراد بالحشر لأي شيء منها قوله تعالى : وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير [ 27 \ 17 ] ، وقوله : وحشرنا عليهم كل شيء قبلا [ 6 \ 111 ] ، وقوله عن نبي الله داود : والطير محشورة كل له أواب [ 38 \ 19 ] ، وقوله تعالى عن فرعون : قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى [ 20 \ 59 ] ، وقوله تعالى : قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين [ 7 \ 111 ] ، وقوله : فحشر فنادى [ 79 \ 23 ] ، فكلها بمعنى الجمع .
وإذا استعمل بمعنى يوم القيامة فإنه يأتي مقرونا بما يدل عليه ، وهو جميع استعمالات القرآن لهذا ، مثل قوله تعالى : وترى الأرض بارزة وحشرناهم [ 18 \ 47 ] ، وذلك في يوم القيامة ؛ لبروز الأرض ، وقوله تعالى : يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا [ 19 \ 85 ] ، وذلك في يوم القيامة لتقييده باليوم ، وقوله تعالى : يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا [ 20 \ 102 ] ، وقوله تعالى : وإذا الوحوش حشرت [ 81 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون [ 41 \ 19 ] ، إلى غير ذلك مما هو مقيد بما يعين المراد بالحشر ، وهو يوم القيامة .
فإذا أطلق كان لمجرد الجمع كما في الأمثلة المتقدمة ، وعليه فيكون المراد بقوله تعالى : لأول الحشر ، أن الراجح فيه لأول الجمع ، وتكون الأولية زمانية وفعلا ، فقد كان أول جمع لليهود ، وقد أعقبه جمع آخر لإخوانهم بني قريظة بعد عام واحد ، وأعقبه جمع آخر في خيبر ، وقد قدمنا ربط إخراج بني النضير من ديارهم بإنزال بني قريظة من صياصيهم ، وهكذا ربط جمع هؤلاء بأولئك إلا أن هؤلاء أجلوا وأخرجوا ، وأولئك قتلوا واسترقوا .
تنبيه
وكون الحشر بمعنى الجمع لا يتنافى مع كون خروجهم كان إلى أوائل الشام ؛ لأن الغرض الأول هو جمعهم للخروج من المدينة ، ثم يتوجهون بعد ذلك إلى الشام أو إلى غيرها .
وقد استدل بعض العلماء على أن توجههم كان إلى الشام من قوله تعالى : [ ص: 17 ] ياأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا [ 4 \ 47 ] ؛ لأن السياق في أهل الكتاب ، والتعريض بأصحاب السبت ألصق بهم .
فقال بعض المفسرين : الوجوه هنا هي سكناهم بالمدينة ، وطمسها تغير معالمها ، وردهم على أدبارهم ، أي : إلى بلاد الشام التي جاءوا منها أولا حينما خرجوا من الشام إلى المدينة ، انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، حكاه أبو حيان وحسنه الزمخشري .
قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا .
أتى : تأتي لعدة معان ، منها بمعنى المجيء ، ومنها بمعنى الإنذار ، ومنها بمعنى المداهمة .
وقد توهم الرازي أنها من باب الصفات ، فقال : المسألة الثانية قوله : فأتاهم الله ، لا يمكن إجراؤه على ظاهره باتفاق جمهور العقلاء ، فدل على أن باب التأويل مفتوح ، وأن صرف الآيات عن ظواهرها بمقتضى الدلائل العقلية جائز . ا هـ .
وهذا منه على مبدئه في تأويل آيات الصفات ، ويكفي لرده أنه مبني على مقتضى الدلائل العقلية ، ومعلوم أن العقل لا مدخل له في باب صفات الله تعالى ؛ لأنها فوق مستويات العقول ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 \ 11 ] ، ولا يحيطون به علما سبحانه وتعالى .
أما معنى الآية فإن سياق القرآن يدل على أن مثل هذا السياق ليس من باب الصفات كما في قوله تعالى : فأتى الله بنيانهم من القواعد [ 16 \ 26 ] ، أي هدمه واقتلعه من قواعده ، ونظيره : أتاها أمرنا ليلا أو نهارا [ 10 \ 24 ] ، وقوله : أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها [ 13 \ 41 ] ، وقوله أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها [ 21 \ 44 ] .
وفي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في العدوى : أني قلت أتيت أي دهيت ، وتغير عليك حسك فتوهمت ما ليس بصحيح صحيحا .
ويقال : أتي فلان بضم الهمزة وكسر التاء إذا أظل عليه العدو ، ومنه قولهم : من مأمنه [ ص: 18 ] يؤتى الحذر ، فيكون قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، أخذهم ودهاهم وباغتهم من حيث لم يحتسبوا من قتل كعب بن الأشرف وحصارهم ، وقذف الرعب في قلوبهم .
وهناك موقف آخر في سورة البقرة يؤيد ما ذكرناه هنا ، وهو قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير [ 2 \ 109 ] . فقوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره وهو في سياق أهل الكتاب ، وهم بذاتهم الذين قال فيهم : فأتاهم الله فيكون فأتاهم الله هنا هو إتيان أمره تعالى الموعود في بادئ الأمر عند الأمر بالعفو والصفح .
وقد أورد الشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره أن هذه الآية في أهل الكتاب كما هو واضح من السياق ، وقال : والأمر في قوله : بأمره ، قال بعض العلماء : هو واحد الأوامر ، وقال بعضهم : هو واحد الأمور .
فعلى القول الأول بأنه الأمر الذي هو ضد النهي فإن الأمر المذكور ، هو المصرح به في قوله : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون [ 9 \ 29 ] .
وعلى القول بأن واحد الأمور ، فهو ما صرح الله به في الآيات الدالة على ما أوقع باليهود من القتل ، والتشريد كقوله : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم الآية [ 59 \ 2 - 3 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، والآية غير منسوخة على التحقيق . ا هـ [ من الجزء الأول من الأضواء ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:24 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (533)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 19 إلى صـ 26
فقد نص - رحمه الله - على أن آية : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره مرتبطة بآية : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، هذه كما قدمنا : أن هذا هو الأمر الموعود به ، وقد أتاهم به من حيث لم يحتسبوا ، ويشهد لهذا كله القراءة الثانية ( فآتاهم ) بالمد بمعنى : أعطاهم وأنزل بهم ، ويكون الفعل متعديا والمفعول محذوفا دل عليه قوله : [ ص: 19 ] من حيث لم يحتسبوا أي : أنزل بهم عقوبة وذلة ومهانة جاءتهم من حيث لم يحتسبوا والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب .
منطوقه أن الرعب سبب من أسباب هزيمة اليهود ، ومفهوم المخالفة يدل على أن العكس بالعكس أي : أن الطمأنينة وهي ضد الرعب ، سبب من أسباب النصر ، وهو ضد الهزيمة .
وقد جاء ذلك المفهوم مصرحا به في آيات من كتاب الله تعالى ، منها قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا [ 48 \ 18 ] ، ومنها قوله تعالى : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين [ 009 026 ] ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين [ 9 \ 25 - 26 ] ، فقد ولوا مدبرين بالهزيمة ، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا من الملائكة فكان النصر لهم ، وهزيمة أعدائهم المشار إليها بقوله تعالى : وعذب الذين كفروا [ 9 \ 25 ] أي : بالقتل ، والسبي في ذلك اليوم .
ومنها قوله تعالى : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم [ 9 \ 40 ] .
وهذا الموقف آية من آيات الله ، اثنان أعزلان يتحديان قريشا بكاملها ، بعددها وعددها ، فيخرجان تحت ظلال السيوف ، ويدخلان الغار في سدفة الليل ، ويأتي الطلب على فم الغار بقلوب حانقة ، وسيوف مصلتة ، وآذان مرهفة حتى يقول الصديق رضي الله عنه : والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا ، فيقول - صلى الله عليه وسلم - وهو في غاية الطمأنينة ، ومنتهى السكينة : " ما بالك باثنين الله ثالثهما " ؟ .
ومنها : وفي أخطر المواقف في الإسلام في غزوة بدر ، حينما التقى الحق بالباطل وجها لوجه ، جاءت قوى الشر في خيلائها وبطرها وأشرها ، وأمامها جند الله في تواضعهم [ ص: 20 ] وإيمانهم ، وضراعتهم إلى الله : فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام [ 8 \ 9 - 11 ] .
فما جعل الله الإمداد بالملائكة إلا ؛ لتطمئن به قلوبهم ، وما غشاهم النعاس إلا أمنة منه ، وتم كل ذلك بما ربط على قلوبهم ، فقاوموا بقلتهم قوى الشر على كثرتهم ، وتم النصر من عند الله بمدد من الله ، كما ربط على قلوب أهل الكهف : وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا [ 18 \ 14 ] .
هذه آثار الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب المدلول عليه بمفهوم المخالفة من قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، وقد جمع الله تعالى الأمرين المنطوق والمفهوم في قوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب [ 8 \ 12 ] ، فنص على الطمأنينة بالتثبيت في قوله : فثبتوا الذين آمنوا ، ونص على الرعب في قوله : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فكانت الطمأنينة تثبيتا للمؤمنين ، والرعب زلزلة للكافرين .
وقد جاء في الحديث أن جبريل - عليه السلام - لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوجه إلى بني قريظة ، قال : " إني متقدمكم ؛ لأزلزل بهم الأقدام " ، ومما يدل على أسباب هذه الطمأنينة في هذه المواقف قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [ 8 \ 45 ، 46 ] .
فذكر الله تعالى أربعة أسباب للطمأنينة :
الأولى : الثبات ، وقد دل عليها قوله تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [ 61 \ 4 ] .
[ ص: 21 ] والثانية : ذكر الله كثيرا ، وقد دل عليه قوله تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] .
والثالثة : طاعة الله ورسوله ، ويدل لها قوله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف [ 47 \ 20 - 21 ] .
والرابعة : عدم التنازل والاعتصام والألفة ، ويدل عليها قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ 3 \ 103 ] .
ومن ذكر أسباب الهزيمة من رعب القلوب ، وأسباب النصر من السكينة والطمأنينة ، تعلم مدى تأثير الدعايات في الآونة الأخيرة ، وما سمي بالحرب الباردة من كلام وإرجاف مما ينبغي الحذر منه أشد الحذر ، وقد حذر الله تعالى منه في قوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا [ 33 \ 18 ] ، وقد حذر تعالى من السماع لهؤلاء في قوله تعالى : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين [ 9 \ 47 ] .
ولما اشتد الأمر على المسلمين في غزوة الأحزاب ، وبلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود نقضوا عهدهم أرسل إليهم - صلى الله عليه وسلم - من يستطلع خبرهم ، وأوصاهم إن هم رأوا غدرا ألا يصرحوا بذلك ، وأن يلحنوا له لحنا حفاظا على طمأنينة المسلمين ، وإبعادا للإرجاف في صفوفهم .
كما بين تعالى أثر الدعاية الحسنة في قوله تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم [ 8 \ 60 ] ، وقد كان بالفعل لخروج جيش أسامة بعد انتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، وعند تربص الأعراب كان له الأثر الكبير في إحباط نوايا المتربصين بالمسلمين ، وقالوا : ما أنفذوا هذا البعث إلا وعندهم الجيوش الكافية ، والقوة اللازمة .
وما أجراه الله في غزوة بدر من هذا القبيل أكبر دليل عملي ، إذ يقلل كل فريق في أعين الآخرين ، كما قال تعالى : إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور [ ص: 22 ] [ 8 \ 43 - 44 ] ، وهذا كله مما ينبغي الاستفادة منه اليوم على العدو في قضية الإسلام والمسلمين .
قوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله .
المشاقة : العصيان ، ومنه شق العصا ، والمخالفة .
وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم وتخريب بيوتهم ؛ بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله ، وأن المشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم ، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك .
وفي الآية مبحث أصولي مبني على أن المشاقة قد وقعت من غير اليهود ، فلم تقع بهم تلك العقوبة كما وقع من المشركين المنصوص عليها في قوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] ، وهذا في بدر قطعا ، ثم قال : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ 8 \ 13 ] ، ولما قدر صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لم يوقع بهم ما أوقع باليهود من قتل بل قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " فوجد الوصف الذي هو المشاقة الذي هو علة الحكم ، ولم يوجد الحكم الذي هو الإخراج من الديار وتخريب البيوت .
قال الفخر الرازي : فإن قيل : لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال : أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب ، ومعلوم أنه ليس كذلك قلنا : هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها . ا هـ .
وقد بحث الشيخ - رحمه الله - هذه المسألة في آداب البحث والمناظرة ، وفي مذكرة الأصول في مبحث النقض ، وعنون له في آداب البحث بقوله : تخلف الحكم ليس بنقض سواء لوجود مانع أو تخلف شرط .
ومثل لتخلف الحكم بوجود مانع بقتل الوالد ولده عمدا ، مع عدم قتله قصاصا به ؛ لأن علة القصاص موجودة ، وهي القتل العمد ، والحكم وهو القصاص متخلف .
ومثل لتخلف الشرط بسرقة أقل من نصاب أو من غير الحرز .
[ ص: 23 ] ثم قال : النوع الثالث : تخلف حكمها عنها لا لسبب من الأسباب التي ذكرنا ، ومثل له بعضهم بقوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار [ 59 \ 3 ] ، قالوا : فهذه العلة ، التي هي مشاقة الله ورسوله ، قد توجد في قوم يشاقون الله ورسوله مع تخلف حكمها عنها ، وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال : إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقا ، لا نقض لها ، وعزاه في مراقي السعود للأكثرين في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول :
منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم والأكثرون عندهم لا يقدح
بل هو تخصيص وذا مصحح
إلى قوله :
ولست فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد شرط أو لمانع
وقد أطلعني بعض الإخوان على شرح لفضيلة الشيخ - رحمه الله - على مراقي السعود في أوائله على قول المؤلف :
ذو فترة بالفرع ولا يراع
وتكلم على حكم أهل الفترة ، ثم على تخصيص بعض الآيات ، ومن ثم إلى تخصيص العلة .
وجاء في هذا المخطوط ما نصه : ورجح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة " الحشر " أن تخصيص العلة كتخصيص النص مطلقا ، مستدلا بقوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء الآية [ 59 \ 3 ] ، وقد فعل ذلك غير بني النضير ، فلم يفعل لهم مثل ما فعل لهم ، والله أعلم ا هـ .
إلا أني طلبت هذا الترجيح في ابن كثير عند الآية ، فلم أقف عليه فليتأمل ، ولعله في غير التفسير .
أما ما ذكره - رحمه الله تعالى - عن البعض في آداب البحث والمناظرة ، وهو أنه : قد يتخلف الحكم عن العلة ، لا لشيء من الأسباب التي ذكرنا ، فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن تخلف الحكم عن العلة في غير اليهود ، وإنما هو لتخلف جزء منها ، وأن العلة [ ص: 24 ] مركبة ، أي هي في اليهود مشاقة وزيادة ، تلك الزيادة لم توجد في غير اليهود ، فوقع الفرق ، وذلك أن مشاقة غير اليهود كانت ؛ لجهلهم وشكهم ، كما أشار تعالى لذلك عنهم بقوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] إلى آخر السورة فهم في حاجة إلى زيادة بيان ، وكذلك في قوله في أول سورة " ص " : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري [ 38 \ 4 - 8 ] .
فهم في عجب ودهشة ، واستبعاد أن ينزل عليه - صلى الله عليه وسلم - الذكر من بينهم ، وهم في شك من أمرهم ، فهم في حاجة إلى إزالة الشك والتثبت من الأمر ، ولذا لما زال عنهم شكهم وتبينوا من أمرهم ، وراحوا يدخلون في دين الله أفواجا ، بينما كان كفر اليهود جحودا بعد معرفة ، فكانوا يعرفونه - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [ 2 \ 146 ] ، وقد سمي لهم فيما أنزل كما قال عيسى عليه السلام : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ 61 \ 6 ] فلم ينفعهم بيان ، ولكنه الحسد والجحود كما بين تعالى أمرهم بقوله عنهم : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] ، وقوله : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم [ 3 \ 69 ] ، وقوله : وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ 2 \ 75 ] ، وقوله : ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون [ 3 \ 71 ] .
فقد كانوا جبهة تضليل للناس ، وتحريف للكتاب ، وتلبيس للحق بالباطل ، كل ذلك عن قصد وعلم ، بدافع الحسد ومناصبة العداء وخصم هذا حاله فلا دواء له ؛ لأن المدلس لا يؤمن جانبه ، والمضلل لا يصدق ، والحاسد لا يشفيه إلا زوال النعمة عن المحسود ، ومن جانب آخر فقد قطع الله الطمع عن إيمانهم أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ 2 \ 75 ] ، كما أيأس من إيمانهم بعد إقرارهم على أنفسهم بتغلف قلوبهم عن سماع الحق ورؤية النور : وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون [ ص: 25 ] [ 2 \ 88 ] .
وكل هذه الصفات لم تكن موجودة في كل من شاق الله ورسوله من غير اليهود ، وقد صرح تعالى بأنهم استحقوا هذا الحكم للأسباب التي اختصوا بها دون غيرهم في قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض [ 2 \ 84 - 85 ] .
فكل ذلك من نقض الميثاق ، والغدر في الصلح ، وسفك الدماء ، والتظاهر بالإثم والعدوان ، والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه ، كان خاصا باليهود ، فكانت العلة مركبة من المشاقة ، ومن هذه الصفات التي اختصوا بها ، وكان الحكم صريحا هنا بقوله عنهم : فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب [ 2 \ 85 ] ، وكان خزيهم في الدنيا هو ما وقع بهم من إخراج ، وتخريب ، وتقتيل .
وإن من كانت هذه حاله كما تقدم ، لم يكن لهم الاستئصال الكلي بإخراجهم أو تقتيلهم ، فلم يعد يصلح فيهم استصلاح ولا يتوقع منهم صلاح ، ويكفي شاهدا على ذلك أن بني قريظة لم يتعظوا ، ولم يستفيدوا ، ولم يعتبروا كما أمرهم الله : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] .
ما اتعظ بنو قريظة بما وقع بإخوانهم بني النضير ، فلجئوا بعد عام واحد إلى ما وقع فيه بنو النضير من غدر وخيانة ، فكان اختصاص اليهود بالحكم لتلك العلة المشتركة ؛ لأنهم وإن شاركهم غيرهم في المشاقة فلم يشاركهم غيرهم في الجانب الآخر مما قدمنا من دوافع المشاقة .
وللدوافع تأثير في الحكم ، كما في قصة آدم وإبليس ، فقد اشترك آدم وإبليس في عموم علة العصيان ، إذ نهي آدم عن قربان الشجرة ، وأمر إبليس بالسجود لآدم مع الملائكة ، فأكل آدم مما نهي عنه ، وامتنع إبليس عما أمر به فاشتركا في العصيان كما قال تعالى عن آدم : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وقال عن إبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، ولكن السبب كان مختلفا ، فآدم نسي ووقع تحت وسوسة [ ص: 26 ] الشيطان فخدع بقسم إبليس بالله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين [ 7 \ 21 ] ، وكانت معصية عن إغواء ووسوسة : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه [ 2 \ 36 ] .
أما إبليس ، فكان عصيانه عن سبق إصرار ، وعن حسد واستكبار كما قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] ، ولما خاطبه الله تعالى بقوله : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أأستكبرت أم كنت من العالين [ 38 \ 75 ] ، قال في إصراره وحسده وتكبره : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 38 \ 76 ] .
فاختلفت الدوافع وكان لدى إبليس ما ليس لدى آدم في سبب العصيان وبالتالي اختلفت النتائج ، فكانت النتيجة مختلفة تماما . أما آدم فحين عاتبه على أكله من الشجرة في قوله تعالى : وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين [ 7 \ 22 ] رجعا حالا ، واعترفا بذنبهما قائلين : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ 7 \ 23 ] ، وكانت العقوبة لهما قوله تعالى : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 7 \ 24 ] .
فكان هبوط آدم مؤقتا ، ولحقه قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] ، فأدركته هداية الله ، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 37 ] .
أما نتيجة إبليس فلما عاتبه تعالى في معصيته في قوله تعالى : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أأستكبرت أم كنت من العالين [ 38 \ 75 ] ، كان جوابه استعلاء ، وتعاظما ، على النقيض مما كان في جواب آدم إذ قال : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 38 \ 76 ] ، فكان جوابه كذلك عكس ما كان جوابا على آدم : قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ 38 \ 77 - 78 ] .
ولقد قالوا : إن الذي جر على إبليس هذا كله هو الحسد ، حسد آدم على ما أكرمه الله به فاحتقره ، وتكبر عليه ، فوقع في العصيان ، وكانت نتيجته الطرد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:25 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (534)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 27 إلى صـ 34
[ ص: 27 ] وهكذا اليهود : إن داءهم الدفين هو الحسد ، والعجب بالنفس ، فجرهم إلى الكفر ، ووقعوا في الخيانة ، وكانت النتيجة القتل ، والطرد .
وقد بين الشيخ - رحمه الله - أن مشاقة اليهود هذه هي من الإفساد في الأرض الذي نهاهم الله عنه ، وعاقبهم عليه مرتين ، وتهددهم إن هم عادوا للثالثة عاد للانتقام منهم ، وهاهم قد عادوا ، وشاقوا الله ورسوله ، فسلط عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .
قال - رحمه الله - في سورة " الإسراء " عند قوله تعالى : وإن عدتم عدنا [ 17 \ 8 ] ، لما بين تعالى أن بني إسرائيل قضي إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين - وبين نتائج هاتين المرتين - بين تعالى أيضا : أنهم إن عادوا للإفساد في المرة الثالثة ، فإنه جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم ، وذلك في قوله : وإن عدتم عدنا ، ولم يبين هنا هل عادوا للإفساد في المرة الثالثة أم لا ؟ .
ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتم صفاته ، ونقض عهوده ، ومظاهرة عدوه عليه ، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة ، فعاد الله - جل وعلا - للانتقام منهم تصديقا لقوله : وإن عدتم عدنا ، فسلط عليهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، وجرى على بني قريظة ، وبني النضير ، وبني قينقاع وخيبر ، ما جرى من القتل والسلب والإجلاء ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة .
ومن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [ 2 \ 89 - 90 ] ، وقوله : الفاسقون أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم [ 2 \ 100 ] ، وقوله : ولا تزال تطلع على خائنة منهم [ 5 \ 13 ] ونحو ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد إلى الانتقام منهم قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ ص: 28 ] [ 59 \ 2 - 4 ] ، وقوله : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم الآية [ 33 \ 26 - 27 ] ا هـ منه .
فهذا منه - رحمه الله - بيان ودليل إلى مغايرة المشاقة الواقعة من اليهود للمشاقة الواقعة من غيرهم ، فكان تخلف الحكم عمن شاقوا الله ورسوله من غير اليهود ؛ لتخلف بعض العلة في الحكم كما قدمنا ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين .
اللينة هنا ، قيل : اسم عام للنخل ، وهذا اختيار ابن جرير .
وقيل : نوع خاص منه ، وهو ما عدا البرني والعجوة فقط .
ونقل ابن جرير عن بعض أهل البصرة يقول : اللينة من اللون ، وقال : وإنما سميت لينة ؛ لأنها فعلة من فعل وهو اللون ، وهو ضرب من النخل ، ولكن لما انكسر ما قبلها انقلبت إلى ياء إلخ ، وهذا الأخير قريب مما عليه أهل المدينة اليوم ، حيث يطلقون كلمة : لونة على ما لا يعرفون له اسما خاصا ، ولعل كلمة لونة محرفة عن كلمة لينة ، ويوجد عند أهل المدينة من أنواع النخيل ما يقرب من سبعين نوعا .
وقيل : إن اللينة كل شجرة لليونتها بالحياة .
وقد نزلت هذه الآية في تقطيع وتحريق بعض النخيل لبني النضير عند حصارهم وقطع من البستان المعروف بالبويرة ، كما روى ابن كثير عن صاحبي الصحيحين ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرق نخل بني النضير ، وقطع ، وهي البويرة فأنزل الله عز وجل : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله الآية .
وقال حسان رضي الله عنه :
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
والبويرة معروفة اليوم ، وهي بستان يقع في الجنوب الغربي من مسجد قباء .
[ ص: 29 ] وقيل في سبب نزولها : إن اليهود قالوا : يا محمد إنك تنهى عن الفساد ، فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله الآية .
وقيل : إن المسلمين نهى بعضهم بعضا عن قطع النخيل ، وقالوا : إنما هو مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطع من الإثم ، وأن قطع ما قطع وترك ما ترك : فبإذن الله وليخزي الفاسقين .
وعلى هذه الأقوال قال ابن كثير وغيره : إن قوله تعالى : فبإذن الله أي : الإذن القدري والمشيئة الإلهية ، أي كما في قوله تعالى : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله [ 3 \ 166 ] ، وقوله : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه [ 3 \ 152 ] .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي ، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [ 22 \ 39 ] ؛ لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة : الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به .
والحصار نوع من القتال ، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل لتمام الرؤية ، أو لإحكام الحصار ، أو لإذلال وإرهاب العدو في حصاره وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله ، وممتلكاته ، وقد يكون فيه إثارة له ؛ ليندفع في حمية للدفاع عن ممتلكاته وأمواله ، فينكشف عن حصونه ويسهل القضاء عليه ، إلى غير ذلك من الأغراض الحربية ، والتي أشار الله تعالى إليها في قوله : وليخزي الفاسقين أي : بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم ، وهم يرون نخيلهم يقطع ، ويحرق فلا يملكون له دفعا .
وعلى كل فالذي أذن بالقتال وهو سفك الدماء ، وإزهاق الأنفس ، وما يترتب عليه من سبي وغنائم لا يمنع في مثل قطع النخيل إن لزم الأمر ، ويمكن أن يقال : إن ما أذن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبإذن الله أذن .
وبهذا يمكن أن يقال : إذا حاصر المسلمون عدوا ، ورأوا أن من مصلحتهم أو من مذلة العدو إتلاف منشآته وأمواله ، فلا مانع من ذلك ، والله تعالى أعلم .
وغاية ما فيه ، أنه إتلاف بعض المال للتغلب على العدو وأخذ جميع ماله ، وهذا له [ ص: 30 ] نظير في الشرع ، كعمل الخضر في سفينة المساكين لما خرقها ، أي أعابها بإتلاف بعضها ؛ ليستخلصها من اغتصاب الملك إياها ، وقال : وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] .
وقد جاء اعتراض المشركين على المسلمين في قتالهم في الأشهر الحرم ، كما اعترض اليهود على المسلمين في قطع النخيل ، وذلك في قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل [ 2 \ 217 ] .
فقد تعاظم المشركون قتل المسلمين لبعض المشركين في وقعة نخلة ، ولم يتحققوا دخول الشهر الحرام ، واتهموهم باعتداء على حرمة الأشهر الحرم ، فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، ولكن ما ارتكبه المشركون من صد عن سبيل الله وكفر بالله ، وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه وهم المسلمون أكبر عند الله ، والفتنة عن الدين أكبر من القتل ، أي : الذي استنكروه من المسلمين .
وهكذا هنا لئن تعاظم اليهود على المسلمين قطع بعض النخيل ، وعابوا على المسلمين إيقاع الفساد بإتلاف بعض المال فكيف بهم بغدرهم وخيانتهم نقضهم العهود ، وتمالئهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير ، وقتل ابن الأشرف :
لقد خزيت بغدرتها الحبور كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنهم كفروا برب عظيم أمره أمر كبير
وقد أوتوا معا فهما وعلما وجاءهم من الله النذير
إلى أن قال :
فلما أشربوا غدرا وكفرا وحاد بهم عن الحق النفور
أرى الله النبي برأي صدق وكان الله يحكم لا يجور
فأيده وسلطه عليهم وكان نصيره نعم النصير
فقد أشار إلى أن خزي بني النضير بسبب غدرهم وكفرهم بربهم ، فكان الإذن في قطع النخيل هو إذن شرعي ، ويمكن أن يقال عنه هو عمل تشريعي إذا ما دعت الحاجة ، لمثل ما دعت الحاجة هنا إليه ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 31 ] قوله تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب .
الضمير في ( منهم ) هنا عائد على بني النضير .
والفيء : الغنيمة بدون قتال ، وقد جعله تعالى هنا على رسوله خاصة .
وقال : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء [ 59 \ 6 ] أي : لما كان إخراج اليهود مرده إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم الرعب ، وبما سلط عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكان هذا الفيء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشاركه فيه غيره .
وقد جاء مصداق ذلك عن عمر - رضي الله عنه - الذي ساقه الشيخ تغمده الله برحمته عند آخر كلامه على مباحث " الأنفال " عند قوله : المسألة التاسعة : اعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من المغانم ، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال لهما : إن الله كان خص رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فقال عز وجل : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم إلى قوله : قدير [ 59 \ 6 ] ، فكانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه وبثها فيكم ، حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله إلخ . ا هـ .
وكانت هذه خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى أي : عموما فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل [ 59 \ 7 ] .
وهذه الآية لعمومها مصدرا ومصرفا ، فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة ، وقد تقدم لفضيلة الشيخ تغمده الله برحمته الكلام على كل ما فيها عند أول سورة الأنفال على قوله تعالى : يسألونك عن الأنفال [ 8 \ 1 ] ، فاستوفى واستقصى وفصل وبين مصادر ومصارف الفيء والغنيمة والنفل ، وما فتح من البلاد صلحا أو عنوة ، ومسائل عديدة مما لا مزيد عليه ، ولا غنى عنه ، والحمد لله تعالى .
قوله تعالى : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .
[ ص: 32 ] معنى الدولة والدولة بضم الدال في الأولى ، وفتحها في الثانية : يدور عند المفسرين على معنيين :
الدولة بالفتح : الظفر في الحرب وغيره ، وهي المصدر ، وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال .
وقال الزمخشري : معنى الآية : كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ، ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم .
ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ؛ لأنهم أهل الرئاسة والغلبة والدولة ، وكانوا يقولون : من عز بز ، والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة أثرة جاهلية ، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا ، يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به ، إلخ .
والجدير بالذكر هنا : أن دعاة بعض المذاهب الاقتصادية الفاسدة ، يحتجون بهذا الآية على مذهبهم الفاسد ويقولون : يجوز للدولة أن تستولي على مصادر الإنتاج ورءوس الأموال ؛ لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء ، وما يسمونهم طبقة العمال ، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادي ، وفساد اجتماعي ، قد ثبت خطؤه ، وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال .
لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة من الإنفاق على المجاهدين ، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور ، وليس يعطى للأفراد كما يقولون ، ثم هو أساسا مال جاء غنيمة للمسلمين ، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه .
ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص ، ولا هو أيضا كسب لشخص معين ، تحقق فيه العموم في مصدره ، وهو الغنيمة ، والعموم في مصرفه ، وهو عموم مصالح الأمة ، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه ، فشتان بين هذا الأصل في التشريع وهذا الفرع في التضليل .
ومن المؤسف أنهم يؤيدون دعواهم بإقحام الحديث في ذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " الناس شركاء في ثلاثة : الماء والنار والكلأ " ، ومعلوم أن الشركة في هذه الثلاثة ما دامت على عمومها فالماء شركة بين الجميع ما دام في مورده من النهر أو البئر العام أو السيل أو الغدير . أما إذا انتقل من مورده العام ، وأصبح في حيازة ما فلا شركة لأحد فيه مع من حازه ، كمن ملأ إناء من النهر أو السيل ونحوه ، فما كان في إنائه فهو خاص به ، وهذا الكلأ [ ص: 33 ] ما دام عشبا في الأرض العامة لا في ملك إنسان معين فهو عام لمن سبق إليه ، فإذا ما احتشه إنسان وحازه فلا شركة لأحد فيه ، وكذلك ما كان منه نابتا في ملك إنسان بعينه فهو أحق به من غيره .
ويظهر ذلك بالحوت في البحر والنهر فهو مشاع للجميع ، والطير في الهواء يصاد . فإنه قدر مشترك بين جميع الصيادين ، فإذا ما صاده إنسان فقد حازه واختص به ، وهذا أمر تعترف فيه جميع النظم الاقتصادية ، وتعطى تراخيص رسمية لذلك .
وهناك العمل الجاري في تلك الدول ، مما يجعلهم يتناقضون في دعواهم الاشتراك في الماء والنار والكلأ ، وذلك في شركات المياه والنور ؛ فإنهم يجعلون في كل بيت عدادا يعد جالونات الماء التي استهلكها المنزل ويحاسبونه عليه ، وإذا تأخر قطعوا عليه الماء وحرموه من شربه .
وكذلك التيار الكهربائي ؛ فإنه نار ، وهو الطاقة الفعالة في المدن فإنهم يقيسونه بعداد يعد الكيلوات ، ويبيعونه على المستهلك ، فلماذا لا يجعلون الماء والكهرباء ، شركة بين المواطنين ؟ أم الناس شركاء فيما لا يعود على الدولة ، أما حق الدولة فخاص للحكام ؟ إنه عكس ما في قضية الفيء تماما .
حيث إن الفيء والغنيمة الذي جعله الله حلالا من مال العدو ، وهو كسب عام دخل على الأمة بمجهود الأمة كلها ، الماثل في الجيش الذي يقاتل باسمها ، وجعله تعالى في مصارف عامة في مصالح الأمة ( فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) .
( فلله ) : أي الجهاد في سبيل الله .
( وللرسول ) : لقيامه بأمر الأمة ، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفقة أهله عاما ، وما بقي يرده في سبيل الله .
( ولذي القربى ) : من تلزمه نفقتهم .
[ ص: 34 ] ( واليتامى والمساكين ) : هذا هو التكافل الاجتماعي في الأمة .
( وابن السبيل ) : المنقطع في سفره ، وهذا تأمين للمواصلات .
فكان مصرفه بهذا العموم دون اختصاص شخص به أو طائفة : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .
وإنه لمن مواطن الإعجاز في القرآن أن يأتي بعد هذا التشريع قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله الآية [ 59 \ 7 ] ؛ لأنه تشريع في أمر يمس الوتر الحساس في النفس ، وهو موطن الشح والحرص ألا وهو كسب المال الذي هو صنو النفس ، والذي تولى الله قسمته في أهم من ذلك ، وهو في الميراث .
قسمه تعالى مبينا فروضه ، وحصة كل وارث ؛ لأنه كسب بدون مقابل ، وكسب إجباري . والنفوس متطلعة إليه فتولاه الله تعالى ، وكذلك الفيء والغنيمة ، وحرم الغلول فيه قبل القسمة .
ومثل هذا المال هو الذي ألفوا قسمته مغنما ، والذي بذلوا النفوس والمهج قبل الوصول إليه ، فإذا بهم يمنعون منه ، ويحال بينهم وبينه ، فيقسم المنقول فقط ، ولا يقسم العقار الثابت ، ويقال لهم : حدث هذا كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم سواء الأغنياء بأبدانهم ، وقدرتهم على العمل ، وعلى الجهاد أو الأغنياء بأموالهم بما حصلوه من مغانم قبل ذلك .
وكان لابد لنفوسهم من أن تتحرك نحو هذا المال ، وفعلا ناقشوا عمر - رضي الله عنه فيه - ولكن هنا يأتي سوط الطاعة المسلت ، وأمر التشريع المسكت إنه عن الله أتاكم به رسول الله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله فإن الآية وإن كانت عامة في جميع التشريع إلا أنها هنا أخص ، وهي به أقرب ، والمقام إليها أحوج .
وهنا ينتقل بنا القول إلى ما آتانا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا المعنى بالذات أي : معنى المشاركة في الأموال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)https://majles.alukah.net/imgcache/2019/08/72.jpg (http://www10.0zz0.com/2017/10/19/15/852915011.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:26 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (535)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 35 إلى صـ 42
لقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وقد أعانهم الله على شح نفوسهم ، فمجتمعهم مجتمع بذل وإعطاء وتضحية [ ص: 35 ] وإيثار ، ومع هذا فقد كان منه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته ، فيقول لأصحابه : " من يضيف هذا ، الليلة وله الجنة ؟ " فيأخذه بعض أصحابه ، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد ، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه ، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما يحملهم عليه ، ويأتيه القدح من اللبن ، فيدعو : " يا أهل الصفة " ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم ، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع ، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار ، منهم من يجهز الجيش من ماله ، ومنهم من يتصدق بالقافلة كاملة وما فيها ، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ، ومنهم ، فلم يأخذ قط ولا درهما واحدا ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل لم يأخذ منه درهما بدون رضاه ، ليشارك معه فيه واحدا من أهل الصفة ، ولا ممن تصدق ببستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة ، يسد مسغبته ، ولا بعيرا واحدا ممن جهز جيشا من ماله ليحمل عليه متطوعا في سبيل الله .
إنها أموال محترمة ، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها ، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش ، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش ، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس ، إلا برضى نفس وطيب خاطر ، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون ، ويعطون ولا يشحون ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وكان مجتمعا متكافلا مؤتلفا متعاطفا وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى : للفقراء المهاجرين [ 59 \ 8 ] ، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى .
وللشيخ - رحمه الله تعالى - كلام مقنع على هذه المسألة في سورة الزخرف على قوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا الآية [ 43 \ 32 ] ، نسوق نصه لأهميته :
قال رحمه الله : مسألة : دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا كقوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم الآية ، وقوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] ، ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ، ولا تحويلها بوجه من الوجوه ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 43 ] وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع [ ص: 36 ] النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم ، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال ، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون ، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس ؛ لينعموا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا تحت ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم .
فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير .
وقد علم الله - جل وعلا - في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير ، وهذا غني ، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 135 ] ، وفي قوله : فإن الله كان بما تعملون خبيرا وعيد شديد لمن فعل ذلك . انتهى حرفيا .
والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق ، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم ، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده ، وفي الحديث القدسي : " إن من عبادي لمن يصلح له الفقر ، ولو أغنيته لفسد حاله ، وإن من عبادي لمن يصلح له الغنى ولو أفقرته لفسد حاله " ، فهو سبحانه يعطي بقدر ، ولا يمسك عن قتر .
ويكفي في هذا المقام سياق الآية الكريمة التي تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى - عليه في أسلوبها في قوله تعالى : نحن قسمنا [ 43 \ 32 ] ، وهذا الضمير معلوم أنه للتعظيم والتفخيم ، ومثله الضمير في " قسمنا " ، فلا مجال لتدخل المخلوق ، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك . والقسمة إذا كانت من الله تعالى فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها ، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك بل ويتوقف عليه ، كما قال تعالى ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا [ 43 \ 32 ] .
وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك ، ويقرون نظام الطبقات عمالا وغير عمال ، إلخ ، فلا دليل في آية سورة " الحشر " هنا : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ ص: 37 ] ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .
قال الشيخ - رحمه الله تعالى - في المقدمة : إن السنة كلها مندرجة تحت هذه الآية الكريمة ، أي : أنها ملزمة للمسلمين العمل بالسنة النبوية ، فيكون الأخذ بالسنة أخذا بكتاب الله ، ومصداق ذلك قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .
وقد قال السيوطي : الوحي وحيان :
وحي أمرنا بكتابته ، وتعبدنا بتلاوته ، وهو القرآن الكريم .
ووحي لم نؤمر بكتابته ، ولم نتعبد بتلاوته وهو السنة .
وقد عمل بذلك سلف الأمة وخلفها ، كما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال في مجلسه بالمسجد النبوي : لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة ، فقالت امرأة قائمة عنده ، وفي كتاب الله ؟ قال : نعم ، قالت : لقد قرأته من دفته إلى دفته ، فلم أجد هذا الذي قلت ، فقال لها : لو كنت قرأتيه لوجدتيه ، أو لم تقرئي قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة ، ومن لعنها رسول الله فقد لعنها الله ، فقالت له : لعل بعض أهلك يفعله ؟ فقال لها : ادخلي وانظري فدخلت بيته ، ثم خرجت ولم تقل شيئا ، فقال لها : ما رأيت ؟ قالت : خيرا ، وانصرفت .
وجاء الشافعي وقام في أهل مكة ، فقال : سلوني يا أهل مكة عما شئتم أجبكم عنه من كتاب الله ، فسأله رجل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه في كتاب الله ؟ فقال : يقول الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث ، وحدثني فلان عن فلان ، وساق بسنده إلى عمر بن الخطاب ، سئل : المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه ؟ فقال : لا شيء عليه .
فقد اعتبر سعيد بن المسيب السنة من كتاب الله ، والشافعي اعتبر سنة الخلفاء الراشدين من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القرآن ، واعتبر كل منهما جوابه من كتاب الله بناء على هذه الآية الكريمة .
[ ص: 38 ] وهذا ما عليه الأصوليون يخصصون بها عموم الكتاب ، ويقيدون مطلقه .
فمن الأول : قوله صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " فخص بهذا الحديث عموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم [ 5 \ 3 ] ، وكذلك في النكاح : " لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا المرأة على خالتها " ، وخص بها عموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] ، ونحوه كثير .
ومن الثاني : قطعه - صلى الله عليه وسلم - يد السارق من الكوع تقييدا لمطلق : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وكذلك مسح الكفين في التيمم تقييدا أو بيانا لقوله تعالى : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه [ 5 \ 6 ] ، ونحو ذلك كثير ، وكذلك بيان المجمل كبيان مجمل قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، فلم يبين عدد الركعات لكل وقت ، ولا كيفية الأداء فصلى - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وهم ينظرون ، ثم قال لهم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحج وقال لهم : " خذوا عني مناسككم " .
وقد أجمعوا على أن السنة أقوال ، وأفعال ، وتقرير ، وقد ألزم العمل بالأفعال قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، والتأسي يشمل القول والفعل ، ولكنه في الفعل أقوى ، والتقرير مندرج في الفعل ؛ لأنه ترك الإنكار على أمر ما ، والترك فعل عند الأصوليين ، كما قال صاحب مراقي السعود :
والترك فعل في صحيح المذهب
تنبيه
تنقسم أفعاله - صلى الله عليه وسلم - إلى عدة أقسام :
أولا : ما كان يفعله بمقتضى الجبلة ، وهو متطلبات الحياة من أكل ، وشرب ، ولبس ، ونوم ، فهذا كله يفعله استجابة لمتطلبات الحياة ، وكان يفعله قبل البعثة ويفعله كل إنسان ، فهو على الإباحة الأصلية ، وليس فيه تشريع جديد ، ولكن صورة الفعل ، وكيفيته ككون الأكل والشراب باليمين إلخ ، وكونه من أمام الآكل ، فهذا هو موضع التأسي به - صلى الله عليه وسلم - وكذلك نوع المأكول أو تركه ما لم يكن لمانع كعدم أكله - صلى الله عليه وسلم - للضب والبقول المطبوخة ، وقد بين السبب في ذلك ، فالأول : لأنه ليس في أرض قومه فكان يعافه ، والثاني : لأنه يناجي من لا نناجي ، وقد قال صاحب المراقي :
وفعله المركوز في الجبلة كالأكل والشرب فليس مله
[ ص: 39 ] من غير لمح الوصف . . .
ثانيا : ما كان مترددا بين الجبلة والتشريع كوقوفه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة راكبا على ناقته ، ونزوله بالمحصب منصرفه من منى ، فالوقوف الذي هو ركن الحج يتم بالتواجد في الموقف بعرفة على أية حالة ، فهل كان وقوفه - صلى الله عليه وسلم - راكبا من تمام نسكه ، أم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله دون قصد إلى النسك ؟ خلاف بين الأصوليين ، ولا يبعد من يقول : قد يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - هذا ؛ ليكون أبرز لشخصه في مثل هذا الجمع ، تسهيلا على من أراده لسؤال أو رؤية أو حاجة ، فيكون تشريعا لمن يكون في منزلته في المسئولية .
ثالثا : ما ثبتت خصوصيته به مثل جواز جمعه بين أكثر من أربع نسوة بالنكاح لقوله تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك [ 33 \ 50 ] ، وكن أكثر من أربع ، ونكاح الواهبة نفسها لقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ 33 \ 50 ] فهذا لا شركة لأحد معه فيه .
رابعا : ما كان بيانا لنص قرآني ، كقطعه - صلى الله عليه وسلم - يد السارق من الكوع بيانا لقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وكأعمال الحج والصلاة ، فهما بيان لقوله تعالى وأقيموا الصلاة [ 2 \ 43 ] ، وقوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، فهذا القسم حكمه للأمة ، حكم المبين بالفتح ، ففي الوجوب واجب ، وفي غيره بحسبه .
خامسا : ما فعله - صلى الله عليه وسلم - لا لجبلة ولا لبيان ، ولم تثبت خصوصيته له ، فهذا على قسمين : أحدهما : أن يعلم حكمه بالنسبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وجوب ، أو ندب ، أو إباحة ، فيكون حكمه للأمة كذلك كصلاته - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ، وقد علمنا أنها في حقه - صلى الله عليه وسلم - جائزة ، فهي للأمة على الجواز . ثانيهما : ألا يعلم حكمه بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا القسم أربعة أقوال :
أولها : الوجوب عملا بالأحوط ، وهو قول أبي حنيفة ، وبعض الشافعية ، ورواية عن أحمد .
ثانيها : الندب لرجحان الفعل على الترك ، وهو قول بعض الشافعية ، ورواية عن أحمد أيضا .
[ ص: 40 ] ثالثها : الإباحة ؛ لأنها المتيقن ، ولكن هذا فيما لا قربة فيه ، إذ القرب لا توصف بالإباحة .
رابعها : التوقف لعدم معرفة المراد ، وهو قول المعتزلة ، وهذا أضعف الأقوال ؛ لأن التوقف ليس فيه تأس .
فتحصل لنا من هذه الأقوال الأربعة أن الصحيح الفعل تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوبا أو ندبا ، ومثلوا لهذا الفعل بخلعه - صلى الله عليه وسلم - نعله في الصلاة ، فخلع الصحابة كلهم نعالهم ، فلما انتهى - صلى الله عليه وسلم - سألهم عن خلعهم نعالهم قالوا : رأيناك فعلت ففعلنا ، فقال لهم : " أتاني جبريل وأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتها " ، فإنه أقرهم على خلعهم تأسيا به ، ولم يعب عليهم مع أنهم لم يعلموا الحكم قبل إخباره إياهم ، وقد جاء هنا ما تقولون بصيغة العموم .
وقال الشيخ - رحمه الله - في دفع الإيهام في سورة " الأنفال " عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ 8 \ 24 ] ، ما نصه : وهذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد ، كقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
وقوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، و من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] .
والظاهر : أن وجه الجمع والله تعالى أعلم : أن آيات الإطلاق مبينة أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : إذا دعاكم ، متوفر في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .
والحاصل : أن آية : إذا دعاكم لما يحييكم ، مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك ، صلوات [ ص: 41 ] الله وسلامه عليه ، انتهى .
وقد بينت السنة كذلك حقيقة ومنتهى ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " ما تركت خيرا يقربكم إلى الله إلا بينته لكم وأمرتكم به ، وما تركت شرا يباعدكم عن الله إلا بينته لكم ، وحذرتكم منه ونهيتكم عنه " .
تنبيه
الواقع أن العمل بهذه الآية الكريمة هو من لوازم نطق المسلم بالشهادتين ؛ لأن قوله : أشهد أن لا إله إلا الله ، اعتراف لله تعالى بالألوهية وبمستلزماتها ، ومنها إرسال الرسل إلى خلقه ، وإنزال كتبه وقوله : أشهد أن محمدا رسول الله ، اعتراف برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الله لخلقه ، وهذا يستلزم الأخذ بكل ما جاء به هذا الرسول الكريم من الله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز أن يعبد الله إلا بما جاءه به رسول الله ، ولا يحق له أن يعصي الله بما نهاه عنه رسول الله ، فهي بحق مستلزم للنطق بالشهادتين .
ويؤيد هذا قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] فربط مرد الخلاف إلى الله والرسول بالإيمان بالله واليوم الآخر .
وقال الشيخ - رحمه الله - عند هذه الآية في " سورة النساء " : أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه ، أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تعالى قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] انتهى .
فاتضح بهذا كله أن ما أتانا به - صلى الله عليه وسلم - فهو من عند الله ، وأنه بمنزلة القرآن في التشريع ، وأن السنة تستقل بالتشريع كما جاءت بتحريم لحوم الحمر الأهلية . وكل ذي مخلب من الطير وناب من السباع ، وبتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، أو هي مع ابنة أخيها أو ابنة أختها ونحو ذلك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة أهله يقول : ما وجدنا في كتاب الله أخذناه ، وما لم نجده في كتاب الله تركناه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " .
والنص هنا عام في الأخذ بكل ما أتانا به ، وترك ما نهانا عنه ، وقد جاء تخصيص هذا [ ص: 42 ] العموم في قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ 24 \ 61 ] ، وقوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] .
وجاء الحديث ففرق بين عموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فانتهوا " ، وقد جاء هذا التذييل على هذه الآية بقوله تعالى : واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 5 \ 2 ] ، إيذانا بأن هذا التكليف لا هوادة فيه ، وأنه ملزم للأمة سرا وعلنا ، وأن من خالف شيئا منه يتوجه إليه هذا الإنذار الشديد ؛ لأن معصيته معصية لله ، وطاعته من طاعة الله : من يطع الرسول فقد أطاع الله ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .
في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة ، أنهم : يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وغايتها ، وهي : وينصرون الله ورسوله ، والحكم لهم بأنهم : أولئك هم الصادقون .
ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين ، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه ، منها قوله تعالى : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض [ 8 \ 72 ] ، وقوله تعالى بعدها : والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا [ 8 \ 74 ] .
فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس ، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر ، ووصف الفريقين معا بولاية بعضهم لبعض ، وأثبت لهم معا حقيقة الإيمان : أولئك هم المؤمنون حقا ، أي : الصادقون في إيمانهم ، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:27 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (536)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 43 إلى صـ 50
وفي قوله تعالى : والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ ص: 43 ] [ 59 \ 9 ] ، وصف شامل للأنصار ، ( تبوءوا الدار ) أي : المدينة ، ( والإيمان من قبلهم ) أي : بيعة العقبة الأولى والثانية من قبل مجيء المهاجرين ، بل ومن قبل إيمان بعض المهاجرين ، ( يحبون من هاجر إليهم ) ويستقبلونه بصدور رحبة ، ( ويؤثرون ) غيرهم ( على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ) ، لأنهم هاجروا إليهم .
وظاهر النصوص تدل بمفهومها أن غيرهم لم يشاركهم في هذه الصفات ، ولكن في الآية الأولى ما يدل لمشاركة المهاجرين الأنصار في هذا الوصف الكريم ، وهو الإيثار على النفس ، لأن حقيقة الإيثار على النفس هو بذل المال للغير عند حاجته مقدما غيره على نفسه ، وهذا المعنى بالذات سبق أن كان من المهاجرين أنفسهم المنصوص عليه في قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم [ 59 \ 8 ] ، فكانت لهم ديار ، وكانت عندهم أموال وأخرجوا منها كلها ، فلئن كان الأنصار واسوا إخوانهم المهاجرين ببعض أموالهم ، وقاسموهم ممتلكاتهم ، فإن المهاجرين لم ينزلوا عن بعض أموالهم فحسب ، بل تركوها كلها : أموالهم ، وديارهم ، وأولادهم ، وأهلهم ، فصاروا فقراء بعد إخراجهم من ديارهم وأموالهم ، ومن يخرج من كل ماله ودياره ، ويترك أهله وأولاده لا يكون أقل تضحية ممن آثر غيره ببعض ماله ، وهو مستقر في أهله ودياره ، فكأن الله عوضهم بهذا الفيء عما فات عنهم .
وقد ذكر ابن كثير رحمه الله : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم " فقالوا يا رسول الله ! أموالنا بيننا قطائع الحديث .
أي أن الأنصار عرفوا ذلك للمهاجرين ، وعليه أيضا ، فقد استوى المهاجرون مع الأنصار في هذا الوصف المثالي الكريم ، وكان خلقا لكثيرين منهم بعد الهجرة كما فعل الصديق - رضي الله عنه - حين تصدق بكل ماله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أبقيت لأهلك ؟ فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله ، وكذلك عائشة الصديقة - رضي الله عنها - حينما كانت صائمة ، وليس عندها سوى قرص من الشعير وجاء سائل فقالت لبريرة : ادفعي إليه ما عندك ، فقالت لها : ليس إلا ما ستفطرين عليه ، فقالت لها : ادفعيه إليه ، ولعلها أحوج إليه الآن ، أو كما قالت .
ولما جاء المغرب أهدي إليهم رجل شاة بقرامها - وقرامها هو ما كانت العرب تفعله [ ص: 44 ] إذا أرادوا شواء شاة طلوها من الخارج بالعجين حفظا لها من رماد الجمر - فقالت لبريرة : كلي ، هذا خير من قرصك .
وكما فعل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - تصدق بالعير وما تحمله من تجارة حين قدمت ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فخرج الناس إليها .
فعلى هذا كان مجتمع المدينة في عهده - صلى الله عليه وسلم - مجتمعا متكافلا بعضهم أولياء بعض ، وقد نوه - صلى الله عليه وسلم - في قصة غنائم حنين بفضل كلا الفريقين في قوله صلى الله عليه وسلم : " لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار " .
ومن بعده عمر - رضي الله عنه - قال : وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان ، من قبل أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم .
ثم كان هذا خلق المهاجرين والأنصار جميعا ، كما وقع في وقعة اليرموك ، قال حذيفة العدوي : انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ، ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به فقلت له : أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه ، فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت أسقيك ؟ فأشار أن نعم ، فسمع آخر يقول آه آه ، فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات .
وكان منهج الخواص من بعدهم ، كما نقل القرطبي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ ، قدم علينا حاجا فقال لي : ما حد الزهد عندكم ؟ فقلت : إن وجدنا أكلنا ، وإن فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا كلاببلخ عندنا ، فقلت : وما حد الزهد عندكم ؟ قال : إن فقدنا شكرنا وإن وجدنا آثرنا .
وفي قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، الإيثار على النفس : تقديم الغير عليها مع الحاجة ، والخصاصة : التي تختل بها الحال ، وأصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد في الأمر ، فالخصاصة الانفراد بالحاجة أي : ولو كان بهم فاقة وحاجة ، ومنه قول الشاعر :
أما الربيع إذا تكون خصاصة عاش السقيم به وأثرى المقتر
[ ص: 45 ] وهل يصح الإيثار من كل إنسان ، ولو كان ذا عيال أو تلزمه نفقة غيره أم لا ؟ وما علاقته مع قوله : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو [ 2 \ 219 ] ؟ .
والجواب على هذا كله في كلام الشيخ - رحمه الله - على قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون [ 2 \ 3 ] ، في أول سورة " البقرة " .
قال رحمه الله : قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون عبر في هذه الآية الكريمة بمن التبعيضية الدالة على أنه ينفق لوجه الله بعض ما له كله ، ولم يبين هنا القدر الذي ينبغي إنفاقه ، والذي ينبغي إمساكه ، ولكنه بين في مواضع أخرى أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد على الحاجة ، وسد الخلة التي لابد منها ، وذلك كقوله : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ، والمراد بالعفو الزائد على قدر الحاجة التي لابد منها على أصح التفسيرات ، وهو مذهب الجمهور ومنه قوله تعالى : حتى عفوا [ 7 \ 95 ] أي : كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم .
وقال بعض العلماء : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع .
ومنه قول الشاعر :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وهذا القول راجع إلى ما ذكرنا ، وبقية الأقوال ضعيفة ، وقوله تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ 17 \ 29 ] ، فنهاه عن البخل بقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، ونهاه عن الإسراف بقوله : ولا تبسطها كل البسط ، فيتعين الوسط بين الأمرين ، كما بينه بقوله : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .
فيجب على المنفق أن يفرق بين الجود والتبذير ، وبين البخل والإقتار ، فالجود غير التبذير ، والاقتصاد غير البخل فالمنع في محل الإعطاء مذموم ، وقد نهى الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ، والإعطاء في محل المنع مذموم أيضا ، وقد نهى الله عنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بقوله : ولا تبسطها كل البسط
[ ص: 46 ] وقد قال الشاعر :
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت يداه كالمزن حتى تخجل الديما
فإنها خطرات من وساوسه يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
وقد بين تعالى في مواضع أخرى أن الإنفاق المحمود لا يكون كذلك إلا إذا كان مصرفه الذي صرف فيه مما يرضي الله كقوله تعالى : قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين 1 الآية [ 2 \ 215 ] ، وصرح في أن الإنفاق فيما لا يرضي الله حسرة على صاحبه في قوله : فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة الآية [ 8 \ 36 ] .
وقد قال الشاعر :
إن الصنيعة لا تكون صنيعة حتى يصاب بها طريق المصنع
فإن قيل : هذا الذي قررتم يقتضي أن الإنفاق المحمود هو إنفاق ما زاد عن الحاجة الضرورية ، مع أن الله تعالى أثنى على قوم بالإنفاق وهم في حاجة إلى ما أنفقوا ، وذلك في قوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ 59 \ 9 ] .
فالظاهر في الجواب والله تعالى أعلم : هو ما ذكره بعض العلماء من أن لكل مقام مقالا ، ففي بعض الأحوال يكون الإيثار ممنوعا ، وذلك كما إذا كانت على المنفق نفقات واجبة كنفقة الزوجات ونحوها فتبرع بالإنفاق في غير واجب ، وترك الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم : " وابدأ بمن تعول " ، وكأن يكون لا صبر عنده عن سؤال الناس فينفق ماله ، ويرجع إلى الناس يسألهم مالهم ، فلا يجوز له ذلك ؟ والإيثار فيما إذا كان لم يضيع نفقة واجبة ، وكان واثقا من نفسه بالصبر ، والتعفف ، وعدم السؤال .
وأما على القول بأن قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون يعني به الزكاة ، فالأمر واضح ، والعلم عند الله تعالى . انتهى منه .
والواقع أن للإنفاق في القرآن مراتب ثلاثة :
الأولى : الإنفاق من بعض المال بصفة عامة ، كما في قوله تعالى : ومما رزقناهم ينفقون .
[ ص: 47 ] الثانية : الإنفاق مما يحبه الإنسان ويحرص عليه ، كما في قوله تعالى : وآتى المال على حبه [ 2 \ 177 ] ، وهذا أخص من الأول ، وقوله : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا الآية [ 76 \ 8 ] .
الثالثة : الإنفاق مع الإيثار على النفس كهذه الآية : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فهي أخص من الخاص الأول .
وتعتبر المرتبة الأولى هي الحد الأدنى في الواجب ، حتى قيل : إن المراد بها الزكاة ، وهي تشمل النافلة ، وتصدق على أدنى شيء ولو شق تمرة ، وتدخل في قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] ، وتعتبر المرتبة الثالثة هي الحد الأقصى ؛ لأنها إيثار للغير على خاصة النفس ، والمرتبة الثانية هي الوسطى بينهما ، وهي الحد الوسط بين الاكتفاء بأقل الواجب ، وبين الإيثار على النفس وهي ميزان التوسط لعامة الناس ، كما بينه تعالى بقوله : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ 17 \ 29 ] ، وكما امتدح الله تعالى قوما بالاعتدال في قوله : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما [ 25 \ 67 ] .
وهذا هو عين تطبيق قاعدة الفلسفة الأخلاقية القائلة : الفضيلة وسط بين طرفين أي : طرفي الإفراط والتفريط ، فالشجاعة مثلا وسط بين التهور والجبن ، والكرم وسط بين التبذير والتقتير .
وللإنفاق جوانب متعددة ، وأحكام متفاوتة ، قد بين الشيخ - رحمه الله - جانبا من الأحكام ، وقد بين القرآن الجوانب الأخرى ، وتنحصر في الآتي : نوع ما يقع منه الإنفاق ، الجهة المنفق عليها ، موقف المنفق ، وصورة الإنفاق .
أما ما يقع منه الإنفاق : قد بينه تعالى أولا من كسب حلال لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد [ 2 \ 267 ] .
وقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [ 3 \ 92 ] .
أما الجهة المنفق عليها : فكما في قوله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم [ ص: 48 ] [ 2 \ 215 ] فبدأ بالوالدين برا لهما ، وثنى بالأقربين .
وقال صلى الله عليه وسلم : " الصدقة على القريب صدقة وصلة ، وعلى البعيد صدقة " ثم اليتامى وهذا واجب إنساني وتكافل اجتماعي ، لأن يتيم اليوم منفق الغد ، وولد الأبوين اليوم قد يكون يتيما غدا ، أي : أن من أحسن إلى اليتيم اليوم قد يترك أيتاما ، فيحسن عليهم ذلك اليتيم الذي أحسنت إليه بالأمس ، " والمساكين وابن السبيل " أمور عامة .
وجاء بالقاعدة العامة التي يحاسب الله تعالى عليها ويجازي صاحبها وما تفعلوا من خير أي : مطلقا فإن الله به عليم [ 2 \ 215 ] ، وكفى في ذلك علمه تعالى .
أما موقف المنفق وصورة الإنفاق : فإن هذا هو سر النفقة في الإسلام ، وفلسفة الإنفاق كلها تظهر في هذا الجانب ، مما تميز به الإسلام دون غيره من جميع الأديان أو النظم .
لأنه يركز على الحفاظ على شعور وإحساس المسكين ، بحيث لا يشعره بجرح المسكنة ، ولا ذلة الفاقة كما في قوله تعالى : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 262 ] .
ثم فاضل بين الكلمة الطيبة والصدقة المؤذية في قوله تعالى : قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم [ 2 \ 263 ] يعطي ولا يمن بالعطاء .
وأفهم المنفقين أن المن والأذى يبطل الصدقة : ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] لما فيه من جرح شعور المسكين .
وقد حث على إخفائها إمعانا في الحفاظ على شعوره وإحساسه : إن تبدوا الصدقات فنعما هي أي : مع الآداب السابقة وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم [ 2 \ 271 ] أي : لكم أنتم في حفظ ثوابها .
وقد جعل صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله " رجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه " ، وكما قال تعالى : الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 274 ] .
[ ص: 49 ] ومن خصائص الإسلام في هذا الباب أنه كما أدب الأغنياء في طريقة الإنفاق فقد أدب الفقراء في طريقة الأخذ ، وذلك في قوله تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا [ 2 \ 273 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .
في هذه الآية الكريمة حث على تقوى الله في الجملة ، واقترنت بالحث على النظر والتأمل فيما قدمت كل نفس لغد ، وتكرر الأمر فيها بتقوى الله ، مما يدل على شدة الاهتمام والعناية بتقوى الله على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله ، سواء كان التكرار للتأكيد أم كان للتأسيس ، وسيأتي بيانه إن شاء الله .
أما الاهتمام بالحث على التقوى ، فقد دلت له عدة آيات من كتاب الله تعالى ، ولو قيل : إن الغاية من رسالة الإسلام كلها ، بل ومن جميع الأديان هو تحصيل التقوى لما كان بعيدا ، وذلك للآتي :
أولا : قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ 2 \ 21 ] ، ومعلوم أنه تعالى ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته ، فتكون التقوى بمضمون هاتين الآيتين هي الغاية من خلق الثقلين الإنس والجن . وقد جاء النص مفصلا في حق كل أمة على حدة ، منها في قوم نوح - عليه السلام - قال تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 105 - 108 ] ، وفي قوم عاد قال تعالى : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 123 - 126 ] ، وفي قوم لوط : كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ 26 \ 160 - 163 ] ، وفي قوم شعيب قوله تعالى : كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون [ ص: 50 ] [ 26 \ 176 - 179 ] .
فكل نبي يدعو قومه إلى التقوى كما قدمنا ، ثم جاء القرآن كله دعوة إلى التقوى وهداية للمتقين ، كما في مطلع القرآن الكريم : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] وبين نوع هذه الهداية المتضمنة لمعنى التقوى بقوله تعالى : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 \ 3 - 5 ] .
وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - معنى التقوى عند قوله تعالى : ولكن البر من اتقى [ 2 \ 189 ] .
قال : لم يبين هنا من المتقي ، وقد بينه تعالى في قوله : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ 2 \ 177 ] .
وقد بينت آيات عديدة آثار التقوى في العاجل والآجل .
منها في العاجل قوله تعالى : ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ 65 \ 4 ] ، وقوله : ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب [ 65 \ 2 - 3 ] ، وقوله : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] ، وقوله : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ 16 \ 128 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:27 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (537)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 51 إلى صـ 58
أما في الآجل وفي الآخرة ، فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] ، فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف ، كما في قوله تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون [ ص: 51 ] إلى قوله : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون [ 43 \ 67 - 73 ] إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين ، وتحلهم مقعد صدق ، كما في قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [ 54 \ 54 - 55 ] .
فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية ، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها ، وقد جعلها الشاعر السعادة كل السعادة كما في قوله ، وهو لجرير :
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد فتقوى الله خير الزاد ذخرا
وعند الله للأتقى مزيد
والتقوى دائما هي الدافع على كل خير ، الرادع عن كل شر ، روى ابن كثير في تفسيره عن الإمام أحمد في مجيء قوم من مضر ، مجتابي الثمار والعباءة ، حفاة عراة متقلدي السيوف ، فيتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا ينادي للصلاة ، فصلى ثم خطب الناس وقرأ قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة [ 4 \ 1 ] إلى آخر الآية ، وقرأ الآية التي في سورة " الحشر " : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد الآية [ 59 \ 18 ] تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء " الحديث . فكانت التقوى دافعا على سن سنة حسنة تهلل لها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كما أنها تحول دون الشر ، من ذلك قوله تعالى : وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا [ 2 \ 282 ] ، وقوله : فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه [ 2 \ 283 ] ، فإن التقوى مانعة من بخس الحق ومن ضياع الأمانة ، وكقوله عن مريم في طهرها وعفتها لما أتاها جبريل وتمثل لها بشرا سويا : قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا [ 19 \ 18 ] .
[ ص: 52 ] وكما في حديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار ، ومنهم الرجل مع ابنة عمه لما قالت له : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فقام عنها وترك لها المال .
وهكذا في تصرفات العبد كما في قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [ 22 \ 32 ] .
والخطاب في قوله تعالى : ولتنظر نفس [ 59 \ 18 ] ، لكل نفس كما في قوله تعالى : ثم توفى كل نفس ما كسبت [ 2 \ 281 ] وقوله : ووفيت كل نفس ما كسبت [ 3 \ 25 ] .
فالنداء أولا بالتقوى لخصوص المؤمنين ، والأمر بالنظر لعموم كل نفس ؛ لأن المنتفع بالتقوى خصوص المؤمنين كما أوضحه الشيخ - رحمة الله عليه - في أول سورة البقرة ، والنظر مطلوب من كل نفس فالخصوص للإشفاق ، والعموم للتحذير .
ويدل للأول قوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما [ 33 \ 43 ] .
ويدل للثاني قوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد [ 3 ] ، وما في قوله تعالى : ما قدمت [ 59 \ 18 ] عامة في الخير والشر ، وفي القليل والكثير .
ويدل للأول قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا .
ويدل للثاني قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] ، والحديث " اتقوا النار ولو بشق تمرة " .
وغدا تطلق على المستقبل المقابل للماضي ، كما قال الشاعر :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم
وعليه أكثر استعمالاتها في القرآن ، كقوله تعالى عن إخوة يوسف : أرسله معنا غدا يرتع ويلعب [ 12 \ 12 ] ، وقوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .
[ ص: 53 ] وتطلق على يوم القيامة كما هنا في هذه الآية لدلالة القرآن على ذلك ، من ذلك قوله تعالى في نفس المعنى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .
والقرائن في الآية منها : اكتنافها بالحث على تقوى الله قبله وبعده .
ومنها : التذييل بالتحذير في قوله : إن الله خبير بما تعملون [ 59 \ 18 ] أي : بالمقاصد في الأعمال وبالظواهر والبواطن ، ولأن يوم القيامة هو موضع النسيان ، فاحتاج التنبيه عليه .
ويكون التعبير عن يوم القيامة بغد لقرب مجيئه وتحقق وقوعه كقوله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، وقوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير [ 16 \ 77 ] .
ومن ناحية أخرى ، فإن الغد لكل إنسان بمعنى يوم القيامة يتحقق بيوم موته ، لأنه يعاين ما قد قدم يوم موته ، وقد نكر لفظ نفس وغد هنا فقيل في الأول لقلة من الناظرين ، وفي الثاني لعظم أمره وشدة هوله .
وهنا قد تكرر الأمر بتقوى الله كما أسلفنا مرتين ، فقيل للتأكيد ، قاله ابن كثير ، وقيل للتأسيس ، قاله الزمخشري وغيره .
فعلى أنه للتأكيد ظاهر وعلى التأسيس يكون الأول لفعل المأمور والثاني لترك المحظور ، مستدلين بمجيء موجب الفعل أولا : ولتنظر نفس ما قدمت ، ومجيء موجب التحذير ثانيا : إن الله خبير بما تعملون .
وهذا وإن كان له وجه ، ويشهد للتأكيد قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ 3 \ 102 ] ، وإن كانت نسخت بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، فيدل لمفهومه قوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ 9 \ 102 ] أي : بترك بعض المأمور ، وفعل بعض المحظور .
وعليه فلا تتحقق التقوى إلا بمراعاة الجانبين ، ولكن مادة التقوى وهي اتخاذ الوقاية مما يوجب عذاب الله تشمل شرعا الأمرين معا لقوله تعالى في عموم اتخاذ الوقاية : قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ ص: 54 ] [ 66 \ 6 ] .
فكان أحد الأمرين بالتقوى يكفي لذلك ويشمله ، ويكون الأمر بالتقوى الثاني لمعنى جديد ، وفي الآية ما يرشد إليه ، وهو قوله تعالى : ما قدمت ، لأن " ما " عامة كما قدمنا وصيغة " قدمت " على الماضي يكون الأمر بتقوى الله أولا بالنسبة لما مضى وسبق من عمل تقدم بالفعل ، ويكون النظر بمعنى المحاسبة والتأمل على معنى الحديث : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " فقد ذكره ابن كثير .
فإذا ما نظر في الماضي وحاسب نفسه ، وعلم ما كان من تقصير أو وقوع في محظور ، جاءه الأمر الثاني بتقوى الله لما يستقبل من عمل جديد ومراقبة الله تعالى عليه : والله بما تعملون خبير [ 2 \ 234 ] ، فلا يكون هناك تكرار ، ولا يكون توزيع ، بل بحسب مدلول عموم " ما " وصيغة الماضي " قدمت " والنظر للمحاسبة .
تنبيه
مجيء " قدمت " بصيغة الماضي حث على الإسراع في العمل ، وعدم التأخير ؛ لأنه لم يملك إلا ما قدم في الماضي ، والمستقبل ليس بيده ، ولا يدري ما يكون فيه : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [ 31 \ 34 ] ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم : " حجوا قبل ألا تحجوا " ، وقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم [ 3 \ 133 ] ، وقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ 59 \ 19 ] .
بعد الحث على تقوى الله ، وعلى الاجتهاد في تقديم العمل الصالح ليوم غد جاء التحذير في هذه الآية من النسيان والترك وألا يكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، ولم يبين هنا من هم الذين حذر من أن يكونوا مثلهم في هذا النسيان ، وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا .
وقد نص القرآن على أن الذين نسوا الله هم المنافقون في قوله تعالى في سورة " التوبة " : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون [ 9 \ 67 ] ، وهذا عين الوصف الذي وصفوا به في سورة " الحشر " وقوله تعالى : فنسيهم أي : أنساهم أنفسهم ؛ لأن الله تعالى لا ينسى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 2 \ 52 ] ، وما كان ربك نسيا [ ص: 55 ] [ 19 \ 64 ] .
وقد جاء أيضا وصف كل من اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة ، ففي اليهود يقول تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به [ 5 \ 13 ] .
وفي النصارى يقول تعالى : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به [ 5 \ 14 ] .
وفي المشركين يقول تعالى : الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، فيكون التحذير منصبا أصالة على المنافقين وشاملا معهم كل تلك الطوائف لاشتراكهم جميعا في أصل النسيان .
أما النسيان هنا ، فهو بمعنى الترك ، وقد نص عليه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند الكلام على قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [ 20 \ 126 ] .
فذكر وجهين ، وقال : العرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا ، ومنه قوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] .
فالمراد من هذه الآية الترك قصدا .
وكقوله : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] .
وقوله : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الآية [ 59 \ 19 ] ، انتهى .
أما النسيان الذي هو ضد الذكر ، وهو الترك عن غير قصد ، فليس داخلا هنا ؛ لأن هذه الأمة قد أعفيت من المؤاخذة عليه ، كما في قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] .
وفي الحديث أن الله تعالى قال : " قد فعلت ، قد فعلت " أي : عندما تلاها صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 56 ] وجاء في السنة : " إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .
وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - هذا النوع في دفع إيهام الاضطراب على الجواب عن الإشكال الموجود في نسيان آدم ، هل كان عن قصد أو عن غير قصد ، وإذا كان عن غير قصد فكيف يؤاخذ ؟ وبين خصائص هذه الأمة في هذا الباب - رحمة الله تعالى عليه - فليرجع إليه .
وإذا تبين المراد بالتحذير من مشابهتهم في النسيان ، وتبين معنى النسيان ، فكيف أنساهم الله أنفسهم ؟ وهذه مقتطفات من أقوال المفسرين في هذا المقام لزيادة البيان :
قال ابن كثير رحمه الله : لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح ؛ فإن الجزاء من جنس العمل .
وقال القرطبي : نسوا الله أي : تركوا أمره ، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيرا .
وقال أبو حيان : الذين نسوا الله هم الكفار تركوا عبادة الله ، وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى فأنساهم أنفسهم حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ، وهذا من المجازات على الذنب بالذنب . . . إلخ .
وقال ابن جرير : تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم ، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل .
أما الزمخشري ، والفخر الرازي فقد أدخلا في هذا المعنى مبحثا كلاميا حيث قالا في معنى : نسوا الله ، كما قال الجمهور ، أما في معنى : فأنساهم أنفسهم ، فذكرا وجهين : الأول : كالجمهور ، والثاني : بمعنى أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله تعالى : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [ 14 \ 43 ] ، وقوله : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ 22 \ 2 ] ا هـ .
وهذا الوجه الثاني لا يسلم لهما ؛ لأن ما ذهبا إليه عام في جميع الخلائق يوم القيامة ، وليس خاصا بمن نسي الله كما قال تعالى في نفس الآية التي استدلا بها : وترى الناس سكارى [ ص: 57 ] فهو عام في جميع الناس .
وقوله : يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت [ 22 \ 2 ] ، والذهول أخو النسيان ، وهو هنا عام في كل مرضعة : وتضع كل ذات حمل حملها [ 22 \ 2 ] وهو أيضا عام ، وذلك من شدة الهول يوم القيامة ، ولعل الحامل لهما على إيراد هذا الوجه مع بيان ضعفه ، هو فرارهم من نسبة الإنساء إلى الله ، وفيه شبهة اعتزال كما لا يخفى .
ولوجود إسناد الإنساء إلى الشيطان في بعض المواضع كما في قصة صاحب موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ 18 \ 63 ] ، وكما في قوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] وقوله : عن صاحب يوسف : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ 12 \ 42 ] .
ولكن الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير والتذكر كحقيقة أي معنى من المعاني ، وأنها كلها من الله : قل كل من عند الله [ 4 \ 78 ] ، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا [ 9 \ 51 ] ، فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله كما في قوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 \ 102 ] ، ثم قال : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ 2 \ 102 ] فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام : وإذا مرضت فهو يشفين [ 26 \ 80 ] تأدبا في الخطاب مع الله تعالى ، ولكن هذا المقام مقام إخبار من الله عما أوقعه بهؤلاء الذين نسوا ما أمرهم به فأنساهم ، فأوقع عليهم النسيان لأنفسهم مجازاة لهم على أعمالهم ، فكان نسبته إلى الله وبإخبار من الله عين الحق وهو أقوى من أسلوب المقابلة : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] .
تنبيهان
الأول : جاء في مثل هذا السياق سواء بسواء قوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 45 \ 34 ] .
وقوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم [ 32 \ 14 ] .
وقوله : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] ، وفي هذا نسبة النسيان إلى الله تعالى فوقع [ ص: 58 ] الإشكال مع قوله تعالى : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] وقوله : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] .
وقد أجاب الشيخ - رحمة الله عليه - عن ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، بأن النسيان المثبت بمعنى الترك كما تقدم ، والمنفي عنه تعالى هو الذي بمعنى السهو ؛ لأنه محال على الله تعالى .
التنبيه الثاني : مما نص عليه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مقدمة الأضواء أن من أنواع البيان أن يوجد في الآية اختلاف للعلماء وتوجد فيها قرينة دالة على المعنى المراد ، وهو موجود هنا في هذه المسألة وهو قوله تعالى : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 45 \ 34 ] ، وهذا القول يكون يوم القيامة ، وقد عبر عن النسيان بصيغة المضارع وهي للحال أو الاستقبال ، ولا يكون النسيان المخبر عنه في الحال إلا عن قصد وإرادة ، وكذلك لا يخبر عن نسيان سيكون في المستقبل إلا عن قصد وإرادة ، وهذا في النسيان بمعنى الترك عن قصد ، أما الذي بمعنى السهو فيكون بدون قصد ولا إرادة ، فلا يصح التعبير عنه بصيغة المضارع ولا الإخبار بإيقاعه عليهم في المستقبل ، فصح أن كل نسيان نسب إلى الله فهو بمعنى الترك ، وكان قوله تعالى : فأنساهم أنفسهم [ 59 \ 19 ] مفسرا ومبينا لمعنى : اليوم ننساكم [ 45 \ 34 ] ولقوله إنا نسيناكم [ 32 \ 14 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون . دلت هذه الآية الكريمة على عدم استواء الفريقين : أصحاب النار وأصحاب الجنة ، وهذا أمر معلوم بداهة ، ولكن جاء التنبيه عليه لشدة غفلة الناس عنه ، ولظهور أعمال منهم تغاير هذه القضية البديهية ، كمن يسيء إلى أبيه فتقول له : إنه أبوك ، قاله بعض المفسرين .
وهذا في أسلوب البيان يراد به لازم الخبر ، أي : يلزم من ذلك التنبيه أن يعملوا ما يبعدهم عن النار ويجعلهم من أصحاب الجنة : لينالوا الفوز .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:29 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (538)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 59 إلى صـ 66
وهذا البيان قد جاءت نظائره عديدة في القرآن كقوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] [ ص: 59 ] وكقوله : أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون [ 32 \ 18 ] أي : في الحكم عند الله ، ولا في الواقع في الحياة أو في الآخرة ، كما قال تعالى : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] ، وهنا كذلك : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة [ 59 \ 20 ] في المرتبة والمنزلة والمصير .
قال أبو حيان : هذا بيان مقابلة الفريقين أصحاب النار في الجحيم ، وأصحاب الجنة في النعيم ، والآية عند جمهور المفسرين في بيان المقارنة بين الفريقين ، وهو ظاهر السياق بدليل ما فيها من قوله : أصحاب الجنة هم الفائزون [ 59 \ 20 ] فهذا حكم على أحد الفريقين بالفوز ، ومفهومه الحكم على الفريق الثاني بالهلاك والخسران ، ويشهد له أيضا ما قبلها ولا تكونوا كالذين نسوا الله [ 59 \ 19 ] أي : من هذا الفريق فأنساهم أنفسهم ، فصاروا أصحاب النار على ما سيأتي بيانه إن شاء الله .
وهنا احتمال آخر ، وهو لا يستوي أصحاب النار في النار ولا أصحاب الجنة في الجنة ، فيما هم فيه من منازل متفاوتة كما أشار إليه أبو حيان عند قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ 41 \ 34 ] ، ولكن عدم وجود اللام هنا يجعله أضعف احتمالا ، وإلا لقال : لا يستوي أصحاب النار ، ولا أصحاب الجنة ، وهذا المعنى ، وإن كان واقعا لتفاوت درجات أهل الجنة في الجنة ، ومنازل أهل النار في النار ، إلا أن احتماله هنا غير وارد ؛ لأن آخر الآية حكم على مجموع أحد الفريقين ، وهم أصحاب الجنة أي في مجموعهم كأنه في مثابة القول : النار والجنة لا يستويان ، فأصحابهما كذلك .
وقد نبه أبو السعود على تقديم أصحاب النار ، في الذكر على أصحاب الجنة بأنه ليبين لأول وهلة أن النقص جاء من جهتهم كما في قوله : هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور [ 13 \ 16 ] ا هـ .
وبيان ذلك أن الفرق بين المتفاوتين في الزيادة والنقص ، يمكن اعتبار التفاوت بالنسبة إلى النقص في الناقص ، ويمكن اعتباره بالنسبة إلى الزيادة في الزائد .
فقدم الجانب الناقص ؛ ليبين أن التفاوت الذي حصل بينهما ، إنما هو بسبب النقص الذي جاء منهما لا بسبب الزيادة في الفريق الثاني ، والنتيجة في ذلك عدم إمكان جانب [ ص: 60 ] النقص الاحتجاج على جانب الزيادة ، وفيه زيادة تأنيب لجانب النقص ، وفي الآية إجمال أصحاب النار وأصحاب الجنة .
ومعلوم أن كلمة أصحاب تدل على الاختصاص ، فكأنه قال : أهل النار وأهل الجنة المختصون بهما .
وقد دل القرآن أن أصحاب النار هم الكفار كما قال تعالى : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون [ 64 \ 10 ] .
والخلود لا خروج معه كما في قوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ، إلى قوله : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 165 - 167 ] ، وكقوله في سورة " الهمزة " : يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة [ 104 \ 3 - 8 ] أي : مغلقة عليهم .
أما أصحاب الجنة فهم المؤمنون كقوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون [ 46 \ 13 - 14 ] ، وقد جمع القسمين في قوله تعالى : بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون [ 2 \ 81 ] .
كما جاء مثل هذا السياق كاملا متطابقا فيفسر بعضه بعضا كما قدمنا ، وذلك في سورة التوبة قال تعالى : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم [ 9 \ 67 - 68 ] .
فهذه أقسام الكفر والنفاق ، وأخص أصحاب النار والاختصاص من الخلود فيها ولعنهم وهي حسبهم ، وهم الذين نسوا الله فنسيهم ، وهم عين من ذكر في هذه السورة سورة " الحشر " ثم جاء مقابلة تماما في نفس السياق في قوله تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم [ ص: 61 ] [ 9 \ 71 - 72 ] .
وهذه أيضا أخص صفات أهل الجنة ، من الرحمة والرضوان ، والخلود ، والإقامة الدائمة في جنات عدن ، إذ العدن الإقامة الدائمة ، ومنها المعدن لدوام إقامته في مكانه ، ورضوان من الله أكبر .
ثم يأتي الختام في المقامين متحدا ، وهو الحكم بالفوز لأصحاب الجنة ، ففي آية " التوبة " : ذلك هو الفوز العظيم وفي آية " الحشر " : أصحاب الجنة هم الفائزون [ 59 \ 20 ] ، وبهذا علم من هم أصحاب النار ، ومن هم أصحاب الجنة .
وتبين ارتباط هذه المقابلة بين هذين الفريقين ، وبين ما قبلهم ممن نسوا فأنساهم أنفسهم ، ومن اتقوا الله وقدموا لغدهم ، وبهذا يعلم أن عصاة المسلمين غير داخلين هنا في أصحاب النار ، لما قدمنا من أن أصحاب النار هم المختصون بها ممن كفروا بالله وكذبوا بآياته ، وكما يشهد لهذا قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 \ 71 - 72 ] ، والظالمون هنا هم المشركون في ظلمهم أنفسهم .
وبهذا يرد على المعتزلة أخذهم من هذه الآية عدم دخول أصحاب الكبيرة الجنة على أنهم في زعمهم لو دخلوها لاستووا مع أصحاب الجنة .
وهذا باطل كما قدمنا ، ومن ناحية أخرى يرد بها عليهم ، وهي أن يقال : إذا خلد العصاة في النار على زعمكم مع ما كان منهم من إيمان بالله وعمل صالح فماذا يكون الفرق بينهم وبين الكفار والمشركين ، وتقدم قوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض [ 38 \ 28 ] .
وقد بحث الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - مسألة بقاء العصاة وخروجهم من النار وخلود الكفار فيها بحثا واسعا في دفع إيهام الاضطراب في سورة " الأنعام " فليرجع إليه .
وقد استدل الشافعي - رحمه الله - بهذه الآية أن المسلم لا يقتل بالذمي ولا بكافر [ ص: 62 ] ؛ لأنهما لا يستويان ، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر ، ذكره الزمخشري .
وهذا وإن كان حقا إلا أن أخذه من هذه الآية فيه نظر ؛ لأنها في معرض المقارنة للنهاية يوم القيامة .
قوله تعالى : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
وقوله تعالى : لو أنزلنا يدل على أنه لم ينزله ، وأنه ذكر على سبيل المثال ؛ ليتفكر الناس في أمره كما قال تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى الآية [ 13 \ 31 ] .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عندها : جواب ( لو ) محذوف .
قال بعض العلماء : تقديره لكان هذا القرآن . . . إلخ . ا هـ .
وقال ابن كثير : يقول تعالى معظما لأمر القرآن ، ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد : لو أنزلنا هذا القرآن الآية [ 59 \ 21 ] .
فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل .
فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم ، وتخشع ، وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وقد تدبرتم كتابه ، ولهذا قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] .
وقد وجد لبعض الناس شيئا من ذلك عند سماع آيات من القرآن ، من ذلك ما رواه ابن كثير في سورة " الطور " عن عمر - رضي الله عنه - قال : خرج عمر - رضي الله عنه - يعس بالمدينة ذات ليلة فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ : والطور [ 52 \ 1 ] حتى بلغ : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع [ 52 \ 7 - 8 ] قال : قسم ورب الكعبة حق ، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليا ، ثم رجع إلى منزله ، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه .
[ ص: 63 ] وذكر القرطبي : قال جبير بن مطعم قدمت المدينة ؛ لأسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر فوافيته يقرأ في صلاة المغرب والطور إلى قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ، فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب .
وذكر في خبر مالك بن دينار أنه سمعها فجعل يضطرب حتى غشي عليه .
وقد نقل السيوطي في الإتقان خبر مالك بن دينار بتمامه في فصل إعجاز القرآن .
وقال : قد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف ، وقد ينشأ هنا سؤال كيف يكون هذا تأثير القرآن لو أنزل على الجبال ولم تتأثر به القلوب ؟ وقد أجاب القرآن عن ذلك في قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ 2 \ 74 ] ، وكذلك أصموا آذانهم عن سماعه ، وغلفوا قلوبهم بالكفر عن فهمه ، وأوصدوها بأقفالها فقالوا : قلوبنا غلف [ 2 \ 88 ] ، وكذلك قوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] أي : بسبب الإعراض وعدم التدبر والنسيان ، ولذا قال تعالى عنهم : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] فهذه أسباب عدم تأثر الكفار بالقرآن كما قال الشاعر :
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
ويفهم منه بمفهوم المخالفة أن المؤمنين تخشع قلوبهم ، وتلين جلودهم ، كما نص تعالى عليه بقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : لو أنزلنا يدل على أنه لم ينزله على جبل ولم يتصدع منه .
وقد جاء في القرآن ما يدل عليه لو أنزله من ذلك قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] .
وهذا نص صريح لأن الجبال أشفقت من حمل الأمانة وهي أمانة التكليف بمقتضى [ ص: 64 ] خطاب الله تعالى إياها .
فإذا كانت الجبال أشفقت لمجرد العرض عليها فكيف بها لو أنزل عليها وكلفت به .
ومنها : أن الله تعالى لما تجلى للجبل جعله دكا ، وخر موسى صعقا ، والقرآن كلام الله وصفة من صفاته ، فهو شاهد وإن لم يكن نصا .
ومنها النص على أن بعض الجبال التي هي الحجارة ليهبط من خشية الله لقوله تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] .
وقد جاء في السنة إثبات ما يشبه ذلك في جبل أحد ، حينما صعد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان - رضي الله عنهما - فارتجف بهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " اثبت أحد ؛ فإنما عليك نبي ، وصديق ، وشهيد " .
وسواء كان ارتجافه إشفاقا أو إجلالا فدل هذا كله على أنه تعالى وإن لم ينزل القرآن على جبل أنه لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى : خاشعا متصدعا من خشية الله .
وبهذا أيضا يتضح أن جواب ( لو ) في قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال [ 13 \ 31 ] لكان هذا القرآن أرجح من تقديرهم لكفرتم بالرحمن ؛ لأن موضوع تسيير الجبال وخشوعها وتصديعها واحد ، وهو الذي قدمه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - هناك ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
الأمثال : جمع مثل ، وهو مأخوذ من المثل ، وأصل المثل الانتصاب ، والممثل بوزن اسم المفعول المصور على مثال غيره .
قال الراغب الأصفهاني ، يقال : مثل الشيء إذا انتصب وتصور ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " من أحب أن يمثل له الرجال فليتبوأ مقعده من النار " ، والتمثال : الشيء المصور ، وتمثل كذا تصور قال تعالى : فتمثل لها بشرا سويا [ 19 \ 17 ] .
[ ص: 65 ] والمثل : عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر بينهما مشابهة ؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره ، نحو قولهم : الصيف ضيعت اللبن ، فإن هذا القول يشبه قولك : أهملت وقت الإمكان أمرك ، وعلى هذا الوجه ما ضرب الله تعالى من الأمثال فقال : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] .
وفي آية أخرى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] .
والمثال يقال على وجهين :
أحدهما : بمعنى المثل نحو مشبه ومشبه به ، قال بعضهم : وقد يعبر بهما عن وصف الشيء ، نحو قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون .
والثاني : عبارة عن المشابهة لغيره في معنى من المعاني أي معنى كان ، وهو أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة .
وذلك أن الند يقال فيما يشارك في الجوهر فقط .
والشبه يقال فيما يشارك في الكيفية فقط .
والمساوي يقال فيما يشارك في الكمية فقط .
والشكل يقال فيما يشارك في القدر والمساحة فقط ، والمثل عام في جميع ذلك .
ولهذا لما أراد الله تعالى نفي التشبيه من كل وجه خصه بالذكر فقال : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] . . . إلخ . ا هـ .
فقوله في تعريف المثل إنه عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر ، بينهما مشابهة ؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره .
فإنهم اتفقوا على أن القول لا يتغير بل يحكى على ما قيل أولا كقولهم : الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء خطابا للمؤنثة .
فلو قيل لرجل أهمل وقت الإمكان ثم راح يطلبه بعد فواته ، لقلت له : الصيف ضيعت اللبن بكسر التاء على الحكاية .
[ ص: 66 ] وهذا مما يسمى الاستعارة التمثيلية من أبلغ الأساليب ، وأكثر ما في القرآن من أمثلة إنما هو من قبيل التشبيه التمثيلي ، وهو تشبيه صورة بصورة ، وهو من أوضح أساليب البيان .
وقد ساق الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عددا منها في الجزء الرابع عند قوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] ، ومن أهم أغراض هذا النوع من التشبيه هو بيان صورة بصورة وجعل الخفي جليا ، والمعنوي محسوسا كقوله تعالى : له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه [ 13 \ 14 ] .
فلو نظرت إلى مثل هذا الشخص على هذه الحالة ، وفي تلك الصورة بكل أجزائها ، وهو باسط يده مفرجة الأصابع إلى ماء بعيد عنه ، وهو فاغر فاه ؛ ليشرب ، لقلت : وأي جدوى تعود عليه ، ومتى يذوق الماء وهو على تلك الحالة ، إنه يموت عطشا ولا يذوق منه قطرة .
وكذلك حال من يدعو غير الله مع ما يدعوهم من دونه لا يحصل على طائل كقوله تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون [ 29 \ 41 ] فأي غناء لإنسان في بيت العنكبوت .
وكذلك أي غناء في ولاية غير الله فكذلك الحال هنا ، أريد بالأمثال صور يصور لانتزاع الحكم من السامع بعد أن تصبح الصورة محسوسة ملموسة ، وانظر قوله تعالى : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ 2 \ 187 ] وكيف غطى وأخفى في هذا الأسلوب ما يستحى منه وأبرزه بلباسه في التشبيه بما يتقى به ، ومدى مطابقة معنى اللباس لحاجة كل من الزوجين للآخر ، وتلك في قوله تعالى : وتلك الأمثال [ 59 \ 21 ] عائدة إلى الأمثلة المتقدمة قريبا في عمل المنافقين مع اليهود ونتائج أعمالهم ، وهكذا كل موالاة بين غير المسلمين وكل معاداة وانصراف عما جاء به سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:29 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (539)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 67 إلى صـ 74
وكذلك في بيان مدى فعالية القرآن وتأثيره ، لو أنزل على الجبال ؛ لخشعت ، وتصدعت مما يستوجب التفكير فيه والاتعاظ به ، ثم مثال الفريقين في قوله تعالى : [ ص: 67 ] ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم [ 59 \ 19 ] ، ونتيجة ذلك في الآخرة من عدم استواء الفريقين ، فأصحاب نار وأصحاب جنة .
ولكأن الأمثال هنا والتنبيه عليها إشارة إلى أن أولئك بنسيانهم لله وإنسائه إياهم أنفسهم ، صاروا بهذا النسيان أشد قساوة من الجبال ، بل إن الجبال أسرع تأثرا بالقرآن منهم لو كانوا يتفكرون .
وقد قال أبو السعود : إنه أراد توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تخشعه عند تلاوته وقلة تدبره فيه . ا هـ .
وهكذا بهذه الأمثلة ينتزع الحكم من السامع على أولئك المعرضين الغافلين بأن قلوبهم قاسية كالجبال أو أشد قسوة كما قدمنا ، بخلاف المؤمنين تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق كما قال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء [ 39 \ 23 ] .
قوله تعالى : هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
جاءت في هذه الآيات الثلاث : ذكر كلمة التوحيد مرتين ، كما ذكر فيها أيضا تسبيح الله مرتين ، وذكر معهما العديد من أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ، فكانت بذلك مشتملة على ثلاث قضايا أهم قضايا الأديان كلها مع جميع الأمم ورسلهم ؛ لأن دعوة الرسل كلها في توحيد الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته وتنزيهه ، والرد على مفتريات الأمم على الله تعالى .
فاليهود قالوا : عزير ابن الله [ 9 ] .
والنصارى قالوا : المسيح ابن الله [ 9 ] .
والمشركون قالوا : اتخذ الرحمن ولدا [ 21 \ 26 ] ، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا [ 43 \ 19 ] ، وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ ص: 68 ] [ 38 \ 5 ] .
فكلهم ادعى الشريك مع الله ، وقالوا : ثالث ثلاثة [ 5 \ 73 ] وغير ذلك .
وكذلك في قضية التنزيه ، فاليهود قالوا : إن الله فقير ونحن أغنياء [ 3 \ 181 ] ، وقالوا : يد الله مغلولة غلت أيديهم [ 5 \ 64 ] .
والمشركون قالوا : وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ، ونسبوا لله ما لا يرضاه أحدهم لنفسه ، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا ، في الوقت الذي وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم [ 16 \ 58 ] .
وهذا كما تراه أعظم افتراء على الله تعالى ، وقد سجله عليهم القرآن في قوله تعالى : وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 4 ] وكما قال تعالى : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون [ 37 \ 151 - 152 ] ، وقال مبينا جرم مقالتهم : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا [ 19 \ 88 - 92 ] .
فكانت تلك الآيات الثلاث علاجا في الجملة لتلك القضايا الثلاث ، توحيد الألوهية ، وتوحيد الأسماء والصفات ، وتنزيه الله سبحانه وتعالى مع إقامة الأدلة عليها .
وقد اجتمعت معا لأنه لا يتم أحدها إلا بالآخرين ، ليتم الكمال لله تعالى .
قال أبو السعود : إن الكمالات كلها مع كثرتها وتشعبها راجعة إلى الكمال في القدرة والعلم . ا هـ .
وهذا كله متوفر في هذا السياق ، وقد بدأ بكلمة التوحيد ؛ لأنها الأصل ، لأن من آمن بالله وحده آمن بكل ما جاء عن الله ، و آمن بالله على ما هو له أهل ، ونزهه عما ليس له بأهل قال تعالى : هو الله الذي لا إله إلا هو ثم أعقبه بالدليل على إفراده تعالى بالألوهية بما لا يشاركه غيره فيه بقوله تعالى : عالم الغيب والشهادة .
وهذا الدليل نص عليه على أنه دليل لوحدانية الله تعالى في مواضع أخرى منها قوله [ ص: 69 ] تعالى : إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما [ 20 \ 98 ] ووسع كل شيء هنا تساوي عالم الغيب والشهادة ، ومنها قوله تعالى : ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم [ 27 \ 25 ] ، وقوله تعالى : الله لا إله إلا هو الحي القيوم إلى قوله : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء [ 2 \ 255 ] .
وهذا قطعا لا يشاركه فيه غيره ، كما قال تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] فكان من حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو ، وجاء بدليل ثان ، وهو قوله تعالى : هو الرحمن الرحيم [ 59 \ 22 ] وقد نص عليه صراحة أيضا كدليل على الوحدانية في قوله تعالى : وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] فهو رحمان الدنيا ورحيم الآخرة .
ومن رحمته التي اختص بها في الدنيا قوله : وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته [ 42 \ 28 ] ، وقوله : فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها [ 30 \ 50 ] أي : بإنزاله الغيث وإنبات النبات مما لا يقدر عليه إلا هو فكان حقه على خلقه أن يعبدوه وحده لا إله إلا هو .
وقد جمع الدليلين العلم والرحمة معا في قوله تعالى : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما [ 40 \ 7 ] .
ثم جاءت كلمة التوحيد مرة أخرى : هو الله الذي لا إله إلا هو ، وجاء بعدها من الصفات الجامعة قوله : الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، وهذا الدليل على وحدانيته تعالى نص عليه في موضع آخر صريحا في قوله تعالى : قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت [ 7 \ 158 ] فالذي له ملك السماوات والأرض هو الملك الحق الكامل الملك ، وهو الذي يملك التصرف في ملكه كما يشاء بالإحياء والإماتة وحده ، كما قال تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة [ 67 \ 1 - 2 ] وهو القدوس السلام المؤمن المهيمن على ملكه كما في قوله أيضا : الله لا إله إلا هو الحي القيوم [ 2 \ 255 ] فالقيوم هو المهيمن والقائم بكل [ ص: 70 ] نفس ، العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ، ثم جاء بالدليل الأعظم في قوله تعالى : هو الله الخالق البارئ المصور فهو وحده المتفرد بالخلق والإيجاد ، والإبداع والتصوير ، وقد نص على هذا الدليل في أكثر من موضع كما في قوله تعالى : بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم [ 6 \ 101 ] ثم قال : ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل [ 6 \ 102 ] .
وذكر أيضا الخلق مفصلا والملك مجملا في قوله تعالى : خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث [ 39 \ 6 ] ثم قال : ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون [ 39 \ 6 ] ، وقال : ذلكم الله ربكم خالق كل شيء [ 40 \ 62 ] ، ثم قال : لا إله إلا هو فأنى تؤفكون [ 35 \ 3 ] وجمع الملك والخلق معا في قوله : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى .
ومن تأمل براهين القرآن على وحدانية الله تعالى ، وعلى قدرته ، على البعث وهما أهم القضايا العقائدية يجد أهمها وأوضحها وأكثرها ، هو هذا الدليل ، أعني دليل الخلق والتصوير .
وقد جاء هذا الدليل في القرآن جملة وتفصيلا ، فمن الإجمال ما جاء في أصل المخلوقات جميعا : الله خالق كل شيء [ 13 \ 16 ] وقوله تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] ، وقال : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ثم قال : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء [ 36 \ 83 ] ، وقال : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة [ 67 \ 1 - 2 ] أي : خالق الإيجاد والعدم ، وخلق العدم يساوي في الدلالة على القدرة خلق الإيجاد ؛ لأنه إذا لم يقدر على إعدام ما أوجد يكون الموجود مستعصيا عليه ، فيكون عجزا في الموجد له ، كمن يوجد اليوم سلاحا ولا يقدر على إعدامه ، وإبطال مفعوله ، فقد يكون سببا في إهلاكه ، ولا تكتمل القدرة حقا إلا بالخلق والإعدام معا ، وقال في خلق [ ص: 71 ] السماوات والأرض : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور [ 6 \ 1 ] .
وقال في خلق الأفلاك وتنظيمها : وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر [ 21 \ 33 ] .
ثم في أصول الموجودات في الأرض بقوله : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا [ 2 \ 29 ] .
وفي أصول الأجناس : الماء والنار والنبات والإنسان ، قال : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] .
وذكر معه القدرة على الإعدام : نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين [ 56 \ 60 ] .
وفي أصول النبات : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون [ 56 \ 63 ، 64 ] .
وفي أصول الماء : أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون [ 56 \ 68 - 69 ] .
وفي أصول تطوير الحياة : أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون [ 56 \ 71 - 72 ] .
وفي جانب الحيوان أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت الآية [ 88 \ 17 ] .
ولهذا فقد تمدح تعالى بهذه الصفة صفة الخلق وصفة آلهة المشركين بالعجز ، كما قال تعالى : خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم [ 31 \ 10 ] ، ثم قال : هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين [ 31 \ 11 ] .
ومعلوم أنها لم تخلق شيئا كما قال تعالى موبخا لهم : أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون [ 7 \ 191 ] ، وبين أنهما لا يستويان في قوله : أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون [ 16 \ 17 ] ، ثم بين نهاية ضعفها وعجزها في قوله تعالى : واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا [ 25 \ 3 ] [ ص: 72 ] وهذا غاية العجز ، كما ضرب لذلك المثل بقوله : إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب [ 22 \ 73 ] فهم حقا لا يملكون لأنفسهم نفعا ، ولا ضرا ولو بقدر الذبابة وهكذا ترى صفة الخلق المتصف بها سبحانه وتعالى أعظم دليل على وحدانية الله تعالى ، وهي متضمنة صفة التصوير والعلم لأن لكل مخلوق صورة تخصه ، ولا يكون ذلك إلا عن علم بالغيب والشهادة ، كما تقدم .
وهكذا أيضا كان هذا الدليل أقوى الأدلة على البعث ، كما قال تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 77 - 83 ] إلى آخر السورة .
وكذلك في قوله تعالى صريحا في ذلك ونصا عليه : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج [ 22 \ 5 ] ثم قال تعالى : ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 6 - 7 ] .
ثم بين تعالى أن جاحد هذا الدليل إنما هو مكابر جاهل ، ضال مضل ، وذلك في قوله بعده مباشرة : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد [ 22 \ 8 - 10 ] .
ومن هنا كان أول نداء في المصحف يوجه إلى الناس جميعا بعبادة الله كان لاستحقاقه عبادته وحده ، لأنه متصف بصفة الخلق كما قال تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ ص: 73 ] [ 2 \ 21 - 22 ] أي : لأنهم ليسوا له بأنداد فيما اتصف به سبحانه فلا تشركوهم مع الله في عبادته .
فكانت هذه الصفات لله تعالى في آخر هذه السورة حقا أدلة على إثبات وحدانية الله تعالى في ذاته وأسمائه وصفاته ، وأنه المستحق لأن يعبد وحده لا إله إلا هو .
والواجب على الخلق تنزيهه عما لا يليق بجلاله سبحانه وتعالى عما يشركون ، يسبح له ما في السماوات والأرض ؛ لأنها من مخلوقاته وهو العزيز الحكيم ، وقوله تعالى : له الأسماء الحسنى [ 20 \ 8 ] لم يبين هنا المراد من أنه سبحانه له الأسماء الحسنى ، وقد بين في سورة الأعراف المراد بذلك في قوله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 \ 180 ] .
قال القرطبي : سمى الله سبحانه أسماءه بالحسنى ؛ لأنها حسنة في الأسماع والقلوب ، فإنها تدل على توحيده وكرمه وجوده وإفضاله ، ومجيء قوله تعالى : له الأسماء الحسنى بعد تعداد أربعة عشر اسما من أسمائه سبحانه يدل على أن له أكثر من ذلك ، ولم يأت حصرها ولا عدها في آية من كتاب الله .
وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر " .
وسرد ابن كثير عدد المائة مع اختلاف في الروايات .
وذكر عن آية " الأعراف " أنها ليست محصورة في هذا العدد لحديث ابن مسعود في مسند أحمد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه " الحديث ا هـ .
ومحل الشاهد منه ظاهر في أن لله أسماء أنزلها في كتبه ، وأسماء خص بها بعض خلقه كما خص الخضر بعلم من لدنه ، وأسماء استأثر بها في علم الغيب عنده ، كما يدل [ ص: 74 ] حديث الشفاعة : " فيلهمني ربي بمحامد لم أكن أعرفها من قبل " ، والواقع أنه لا تعارض بين الحديثين .
لأن الأول : يتعلق بعدد معين ، وبما يترتب عليها من الجزاء .
والحديث الثاني : يتعلق ببيان أقسام أسمائه تعالى ، من حيث العلم بها وتعليمها وما أنزل منها .
وقد ذكر هذا الجمع ابن حجر في الفتح في كتاب الدعوات عند باب : لله مائة اسم غير واحد .
وقد حاول بعض العلماء استخراج المائة اسم من القرآن فزادوا ونقصوا ؛ لاعتبارات مختلفة ، وقد أطال في الفتح بحث هذا الموضوع في أربع عشرة صحيفة مما لا غنى عنه ولا يمكن نقله ، ولا يصلح تلخيصه .
وقد ذكر من أفردها بالتأليف .
كما أن القرطبي ذكر أنه ألف فيها ، وأساس البحث يدور على نقطتين :
الأولى : تعيين المائة اسم المرادة .
والثانية : معنى أحصاها ، وفي رواية حفظها .
وقد حضرت مجلسا للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في بيته مع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وسأله عن الصحيح في ذلك ، فكان حاصل ما ذكر في ذلك المجلس أن التعيين لم يأت فيه نص صحيح ، وأن الإحصاء أو الحفظ لا ينبغي حمله على مجرد الحفظ للألفاظ غيبا ، ولكن يحمل على أحصى معانيها وحفظها من التحريف فيها والتبديل والتعطيل ، وحاول التخلق بحسن صفاتها كالحلم والعفو والرأفة والرحمة والكرم ، ونحو ذلك ، والحذر من مثل الجبار والقهار ، ومراقبة مثل : الحسيب الرقيب ، وكذلك التعرض لمثل التواب والغفور بالتوبة وطلب المغفرة ، والهادي والرزاق بطلب الهداية والرزق ونحو ذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:30 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (540)
سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
صـ 75 إلى صـ 82
ونقل القرطبي عن ابن العربي عند قوله تعالى : فادعوه بها [ 7 \ 180 ] أي : اطلبوا منه بأسمائه ، فيطلب بكل اسم ما يليق به تقول : يا رحمان ارحمني ، يا رزاق [ ص: 75 ] ارزقني ، يا هادي اهدني ، يا تواب تب علي ، وهكذا رتب دعاءك تكن من المخلصين ا هـ .
مسألة
يؤخذ من كلام ابن العربي هذا ما يقوله الفقهاء في ذكر اسم الله عند الذبح أن يقتصر على قوله : بسم الله ، ولا يقول الرحمن الرحيم ؛ لأن اسم الرحمن الرحيم يقتضي الرحمة ، وهي لا يتناسب معها الذبح ورسول الروح .
ويؤيد هذا ما ذكره ابن قدامة أنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا ذبح قال : " بسم الله ، والله أكبر " أي : أكبر وأقدرك عليها ، وهو أكبر منك عليك منها .
فإذا فقه الإنسان أسماء الله الحسنى على هذا النحو ، كان حقا قد أحصاها وحفظها في استعمالها في معانيها ، فكان حقا من أهل الجنة ، والعلم عند الله تعالى .
ولقد استوقفني طويلا مجيء هذه الآيات في نهاية هذه السورة تذييلا لها وختاما وبأسلوب الإجمال والتفصيل لقضايا التوحيد ، وإقامة الدليل ، وإلزام أهل الإلحاد والتعطيل ، فمكثت طويلا أتطلب ربطها بما قبلها ، فلم أجد في كل ما عثرت عليه من التفسير أكثر من شرح المفردات ، وإيراد بعض التنبيهات مما لا ينفذ إلى أعماق الموضوع ، ولا يشفي عليلا في مجتمعاتنا الحديثة ، أو يذهب شبه المدنية المادية ، فرجعت إلى السورة بكاملها أتأمل موضوعها فإذا بها تبدأ أولا بتسبيح العوالم كلها لله العزيز الحكيم ، وهذا أمر فوق مستوى الإدراك الإنساني ، ثم تسوق أعظم حدث تشهده المدينة بعد الهجرة من إخراج اليهود ، ولم يكن مظنونا إخراجهم ، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا فكانوا موضع العبرة والموعظة .
ثم تأتي لموقف فريقين متقابلين فريق المؤمنين ، والكافرين .
يتمثل الفريق الأول في المهاجرين والأنصار وما كانوا عليه من أخوة ، ومودة ، ورحمة ، وعطاء ، وإيثار على النفس .
ويتمثل الفريق الآخر في المنافقين ، واليهود ، وما كان بينهم من مواعدة ، وإغراء ، وتحريض ، ثم تخل عنهم وخذلان لهم .
[ ص: 76 ] فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمن ، وحزب الشيطان ، وهي صورة المجتمع في المدينة آنذاك .
ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنتهاهما وعدم استوائهما ، وفي ذلك تقرير المصير : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون [ 59 \ 20 ] .
وهذه أخطر قضية في كل أمة أي : تقرير مصيرها ، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات ، ولو كانت جبلا أشم أو حجرا أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق ، والأمة والرسالة ، والبدء والنهاية ، وصراع الحق مع الباطل ، والكفر والإيمان ، والنفوس في الشح والإحسان ، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية .
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض ، وتنقل من موقف إلى موقف ، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته ، نطق بتسبيحه ، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده ، فأوجده على مقتضى علمه به ، وسيره على النحو الذي أوجده عليه ، علم خذلان المنافقين لليهود قبل أن يحرضوهم ، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم ، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله ، فحث العباد بالأخذ به ، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة ، كان حقا هو الله وحده .
ثم مرة أخرى : هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، برهان آخر في صور متعددة ، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدوس ، الملك المهيمن على ملكه القدوس ، المسلم من كل نقص ، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] .
وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معا عالم الغيب والشهادة ، والملك القدوس والسلام المهيمن ، فنجدها مترابطة متلازمة ؛ لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه .
[ ص: 77 ] والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه ، فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات : العلم والملك والتقديس والهيمنة ، حصل الكمال والجلال ، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر ، ولا يشركه أحد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى ، وهنا ، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد .
و ( البارئ ) الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير ، وليس كل من قدر شيئا أوجده إلا الله .
و ( المصور ) المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها ، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى ، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه .
وبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق ، فإن الخلق والتقدير لابد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب ، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة ، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره .
و ( المهيمن ) : يسير ما يوجده على مقتضى ما يقدره .
والذي قدر فهدى ، العزيز الذي لا يقهر الجبار الذي يقهر كل شيء لإرادته ، وتقديره ، ويخضعه لهيمنته .
( المتكبر ) الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق ، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته ، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون .
وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم : هو الله الخالق البارئ المصور وهو أعظم دليل كما تقدم ، وهو كما قال : دليل الإلزام ؛ لأن الخلق لابد لهم من خالق ، وهذه قضية منطقية مسلمة ، وهي أن كل موجود لابد له من موجد ، وقد ألزمهم في قوله تعالى : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وهذا بالسير والتقسيم أن يقال : إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي : من العدم ، ومعلوم أن [ ص: 78 ] العدم لا يخلق شيئا ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، والعدم ليس أمرا وجوديا حتى يمكن له أن يوجد موجودا .
أم هم الخالقون ؟
وهم أيضا يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم ، فيبقى المخلوق لابد له من خالق ، وهو الله تعالى : الخالق البارئ .
ولو قيل من جانب المنكر : إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها ، كالأبوين للحيوان ، وكالحرث والسقي للنبات . . . إلخ ، فجاء قوله تعالى : المصور ، فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذكورة أو الأنوثة ، أو من جنس اللون ، والطول والقصر والشبه ؟
الجواب : لا وكلا ، بل ذلك لله وحده ، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ، كما قال تعالى : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 ] .
وكذلك في النبات توضع الحبة وتسقى بالماء ، فالتربة واحدة ، والماء واحد ، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض ، وذاك نبت على ساق ، وهذا كرم على عرش ، وذاك نخل باسقات ، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها ، من استدارتها أو استطالتها أو غير ذلك ؟ وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض ؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معا ، لا وكلا . إنه هو الله الخالق البارئ المصور ، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض طوعا وكرها .
وهنا عود على بدء يختم السورة بما بدأت به مع بيان موجباته واستحقاقه ، وآيات وحدانيته ، سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم .
[ ص: 79 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ .
نَهَى تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْعَدُوِّ الْمُشْرِكِ أَوْلِيَاءَ ، وَلَفْظُ الْعَدُوِّ مُفْرَدٌ ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْفَرْدِ وَالْجَمَاعَةِ .
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْفَرْدِ قَوْلُهُ تَعَالَى : فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [ 20 \ 117 ] يَعْنِي بِالْعَدُوِّ إِبْلِيسَ .
وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الْجَمْعِ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [ 18 \ 50 ] ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْجَمْعُ لِمَا فِي السِّيَاقِ مِنَ الْقَرَائِنِ مِنْهَا قَوْلُهُ ( أَوْلِيَاءَ ) بِالْجَمْعِ ، وَمِنْهَا : تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ ، وَمِنْهَا : وَقَدْ كَفَرُوا بِوَاوِ الْجَمْعِ ، وَمِنْهَا يُخْرِجُونَ أَيْضًا بِالْجَمْعِ ، وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا : إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا [ 60 \ 2 ] وَكُلُّهَا بِضَمَائِرِ الْجَمْعِ .
أَمَّا الْعَدُوُّ الْمُرَادُ هُنَا فَقَدْ عَمَّ وَخَصَّ فِي وَصْفِهِ فَوَصَفَهُ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ : وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ، وَخَصَّ بِوَصْفِهِ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ ، وَالْوَصْفُ بِالْكُفْرِ يَشْمَلُ الْجَمِيعَ ، فَيَكُونُ ذِكْرُهُمَا مَعًا لِلتَّأْكِيدِ وَالِاهْتِمَامِ بِالْخَاصِّ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [ 2 \ 98 ] فَفِي ذِكْرِ الْخَاصِّ هُنَا وَهُوَ وَصْفُ الْعَدُوِّ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِين َ لِلتَّهْيِيجِ عَلَى مَنْ أَخْرَجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ كَقَوْلِهِ : وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ [ 2 \ 191 ] .
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى الْمُرَادَ بِالَّذِينِ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَالْمُؤْمِنِين َ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [ 47 \ 13 ] أَيْ : مَكَّةَ ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ : إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [ ص: 80 ] [ 9 \ 40 ] الْآيَةَ .
فَعَلَيْهِ يَكُونُ الْمُرَادُ بِعَدُوِّي وَعَدُوِّكُمْ هُنَا خُصُوصَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ .
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ، وَقِصَّةِ الرِّسَالَةِ مَعَ الظَّعِينَةِ لِأَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ الْفَتْحِ بِإِخْبَارِهِمْ بِتَجَهُّزِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُؤَيِّدُ الْمُرَادَ بِالْعَدُوِّ هُنَا ، وَلَكِنْ ، وَإِنْ كَانَتْ بِصُورَةِ السَّبَبِ قَطْعِيَّةَ الدُّخُولِ إِلَّا أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ لَا يُهْمَلُ ، فَقَوْلُهُ : عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ، وَقَوْلُهُ : وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ كَالْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى ، وَالْمُنَافِقِي نَ ، وَمَنْ تَجَدَّدَ مِنَ الطَّوَائِفِ الْحَدِيثَةِ .
وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ عَلَى كُلِّ طَائِفَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ ، فَفِي سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ عَنِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ [ 58 \ 14 ] .
وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - .
وَعَنِ الْيَهُودِ فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " كَمَا تَقَدَّمَ ، وَعَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [ 5 \ 51 ] .
وَمِنَ الطَّوَائِفِ الْمُحْدَثَةِ كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ مِنْ شُيُوعِيَّةٍ وَغَيْرِهِمْ ، وَكَالْهِنْدُوك ِيَّةِ ، وَالْبُوذِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ ، وَمِمَّا يَتْبَعُ هَذَا الْعُمُومَ مَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [ 5 \ 57 - 58 ] .
فَكُلُّ مَنْ هَزِئَ بِشَيْءٍ مِنَ الدِّينِ أَوِ اتَّخَذَهُ لَعِبًا وَلَهْوًا فَإِنَّهُ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ تَنَاوُلِ هَذِهِ الْآيَةِ إِيَّاهُ .
تَنْبِيهٌ
ذِكْرُ الْمُقَابَلَةِ هُنَا بَيْنَ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ فِيهِ إِبْرَازُ صُورَةِ الْحَالِ وَتَقْبِيحُ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تَتَنَافَى مَعَ الْمُوَالَاةِ وَالْمُسَارَّةِ لِلْعَدُوِّ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ نَاقَشَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ قَضِيَّةَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي تَقْدِيمِ عَدُوِّي أَوَّلًا ، وَعَطْفِ عَدُوِّكُمْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ : التَّقْدِيمُ لِأَنَّ عَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِدُونِ عِلَّةٍ ، وَعَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ لِعِلَّةٍ ، وَمَا كَانَ بِدُونِ عِلَّةٍ فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى [ ص: 81 ] مَا كَانَ بِعِلَّةٍ . ا هـ .
وَالَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ ، وَبَلَاغِيٍّ ، وَهُوَ أَنَّ عَدَاوَةَ الْعَبْدِ لِلَّهِ هِيَ الْأَصْلُ ، وَهِيَ أَشَدُّ قُبْحًا ، فَلِذَا قُدِّمَتْ ، وَقُبْحُهَا فِي أَنَّهُمْ عَبَدُوا غَيْرَ خَالِقِهِمْ ، وَشَكَرُوا غَيْرَ رَازِقِهِمْ ، وَكَذَّبُوا رُسُلَ رَبِّهِمْ وَآذَوْهُمْ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ الْقُدْسِيَّةِ مَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ فِي ذَلِكَ فِيمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ عَنْ مُعَاذٍ ، وَالدَّيْلَمِيّ ُ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ مَا نَصُّهُ : " إِنِّي وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ فِي نَبَأٍ عَظِيمٍ أَخْلُقُ وَيُعْبُدُ غَيْرِي ، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْرِي " وَفِيهِ " خَيْرِي إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ ، وَشَرُّهُمْ إِلَيَّ صَاعِدٌ أَتَحَبَّبُ إِلَيْهِمْ بِالنِّعَمِ وَيَتَبَغَّضُون َ إِلَيَّ بِالْمَعَاصِي " كَمَا أَنَّ تَقْدِيمَهُ يُؤَكِّدُ بِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ فِي الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ ، وَمَا كَانَ سَبَبًا فَحَقُّهُ التَّقْدِيمُ .
وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ الْأَصْلُ ، أَنَّ الْكَفَّارَ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَانْتَفَتْ عَدَاوَتُهُمْ لِلَّهِ لَأَصْبَحُوا إِخْوَانًا لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَانْتَفَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَا كَوْنُهُ مُغَيًّا بِغَايَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ 4 \ 89 ] ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ : وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ 60 \ 4 ] فَإِذَا هَاجَرَ الْمُشْرِكُونَ وَآمَنَ الْكَافِرُونَ ، انْتَفَتِ الْعَدَاوَةُ وَجَاءَتِ الْمُوَالَاةُ .
وَمِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سَبَبَ النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْأَعْدَاءِ ، هُوَ الْكُفْرُ يُعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَتْ عَدَاوَةٌ لَا لِسَبَبِ الْكُفْرِ فَلَا يُنْهَى عَنْ تِلْكَ الْمُوَالَاةِ ؛ لِتَخَلُّفِ الْعِلَّةِ الْأَسَاسِيَّةِ ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [ 64 \ 14 ] ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ 64 \ 14 ] .
فَلَمَّا تَخَلَّفَ السَّبَبُ الْأَسَاسِيُّ فِي النَّهْيِ عَنْ مُوَالَاةِ الْعَدُوِّ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ ، جَاءَ الْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَالْغُفْرَانِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَدَاوَةَ لِسَبَبٍ آخَرَ هُوَ مَا بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [ 64 \ 15 ] ، فَكَانَ مُقْتَضَاهَا فَقَطِ الْحَذَرُ مِنْ أَنْ يَفْتِنُوهُ ، وَكَانَ مُقْتَضَى الزَّوْجِيَّةِ حُسْنَ الْعِشْرَةِ ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ . وَسَيَأْتِي زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَدْ نَصَّ صَرَاحَةً عَلَى عَدَمِ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي خُصُوصِ مَنْ لَمْ يُعَادُوهُمْ فِي الدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [ ص: 82 ] الْآيَةَ [ 60 \ 8 ] .
وَلِلْمُوَالَاة ِ أَحْكَامٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ ، وَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ مِنَ الْأَضْوَاءِ :
مِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ 5 \ 51 ] ، وَقَدْ أَطَالَ الْبَحْثَ فِيهَا .
وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الثَّالِثِ عُرِضَ ضِمْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [ 17 \ 9 ] ، وَبَيْنَ رَوَابِطِ الْعَالَمِ الْإِسْلَامِيِّ بِتَوَسُّعٍ .
وَمِنْهَا فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : أَفَتَتَّخِذُون َهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ [ 18 \ 50 ] الْآيَةَ .
وَمِنْهَا فِي مَخْطُوطِ السَّابِعِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ [ 47 \ 26 ] ، وَأَحَالَ فِيهَا عَلَى آيَةِ " الْمُمْتَحَنَةِ " هَذِهِ .
وَمِنْهَا أَيْضًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [ 47 \ 26 ] ، وَأَحَالَ عِنْدَهَا عَلَى مَوَاضِعَ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ سُورَةِ " الشُّورَى " " وَبَنِي إِسْرَائِيلَ " .
وَمِنْهَا فِي سُورَةِ " الْمُجَادِلَةِ " عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [ 58 \ 14 ] .
وَفِيمَا كَتَبَهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - بَيَانٌ لِكُلِّ جَوَانِبِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ ، غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَجِدْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - تَعَرَّضَ لِمَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ خُصُوصِ التَّخْصِيصِ لِلْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ الْآيَةَ [ 60 \ 8 ] .
وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِيهَا شَيْئًا مَعَ أَنَّهَا نَصٌّ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَسَيَأْتِي لَهَا بَيَانٌ لِذَلِكَ عِنْدَهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
تَنْبِيهٌ
رَدُّ أَهْلِ السُّنَّةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ قَوْلَهُمْ : إِنَّ الْمَعْصِيَةَ تُنَافِي الْإِيمَانَ ؛ [ ص: 83 ] لِأَنَّ اللَّهَ نَادَاهُمْ بِوَصْفِ الْإِيمَانِ مَعَ قَوْلِهِ : وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ، فَلَمْ يُخْرِجْهُمْ بِضَلَالِهِمْ عَنْ عُمُومِ إِيمَانِهِمْ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَنَّ الضَّلَالَ هُنَا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ لَا مُطْلَقَ السَّبِيلِ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (541)
سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
صـ 83 إلى صـ 90
قوله تعالى : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون .
( يثقفوكم ) أي : يدركوكم ، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ، والرمح المثقف المقوم .
قال الراغب : ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة ، قال تعالى : واقتلوهم حيث ثقفتموهم [ 2 \ 191 ] ، وقال : فإما تثقفنهم في الحرب [ 8 \ 57 ] ا هـ .
فهذه نصوص القرآن في أن الثقافة بمعنى الإدراك ، وقوله تعالى : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء الآية ، نص على أن العداوة وبسط اليد واللسان بالسوء يكون بعد أن يثقفوهم مع أن العداء سابق بإخراجهم إياهم من ديارهم ، فيكون هذا من باب التهييج وشدة التحذير ، وأن الذي يكون بعد الشرط هو بسط الأيدي بالسوء ؛ لأنهم الآن لا يقدرون عليهم بسبب الهجرة ، ومن أدلة القرآن على وجود العداوة بالفعل لدى عموم من دون المؤمنين في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر [ 3 \ 118 ] فقوله : من دونكم يشمل المشركين ، والمنافقين ، وأهل الكتاب ، وقوله : ودوا ما عنتم ، أي : في الحاضر ، وقوله : قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر لم يتوقف على الشرط المذكور في إن يثقفوكم ، فهم أعداء ، وقد بدت منهم البغضاء قولا وفعلا .
وعلى هذا تكون الآية إعلان المقاطعة بين المؤمنين ، ومن دونهم وقوله : وودوا لو تكفرون ، قد بين تعالى سبب ذلك بأنه الحسد كما في قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] .
وقال تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا إلى قوله : [ ص: 84 ] ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء [ 4 \ 88 - 89 ] .
قوله تعالى : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم .
الأرحام تستعمل في القرآن لعموم القرابة ، كقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ 8 \ 75 ] ، وقوله تعالى : يفصل بينكم أي : بتقطع الأنساب بينهم ، كما بينه تعالى بقوله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .
وقد بين تعالى نتيجة هذا الفصل بينهم يوم القيامة في قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 34 - 37 ] ، وقوله في موضع آخر : وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه [ 70 \ 12 ] ، فعمت جميع الأقارب وبينت سبب الفصل بينهم ، وما يترتب عليه .
وهذه الآية خطاب للمؤمنين في ذوي أرحامهم من المشركين ، كما في قصة سبب النزول في أمر حاطب بن أبي بلتعة في إرساله الخطاب لأهل مكة قبيل الفتح بأمر التجهز لهم .
ومفهوم الوصف في أول السياق عدوي وعدوكم ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يدل بمفهوم المخالفة أن أولي الأرحام من المؤمنين قد لا يفصل بينهم يوم القيامة .
ويدل لهذا المفهوم قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [ 52 \ 21 ] ، وقوله تعالى في دعاء الملائكة من حملة العرش للمؤمنين : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم [ 40 \ 8 ] .
وهذه الآية بيان واضح في أن روابط الدين أقوى وألزم من روابط النسب .
وهذا المعنى بالذات تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] والآية الآتية بيان واضح لحقيقة هذا المعنى وشموله في جميع الأمم .
[ ص: 85 ] قوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك .
الأسوة كالقدوة ، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة ، ولذا قال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وهنا أيضا : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه [ 60 \ 4 ] .
وقد بين تعالى هذا التأسي المطلوب ، وذلك بقوله : إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية .
فالتأسي هنا في ثلاثة أمور :
أولا : التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله .
ثانيا : الكفر بهم .
ثالثا : إبداء العداوة والبغضاء وإعلانها وإظهارها أبدا إلى الغاية المذكورة حتى يؤمنوا بالله وحده ، وهذا غاية في القطيعة بينهم وبين قومهم ، وزيادة عليها إبداء العداوة والبغضاء أبدا ، والسبب في ذلك هو الكفر ، فإذا آمنوا بالله وحده انتفى كل ذلك بينهم .
وهنا سؤال ، هو موضع الأسوة إبراهيم والذين معه بدليل العطف بينهما .
وقوله تعالى : في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم فقائل القول لقومهم إبراهيم والذين مع إبراهيم ، وهذا محل التأسي بهم فيما قالوه لقومهم .
وقوله تعالى : إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، فهذا القول من إبراهيم ليس موضع التأسي ، وموضع التأسي المطلوب في إبراهيم - عليه السلام - هو ما قاله مع قومه المتقدم جملة ، وما فصله تعالى في موضع آخر في قوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 43 \ 26 - 27 ] وهذا التبرؤ جعله باقيا في عقبه ، كما قال تعالى : وجعلها كلمة باقية في عقبه [ 43 \ 28 ] .
وقوله تعالى : إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك الآية ، لم يبين هنا سبب هذا [ ص: 86 ] الاستثناء وهل هو خاص بإبراهيم لأبيه ، أم لماذا ؟
وقد بينه تعالى في موضع آخر في قوله تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] ، تلك الموعدة التي كانت له عليه في بادئ دعوته حينما قال له أبوه : أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا [ 19 \ 46 - 47 ] ، فكان قد وعده ووفى بعهده ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، فكان محل التأسي في إبراهيم في هذا التبرؤ من أبيه ، لما تبين له أنه عدو لله .
وقد جاء ما يدل على أنها قضية عامة وليست خاصة في إبراهيم - عليه السلام - كما في قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] ، وفي هذه الآية وما قبلها أقوى دليل على أن دين الإسلام ليست فيه تبعية أحد لأحد ، بل كل نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .
ومن عجب أن يأتي نظير موقف إبراهيم من أبيه مواقف مماثلة في أمم متعددة ، منها موقف نوح - عليه السلام - من ابنه لما قال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين [ 11 \ 45 ] ، فلما تبين له أمره أيضا من قوله تعالى : يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح [ 11 \ 46 ] قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم الآية [ 11 \ 47 ] ، فكان موقف نوح من ولده كموقف إبراهيم من أبيه .
ومنها : موقف نوح ولوط من أزواجهما في قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا الآية [ 66 \ 10 ] .
ومنها : موقف زوجة فرعون من فرعون في قوله تعالى : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين [ 66 \ 11 ] ، فتبرأت الزوجة من زوجها ، وهذا التأسي قد بين تمام البيان معنى قوله تعالى : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم [ 60 \ 3 ] أي : ولا آباؤكم ، ولا أحد من أقربائكم ، يوم القيامة يفصل بينكم ، وقول إبراهيم لأبيه : وما أملك لك من الله من شيء [ ص: 87 ] بينه ما قدمنا من أن الإسلام ليس فيه تبعية ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وكل نفس بما كسبت رهينة .
وقوله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا [ 6 \ 158 ] ، وقوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [ 82 \ 19 ] .
وقد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - محاضرة في كنو بنيجيريا في مجتمع فيه من يتعلق ببعض الأشخاص في اعتقاداتهم ، فعرض هذا الموضوع ، وبين عدم استطاعة أحد نفع أحد فكان لها وقع عظيم الأثر في النفوس ، ولعل الله ييسر طبعها مع طبع جميع محاضراته في تلك الرحلة الميمونة .
مسألة
جعل بعض المفسرين هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا شرع لنا بدليل التأسي بإبراهيم - عليه السلام - والذين معه ، وتحقيق هذه المسألة في كتب الأصول ، وهذه الآية وإن كانت دالة في الجملة على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إلا أنها ليست نصا في محل النزاع .
وقد قسم الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - حكم المسألة إلى ثلاثة أقسام :
قسم هو شرع لنا قطعا ، وهو ما جاء في شرعنا أنه شرع لنا كآية الرجم ، وكهذه الآية في العداوة والموالاة ، وإما ليس بشرع لنا قطعا كتحريم العمل يوم السبت ، وتحريم بعض الشحوم ، إلخ .
وقسم ثالث : وهو محل النزاع ، وهو ما ذكر لنا في القرآن ، ولم نؤمر به ولم ننه عنه .
فالجمهور على أنه شرع لنا لذكره لنا ، لأنه لو لم يكن شرعا لنا لما كان لذكره لنا فائدة ، واستدلوا بقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] ، وبهذه الآية أيضا ، والشافعي يعارض في هذا القسم ويقول : الآية في العقائد لا في الفروع ، ويستدل بقوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [ 5 \ 48 ] ، وعلى هذا التقسيم [ ص: 88 ] المذكور ، فالآية ليست نصا في محل النزاع ؛ لأننا أمرنا بالتأسي به في معين جاء في شرعنا الأمر به في أول السورة .
تنبيه
يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم أن الخلاف بين الشافعي ، والجمهور يكاد يكون شكليا ، وكل محجوج بما حج به الآخر ، وذلك كالآتي :
أولا : قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، يدل على وجود شرعة وعلى وجود منهاج ، فإذا جئنا لاستدلال الجمهور : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، لم نجد فيه ذكر المنهاج ، ونجد واقع التشريع ، أن منهاج ما شرع لنا يغاير منهاج ما شرع لمن قبلنا كما في مشروعية الصيام قال تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم [ 2 \ 183 ] ، وهذا يتفق في أصل الشرعة ، ولكن جاء ما يبين الاختلاف في المنهاج في قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] ومعنى ذلك أنه كان محرما ، وهو ضمن منهاج من قبلنا وشرعتهم فاتفقنا معهم في الشرعة ، واختلف منهجنا عن منهجهم بإحلال ما كان منه حراما ، وهذا ملزم للجمهور ، وهكذا بقية أركان الإسلام في الصلاة فهي مشروعة للجميع ، كما في قوله تعالى : أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود [ 2 \ 125 ] ، وقوله : ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم [ 14 \ 37 ] وقوله عن عيسى : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] ، وغير ذلك .
وفي الحج : ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 97 ] ، وقوله : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا الآية [ 22 \ 27 ] ، فجميع الأركان ، وهي فروع لا عقائد مشروعة في جميع الأديان على جميع الأمم ، فاشتركنا معهم في المشروعية ، ولكن هل كانت كلها كمنهجها عندنا في أوقاتها وأعدادها وكيفياتها ، لقد وجدنا المغايرة في الصوم واضحة ، وهكذا في غيرها ، فالشرعة عامة للجميع والمنهاج خاص كما يقول الشافعي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد .
[ ص: 89 ] إعادة هذه الآية تأكيد على معنى الآية الأولى .
وقوله : لمن كان يرجو الله واليوم الآخر يفسره ما تقدم من قوله : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي [ 60 \ 1 ] ؛ لأنها تساويها في الماصدق ، وهنا جاء بهذا اللفظ ليدل على العموم ، وتكون قضية عامة فيما بعد لكل من يرجو الله واليوم الآخر ، أن يتأسى بإبراهيم - عليه السلام - والذين معه في موقفهم المتقدم .
وقوله تعالى : ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ، التولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموما .
وهنا يحتمل تولي الكفار وموالاتهم ، فإن الله غني عنه حميد .
قال ابن عباس : كمل في غناه ، ومثله قوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله [ 64 \ 6 ] .
وقد جاء بيان استغناء الله عن طاعة الطائعين عموما وخصوصا فجاء في خصوص الحج : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .
وجاء في العموم قوله تعالى : إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] ؛ لأن أعمال العباد لأنفسهم ، كما قال تعالى : ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [ 29 \ 6 ] .
وكما في الحديث القدسي : " لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا " .
وقد بين تعالى غناه المطلق بقوله : لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد [ 31 \ 26 ] .
قوله تعالى : عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم .
لم يبين هنا هل جعل المودة بالفعل بينهم ، وبين من عادوهم وأمروا بمقاطعتهم وعدم موالاتهم من ذوي أرحامهم أم لا ؟ ولكن عسى من الله للتأكيد ، والتذييل بقوله تعالى : [ ص: 90 ] والله قدير يشعر بأنه فاعل ذلك لهم ، وقد جاء ما يدل على أنه فعله فعلا في سورة " النصر " حين دخل الناس في دين الله أفواجا ، وقد فتح الله عليهم مكة وكانوا طلقاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك موقف أبي سفيان وغيره ، وعام الوفود إلى المدينة بعد الفتح ، وفي التذييل بأن الله قدير ، يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده ، كما بينه قوله تعالى : لو أنفقت ما في الأرض جميعا الآية [ 8 \ 63 ] .
ولأن المودة المتوقعة بسبب هداية الكفار ، والهداية منحة من الله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .
اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة من الآية في أول السورة ، ولكن في هاتين الآيتين صنفان من الأعداء وقسمان من المعاملة :
الصنف الأول : عدو لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم ، فهؤلاء تعالى في حقهم : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم .
والصنف الثاني : قاتلوا المسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وظاهروا على إخراجهم ، وهؤلاء يقول تعالى فيهم : إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم .
إذا فهما قسمان مختلفان وحكمان متغايران ، وإن كان القسمان لم يخرجا عن عموم عدوي وعدوكم المتقدم في أول السورة ، وقد اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة بعد النهي المتقدم ، ثم إنها نسخت بآية السيف أو غيرها على ما سيأتي .
واعتبر الآية الثانية تأكيدا للنهي الأول ، وناقش بعض المفسرين دعوى النسخ في الأولى ، واختلفوا فيمن نزلت ومن المقصود منها ، والواقع أن الآيتين تقسيم لعموم العدو المتقدم في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ 60 \ 1 ] ، مع بيان كل قسم وحكمه ، كما تدل له قرائن في الآية الأولى ، وقرائن في هاتين الآيتين على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (542)
سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
صـ 91 إلى صـ 98
أما التقسيم فقسمان : قسم مسالم لم يقاتل المسلمين ، ولم يخرجهم من ديارهم ، [ ص: 91 ] فلم ينه الله المسلمين عن برهم والإقساط إليهم ، وقسم غير مسالم يقاتل المسلمين ويخرجهم من ديارهم ويظاهر على إخراجهم ، فنهى الله المسلمين عن موالاتهم ، وفرق بين الإذن بالبر والقسط ، و بين النهي عن الموالاة والمودة ، ويشهد لهذا التقسيم ما في الآية الأولى من قرائن ، وهي عموم الوصف بالكفر ، وخصوص الوصف بإخراج الرسول وإياكم .
ومعلوم أن إخراج الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين من ديارهم كان نتيجة لقتالهم وإيذائهم ، فهذا القسم هو المعني بالنهي عن موالاته لموقفه المعادي ؛ لأن المعاداة تنافي الموالاة .
ولذا عقب عليه بقوله تعالى : ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ، فأي ظلم بعد موالاة الفرد لأعداء أمته وأعداء الله ورسوله .
أما القسم العام وهم الذين كفروا بما جاءهم من الحق لكنهم لم يعادوا المسلمين في دينهم لا بقتال ، ولا بإخراج ، ولا بمعاونة غيرهم عليهم ولا ظاهروا على إخراجهم ، فهؤلاء من جانب ليسوا محلا للموالاة لكفرهم ، وليس منهم ما يمنع برهم والإقساط إليهم .
وعلى هذا فإن الآية الثانية ليس فيها جديد بحث بعد البحث المتقدم في أول السورة ، وبقي البحث في الآية الأولى ، ومن جانبين : الأول : بيان من المعني بها ، والثاني : بيان حكمها ، وهل هي محكمة أم نسخت .
وقد اختلفت أقوال المفسرين في الأمرين ، ولأهمية هذا المبحث وحاجة الأمة إليه في كل وقت ، وأشد ما تكون في هذا العصر لقوة تشابك مصالح العالم وعمق تداخلها ، وترابط بعضه ببعض في جميع المجالات ، وعدم انفكاك دولة عن أخرى مما يزيد من وجوب الاهتمام بهذا الموضوع .
وإني مستعين الله في إيراد ما قيل فيها ، ثم مقدم ما يمكن أخذه من مجموع أقوال المفسرين ، وكلام الشيخ - رحمة الله عليه .
القول الأول إنها منسوخة ، قال القرطبي عن أبي زيد : أنها كانت في أول الإسلام زمن الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخت ، قيل بآية : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ 9 \ 5 ] قاله قتادة .
[ ص: 92 ] وقيل : كانت في أهل الصلح فلما زال زال حكمها وانتهى العمل بها بعد فتح مكة .
وقيل : هي من أصحاب العهد حتى ينتهي عهدهم أو ينبذ إليهم أي أنها كانت مؤقتة بوقت ومرتبطة بقوم .
وقيل : إنها كانت في العاجزين عن القتال من النساء والصبيان من المشركين .
وقيل : إنها في ضعفة المؤمنين عن الهجرة حينما كانت الهجرة واجبة ، فلم يستطيعوا ، وعلى كل هذه الأقوال تكون قد نسخت ، بفوات وقتها وذهاب من عني بها .
والقول الثاني : إنها محكمة قاله أيضا القرطبي ونقله عن أكثر أهل التأويل ، ونقل من أدلتهم أنها نزلت في أم أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - جاءت إليها وهي لم تسلم بعد وكان بعد الهجرة ، وجاءت لابنتها بهدايا فأبت أن تقبلها منها وأن تستقبلها حتى تستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذن لها وأمرها بصلتها وعزاه للبخاري ومسلم .
وقال غيره : ذكره البخاري في تاريخه ، وذكر عن الماوردي أن قدومها كان في وقت الهدنة ، ومعلوم أن وقت الهدنة من القسم الأول الذي قيل : إنه منسوخ أي بانتهائها ، وعليه فالآية دائرة عند المفسرين بين الإحكام والنسخ .
وإذا رجعنا إلى سبب نزول السورة وتقيدنا بصورة السبب ، نجد أولها نزل بعد انتهاء العهد بنقض المشركين إياه ، وعند تهيئ المسلمين لفتح مكة ، ومجيء أم أسماء وإن كان بعد الهدنة فهل كان النساء داخلات في العهد أم لا ؟ لعدم التصريح بذكرهن .
وعليه فلا دلالة في قصة أم أسماء على عدم النسخ ولا على إثباته .
وإذا رجعنا إلى عموم اللفظ نجد الآية صريحة شاملة لكل من لم يناصب المسلمين العداء ، ولم يظهر سوءا إليهم ، وهي في الكفار أقرب منها في المسلمين ؛ لأن الإحسان إلى ضعفة المسلمين معلوم بالضرورة الشرعية ، وعليه فإن دعوى النسخ تحتاج إلى دليل قوي يقاوم صراحة هذا النص الشامل ، وتوفر شروط النسخ المعلومة في أصول التفسير .
ويؤيد عدم النسخ ما نقله القرطبي عن أكثر أهل التأويل أنها محكمة ، وكذلك كلام الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : إلا أن تتقوا منهم تقاة [ 3 \ 28 ] بأن ذلك رخصة في حالة الخوف والضعف مع اشتراط سلامة الداخل في القلب ، فإن مفهومه [ ص: 93 ] أنها محكمة وباق العمل بها عند اللزوم ، ومفهومه أن المؤمنين إذا كانوا في حالة قوة وعدم خوف وفي مأمن منهم ، وليس منهم قتال ، وهم في غاية من المسالمة فلا مانع من برهم بالعدل والإقساط معهم ، وهذا مما يرفع من شأن الإسلام والمسلمين ، بل وفيه دعوة إلى الإسلام بحسن المعاملة ، وتأليف القلوب بالإحسان إلى من أحسن إليهم ، وعدم معاداة من لم يعادهم ، ومما يدل لذلك من القرائن التي نوهنا عنها سابقا ما جاء في التذييل لهذه الآية بقوله تعالى : إن الله يحب المقسطين فهذا ترشيح لما قدمنا كما قابل هذا بالتذييل على الآية الأخرى : ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ، ففيه مقابلة بين العدل والظلم فالعدل في الإحسان ، والقسط لمن يسالمك ، والظلم ممن يوالي من يعادي قومه .
ومما ينفي النسخ عدم التعارض بين هذا المعنى ، وبين آية السيف ، لأن شرط النسخ التعارض ، وعدم إمكان الجمع ، ومعرفة التاريخ ، والجمع هنا ممكن والتعارض منفي ، وذلك لأن الأمر بالقتال لا يمنع الإحسان قبله ، كما أن المسلمين ما كانوا ليفاجئوا قوما بقتال حتى يدعوهم إلى الإسلام ، وهذا من الإحسان قطعا ، ولأنهم قبلوا من أهل الكتاب الجزية ، وعاملوا أهل الذمة بكل إحسان وعدالة .
وقصة الظعينة في صحيح البخاري صاحبة المزادتين لم يقاتلوها أو يأسروها أو يستبيحوا ماءها بل استاقوها بمائها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ من مزادتيها قليلا ، ودعا فيه ورده ، ثم استقوا وقال لها : اعلمي أن الله هو الذي سقانا ولم تنقص من مزادتيك شيئا ، وأكرموها وأحسنوا إليها ، وجمعوا لها طعاما ، وأرسلوها في سبيلها فكانت تذكر ذلك ، وتدعو قومها للإسلام .
وقصة ثمامة لما جيء به أسيرا وربط في سارية المسجد ، وبعد أن أصبح عاجزا عن القتال لم يمنعهم من الإحسان إليه ، فكان يراح عليه كل يوم بحليب سبع نياق حتى فك أسره فأسلم طواعية ، وهكذا نص قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله الآية [ 76 \ 8 - 9 ] .
ومعلوم أنه لم يكن ثم أسير بيد المسلمين إلا من الكفار .
وفي سنة تسع وهي سنة الوفود ، فكان يقدم إلى المدينة المسلمون وغير المسلمين ، فيتلقون الجميع بالبر والإحسان كوفد نجران وغيرهم وهاهو ذا وفد تميم جاء يفاخر [ ص: 94 ] ويفاوض في أسارى له ، فيأذن لهم - صلى الله عليه وسلم - ويستمع مفاخرتهم ويأمر من يرد عليهم من المسلمين ، وفي النهاية يسلمون ويجيزهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجوائز ، وهذا أقوى دليل على عدم النسخ ، لأن وفدا يأتي متحديا مفاخرا لكنه لم يقاتل ولم يظاهر على إخراجهم من ديارهم ، وجاء في أمر جار في عرف العرب فجاراهم فيه - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أعلن لهم أنه ما بالمفاخرة بعث ، ولكن ترفقا بهم ، وإحسانا إليهم ، وتأليفا لقلوبهم ، وقد كان فأسلموا ، وهذا ما تعطيه جميع الأقوال التي قدمناها .
وقد بحث إمام المفسرين الطبري هذه المسألة من نواحي النقل وأخيرا ختم بحثه بقوله ما نصه : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال عنى بذلك قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم إن الله عز وجل عم بقوله : الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ، جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضا دون بعض ، ولا معنى لقول من قال : ذلك منسوخ ؛ لأن بر المؤمنين من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب أو ممن لا قرابة بينه ولا نسب غير محرم ، ولا منهي عنه ، إذا لم يكن في ذلك دلالة له أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام ، أو تقوية لهم بكراع أو سلاح .
وقد بينا صحة ما قلنا في ذلك الخبر الذي ذكرناه عن الزبير في قصة أسماء وأمها .
وقوله : إن الله يحب المقسطين ، يقول إن الله يحب المنصفين الذين ينصفون الناس ويعطونهم الحق والعدل من أنفسهم ، فيبرون من برهم ، ويحسنون إلى من أحسن إليهم ، انتهى منه .
وفي تفسير آيات الأحكام للشافعي - رحمه الله - مبحث هام نسوقه أيضا بنصه لأهميته :
قال الله عز وجل : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، قال : يقال والله أعلم : إن بعض المسلمين تأثر من صلة المشركين أحسب ذلك لما نزل فرض جهادهم وقطع الولاية بينهم وبينهم ونزل : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله [ 58 \ 22 ] ، فلما خافوا أن تكون المودة الصلة بالمال أنزل : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [ ص: 95 ] وقال الشافعي رحمه الله : وكانت الصلة بالمال ، والبر ، والإقساط ، ولين الكلام ، والمراسلة بحكم الله غير ما نهوا عنه من الولاية لمن نهوا عن ولايته مع المظاهرة على المسلمين ، وذلك لأنه أباح بر من لم يظاهر عليهم من المشركين والإقساط إليهم ولم يحرم ذلك إلى من لم يظاهر عليهم بل ذكر الذين ظاهروا عليهم فناهم عن ولايتهم إذ كان الولاية غير البر والإقساط ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - فادى بعض أسارى بدر ، وقد كان أبو عزة الجمحي ممن من عليه ، وقد كان معروفا بعداوته والتأليب عليه بنفسه ولسانه ، ومن بعد بدر على ثمامة بن أثال ، وكان معروفا بعداوته ، وأمر بقتله ثم من عليه بعد أسره وأسلم ثمامة وحبس الميرة عن أهل مكة فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأذن له أن يميرهم فأذن له فمارهم .
وقال الله عز وجل : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] ، والأسرى يكونون ممن حاد الله ورسوله . ا هـ منه .
وهذا الذي صوبه ابن جرير وصححه الشافعي - رحمه الله - الذي تقتضيه روح التشريع الإسلامي ، أما وجهة النظر التي وعدنا بتقديمها فهي أن المسلمين اليوم مشتركة مصالحهم بعضهم ببعض ومرتبطة بمجموع دول العالم من مشركين وأهل كتاب ، ولا يمكن لأمة اليوم أن تعيش منعزلة عن المجموعة الدولية ؛ لتداخل المصالح وتشابكها ، ولاسيما في المجال الاقتصادي عصب الحياة اليوم من إنتاج أو تصنيع أو تسويق ، فعلى هذا تكون الآية مساعدة على جواز التعامل مع أولئك المسالمين ومبادلتهم مصلحة بمصلحة على أساس ما قاله ابن جرير ، وبينه الشافعي ، وذكره الشيخ - رحمة الله عليه - في حقيقة موقف المسلمين اليوم من الحضارة الغربية في عدة مناسبات من محاضراته ومن الأضواء نفسه ، وبشرط ما قاله الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - من سلامة الداخل أي : عدم الميل بالقلب ، ولو قيل بشرط آخر وهو مع عدم وجود تلك المصلحة عند المسلمين أنفسهم ، أي أن العالم الإسلامي يتعاون أولا مع بعضه ، فإذا أعوزه أو بعض دوله حاجة عند غير المسلمين ممن لم يقاتلوهم ولم يظاهروا عدوا على قتالهم فلا مانع من التعاون مع تلك الدولة في ذلك ، ومما يؤيد كل ما تقدم عمليا معاملة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه من بعده لليهود في خيبر .
فمما لا شك فيه أنهم داخلون أولا في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ ص: 96 ] [ 60 \ 1 ] ، ومنصوص على عدم موالاتهم في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [ 5 \ 51 ] .
ومع ذلك لما أخرجهم - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وحاصرهم بعدها في خيبر ، وفتحها الله عليه وأصبحوا في قبضة يده فلم يكونوا بعد ذلك في موقف المقاتلين ، ولا مظاهرين على إخراج المسلمين من ديارهم عاملهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقسط فعاملهم على أرض خيبر ونخيلها وأبقاهم فيها على جزء من الثمرة كأجراء يعملون لحسابه وحساب المسلمين ، فلم يتخذهم عبيدا يسخرهم فيها ، وبقيت معاملتهم بالقسط كما جاء في قصة ابن رواحة - رضي الله عنه - لما ذهب يخرص عليهم وعرضوا عليه ما عرضوا من الرشوة ؛ ليخفف عنهم ، فقال لهم كلمته المشهورة : والله لأنتم أبغض الخلق إلي وجئتكم من عند أحب الخلق إلي ، ولن يحملني بغضي لكم ، ولا حبي له أن أحيف عليكم ، فإما أن تأخذوا بنصف ما قدرت ، وإما أن تكفوا أيديكم ولكم نصف ما قدرت ، فقالوا له : بهذا قامت السماوات والأرض أي : بالعدالة والقسط ، وقد بقوا على ذلك نهاية زمنه - صلى الله عليه وسلم - وخلافة الصديق ، وصدرا من خلافة عمر حتى أجلاهم عنها .
ومثل ذلك المؤلفة قلوبهم أعطاهم - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتح وأعطاهم الصديق حتى منعهم عمر رضي الله عنه .
وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة لأهميتها ومسيس الحاجة إليها اليوم .
وفي الختام إن أشد ما يظهر وضوحا في هذا المقام ولم يدع أحد فيه نسخا قوله تعالى : وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [ 31 \ 15 ] .
فهذه حسن معاملة ، وبر ، وإحسان لمن جاهد المسلم على أن يشرك بالله ولم يقاتل المسلمين ، فكان حق الأبوة مقدما ، ولو مع الكفر والمجاهدة على الشرك .
وكذلك أيضا في نهاية هذه السورة نفسها قوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] .
[ ص: 97 ] ثم قال تعالى : وآتوهم ما أنفقوا [ 60 \ 10 ] أي : آتوا المشركين أزواج المؤمنات المهاجرات ما أنفقوا على أزواجهم بعد هجرتهن ، فبعد أن أسلمت الزوجة وهاجرت وانحلت العصمة بينها وبين زوجها الكافر ، وبعدت عنه بالهجرة وفاتت عليه ، ولم يقدر عليها يأمر الله المسلمين أن يؤتوا أزواجهن وهم مشركون ، ما أنفقوا من صداق عند الزواج ونحوه مع بقاء الأزواج على الكفر وعجزهم عن استرجاع الزوجات ، وعدم جواز موالاتهم قطعا لكفرهم ، وهذا من المعاملة بالقسط والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم .
في قوله تعالى : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ، نص على امتحان المؤمنات المهاجرات ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يمتحنهن ما خرجت كرها لزوج ، أو فرارا لسبب ونحو ذلك ، ذكره ابن كثير وغيره .
وقيل : كان امتحانهن بالبيعة الآتية : لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن [ 60 \ 12 ] الآية ، ومفهومه أن الرجال المهاجرين لا يمتحنون .
وفعلا لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يمتحن من هاجر إليه والسبب في امتحانهن دون الرجال ، هو ما أشارت إليه هذه الآية في قوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات ، كأن الهجرة وحدها لا تكفي في حقهن بخلاف الرجال ، فقد شهد الله لهم بصدق إيمانهم بالهجرة في قوله للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ 59 \ 8 ] ، وذلك أن الرجل إذا خرج مهاجرا يعلم أن عليه تبعة الجهاد والنصرة فلا يهاجر إلا وهو صادق الإيمان فلا يحتاج إلى امتحان ، ولا يرد عليه مهاجر أم قيس ؛ لأنه أمر جانبي ، ولا يمنع من المهمة الأساسية للهجرة المنوه عنه في أول هذه السورة : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي [ 60 \ 1 ] الآية ، بخلاف النساء فليس عليهن جهاد ولا يلزمهن بالهجرة أية تبعية ، فأي سبب يواجههن في حياتهن سواء كان بسبب الزوج أو غيره ، فإنهن يخرجن باسم الهجرة فكان ذلك موجبا [ ص: 98 ] للتوثق من هجرتهن بامتحانهن ليعلم إيمانهن ، ويرشح لهذا المعنى قوله تعالى : الله أعلم بإيمانهن ، وفي حق الرجال : أولئك هم الصادقون [ 59 \ 8 ] ، وكذلك من جانب آخر ، وهو أن هجرة المؤمنات يتعلق عليها حق مع طرف آخر ، وهو الزوج فيفسخ نكاحها منه ، ويعوض هو عما أنفق عليها ، وإسقاط حقه في النكاح وإيجاب حقه في العوض قضايا حقوقية ، تتطلب إثباتا بخلاف هجرة الرجال ، والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، معلوم أن المؤمنات المهاجرات بعد الامتحان والعلم بأنهن مؤمنات لا ينبغي إرجاعهن إلى الكفار ؛ لأنهم يؤذونهن إن رجعن إليهم ، فلأي شيء يأتي النص عليه ؟
قال كثير من المفسرين : إن هذه الآية مخصصة لما جاء في معاهدة صلح الحديبية ، والتي كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه على المشركين ، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين لا يردونه على المسلمين فأخرجت النساء من المعاهدة وأبقت الرجال من باب تخصيص العموم ، وتخصيص السنة بالقرآن ، وتخصيص القرآن بالسنة معلوم ، وقد بينه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مذكرة الأصول ، وذكر القاعدة من مراقي السعود بقوله :
وخصص الكتاب والحديث به أو بالحديث مطلقا فلتنتبه
ومما ذكره لأمثلة تخصيص السنة بالكتاب قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أبين من حي فهو ميت " ، أي : محرم ، جاء تخصيص هذا العموم بقوله تعالى : ومن أصوافها وأوبارها [ 16 \ 80 ] أي : ليس محرما .
ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم [ 5 \ 3 ] جاء تخصيص هذا العموم بقوله صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ، ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت " الحديث قال القرطبي : جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب والنبي - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها وكان كافرا ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله هذه الآية ، وقال بعض المفسرين : إنها ليست مخصصة للمعاهدة ؛ لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء ، وإنما كانت في حق الرجال فقط .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:33 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (543)
سُورَةُ الصَّفِّ
صـ 99 إلى صـ 106
[ ص: 99 ] وذكر القرطبي ، وابن كثير أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت فارة من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد ، فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخويها وحبسها ، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : ردها علينا للشرط ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كان الشرط في الرجال لا في النساء " ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والذي يظهر والله تعالى أعلم أنها مخصصة لمعاهدة الهدنة ، وهي من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن ، كما قاله ابن كثير .
وقد روي أنها مخصصة عن عروة ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد ، والزهري ، ومقاتل بن حيان والسدي .
ويدل على أنها مخصصة أمران مذكوران في الآية :
الأول منهما : أنها أحدثت حكما جديدا في حقهن وهو عدم الحلية بينهن وبين أزواجهن ، فلا محل لإرجاعهن ، ولا يمكن تنفيذ معاهدة الهدنة مع هذا الحكم فخرجن منها وبقي الرجال .
والثاني منهما : أنها جعلت للأزواج حق المعاوضة على ما أنفقوا عليهن ، ولو لم يكن داخلات أولا لما كان طلب المعاوضة ملزما ، ولكنه صار ملزما ، وموجب إلزامه أنهم كانوا يملكون منعهن من الخروج بمقتضى المعاهدة المذكورة ، فإذا خرجن بغير إذن الأزواج كن كمن نقض العهد فلزمهن العوض المذكور ، والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، فيها تحريم المؤمنات على الكافرين ، والظاهر أن التحريم بالهجرة لا بالإسلام قبلها ، واتفق الجمهور على أنه إذا أسلم وهاجر أحد الزوجين بقيت العصمة إلى نهاية العدة ، فإن هاجر الطرف الآخر فيها ، فهما على نكاحهما الأول .
وهنا مبحث زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع زوجها أبي العاص بن الربيع .
وقد كثر الخلاف في أمر ردها إليه هل كان بالعقد الأول ، أو جدد لها - صلى الله عليه وسلم - عقدا جديدا ، ومن أسباب كثرة الخلاف الربط بين تاريخ إسلامها وتاريخ إسلامه ، وبينهما ست سنوات وهذا خطأ ؛ لأن قبل نزول الآية لم يقع تحريم بين مسلمة وكافر ، ونزولها بعد الحديبية وإسلامها كان سنة ثمان ، فيحمل على عدم انقضاء عدتها ، وهذا يوافق على ما عليه الجمهور ، ونقل ابن كثير قولا ، وهو أن المسلمة كانت بالخيار إن شاءت فسخت نكاحها [ ص: 100 ] وتزوجت بعد انقضاء عدتها ، وإن شاءت انتظرت . ا هـ .
وهذا القول له وجه ؛ لأنه بإسلامها لم يكن كفأ لها وإذا انتفت الكفاءة أعطيت الزوجة الخيار ، كقصة بريرة لما عتقت وكان زوجها مملوكا ، ولا يرده قوله تعالى : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن لأن ذلك في حالة كفر الزوج لقوله تعالى : فلا ترجعوهن إلى الكفار ، والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : وآتوهم ما أنفقوا ، يدل على أن الفرقة إذا جاءت بسبب من جهة الزوجة أن عليها رد ما أنفق الزوج عليها ، وكونه الصداق أو أكثر قد بحثه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مبحث الخلع في سورة " البقرة " .
وقوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، أمر المؤمنين بفك عصمة زوجاتهم الكوافر ، فطلق عمر بن الخطاب يومئذ زوجتين ، وطلق طلحة بن عبيد الله زوجته أروى بنت ربيعة ، وعصم الكوافر عام في كل كافرة ، فيشمل الكتابيات لكفرهن باعتقاد الولد لله ، كما حققه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - ولكن هذا العموم قد خصص بإباحة الكتابيات في قوله تعالى : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [ 5 \ 5 ] أي : الحرائر ، وبقيت الحرمة بين المسلم والمشركة بالعقد على التأبيد .
ومفهوم العصمة لا يمنع الإمساك بملك اليمين ، فيحل للمسلم الاستمتاع بالمشركة بملك اليمين ، وعليه تكون حرمة المسلمة على الكافر مطلقا مشركا كان أو كتابيا على التأبيد لقوله تعالى : لا هن حل لهم ، أي : في الحاضر ، ولا هم يحلون لهن ، أي : في المستقبل ، وقد فصل الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - مسألة المحرمات من النكاح فيما تقدم عند قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات الآية [ 4 \ 25 ] .
تنبيه
هنا سؤال ، وهو : إذا كان الكفر هو سبب فك عصمة الكافرة من المسلم ، وتحريم المسلمة على الكافر فلماذا حلت الكافرة من أهل الكتاب للمسلم ، ولم تحل المسلمة للكافر من أهل الكتاب ؟ والجواب من جانبين :
الأول : أن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه والقوامة في الزواج للزوج قطعا لجانب الرجولة ، وإن تعادلا في الحلية بالعقد ؛ لأن التعادل لا يلغي الفوارق كما في ملك اليمين ، [ ص: 101 ] فإذا امتلك رجل امرأة حل له أن يستمتع منها بملك اليمين ، والمرأة إذا امتلكت عبدا لا يحل لها أن تستمتع منه بملك اليمين ، ولقوامة الرجل على المرأة وعلى أولادها وهو كافر لا يسلم لها دينها ، ولا لأولادها .
والجانب الثاني : شمول الإسلام وقصور غيره ، وينبني عليه أمر اجتماعي له مساس بكيان الأسرة وحسن العشرة ، وذلك أن المسلم إذا تزوج كتابية ، فهو يؤمن بكتابها وبرسولها ، فسيكون معها على مبدأ من يحترم دينها لإيمانه به في الجملة ، فسيكون هناك مجال للتفاهم ، وقد يحصل التوصل إلى إسلامها بموجب كتابها ، أما الكتابي إذا تزوج مسلمة ، فهو لا يؤمن بدينها ، فلا تجد منه احتراما لمبدئها ودينها ، ولا مجال للمفاهمة معه في أمر لا يؤمن به كلية ، وبالتالي فلا مجال للتفاهم ولا للوئام ، وإذا فلا جدوى من هذا الزواج بالكلية ، فمنع منه ابتداء .
وقوله تعالى : ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ، يعني صداقهن .
ويدل بمفهومه أن النكاح بدون الأجور فيه جناح ، وقد جاء النص بهذا المفهوم في قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ 33 \ 50 ] ، فهبة المرأة نفسها بدون صداق خاص به صلى الله عليه وسلم ، فقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين ، لا يحله لغيره - صلى الله عليه وسلم - وقوله : إذا آتيتموهن أجورهن ، ظاهر في أن النكاح لا يصح إلا بإتيان الأجور .
وقد جاء ما يدل على صحة العقد بدون إتيان الصداق كما في قوله تعالى : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن الآية [ 2 \ 236 ] .
وقد ذكر الفقهاء حكم المفوضة ، أنه إن دخل بها فله صداق المثل ، ويدل لإطلاق الأجور على الصداق قوله تعالى في نكاح الإماء لمن لم يستطع طولا للحرائر : فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ، إلى قوله فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن [ 4 \ 25 ] وفي نكاح أهل الكتاب : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين الآية [ 5 \ 5 ] ، وقوله تعالى [ ص: 102 ] للرسول صلى الله عليه وسلم : إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن [ 33 \ 50 ] ، وبهذا كله يرد على من استدل بلفظ الأجور على نكاح المتعة في قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن [ 4 \ 24 ] وتقدم مبحث المتعة موجزا للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : فما استمتعتم به منهن .
قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف .
القيد بالمعروف هنا للبيان ولا مفهوم له ؛ لأن كل ما يأمر به - صلى الله عليه وسلم - معروف ، وفيه حياتهن ، وقد بينه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : إذا دعاكم لما يحييكم [ 8 \ 24 ] ، في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، ولكن فيه تنبيه على أن من كان في موضع الأمر من بعده لا طاعة له إلا في المعروف والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور [ 60 \ 13 ] .
يرى المفسرون أن هذه الآية في ختام هذه السورة كالآية الأولى في أولها ، وهذا ما يسمى عودا على بدء .
قال أبو حيان : لما افتتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أولياء ختمها بمثل ذلك تأكيدا لترك موالاتهم ، وتنفيرا للمسلمين عن توليهم وإلقاء المودة إليهم .
وقال ابن كثير : ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة ، كما نهى عنها في أولها ، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم ، أنها لم تكن لمجرد التأكيد للنهي المتقدم ، ولكنها تتضمن معنى جديدا ، وذلك للآتي :
أولا : أنها نص في قوم غضب الله عليهم ، وعلى أنها للتأكيد حملها البعض على العموم ؛ لأن كل كافر مغضوب عليه ، وحملها البعض على خصوص اليهود ؛ لأنه وصف صار عرفا لهم ، هو قول الحسن وابن زيد ، قاله أبو حيان ، ومما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مقدمة الأضواء ، أنه إذا اختلف في تفسير آية ، وكان أكثر استعمال القرآن لأحد المعنيين كان مرجحا على الآخر ، وهو محقق هنا ، كما قال الحسن ، أصبح عرفا عليهم ، وقد خصهم تعالى في قوله : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [ ص: 103 ] [ 5 \ 60 ] ، وقوله فيهم : فباءوا بغضب على غضب [ 2 \ 90 ] ، وقد فرق الله بينهم وبين النصارى في قوله تعالى : غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ 1 \ 7 ] ، ولو قيل : إنها في اليهود والمنافقين ، لما كان بعيدا ؛ لأنه تعالى نص على غضبه على المنافقين في هذا الخصوص في سورة المجادلة في قوله تعالى : ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون 30 [ 58 \ 14 ] ، وعلى هذا فتكون خاصة في اليهود والمنافقين ، والغرض من تخصيصها بهما وعودة ذكرهما بعد العموم المتقدم في عدوي وعدوكم ، كما أسلفنا هو والله تعالى أعلم ، لما نهى أولا عن موالاة الأعداء ، وأمر بتقطيع الأواصر بين ذوي الأرحام ، جاء بعدها ما يشيع الأمل بقوله : عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة [ 60 \ 7 ] ، وعاديتم عامة باقية على عمومها ، ولكن اليهود ، والمنافقين لم يدخلوا في مدلول عسى تلك ، فنبه تعالى عليهم بخصوصهم لئلا يطمع المؤمنون أو ينتظروا شيئا من ذلك ، فأيأسهم من موالاتهم ومودتهم ، كيأس اليهود والمنافقين في الآخرة ، أي : بعدم الإيمان الذي هو رابطة الرجاء المتقدم في عسى ، وفعلا كان كما أخبر الله ، فقد جعل المودة من بعض المشركين ولم يجعلها من بعض المنافقين ولا اليهود ، فهي إذا مؤسسة لمعنى جديد ، وليست مؤكدة لما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 104 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الصَّفِّ
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 2 ) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ( 3 ) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ( 4 ) .
فِي الْآيَةِ الْأُولَى إِنْكَارٌ عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ، وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ بَيَانُ شِدَّةِ غَضَبِ اللَّهِ وَمَقْتِهِ عَلَى مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ ، وَلَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ هُنَا الْقَوْلَ الْمُغَايِرَ لِلْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَالْمُعَاتَبِي نَ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَوْجِ بَ لِشِدَّةِ الْغَضَبِ إِلَّا أَنَّ مَجِيءَ الْآيَةِ الثَّالِثَةِ بَعْدَهُمَا يُشْعِرُ بِمَوْضُوعِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَهُوَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَقَدِ اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ مَعَ تَعَدُّدِهِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ حَوْلَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ رَغْبَةٍ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ فِي الْجِهَادِ وَمَعْرِفَةِ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَقَدْ بَيَّنَ الْقُرْآنُ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْآيَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِهَادِ وَتَمَنِّيهِمْ إِيَّاهُ .
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ : وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [ 47 \ 20 ] .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ [ 4 \ 77 ] .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا [ ص: 105 ] [ 33 \ 15 ] .
فَفِي الْآيَةِ الْأُولَى : تَمَنَّوْا نُزُولَ سُورَةٍ يُؤْذَنُ فِيهَا بِالْقِتَالِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ صَارَ مَرْضَى الْقُلُوبِ كَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ .
وَفِي الثَّانِيَةِ : قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عَنِ الْقِتَالِ ، فَتَمَنَّوُا الْإِذْنَ لَهُمْ فِيهِ ، فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ رَجَعُوا وَتَمَنَّوْا لَوْ أُخْرِجُوا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ .
وَفِي الثَّالِثَةِ : أَعْطَوُا الْعُهُودَ عَلَى الثَّبَاتِ وَعَدَمِ التَّوَلِّي ، وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا ، فَلَمَّا كَانَ فِي أُحُدٍ وَقَعَ مَا وَقَعَ وَكَذَلِكَ فِي حُنَيْنٍ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ الْآيَةَ [ 33 \ 13 - 15 ] .
فَفِي هَذَا السِّيَاقِ بَيَانٌ لِعِتَابِهِمْ عَلَى نَقْضِ الْعَهْدِ ، وَهُوَ مَعْنَى : لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ ، وَيُقَابِلُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى امْتَدَحَ طَائِفَةً أُخْرَى مِنْهُمْ حِينَ أَوْفَوْا بِالْعَهْدِ ، وَصَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [ 33 \ 23 ] .
ثُمَّ بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهَا : لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا الْآيَةَ [ 33 \ 24 - 25 ] ، وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ .
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْفِعْلَ الْمُغَايِرَ لِلْقَوْلِ هُنَا هُوَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَبْلُ فَاسْتَوْجَبُوا الْعِتَابَ عَلَيْهِ ، كَمَا تَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ وَفَّوْا بِالْعَهْدِ اسْتَوْجَبُوا الثَّنَاءَ عَلَى الْوَفَاءِ ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِالْآيَةِ مِنْ عُمُومِ لَفْظِهَا عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى كُلِّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ ، سَوَاءٌ فِي عَهْدٍ أَوْ وَعْدٍ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ .
فَفِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [ 2 \ 44 ] .
وَكَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ شُعَيْبٍ لِقَوْمِهِ : وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [ 11 \ 88 ] .
[ ص: 106 ] وَفِي الْعَهْدِ قَوْلُهُ : وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا [ 17 \ 34 ] .
وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَقَدْ بَحَثَهَا الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ ، مِنْهَا فِي سُورَةِ هُودٍ عِنْدَ قَوْلِ شُعَيْبٍ الْمَذْكُورِ .
وَمِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ [ 19 \ 54 ] ، فِي سُورَةِ " مَرْيَمَ " .
وَبَحَثَ فِيهَا الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ ، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ ، وَالْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ وَالْخُلْفِ فِي الْوَعِيدِ ، وَعَقَدَ لَهَا مَسْأَلَةً ، وَسَاقَ آيَتِيِ " الصَّفِّ " هُنَاكَ .
قوله تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [ 61 \ 4 ] .
اختلف علماء التفسير في المراد بالبنيان المرصوص ، فنقل بعضهم عن الفراء : أنه المتلاحم بالرصاص لشدة قوته ، والجمهور : أنه المتلاصق المتراص المتساوي .
والواقع أن المراد بالتشبيه هنا هو وجه الشبه ، ولا يصح أن يكون هنا هو شكل البناء لا في تلاحمه بالرصاص ، وعدم انفكاكه ولا تساويه وتراصه ؛ لأن ذلك يتنافى وطبيعة الكر والفر في أرض المعركة ، ولكل وقعة نظامها حسب موقعها .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن وجه الشبه المراد هنا هو عموم القوة والوحدة .
قال الزمخشري : يجوز أن يريد استواء بنائهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص . ا هـ .
ويدل لهذا الآتي :
أولا قوله تعالى : وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم [ 3 \ 121 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:34 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (544)
سُورَةُ الصَّفِّ
صـ 107 إلى صـ 114
فالمقاعد هنا هي المواقع للجماعات من الجيش ، وهي التعبئة حسب ظروف الموقعة ، كما فعل - صلى الله عليه وسلم - في وضع الرماة في غزوة أحد حماية لظهورهم من التفاف العدو بهم [ ص: 107 ] لطبيعة المكان ، وكما فعل في غزوة بدر ورصهم ، وسواهم بقضيب في يده أيضا لطبيعة المكان .
وهكذا ، فلابد في كل وقعة من مراعاة موقعها ، بل وظروف السلاح والمقاتلة .
وقد ذكر صاحب الجمان في تشبيهات القرآن أجزاء الجيش وتقسيماته بصفة عامة من قلب وميمنة وميسرة وأجنحة ، ونحو ذلك فيكون وجه الشبه هو الارتباط المعنوي والشعور بالمسئولية ، والإحساس بالواجب كما فعل الحباب بن المنذر في غزوة بدر حين نظر إلى منزل المسلمين من الموقع فلم يرقه ، وسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجابه فأبدى خطة جديدة فأخذ بها - صلى الله عليه وسلم - وغير الموقع من مكان المعركة .
وثانيا قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [ 8 \ 45 - 46 ] .
فذكر تعالى من عوامل النصر : الثبات عند اللقاء ، وذكر الله والطاعة ، والامتثال ، والحفاظ عليها بعدم التنازع والصبر عند الحملة والمجالدة ، فتكون حملة رجل واحد ، وكلها داخلة تحت معنى البنيان المرصوص في قوته وحمايته وثباته ، وقد عاب تعالى على اليهود تشتت قلوبهم عند القتال في قوله تعالى : تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى [ 59 \ 14 ] ، وامتدح المؤمنين في قتالهم بوحدتهم كأنهم بنيان مرصوص .
وقد جاءت السنة بهذا التشبيه للتعاون في قوله صلى الله عليه وسلم : " المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا " .
فهو يبين المراد من وجه الشبه في البنيان المرصوص هنا ، وقد أثر عن أبي موسى - رضي الله عنه - قوله لأصحابه : الزموا الطاعة ؛ فإنها حصن المحارب .
وعن أكثم بن صيفي : أقلوا الخلاف على أمرائكم ، وإن المسلمين اليوم لأحوج ما يكونون إلى الالتزام بهذا التوجيه القرآني الكريم ، إزاء قضيتهم العامة مع عدوهم المشترك ، ولا سيما ، وقد مر العالم الإسلامي بعدة تجارب في تاريخهم الطويل وكان لهم منها أوضح العبر ، ولهم في هذا المنهج القرآني أكبر موجب لاسترجاع حقوقهم والحفاظ على كيانهم ، فضلا عن أنه العمل الذي يحبه الله من عباده ، وبالله تعالى التوفيق .
[ ص: 108 ] قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين .
قول موسى عليه السلام : لم تؤذونني ؟ لم يبين نوع هذا الإيذاء وقد جاء مثل هذا الإجمال في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا [ 33 \ 69 ] .
وأحال عليه ابن كثير في تفسيره ، وساق حديث البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن موسى - عليه السلام - كان حييا ستيرا لا يرى من جلده شيئا استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده ، إما برص وإما أدرة وإما آفة ، وأن الله - عز وجل - أراد أن يبرئه مما قالوا فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ؛ ليأخذها ، وأن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله - عز وجل - وبرأه مما يقولون " . . . . إلى آخر القصة .
ونقله غيره من المفسرين عندها ، وعلى هذا يكون إيذاؤهم إياه إيذاء شخصيا بادعاء العيب فيه خلقة ، وهذا وإن صح في آية الأحزاب لقوله تعالى : فبرأه الله مما قالوا [ 33 \ 69 ] ، فإنه لا يصح في آية " الصف " هذه لأن قوله لهم : وقد تعلمون أني رسول الله إليكم [ 61 \ 5 ] مما يثير إلى أن الإيذاء في جانب الرسالة لا في جانبه الشخصي ، ويرشح له قوله تعالى بعده مباشرة : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .
أي : فلما زاغوا بما آذوا به موسى ، فيكون إيذاء قومه له هنا إيذاء زيغ وضلال ، وقد آذوه كثيرا في ذلك كما بينه تعالى في قوله عنهم : وإذ قلتم ياموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [ 2 \ 55 ] .
وكذلك قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين [ 2 \ 93 ] .
فها هم يؤخذ الميثاق عليهم ويرفع فوقهم الطور ، ويقال لهم : خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا [ ص: 109 ] فكله يساوي قوله : وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ، لأن قد هنا للتحقيق ، ومع ذلك يؤذونه بقولهم : سمعنا وعصينا ، ويؤذونه بأن أشربوا في قلوبهم حب العجل وعبادته بكفرهم ، ولذا قال لهم : بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين .
وقد جمع إيذاء الكفار لرسول الله مع إيذاء قوم موسى لموسى في قوله تعالى : يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم الآية [ 4 \ 153 ] .
ومن مجموع هذا يتبين أن الإيذاء المنصوص عليه هنا هو في خصوص الرسالة ، ولا مانع من أنهم آذوه بأنواع من الإيذاء في شخصه ، وفي ما جاء به فبرأه الله مما قالوا في آية " الأحزاب " وعاقبهم على إيذائه فيما أرسل به إليهم بزيغ قلوبهم ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، تقدم كلام الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - على هذا المعنى في سورة " الروم " ، عند الكلام على قوله تعالى : ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله الآية [ 30 \ 10 ] .
وقال : إن الكفر والتكذيب قد يؤدي شؤمه إلى شقاء صاحبه ، وساق هذه الآية : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا [ 2 \ 10 ] .
وأحال على سورة " بني إسرائيل " على قوله : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] .
وعلى سورة " الأعراف " على قوله : فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين [ 7 \ 101 ] .
ومما يشهد لهذا المعنى العام بقياس العكس قوله تعالى : والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم [ 47 \ 17 ] ، وأمثالها .
ومما يلفت النظر هنا إسناد الزيغ للقلوب في قوله تعالى : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم .
[ ص: 110 ] وأن الهداية أيضا للقلب كما في قوله تعالى : ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم [ 64 \ 11 ] .
ولذا حرص المؤمنون على هذا الدعاء : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا [ 3 \ 8 ] فتضمن المعنيين ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد .
ذكر موسى ولم يذكر معه البشرى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر عيسى فذكرها معه ، مما يدل بمفهومه أنه لم يبشر به إلا عيسى - عليه السلام - ولكن لفظ عيسى مفهوم لقب ولا عمل عليه عند الأصوليين ، وقد بشرت به - صلى الله عليه وسلم - جميع الأنبياء ، ومنهم موسى - عليه السلام - ومما يشير إلى أن موسى مبشرا به قول عيسى - عليه السلام - في هذه الآية : مصدقا لما بين يدي ، والذي بين يديه هي التوراة أنزلت على موسى .
وقد جاء صريحا التعريف به - صلى الله عليه وسلم - وبالذين معه في التوراة في قوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا إلى قوله تعالى : ذلك مثلهم في التوراة [ 48 \ 29 ] .
كما جاء وصفهم في الإنجيل في نفس السياق ، في قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه [ 48 \ 29 ] إلى آخر السورة .
وجاء النص في حق جميع الأنبياء في قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين [ 3 \ 81 ] .
قال ابن كثير : قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث وهو حي ليتبعنه ، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه . ا هـ .
وجاء مصداق ذلك في قصة النجاشي لما سمع من جعفر عنه - صلى الله عليه وسلم - فقال : أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل ، وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم ، وما قاله أيضا : [ ص: 111 ] والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه ، في حديث طويل ساقه ابن كثير ، وعزاه إلى أحمد رحمه الله .
وكذلك دعوة نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم [ 2 \ 129 ] .
ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " أنا دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت " .
وقد خص عيسى بالنص على البشرى به صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه آخر أنبياء بني إسرائيل ، فهو ناقل تلك البشرى لقومه عما قبله .
كما قال : مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ومن قبله ناقل عمن قبله ، وهكذا حتى صرح بها عيسى عليه السلام ، وأداها إلى قومه .
وقوله تعالى : اسمه أحمد ، جاء النص أنه - صلى الله عليه وسلم - له عدة أسماء ، وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : " أنا لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب " .
وبهذه المناسبة فقد ذكر - صلى الله عليه وسلم - باسمه أحمد هنا ، وباسمه محمد في سورة " محمد " صلى الله عليه وسلم .
كما ذكر - صلى الله عليه وسلم - بصفات عديدة أجمعها ما يعد ترجمة ذاتية من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] .
وسيأتي المزيد من بيان ذلك عند قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون .
تقدم بيان ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند قوله تعالى : حجتهم داحضة عند ربهم [ 42 \ 16 ] في سورة " الشورى " وقوله : بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه [ 21 \ 18 ] في سورة " الأنبياء " .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم .
[ ص: 112 ] فسرت التجارة بقوله تعالى : تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [ 61 \ 11 ] .
التجارة : هي التصرف في رأس المال طلبا للربح كما قال تعالى : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم [ 2 \ 282 ] وقال تعالى : وتجارة تخشون كسادها [ 9 \ 24 ] .
والتجارة هنا فسرت بالإيمان بالله ورسوله ، وبذل المال والنفس في سبيل الله ، فما هي المعارضة الموجودة في تلك التجارة الهامة ، بينها تعالى في قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ 9 \ 111 ] ، فهنا مبايعة ، وهنا بشرى وهنا فوز عظيم .
وكذلك في هذه الآية : يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب [ 61 \ 12 - 13 ] .
وقد دل القرآن على أنه من فاتته هذه الصفقة الرابحة فهو لا محالة خاسر ، كما في قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [ 2 \ 16 ] .
حقيقة هذه التجارة أن رأس مال الإنسان حياته ومنتهاه مماته .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " والعرب تعرف هذا البيع في المبادلة كما قال الشاعر :
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
وقول الآخر :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا كما
اشبرى المسلم إذ تنصرا
فأطلق الشراء على الاستبدال .
تنبيه
[ ص: 113 ] في هذه الآية الكريمة تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في قوله تعالى : وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم .
وفي آية : إن الله اشترى من المؤمنين ، قدم النفس عن المال فقال : اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وفي ذلك سر لطيف .
أما في آية " الصف " فإن المقام مقام تفسير وبيان لمعنى التجارة الرابحة بالجهاد في سبيل الله .
وحقيقة الجهاد بذل الجهد والطاقة ، والمال هو عصب الحرب وهو مدد الجيش ، وهو أهم من الجهاد بالسلاح ، فبالمال يشترى السلاح ، وقد تستأجر الرجال كما في الجيوش الحديثة من الفرق الأجنبية ، وبالمال يجهز الجيش ، ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء ، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم ، وأعذر معهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به كما في قوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، إلى قوله : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [ 9 \ 91 - 92 ] .
وكذلك من جانب آخر ، قد يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح كالنساء والضعفاء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " من جهز غازيا فقد غزا " .
أما الآية الثانية فهي في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة ، فقدم النفس ؛ لأنها أعز ما يملك الحي ، وجعل في مقابلها الجنة وهي أعز ما يوهب ، وأحسن ما قيل في ذلك :
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
فالتجارة هنا معاملة مع الله إيمانا بالله وبرسوله ، وجهادا بالمال والنفس ، والعمل في ذلك :
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن
[ ص: 114 ] الصالح ، كما قيل أيضا :
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا فإنما الربح والخسران في العمل
وفي آية : إن الله اشترى تقديم بشرى خفية لطيفة بالنصر لمن جاهد في سبيل الله وهي تقديم قوله : فيقتلون بالبناء للفاعل أي فيقتلون عدوهم ، ويقتلون [ 9 \ 111 ] بالبناء للمجهول ، لأن التقديم هنا يشعر بأنهم يقتلون العدو قبل أن يقتلهم ويصيبون منه قبل أن يصيب منهم ، ومثل هذا يكون في موقف القوة والنصر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية
في هذه الآية أيضا إشعار المسلمين بالنصر في قوله تعالى : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [ 61 \ 14 ] ، ولكن لم يبين فيها هل كانوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار الله أم لا ؟
وقد جاء ما يدل على أنهم بالفعل أنصار الله كما تقدم في سورة الحشر في قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون [ 59 \ 8 ] .
وكذلك الأنصار في قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار [ 9 \ 100 ] ، وكقوله تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ 48 \ 29 ] فأشداء على الكفار هو معنى ينصرون الله ورسوله ، ثم جاء المثل المضروب لهم بالتآزر والتعاون في قوله تعالى : ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار [ 48 \ 29 ] فسماهم أنصارا ، وبين نصرتهم سواء من المهاجرين والأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:35 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (545)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 115 إلى صـ 122
[ ص: 115 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ .
بَيَّنَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - مَعْنَى الْأُمِّيِّينَ فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ بِقَوْلِهِ : الْأُمِّيِّينَ أَيْ : الْعَرَبِ ، وَالْأُمِّيُّ : هُوَ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْعَرَبِ . ا هـ .
وَسُمِّي أُمِّيًّا نِسْبَةً إِلَى أُمِّهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ لَمْ يَعْرِفِ الْقِرَاءَةَ ، وَلَا الْكِتَابَةَ وَبَقِيَ عَلَى ذَلِكَ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُمِّيِّين َ هُمُ الْعَرَبُ بَعْثَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : رَسُولًا مِنْهُمْ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ : رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [ 14 \ 37 ] ، و قَوْلُهُ تَعَالَى : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [ 2 \ 129 ] .
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - : وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَجَابَ دَعْوَةَ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِيهِمُ ا هـ .
وَفِي الْحَدِيثِ : " إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَقْرَأُ وَلَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ " ، وَهَذَا حُكْمٌ عَلَى الْمَجْمُوعِ لَا عَلَى الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعَرَبِ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ مِثْلَ كَتَبَةِ الْوَحْيِ ، عُمَرَ وَعَلِيًّا وَغَيْرِهِمْ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : رَسُولًا مِنْهُمْ هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ : الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ [ 7 \ 157 ] .
وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْمَكْتُوبَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا بَشَّرَ بِهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [ 61 \ 6 ] .
وَكَوْنُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا بِمَعْنَى لَا يَكْتُبُ ، بَيَّنَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ [ ص: 116 ] [ 49 \ 48 ] .
وَبَيَّنَ تَعَالَى الْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمِّيًّا مَعَ أَنَّهُ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ بِنَفْيِ الرَّيْبِ عَنْهُ كَمَا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ [ 25 \ 5 ] فَقَالَ : إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [ 29 \ 48 ] .
قوله تعالى : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في المذكرة المشار إليها : هذا عطف على قوله : في الأميين ، أي : بعث هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأميين ، وفي آخرين منهم ، وقيل : عطف على الضمير في قوله : يعلمهم ، أي يعلمهم ويعلم آخرين منهم ، والمراد بقوله : وآخرين كل من يأتي بعد الصحابة من أهل الإسلام إلى يوم القيامة بدليل قوله : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] .
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على أن قوله : وآخرين ، نزلت في فارس قوم سلمان ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ا هـ .
وسبق أن قدمنا الكلام على هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان [ 59 \ 10 ] .
ولكن سبقنا كلام الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - حين عثرنا عليه لزيادة الفائدة والاستئناس .
قوله تعالى : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
اختلف في مرجع اسم الإشارة هنا وفي المراد بالمتفضل به عليهم ، أهم الأمة الأمية تفضل الله عليها ببعثة نبي منهم فيهم ؟ أم هو النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمي تفضل الله تعالى عليه ببعثته معلما هاديا ؟ أم هم الآخرون الذين لم يلحقوا زمن البعثة ووصلتهم دعوتها ، وأدركوا فضلها ؟
وقد اكتفى الشيخ - رحمة الله تعالى عليه وعلينا - في مذكرة الدراسة بقوله ذلك أي : المذكور من بعث هذا النبي الكريم في الأميين ، فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، ومن عظم فضله تفضله على هذه الأمة بهذا النبي الكريم . ا هـ .
[ ص: 117 ] وهذا القول منه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، يتضمن القولين الأول والثاني من الأقوال الثلاثة ، تفضل الله على الأميين ببعثة هذا النبي الكريم فيها ، وتفضل الله على النبي ببعثته فيهم مما لا يشعر بأنه لا خلاف بين هذه الأقوال الثلاثة ، وأنها من الاختلاف التنوعي أو هي من المتلازمات فلا مانع من إدارة الجميع ؛ لأن فضل الله تعالى قد شمل الجميع .
وقد نص الأول بقوله : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين [ 3 \ 164 ] وهذا عين ما في سورة " الجمعة " سواء ، لأن الامتنان هو التفضل .
ونص على الثاني بقوله تعالى : وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ 4 \ 113 ] .
ونص على الثالث بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم [ 5 \ 54 ] .
فقوله : فسوف يأتي ، ويساوي : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم [ 62 \ 3 ] ، فهو خلاف تنوع ، وفضل الله شامل للجميع .
قوله تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : هذا مثل ضربه الله لليهود ، وهو أنه شبههم بحمار ، وشبه التوراة التي كلفوا العمل بما فيها بأسفار أي : كتب جامعة للعلوم النافعة ، وشبه تكليفهم بالتوراة بحمل ذلك الحمار لتلك الأسفار ، فكما أن الحمار لا ينتفع بتلك العلوم النافعة التي في تلك الكتب المحمولة على ظهره ، فكذلك اليهود لم ينتفعوا بما في التوراة من العلوم النافعة ؛ لأنهم كلفوا باتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وإظهار صفاته للناس فخانوا ، وحرفوا وبدلوا فلم ينفعهم ما في كتابهم من العلوم ا هـ .
فأشار الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - إلى أن وجه الشبه عدم الانتفاع بما تحملوه من التوراة وهم يعلمون ما فيها من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد أوضح الله تعالى [ ص: 118 ] هذا في موضع آخر في قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [ 2 \ 146 ] فقد جحدوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فلم ينفعهم علمهم به .
وهذه الآية أشد ما ينبغي الحذر منها ، وخاصة لطلاب العلم وحملته ، كما قال تعالى : بئس مثل القوم [ 62 \ 5 ] أي : تشبيههم في هذا المثل بهذا الحيوان المعروف .
وقد سبق للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على هذا المثال في عدة مواضع من الأضواء ، منها في الجزء الثاني عند قوله تعالى : فمثله كمثل الكلب الآية [ 7 \ 176 ] .
ومنها في الجزء الثالث عند قوله تعالى : مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد الآية [ 14 \ 18 ] .
ومنها في الجزء الرابع عند قوله تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس [ 18 \ 54 ] في سورة " الكهف " بما فيه الكفاية .
والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن أكثر المفسرين يجعله من قبيل التشبيه المفرد ، وأن وجه الشبه فيه مفرد وهو عدم الانتفاع بالمحمول ، كالبيت الذي فيه :
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول
والذي يظهر والله تعالى أعلم أنه من قبيل التشبيه التمثيلي ؛ لأن وجه الشبه مركب من مجموع كون المحمول كتبا نافعة ، والحامل حمارا لا علاقة له بها بخلاف ما في البيت ، لأن العيس يمكن أن تنتفع بالماء لو حصلت عليه ، والحمار لا ينتفع بالأسفار ولو نشرت بين عينيه ، وفيه إشارة إلى أن من موجبات نقل النبوة عن بني إسرائيل كلية أنهم وصلوا إلى حد الإلباس من انتفاعهم بأمانة التبليغ والعمل ، فنقلها الله إلى قوم أحق بها وبالقيام بها .
قوله تعالى : قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم والذين هادوا هم اليهود .
[ ص: 119 ] ومعنى هادوا أي : رجعوا بالتوبة إلى الله من عبادة العجل .
ومنه قوله تعالى : إنا هدنا إليك [ 7 \ 156 ] ، وكان رجوعهم عن عبادة العجل بالتوبة النصوح : حيث سلموا أنفسهم للقتل توبة وإنابة إلى الله كما بينه بقوله : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم إلى قوله فتاب عليكم [ 2 \ 54 ] .
وقوله : إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في : إن زعمتم أنكم أولياء لله أي : إن كنتم صادقين في زعمكم أنكم أولياء لله ، وأبناء الله وأحباؤه دون غيركم من الناس ، فتمنوا الموت : لأن ولي الله حقا يتمنى لقاءه ، والإسراع إلى ما أعد له من النعيم المقيم . ا هـ .
وفي قوله - رحمة الله تعالى علينا وعليه - إشارة إلى بيان زعمهم المجمل في الآية وهو ما بينه تعالى بقوله عنهم وعن النصارى معهم : وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه [ 5 \ 18 ] .
وقد رد زعمهم عليهم بقوله تعالى : قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق .
ومثل هذه الآية إن زعمتم قوله تعالى : قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [ 2 \ 94 ] .
وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : وقيل المراد بالتمني المباهلة ، والمراد من الآية إظهار كذب اليهود في دعواهم أنهم أولياء الله .
وقوله : إن زعمتم مع قوله : إن كنتم شرطان يترتب الأخذ منهما على الأول أي فتمنوا الموت ، إن زعمتم ، إن صدقتم في زعمكم ، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معاقل عز زانها كرم
وقوله تعالى : ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم .
[ ص: 120 ] نص على أنهم لا يتمنون الموت أبدا ، وأن السبب هو ما قدمت أيديهم ، ولكن ليبين ما هو ما قدمت أيديهم الذي منعهم من تمني الموت .
وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : لا يتمنونه لشدة حرصهم على الحياة كما بينه تعالى قوله : ولتجدنهم أحرص الناس على حياة [ 2 \ 96 ] فشدة حرصهم على الحياة ؛ لعلمهم أنهم إذا ماتوا دخلوا النار ، ولو تمنوا لماتوا من حينهم .
وقوله : بما قدمت أيديهم الباء سببية والمسبب انتفاء تمنيهم وما قدمت أيديهم من الكفر ، والمعاصي . ا هـ .
والذي أشار إليه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - من الأسباب من كفرهم ومعاصيهم ، قد بينه تعالى في موضع آخر صريحا في قوله تعالى : لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم [ 3 \ 181 ] .
فالباء هنا سببية أيضا أي : ذوقوا عذاب الحريق بسبب ما قدمت أيديكم من هذه المذكورات ، ولهذا كله لن يتمنوا الموت ويود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ، فقد أيقنوا الهلاك ويئسوا من الآخرة .
كما قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور [ 60 \ 13 ] ، ولهذا كله لم يتمنوا الموت ، كما أخبر الله تعالى عنهم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم .
أي : إن فررتم من الموت بعدم تمنيه فلن يجعلكم تنجون منه وهو ملاقيكم لا محالة ، وملاقيكم بمعنى مدرككم ، كما في قوله تعالى : أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة [ 4 \ 78 ] .
وقوله : كل نفس ذائقة الموت [ 3 \ 185 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون .
[ ص: 121 ] هذه الآية الكريمة ، وهذا السياق يشبه في مدلوله وصورته قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم [ 22 \ 27 ] مع قوله : فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام [ 2 \ 198 ] .
ففي كل منهما نداء ، وأذان الحج صلاة وسعي وإتيان وذكر لله ، ثم انتشار وإفاضة مما يربط الجمعة بالحج في الشكل وإن اختلف الحجم ، وفي الكيف وإن تفاوتت التفاصيل ، وفي المباحث والأحكام كثرة وتنويع من متفق عليه ومختلف فيه ، مما يجعل مباحث الجمعة لا تقل أهمية عن مباحث الحج ، وتتطلب عناية بها كالعناية به .
وقد نقل عن الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - أنه كان عازما على بسط الكلام فيها كعادته - رحمة الله تعالى عليه - ولكن إرادته نافذة ، وقدرته غالية . وإن كل إنسان يستشعر مدى مباحث الشيخ وبسطه وتحقيقه للمسائل ليحجم ويترك الدخول فيها تقاصرا دونها ولا سيما وأن ربط هذه المباحث بنصوص القرآن ليس بالأمر المبين ، كما أشار إليه أبو حيان في مضمون قوله في نهاية تفسيره لهذه السورة بعد إيجاز الكلام عن أحكامها ، قال ما نصه : وقد ملأ المفسرون كثيرا من أوراقهم بأحكام وخلاف في مسائل الجمعة مما لا تعلق لها بلفظ القرآن . ا هـ .
فهو يشير بأن لفظ القرآن لا تعلق له بتلك الأحكام التي ناقشها المفسرون في مباحث الجمعة ، ولكن الدارس لمنهج الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في الأضواء ، والمتذوق لأسلوبه لم يقتصر على اللفظ فقط ، أي : دلالة النص التطابقي وتأمل أنواع الدلالات من تضمن والتزام وإيماء وتنبيه ، فإنه يجد لأكثر أو كل ما قاله المفسرون ، والمحدثون ، والفقهاء من المباحث أصولا من أصول تلك الدلالات .
وإني أستلهم الله تعالى الرشد وأستمد ، العون والتوفيق لبيان كل ما يظهر من ذلك إن شاء الله ، فإن وفقت فبفضل من الله وخدمة لكتابه ، وإلا فإنها محاولة تغتفر بجانب القصور العلمي وتحسين القصد ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع .
[ ص: 122 ] قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الدراسة ما نصه : إذا نودي للصلاة أي : قام المنادي بها ، وهو المؤذن يقول : حي على الصلاة .
وقوله : من يوم الجمعة أي : من صلاة يوم الجمعة أي : صلاة الجمعة ا هـ .
ومما يدل على أن المراد بها صلاة الجمعة نفسها دون بقية صلوات ذلك اليوم مجيء " من " التي للتبعيض ثم تبين هذا البعض بالأمر ، بترك البيع في قوله : فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، لأن هذا خاص بالجمعة دون غيرها لوجود الخطبة ، وقد كانت معينة لهم قبل نزول هذه الآية ، وصلوها قبل مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، كما سيأتي إن شاء الله .
والمراد بالنداء هو الأذان ، كما أشار إليه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - وكما في قوله تعالى : وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا [ 5 \ 58 ] .
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " .
وقيل : النداء لغة هو النداء بصوت مرتفع لحديث : " فإنه أندى منك صوتا " .
وقد عرف الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الأذان لغة عند قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا [ 22 \ 27 ] ، فقال : الأذان لغة : الإعلام .
ومنه قوله تعالى : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر [ 9 \ 3 ] ، وقول الحارث بن حلزة :
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
والأذان من خصائص هذه الأمة ، شعارا للمسلمين ونداء للصلاة .
بدء مشروعيته :
اختلف في بدء المشروعية ، والصحيح أنه بدئ بعد الهجرة ، وجاءت نصوص لكنها ضعيفة : أنه شرع ليلة الإسراء أو بمكة .
منها عن علي - رضي الله عنه - عند البزار : أنه شرع مع الصلاة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:36 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (546)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 123 إلى صـ 130
[ ص: 123 ] ومنها عن ابن عباس عند ابن حبان أنه شرع بمكة عن أول الصلاة .
وقال ابن حجر : لا يصح شيء من ذلك .
أما مشروعيته بعد الهجرة ، وفي المدينة ففيها نصوص عديدة صحيحة تبين بدأه وكيفيته .
منها حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في الصحيحين وغيرهما قال : " كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد ، فتكلموا يوما في ذلك ، فقال بعضهم : اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى ، وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود ، فقال عمر : أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بلال قم فناد بالصلاة " ، وفي الموطأ لمالك رحمه الله : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما ؛ ليجتمع الناس للصلاة ، فأري عبد الله بن زيد الأنصاري خشبتين في النوم فقال : إن هاتين لنحو مما يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألا تؤذنون للصلاة ؟ فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استيقظ فذكر له ذلك فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأذان " .
وبعض الروايات الأخرى عن غير ابن عمر وعند غير الشيخين بألفاظ أخرى ، وصور مختلفة منها قالوا : " انصب راية فإذا رآها الناس أذن بعضهم بعضا أي : أعلمه عند حضور الصلاة ، فلم يعجبه ذلك فذكر له القنع ، وهو الشبور لليهود فلم يعجبه ، فقال هذا من أمر اليهود " .
وفي رواية أنس " أن ينوروا نارا فلم يعجبه شيء من ذلك كله " .
وفي حديث عبد الله بن زيد : لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناقوس يعمل ؛ ليضرب به للناس لجمع الصلوات طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده ، فقلت : يا عبد الله أتبيع الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ قلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك ، فقلت : بلى ، فقال : تقول : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله " .
ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال : تقول إذا أقمت للصلاة : الله أكبر الله أكبر ، أشهد [ ص: 124 ] أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله .
فلما أصبحت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما رأيت فقال : " إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به ، فإنه أندى صوتا منك " فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به ، قال : فسمع ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول :
والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت ما رأى ، فقال صلى الله عليه وسلم : " فلله الحمد " رواه أبو داود .
وفي رواية له ، فقال : " إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان " .
فتبين من هذا كله أن الصحيح في مشروعية الأذان أنه كان بعد الهجرة ، وفي المدينة المنورة .
وهنا سؤال حول مشروعية الأذان ، قال بعض الناس : كيف يترك أمر الأذان وهو بهذه الأهمية من الصلاة فيكون أمر مشروعيته رؤيا يراها بعض الأصحاب ، وطعن في سند الحديث واستدل بحديث ابن عمر في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم : " قم يا بلال فناد بالصلاة " والجواب عن هذا من عدة وجوه :
منها : سند حديث عبد الله صحيح ، وقد ناقشه الشوكاني رحمه الله ، وذكر تصحيحه ومن صححه ويشهد لصحته ما قدمناه من رواية الموطأ بإرادة اتخاذ خشبتين ، فأري عبد الله بن زيد خشبتين الحديث ، وكذلك في الصحيحين إثبات التشاور فيما يعلم به حين الصلاة .
ومنها : أنه لا يتعارض مع حديث ابن عمر ؛ لأن حديث ابن عمر لم يذكر ألفاظ النداء فيكون الجمع بينهما ، إما أن بلالا كان ينادي بغير هذه الصيغة ، ثم رأى عبد الله الأذان فعلمه بلالا .
وقد يشهد لهذا الوجه ما جاء عن أبي ليلى قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وحدثنا أصحابنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لقد أعجبني أن تكون صلاة المسلمين واحدة ، حتى لقد هممت أن أبث رجالا في الدور ينادون الناس بحين الصلاة ، وحتى هممت أن آمر [ ص: 125 ] رجالا يقومون على الآطام ينادون المسلمين حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا " ، قال : فجاء رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله إني لما رجعت لما رأيت من اهتمامك رأيت رجلا كأن عليه ثوبين أخضرين فقام على المسجد فأذن ، ثم قعد قعدة ، ثم قام فقال مثلها إلا أنه يقول : قد قامت الصلاة ، ولولا أن يقول الناس لقلت إني كنت يقظان غير نائم . فقال صلى الله عليه وسلم : " لقد أراك الله خيرا فمر بلالا فليؤذن ، فقال عمر : أما إني قد رأيت مثل الذي رأى ولكني لما سبقت استحييت " . لأبي داود أيضا .
ففيه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قد هم أن يبث رجالا في الدور ، وعلى الآطام ينادون للصلاة ، فيكون نداء بلال أولا من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ ، وإما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان ، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه وأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يعلمه بلالا فنادى به ، ولا تعارض في ذلك كما ترى .
ومنها أيضا : أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعا له من عنده ولا متوقفا عليه ، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة .
وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس ، والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث : " إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر " إلخ .
ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - لما سمعها أقرها وقال : " إنها لرؤيا حق " ، أو لقد أراك الله حقا ، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال .
ثم جاء بعد ذلك تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأبي محذورة فصار سنة ثابتة ، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه - صلى الله عليه وسلم - وعملوا به بمجرد الرؤيا ، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذا .
ومنها : أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به ، ولما أخبره عمر قال له : " سبقك بذلك الوحي " ذكر في مراسيل أبي داود .
وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود .
ومنها ما قيل : ترك مجيء بيان وتعليم الأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين ، ذكرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلنا مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى [ ص: 126 ] وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإطرائه . وهذا وإن كان متوجها إلا أن فيه نظرا ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لو جاءهم بأعظم من ذلك لما كان موضع تساؤل .
من مجموع ما تقدم يكون أصل مشروعية الأذان سنة ثابتة ، إما أنه كان قد هم أن يبعث رجالا في البيوت ينادوه ، وإما لأنه أقر ما رأى عبد الله فيكون أصل المشروعية منه صلى الله عليه وسلم ، والتقرير منه على الألفاظ التي رآها عبد الله .
فضل الأذان وآداب المؤذن
لا شك أن الأذان من أفضل الأعمال ، وأن المؤذن يشهد له ما سمع صوته من حجر ومدر . إلخ .
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم : " أن المؤذنين أطول الناس أعناقا يوم القيامة " .
وقال عمر رضي الله عنه : لولا الخلافة لأذنت .
وقال صلى الله عليه وسلم : " الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، اللهم أرشد الأئمة ، واغفر للمؤذنين " . رواه أبو داود والترمذي ، إلى غير ذلك من فضائل الأذان ، فقيل : مؤتمن على الوقت ، وقيل : مؤتمن على عورات البيوت عند الأذان ، فقد حث - صلى الله عليه وسلم - المؤذنين على الوضوء له كما في حديث : " لا ينادي للصلاة إلا متوضئ " وإن كان الحدث لا يبطله اتفاقا .
ولما كان بهذه المثابة كانت له آداب في حق المؤذنين :
منها : أن يكونوا من خيار الناس ، كما عند أبي داود : " ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم قراؤكم " ، وعليه حذر - صلى الله عليه وسلم - من تولي الفسقة الأذان كما في حديث : " الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن " المتقدم . فإن فيه زيادة عند البزار قالوا يا رسول الله : لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك فقال : " إنه يكون بعدي أو بعدكم قوم سفلتهم مؤذنوهم " .
ومنها : أنه يكره التغني فيه ؛ لأنه ذكر ودعاء إلى أفضل العبادات ، وقد جاء عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رجلا قال له : إني أحبك في الله ، قال ابن عمر : لكني أبغضك في الله ، فقال : ولم ؟ قال : لأنك تتغنى في أذانك .
وفي المغني لابن قدامة : ولا يعتد بأذان صبي ولا فاسق ، أي ظاهر الفسق ، وعند المالكية : لا يحاكي في أذانه الفسقة .
[ ص: 127 ] ومنها : ألا يلحن فيه لحنا بينا ، قال في المغني : ويكره اللحن في الأذان ، فإنه ربما غير المعنى ، فإن من قال : أشهد أن محمدا رسول الله ونصب لام رسول . أخرجه عن كونه خبرا .
ولا يمد لفظة أكبر لأنه يجعل فيها ألفا فيصير جمع كبر ، وهو الطبل ، ولا يسقط الهاء من اسم الله والصلاة ولا الحاء من الفلاح ، لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤذن لكم من يدغم الهاء " الحديث أخرجه الدارقطني .
فأما إن كان ألثغ لا تتفاحش جاز أذانه ، فقد روي أن بلالا كان يقول : أسهد بجعل الشين سينا ، نقله ابن قدامة ، ولكن لا أصل لهذا الأثر مع شهرته على ألسنة الناس ، كما في كشف الخفاء ومزيل الإلباس .
ومن هذا ينبغي تعهد المؤذنين في هذين الأمرين اللحن والتلحين وكذلك الفسق ، وصفة المؤذنين ولا سيما في بلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومصدر التأسي ، وموفد القادمين من كل مكان ليأخذوا آداب الأذان والمؤذنين عن أهل هذه البلاد المقدسة .
ألفاظ الأذان والإقامة والراجح منها مع بيان التثويب والترجيع
مدار ألفاظ الأذان والإقامة في الأصل على حديثي عبد الله بن زيد بالمدينة ، وحديث أبي محذورة في مكة بعد الفتح ، وما عداهما تبع لهما كحديث بلال وغيره رضي الله عنهم .
وحديث عبد الله موجود في السنن أي فيما عدا البخاري ومسلم ، وهو متقدم من حيث الزمن كما تقدم ذلك في مبحث مشروعية الأذان وأنه كان ابتداء في المدينة أول مقدمه - صلى الله عليه وسلم - إليها .
وحديث أبي محذورة موجود في السنن وفي صحيح مسلم ، ولم يذكر البخاري واحدا منهما ، وإنما ذكر قصة سبب المشروعية ، وحديث : أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة على ما سيأتي إن شاء الله .
وعليه سنقدم حديث عبد الله ؛ لتقدمه في الزمن ، وألفاظه كما تقدم في بدء [ ص: 128 ] المشروعية ، هي : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .
ومجموعه خمسة عشرة كلمة أي جملة ، ففيه تربيع التكبير في أوله وتثنية باقيه ، وإفراد آخره ، وفيه الإقامة بتثنية التكبير في أوله في كلمة وإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة ، ولفظها : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .
قال الشوكاني : رواه أحمد وأبو داود ، وقال عنه الترمذي : حسن صحيح ، وذكر له عدة طرق ، ومنها عند الحاكم ، وابن خزيمة ، وابن حبان في صحيحيهما ، والبيهقي ، وابن ماجه .
حديث أبي محذورة ، وحديث أبي محذورة كان بعد الفتح كما في السنن أنه خرج في نفر فلقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدما من حنين ، وأذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم ، فظل أبو محذورة في نفره يحكونه استهزاء به ، فسمعهم - صلى الله عليه وسلم - فأحضرهم فقال : " أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ؟ فأشاروا إلى أبي محذورة ، فحبسه وأرسلهم ، ثم قال له : قم فأذن بالصلاة فعلمه " .
أما ألفاظه : فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله ، والباقي كحديث عبد الله بن زيد مع زيادة ذكر الترجيع ، وقد ساقه مسلم في ثلاثة مواضع وبلفظ التكبير مرتين فقط :
الموضع الأول : عن أبي محذورة نفسه ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه الأذان : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .
والموضع الثاني : في قصة الإغارة أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر ، وكان يستمع الأذان فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار ، فسمع رجلا يقول : الله أكبر الله أكبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " على الفطرة " ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خرجت من النار " . . . الحديث .
[ ص: 129 ] والموضع الثالث : عن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله " الحديث ، فهذه كلها ألفاظ مسلم لأذان أبي محذورة ، ولم يذكر مسلم عن الإقامة إلا حديث أنس ، أمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، وعند غير مسلم جاء حديث أبي محذورة بتربيع التكبير في أوله ، كحديث عبد الله بن زيد ، وبالترجيع والتثويب في الفجر ، وفيها أن الترجيع يكون أولا بصوت منخفض .
ثم يرجع ويمد بهما - أي بالشهادتين - صوته ، وذلك عند أحمد ، وأبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، أما الإقامة فجاءت عن أبي محذورة روايتان : الأولى قال : وعلمني النبي - صلى الله عليه وسلم - الإقامة مرتين مرتين : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .
الثانية : مثل الأذان تماما بتربيع التكبير ، وبدون ترجيع ، وتثنية الإقامة أي : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .
فالأولى كالأذان في رواية مسلم ، والثانية كرواية الأذان عند غيره بدون ترجيع ولا تثويب ، وإضافة لفظ الإقامة مرتين .
هذا مجموع ما جاء في أصول ألفاظ الأذان من حديثي عبد الله بن زيد وأبي محذورة .
وبالنظر في حديث عبد الله بن زيد نجده لم تختلف ألفاظه لا في الأذان ولا في الإقامة ، وهو بتربيع التكبير في الأذان وبدون تثويب ولا ترجيع ، وبإفراد الإقامة إلا لفظ الإقامة ، أما حديث أبي محذورة فجاء بعدة صور في الأذان وفي الإقامة .
أما الأذان فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله وعند غيره بتربيعه ، وعند الجميع إثبات [ ص: 130 ] الترجيع في الشهادتين ، وأن الأولى منخفضة ، والثانية مرتفعة ، كبقية ألفاظ الأذان ، وأما الإقامة فجاءت مرتين مرتين ، وجاءت مثل الأذان تماما عند غير مسلم سوى الترجيع والتثويب مع تثنية الإقامة ، فكان الفرق بين الحديثين كالآتي :
في ألفاظ الأذان ثلاث نقاط :
أولا : ذكر الترجيع .
ثانيا : التثويب .
ثالثا : عدد التكبير في أوله .
أما الترجيع فيجب أن يؤخذ به ; لأنه متأخر بعد الفتح ، ولا معارضة فيه ، لأنه زيادة بيان وبسند صحيح .
وأما التثويب فقد ثبت من حديث بلال ، وكان أيضا متأخرا عن حديث عبد الله قطعا ، وقد ثبت أن بلالا أذن للصبح فقيل له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نائم فصرخ بلال بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم .
قال سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين لصلاة الفجر ، أي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : " اجعل ذلك في أذانك " فاختصت بالفجر .
وذكر ابن قدامة - رحمه الله - في المغني عن بلال : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاه أن يثوب في العشاء " رواه ابن ماجه ، وقال : دخل ابن عمر - رضي الله عنهما - مسجدا يصلي فيه ، فسمع رجلا يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له : أين ؟ فقال : أخرجتني البدعة ، فلزم بهذا كله الأخذ بها في صلاة الفجر خاصة .
أما التكبير في أول الأذان ، ففي رواية مسلم لأبي محذورة مرتين في كلمة فاختلف مع حديث عبد الله بن زيد ، وعند غير مسلم بتربيع التكبير ، وبالنظر إلى سند مسلم فهو أصح سندا ، وبالنظر إلى ما عند غيره ، تجد فيه زيادة صحيحة ، وهي تربيع التكبير ، فوجب العمل بها كما وجب العمل بالتثويب والترجيع ; لأن الرواية المتفقة مع الحديث الآخر أولى من المختلفة معها .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:37 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (547)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 131 إلى صـ 138
أما الإقامة : ففي حديث عبد الله لم تختلف كما تقدم ، ولكنها في حديث أبي [ ص: 131 ] محذورة قد جاءت متعددة ولم تتفق صورة من صورها مع حديث عبد الله ، حيث إن فيها مرتين مرتين في جميع الكلمات ، ومنها كالأذان مع لفظ الإقامة مرتين ، وسند الجميع سواء .
فهل نأخذ في الإقامة بحديث عبد الله أم بحديث أبي محذورة ؟ من حيث الصناعة بكل منهما في السند سواء .
وفي حديث أبي محذورة زيادة وهي تشبيهها بالأذان ، فلو كان الأمر قاصرا على ذلك لكان العمل بحديث أبي محذورة في الإقامة أولى ; لأنه متأخر وفيه زيادة صحيحة ، ولكن وجدنا حديث بلال في الصحيح ، وعند مسلم أيضا وهو أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر بالإقامة ، وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال : كان الأذان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين ، والإقامة مرة مرة غير أنه كان يقول : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، رواه أبو داود والنسائي .
وبهذين الحديثين يمكن الترجيح بين حديثي عبد الله وأبي محذورة في كل من الأذان والإقامة .
فمن حديث بلال : نشفع الأذان ، ولكنهم يختلفون في تحقيق المناط في المراد بالشفع من حيث التكبير ; لأن الشفع يصدق على اثنين وأربع ، وعند في الأذان إما مرتان وإما أربع ، وكلاهما يصدق عليه معنى الشفع ، ولكن إذا اعتبرنا أن كل تكبيرتين جملة واحدة ، كان تحقق الشفع بجملتين ، فيأتي أربع تكبيرات ، وإذا اعتبرنا كل تكبيرة كلمة وجد الشفع في جملة واحدة لاشتمالها على كلمتين ، ولهذا وقع الخلاف .
ولكن الأذان لم تعد عباراته بالكلمات المفردة بل بالجمل ; لأننا نعد قولنا : حي على الصلاة ، وهي في الواقع جملة تشتمل على عدة كلمات مفردة ، وعليه فقولنا : الله أكبر الله أكبر كلمة ، وعلى هذا يكون الشفع بتكرارها ، فيأتي أربع تكبيرات : وهذا يتفق مع رواية الحديثين ، وحديث عبد الله تماما .
وقال النووي في شرح مسلم : قال القاضي عياض : إن حديث أبي محذورة جاء في نسخة الفاسي لمسلم بأربع تكبيرات . اهـ .
وبهذا تتفق الروايات كلها في تربيع التكبير في الأذان .
[ ص: 132 ] أما الإقامة فحديث بلال نص في إيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة وهو عين نص الإقامة في حديث عبد الله ، وعين النص في حديث عبد الله بن عمر ، والإقامة مرة مرة إلا الإقامة ، أي : فهي مرتين ، وعلى هذا العرض وبهذه المناقشة يكون الراجح هو العمل بحديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة ، مع أخذ الترجيع والتثويب من حديث أبي محذورة للأذان .
ثم نسوق ما أخذ به فقهاء الأمصار من هذا كله مع بيان النتيجة من جواز العمل بالجميع إن شاء الله .
قال ابن رشد في البداية ما نصه : اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة :
إحداهما : تثنية التكبير وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى ، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره ، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع في الشهادتين بصوت أخفض من الأذان .
والصفة الثانية : أذان المكيين ، وبه قال الشافعي ، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين ، وتثنية باقي الأذان .
والصفة الثالثة : أذان الكوفيين ، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان ، وبه قال أبو حنيفة .
والصفة الرابعة : أذان البصريين ، وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين ، وحي على الصلاة وحي على الفلاح ، يبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح ، ثم يعيد كذلك مرة ثانية أعني الأربع كلمات تبعا ثم يعيدهن ثالثة ، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين .
والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الفرق الأربع اختلاف الآثار في ذلك ، واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم ، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة ، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك ، وكذلك الكوفيون والبصريون ، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله . اهـ .
[ ص: 133 ] ثم ساق نصوص كل فريق من النصوص التي أوردناها سابقا ، ولم يورد نصا لمذهب البصريين الذي فيه التثليث المذكور ، وقد وجد في مصنف عبد الرزاق بسند جيد مجلد ( 1 ) ص ( 564 ) وجاء مرويا عن بعض الصحابة في المصنف المذكور .
وقال في الإقامة : أما صفتها فإنها عند مالك والشافعي بتثنية التكبير في أولها ، وبإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة ، فعند الشافعي مرتين وعند أبي حنيفة ، فهي مثنى مثنى ، وأما أحمد فقد خير بين الأفراد والتثنية فيها اهـ .
تلك هي خلاصة أقوال أئمة الأمصار في ألفاظ الأذان والإقامة ، وقد أجملها العلامة ابن القيم - رحمه الله - في زاد المعاد تحت عنوان : فصل مؤذنيه - صلى الله عليه وسلم - قال ما نصه :
وكان أبو محذورة يرجع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة ، فأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة ، وإقامة بلال ، ويعني بأذان أبي محذورة على رواية تربيع التكبير ، وأخذ أبو حنيفة ، وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة ، وأخذ أحمد ، وأهل الحديث ، وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته ، أي : بتربيع التكبير وبدون ترجيع ، وبإفراد الإقامة إلى لفظ الإقامة ، قال : وخالف مالك في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة ; فإنه لا يكررها اهـ .
ومراده بمخالفة مالك هنا لأهل الأمصار ، وإلا فهو متفق مع بعض الصور المتقدمة . أما في عدم إعادة التكبير ، فعلى حديث أبي محذورة عند مسلم ، وعدم تكريره للفظ الإقامة ، فعلى بعض روايات حديث بلال أن يوتر الإقامة أي على هذا الإطلاق ، وبهذا مرة أخرى يظهر لك أن تلك الصفات كلها صحيحة ، وأنها من باب اختلاف التنوع وكل ذهب إلى ما هو صحيح وراجح عنده ، ولا تعارض مطلقا إلا قول الحسن البصري وابن سيرين بالتثليث ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة .
وقال ابن تيمية كلمة فصل في ذلك ، في المجموع ج 22 ص 66 بعد ذكر هذه المسألة ما نصه : فإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكرهون شيئا من ذلك ، إذ تنوع صفة الأذان والإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك ، وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته . اهـ .
[ ص: 134 ] وقال ابن القيم في زاد المعاد في موضع آخر : مما لا ينبغي الخلاف فيه ما نصه : وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه .
وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه ، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة ، وأنواع النسك من الإفراد والتمتع والقران .
تنبيه
قد جاء في التثويب بعض الآثار عن عمر وبعض الأمراء ، والصحيح أنه مرفوع ، كما في قصة بلال المتقدمة ، ولا يبعد أن ما جاء عن عمر أو غيره يكون تكرارا لما سبق أن جاء عن بلال مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل فيها هل هو خاص بالفجر أو عام في كل صلاة يكون الإمام نائما فيها ؟ والصحيح أنه خاص بالفجر وفي الأذان لا عند باب الأمير أو الإمام ، وتقدم أثر عبد الله بن عمر فيمن ثوب في أذان الظهر أنه اعتبره بدعة وخرج من المسجد .
كيفية أداء الأذان
يؤدى الأذان بترسل وتمهل ; لأنه إعلان للبعيد ، والإقامة حدرا ; لأنها للحاضر القريب ، أما النطق بالأذان فيكون جزما غير معرب .
قال في المغني : ذكر أبو عبد الله بن بطة ، أنه حال ترسله ودرجه أي : في الأذان والإقامة ، لا يصل الكلام بعضه ببعض ، بل جزما . وحكاه عن ابن الأنباري عن أهل اللغة ، وقال : وروي عن إبراهيم النخعي قال : شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما الأذان والإقامة ، قال : وهذا إشارة إلى إجماعهم .
حكم الأذان والإقامة
قال ابن رشد : واختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واجب أو سنة مؤكدة ؟ وإن كان واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية ؟ اهـ .
فتراه يدور حكمه بين فرض العين والسنة المؤكدة ، والسبب في هذا الاختلاف ، اختلافهم في وجهة النظر في الغرض من الأذان هل هو من حق الوقت للإعلام بدخوله أو من حق الصلاة ، كذكر من أذكارها أو هو شعار للمسلمين يميزهم عن غيرهم ؟
وسنجمل أقوال الأئمة - رحمهم الله - مع الإشارة إلى مأخذ كل منهم ثم بيان الراجح [ ص: 135 ] إن شاء الله .
أولا : اتفق الشافعي ، وأبو حنيفة على أنه سنة على ما رجحه النووي عن الشافعي في المجموع أنه سنة في حق الجميع المنفرد والجماعة في الحضر وفي السفر ، أي : أنه لا تتعلق به صحة الصلاة .
وحكي عنه أنه فرض كفاية أي : للجماعة أو للجمعة خاصة ، والدليل لهم في ذلك حديث المسئ صلاته ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علمه معها الوضوء ، واستقبال القبلة ، ولم يعلمه أمر الأذان ولا الإقامة .
ثانيا : مالك جاء عنه أنه فرض على المساجد التي للجماعة وليس على المنفرد فرضا ولا سنة .
وعنه : أنه سنة مؤكدة على مساجد الجماعة ، ففرق مالك بين المنفرد ومساجد الجماعة . وفي متن خليل عندهم أنه سنة لجماعة تطلب غيرها في فرض وقتي ، ولو جمعة أي وما عدا ذلك فليس بسنة ، فلم يجعله على المنفرد أصلا . واختلف القول عنه في مساجد الجماعة ما بين الفرض والسنة المؤكدة ، واستدل بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح ، وكان يقول : إنما الأذان للإمام الذي يجتمع له الناس ، رواه مالك .
وكذلك أثر ابن مسعود وعلقمة ، صلوا بغير أذان ولا إقامة . قال سفيان : كفتهم إقامة المصر ، وقال ابن مسعود : إقامة المصر تكفي ، رواهما الطبراني في الكبير بلين .
ثالثا : وعند الحنابلة : قال الخرقي : هو سنة أي كالشافعي وأبي حنيفة ، وغير الخرقي قال كقول مالك .
رابعا : عند الظاهرية فرض على الأعيان ، ويستدلون بحديث مالك بن الحويرث وصاحبه ، قال لهما صلى الله عليه وسلم : " إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما ، وليؤمكما أكبركما " . متفق عليه .
فحملوا الأمر على الوجوب .
هذا موجز أقوال الأئمة - رحمهم الله - مع الإشارة إلى أدلتهم في الجملة ، وحكمه كما رأيت دائر بين السنة عموما عند الشافعي وأبي حنيفة ، والوجوب عند الظاهرية .
[ ص: 136 ] والسنة المؤكدة أو فرض الكفاية عند مالك وغيره على تفصيل في ذلك .
وقد رأيت النصوص عند الجميع ، ولكن من أسباب الخلاف في حكم الأذان هو تردد النظر فيه هل هو في حق الوقت للإعلام بدخول الوقت ، أو هو حق الصلاة نفسها ، أو هو شعار للمسلمين ؟
فعلى أنه من حق الوقت ، فأذان واحد ، فإنه يحصل به الإعلام ويكفي عن غيره ، ولا يؤذن من فاته أول الوقت ، ولا من يصلي في مسجد قد صليت فيه الفريضة أولا ولا للفوائت .
وإن كان من حق الصلاة فهل هو شرط في صحتها أو سنة مستقلة .
وعلى أنه للوقت للإعلام به ، فإنه يعارضه حديث قصة تعريسهم آخر الليل ، ولم يوقظهم إلا حر الشمس ، وأمره - صلى الله عليه وسلم - بالانتقال عن ذلك الوادي ثم نزولهم والأمر بالأذان والإقامة ، فلا معنى لكونه للوقت في هذا الحديث ، وهو من رواية مالك في الموطأ .
وعلى أنه للصلاة فله جهتان :
الأولى : إذا كان المصلي منفردا ولا يطلب من يصلي معه .
والثانية : أنه إذا كانوا جماعة .
فإذا كان منفردا لا يطلب من يصلي معه ، فلا ينبغي أن يختلف في كونه ليس شرطا في صحة الصلاة ، وليس واجبا عليه ; لأن الأذان للإعلام ، وليس هناك من يقصد إعلامه .
ولحديث المسئ صلاته المتقدم ذكره ، وقد يدل لذلك ظاهر نصوص القرآن في بيان شروط الصلاة التي هي : الطهارة ، والوقت ، وستر العورة ، واستقبال القبلة .
ففي الطهارة قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية [ 5 \ 6 ] .
وفي الوقت قال تعالى : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل الآية [ 11 \ 114 ] ونحوها .
وفي العورة قال تعالى : يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد الآية [ 7 \ 31 ] .
[ ص: 137 ] وفي القبلة قال تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام [ 2 \ 144 ] .
وأما في الأذان فقال تعالى : وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا [ 5 \ 58 ] .
وقال في سورة " الجمعة " في هذه الآية : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة [ 62 \ 9 ] وكلاهما حكاية واقع ، وليس فيهما صيغة أمر كغير الأذان مما تقدم ذكره .
أما حديث ابن الحويرث فهو في خصوص جماعة ، وليس في شخص واحد كما هو نص الحديث .
وبقي النظر فيه في حق الجماعة ، هل هو على الوجوب في حقهم أم على الندب ؟ وإذا كان بالنصوص القرآنية المتقدمة أنه ليس شرطا لصحة صلاة الفرد ، فليس هو إذا بشرط في صحة صلاة الجماعة فيجعل الأمر فيه على الندب .
وعليه حديث ابن أبي صعصعة أن أبا سعيد قال له : " أراك تحب الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء ; فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم " . رواه البخاري ومالك في الموطأ والنسائي .
ومحل الشاهد فيه قوله رضي الله عنه : فأذنت للصلاة فارفع صوتك ، فيفهم منه أنه إن لم يؤذن فلا شيء عليه ، وأنه يراد به الحث على رفع الصوت لمن يؤذن ولو كان في البادية ، لما يترتب عليه من هذا الأجر .
أما كونه شعارا للمسلمين فينبغي أن يكون وجوبه متعلقا بالمساجد في الحضر ، فيلزم أهلها ، كما قال مالك والشافعي في حق المساجد .
قال الشافعي : يقاتلون عليه إن تركوه ، ذكره النووي في المجموع لدليل الإغارة في الصبح أو الترك بسبب سماعه ، وكذلك يتعلق في السفر بالإمام ، وينبغي أن يحرص عليه [ ص: 138 ] لفعله - صلى الله عليه وسلم - في كل أسفاره في غزواته وفي حجه كما هو معلوم ، وما عدا ذلك فهو لا شك سنة لا ينبغي تركها .
ولابن تيمية تقسيم نحو هذا في المجموع في الجزء الثاني والعشرين : وللأذان عدة جوانب تبع لذلك منها في حالة الجمع بين الصلاتين ، فقد جاءت السنة بالأذان والإقامة للأولى منهما ، والاكتفاء بالإقامة للثانية ، كما في الجمع بين الظهر والعصر بعرفة ، والمغرب والعشاء في المزدلفة على الصحيح ، وهو من أدلة عدم الوجوب لكل صلاة .
ومنها أن لا أذان على النساء أي لا وجوب ، وإن أردن الفضيلة أتين به سرا ، وقد عقد له البيهقي بابا قال فيه : ليس على النساء أذان ولا إقامة ، وساق فيه عن عبد الله بن عمر موقوفا ، قال : ليس على النساء أذان ولا إقامة ، ثم ساق عن أسماء - رضي الله عنها - مرفوعا : " ليس على النساء أذان ولا إقامة ، ولا جمعة ولا اغتسال جمعة ، ولا تقدمهن امرأة ، ولكن تقوم في وسطهن " هكذا رواه الحكم بن عبد الله الأيلي وهو ضعيف ، وقال : ورويناه في الأذان والإقامة عن أنس بن مالك موقوفا ومرفوعا ، ورفعه ضعيف وهو قول الحسن وابن المسيب ، وابن سيرين والنخعي .
تعدد المؤذنين لصلاة الجمعة ولبقية الصلوات الخمس في المسجد الواحد
أولا : ما يتعلق بالجمعة ، صور التعدد لها فيه صورتان ، صورة تعدد الأذان أي قبل الوقت وبعد الوقت ، وصورة تعدد المؤذنين بعد الوقت على ما سيأتي في ذلك إن شاء الله ، أما تعدد الأذان فقد بوب له البخاري رحمه الله في صحيحه في باب الجمعة قال : باب الأذان يوم الجمعة ، وساق حديث السائب بن يزيد ، قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وعمر رضي الله عنهما .
فلما كان عثمان - رضي الله عنه - وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء ففيه الأذان أولا للوقت كبقية الصلوات ، وفيه أذان قبل الوقت زاده عثمان لما كثر الناس ، وهو المعنى الثالث ، والاثنان الآخران هما الأذان للوقت ، والإقامة الموجودان من قبل .
وذكر ابن حجر - رحمه الله - في الشرح تنبيها قال فيه : ورد ما يخالف ذلك الخبر بأن عمر رضي الله عنه هو الذي زاد الأذان .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:38 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (548)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 139 إلى صـ 146
[ ص: 139 ] ففي تفسير جويبر عن الضحاك عن زيادة الراوي ، عن برد بن سنان ، عن مكحول عن معاذ أن عمر أمر مؤذنيه أن يؤذنا للناس الجمعة خارجا من المسجد حتى يسمع الناس ، وأمر أن يؤذن بين يديه ، كما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، ثم قال عمر : نحن ابتدعناه لكثرة المسلمين اهـ .
ثم ناقش ابن حجر هذا الأثر وقال : إنه منقطع ثم ذكر أنه وجد له ما يقويه إلى آخر كلامه .
فهذا دليل على تعدد الأذان للجمعة قبل الوقت وعند دخوله ، سواء من عمر أو من عثمان أو منهما معا ، رضوان الله عليهما .
أما مكان هذا الأذان وزمانه ، فإن المكان قد جاء النص أنه كان على الزوراء .
وقد كثر الكلام في تحديد الزوراء مع اتفاقهم أنها مكان بالسوق ، وهذا يتفق مع الغرض من مشروعيته لتنبيه أهل السوق بوقت الجمعة للسعي إليها .
أما الزوراء بعينها فقال علماء تاريخ المدينة : إنه اسم للسوق نفسها ، وقيل : مكان منها مرتفع كان عند أحجار الزيت ، وعند قبر مالك بن سنان ، وعند سوق العباءة .
والشيء الثابت الذي لم يقبل التغير ، هو قبر مالك بن سنان ، لكن يقولون عنده ، وليس في مكانه ، وقد بدا لي أن الزوراء هو مكان المسجد الذي يوجد الآن بالسوق في مقابلة الباب المصري المعروف بمسجد فاطمة ، ويبدو لي أن الزوراء حرفت إلى الزهراء ، والزهراء عند الناس يساوي فاطمة لكثرة قولهم فاطمة الزهراء ، ومعلوم قطعا أن فاطمة الزهراء - رضي الله عنها - بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لها مسجد في هذا المكان ، فلا صحة لنسبة هذا المسجد إليها ، بل ولا ما نسب لأبي بكر وعمر وعلي - رضي الله عنهم - من مساجد في جوانب مسجد المصلى المعروف الآن بمسجد الغمامة ، وإنما صحة ما نسب إليهم - رضوان الله تعالى عليهم - هو أن تلك الأماكن كانت مواقفهم في مصلى العيد ، ولهذا تراها كلها في هذا المكان المتواجدة فيه .
فأولهم أبو بكر - رضي الله عنه - وقد أخر موقفه عن موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى العيد تأدبا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء من بعده ، واختلفت أماكن مصلاهم فأقيمت تلك المساجد في أماكن قيامهم .
[ ص: 140 ] أما ما ينسب إلى فاطمة الزهراء فلا مناسبة له ولا صحة له ، وقد قال بعض المتأخرين : إنه منسوب إلى إحدى الفضليات من نساء العصور المتأخرة ، واسمها فاطمة ، وعليه فلعلها قد جددته ولم تؤسسه ; لأنه لا موجب أيضا لتبرعها بإنشاء مسجد بهذا القرب من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وبمناسبة العمل بالقضاء فقد عرض علي صك شرط وقف للأشراف الشراقمة بالمدينة المنورة ، وفي بعض تحديد أعيانه يقول : الواقع في طريق الزوراء ، ويحده جنوبا وقف الحلبي ، ووقف الحلبي موجود حتى الآن معروف يقع عن المسجد الموجود بالفعل في الجنوب الشرقي وليس بينه وبين المسجد المذكور إلا السور والشارع فقط ، وتاريخ هذا الصك قبل مائة سنة من تاريخ كتابة هذه الأحرف أي قبل عام ألف ومائتين من الهجرة .
وبهذا ترجح عندي أن موضع أذان عثمان - رضي الله عنه - كان بذلك المكان ، وأنه المتوسط بسوق المدينة ، وتقدر مسافته عن المسجد النبوي بحوالي مائتين وخمسين مترا تقريبا .
وقد كان الأذان الأول زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنارة ، وهكذا الأذان للوقت زمن الخلفاء الراشدين ، ثم من بعدهم ، أما هذا الأذان فكان ابتداؤه من الزوراء ، ثم نقل إلى باب المسجد ، ثم نقل إلى ما بين يدي الإمام ، وذلك زمن هشام بن عبد الملك ، ثم نقل إلى المنارة .
أما زمانه فلم أقف على تحديد صحيح صريح ، كم كان بينه وبين الثاني ؟ وهل كان بعد دخول الوقت أو قبله ؟
وقد ذكر ابن حجر في الفتح رواية عن الطبراني ما نصه : فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها الزوراء ، فكان يؤذن عليها ، فإذا جلس على المنبر أذن مؤذنه الأول ، فإذا نزل أقام الصلاة ، وفي رواية له من هذا الوجه : فأذن بالزوراء قبل خروجه ; ليعلم الناس أن الجمعة قد حضرت ، إلى أن قال : وتبين بما مضى أن عثمان أحدثه لإعلام الناس بدخول وقت الصلاة قياسا على بقية الصلوات ، فألحق الجمعة بها ، وأبقى خصوصيتها بالأذان بين يدي الخطيب ، فتراه يرجح كونه بعد دخول الوقت وعند خروج عثمان أي من بيته وكان يسكن إلى تلك الجهة ، ولكن هذا لا يتمشى مع الغرض من إيجاد هذا الأذان ، لأنه لما كثر [ ص: 141 ] الناس جعله في السوق لإعلامهم ، فإذا كان بعد الوقت ، فأي فائدة منه ، وكيف يعد ثالثا ، إنه يكون من تعدد المؤذنين لا من تعدد الأذان .
ثم إن مسكن عثمان - رضي الله عنه - كان بجوار مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحله معروف حتى الآن ، وكان يعرف برباط عثمان ، فكيف يجعل هذا الأذان عند خروجه مع بعد ما بين الزوراء ومكان سكناه .
ثم إن من المتفق عليه أن الأذان بين يدي الإمام هو الأذان الذي بعد دخول الوقت ، وتصح الصلاة بعده ، فالأذان الثالث كالأول بالنسبة للصبح ، وبهذا يترجح أنه كان قبل الوقت لا بعده ، كالأول للصبح ليتحقق الغرض منه ، وعليه ينبغي أن يراعى في زمنه ما بينه وبين الثاني وما يتحقق به الغرض من رجوع أهل السوق وتهيئهم للجمعة وهذا يختلف باختلاف الأماكن والبلاد ، وسواء كان قبل الوقت أو بعده ، فلا بد من زمن بينهما يتمكن فيه أهل السوق من الحضور إلى المسجد وإدراك الخطبة .
ولو أخذنا بعين الاعتبار ما وقع لعثمان نفسه زمن عمر - رضي الله عنه - لما دخل المسجد وعمر يخطب فعاتبه على التأخير ، ثم أحدث عثمان هذا الأذان في عهده لوجدنا قرينة تقديمه عن الوقت لئلا يقع غيره فيما يقع هو فيه ، والله تعالى أعلم .
وسيأتي نص ابن الحاج على أنه قبل الوقت .
وهذا آخر ما يتعلق بتعدد الأذان يوم الجمعة ، وسيأتي التنبيه على ما يوجد من نداءات أخرى يوم الجمعة في بعض الأمصار عند الكلام على ما استحدث في الأذان وابتدع فيه ، مما ليس منه إن شاء الله .
أما تعدد المؤذنين يوم الجمعة
فقد جاء صريحا في صحيح البخاري في باب رجم الحبلى من الزنا في حديث طويل عن ابن عباس زمن عمر رضي الله عنه ، وفيه ما نصه : " فجلس عمر على المنبر ولما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله " إلى آخر الحديث .
فهذا نص صريح من البخاري أنه كان لعمر مؤذنون ، وكانوا يؤذنون حين يجلس على المنبر ، وكان يجلس إلى أن يفرغوا من الأذان ، ثم يقوم فيخطب أي كان أذانهم كلهم بعد دخول الوقت .
[ ص: 142 ] قال ابن الحاج في المدخل ، وكانوا ثلاثة يؤذنون واحدا بعد واحد ، ثم زاد عثمان أذانا آخر بالزوراء قبل الوقت ، فتحصل من هذا وجود تعدد المؤذنين لصلاة الجمعة ، وكانوا زمن عمر ثلاثة وكانوا يؤذنون متفرقين واحدا بعد واحد .
وقد ذكر ابن حجر في الفتح أيضا ضمن كلامه على الحديث المتقدم تحت عنوان " المؤذن الواحد يوم الجمعة " رواية عن ابن حبيب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رقي المنبر وجلس أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة واحدا بعد واحد ، فإذا فرغ الثالث قام فخطب .
ثم قال : فإنه دعوى تحتاج إلى دليل ، ولم يرد ذلك صريحا من طريق متصلة يثبت مثلها .
ثم قال : ثم وجدته في مختصر البويطي عن الشافعي ، وفي تعليق لسماحة رئيس الجامعة في الحاشية على ذلك قال في مخطوطة الرياض في مختصر المزني : وسواء كان في مختصر البويطي أو المزني فإن عزوه إلى الشافعي صحيح وابن حجر لم يعلق على وجود هذا الأثر بشيء .
وقال النووي في المجموع : قال الشافعي - رحمه الله - في البويطي : والنداء يوم الجمعة هو الذي يكون والإمام على المنبر ، يكون المؤذنون يستفتحون الأذان فوق المنارة جملة حين يجلس الإمام على المنبر ; ليسمع الناس ، فيأتون إلى المسجد ، فإذا فرغوا خطب الإمام بهم ، فهذا أيضا نص الشافعي ينقله النووي على تعدد المؤذنين يوم الجمعة فوق المنارة جملة ، والإمام على المنبر ، وبهذا تظهر مشروعية تعدد الأذان للجمعة ، قبل وبعد الوقت من عمل الخلفاء الراشدين ، وفي توفر الصحابة المرضيين - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - مما يصلح أن يقال فيه إجماع سكوتي في وفرة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - كما ثبتت مشروعية تعدد الأذان بعد الوقت من فعل الخلفاء أيضا وإجماع الصحابة عليه مع أثر فيه نقاش مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
أما ما يتعلق بالأذان لبقية الصلوات الخمس فكالآتي :
أولا : تعدد الأذان ، فقد ثبت في حديث بلال وابن أم مكتوم في قوله - صلى الله عليه وسلم : " إن بلالا ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " متفق عليه ، وهذا في صلاة الفجر فقط لما في الحديث من القرائن المتعددة التي منها : " ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي [ ص: 143 ] ابن أم مكتوم ، أي إن أذان بلال قبل الفجر يحل الطعام وأذان ابن أم مكتوم بعد دخول الوقت حين يحرم الطعام على الصائم .
وفي رواية : لم يكن ابن أم مكتوم يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت وكان بينهما من الزمن ، ففي بعض الروايات أنه لم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا . رواه مسلم .
وفي رواية للجماعة عن ابن مسعود قال صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره ، فإنه يؤذن أو قال : ينادي بليل ; ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم " .
قال الشوكاني : يريد القائم المتهجد إلى راحته ; ليقوم إلى صلاة الصبح نشيطا أو يتسحر ، إن كان له حاجة إلى الصيام ، ويوقظ النائم ; ليتأهب للصلاة بالغسل والوضوء ، فالأول يشعر بتواليهما مع فرق يسير ، والآخر يدل بالفرق بينهما ، وكلاهما صحيح السند .
وقد فسر هذا النووي في شرح مسلم ونقله عنه الشوكاني في نيل الأوطار بقوله : قال العلماء معناه : إن بلالا كان يؤذن قبل الفجر ، ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ، ثم يرقب الفجر ، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ابن أم مكتوم بالطهارة وغيرها ، ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر ، وهذا يتفق مع قوله صلى الله عليه وسلم : " ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم إلى آخره ، ويصدقه ما جاء في الأثر أيضا عن ابن أم مكتوم وكان رجلا أعمى فلا يؤذن حتى يقال له : أصبحت أصبحت ، وهذا الأذان الأول للفجر هو مذهب الجمهور ما عدا الإمام أبا حنيفة - رحمه الله - من الأئمة الأربعة ، وحمل أذان بلال على النداء بغير ألفاظ الأذان .
قال الشوكاني : وعند الأحناف أن أبا حنيفة - رحمه الله - لما أذن بلال قبل الوقت أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرجع فيقول : إلا إن العبد قد نام ، وهذا الأثر رواه الترمذي ، وقال : حديث غير محفوظ .
وفي فتح القدير للأحناف ، ما نصه : ولا يؤذن لصلاة قبل دخول وقتها ، ويعاد في الوقت .
وقال أبو يوسف : يجوز للفجر في النصف الأخير من الليل ، قال في الشرح : وهو قول الشافعي ، وقال : لتوارث أهل الحرمين ، فيكون أبو يوسف صاحب أبي حنيفة [ ص: 144 ] - رحمهما الله - قد وافق الجمهور في مشروعية الأذان قبل الفجر قبل الوقت ، وإن ما استدل به أبو حنيفة ليس بمحفوظ ، وقد جوزه أبو يوسف في النصف الأخير من الليل .
وجاء نص المالكية أنه في السدس الأخير ، قال في مختصر خليل : غير مقدم على الوقت إلا الصبح فبسدس الليل الأخير .
وعند الحنابلة في المعنى ما نصه : قال أصحابنا : ويجوز الأذان للفجر بعد نصف الليل ، وهذا مذهب الشافعي إلى قوله :
وقد روى الأثرم عن جابر قال : كان مؤذن مسجد دمشق يؤذن لصلاة الصبح في السحر بقدر ما يسير الراكب ستة أميال فلا ينكر ذلك مكحول ولا يقول فيه شيئا . اهـ .
تنبيه
قال في المغني : وقال طائفة من أهل الحديث : إذا كان مؤذنان يؤذن أحدهما قبل طلوع الفجر والآخر بعده ، فلا بأس أي : ليعرف الأول منهما من الثاني ويلتزما بذلك ; ليعلم الناس الفرق بين الأذانين كما كان زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى ملخصا .
أما تعدد المؤذنين لبقية الأوقات الخمسة فكالآتي :
أولا : فإن الأصل في ذلك عند العلماء هو حديث بلال وابن أم مكتوم المتقدم ذكره في صلاح الفجر ، ثم قاسوا عليه للحاجة بقية الصلوات ، كما استأنسوا لزيادة عمر وعثمان في الجمعة للجماعة لزيادة الإعلام كما تقدم .
ثانيا : نسوق موجز الأقوال في ذلك عند الشافعية :
قال النووي في شرح مسلم : باب استحباب اتخاذ مؤذنين للمسجد الواحد ، وساق كلامه على حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذنان : بلال وابن أم مكتوم .
ثم قال ما نصه : وفي الحديث استحباب مؤذنين للمسجد الواحد ، يؤذن أحدهما قبل الفجر والآخر عند طلوعه .
قال أصحابنا : فإذا احتاج إلى أكثر من مؤذنين اتخذ ثلاثة ، وأربعة فأكثر بحسب الحاجة .
[ ص: 145 ] وقد اتخذ عثمان - رضي الله عنه - أربعة للحاجة عند كثرة الناس .
قال أصحابنا : وإذا ترتب للأذان اثنان فصاعدا ، فالمستحب ألا يؤذنوا دفعة واحدة ، بل إن اتسع الوقت ترتبوا فيه ، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم ، وإن ضاق الوقت ، فإن كان المسجد كبيرا أذنوا متفرقين في أقطاره ، وإن كان ضيقا وقفوا معا وأذنوا ، وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تشويش ، فإن أدى إلى ذلك لم يؤذن إلا واحد ، اهـ .
فهذا نص النووي على قول أصحابه أي : الشافعية في المسألة ساقه في شرح مسلم ، وقال في المجموع شرح المهذب على نص المتن إذ قال الماتن : والمستحب أن يكون المؤذن للجماعة اثنين ، وذكر حديث بلال وابن أم مكتوم ، فإن احتاج إلى الزيادة جعلهم أربعة ; لأنه كان لعثمان أربعة ، والمستحب أن يؤذن واحد بعد واحد ; لأن ذلك أبلغ في الإعلام .
قال النووي في الشرح : قال أبو علي الطبري : تجوز الزيادة إلى أربعة ، ثم ناقش المسألة مع من خالفه في العدد ثم قال : العبرة بالمصلحة ، فكما زاد عثمان إلى أربعة للمصلحة جاز لغيره الزيادة .
وذكر عن صاحب الحاوي إلى ثمانية ، ثم قال : فرع ، وساق فيه ما نصه :
فإن كان للمسجد مؤذنان أذن واحد بعد واحد ، كما كان بلال وابن أم مكتوم ، فإن تنازعوا في الابتداء أقرع بينهم ، فإن ضاق الوقت والمسجد كبير أذنوا في أقطاره كل واحد في قطر ; ليسمع أهل تلك الناحية ، وإن كان صغيرا أذنوا معا وإذا لم يؤد إلى تهويش .
قال صاحب الحاوي وغيره : ويقفون جميعا عليه كلمة كلمة فإن أدى إلى تهويش أذن واحد . إلخ .
وفي صحيح البخاري ، باب من قال : ليؤذن في السفر مؤذن واحد ، وساق بسنده عن مالك بن الحويرث : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومي ، فأقمنا عنده عشرين ليلة وكان رحيما ورفيقا ، فلما رأى شوقنا إلى أهالينا ، قال : " ارجعوا فكونوا فيهم ، وعلموهم وصلوا إذا حضرت الصلاة ، فليؤذن لكم أحدكم ، وليؤمكم أكبركم " .
قال في الفتح أثناء الشرح : وعلى هذا فلا مفهوم لقوله : مؤذن واحد في السفر لأن [ ص: 146 ] الحضر أيضا لا يؤذن فيه إلا واحد ، ولو احتيج إلى تعددهم لتباعد أقطار البلد أذن كل واحد في جهة ولا يؤذنون جميعا .
وقد قيل : إن أول من أحدث التأذين جميعا بنو أمية .
وقال الشافعي في الأم : وأحب أن يؤذن مؤذن بعد مؤذن ، ولا يؤذنون جميعا ، وإن كان مسجد كبير فلا بأس أن يؤذن في كل جهة منه ، مؤذن ، يسمع من يليه في وقت واحد . اهـ .
وهذا الذي حكاه الشارح عن الشافعي موجود في الأم ، ولكن بلفظ فلا بأس أن يؤذن في كل منارة له مؤذن فيسمع من يليه في وقت واحد . ا هـ .
وهذا القدر كاف لبيان قول الشافعي وأصحابه ، من أن التعدد جائز بحسب المصلحة .
وعند مالك جاء في الموطأ حديث بلال وابن أم مكتوم أيضا .
وقال الباجي في شرحه : ويدل هذا الحديث على جواز اتخاذ مؤذنين في مسجد يؤذنان لصلاة واحدة .
وروى علي بن زياد عن مالك : لا بأس أن يؤذن للقوم في السفر والحرس والمركب ثلاثة مؤذنين وأربعة ، ولا بأس أن يتخذ في المسجد أربعة مؤذنين وخمسة .
قال ابن حبيب : ولا بأس فيما اتسع وقته من الصلوات ، كالصبح والظهر والعشاء ، أن يؤذن خمسة إلى عشرة واحد بعد واحد ، وفي العصر من ثلاثة إلى خمسة ، ولا يؤذن في المغرب إلا واحد .
فهذا نص مالك والمالكية في جواز تعدد الأذان في المسجد الواحد ، يؤذنون واحدا بعد واحد .
وفي متن خليل ما نصه : وتعدده وترتيبهم إلا المغرب ، وجمعهم كل على أذان .
وذكر الشارح الخرشي : من خمسة إلى عشرة في الصبح والظهر والعشاء ، وفي العصر من ثلاثة إلى خمسة ، وفي المغرب واحد أو جماعة . إلخ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:39 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (549)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 147 إلى صـ 154
وعند الحنابلة قال في المغني : فصل ، ولا يستحب الزيادة على مؤذنين لحديث [ ص: 147 ] بلال وابن أم مكتوم أيضا ، ثم قال : إلا أن تدعو الحاجة إلى الزيادة عليهما فيجوز .
فقد روي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه كان له أربعة مؤذنين ، وإن دعت الحاجة إلى أكثر منهم كان مشروعا ، وإذا كان أكثر من واحد وكان الواحد يسمع الناس ، فالمستعجب أن يؤذن واحد بعد واحد ; لأن مؤذني النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أحدهما يؤذن بعد الآخر ، وإن كان الإعلام لا يحصل بواحد أذنوا على حسب ما يحتاج إليه ، إما أن يؤذن كل واحد في منارة أو ناحية أو دفعة واحدة في موضع واحد .
قال أحمد : إن أذن عدة في منارة فلا بأس ، وإن خافوا من تأذين واحد بعد واحد فوات أول الوقت ، أذنوا جميعا دفعة واحدة .
وعند الأحناف : جاء في فتح القدير شرح الهداية في سياق إجابة المؤذن وحكاية الأذان ما نصه : إذا كان في المسجد أكثر من مؤذن أذنوا واحدا بعد واحد ، فالحرمة للأول إلى أن قال : فإذا فرض أن سمعوه من غير مسجده تحقق في حقه السبب ، فيصير كتعددهم في المسجد الواحد ، فإن سمعهم معا أجاب معتبرا كون جوابه لمؤذن مسجده .
هذه نصوص الأئمة - رحمهم الله - في جواز تعدد المؤذنين والأذان في المسجد الواحد للصلاة الواحدة متفرقين أو مجتمعين .
وقال ابن حزم : ولا يجوز أن يؤذن اثنان فصاعدا معا ، فإن كان ذلك فالمؤذن هو المبتدئ إلى أن قال :
وجائز أن يؤذن جماعة واحدا بعد واحد للمغرب وغيرها سواء في كل ذلك ، فلم يمنع تعدد الأذان من عدة مؤذنين في المسجد الواحد أحد من سلف الأمة .
الحكمة في الأذان
أما الحكمة في الأذان فإن أعظمها أن من خصائص هذه الأمة كما تقدم في أصل مشروعيته ، وقد اشتمل على أصول عقائد التوحيد تعلن على الملأ ، تملأ الأسماع حتى صار شعار المسلمين .
ونقل عن القاضي عياض رحمه الله قوله :
[ ص: 148 ] اعلم أن الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان مشتمل على نوعه من العقليات والسمعيات ، فأوله : إثبات الذات وما تستحقه من الكمالات والتنزيه عن أضدادها وذلك بقوله : الله أكبر وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه .
ثم يصرح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى ، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين ، ثم يصرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية ، وموضعها بعد التوحيد ; لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع ، وتلك المقدمات من باب الواجبات وبعد هذه القواعد كلمات العقائد العقليات ، فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوة ، لأن معرفة وجوبها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من جهة العقل .
ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم ، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء وهي آخر تراجم عقائد الإسلام . إلخ .
ومراده بالعقليات في العقائد أي إثبات وجود الله وأنه واحد لا شريك له ، وهو المعروف عندهم بقانون الإلزام ، الذي يقال فيه : إن الموجود إما جائز الوجود أو واجبه ، فجائز الوجود جائز العدم قبل وجوده واستوى الوجود والبقاء في العدم قبل أن يوجد ، فترجح وجوده على بقائه في العدم ، وهذا الترجيح لا بد له من مرجح وهو الله تعالى . وواجب الوجود لم يحتج إلى موجد ، ولم يجز في صفة عدم وإلا لاحتاج موجده إلى موجد ، ومرجح وجوده على موجود .
وهكذا فاقتضى الإلزام العقلي وجوب وجود موجد واجب الوجود ، وهذا من حيث الوجود فقط ، وقد أدخل العقل في بعض الصفات التي يستلزمها الوجود ، والحق أن العقل لا دخل له في العقائد من حيث الإثبات أو النفي ; لأنها سمعية ولا تؤخذ إلا عن الشارع الحكيم ، لأن العقل يقصر عن ذلك ، ومرادنا التنبيه على إدخال العقليات هنا فقط .
وقد سقنا كلام القاضي عياض هذا في حكمة الأذان لوجاهته ، ولتعلم من خصوصية الأذان في هذه الأمة وغيرها به أنه ليس بصلصلة ناقوس أجوف ، ولا أصوات بوق أهوج ، ولا دقات طبل أرعن ، كما هو الحال عند الآخرين ، بل هو كلمات ونداء يوقظ القلوب من سباتها ، وتفيق النفوس من غفلتها ، وتكف الأذهان عن تشاغلها ، وتهيئ المسلم إلى هذه [ ص: 149 ] الفريضة العظمى ، ثانية أركان الإسلام وعموده .
فإذا ما سمع الله أكبر الله أكبر مرتين ، عظم الله في نفسه ، واستحضر جلاله وقدسه واستصغر كل شيء بعد الله ، فلا يشغله شيء عن ذكر الله ; لأن الله أكبر من كل شيء ، فلا يشغل نفسه عنه أي شيء .
فإذا سمع أشهد أن لا إله إلا الله ، علم أن من حقه عليه طاعة الله وعبادته .
وإذا سمع : أشهد أن محمدا رسول الله ، علم أنه يلزمه استجابة داعي الله .
وإذا سمع حي على الصلاة حي على الفلاح ، علم أن فلاحه في صلاته في وقتها لا فيما يشغله عنها .
وهكذا فكان ممشاه إليها تخشعا ، وخطاه إلى المسجد تطوعا مع حضور القلب واستجماع الشعور .
ومن هنا أيضا ندرك السر في طلب السامع محاكاة الأذان تبعا للمؤذن ليرتبط معه في إعلانه وعقيدته وشعوره ، كما جاء في أثر عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن رجلا قال : يا رسول الله إن المؤذنين يفضلوننا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قل مثل ما يقولون ، فإذا انتهيت فاسأل تعطه " . رواه أبو داود .
وقد قدمنا هذا الموضوع هنا ، وإن كان ليس من منهج الكتاب ، ولكن لموجب اقتضاء ، ولمناسبة مبحث الأذان .
أما الموجب فهو أني سمعت منذ أيام أثناء الكتابة في مباحث الأذان ، وسمعت من إذاعة لبلد عربي مسلم أن كاتبا استنكر الأذان في الصبح خاصة ، وفي بقية الأوقات بواسطة المكبر للصوت ، وقال : إنه يرهق الأعصاب وخاصة عند أداء الناس لأعمالهم أو عند الفراغ منها والعودة لراحتهم ، ولا سيما في الفجر عند نومهم ، فكان وقعه أليما أن يصدر ذلك وينشر ، ولكن أجاب عليه أحد خطباء الجمع في خطبة وافية ، وأفهمه أن الإرهاق والاضطراب إنما هو من عدم الاستجابة لهذا النداء ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الشيطان يبول في أذن النائم ، وأنه يعقد عليه ثلاث عقد ، فإذا ما استيقظ وذكر الله انحلت عقدة ، وإذا توضأ انحلت عقدة أخرى ، فإذا صلى انحلت العقدة الثالثة ، وأصبح نشيطا إلى غير ذلك من الرد الكافي .
[ ص: 150 ] ولا شك أن مثل تلك الكتابة لا تصدر إلا ممن لا يعي معنى الأذان .
هذا ما استوجب عرض الحكمة من الأذان ، وإن كانت مجانبة لمنهج الكتاب ، ولكن بمناسبة مباحث الأذان يغتفر ذلك ، وبالله التوفيق .
محاكاة المؤذن
تعتبر محاكاة المؤذن ربطا لسامع الأذان ، وتنبيها له لموضوعه ، جاء الحديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول " رواه البخاري .
وفي رواية عنده عن معاوية - رضي الله عنه - أنه قال أي معاوية : وهو على المنبر مثل قول المؤذن إلى قوله : أشهد أن محمدا رسول الله ، ولما قال المؤذن : حي على الصلاة ، قال معاوية : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكذلك : حي على الفلاح ، ثم قال : هكذا سمعنا نبيكم صلى الله عليه وسلم .
وعند النسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه : كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقام بلال ينادي ، فلما سكت قال صلى الله عليه وسلم : " من قال مثل هذا يقينا دخل الجنة " .
كيفية المحاكاة ، في الحديث الأول : " فقولوا مثلما يقول " وهكذا يشعر بتتبعه جملة جملة ، وفي الحديث الثاني : فلما سكت قال صلى الله عليه وسلم : " من قال مثل هذا " وبعد السكوت تنطبق المثلية بمجئ الأذان بعد فراغ المؤذن ، فوقع الاحتمال .
وقد جاء عند مسلم وأبي داود ما يؤيد الأول ، فعن عمر - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال أشهد ألا إله إلا الله ، قال : أشهد ألا إله إلا الله ، ثم قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : حي على الصلاة قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : حي على الفلاح ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : الله أكبر الله أكبر ، قال : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة " .
فهذا نص صريح في أن محاكي المؤذن يتابعه جملة جملة إلى آخره ما عدا الحيعلتين ، فإنه يأتي بدلا منهما بالحوقلة ، وقالوا : إن الحيعلتين نداء للإقبال على المنادي ، وهذا يصدق في حق المؤذن ، أما الذي يحكي الأذان فلم يرفع صوته ولا يصدق [ ص: 151 ] عليه أن ينادي غيره فلا أجر له في نطقه بهما ، فيأتي بلا حول ولا قوة إلا بالله لأمرين الأول : أنه ذكر يثاب عليه سرا وعلانية ، والثاني : استشعار بأنه لا حول له عن معصية ولا قوة له على طاعة إلا بالله العلي العظيم ، وفيه استعانة بالله وحوله وقوته على إجابة هذا النداء ، وأداء الصلاة مع الجماعة .
وقد أخذ الجمهور بحديث عمر عند مسلم بمحاكاة المؤذن في جميع الأذان على النحو المقدم ، وعند مالك يكتفي إلى الحوقلة لحديث معاوية . ونص كتب المالكية أنه هو المشهور في المذهب وغير المشهور أي مقابل المشهور طلب حكاية الأذان جميعه ، ذكره الزمخشري على خليل .
بعض الزيادات على ألفاظ الأذان
تقدم ذكر الحوقلة عند الحيعلة في بعض روايات مسلم وغيره ، عند الشهادتين يقول زيادة : " وأنا أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رضيت بالله ربا ، وبمحمد رسولا ، وبالإسلام دينا غفرت له ذنوبه " .
الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤال الله له الوسيلة .
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ، ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ; فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة " وهذا عام للأذان في الصلوات الخمس إلا أنه جاء في المغرب والفجر بعض الزيادات ، ففي المغرب حكى النووي : أنه له أن يقول بعد النداء : " اللهم هذا إقبال ليلك ، وإدبار نهارك وأصوات دعائك اغفر لي " ، ويدعو بين الأذان والإقامة ، ذكره صاحب المهذب وعزاه لحديث أم سلمة ، وأقره النووي في المجموع .
أما في سماع أذان الفجر فيقول عند ( الصلاة خير من النوم ) : صدقت وبررت ، حكاه النووي في المجموع .
وعن الرافعي يقول : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة خير من النوم .
وإذا سمع المؤذن وهو في الصلاة ، نص العلماء على أنه لا يحكيه ; لأن في الصلاة [ ص: 152 ] لشغلا ، وإذا سمعه وهو في المسجد جالس نص أحمد أنه لا يقوم حالا للصلاة حتى يفرغ المؤذن أو يقرب .
وإذا دخل المسجد وهو يؤذن استحب له انتظاره ليفرغ ويقول مثل ما يقول جمعا بين الفضيلتين ، وإن لم يقل كقوله وافتتح الصلاة فلا بأس ، ذكره صاحب المغني عن أحمد رحمه الله .
إجابة أكثر من مؤذن
وللعلماء مبحث فيما لو سمع أكثر من مؤذن ، قال النووي : لم أر فيه شيئا لأصحابنا ، وفيه خلاف للسلف ، وقال حكاه القاضي عياض في شرح مسلم ، والمسألة محتملة ، ثم قال : والمختار أن يقال : المتابعة سنة متأكدة يكره تركها لتصريح الأحاديث الصحيحة بالأمر ، وهذا يختص بالأول ; لأن الأمر لا يقتضي التكرار .
وذكره صاحب الفتح وقال : وقال ابن عبد السلام : يجيب كل واحد بإجابة لتعدد السبب . اهـ .
وعند الأحناف الحق للأول .
وأصل هذه المسألة في مبحث الأصول ، هل الأمر المطلق يقتضي تكرار المأمور به أم لا ؟
وقد بحث هذا الموضوع فضيلة شيخنا - رحمة الله تعالى عليه - في مذكرة الأصول وحاصله : إن الأمر إما مقيد بما يقتضي التكرار أو مطلق عنه ، ثم قال : والحق أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار بل يخرج من عهدته بمرة ، ثم فصل - رحمة الله تعالى عليه - القول فيما اتفق عليه وما اختلف فيه ، ومنه تعدد حكاية المؤذن وبحثها بأوسع في الأضواء عن تعدد الفدية في الحج ، والواقع أن سبب الخلاف فيما اختلف فيه إنما هو من باب تحقيق المناط هل السبب المذكور مما يقتضي التعدد ، أم لا ؟
والأسباب في هذا الباب ثلاثة أقسام قسم يقتضي التكرار قطعا ، وقسم لا يقتضيه قطعا ، وقسم هو محل الخلاف .
فمن الأسباب المقتضية التكرار قطعا : ما لو ولد له توأمان فإن عليه عقيقتين ، [ ص: 153 ] ومنها : لو ضرب حاملا فأجهضت جنينين لوجبت عليه غرتان .
ومن الأسباب التي لا تقتضي التكرار ما لو أحدث عدة أحداث من نواقض الوضوء فأراد أن يتوضأ فإنه لا يكرر الوضوء بعدد الأحداث ، ويكفي وضوء واحد ، وكذلك موجبات الغسل لو تعددت قبل أن يغتسل فإنه يكفيه غسل واحد عن الجميع .
ومما اختلف فيه ما كان دائرا بين هذا وذاك ، كما لو ظاهر من عدة زوجات هل عليه كفارة واحدة نظرا لما أوقع من ظهارأم عليه عدة كفارات نظرا لعدد ظاهر منهن ؟ وكذلك إذا ولغ عدة كلاب في إناء هل يعفر الإناء مرة واحدة ، أم يتعدد التعفير لتعدد الولوغ من عدة كلاب ؟
ومن ذلك ما قالوه في إجابة المؤذن إذا تعدد المؤذنون تعددت الأسباب ، فهل تتعدد الإجابة أم يكتفي بإجابة واحدة ؟ تقدم قول النووي أنه لم يجد شيئا لأصحابه ، وكلام العز بن عبد السلام بتعدد الإجابة وبالنظر الأصولي ، نجد تعدد المؤذنين ليس كتعدد نواقض الوضوء ; لأن المتوضئ إذا أحدث ارتفع وضوءه وليس عليه أن يتوضأ لهذا الحدث ، فإذا أحدث مرة أخرى لم يقع هذا الحدث الثاني على طهر ولم يجد حدثا آخر .
وهكذا مهما تعددت الأحداث ، فإذا أراد الصلاة كان عليه أن يرفع حدثه فيكفي فيه وضوء واحد ، ولكن مستمع المؤذن حينما سمع المؤذن الأول فهو مطالب بمحاكاته ، فإن فرغ منه وسمع مؤذنا آخر ، فإن من حق هذا المؤذن الآخر أن يحاكيه ، ولا علاقة لأذان هذا بذاك ، فهو من باب تجدد السبب وتعدده أو هو إليه أقرب ، كما لو سمع أذان الظهر فأجابه ثم سمع أذان العصر فلا يكفي عنه إجابة أذان الظهر ، فإن قيل : قد اختلف الوقت وجاء أذان جديد ، فيقال : قد اختلف المؤذن فجاء أذان جديد .
وأقرب ما يكون لهذه المسألة مسألة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره في حديث قوله صلى الله عليه وسلم : " آمين آمين " ثلاث مرات وهو يصعد المنبر ، ولما سئل عن ذلك قال : " أتاني جبريل فقال : يا محمد من ذكرت عنده ، ولم يصل عليك باعده الله في النار فقل : آمين ، فقلت : آمين " ، وذكر بقية المسائل فإن بهذا يتعين تكرار الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - عند كل ما يسمع ذكره صلوات الله وسلامه عليه ، وهنا عليه تكرار محاكاة المؤذن ، كما رجحه ابن عبد السلام ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 154 ] تنبيه
وإذا سمع المؤذن وهو في صلاة فلا يقول مثل ما يقول المؤذن ، وإذا كان في قراءة ، أو دعاء ، أو ذكر خارج الصلاة ، فإنه يقطعه ويقول مثل قول المؤذن .
قاله ابن تيمية في الفتاوى وابن قدامة في المغني ، والنووي في المجموع .
تنبيه
ولا يجوز النداء للصلاة جمعة أو غيرها من الصلوات الخمس إلا بهذه الألفاظ المتقدم ذكرها ، وما عداها مما أدخله الناس لا أصل له ، كالتسبيح قبل الفجر ، والتسبيح والتحميد والتكبير يوم الجمعة بما يسمى بالتطليع ونحوه ، فكل هذا لا نص عليه ولا أصل له .
وقد نص في فتح الباري ردا على ابن المنير ، حيث جعل بعض الهيئات أو الأقوال من مكملات الإعلام ، فقال ابن حجر : وأغرب ابن المنير ولو كان ما قاله على إطلاقه لكان ما أحدث من التسبيح قبل الصبح وقبل الجمعة ، ومن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من جملة الأذان ، وليس كذلك لا لغة ولا شرعا .
وفي الحاشية للشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز تعليق على كلام ابن المنير بقوله هذا فيه نظر . والصواب أن ما أحدثه الناس من رفع الصوت بالتسبيح قبل الأذان والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده ، كما أشار إليه الشارع بدعة يجب على ولاة الأمر إنكارها حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه ، وفيما شرعه الله غنية وكفاية عن المحدثات ، فتنبه .
وقال في الفتح أيضا ما نصه : وما أحدث الناس قبل وقت الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو في بعض البلاد دون بعض ، واتباع السلف الصالح أولى ، وقال ابن الحاج في المدخل مجلد 2 ص 452 ، وينهى المؤذنين عما أحدثوه من التسبيح بالليل ، وإن كان ذكر الله تعالى حسنا وعلنا لكن في المواضع التي تركها الشارع صلوات الله وسلامه عليه ، ولم يعين فيها شيئا معلوما .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:39 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (550)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 155 إلى صـ 162
وقال بعده بقليل : وكذلك ينبغي أن ينهاهم عما أحدثوه من صفة الصلاة والتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند طلوع الفجر ، وإن كانت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر العبادات [ ص: 155 ] وأجلها ، فينبغي أن يسلك بها مسلكها ، فلا توضع إلا في مواضعها التي جعلت لها .
وقال صاحب الإبداع في مضار الابتداع ، ما نصه : ومن البدع ما يسمى بالأولى والثانية ، أعني ما يقع قبل الزوال يوم الجمعة من الدعاء إليها بالذكر والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو ذلك ، ولا خلاف في أن ذلك لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عهد السلف الصالح ، وإنما النظر في ذمه واستحسانه . ا هـ .
وهذا النظر مفروغ منه في التنبيهات المتقدمة لابن حجر ، وابن الحاج ، وابن باز .
والقاعدة الأصولية الفقهية : أن العبادات مبناها على التوقيف ، وما لم يكن دينا ولا عبادة عند السلف الصالح فلا حاجة إليه اليوم ، كما قال مالك رحمه الله : لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها .
وقد ذكر صاحب الإبداع أيضا تاريخ إحداث رفع الصوت بالصلاة والتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب الأذان ، فقال : كان ابتداء ذلك في أيام السلطان الناصر صلاح الدين بن أيوب وبأمره في مصر وأعمالها ، لسبب مذكور في كتب التاريخ . ا هـ .
والسبب يتعلق ببدعة الفاطميين بسبب بعض الأشخاص على المنابر والمنائر ، فغير عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - ما كان على المنابر بقوله : إن الله يأمر بالعدل ، والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر .
وكذلك غير صلاح الدين ما كان بعد الأذان بالصلاة والتسليم على النبي صلى الله عليه وسلم .
تنبيه
من أسباب تمسك بعض البلاد بهذين العملين هو ألا يؤذن قبل الجمعة ، فاعتاضوا عن الأذان بما يسمى التطليع أو بالأولى والثانية أي : التطليعة الأولى والتطليعة الثانية ، وكذلك لا يؤذنون للفجر قبل الوقت فاستعاضوا عنه بالتسبيح والتكبير وغيره .
أما الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - عقب كل أذان ، فقد قاسوا المؤذن على السامع في حديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي ; فإن من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا " .
فقالوا : والمؤذن أيضا يصلي ويسلم ، ثم زادوا في القياس خطة وجعلوا صلاة [ ص: 156 ] المؤذن وتسليمه على النبي - صلى الله عليه وسلم - بصوت مرتفع كالأذان ، وبهذا تعلم أنه ما أميتت سنة إلا ونشأت بدعة ، وأن قياس المؤذن على السامع ليس سليما .
وتقدم لك أن محاكاة المؤذن لربط السامع بالأذان ; ليتجاوب معه في معانيه ، ولو قيل : إن للمؤذن أن يصلي ويسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - سرا بعد الفراغ من الأذان ، وأن يسأل الله الوسيلة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ليشارك في الأجرين : أجر الأذان ، وأجر سؤال الوسيلة لكان له أجر ، والعلم عند الله تعالى .
حي على خير العمل في الأذان
اتفق الأئمة - رحمهم الله - على أنها ليست من ألفاظ الأذان ، وحكاها الشوكاني عن العترة ، وناقش مقالتهم وآثارها بأسانيدها .
ومما جاء فيها عندهم أثر عن ابن عمر ، أنه كان يؤذن بها أحيانا .
ومنها عن علي بن الحسين أنه قال : هو الأذان الأول .
ثم قال : وأجاب الجمهور عن كل ذلك بأن أحاديث ألفاظ الأذان في الصحيحين وغيرهما لم يثبت فيهما شيء من ذلك .
قالوا : وإذا صح ما روي أنه الأذان الأول فهو منسوخ بأحاديث الأذان لعدم ذكره فيها .
وقد أورد البيهقي حديثا في نسخ ذلك ، ولكن من طريق لا يثبت النسخ بمثله . اهـ . ملخصا .
وقد ذكر صاحب جمع الفوائد حديثا عن بلال - رضي الله عنه - أنه كان يؤذن للصبح فيقول : حي على خير العمل ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل مكانها الصلاة خير من النوم ، وترك حي على خير العمل ، وقال : رواه الطبراني في الكبير بضعف . اهـ .
ولا يبعد أن يكون أثر بلال هذا هو الذي عناه علي بن الحسين ، وعلى كل فهذا الأثر وإن كان ضعيفا فإنه مرفوع ، وفيه التصريح بالمنع منها ، وعليه الأئمة الأربعة وغيرهم إلا ما عليه الشيعة فقط .
ومن جهة المعنى ، فإن معناها لا يستقيم مع بقية النصوص الصحيحة الصريحة ، [ ص: 157 ] وذلك أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن خير العمل أمر نسبي ، وأن خير جميع الأعمال كلها هو أولا وقبل كل شيء الإيمان بالله ، وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الأعمال أفضل يا رسول الله ؟ قال : " إيمان بالله " ، قيل : ثم ماذا ؟ فقال مرة : " الجهاد في سبيل الله " ، وقال مرة : " الصلاة على أول وقتها " ، وقال مرة : " بر الوالدين " وفي كل مرة يقدم إيمانا بالله .
فعليه الإيمان بالله هو خير العمل ، وليست الصلاة ، ثم بعد الإيمان بالله فهو بحسب حال السائل وحالة كل شخص ، فمن كان قويا وليس عليه حق لوالديه ، فالجهاد أفضل الأعمال في حقه مع الحفاظ على الصلاة ، فإن كان ذا والدين ، فبرهما مقدم على كل عمل ، ولم لا ! فإن الصلاة على أول وقتها لغير هؤلاء ، فإطلاق القول بالصلاة خير العمل في حق جميع الناس لا يصح مع هذه الأحاديث ، ولهذا منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلالا أن يقولها ، وجعلها : خيرا من النوم ، وهذا لا نزاع فيه ولا بالنسبة لأي أحد من الناس ، والله تعالى أعلم .
الصلاة بين أذان عثمان رضي الله عنه والأذان الذي بين يدي الإمام
تعود الناس في جميع الأمصار صلاة ركعتين عند الأذان الأول ، والذي يقع الآن قبل الوقت وقبل جلوس الإمام على المنبر ، وهو المسمى عند الفقهاء بأذان عثمان ، وقد تساءل الناس عن هذه الصلاة ، أهي سنة أم لا ؟ ويتجدد هذا السؤال من حين إلى آخر ، وأجمع ما رأيت فيه هو كلام ابن تيمية في رسالة خاصة ، جوابا على سؤال وجه إليه هذا نصه :
هل الصلاة بعد الأذان الأول يوم الجمعة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من أصحابه أو التابعين أو الأئمة ، أم لا ؟ وهل هو منصوص في مذهب من مذاهب الأئمة المتفق عليهم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : بين كل أذانين صلاة ، هل هو مخصوص بيوم الجمعة ، أم هو عام في جميع الأوقات ؟ فأجاب بقوله :
أما النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يكن يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئا ، ولا نقل هذا عن أحد ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يؤذن على عهده إلا إذا قعد على المنبر ، ويؤذن بلال ثم يخطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخطبتين ، ثم يقيم بلال فيصلي بالناس ، فما كان يمكن أن يصلي بعد الأذان لا هو ولا أحد من المسلمين الذين يصلون معه - صلى الله عليه وسلم - ولا نقل عن أحد أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة ، ولا وقت بقوله : " صلاة مقدرة قبل الجمعة " بل ألفاظه فيها الترغيب [ ص: 158 ] في الصلاة إذا قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت كقوله : " من بكر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، وصلى ما كتب له " . . . الحديث .
وهذا المأثور عن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر ، منهم من يصلي ثماني ركعات ، ومنهم من يصلي أقل من ذلك ، ولهذا كان جمهور الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت مقدرة بعدد .
ثم قال : وهذا مذهب مالك ومذهب الشافعي وأكثر أصحابه ، وهو المشهور من مذهب أحمد .
وذهب طائفة من العلماء إلى أن قبلها سنة ، فمنهم من جعلها ركعتين ، ومنهم من جعلها أربعا تشبيها لها بسنة الظهر ، وقالوا : إن الجمعة ظهر مقصورة ، وهذا خطأ من وجهين وساقهما ، وخلاصة ما ساقه فيهما أن الجمعة لها خصائص لا توجد في الظهر فليست ظهرا مقصورة .
وكذلك أنه لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يصلي في سفره سنة للظهر ، أي : وهي مقصورة في السفر فلا تمسك في ذلك .
أما عن حديث : " بين كل أذانين صلاة " فالصواب أنه لا يقال إن قيل الجمعة سنة راتبة مقدرة ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " بين كل أذانين صلاة " مرتين ، وقال في الثالثة : " لمن شاء " .
وهذا يدل على أن الصلاة مشروعة قبل الأوقات الخمسة ، وأن ذلك ليس بسنة راتبة ، وقد احتج بعض الناس بهذا على الصلاة يوم الجمعة .
وعارض غيره قائلا : الأذان الذي على المنارة لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : ويتوجه عليه أن يقال : هذا الأذان الثالث لما سنه عثمان - رضي الله عنه - واتفق عليه المسلمون صار أذانا شرعيا ، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة ، وليست سنة راتبة كالصلاة قبل المغرب ، وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه ، وهذا أعدل الأقوال .
وكلام أحمد يدل عليه ، وحينئذ فقد يكون تركها أفضل إذا كان الجهال يعتقدون أن هذه سنة راتبة أو واجبة ، لا سيما إذا داوم الناس عليها ، فينبغي تركها أحيانا ، كما ينبغي [ ص: 159 ] ترك قراءة السجدة يوم الجمعة أحيانا .
ثم قال : وإذا كان رجل مع قوم يصلونها ، فإن كان مطاعا إذا تركها وبين لهم السنة لم ينكروا عليه ، بل عرفوا السنة ، فتركها حسن ، وإن لم يكن مطاعا ورأى في صلاتها تأليفا لقلوبهم إلى ما هو أنفع ، أو دفعا للخصام والشر لعدم التمكن من بيان الحق لهم وقولهم له ونحو ذلك ، فهذا أيضا حسن .
فالعمل الواحد يكون مستحبا فعله تارة ، وتركه تارة ، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية .
كما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - بناء البيت على قواعد إبراهيم إلى آخره . اهـ ملخصا .
فأنت تراه قد بين أولا أنها ليست من فعله - صلى الله عليه وسلم - لعدم وجود مكان لها في عهده ، ولا في عهد صاحبيه من بعده ، وأن فعلها بعد حديث عثمان - رضي الله عنه - يرجع إلى حال الشخص ، فإن كان عاميا التمس له مخرج من حديث : " بين كل أذانين صلاة " ، لا على أنها سنة راتبة .
أما العالم الذي يقتدى به فإن كان مطاعا فتركها أحسن .
وتعليم الناس متعين ، وإن كان غير مطاع ويرجو نفعهم أو يخشى خصومة عليهم تضيع عليهم منفعتهم منه ، ففعلها تأليفا لقلوبهم ، فهذا حسن . اهـ ملخصا .
وهذا منه من أدق مسالك سياسة الدعوة إلى الله ، حيث ينبغي للداعي أن يراعي حالة العامة ، وأن يكون بفعله مؤثرا كتأثيره بقوله مع مراعاة الأحوال ما هو أصلح لهم فيما فيه سعة من الأمر ، كما بين أنها ليست بسنة راتبة .
وقد ساق ضمنا كلام العلماء في حكم الصلاة قبل الجمعة مطلقا ، أي عند المجئ وقبل الأذان ، وهذا كله ما عدا الداخل للمسجد وقت الخطبة فيما يتعلق بتحية المسجد .
وقال النووي في المجموع بعد مناقشة كلام المذهب ، قال :
وأما السنة قبلها فالعمدة فيها حديث عبد الله بن معقل المذكور : " بين كل أذانين صلاة " ، والقياس على الظهر ، قال : وذكر أبو عيسى الترمذي أن عبد الله بن مسعود كان يصلي قبل الجمعة أربعا ، وإليه ذهب سفيان الثوري ، وابن المبارك ، وهذا منهم على أنها [ ص: 160 ] راتبة الظهر انتقلت إلى الجمعة ، ولا علاقة لها بالأذان ، بل من حين مجيئه إلى المسجد .
قوله تعالى : من يوم الجمعة .
قال الزمخشري ونقله عنه أبو حيان : من في قوله : من يوم الجمعة بيان لإذا وتفسير له . اهـ .
يعني : إذا نودي فهي بيان لإذا الظرفية وتفسير لها .
الجمعة بضم الجيم والميم قراءة الجمهور ، وبضم الجيم وتسكين الميم قراءة عبد الله بن الزبير والأعمش وغيرهما ، وهما لغتان وجمعهما جمع وجمعات .
قال الفراء : يقال الجمعة بإسكان الميم ، والجمعة بضمها والجمعة بفتح الميم ، فتكون صفة لليوم أي يجمع الناس .
وقال ابن عباس : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤها جمعة ، يعني : بضم الميم .
وقال الفراء وأبو عبيد : والتخفيف أقيس وأحسن ، مثل غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر ، وفتح الميم لغة بني عقيل ، وقيل : إنها لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - حكاه القرطبي وغيره .
وقال الزمخشري : قرئ بهن جميعا ، وقال غيره : والأول أصح لقول ابن عباس رضي الله عنهما .
وذكر في سبب تسمية هذا اليوم عدة أسباب لا تناقض بين شيء منها .
من ذلك ما قاله ابن كثير رحمه الله : إنها مشتقة من الجمع ، وأهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع .
ومنها : أنه تم فيه خلق جميع الخلائق ، فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، وفيه خلق آدم يعني جمع خلقه ، وفيه الحديث عن سلمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : " يا سلمان ، ما يوم الجمعة " ؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم - أو - أبوكم " ، قال ابن كثير : وقد روي عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا ، فالله أعلم .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن ما حكاه عن أبي هريرة له حكم الرفع ، كما جاء [ ص: 161 ] في الموطأ في فضل يوم الجمعة أنه : " خير يوم تطلع فيه الشمس ، فيه خلق آدم " إلى آخر الحديث ، وسيأتي إن شاء الله عند بيان فضلها .
وقد كان يقال له في الجاهلية يوم العروبة .
ونقل عن الزجاج والفراء وأبي عبيدة : أن العرب العاربة كانت تسمي الأيام هكذا : السبت شبار ، الأحد أول ، الاثنين أهون ، الثلاثاء جبار ، الأربعاء دبار ، الخميس مؤنس ، الجمعة العروبة . وأول من نقل العروبة إلى الجمعة كعب بن لؤي ، نقل من بذل المجهود شرح أبي داود .
وقيل : أول من سماه بالجمعة كعب بن لؤي ، وقد كان معروفا بهذا الاسم في أول البعثة ، كما جاء في سبب أول جمعة صليت بالمدينة .
قال القرطبي : وأول من سماها جمعة : الأنصار ، ونقل عن ابن سيرين قوله : جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وقبل أن تنزل الجمعة هم الذين سموها الجمعة ، وذلك أنهم قالوا : إن لليهود يوما يجتمعون فيه في كل سبعة أيام يوم ، وهو السبت ، وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد ، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما ، لنتذاكر الله ، ونصلي فيه ونستذكر أو كما قالوا ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة وهو أبو أمامة رضي الله عنه ، فصلى بهم يومئذ ركعتين ، وذكرهم فسموه يوم الجمعة حتى اجتمعوا فذبح لهم سعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم .
فهذه أول جمعة في الإسلام .
أما أول جمعة أقامها النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي التي أقامها مقدمه إلى المدينة حين نزل قباء يوم الاثنين ومكث الثلاثاء والأربعاء والخميس ، وفي صبيحة الجمعة نزل إلى المدينة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم ، قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا فجمع بهم - صلى الله عليه وسلم - وخطب ، وهو موضع معروف إلى اليوم في بني النجار ، وقد ساق القرطبي خطبته - صلى الله عليه وسلم - في ذلك اليوم ، ثم كانت الجمعة التي تلتها في الإسلام في قرية جوانا بالأحساء اليوم .
وقد خص الله المسلمين بهذا اليوم وفضله ، كما قال ابن كثير وغيره لحديث أبي [ ص: 162 ] هريرة - رضي الله عنه - عند البخاري ومسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد " ، لفظ البخاري . وفي لفظ لمسلم " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة ، المقضي بينهم قبل الخلائق " ذكره ابن كثير ، من خصائص يوم الجمعة .
كما اختصت هذه الأمة بيوم الجمعة عن سائر الأيام ، فقد اختص يوم الجمعة نفسه بخصائص عن سائر الأيام ، أجمعها ما جاء في موطأ مالك عن أبي هريرة ، أنه قال : خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان فيما حدثته أن قلت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم ، وفيه أهبط من الجنة ، وفيه تيب عليه وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه " .
قال كعب : ذلك في كل سنة ، قلت : بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال أبو هريرة : فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من الطور فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ، إلى المسجد الحرام ، وإلى مسجدي هذا ، وإلى مسجد إيلياء - أو - بيت المقدس " يشك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:43 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (551)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 163 إلى صـ 170
قال أبو هريرة ، ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار ، وما حدثته به في يوم الجمعة فقلت : قال كعب : ذلك في كل سنة يوم ، قال : قال عبد الله بن سلام : كذب كعب ، فقلت : ثم قرأ التوراة ، فقال : بل هي في كل جمعة ، فقال عبد الله بن سلام : صدق كعب ، ثم قال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي ؟ قال أبو هريرة فقلت له : أخبرني بها ولا تضن علي ، فقال عبد الله بن سلام : هي آخر ساعة في يوم [ ص: 163 ] الجمعة ، قال أبو هريرة : فقلت وكيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي " ، وتلك الساعة ساعة لا يصلى فيها ؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي " ، قال أبو هريرة : فقلت : بلى ، قال : فهو كذلك .
فهذا نص صريح في أنه خير يوم طلعت عليه الشمس ، ثم بيان أن الخيرية فيه لما وقع به من أحداث ، وإلا فجميع الأيام حركة فلكية لا مزية فيها إلا ما خصها الله دون غيرها من الوقائع .
وقد تعددت هنا في حق أبينا آدم - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ولذا قيل : يوم الجمعة يوم آدم ، ويوم الاثنين يوم محمد - صلى الله عليه وسلم - أي لقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن كثرة صيامه يوم الاثنين قال : " ذلك يوم ولدت فيه ، وعلي فيه أنزل " الحديث .
ولما كان يوم الجمعة هو يوم آدم فيه خلق ، وفيه أسكن الجنة ، وفيه أنزل إلى الأرض ، وفيه تاب الله عليه ، وفيه قيام الساعة ، فكان يوم العالم من بدء أبيهم إلى منتهى حياتهم ، فكأنه في الإسلام يوم تزودهم إلى ذلك المصير .
وروى البخاري ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ الم [ 32 \ 1 ] السجدة ، وهل أتى على الإنسان [ 76 \ 1 ] في فجر يوم الجمعة .
قال ابن تيمية : وذلك لما فيهما من ذكر خلق الله آدم وحياة الإنسان ومنتهاه ، كما في سورة " السجدة " في قوله تعالى : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 32 \ 4 - 9 ] .
وفي سورة : هل أتى على الإنسان ، قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 1 - 5 ] .
[ ص: 164 ] ففي هذا بيان لخلق العالم كله جملة ثم خلق آدم ، ثم تناسل نسله ثم منتهاهم ومصيرهم ليتذكر بخلق أبيه آدم ، وما كان من أمره كيلا ينسى ولا يسهو عن نفسه .
وهكذا ذكر مثل هذا التوجيه في الجملة ابن حجر في الفتح ، وناقش حكم قراءتهما والمداومة عليهما أو تركهما ، وذلك في باب ما يقرأ في صلاة الجمعة .
وفي المنتقى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة الصبح : الم تنزيل [ 32 \ 1 - 2 ] ، وهل أتى على الإنسان ، وفي صلاة الجمعة بسورة " الجمعة " و " المنافقون " . رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي .
وناقش الشوكاني السجود فيها أي في فجر الجمعة أو في غيرها من الفريضة ، إذا قرأ ما فيه سجدة تلاوة .
وحكي السجود في فجر الجمعة عن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وابن عمر ، وابن الزبير وقال : هو مذهب الشافعي ، وقال : كرهه مالك وأبو حنيفة وبعض الحنابلة ، فراجعه .
الساعة التي في يوم الجمعة
فقد تقدم كلام أبي هريرة - رضي الله عنه - مع عبد الله بن سلام وهو قول الأكثر ، ويوجد عند مسلم : أنها ما بين أن يجلس الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة ، وقد ناقش هذه المسألة جميع العلماء ، وحكى أقوالهم الزرقاني في شرح الموطأ ، وكلاهما بسند صحيح : إلا أن سند مالك لم يطعن فيه أحمد وسند مسلم قد نقل الزرقاني الكلام فيه ، ومن تكلم عليه ، والذي يلفت النظر ما يتعلق بقيام الساعة في يوم الجمعة من قوله صلى الله عليه وسلم : " وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس " ففيه التصريح بأن الدواب عندها هذا الإدراك الذي تفرق به بين أيام الأسبوع ، وعندها هذا الإيمان بيوم القيامة والإشفاق منه ، وأخذ منه العلماء أن الساعة تكون في يوم الجمعة وفي أوله ، فإذا كان هذا أمرا غيب عنا فقد أخبرنا به - صلى الله عليه وسلم - فعلينا أن نعطي هذا اليوم حقه من الذكر والدعاء ، مما يليق من العبادات إشفاقا أو تزودا لهذا اليوم ، لا أن نجعله موضع النزهة واللعب والتفريط ، وقد يكون إخفاؤها مدعاة للاجتهاد كل اليوم كليلة القدر ، وقد نفهم من هذا كله المعنى الصحيح لحديث : " من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب [ ص: 165 ] بدنة " إلى آخره ، وأن الحق فيه ما ذهب إليه الجمهور على ما سيأتي إن شاء الله عند مناقشة وقت السعي إلى الجمعة .
قال النيسابوري في تفسيره : وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج . وقيل : أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة ، إذ البكور إليها من شدة العناية بها .
قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله .
قرأ الجمهور : ( فاسعوا ) ، وقرأها عمر : ( فامضوا ) ، روى ابن جرير - رحمه الله - أنه قيل لعمر رضي الله عنه : إن أبيا يقرؤها ( فاسعوا ) ، قال : أما إنه أقرؤنا وأعلمنا بالمنسوخ ، وإنما هي ( فامضوا ) .
وروي أيضا عن سالم أنه قال : ما سمعت عمر قط يقرؤها إلا فامضوا .
وبوب له البخاري قال باب قوله : وآخرين منهم لما يلحقوا بهم [ 62 \ 3 ] ، وقرأ عمر : فامضوا ، وذكر القرطبي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأه : فامضوا إلى ذكر الله ، وقال : لو كانت ( فاسعوا ) لسعيت حتى يسقط ردائي . اهـ .
وبالنظر فيما ذكره القرطبي نجد الصحيح قراءة الجمهور لأمرين ، الأول : لشهادة عمر نفسه - رضي الله عنه - أن أبيا أقرؤهم وأعلمهم بالمنسوخ ، وإذا كان كذلك فالقول قوله ; لأنه أعلمهم وأقرؤهم . أما قراءة ابن مسعود فقال القرطبي : إن سنده غير متصل ; لأنه عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود ، وإبراهيم لم يسمع من ابن مسعود شيئا . اهـ .
وقد اختلف في معنى السعي هنا ، وحاصل أقوال المفسرين فيه على ثلاثة أقوال لا يعارض بعضها بعضا :
الأول : العمل لها ، والتهيؤ من أجلها .
الثاني : القصد والنية على إتيانها .
الثالث : السعي على الأقدام دون الركوب .
واستدلوا لذلك بأن السعي يطلق في القرآن على العمل ، قاله الفخر الرازي . وقال : هو مذهب مالك والشافعي ، قال تعالى : وإذا تولى سعى في الأرض [ 2 \ 205 ] ، وقال : [ ص: 166 ] إن سعيكم لشتى [ 92 \ 4 ] ، أي العمل .
واستدلوا للثاني بقول الحسن : والله ما هو بسعي على الأقدام ، ولكن سعي القلوب والنية .
واستدلوا للثالث بما في البخاري عن أبي عبس بن جبر واسمه عبد الرحمن ، وكان من كبار الصحابة مشى إلى الجمعة راجلا ، وقال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار " . ذكره القرطبي ، ولم يذكره البخاري في التفسير .
وبالتأمل في هذه الأقوال الثلاثة نجدها متلازمة لأن العمل أعم من السعي ، والسعي أخص ، فلا تعارض بين أعم وأخص ، والنية شرط في العمل ، وأولى هذه الأقوال كلها ما جاء في قراءة عمر - رضي الله عنه - الصحيحة : ( فامضوا ) ، فهي بمنزلة التفسير للسعي .
وروي عن الفراء : أن المضي والسعي والذهاب في معنى واحد ، والصحيح أن السعي يتضمن معنى زائدا وهو الجد والحرص على التحصيل ، كما في قوله تعالى : والذين سعوا في آياتنا معاجزين [ 22 \ 51 ] ، بأنهم حريصون على ذلك : وهو أكثر استعمالات القرآن .
قال الراغب الأصفهاني : السعي المشي السريع ، وهو دون العدو ، ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا ، قال تعالى : وسعى في خرابها [ 2 \ 114 ] . وإذا تولى سعى في الأرض [ 2 \ 205 ] ، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها [ 17 \ 19 ] ، وجمع الأمرين الخير والشر : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى [ 53 \ 39 - 40 ] ، وهو ما تشهد له اللغة ، كما في قول زهير بن أبي سلمى :
سعى ساعيا غيظ ابن مرة بعدما تبزل ما بين العشيرة بالدم
وكقول الآخر :
إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد
[ ص: 167 ] تنبيه
من هذا كله يظهر أن السعي هو المضي مع مراعاة ما جاء في السنة من الحث على السكينة والوقار لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ، ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .
وهذا أمر عام لكل آت إلى كل صلاة ولو كان الإمام في الصلاة لحديث أبي قتادة عند البخاري قال : بينما نحن نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ سمع جلبة رجال فلما صلى قال : ما شأنكم ؟ قالوا : استعجلنا إلى الصلاة ، قال : " فلا تفعلوا إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " . ا هـ .
وكذلك حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - لما ركع خلف الصف ودب حتى دخل في الصف وهو راكع ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " زادك الله حرصا ، ولا تعد " على رواية تعد من العود .
وهنا يأتي مبحث بم تدرك الجمعة ؟
الأقوال في القدر الذي به تدرك الجمعة ثلاثة ، وتعتبر طرفين وواسطة .
الطرف الأول : القول بأنها لا تدرك إلا بإدراك شيء من الخطبة ، هذا ما حكاه ابن حزم عن مجاهد ، وعطاء ، وطاوس ، وعمر ، ولم يذكر له دليلا .
والقول الآخر : تدرك ولو بالجلوس مع الإمام قبل أن يسلم ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله ، ومذهب ابن حزم ، بل عند أبي حنيفة رحمه الله : أنه لو أن الإمام سها وسجد ، وفي سجود السهو أدركه المأموم لأدرك الجمعة بإدراكه سجود السهو مع الإمام ; لأنه منها ، ولكن خالف الإمام أبا حنيفة صاحبه محمد على ما سيأتي .
والقول الوسط هو قول الجمهور : أنها تدرك بإدراك ركعة كاملة مع الإمام ، وذلك بإدراكه قبل أن يرفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية ، فحينئذ يصلي مع الإمام ركعة ثم يضيف إليها أخرى وتتم جمعته بركعتين ، وإلا صلى ظهرا .
أما الراجح من ذلك فهو قول الجمهور للأدلة الآتية :
أولا : أن القول الأول لا دليل عليه أصلا ، ويمكن أن يلتمس لقائله شبهة من قوله [ ص: 168 ] تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، لحمل ذكر الله على خصوص الخطبة لقوله تعالى بعدها : فإذا قضيت الصلاة .
فسمى الصلاة في الأول بالنداء إليها ، وسمى الصلاة أخيرا بانقضائها ، وذكر الله جاء بينهما ولكن يرده استدلال الجمهور الآتي .
والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ، وابن حزم استدل له بحديث " فما أدركتم فصلوا ، وما فاتكم فأتموا " .
والجمعة ركعتان فقط ، فإتمامها بتمام ركعتين ، واعتبروا إدراك أي جزء منها إدراكا لها ، وقد خالف أبا حنيفة في ذلك صاحبه محمد لأدلة الجمهور الآتية :
وأدلة الجمهور من جانبين :
الأول : خاص بالجمعة ، وهو حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى " أي فتتم له جمعة بركعتين ، وأخذوا من مفهوم إدراك ركعة ، أن من لم يدرك ركعة كاملة فلا يصح له أن يضيف لها أخرى ، وعليه أن يصلي ظهرا .
والجانب الثاني : عام في كل الصلوات ، وهو حديث الصحيحين : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " .
وقد رد الأحناف على الحديث الأول بأنه ضعيف ، واعتبروا الإدراك في الحديث الثاني ، يحصل بأي جزء .
ورد عليهم الجمهور بالآتي :
أولا : الحديث الخاص بمن أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى ، ذكره ابن حجر في بلوغ المرام .
وقال : رواه النسائي ، وابن ماجه ، والدارقطني واللفظ له ، وإسناده صحيح ، لكن قوى أبو حاتم إرساله ، وقال الصنعاني في الشرح : وقد أخرج الحديث من ثلاث عشرة طريقا عن أبي هريرة ، ومن ثلاث طرق عن ابن عمر ، وفي جميعها مقال إلى أن قال : ولكن كثرة طرقه يقوي بعضها بعضا ، مع أنه خرجه الحاكم من ثلاث طرق :
[ ص: 169 ] إحداها : من حديث أبي هريرة : وقال فيها على شرط الشيخين إلى آخره . اهـ .
وقال النووي في المجموع : ويغني عنه ما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " فهذا نص صحيح ، وهو صريح في أن إدراك الصلاة إنما هو بإدراك ركعة ، وبالإجماع لا يكون إدراك الركعة بإدراك الجلوس قبل السلام ، لأن من دخل مع الإمام في إحدى الصلوات وهو جالس في التشهد لا يعتد بهذه الركعة إجماعا ، وعليه الصلاة كاملة .
والنص الخاص أن من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى يجعل معنى الإدراك لركعة كاملة يعتد بها ، ومن لم يدرك ركعة كاملة لم يكن مدركا للجمعة .
وقد حكى النووي في المجموع أن الجمعة تدرك بركعة تامة لحديث الصحيحين المذكور ، وقال : احتج به مالك في الموطأ ، والشافعي في الأم وغيرهما .
وقال الشافعي معناه : لم تفته تلك الصلاة ، ومن لم تفته الجمعة صلاها ركعتين ، وقال : وهو قول أكثر العلماء ، حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن المسيب ، والأسود ، وعلقمة ، والحسن البصري ، وعروة بن الزبير ، والنخعي ، والزهري ، ومالك ، والأوزاعي ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي يوسف .
وتقدم أن الذي وافق الجمهور من أصحاب أبي حنيفة ، إنما هو محمد لما في كتاب الهداية ما نصه :
وقال محمد رحمه الله : إن من أدرك أكثر الركعة بنى عليها الجمعة وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر .
وفي الشرح : أن أكثر الركعة هو بإدراك الركوع مع الإمام .
وبالنظر في الأدلة نجد رجحان أدلة الجمهور للآتي :
أولا : قوة استدلالهم بعموم : " من أدرك من الصلاة ركعة ، فقد أدرك الصلاة " ، وهذا عام في الجمعة وفي غيرها ، وهو من أحاديث الصحيحين .
ثم بخصوص : " من أدرك من الجمعة ركعة مع الإمام فليضف إليها أخرى " ، وتقدم [ ص: 170 ] الكلام على سنده وتقوية طرقه بعضها ببعض .
وقد أشرنا إلى معنى الإدراك وهو ما يمكن الاعتداد به في عدد الركعات ، وهي نقطة هامة لا ينبغي إغفالها ، وأن مفهوم من أدرك ركعة مع الإمام فليضف إليها أخرى ، أن من لم يدرك ركعة كاملة لا يتأتى له أن يضيف إليها أخرى ، بل عليه كما قال الجمهور أن يصلي أربعا .
ثانيا : ضعف استدلال المعارض ; لأن : " ما أدركتم فصلوا " على من أدرك من الجمعة ركعة خاص بها .
ثم إن معنى الإدراك ليس كما ذهب المستدل إليه ، بل لا بد أن يكون إدراكا لما يعتد به .
وأشرنا إلى أن الإجماع على أن من لم يدرك ركعة كاملة لا يعتد بها في عدد الركعات ، ويشير إلى هذا المعنى حديث أبي بكرة حيث ركع قبل أن يصل إلى الصف ; ليدرك الركعة قبل أن يرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه ، ولو كان إدراك الركعة يتم بأي جزء منها لما فعل أبو بكرة هذه الصورة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " هذا زادك الله حرصا ولا تعد " .
ومعلوم أنه اعتد بتلك الركعة لإدراكه الركوع منها ، وبهذا تعلم أنه لا دليل لمن اشترط إدراك شيء من الخطبة ; لأن من أدرك ركعة فقد فاتته الخطبة كلها ، وفاتته الأولى من الركعتين ، وأدرك الجمعة بإدراك الثانية ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:44 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (552)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 171 إلى صـ 178
حكم صلاة الجمعة عند الفقهاء
قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله .
فيه الأمر بالسعي إذا نودي إليها ، والأمر يقتضي الوجوب ما لم يوجد له صارف ، ولا صارف له هنا ، فكان يكفي حكاية الإجماع على وجوبها ، كما حكاه ابن المنذر وابن قدامة وغيرهما ، ونقله الشوكاني ، وهو قول الأئمة الأربعة رحمهم الله ، ولكن وجد من يقول : إن الجمعة ليست واجبة ، ولعله ظن أن في الآية صارفا للأمر عن الوجوب ، وهو ما جاء في آخر السياق في قوله تعالى : وذروا البيع ذلكم خير لكم فقالوا : إن الأمر لتحصيل الخير المذكور ، وقد نقل عن بعض أتباع بعض الأئمة - رحمهم الله - ما يوهم أنها ليست بفرض ، وهو مسطر في كتبهم ، مما قد يغتر به بعض البسطاء ولا سيما مع ضعف [ ص: 171 ] الوازع وكثرة الشاغل في هذه الآونة ، مما يستوجب إيراده وبيان رده من أقوال أصحابهم وأئمتهم رحمهم الله جميعا .
فعند المالكية حكاية ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة .
وعند الشافعية قال الخطابي : فيها الخلاف هل هي من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية ؟
وعند الأحناف قال في شرح الهداية : وقد نسب إلى مذهب أبي حنيفة أنها ليست بفرض .
وكلها أقوال مردودة في المذهب من أصحابهم وأئمة مذاهبهم ، فلزم التنبيه عليها ، وبيان الحق فيها من كتبهم ، ومن كلام أصحابهم ، وإليك بيان ذلك :
أما ما نسب لمالك - رحمه الله - فقد حكاه ابن العربي عن ابن وهب ورده بقوله : وحكى ابن وهب عن مالك أن شهودها سنة ، ورد عليه قوله بتأويلين : أحدهما أن مالكا يطلق السنة على الفرض ، والثاني : أنه أراد سنة على صفتها لا يشاركها فيها سائر الصلوات ، حسب ما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعله المسلمون ، وقد روى ابن وهب عن مالك : عزيمة الجمعة على كل من سمع النداء . ا هـ . نقلا من نيل الأوطار .
ومما يؤيد قول ابن العربي في الوجه الأول ما ذكره الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن مالك وغيره في تحرزهم في الفتيا من قول حلال وحرام وواجب . . . إلخ ، في سياق ما وقع من خلاف والنهي عن التعصب ، وأن مالكا أشد تحفظا في ذلك ، ومما يؤيد الوجه الثاني أيضا رواية المدونة بما نصه ما قول مالك : إذا اجتمع الأضحى والجمعة أو الفطر فصلى رجل من أهل الحضر العيد مع الإمام ثم أراد ألا يشهد الجمعة هل يضع ذلك عنه شهود صلاة العيد ما وجب عليه من إتيان الجمعة ؟ قال لا ، كان مالك يقول : لا يضع ذلك عنه ما وجب عليه من إتيان الجمعة ، وقال مالك : ولم يبلغني أن أحدا أذن لأهل العوالي إلا عثمان ، ولم يكن مالك يرى الذي فعل عثمان ، وكان يرى أن من وجبت عليه الجمعة لا يضعها عنه إذن الإمام ، وإن شهد مع الإمام قبل ذلك من يومه ذلك عيدا . اهـ من المدونة ، فهذه نصوص صريحة عن مالك أن الجمعة واجبة لا يضعها عمن وجبت عليه إذن الإمام بصرف النظر عن فقه مسألة العيد والجمعة ، فإن فيها خلافا مشهورا ، ولكن يهمنا [ ص: 172 ] تنصيص مالك على خصوص الجمعة ، وفي مختصر خليل عند المالكية ، ما نصه : ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر ، قال شارحه الخرشي : لزمت ووجب إثم تاركها وعقوبته ، فهذه أقوال المالكية وحقيقة مذهب مالك رحمه الله .
أما الشافعية فقال صاحب المهذب ، ما نصه : صلاة الجمعة واجبة لما روى جابر وساق حديثه ، وقال النووي في المجموع شرح المهذب : إنما تتعين على كل مكلف حر ذكر مقيم بلا مرض ونحوه ، إلى أن قال : أما حكم المسألة فالجمعة فرض عين على كل مكلف غير أصحاب الأعذار ، والنقص المذكور بين هذا هو المذهب ، وهو المنصوص للشافعي في كتبه ، وقطع به الأصحاب في جميع الطرق إلا ما حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل وغيرهما من بعض الأصحاب أنه غلط ، فقال : هي فرض كفاية ، قالوا : وسبب غلطه أن الشافعي قال : من وجبت عليه الجمعة وجبت عليه صلاة العيدين ، وغلط من فهمه ; لأن مراد الشافعي من خوطب بالجمعة وجوبا خوطب بالعيدين متأكدا ، واتفق القاضي أبو الطيب وسائر من حكى هذا الوجه على غلط قائله ، قال القاضي أبو إسحاق المروزي : لا يحل أن يحكى هذا عن الشافعي ولا يختلف أن مذهب الشافعي : أن الجمعة فرض عين ، ونقل ابن المنذر في كتابيه كتاب الإجماع والإشراق : إجماع المسلمين على وجوب الجمعة . اهـ من المجموع للنووي ، وهذا الذي حكاه النووي وابن المنذر والمروزي عن الشافعي هو المنصوص عنه في كتاب الأم للشافعي نفسه ، قال مجلد ( 1 ) ص 881 تحت عنوان : إيجاب الجمعة بعدما ذكر الآية إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، قال : ودلت السنة من فرض الجمعة على ما دل عليه كتاب الله تبارك وتعالى وساق حديث : " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع " إلى أن قال : والتنزيل ثم السنة يدلان على إيجاب الجمعة ، وقال : ومن كان مقيما ببلد تجب فيه الجمعة من بالغ حر لا عذر له وجبت عليه الجمعة ، فهذه نصوص الشافعي عامة في الوجوب وخاصة في الأعيان ، وهذا بيان كاف لمذهب الشافعي - رحمه الله - من نص كتابه الأم . اهـ .
الحديث الذي استدل به الشافعي رحمه الله : " نحن الآخرون السابقون " هو عين الحديث الذي بوب عليه البخاري وجوب الجمعة ، ووجه الاستدلال منه قوله صلى الله عليه وسلم : " ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم " ففيه التنصيص على الفرضية .
[ ص: 173 ] أما الأحناف ، فقال في شرح الهداية ما نصه : وقد نسب إلى مذهب أبي حنيفة أنها ليست بفرض ، ثم قال : وهذا من جهلهم ، وسبب غلطهم قول القدوري : ومن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله ولا عذر له كره له ذلك وجازت صلاته ، وإنما أراد حرم عليه وصحت الظهر بترك الفرض ، إلى آخره .
ثم قال : وقد صرح أصحابنا بأنها فرض آكد من الظهر ، وذكر أول الباب ، اعلم أن الجمعة فريضة محكمة بالكتاب والسنة والإجماع ، فحكي الإجماع على وجوبها وجهل من نسب إلى مذهبهم القول بعدم فرضيتها ، وهذه أيضا حقيقة مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - وأنها عند أصحابه آكد من الظهر .
أما الحنابلة ، فقال في المغني ما نصه : الأصل في فرض الجمعة الكتاب والسنة والإجماع ، وساق الآية : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة الآية ، وقال بعدها : فصل : وتجب الجمعة والسعي إليها سواء كان من يقيمها سنيا أو مبتدعا أو عدلا أو فاسقا ، نص عليه أحمد ، وهذا أعم وأشمل ، حتى مع الإمام غير العادل وغير السني .
فهذه نصوص المذاهب الأربعة في وجوب الجمعة وفرضها على الأعيان ، فلم يبق لأحد بعد ذلك أدنى شبهة يلتمسها من أي مذهب ، ولا تتبع شواذه للتهاون بفرض الجمعة لنيابة الظهر عنها .
ثم اعلم أن في الآية قرينة على هذا الوجوب ، وأنه لا صارف للأمر عن وجوب السعي إليها ، وذلك أن مع الأمر بالسعي إليها الأمر بترك البيع والنهي عنه ، وإذا كان ترك البيع واجبا من أجلها فما وجب هو من أجله كان وجوبه هو أولى ، قال في المغني : فأمر بالسعي ، ويقتضي الأمر الوجوب ولا يجب السعي إلا إلى الواجب ، ونهى عن البيع لئلا يشغل به عنها ، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها ، وهو واضح كما ترى ، والأحاديث في الوعيد لتاركها بدون عذر مشهورة تؤكد هذا الوجوب .
من ذلك حديث أبي الجعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله عليه قلبه " ، رواه أبو داود ، وسكت عنه .
وفي المنتقى ، قال : رواه الخمسة أي ما عدا البخاري ومسلما ، وفي المنتقى عن أبي هريرة وابن عمر - رضي الله عنهما - سمعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على أعواد منبره : " لينتهين [ ص: 174 ] أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم ، ثم ليكونن من الغافلين " ، رواه مسلم .
وعن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة : " لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم " رواه أحمد ومسلم .
وقد فسر الطبع في حديث أبي الجعد بأنه طبع النفاق ، كما في قوله تعالى في سورة " المنافقون " : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ 63 \ 3 ] ، وقيل : طبع ضلال ، كما في الحديث . ثم يكون أي : القلب كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ، ولا ينكر منكرا ، نسأل الله العافية والسلامة لنا ولجميع المسلمين والتوفيق لفضل هذا اليوم الذي خص الله به هذه الأمة .
مسألة
من المخاطب بالسعي هنا ؟ ، أي : من الذي تجب عليه الجمعة ؟ تستهل الآية الكريمة بقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا ، وهو نداء عام لكل مؤمن ذكر ، وأنثى ، وحر ، وعبد صحيح ومريض ، فشمل كل مكلف على الإطلاق كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام .
وقوله تعالى : ( فاسعوا ) الواو فيه للجمع ، وإن كانت للمذكر إلا أنها عائدة إلى الموصول السابق وهو عام كما تقدم ، فيكون طلب السعي متوجها إلى كل مكلف إلا ما أخرجه الدليل .
وقد أخرج الدليل من هذا العموم أصنافا ، منها : المتفق عليه ، ومنها المختلف فيه .
فمن المتفق عليه : ما أخرج من عموم خطاب التكليف كالصغير والنائم والمجنون لحديث " رفع القلم عن ثلاثة " .
وما خرج من خصوص الجمعة ، كالمرأة إجماعا فلا جمعة على النساء ، وكالمريض فلا جمعة عليه اتفاقا كذلك .
وهو من يشق عليه أو يزيد مرضه ، ومن يمرضه تابع له ، وقد اختلف في المسافر [ ص: 175 ] والمملوك ، ومن في حكم المسافر وهم أهل البوادي .
قال القرطبي : قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا خطاب للمكلفين بإجماع ويخرج منه المرضى ، والزمنى ، والعبيد ، والنساء بالدليل ، والعميان ، والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة .
روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضا ، أو مسافرا ، أو امرأة ، أو صبيا ، أو مملوكا ، فمن استغنى بلهو ، أو تجارة ، استغنى الله عنه ، والله غني حميد " ، خرجه الدارقطني . اهـ .
ويشهد لما رواه القرطبي ما رواه ابن حجر في بلوغ المرام عن طارق بن شهاب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة : مملوكا ، وامرأة ، وصبيا ، ومريضا " ، رواه أبو داود .
وقال : طارق لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أبو داود أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه ، وأخرجه الحاكم من رواية طارق المذكور عن أبي موسى . اهـ .
قال الصنعاني : يريد المؤلف بهذا ، أي برواية عن أبي موسى أنه أصبح متصلا .
قال : وفي الباب عن تميم الداري ، وابن عمر ومولى لابن الزبير ، رواه البيهقي وناقش سنده .
وقال : وفيه أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا " خمسة لا جمعة عليهم : المرأة ، والمسافر ، والعبد ، والصبي ، وأهل البادية " . اهـ .
وقد ذكر صاحب المنتقى حديث طارق كما ساقه صاحب البلوغ ، وقال الشوكاني فيه : قال الحافظ : وصححه غير واحد .
وقال الخطابي : ليس إسناد هذا الحديث بذاك ، وذكر صحبة طارق ، ونقل قول العراقي ، فإذا ثبتت صحبته فالحديث صحيح ، وغايته أن يكون مرسل صحابي وهو حجة عند الجمهور ، إنما خالف فيه أبو إسحاق الاسفرائيني ، بل ادعى بعض الأحناف الإجماع على أن مرسل الصحابي حجة . اهـ .
[ ص: 176 ] وقال الشوكاني : على أنه قد اندفع الإعلال بالإرسال بما في رواية الحاكم من ذكر أبي موسى إلى آخره ، أي صار موصولا ، كما قال ابن حجر سابقا .
ووجه حجية مرسل الصحابي عندهم ، هو أن الصحابي إذا أرسل الحديث ولم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - واسطة وتلك الواسطة هي صحابي آخر والصحابي ثقة ، فتكون الواسطة الساقطة ثقة ، فيصح الحديث ، ولذا ادعى بعض الأحناف أن مرسل الصحابي حجة لهذا السبب ، وعلى هذا مناقشة أهل الحديث والتفسير لهذه المسألة ، وبالتأمل في الآية الكريمة وعموم السياق يظهر من مجموعه شهادة القرآن ، إلى صحة ذلك لدلالة الإيماء .
أما عن النساء ففيه الإجماع كما تقدم ، ويشهد له أن الدعوة إلى السعي إلى الجمعة ، وترك البيع من أجلها ، ثم الانتشار بعدها في الأرض والابتغاء من فضل الله بالعمل والكسب يشعر بأن هذا كله للرجال ; لأن المرأة محلها في بيتها ، كما في قوله تعالى : وقرن في بيوتكن [ 33 \ 33 ] .
وتقدم لفضيلة والدنا الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث مفصل استدل بدليل قرآني على سقوط الجمعة عن النساء ، وذلك عند قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال [ 24 \ 36 - 37 ] . وبين - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مفهوم ( رجال ) هل هو مفهوم صفة أو مفهوم لقب ، وساق علاقة النساء بالمساجد في الجمعة وغيرها .
أما المملوك فمما يستأني له أيضا من السياق في قوله تعالى : وذروا البيع ، إذ البيع والشراء ابتداء ليس من حق العبيد إلا بإذن السيد . وقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، فإن المملوك لا ينتشر في الأرض إلا بإذن السيد أيضا ، وكذلك المسافر فليس مشتغلا ببيع ولا محل اشتغال به ، وهو منتشر في الأرض بسفره وسفره شاغل له ، وبسفره يقصر الصلاة ويجمعها .
وقد حكى الشوكاني الاتفاق بين الفقهاء على سقوط الجمعة عن المملوك إلا داود ، [ ص: 177 ] وكذلك المسافر إذا كان سائرا ، أما إذا كان نازلا ، فخالف فيه داود أيضا .
ومما استدل به الجمهور على سقوط الجمعة عن المسافر وقت نزوله ما وقع من فعله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع ، إذ كانت الوقفة يوم الجمعة ، وكان - صلى الله عليه وسلم - نازلا ولم يصل الجمعة ، بدليل أنه لم يجهر بالقراءة ، ونازع في ذلك ابن حزم وقال : غاية ما فيه ترك الجهر في الجهرية ، وهذا لا يبطلها ، ولكن يمكن أن يقال له : لقد قال صلى الله عليه وسلم : " خذوا عني مناسككم " .
والصلاة أثناء الحج مما يؤخذ عنه - صلى الله عليه وسلم - كالجمع تقديما في عرفة ، وتأخيرا في مزدلفة ، ولا يتأتى أن يترك الجهر في الجهرية وهو أقل ما فيه أنه خلاف الأولى ويأمرهم أن يأخذوه عنه .
ومن هذا كله صح ما ذهب إليه الجمهور من أنه لا جمعة على مملوك ولا مسافر ، كما لا جمعة على المرأة والمريض ، وبالله تعالى التوفيق .
قال ابن كثير : وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان ، ويعذر المسافر ، والمريض ، ويتم المريض وما أشبه ذلك من الأعذار .
أما سقوطها عن أهل البوادي ومن في حكمهم ، فهو قول للجمهور مع اختلافهم في تحقيق المناط في ذلك بين المصر والقرية ، والبادية ، وبالرجوع إلى أقوال الأئمة نجد الخلاف الآتي أقوال الأئمة في مكان الجمعة .
أولا : عند أبي حنيفة - رحمه الله - قال في الهداية ما نصه : لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر ، ولا تجوز في القرية لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا جمعة ، ولا تشريق ، ولا فطر ، ولا أضحى إلا في مصر جامع " .
وفسر الشارح ابن الهمام المصر بقوله : والمصر الجامع كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود ، وناقش الأثر الذي أورده المصنف قائلا : رواه ابن أبي شيبة موقوفا على علي رضي الله عنه : لا جمعة ، ولا تشريق ، ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة ، صححه ابن حزم .
ورواه عبد الرزاق من حديث عبد الرحمن السلمي عن علي - رضي الله عنه - قال : لا تشريق ، ولا جمعة ، إلا في مصر جامع . اهـ .
[ ص: 178 ] وذكر هذا الأثر القرطبي موقوفا على علي رضي الله عنه .
وعند المالكية قال في متن خليل في فصل شروط الجمعة ما نصه : باستيطان بلد أو أخصاص لا خيم .
وفسر الشارح الاستيطان بالعزم على الإقامة على نية التأبيد ، ولا تكفي نية الإقامة ولو طالت ، وجاء في المتن بعدها قوله : ولزمت المكلف الحر الذكر بلا عذر المتوطن .
وقال الشارح على كلمة متوطنا : هو أيضا من شروط الوجوب ، يعني : أنه يشترط في وجوبها الاستيطان ببلد يتوطن فيه ويكون محلا للإقامة يمكن الشراء فيه ، وإن بعدت داره من المنارة سمع النداء أو لم يسمع ، ولو على خمسة أميال أو ستة إجماعا ، لا تجب على مسافر ، ولا مقيم ولو نوى إقامة زمنا طويلا إلا تبعا . اهـ . أي تبعا لغيره .
وعند الشافعي قال في المهذب ما نصه : ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة من بلد أو قرية ; لأنه لم تقم جمعة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في أيام الخلفاء إلا في بلد أو قرية ، ولم ينقل أنها أقيمت في بدو ، فإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد فصلوا الجمعة لم يجز ; لأنه ليس بوطن فلم تصح فيه الجمعة كالبدو ، وإن انهدم البلد فأقام أهله على عمارته ، فحضرت الجمعة لزمهم إقامتها ; لأنهم في موضع الاستيطان .
قال النووي في الشرح ما نصه : قال أصحابنا : يشترط لصحة الجمعة أن تقام في أبنية مجتمعة يستوطنها شتاء وصيفا من تنعقد بهم الجمعة .
قال الشافعي والأصحاب : سواء كان البناء من أحجار ، أو أخشاب ، أو طين ، أو قصب ، أو سعف أو غيرها ، وسواء فيه البلاد الكبار ذوات الأسواق والقرى الصغار ، والأسراب المتخذة وطنا ، فإن كانت الأبنية متفرقة لم تصح الجمعة بلا خلاف ; لأنها لا تعد قرية ويرجع في الاجتماع والتفرق إلى العرف .
وأما أهل الخيام فإن كانوا ينتقلون من موضعهم شتاء وصيفا وهي مجتمعة بعضها إلى بعض فقولان ، ثم قال : أصحهما باتفاق الأصحاب لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم ، وبه قطع الأكثرون ، وبه قال مالك وأبو حنيفة ، ثم ذكر الدليل بقوله لحديث : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، ولم يصل هكذا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:45 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (553)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ
صـ 179 إلى صـ 186
[ ص: 179 ] وعند الحنابلة قال في المغني ، ما نصه :
فصل : فأما الاستيطان فهو شرط في قول أكثر أهل العلم ، وهو الاستيطان في قرية على الأوصاف المذكورة لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء ، ولا تجب على مسافر ، ولا على مقيم في قرية يظعن أهلها عنها في الشتاء دون الصيف ، أو في بعض السنة .
فإن خربت القرية أو بعضها وأهلها مقيمون فيها عازمون على إصلاحها فحكمها باق في إقامة الجمعة بها وإن عزموا على النقلة عنها لم تجب عليهم لعدم الاستيطان .
هذه خلاصة أقوال أهل المذاهب الأربعة متفقة على اشتراط الوطن والاستيطان ، وإن اختلفت في صفة الوطن من مصر أو قرية أو نحوها مبنية بحجر أو طين ، أو أخشاب ، أو خيام ثابتة صيفا وشتاء على ما تقدم .
وقد انفرد أبو حنيفة ومعه صاحبه أبو يوسف باشتراط وجود الأمير والقاضي الذي يقيم الحدود احترازا من القاضي الذي لا يقيم الحدود ، كقاضي السوق ، أو إذا كان من يلي القضاء امرأة على مذهبه في ذلك وهي لا تقضي في الحدود لعدم جواز شهادتها فيها ، واكتفى الأئمة الثلاثة بمطلق الاستيطان ، ومعلوم أن الاستيطان يستلزم الإمارة شرعا وعقلا .
أما شرعا ، فلقوله صلى الله عليه وسلم : " ما من ثلاثة لا يؤمرون عليهم أميرا إلا استحوذ عليهم الشيطان " .
وعقلا ، فإن مستوطنين لا تسلم أحوالهم من خلافات ، ومشاحة فيما بينهم فلا بد من شخص يرجعون إليه ، وهو في معنى الأمير المطلوب ، كما أن الاستيطان يستلزم السوق لحوائجهم كما هو معلوم عرفا .
وقد استدل الجمهور بحديث ابن عباس رضي الله عنه : أن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقرية من قرى البحرين يقال لها جواثى ، وبحديث أبي أمامة أنه جمع بهم بالمدينة قبل مجئ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هزم من حرة بني بياضة يقال له : نقيع الخضمات ، مما لا يستلزم المصر الذي اشترطه أبو حنيفة رحمه الله .
[ ص: 180 ] وأجاب الأحناف عن ذلك بعدم المعارضة بين حديث علي وحديث ابن عباس ، وفعل أبي أمامة ، وقالوا : إن قول علي لا يكون إلا عن سماع ، ولأن قوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله ، ليس على إطلاقه بإنفاق الأمة ، إذ لا يجوز إقامتها في البراري إجماعا ، ولا في كل قرية عند ابن عباس ، بل يشترط ألا يظعن أهلها عنها صيفا ولا شتاء ، فكان خصوص المكان مرادا فيها إجماعا ، فقدر القرية من أخذ بحديث ابن عباس بأنها القرية الخاصة ، وقدر الأحناف المصر وقالوا : هو أولى لنص حديث علي : " إلا في مصر جامع " ، وقالوا : إن إقامتها في قرية جواثى غاية ما فيه تسمية جواثا قرية ، وهذه التسمية هي عرف الصدر الأول ، وهو لغة القرآن في قوله تعالى : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ 43 \ 31 ] أي : مكة والطائف ، ومكة بلا شك مصر ، وفي الصحاح أن جواثا حصن بالبحرين ، فهي مصر إذ الحصن لا يخلو عن حاكم عليهم وعالم ، أما صلاة أبي أمامة فلم تكن عن علم ولا تقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا كانت شرعت الجمعة آنذاك ، فلا حجة فيه . والذي يقتضيه النظر بين هذه الأقوال والله تعالى أعلم : أن رأي الجمهور أرجح . ويتمشى مع قواعد مذهب أبي حنيفة في الجملة ; لأن الأحناف يتفقون مع الجمهور على تسمية المصر قرية كتسمية الطائف ومكة قرى .
وجاء في القرآن : مكة : أم القرى [ 6 \ 92 ] ، فالقرية أعم من المصر ، ومذهب أبي حنيفة تقديم العام على الخاص في كثير من الأمور ، كما في حديث : " فيما سقت السماء العشر " ، فقدمه على حديث : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " ، ومن هذا كله يتضح أن الاستيطان مجمع عليه ، فلا تصح في غير وطن ، ولا تلزم غير مستوطن ، ومن قال بغير ذلك فقد خالف الأئمة ، وشذ عن الأمة ، وليس له سلف فيما ذهب إليه ، والذي قاله الجمهور يشهد له سياق القرآن الكريم بالإيماء والإشارة ; لأننا لو أخذنا بعين الاعتبار الأمر بالسعي إلى ذكر الله ، وترك البيع حتى لا يشغل عنها ، ثم الانتشار في الأرض بعد قضائها ; لتحصل عندنا من مجموع ذلك كله أن هناك جماعة نوديت وكلفت باستجابة النداء والسعي ، ثم الكف عن البيع الذي يشغل عن السعي ، ومثل هذا البيع الذي يكلفون بالكف عنه والذي يخشى منه شغل الناس عن السعي إلى الجمعة لا يكون عقدا بين اثنين فقط ، ولا يكون عملا فرديا بل يشعر بأنه عمل بين أفراد عديدين ومبايعات متعددة مما يشكل حالة السوق ، والسوق لا يكون في البوادي بل في القرى وللمستوطنين .
[ ص: 181 ] والعادة أن أهل البوادي ينزلون إلى القرى والأمصار ; للتزود من أسواقها ، وإذا وجد السوق ، ووجدت الجماعة ، اقتضى ذلك وجود الحاكم لاحتمال المشاحة والمنازعات ، كما تقدم استلزام ذلك شرعا وعقلا ، كما أن قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ، يدل على الكثرة ; لأن مادة الانتشار لا تطلق على الواحد ولا الاثنين ، كما في حديث : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " ، ومنه انتشار الخبر لا يصدق على ما يكون بين اثنين ، أو أكثر ، إذا كانوا يتكتمون ، فإذا استفاض وكثر من يعرفه ، قيل له : انتشر الخبر .
قال صاحب معجم مقاييس اللغة في مادة نشر : النون والشين والراء أصل صحيح يدل على فتح شيء وتشعبه ، فقوله : وتشعبه يدل على الكثرة .
وقال يقال : اكتسى البازي ريشا نشرا ، أي : منتشرا واسعا طويلا ، ومعلوم أن ريش البازي كثير ، وهذا الوصف لا يتأتى من نفر قلائل في بادية ، بل لا يتأتى تحققه إلا من أهل القرى المستوطنين . ولعلنا في هذا قد أوضحنا هذه المسألة خاصة لهؤلاء الذين يقولون : إن الجمعة كالجماعة تصح من أي عدد في أي مكان على أية حالة كانوا ، وهو قول في الواقع لم يكن لهم فيه سلف ، وخالفوا به السلف والخلف ، مع ما في قولهم من هدم حكمة التشريع في إقامة الجمعة ، حيث إننا وجدنا حكمة الجماعة في العدد القليل ، ولأهل كل مسجد في كل ضاحية .
ثم نأت الجمعة لأهل القرية والمصر ، ومن في ضواحيها على بعد خمسة أو ستة أميال ، كما قال المالكية ، وكما كان السلف يأتون إلى المدينة زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فيه من تجمع للمسلمين على نطاق أوسع من نطاق الجماعة .
ثم يأتي العيد وهو على نطاق أوسع فيشمل حتى النساء يحضرن ذلك اليوم ، ثم يأتي الحج يأتون إليه من كل فج عميق ، ولعل مما يشهد لهذا ويرد على من خالفه ، ما جاء في اجتماع العيد والجمعة ، إذ خيرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بين النزول إلى الجمعة ، و بين الاكتفاء بالعيد أي : أهل الضواحي .
ثم أخبرهم بأنه سيصلي الجمعة ، فلو أن الجمعة تصح منهم في منازلهم وضواحيهم ; لأرشدهم إلى ذلك وأعفاهم من النزول سواء في يوم العيد الذي يكون في يوم الجمعة ، أو [ ص: 182 ] في الجمعة من غير يوم العيد ، بل كانوا ينزلون من أطراف المدينة كما هو معلوم ، والعلم عند الله تعالى .
العدد في الجمعة
والواقع أن مسألة العدد في الجمعة قد كثر الخلاف فيها ، فمن قائل : تصح بواحد مع الإمام ، وعزاه ابن رشد للطبري ، ومن قائل باثنين مع الإمام وعزاه القرطبي للحسن ، ومن قائل بثلاثة مع الإمام وعزي لأبي حنيفة ، ومن قائل باثني عشر رجلا ، وعزاه القرطبي لربيعة ، ومن قائل بثلاثين ، ومن قائل بأربعين ، وهو قول الشافعي وأحمد . ومن قائل بكل عدد يتأتى في قرية مستوطنة ، وألا يكونوا ثلاثة ونحوها ، وهو قول مالك . قال في متن خليل : وبجماعة تتقرى بهم قرية بلا حد .
وقال في الشرح : أي جماعة يمكنهم الدفع عن أنفسهم في الأمور الكثيرة لا النادرة ، وذلك يختلف بحسب الجهات إلى أن قال : وأفهم كلام المؤلف أن الاثني عشر لا تتقرى بهم قرية ، فقوله : بلا حد أي بعد الاثني عشر . اهـ .
والواقع أن كل هذه الأقوال ليس عليها مستند يعول عليه في العدد ، بحيث لو نقص واحد بطلت ، ولكن الذي يشهد له الشرع من السماحة واليسر ، هو ما قاله مالك رحمه الله ، وما قدمنا من أن السياق يدل على وجود جماعة لها سوق ، ويتأتى منها الانتشار في الأرض بعد انقضاء الصلاة ، ولم نطل الكلام في هذه المسألة لعدم وجود نص صريح فيها ، وكل ما يستدل به فهو حكاية حال تحتمل الزيادة والنقص ولا يعمل بمفاهيمها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض الآية .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - التنبيه على ما فيها من مبحث أصولي ، وهو الأمر بعد الحظر وأصح ما فيه أنه يرد الأمر المحظور إلى ما كان عليه قبل ورود الحظر عليه .
مسألة
وقت السعي إلى الجمعة ظاهر قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ، أن السعي يكون بعد النداء ، وعند ترك البيع ، ومفهومه [ ص: 183 ] أن قبل النداء لا يلزم السعي ولا ترك البيع ، وهذا ظاهر من النص ، ولكن جاءت نصوص للحث على البكور إلى الجمعة ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : " من بكر ، وابتكر ، ومشى ولم يركب ، وصلى ما تيسر له " . الحديث .
وحديث : " من راح في الساعة الأولى " إلى آخر الحديث ، فكان البكور مندوبا إليه ، وهذا أمر مسلم به ، ولكن وقع الخلاف بين مالك والجمهور في مبدأ البكور ، ومعنى الساعة الأولى أي ساعة لغوية أو زمنية ، وهل هي الأولى من النهار أو الأولى بعد الأذان ؟ ، فقال مالك : إن الساعة لغوية ، وهي الأولى بعد الأذان ، إذ لا يجب السعي إلا بعده وقبله لا تكليف به .
وحمل الجمهور الساعة على الساعة الزمنية ، وأن الأولى هي الأولى من النهار ، والراجح ما ذهب إليه الجمهور لعدة أمور :
أولا : في لفظ حديث البكور ; لأن لفظ البكور لا يكون إلا لأول النهار ، ولا يقال لما بعد الزوال بكور ، بل يسمى عشيا ، كما في قوله تعالى : بكرة وعشيا [ 19 \ 11 ] وتكرار بكر ، وابتكر ، يدل على أنه في بكرة النهار وأوائله ، وكذلك لفظة : " من راح " لأن الرواح لأول النهار .
ثانيا في الحديث : " وصلى ما تيسر " ، له دليل قاطع على أن هناك زمنا يتسع للصلاة بقدر ما تيسر له . أما على مذهب مالك ، فلا متسع لصلاة بعد النداء ، ولا سيما في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن إلا أذان واحد ، وبعد النداء فلا متسع للصلاة .
ثالثا : ما جاء عن بعض السلف ، كما تقدم أنه كان يصلي أربعا وثماني واثنتي عشرة ركعة ، وهذا كله لا يكون مع الساعات اللغوية ، وما جاء عند النيسابوري من قوله في تفسيره : وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج .
وقيل : أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة ، والذي يقتضيه النظر في هذه المسألة ، هو أن زمن السعي له جهتان :
جهة وجوب وإلزام ، وهذا لا شك أنه بعد النداء إلا من كان محله بعيدا ، بحيث لو انتظر حتى ينادى لها لا يدركها فيتعين عليه السعي إليها قبل النداء اتفاقا ; لأنه لا يتمكن من [ ص: 184 ] أداء ما وجب عليه من صلاة الجمعة إلا بذلك .
وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وهذا مخصوص من ظاهر النص المتقدم .
الجهة الثانية : جهة ندب واستحباب ، وهذا لا يتقيد بزمن وإنما هو بحسب ظروف الشخص ، فمن تمكن من البكور ، ولم يتعطل ببكوره ما هو ألزم منه ، فيندب له البكور ، وبحسب ما يكون بكوره في الساعات الخمس المذكورة في الحديث يكون ما له من الأجر ، ويشهد لهذا المعنى أمران :
الأول : حديث الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول ، فإذا حضر الإمام طوت الصحف وجلسوا يستمعون الذكر ، فكتابة الأول فالأول قبل خروج الإمام ، تدل على فضل الأولية قبل النداء كما تقدم .
الأمر الثاني : أننا وجدنا لكل واجب مندوبا والسعي إلى الجمعة عند النداء واجب ، فيكون له مندوب وهو السعي قبل النداء ، فكما للصلاة والصيام والزكاة واجب ومندوب ، فكذلك للسعي واجب ومندوب ، فواجبه بعد النداء ، ومندوبه قبله ، والله تعالى أعلم .
الغسل للجمعة
في قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ترتيب السعي إلى ذكر الله على النداء ، ومعلوم أن هذا مقيد بسبق الطهر إجماعا ، وقد جاء في قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ 5 \ 6 ] ، فكانت الطهارة بالوضوء شرطا في صحة الصلاة .
وهنا في خصوص الجمعة لم يذكر شيء في خصوص الطهر لها بوضوء أو غسل .
وقد جاءت أحاديث في غسل الجمعة منها حديث أبي سعيد من قوله صلى الله عليه وسلم : " غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم " ، وفي لفظ : " طهر يوم الجمعة واجب على كل محتلم كطهر الجنابة " ، وهذا نص صريح في وجوب الغسل على كل من بلغ سن الحلم .
وجاء حديث آخر : " من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ، ومن اغتسل فالغسل أفضل " ، وهذا نص صريح في أفضلية الغسل على الوضوء ، وبالتالي صحة الجمعة بالوضوء وهذا مذهب الجمهور .
[ ص: 185 ] وقد جاء عند مالك في الموطأ : أن عثمان دخل يوم الجمعة ، وعمر يخطب فعاتبه على تأخره ، فأخبره أنه ما إن سمع النداء حتى توضأ ، وأتى إلى المسجد ، فقال له : والوضوء أيضا ، وذلك بمحضر من الصحابة ، فلم يأمره بالعودة إلى الغسل ، ولو كان واجبا لما تركه عثمان من نفسه ، ولا أقره عمر وتركه على وضوئه .
فقال الجمهور : إن الحديث الأول قد نسخ الوجوب فيه بحديث المفاضلة المذكور ، واستدلوا على ذلك بأمرين : الأول قصة عمر مع عثمان هذه .
والثاني : قول عائشة - رضي الله عنها - كانوا في أول الأمر هم فعلة أنفسهم فكانوا يأتون إلى المسجد ويشتد عرقهم فتظهر لهم روائح فعزم عليهم - صلى الله عليه وسلم - بالغسل ، ولما فتح الله عليهم وجاءتهم العلوج وكفوا مؤنة العمل ، رخص لهم في ذلك ، وهذا هو مذهب الجمهور ، كما قدمنا .
وعند الظاهرية وجوب الغسل ، ولكن لليوم لا للجمعة ; لنص الحديث : " غسل يوم الجمعة " ولم يقل الغسل لصلاة الجمعة ، واستدلوا لما ذهبوا إليه من النصوص في تعهد الشعور والأظافر والغسل بصيغة عامة كل يوم على الإطلاق ، وقيدوه في الغسل بخصوص الجمعة ، وعليه فإن من لم يغتسل عندهم قبل الصلاة فعليه أن يغتسل بعدها ، وأنه ليس شرطا عندهم لصحتها ، والذي يظهر هو صحة مذهب الجمهور لأمرين :
الأول : أن مناسبة الغسل في هذا اليوم أنسب ما تكون لهذا التجمع ، كما أشارت عائشة - رضي الله عنها - فإذا أهدرنا هذه المناسبة كان يوم الجمعة وغيره سواء .
الثاني : أن سياق الآية يشير إشارة خفية إلى عدم وجوب الغسل ; لأنه لم يذكر نوع طهارة عند السعي بعد الأذان ، ومعلوم أنه لا بد من طهر لها ، فيكون إحالة على الآية الثانية العامة في كل الصلوات : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية ، فيكتفى بالوضوء وتحصل الفضلية بالغسل ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما .
في عود الضمير على التجارة وحدها مغايرة لذكر اللهو معها .
وقال الزمخشري : حذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وذكر قراءة أخرى ، انفضوا [ ص: 186 ] إليه يعود الضمير إلى اللهو ، وهذا توجيه قد يسوغ لغة كما في قول نابغة ذبيان :
وقد أراني ونعما لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
فذكر الدهر والعيش ، وأعاد عليهما ضميرا منفردا اكتفاء بأحدهما عن الآخر للعلم به ، وهو كما قال ابن مالك : وحذف ما يعلم جائز .
وقد ذكر الشيخ - رحمه الله - لهذا نظائر في غير عود الضمير ، كقوله تعالى : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم [ 16 \ 81 ] ، فالتي تقي الحر ، تقي البرد ، فاكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر ، ولكن المقام هنا خلاف ذلك .
وقد قال الشيخ عن هذه الآية في دفع إيهام الاضطراب : لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الأحد الدائر بين التجارة واللهو ، بدلالة لفظة أو على ذلك ، ولكن الضمير رجع إلى التجارة وحدها دون اللهو ، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة ، والجواب : أن التجارة أهم من اللهو وأقوى سببا في الانفضاض عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم انفضوا من أجل العير ، واللهو كان من أجل قدومها ، مع أن اللغة يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله . أما في العطف بأو فواضح ، كقوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا [ 4 \ 112 ] .
وأما الواو فهو فيها كثير كقوله : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة [ 2 \ 45 ] وقوله : والله ورسوله أحق أن يرضوه [ 9 \ 62 ] ، وقوله : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 \ 34 ] . اهـ .
أي : أن هذه الأمثلة كلها يذكر فيها أمران ، ويعود الضمير على واحد منهما .
وبناء على جواب الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - يمكن القول بأن عود الضمير على أحد المذكورين ، إما لتساويهما في الماصدق ، وإما لمعنى زائد فيما عاد عليه الضمير .
فمن المتساويين قوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما لتساويهما في النهي والعصيان ، ومما له معنى زائد قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها أي : الصلاة ; لأنها أخص من عموم الصبر ، ووجود الأخص يقتضي وجود الأعم دون العكس ، ولأن الصلاة وسيلة للصبر ، كما في الحديث : كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر هم فزع إلى الصلاة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
(http://www7.0zz0.com/2017/10/17/13/502148649.jpg)
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:46 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (554)
سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
صـ 187 إلى صـ 194
[ ص: 187 ] وكذلك قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها ، أي : الفضة ; لأن كنز الفضة أوفر ، وكانزوها أكثر فصورة الكنز حاصلة فيها بصفة أوسع ، ولدى كثير من الناس ، فكان توجيه الخطاب إليهم أولى ، ومن ناحية أخرى لما كانت الفضة من الناحية النقدية أقل قيمة ، والذهب أعظم ، كان في عود الضمير عليها تنبيه بالأدنى على الأعلى ، فكأنه أشمل وأعم ، وأشد تخويفا لمن يكنزون الذهب .
أما الآية هنا ، فإن التوجيه الذي وجهه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - لعود الضمير على التجارة ، فإنه في السياق ما يدل عليه ، وذلك في قوله تعالى بعدها : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة [ 62 \ 11 ] ، فذكر السببين المتقدمين ; لانفضاضهم عنه - صلى الله عليه وسلم - ثم عقبه بقوله تعالى ، بالتذييل المشعر بأن التجارة هي الأصل بقوله : والله خير الرازقين [ 62 \ 11 ] ، والرزق ثمرة التجارة ، فكان هذا بيانا قرآنيا لعود الضمير هنا على التجارة دون اللهو ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
قال أبو حيان عن ابن عطية : تأمل إن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية ; لأنها أهم وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين . اهـ .
يريد بقوله : في الرؤية : ( وإذا رأوا ) ، وبقوله : مع التفضيل : قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة ، أي : لأن اللهو أبين في الظهور ، والذي يظهر والعلم عند الله تعالى ، أنه عند التفضيل ذكر اللهو للواقع فقط ; لأن اللهو لا خير فيه مطلقا فليس محلا للمفاضلة ، وآخر ذكر التجارة ; لتكون أقرب لذكر الرزق لارتباطهما معا ، فلو قدمت التجارة هنا أيضا لكان ذكر اللهو فاصلا بينها وبين قوله تعالى : والله خير الرازقين ، وهو لا يتناسق مع حقيقة المفاضلة .
[ ص: 188 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحِيمِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ .
قَالَ الشَّيْخُ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي مُذَكِّرَةِ الدِّرَاسَةِ : الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُنَافِقُو نَ : جَمْعُ مُنَافِقٍ ، وَهُوَ مَنْ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ ، وَيُسِرُّ الْكُفْرَ .
( قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ) ، أَيْ : قَالُوا ذَلِكَ نِفَاقًا وَخَوْفًا ، وَلَمْ يَقُولُوهُ خَالِصًا مِنْ قُلُوبِهِمْ . وَلِذَا قَالَ اللَّهُ : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ، وَإِنَّمَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ بِالْكَذِبِ مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِمْ حَقٌّ ; لِأَنَّ بَوَاطِنَهُمْ تُكَذِّبُ ظَوَاهِرَهُمْ ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا كَسْرُ هَمْزَةِ إِنَّ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ ; لِأَنَّهَا بَعْدَ فِعْلٍ مُعَلَّقٍ بِاللَّامِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفُتِحَتْ ، لِأَنَّهَا فِي مَحَلِّ الْمَصْدَرِ .
وَلِأَبِي حَيَّانَ قَوْلٌ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ إِذْ قَالَ : إِنَّ قَوْلَهُمْ : ( نَشْهَدُ ) يَجْرِي مَجْرَى الْيَمِينِ ، وَلِذَلِكَ تُلُقِّيَ بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ ، وَكَذَا فِعْلُ الْيَقِينِ ، وَالْعَلَمُ يَجْرِي مَجْرَى الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ : إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ، أَعْنِي : بِقَصْدِ التَّوْكِيدِ بِإِنَّ وَاللَّامِ ، ثُمَّ قَالَ : وَأَصْلُ الشَّهَادَةِ أَنْ يُوَاطِىءَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ ، هَذَا بِالنُّطْقِ وَذَلِكَ بِالِاعْتِقَادِ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ ، وَفَضَحَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ .
أَيْ : لَمْ تُوَاطِئُ قُلُوبُهُمْ أَلْسِنَتَهُمْ عَلَى تَصْدِيقِكَ ، وَاعْتِقَادُهُم ْ أَنَّكَ غَيْرُ رَسُولٍ ، فَهُمْ كَاذِبُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ ، أَوْ كَاذِبُونَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ ، إِذْ أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ قَوْلَهُمْ : إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ كَذِبٌ .
وَجَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، بَيْنَ شَهَادَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيذَانًا بِأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالُوا عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [ 48 \ 28 - 29 ] .
تَنْبِيهٌ
[ ص: 189 ] فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَبْحَثٌ بَلَاغِيٌّ فِي تَقْسِيمِ الْكَلَامِ إِلَى خَبَرٍ وَإِنْشَاءٍ فَقَالُوا : الْخَبَرُ مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لِذَاتِهِ ، فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَنْحَصِرُ فِيهِمَا بِلَا وَاسِطَةٍ ، وَالْمُخْبِرُ إِمَّا صَادِقٌ وَإِمَّا كَاذِبٌ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مُطَابَقَةِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ أَوْ عَدَمِ مُطَابَقَتِهِ ، وَلَا عَلَاقَةَ لَهُ بِالِاعْتِقَادِ .
قَالَ السَّعْدُ فِي التَّلْخِيصِ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : صِدْقُ الْخَبَرِ وَكَذِبُهُ مُطَابَقَتُهُ لِاعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ ، لَا لِلْوَاقِعِ ، وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِأَنَّ عَدَمَ مُطَابَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْخَطَأِ ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْكَذِبِ .
وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ : مَا كَذَبَ وَلَكِنَّهُ وَهِمَ ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْجَاحِظِ وَهُوَ صِدْقُ الْخَبَرِ مُطَابَقَتُهُ لِلْوَاقِعِ مَعَ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ مُسْتَدِلًّا بِالْآيَةِ : وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ، مَعَ قَوْلِهِمْ : إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ مَعَ أَنَّ خَبَرَهُمْ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَعْتَقِدُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ لِذَلِكَ .
وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ الْجَاحِظِ الْقَوْلُ بِوُجُودِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَهِيَ عَدَمُ اعْتِقَادِ الْمُخْبِرِ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَلَوْ طَابَقَ الْوَاقِعَ ، وَلَكِنْ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ يَرُدُّ هَذَا الْمَذْهَبَ وَيُبْطِلُ اسْتِدْلَالَ الْجَاحِظِ وَمَنْ وَافَقَهُ بِالْآيَةِ ; لِأَنَّ تَكْذِيبَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مُنْصَبٌّ عَلَى قَوْلِهِمْ قَالُوا نَشْهَدُ ، وَالشَّهَادَةُ أَخَصُّ مِنَ الْخَبَرِ ، وَلِأَنَّهُمْ ضَمَّنُوا شَهَادَتَهُمُ التَّأْكِيدَ الْمُشْعِرَ بِالْقَسَمِ وَالْمُوحِيَ بِمُطَابَقَةِ الْقَوْلِ لِمَا فِي الْقَلْبِ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَقَامِ ، وَهُوَ مَقَامُ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فِي كَوْنِ إِخْبَارِهِمْ بِصُورَةِ الشَّهَادَةِ وَالْحَالِ أَنَّهُمْ لَمْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا وَهُوَ عَدَمُ مُطَابَقَتِهَا لِاعْتِقَادِهِم ْ .
وَالْقُرْآنُ يَنْفِي وُجُودَ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ [ 10 \ 32 ] .
أَمَّا فِقْهُ الْيَمِينِ وَمَا تَنْعَقِدُ بِهِ وَأَحْكَامُهَا ، فَقَدْ تَقَدَّمَ لِلشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - هَذَا الْمَبْحَثُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ " الْمَائِدَةِ " عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ الْآيَةَ [ 5 \ 89 ] .
[ ص: 190 ] وَذُكِرَ فِي مَعْنَى لَغْوِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ :
الثَّانِي مِنْهُمَا : هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ فَيُظْهِرُ خِلَافَهُ وَعَزَاهُ لِمَالِكٍ ، وَأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَسَاقَ أَسْمَاءَ كَثِيرِينَ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ : يَنْبَغِي أَنْ نُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَدِّ اللُّغَوِيِّ عِنْدَ الْبَلَاغِيِّين َ ، وَالْحَدِّ الشَّرْعِيِّ حَيْثُ يُقْبَلُ شَرْعًا مَا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ ; لِأَنَّهُ حَدُّ عِلْمِهِ ، وَلِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الشَّرْعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
قوله تعالى : اتخذوا أيمانهم جنة .
قرئ ( أيمانهم ) بفتح الهمزة جمع يمين ، وقرئ بكسرها من الإيمان ضد الكفر ، أي : ما أظهروه من أمور الإسلام .
ومما تقدم أن من أنواع البيان إذا كان في الآية قراءتان ، وفيها ما يرجح إحداهما ، وتقدم كلام أبي حيان تخريجه على اليمين .
وللشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة التدريس قوله : الأيمان جمع يمين ، وهي الحلف والجنة الترس ، وهو المجن الذي تتقى به السيوف والنبال والسهام في الحرب ، والمعنى أن المنافقين إذا ظهر شيء من نفاقهم أو سمعت عنهم كلمة كفر ، حلفوا بالله أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه ، فيجعلون حلفهم ترسا يقيهم من مؤاخذة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنبهم . كما قال تعالى : يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر الآية [ 9 \ 74 ] . وقال : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم الآية [ 9 \ 56 ] . وقال : يحلفون بالله لكم ليرضوكم الآية [ 9 \ 62 ] ، ونحو ذلك ، فهذه نصوص تدل على أنهم يحلفون أيمانا على أيمانهم .
ومن جهة المعنى : أن أيمانهم وحلفهم منصب على دعوى إيمانهم ، فلا انفكاك بين اليمين والإيمان ; لأنهم يحلفون أنهم مؤمنون ، واليمين أخص من الإيمان ، وحمله على الأخص يقتضي وجود الأعم ، فالحلف على الإيمان يستلزم دعوى الإيمان وزيادة ، ومجرد دعوى الإيمان لا يستلزم التأكيد بالإقسام والحلف .
قوله تعالى : فصدوا عن سبيل الله .
[ ص: 191 ] قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : أي بسبب اتخاذهم أيمانهم جنة وخفاء كفرهم الباطن ، تمكنوا من صد بعض الناس عن سبيل الله ، لأن المسلمين يظنونهم إخوانا وهم أعداء ، وشر الأعداء من تظن أنه صديق ولذا حذر الله نبيه منهم بقوله : هم العدو فاحذرهم [ 63 \ 4 ] ، وصدهم الناس عن سبيل الله كتعويقهم عن الجهاد ; كما بينه بقوله : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا الآية [ 33 \ 18 ] . وبقوله : وقالوا لا تنفروا في الحر الآية [ 9 \ 81 ] . وقوله : الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا الآية [ 3 \ 168 ] .
قوله تعالى : إنهم ساء ما كانوا يعملون .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ( ساء ) فعل جامد لإنشاء الذم بمعنى بئس . اهـ .
وقد بين تعالى تلك الإساءة من المنافقين في عدة جهات منها قوله تعالى : يخادعون الله والذين آمنوا [ 2 \ 9 ] . وقوله : إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم [ 4 \ 142 ] .
وكان خداعهم بالقول وبالفعل ، وخداعهم بالقول في قوله عنهم : يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم [ 48 \ 11 ] .
وخداعهم في الفعل في قوله عنهم : وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس [ 4 \ 142 ] .
وفي الجهاد قولهم : إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا [ 33 \ 13 ] .
قوله تعالى : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم .
في هذه الآية نص على أن الطبع على قلوبهم نتيجة لكفرهم بعد إيمانهم ، ومثله قوله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] . وكقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .
[ ص: 192 ] وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن بعض العلماء : ذلك بأنهم آمنوا ، أي : بألسنتهم نفاقا ثم كفروا بقلوبهم في الحقيقة . اهـ .
وتقدم في أول سورة البقرة ختم الله على قلوبهم [ 2 \ 7 ] فهم لا يعقلون بعد هذا الطبع ، ومع هذا الختم كقوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه [ 18 \ 57 ] .
قوله تعالى : هم العدو فاحذرهم .
فيه ما يشعر بحصر العداوة في المنافقين مع وجودها في المشركين واليهود ، ولكن إظهار المشركين شركهم ، وإعلان اليهود كفرهم مدعاة للحذر طبعا .
أما هؤلاء فادعاؤهم الإيمان وحلفهم عليه ، قد يوحي بالركون إليهم ولو رغبة في تأليفهم ، فكانوا أولى بالتحذير منهم لشدة عداوتهم ولقوة مداخلتهم مع المسلمين ، مما يمكنهم من الاطلاع على جميع شئونهم .
وقد جاء في آخر السورة كله كاشفا لحقيقتهم ومبينا شدة عداوتهم سواء في قولهم : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا [ 63 \ 7 ] ، أو في تآمرهم على المسلمين في قولهم : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ 63 \ 8 ] . وقوله : إن الله لا يهدي القوم الفاسقين [ 63 \ 6 ] .
( هم ) هنا المنافقون ; كقوله تعالى : إن المنافقين هم الفاسقون [ 9 \ 67 ] .
قوله تعالى : ولله خزائن السماوات والأرض .
تقدم بيانه للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : له مقاليد السماوات والأرض [ 39 \ 63 ] .
قوله تعالى : يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ما فيها من القول بالموجب .
قوله تعالى : يأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله .
[ ص: 193 ] تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ 18 \ 46 ] ، وقد بين سبب لهو المال والولد عن ذكر الله ، بأن العبد يفتن في ذلك في قوله تعالى الآتي في سورة " التغابن " : إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [ 64 \ 15 ] .
أي : لمن سخر المال في طاعة الله ، وبالتأمل في آخر هذه السورة ، وآخر التي قبلها نجد اتحادا في الموضوع والتوجيه .
فهناك قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [ 62 \ 11 ] .
وجاء عقبه مباشرة سورة : إذا جاءك المنافقون [ 63 \ 1 ] ، ولعله مما يشعر أن الذين بادروا بالخروج للعير هم المنافقون ، وتبعهم الآخرون لحاجتهم لما تحمل العير ، وهنا بعدما ركن المنافقون للمال جاء : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا فكانت أموالهم فتنة لهم في مقالتهم تلك ، فحذر الله المؤمنين بقوله : لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ، سواء كان المراد بالأموال خصوص ذكر الخطبة والعير المتقدم ذكرهما ، أو عموم العبادات والمكتسبات .
قوله تعالى : وأنفقوا من ما رزقناكم .
فيه الإنفاق من بعض ما رزقهم ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث الاقتصاد في الإنفاق عند قوله في أول سورة " البقرة " : ومما رزقناهم ينفقون [ 2 \ 3 ] .
قوله تعالى : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها .
وكذلك لا يقدمها عليه ; كما في قوله تعالى : لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 10 \ 49 ] .
وبين تعالى عدم تأخرهم مع أنهم وعدوا بأنهم يصدقون ويكونون من الصالحين ، مشيرا للسبب في قوله تعالى : والله خبير بما تعملون [ 64 \ 11 ] أي : لو أخركم ; لأن شيمتكم الكذب وخلف الوعد ، وأن هذا دأب أمثالهم كما بينه تعالى في قوله : وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال [ ص: 194 ] [ 14 \ 44 ] .
وقوله تعالى : حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها [ 23 \ 99 - 100 ] .
فقوله تعالى عنهم : كلا إنها كلمة هو قائلها ، تعادل في ماصدقها .
قوله تعالى : والله خبير بما تعملون .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2023-05-09, 10:46 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (555)
سُورَةُ التَّغَابُنِ
صـ 195 إلى صـ 202
أي : لو أخرهم لن يصدقوا ، ولن يكونوا من الصالحين ، والله تعالى محيط علمه بما سيكون ، كإحاطته بما قد كان ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 195 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ التَّغَابُنِ
قَوْلُهُ تَعَالَى : يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّسْبِيحِ وَمَدْلُولِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الْحَشْرِ " وَ " الْحَدِيدِ " ، وَهَذِهِ السُّورَةُ آخِرُ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِالتَّسْبِيحِ ، وَالْفِعْلُ هُنَا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الدَّالِّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ ، وَالتَّذْيِيلُ هُنَا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ لِلَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، نَافِذٌ فِيهِ أَمْرُهُ ، مَاضٍ فِيهِ حُكْمُهُ بِيَدِهِ أَزِمَّةُ أَمْرِهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ 67 \ 1 ] .
وَكَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ " يس " : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ 36 \ 82 - 83 ] .
وَمِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَتَصْرِيفِهِ لِأُمُورِ مُلْكِهِ كَيْفَ يَشَاءُ ، أَنْ جَعَلَ الْعَالَمَ كُلَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ بِحَمْدِهِ تَنْفِيذًا لِحِكْمَةٍ فِيهِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [ 28 \ 70 ] ، فَجَمَعَ الْحَمْدَ وَالْحُكْمَ مَعًا لِجَلَالَةِ قُدْرَتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ .
قوله تعالى : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الدراسة : المعنى أن الله هو الذي خلقكم وقدر على قوم منكم الكفر ، وعلى قوم منكم الإيمان ، ثم بعد ذلك يهدي كلا لما قدره عليه كما قال : والذي قدر فهدى [ 87 \ 3 ] ، فيسر الكافر إلى العمل بالكفر ، ويسر المؤمن للعمل بالإيمان ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " . اهـ .
ومن المعلوم أن هذا النص من مأزق القدرية والجبرية ، وأن أهل السنة يؤمنون أن كلا بقدر الله ومشيئته ، كما قال ابن تيمية في العقيدة الواسطية : وهم أهل السنة وسط بين [ ص: 196 ] قول : إن العبد مجبور على عمله لا اختيار له كالورقة في مهب الريح . وبين قول : إن العبد يخلق فعله بنفسه ، ويفعل ما يريد بمشيئته .
وأهل السنة يقولون بقوله تعالى : لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين [ 81 \ 29 ] .
وقد ذكر القرطبي أقوال الطائفتين من أهل العلم ، ولكل طائفة ما استدلت به ، الأولى عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا ، وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا " .
بما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لم يبق بينه وبينها إلا ذراع أو باع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " .
وقال : قال علماؤنا : تعلق العلم الأزلي بكل معلوم ، فيجري ما علم وأراد وحكم .
الثانية : ما جاء في قوله : وقال جماعة من أهل العلم : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا ، قالوا : وتمام الكلام : و هو الذي خلقكم ، ثم وصفهم فقال : فمنكم كافر ومنكم مؤمن .
وكقوله تعالى : والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه [ 24 \ 45 ] ، قالوا : فالله خلقهم والمشي فعلهم .
واختاره الحسين بن الفضل ، قال : لأنه لو خلقهم كافرين ومؤمنين لما وصفهم بفعلهم ، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة " . الحديث . اهـ .
وبالنظر في هاتين المقالتين نجد الآتي :
أولا : التشبيه في المقالة الثانية لا يسلم ; لأن وصف الدواب في حالة المشي ليس وصفا فعليا ، وإنما هو من ضمن خلقه تعالى لها ولم يكن منها فعل في ذلك .
ثانيا : ما استدلت به كل طائفة من الحديثين لا تعارض بينهما ; لأن الحديث الأول : " إن أحدكم ليعمل " لبيان المصير والمنتهى ، وفق العلم الأزلي والإرادة القدرية .
[ ص: 197 ] والحديث الثاني لبيان مبدأ وجود الإنسان في الدنيا وأنه يولد على الفطرة حينما يولد ، أما مصيره فبحسب ما قدر الله عليه .
وقد نقل القرطبي كلاما للزجاج وقال عنه : هو أحسن الأقوال ونصه : إن الله خلق الكافر ، وكفره فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الكفر ، وخلق المؤمن ، وإيمانه فعل له وكسب ، مع أن الله خالق الإيمان . والكافر يكفر ويختار الكفر بعد أن خلق الله إياه ; لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه ، لأن وجود خلاف المقدر عجز ، ووجود خلاف المعلوم جهل .
قال القرطبي : وهذا أحسن الأقوال ، وهو الذي عليه جمهور الأمة . اهـ .
ولعل مما يشهد لقول الزجاج قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون [ 37 \ 96 ] .
هذا حاصل ما قاله علماء التفسير ، وهذا الموقف كما قدمنا من مأزق القدر والجبر ، وقد زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام ، وبتأمل النص وما يكتنفه من نصوص في السياق مما قبله وبعده ، نجد الجواب الصحيح والتوجيه السليم ، وذلك ابتداء من قوله تعالى : له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
فكون الملك له لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ، وكونه على كل شيء قدير يفعل في ملكه ما يريد .
ثم قال : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير .
ثم جاء بعدها
قوله تعالى : خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور .
فخلق السماوات والأرض وخلق الإنسان في أحسن صورة آيتان من آيات الدلالة على البعث ، كما قال تعالى في الأولى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] .
وقال في الثانية : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] .
[ ص: 198 ] ولذا جاء عقبها قوله : وإليه المصير .
أي : بعد الموت والبعث ، فكأنه يقول لهم : هو الذي خلقكم وخلق لكم آيات قدرته على بعثكم ، من ذلك خلق السماوات والأرض ، ومن ذلك خلقكم وتصويركم في أحسن تقويم ، فكأن موجب ذلك الإيمان بقدرته تعالى على بعثكم بعد الموت ، وبالتالي إيمانكم بما بعد البعث ، من حساب وجزاء وجنة ونار ، ولكن فمنكم كافر ومنكم مؤمن .
وقد جاء بعد ذكر الأمم قبلهم وبيان أحوالهم جاء تفنيد زعم الكفار بالبعث والإقسام على وقوعه في قوله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير [ 64 \ 7 ] ; لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، ويشهد لهذا التوجيه في قوله تعالى في سورة الإنسان : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 1 - 3 ] .
فقوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج كقوله تعالى : هو الذي خلقكم [ 64 \ 2 ] .
ثم قال : فجعلناه سميعا بصيرا ، وهما حاستا الإدراك والتأمل ، فقال : إنا هديناه السبيل مع استعداده للقبول والرفض .
وقوله : إما شاكرا وإما كفورا ، مثل قوله هنا : فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] ، أي بعد التأمل والنظر وهداية السبيل بالوحي ، ولذا جاء في هذا السياق من هذه السورة : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا [ 64 \ 8 ] .
وبكل ما تقدم في الجملة يظهر لنا أن الله خلق الإنسان من نطفة ثم جعل له سمعا وبصرا ونصب الأدلة على وجوده وقدرته على بعث الموتى ، ومن ثم مجازاتهم على أعمالهم وأرسل إليه رسله وهداه النجدين ، ثم هو بعد ذلك إما شاكرا وإما كفورا ولو احتج إنسان في الدنيا بالقدر لقيل له : هل عندك علم بما سبق في علم الله عليك ، أم أن الله أمرك ونهاك وبين لك الطريق .
[ ص: 199 ] وعلى كل ، فإن قضية القدر من أخطر القضايا وأغمضها ، كما قال علي رضي الله عنه : القدر سر الله في خلقه .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا ذكر القضاء فأمسكوا " ، ولكن على المسلم النظر فيما أنزل الله من وحي وبعث من رسل .
وأهم ما في الأمر هو جري الأمور على مشيئة الله وقد جاء موقف عملي في قصة بدر ، يوضح حقيقة القدر ويظهر غاية العبر في قوله تعالى : إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور [ 8 \ 43 ] .
فهو تعالى الذي سلم من موجبات التنازع والفشل بمقتضى علمه بذات الصدور .
ثم قال : وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور [ 8 \ 44 ] ، فقد أجرى الأسباب على مقتضى إرادته فقلل كلا من الفريقين في أعين الآخر ; ليقضي الله أمرا كان في سابق علمه مفعولا ، ثم بين المنتهى ، : وإلى الله ترجع الأمور ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد .
فيه استنكار الكفار أن يكون من يهديهم بشرا لا ملكا ، كما قال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، وقوله تعالى : أبشرا منا واحدا نتبعه [ 54 \ 25 ] .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الدراسة : فشبهتهم هذه الباطلة ردها الله في آيات كثيرة كقوله تعالى : ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا [ 6 \ 9 ] ، وقوله : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا [ 12 \ 109 ] أي : لا ملائكة وقوله : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق الآية [ 25 \ 20 ] .
قوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت [ ص: 200 ] إلى قوله : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .
قوله تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أي : أن الكفار ادعوا أنهم لا يبعثون قائلين : إن العظام الرميم لا تحيا ، قل لهم يا نبي الله : بلى وربي لتبعثن ، وبلى حرف يأتي لأحد معنيين الأول رد نفي ، كما هنا .
الثاني : جواب استفهام مقترن بنفي نحو قوله : ألست بربكم قالوا بلى [ 7 \ 172 ] ، وقوله : وربي قسم بالرب على البعث الذي هو الإحياء بعد الموت ، وقد أقسم به عليه في القرآن ثلاث مرات ، الأول هذا .
والثاني قوله : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق [ 10 \ 53 ] .
الثالث قوله : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم [ 34 \ 3 ] . اهـ .
وقوله : ثم لتنبؤن بما عملتم ، بينه تعالى بقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، وقوله : وذلك على الله يسير اسم الإشارة راجع إلى البعث ويسره أمر مسلم ; لأن الإعادة أهون من البدء ، كما قال تعالى عن الكفار : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 78 - 79 ] ، وقوله : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة [ 31 \ 28 ] ، وقال وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] .
قوله تعالى : فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا .
النور هنا هو القرآن كما قال تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ، وهو القرآن ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : هو الذي ينزل على عبده آيات بينات [ 57 \ 9 ] من سورة " الحديد " ، وفي المذكرة سماه نورا ; لأنه كاشف [ ص: 201 ] ظلمات الجهل ، والشك ، والشرك ، والنفاق .
قوله تعالى : يوم يجمعكم ليوم الجمع .
يوم الجمع هو يوم القيامة ، وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ظرف منصوب باذكر مقدرة أو بقوله : خبير [ 64 \ 8 ] .
فيكون المعنى : أنه يوم القيامة خبير بأعمالكم في الدنيا لم يخف عليه منها شيء فيجازيكم عليها ، سمي يوم الجمع ; لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، كما قال تعالى : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام عليه في عدة مواضع منها في الجزء الثالث عند قوله تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس [ 11 \ 103 ] .
ومنها في الجزء السابع عند الآية المتقدمة : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون [ 56 \ 49 - 50 ] .
ومن أصرح الأدلة فيه : آية " الشورى " : وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه ، ثم قال : فريق في الجنة وفريق في السعير [ 42 \ 7 ] .
قوله تعالى : ذلك يوم التغابن .
الغبن : الشعور بالنقص ومثله الخبن لاشتراكهما في حرفين من ثلاثة ، كما في فقه اللغة : فبينهما تقارب في المعنى كتقاربهم في الحرف المختلف ، وهو الغين والخاء ولخفاء الغين في الحلق وظهور الخاء عنها كان الغبن لما خفي ، والخبن لما ظهر .
وقد بين تعالى موجب الغبن للغابن والمغبون فقال : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [ 64 \ 9 ] ، وبين حال المغبون بقوله : والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير [ 64 \ 10 ] .
وقد بين العلماء حقيقة الغبن في هذا المقام بأن كل إنسان له مكان في الجنة ومكان في النار ، فإذا دخل أهل النار النار بقيت أماكنهم في الجنة ، وإذا دخل أهل الجنة الجنة [ ص: 202 ] بقيت أماكنهم في النار .
وهناك تكون منازل أهل الجنة في النار لأهل النار ، ومنازل أهل النار في الجنة لأهل الجنة يتوارثونها عنهم ، فيكون الغبن الأليم ، وهو استبدال مكان في النار بمكان في الجنة ورثوا أماكن الآخرين الذين ذهبوا إلى النار .
قوله تعالى : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم .
في هذه الآية الكريمة نص صريح بأن ما يصيب أحدا مصيبة إلا بإذن الله .
ومعلوم أنه كذلك ما يصيب أحدا خير إلا بإذن الله على حد قوله : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر [ 16 \ 81 ] أي : والبرد .
ولكن التنصيص على المصيبة هنا ; ليدل أن كل شيء ينال العبد إنما هو بإذن الله ; لأن الجبلة تأبى المصائب وتتوقاها ، ومع ذلك تصيبه ، وليس في مقدوره دفعها بخلاف الخير ، قد يدعي أنه حصله باجتهاد منه كما قال قارون : إنما أوتيته على علم عندي [ 28 \ 78 ] .
وقوله : ومن يؤمن بالله يهد قلبه ، قرئ ( يهدأ ) بالهمز من الهدوء ، و ( قلبه ) بالرفع ، وهي بمعنى يهدي قلبه ; لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، فيسترجع فيطمئن قلبه بهذا ولا يجزع ، وهذا من خصائص المؤمن .
كما قال صلى الله عليه وسلم : " عجبا لأمر المؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له حتى الشوكة يشاكها في قدمه " .
ومثل هذا قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون [ 2 \ 155 - 157 ] .
أي : إلى ما يلزمهم من امتثال وصبر ولذا جاء بعدها : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول [ 64 \ 12 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 10:33 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (556)
سُورَةُ الطَّلَاقِ
صـ 203 إلى صـ 210
[ ص: 203 ] ومن ناحية أخرى يقال : إن قوله تعالى : ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ، والكفر أعظم المصائب .
ومن يؤمن بالله يهد قلبه والإيمان بالله أعظم النعم ، فيقول قائل : إن كان كل ذلك بإذن الله ، فما ذنب الكافر وما فضل المؤمن ، فجاء قوله تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، بيانا لما يلزم العبد ، وهو طاعة الرسل فيما جاءوا به ، ولا يملك سوى ذلك .
وفي قوله تعالى : يهد قلبه من نسبة الهداية إلى القلب بيان لقضية الهداية العامة والخاصة ، كما قالوا في قوله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ، مع قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] .
فقالوا : الهداية الأولى دلالة إرشاد ، كقوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
والثانية : هداية توفيق وإرشاد ويشهد لذلك شبه الهداية من الله لقلب من يؤمن بالله ، وقوله تعالى : وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، بتكرار فعل الطاعة يدل على طاعة الرسول تلزم مستقلة .
وقد جاءت السنة بتشريعات مستقلة وبتخصيص القرآن ونحو ذلك ، كما تقدم عند قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] .
ومما يشهد لهذا قوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] ، فكرر الفعل بالنسبة لله وللرسول ، ولم يكرره بالنسبة لأولي الأمر ; لأن طاعتهم لا تكون استقلالا بل تبعا لطاعة الله ، وطاعة رسوله ، كما في الحديث : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على ذلك عند قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ ص: 204 ] [ 18 \ 46 ] .
ومما يعتبر توجيها قرآنيا لعلاج مشاكل الحياة الزوجية ، وقضية الأولاد التعقيب على ذلك بقوله تعالى : وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم [ 64 \ 14 ] ، أي : إن عداوة الزوجة والأولاد لا ينبغي أن تقابل إلا بالعفو والصفح والغفران ، وأن ذلك يخفف أو يذهب أو يجنب الزوج والوالد نتائج هذا العداء ، وأنه خير من المشاحة والخصام .
وفي موضع آخر قال : إنما أموالكم وأولادكم فتنة [ 64 \ 15 ] أي : قد تفتن عن ذكر الله : لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله [ 63 \ 9 ] .
وتقدم للشيخ هذا المبحث في سورة " الكهف " كما أشرنا .
قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم .
يفهم منه أن التكليف في حدود الاستطاعة ، ويبينه قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] .
وقوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به [ 2 \ 286 ] .
وفي الحديث : " قال الله قد فعلت " ، وهذا في الأوامر دون النواهي ; لأن النواهي تروك .
كما جاء في السنة : " ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " ، وهذا من خصائص هذه الأمة .
كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند أواخر سورة " البقرة " ، وتحقيق ذلك في رخص الصلاة ، والصيام ونحوهما .
قوله تعالى : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون .
قالوا : الشح ، أخص من البخل ، وقيل البخل : أن تضن بمالك ، والشح أن تضن بمال غيرك ، والواقع أن الشح منتهى البخل ، وإن ذكره هنا بعد قضايا الأزواج والأولاد وفتنتهم وعداوتهم ، ثم الأمر بالسمع والطاعة والإنفاق في قوله : واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم [ 64 \ 16 ] ، يشعر بأن أكثر قضايا الزوجية منشؤها من جانب المال [ ص: 205 ] حرصا عليه أو بخلا به ، حرصا عليه بالسعي إليه بسببهم ، فقد يفتن في ذلك ، وشحا به بعد تحصيله فقد يعادونه فيه .
والعلاج الناجع في ذلك كله الإنفاق وتوقي الشح ، والشح من جبلة النفس وأحضرت الأنفس الشح [ 4 \ 128 ] ، وفي إضافة الشح إلى النفس مع إضافة الهداية فيما تقدم إلى القلب سر لطيف ، وهو أن الشح جبلة البشرية ، والهداية منحة إلهية ، والأولى قوة حيوانية ، والثانية قوة روحية .
فعلى المسلم أن يغالب بالقوة الروحية ما جبل عليه من قوة بشرية ; لينال الفلاح والفوز ، كما أشار تعالى بقوله : المال والبنون زينة الحياة الدنيا . ثم قال : والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا [ 18 \ 46 ] .
قوله تعالى : واسمعوا وأطيعوا .
أي : لا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وعصينا ، ولا كقوم نوح الذين قال عنهم : وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ 71 \ 7 ] .
وقد ندد بقول الكفار : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه [ 41 \ 26 ] .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : اسمعوا ما يقال لكم ، وأطيعوا فيما سمعتم ، لا كمن قبلكم المشار إليهم بالآيات المتقدمة .
قوله تعالى : إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : قد بين تعالى أنه يضاعف الإنفاق سبعمائة إلى أكثر بقوله : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل ، إلى قوله : والله يضاعف لمن يشاء [ 2 \ 261 ] .
وأصل القرض في اللغة : القطع وفي الشرع قطع جزء من المال يعطيه لمن ينتفع به ثم يرده ، أي : أن الله تعالى يرد أضعافا ، وقد سمى معاملته مع عبيده قرضا وبيعا وشراء وتجارة .
[ ص: 206 ] ومعنى ذلك كله أن العبد يعمل لوجه الله والله جل وعلا يعطيه ثواب ذلك العمل ، كما في قوله تعالى : إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم الآية [ 64 \ 17 ] .
وقوله : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ 9 \ 111 ] .
وقوله : فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به [ 9 \ 111 ] .
وقوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم الآية [ 61 \ 10 - 11 ] ، مع قوله تعالى : تجارة لن تبور [ 35 \ 29 ] .
والقرض الحسن هو ما يكون من الكسب الطيب خالصا لوجه الله . اهـ .
ومما يشهد لقوله - رحمه الله - في معنى القرض الحسن قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] ; لأن ذلك لم ينفق بإخلاص لوجه الله ، ومجئ الحسن على القرض الحسن هنا بعد قضية الزوجية والأولاد وتوقي الشح يشعر بأن الإنفاق على الأولاد والزوجة إنما هو من باب القرض الحسن مع الله ، كما في قوله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين [ 2 \ 215 ] .
وأقرب الأقربين بعد الوالدين هم الأولاد والزوجة .
وفي الحديث في الحث على الإنفاق : " حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته " .
وقوله : والله شكور حليم [ 64 \ 17 ] .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : شكر الله لعبده هو مجازاته له بالأجر الجزيل على العمل القليل .
وقوله : حليم ، أي : لا يعجل بالعقوبة بل يستر ويتجاوز عن ذنوب . ومجئ هذا التذييل هنا يشعر بالتوجيه في بعض نواحي إصلاح الأسرة ، وهو أن يقبل كل من الزوجين عمل الآخر بشكر ، ويقابل كل إساءة بحلم ليتم معنى حسن العشرة ، ولأن الإنفاق يستحق المقابلة بالشكر والعداوة تقابل بالحلم .
[ ص: 207 ] قوله تعالى : عالم الغيب والشهادة .
مجئ الآية بالجملة الاسمية يشعر بالحصر ، وقد صرح به في قوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] ، ومجيئه هنا أيضا يشعر بأن الرقابة على الأسرة بين الطرفين إنما هي لله تعالى ; لأنهما يكونان في عزلة عن الناس ولا يطلع على ما بينهما إلا الله ، عالم الغيب والشهادة ، أي فليراقب كل منهما ربه عالم الغيب والشهادة ، ومجازيا كلا منهما على فعله .
[ ص: 208 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الطَّلَاقِ
قوله تعالى : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم الآية .
قيل في سبب نزولها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة - رضي الله عنها - فنزلت ، وقيل غير ذلك ، وعلى كل فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم .
ومما يشهد لهذه القاعدة ما لو أخذنا بعين الاعتبار النسق الكريم بين السورتين ، حيث كان آخر ما قبلها موضوع الأولاد والزوجات من فتنة وعداء .
والإشارة إلى علاج ما بين الزوجين من إنفاق وتسامح على ما أشرنا إليه سابقا هناك ، فإن صلح ما بينهم بذاك فبها ونعمت ، وإن تعذر ما بينهما وكانت الفرقة متحتمة فجاءت هذه السورة على إثرها تبين طريقة الفرقة السليمة في الطلاق وتشريعه وما يتبعه من عدد وإنفاق ونحو ذلك .
وقوله تعالى : ياأيها النبي ، بالنداء للنبي صلى الله عليه وسلم . وقوله : إذا طلقتم بخطاب لعموم الأمة ، قالوا : كان النداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - والخطاب للأمة تكريما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكليفا للأمة . وقيل : خوطبت الأمة في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - كخطاب الجماعة في شخصية رئيسها .
وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ولهذه الآية استدل من يقول : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون داخلا في عموم خطاب الأمة . اهـ .
والواقع أن الخطاب الموجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقسام :
الأول : قد يتوجه الخطاب إليه - صلى الله عليه وسلم - ولا يكون داخلا فيه قطعا ، وإنما يراد به الأمة بلا خلاف ، من ذلك قوله تعالى في بر الوالدين : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا [ ص: 209 ] [ 17 \ 23 - 24 ] .
فكل صيغ الخطاب هنا موجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قطعا ليس مرادا بذلك لعدم وجود والدين ، ولا أحدهما عند نزولها كما هو معلوم .
الثاني : أن يكون خاصا به لا يدخل معه غيره قطعا ، نحو قوله تعالى : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين [ 33 \ 50 ] .
والثالث : هو الشامل له - صلى الله عليه وسلم - ولغيره بدليل هذه الآية ، وأول السورة التي بعدها في قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك [ 66 \ 1 ] ، فهذا كله خطاب موجه له صلى الله عليه وسلم .
وجاء بعدها مباشرة : قد فرض الله لكم بخطاب الجميع : تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] فدل أن الآية داخلة في قوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك [ 66 \ 1 ] ، وهذا باتفاق .
وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذه المسألة بأقوى دليل فيها عند قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا ، إلى قوله : منيبين إليه [ 30 - 31 ] .
وقوله تعالى : إذا طلقتم النساء الآية ، يشعر بأن كل المطلقات من النساء يطلقن لعدتهن وتحصى عدتهن .
والإحصاء العدد مأخوذ من الحصا ، وهو الحصا الصغير كانت العرب تستعمله في العدد لأميتهم ، ثم ذكر بعض عدد لبعض المطلقات ولم يذكر جميعهن مع أنه من المطلقات من لا عدة لهن وهن غير المدخول بهن ، ومن المطلقات من لم يذكر عدتهن هنا .
قال الزمخشري : إنه لا عموم ولا تخصيص ; لأن لفظ النساء اسم جنس يطلق على الكل وعلى البعض ، وقد أطلق هنا على البعض وهو المبين حكمهن بذكر عدتهن ، وهن اللاتي يئسن والصغيرات وذوات الحمل ، وحاصل عدد النساء تتلخص في الآتي ، وهي أن الفرقة إما بحياة أو بموت ، والمفارقة إما حامل أو غير حامل ، فالحامل عدتها بوضع حملها اتفاقا ، ولا عبرة بالخلاف في ذلك لصحة النصوص ، وغير الحامل بأربعة أشهر وعشر [ ص: 210 ] مدخول بها وغير مدخول ، والمفارقة بالحياة إما مدخول بها أو غير مدخول بها ، فغير المدخول بها لا عدة عليها إجماعا ، والمدخول بها إما من ذوات الأقراء فعدتها ثلاثة قروء على خلاف في المراد بالقرء .
وأما من ليست من ذوات الأقراء ، كاليائسة والصغيرة ، فعدتها بالأشهر ثلاثة أشهر .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في الجزء الأول عند قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ 2 \ 228 ] ، وفصل أنواع المطلقات المدخول بهن وغير المدخول بهن ، وأنواع العدد بالأقراء أو الأشهر أو الحمل ، وبين الجمع بين العمومات الواردة في ذلك كله مما يغني عن الإعادة هنا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 10:38 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (557)
سُورَةُ الطَّلَاقِ
صـ 211 إلى صـ 218
تنبيه
كل ما تقدم في شأن العدة ، إنما هو في خصوص الحرائر ، وبقي مبحث الإماء .
أما الإماء : فالحوامل منهن كالحرائر سواء بسواء ، وغير الحوامل فالجمهور على أنها على النصف من الحرة إلا أن الحيضة لما لم تكن تتجزأ فجعلت عدتها فيها حيضتين ، وهذا باتفاق الأئمة الأربعة .
أما ذات الأشهر ، فالجمهور على أنها تعتد شهرا ونصفا ، وخالف مالك فجعل لها ثلاثة أشهر ، فيكون مالك - رحمه الله - وافق الجمهور في ذوات الحيض ، وخالف الجمهور في ذوات الأشهر ، وقد أخطأ ابن رشد مع مالك في نقاشه معه هذه المسألة ، فقال في بداية المجتهد :
وقد اضطرب قول مالك في هذه المسألة ، فلا بالنص أخذ ولا بالقياس عمل ، يعني أنه لم يأخذ بالنص في ذوات الحيض فيجعل لهن ثلاثة قروء ، كما أخذ به في ذوات الأشهر ، حيث جعل لهن ثلاثة أشهر بالنص ، ولا بالقياس عمل ، أي : فلم ينصف الأشهر قياسا على الحيض ، فكان مذهبه ملفقا بين القياس في ذوات الحيض ، والنص في ذوات الأشهر ، فخالف في ذلك الأئمة الثلاثة .
واضطرب قوله في نظر ابن رشد ; لأنه لم يطرد القياس فيهما ، ولا أعمل النص فيهما ، ولكن الحق في المسائل الخلافية لا يمكن أن يعرف إلا بعد معرفة وجهة النظر عن المخالف ، فقد يكون محقا ، وقد يكون فعلا الحق مع غيره .
[ ص: 211 ] وفي هذه المسألة بالذات أشار العدوي في حاشيته : بأن وجهة نظر مالك هي الرجوع إلى أصل الغرض من العدة وهو براءة الرحم ، والشهر والنصف لا يكفي للمرأة نفسها أن تخبر عن نفسها عما إذا كانت حاملا أم لا ، فأكمل لها المدة المنصوص عليها .
أما الحيضتان : ففيهما بيان لبراءة الرحم . اهـ . ملخصا .
وهذا الذي قاله العدوي له أصل من الشرع ; لأن ذات الأقراء وجدناها في بعض الصور تعتد بحيضة ، كما جاء النص في عدة المختلعة ، وإن كان فيها خلاف ، ووجدنا الأمة تثبت براءة رحمها في غير هذا بحيضتين قطعا ، وهي فيما إذا كانت سرية لمالكها فأراد بيعها فإنه يستبرئها بحيضة ، والذي يشتريها يستبرئها بحيضة قبل أن يمسها ، ثم هو يفترشها ويأمن من أن يسقي ماءه زرع غيره ، فعلمنا أن في الحيضتين براءة للرحم ، فاكتفى بهما مالك ووافق الجمهور .
وأما الشهر والنصف فإنهما لا يمكن أن تتبين المرأة فيهما حملا ; لأنها مدة الأربعين الأولى وهي مرحلة النطفة ، فظهر بهذا أن الحق مع مالك ، وأن ابن رشد هو الذي اضطربت مقالته على مالك ، وقد سقنا هذا التنبيه لبيان واجب طالب العلم أمام المسائل الخلافية من ضرورة البحث عن السبب ووجهة نظر المخالف وعدم المبادرة للإنكار ، لأن يكون هو أحق بأن ينكر عليه ولا يسارع لرد قول قد يكون قوله هو أولى بأن يرد عليه ، وبالله التوفيق .
وقوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن ، اتفق المفسرون أن المراد لاستقبال عدتهن وفيه مبحث الطلاق السني والبدعي . واعلم أن الحامل وغير المدخول بها لا بدعة في طلاقهما عند الجمهور ، وألحقت بهما الصغيرة ، والطلاق البدعي هو جمع الثلاث في مرة أو الطلاق في الحيضة أو في طهر مسها فيه . وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله : يفرق الطلقات على الصغيرة كل طلقة في شهر ولا يجمعها ، وقد طال البحث في حكم الطلاق البدعي ، هل يقع ويحتسب على المطلق ، أم لا ؟
والأصل فيه حديث عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض ، فبلغ ذلك عمر فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " مره فليراجعها " .
والذي عليه الجمهور أنه يعتد بتلك الطلقة ، ومن خالف فيها السنة ، وعليه أن [ ص: 212 ] يراجعها ، وليعمل كما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - فليمسكها حتى تطهر ، ثم إن شاء أمسكها ، وإن شاء طلقها في طهر لم يمسها فيه ، أي : لتستقبل عدتها ما لم تكن الطلقة الثالثة أو بالثلاث على ما عليه الجمهور .
وقد سئل أحمد - رحمه الله - عن الاعتداد بهذه الطلقة في الحيضة فقال : إن قوله صلى الله عليه وسلم : " فليراجعها " ، يدل على الاعتداد بها ; لأنه لا رجعة إلا من طلاق .
وقد أطال ابن دقيق العيد الكلام عليها في إحكام الأحكام وغيره مما لا داعي إلى سرده ، وحاصله ما قدمنا ، ولم يقل بعدم الاعتداد بها إلا سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين .
وقال أبو حيان : إن قوله تعالى : فطلقوهن لعدتهن على إطلاقه يشعر بالاعتداد بالطلاق سنيا كان أو بدعيا .
قوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف .
ظاهره أن الإمساك بمعروف إذا بلغن أجلهن ، مع أنهن إذا بلغن إلى ذلك الحد خرجن من العدة وانتهى وجه المراجعة ، ولكن المراد هنا إذا قاربن أجلهن ولم يتجاوزنه أو يصلن إليه بالفعل ، والقاعدة أن ما قارب الشيء يعطى حكمه كما في قوله تعالى : فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم [ 16 \ 98 ] .
ومثل الآية الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتى أحدكم الخلاء فليقل : اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " ، مع أنه عند الإتيان أو أثناءه لا يحق له أن يقول ذلك ، وإنما يقوله إذا قارب دخوله ، فكذلك هنا .
أما المطلقة ثلاثا فقد بحثها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحثا وافيا عند قوله تعالى : الطلاق مرتان [ 2 \ 229 ] ، مما لا مزيد عليه .
قوله تعالى : قد جعل الله لكل شيء قدرا .
بعد الأمر بإحصاء العدة ، وكون العدد مختلفة الأنواع من أقراء إلى أشهر إلى وضع الحمل ، والمعتدات متفاوتات الأقراء وأمد الحمل ، فقد تكون في أوله أو وسطه أو آخره ، وكل ذلك لا بد من إحصائه لما يترتب عليه من حرمة وحلية ، فتخرج من عدة هذا وتحل [ ص: 213 ] لذاك .
كما قال تعالى : ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله [ 2 \ 235 ] وهذا كله لا يتأتى إلا بالإحصاء .
والإحصاء لا يكون إلا لمقدر معلوم ، وعليه فقوله تعالى : قد جعل الله لكل شيء قدرا ، مؤكد لهذا كله ، وكذلك فيه نص صريح أنه تعالى قد جعل لكل شيء من الأشياء أيا كان هو قدرا لا يتعداه لا بزيادة ولا بنقص ، ولفظ شيء أعم العمومات .
وقد جاءت آيات كثيرة دالة على هذا العموم عامة وخاصة ، فمن الآيات العامة قوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] . وقوله : وخلق كل شيء فقدره تقديرا [ 25 \ 2 ] . وقوله : وكل شيء عنده بمقدار [ 13 \ 8 ] . وقد جمع العام والخاص قوله : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم [ 15 \ 21 ] .
ومن التقدير الخاص في مخصوص قوله : والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 38 - 40 ] .
إنها قدرة باهرة وحكمة بالغة ، وإرادة قاهرة ، وسلطة غالبة ، قدرة من أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
وقد قال علماء الهيئة : أن حساب مسير هذه الأفلاك في منازلها أدق ما يكون من مئات أجزاء الثانية ، ولو اختلف جزء من الثانية لاختل نظام العالم ولما صلحت على وجه الأرض حياة ، ونحن نشاهد حركة الليل والنهار ونقصانهما وزيادتهما وفصول السنة كما قال تعالى : والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه [ 73 \ 20 ] .
وهو سبحانه وتعالى يحصيه ، وكذلك التقدير لوجود الإنسان قبل وبعد وجوده ، قال تعالى : من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره [ 80 \ 18 - 19 ] ، أي : قدر خلقه وصورته ونوعه كما بين ذلك بقوله : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا الآية ، إلى قوله : إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] .
وهذا أيضا من آيات قدرته يرد بها سبحانه على من جحد وجود الله وكفر بالبعث [ ص: 214 ] كما في مستهلها قوله تعالى : قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه [ 80 \ 17 - 18 ] .
ثم بين تعالى أنه خلقه من نطفة ماء مهين ، ولكن قدر الله تعالى قدرتها وصورتها حتى صارت خلقا سويا ، وجعل له وهو في بطن أمه عينين ، ولسانا ، وشفتين أي : وأنفا وأذنين ويدين ورجلين وكل جهاز فيه حير الحكماء في صنعه ونظامه .
ثم قدر تعالى أرزاقه على الأرض قبل وجوده يوم خلق الأرض ، وجعله آية على قدرته وعاتب الإنسان على كفره : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين [ 41 \ 9 - 10 ] .
وبعد وجود الكون وخلق الإنسان قدر في الإيجاد بإنزال المطر : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا [ 41 \ 24 - 28 ] .
ثم إن صب هذا الماء كان بقدر ، كما في قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر [ 23 \ 18 ] .
وقوله : ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير [ 42 \ 27 ] ، أي : بقدر ما يصلحهم ولو زاده لفسد حالهم ، كما في قوله قبلها : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء [ 24 \ 27 ] ، وبقدر مصلحتهم ينزل لهم أرزاقهم .
كما نبه على ذلك بقوله : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 - 7 ] .
هذه لمحة عن حكمة تقدير العزيز الحكيم الذي أحسن كل شيء خلقه ، والذي قدر الأشياء قبل وجودها كما في قوله : والذي قدر فهدى [ 87 \ 3 ] .
وكما في حديث القلم وكتابة كل شيء قبل وجوده بزمانه ومكانه ومقداره ، إن آية القدرة وبيان العجز قدرة الخالق وعجز المخلوق كما في قوله تعالى : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34 ] .
وكقوله : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] أي : [ ص: 215 ] لا يتعداه ولا يتخطاه ، وقد تحداهم الله في ذلك بقوله : فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين [ 56 \ 83 \ - 87 ] كلا إنهم مدينون ولن يستطيعوا إرجاعها .
وهنا يقال للدهريين والشيوعيين الذين لا يعترفون بوجود فاعل مختار وعزيز قهار ، إن هذا الكون بتقديراته ونظمه لآية شاهدة وبينة عادلة على وجود الله سبحانه وتعالى : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون [ 36 \ 83 ] .
كما يقال للمؤمنين أيضا إن ما قدره الله نافذ ، وما قدر للعبد آتيه ، وما لم يقدر له لن يصل إليه ، طويت الصحف وجفت الأقلام : لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [ 57 \ 23 ] .
ويقال مرة أخرى : اعملوا كل ميسر لما خلق له ، وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن .
فيه إطلاق لوضع الحمل على أي صفة كان هو ، وأجمع العلماء على أن يصدق بوضعه حيا أو ميتا ، ولكن اشترط فيه أن يكون قد ظهرت فيه خلقة الإنسان لا مضغة ولا علقة ، كما أن فيه إطلاق الأجل سواء للمطلقة أو المتوفى عنها من أنه ينقضي أجل الحوامل بوضع الحمل . وتقدم بيان ذلك مفصلا للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - وهنا مبحث أقل الحمل وأكثره ، وتقدم تفصيله للشيخ أيضا عند قوله تعالى : الله يعلم ما تحمل كل أنثى الآية ( 13 \ 8 ) .
قوله تعالى : فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف .
بين تعالى مدة الرضاع في قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [ 2 \ 233 ] .
وجعل أبو حنيفة - رحمه الله - ثلاثة أشهر زيادة على الحولين لتمرين الطفل على الفطام ، وذلك كما قال تعالى : لمن أراد أن يتم الرضاعة .
فإذا أمكن فطام الطفل قبلها بدون مضرة عليه فلا مانع ، وعلى الوالد إيتاء الأجرة على مدة الرضاع إلى الفطام سواء كانت المدة الشرعية كما هنا أو الفعلية قبلها . وليس [ ص: 216 ] ملزما بما زاد على الحولين في نص الآية .
والائتمار بمعروف يشعر بأن للعرف دخلا في ذلك كما هو تنبيه صريح بأن لا يضار أحد الوالدين بولده وأن تكون المفاهمة بين الزوجين بعد الفرقة في جميع الأمور سواء في خصوص الرضاع أو غيره مبناها على المعروف والتسامح والإحسان وفاء لحق العشرة السابقة ، ولا تنسوا الفضل بينكم .
قوله تعالى : وكأين من قرية عتت عن أمر ربها الآية .
ذكر الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الإملاء أن كأين بمعنى كم فهي إخبار بعدد كثير ، وذكر إعرابها ، والمعنى : كثير من قرية عتت عن أمر ربها أي : تكبرت وطغت وتقدم تفصيله للمعنى بالأمثلة والشواهد عند قوله تعالى : فكأين من قرية أهلكناها [ 22 \ 45 ] في سورة " الحج " .
ومما قدمه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ومن قوله تعالى : وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا [ 18 \ 59 ] ، بيان لأصحاب الرئاسة ورجال السياسة أن هلاك الدنيا بفساد الدين ، وأن أمن القرى وطمأنينة العالم بالحفاظ على الدين .
ومن هنا كان الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر في عامة الناس للحفاظ على دينهم وسلامة دنياهم ، فحمل الشارع مهمته للأمة كلها كل بحسبه باليد أو باللسان أو القلب ، وهذا الأخير أضعف الإيمان ، ومع ضعفه ففيه الإبقاء على دوام الإحساس بوجود المنكر إلى أن يقدر هو أو غيره على تغييره .
قد بين الله تعالى هذا المفهوم ببيان حال الذين مكنهم في الأرض بنصره في قوله تعالى الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور [ 22 \ 41 ] .
ثم ذكر تعالى الأمم التي كذبت وعتت من قوم نوح وعاد وثمود ولوط وأصحاب مدين .
ثم قال : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد [ 22 \ 45 ] .
[ ص: 217 ] قوله تعالى : الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن .
جاء في بيان السماوات أنها سبع طباق ، كما في قوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا [ 67 \ 3 ] .
وبين الحديث في الإسراء أن ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام ، وجاء لفظ السماء مفردا وجمعا ، فالمفرد كما في قوله : والسماء وما بناها [ 91 \ 5 ] . وقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء [ 2 \ 22 ] .
أما الأرض فلم يأت لفظها إلا مفردا ، ولم يأت تفصيلها كتفصيل السماء سبعا طباقا ، فاختلف في المثلية فجاء عن ابن عباس أنها مثلية تامة عددا وطباقا وخلقا ، وقيل : عددا وأقاليم يفصلها البحار ، وقيل : عددا طباقا متراكمة كطبقات البصلة مثلا ، ولقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في المقدمة أن من أوجه البيان إذا لم يوجد في الكتاب ووجد في السنة فإنه يبين بها ; لأنها وحي ، وقد جاء في السنة أن الأرض سبع أرضين كما في حديث : " من اغتصب أرضا أو من أخذ شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين " متفق عليه .
وفي حديث موسى لما قال : " يا رب علمني شيئا أدعوك به فقال : قل لا إله إلا الله ، فقال : يا رب كل الناس يقولون ذلك ، قال : يا موسى ، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله " . رواه النسائي .
فهذه أحاديث صحيحة أثبتت أن الأرضين سبع ، ولم يأت تفصيل للكيفية ولا للهيئة فثبت عندنا العدد ولم يثبت غيره ، فنثبته ونكل غيره لعلم الله تعالى .
ومما يؤيد ثبوت العدد على سبيل الإجمال أن مثلية الأرض للسماء لم تذكر إلا عند ذكر السماء مجملة مع ذكر العدد ولم يذكر عند تفصيلها بطباق مما يشعر أن المراد من المثلية العدد ، وقيل : إن هذا لا يتنافى مع أفراد اللفظ ; لأن جمعه شاذ .
كما قال ابن مالك :
وأرضون شذ والسنون
[ ص: 218 ] وقد أشار تعالى إلى أن هناك من حالات الأرض والسماء ما لم يعلمه الخلق في قوله تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [ 18 \ 51 ] ، وهم لا يزالون عاجزين عن كيفية خلق أنفسهم إلا تفصيلات جزئية ، والمهم من السياق والغرض الأساسي ، تنبيه الخلق على عظم قدرة الله تعالى في قوله تعالى : لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما [ 65 \ 12 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 10:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (558)
سُورَةُ التَّحْرِيمِ
صـ 219 إلى صـ 226
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ التَّحْرِيمِ
قوله تعالى : يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية .
تقدم في أول السورة قبلها بيان علاقة الأمة بالخطاب الخاص به - صلى الله عليه وسلم - وقد اختلف في تحريم ما أحل الله له بين كونه العسل أو هو مارية جاريته - صلى الله عليه وسلم - وسيأتي زيادة إيضاحه عن الكلام على حكمه .
وقوله تعالى : لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك [ 66 \ 1 ] ، ظاهر فيه معنى العتاب ، كما في قوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى [ 80 \ 1 - 3 ] .
وكلاهما له علاقة بالجانب الشخصي سواء ابتغاء مرضاة الأزواج ، أو استرضاء صناديد قريش ، وهذا مما يدل على أن التشريع الإسلامي لا مدخل للأغراض الشخصية فيه .
وبهذا نأخذ بقياس العكس دليلا واضحا على بطلان قول القائلين : إن إعماره - صلى الله عليه وسلم - لعائشة من التنعيم كان تطييبا لخاطرها ، ولا يصح لأحد غيرها .
ومحل الاستدلال هو أن من ليس له حق في تحريم ما أحل الله له ابتغاء مرضاة أزواجه لا يحل له إحلال وتجويز ما لا يجوز ابتغاء مرضاتهن ، وهذا ظاهر بين ، ولله الحمد .
أما تحلة اليمين وكفارة الحنث وغير ذلك ، فقد تقدم بيانه للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم [ 2 \ 225 ] .
أما حقيقة التحريم هنا ، ونوع الكفارة ، وهل كفر - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أم أن الله غفر له فلم يحتج لتكفير ، فقد أوضحه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الإملاء عند هذه الآية .
[ ص: 220 ] وفي الأضواء عند قوله تعالى في أول سورة " الأحزاب " : وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم [ 33 \ 4 ] ، وذلك أن للعلماء نحو عشرين قولا ، ورجح القول بأن التحريم ظهار لما يدل عليه ظاهر القرآن ، وأن القول الذي يليه أنه يمين ، وناقش المسألة بأدلتها هناك .
قوله تعالى : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما .
أطلقت التوبة هنا وقيدت في الآية بعدها بأنها توبة نصوح ، في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا [ 66 \ 8 ] .
وحقيقة التوبة النصوح وشروطها وآثارها تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون [ 24 \ 31 ] .
وقوله تعالى : فقد صغت قلوبكما . قال الشيخ في إملائه : ( صغت ) : بمعنى مالت ورضيت وأحبت ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ .
وقال : ( وقلوبكما ) جمع مع أنه لاثنتين هما حفصة وعائشة ، فقيل : لأن المعنى معلوم والجمع أخف من المثنى إذا أضيف . وقيل هو مما استدل به على أن أقل الجمع اثنين كما في الميراث في قوله : فإن كان له إخوة [ 4 \ 11 ] .
وجواب الشرط في قوله تعالى : إن تتوبا محذوف تقديره ، فذلك واجب عليكما ; لأن قلوبكما مالت إلى ما لا يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم . اهـ .
وقدره القرطبي بذلك خير لكم ومعناهما متقارب .
قوله تعالى : وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير .
قال أبو حيان : الوقف على ( مولاه ) ، وتكون الولاية خاصة بالله ، ويكون ( جبريل ) مبتدأ وما بعده عطف عليه ، ( وظهير ) خبر ، وعليه يكون جبريل ذكر مرتين بالخصوص أولا وبالعموم ثانيا .
وقيل : الوقف على ( جبريل ) معطوفا على لفظ الجلالة في الولاية ، ثم ابتدئ بصالح المؤمنين وعطف عليهم الملائكة ، ويدخل فيهم جبريل ضمنا . اهـ .
[ ص: 221 ] فعلى الوقف الأول يكون درج صالح المؤمنين بين جبريل وبين الملائكة تنبيها على علو منزلة صالح المؤمنين ، وبيان منزلتهم من عموم الملائكة بعد جبريل ، وعلى الوقف الثاني فيه عطف جبريل على لفظ الجلالة في الولاية بالواو ، وليس فيه ما يوهم التعارض مع الحديث في ثم إذ محل العطف هو الولاية ، وهي قدر ممكن من الخلق ومن الله تعالى كما في قوله تعالى : هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين [ 8 \ 62 ] لأن النصر يكون من الله ويكون من العباد ، من باب الأخذ بالأسباب : إلا تنصروه فقد نصره الله [ 9 \ 40 ] .
وكما في قوله تعالى : وينصرون الله ورسوله [ 59 \ 8 ] .
وقوله : من أنصاري إلى الله [ 3 \ 52 ] ، بخلاف سياق الحديث ، فقد كان في موضوع المشيئة حينما قال الأعرابي : ما شاء الله وشئت . فقال له صلى الله عليه وسلم : " أجعلتني لله ندا ؟ قل ما شاء الله وحده " ; لأن حقيقة المشيئة لله تعالى وحده كما في قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 81 \ 29 ] ، وكقوله : بل لله الأمر جميعا [ 13 \ 31 ] ، وكقوله : لله الأمر من قبل ومن بعد [ 30 \ 4 ] .
ومن اللطائف في قوله تعالى : وإن تظاهرا عليه إلى آخر ما سمعته من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أنه قال : إن المتظاهرتين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأتان فقط تآمرتا عليه فيما بينهما ، فجاء بيان الموالين له ضدهما كل من ذكر في الآية . فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة ، ما يدل على عظم كيدهن وضعف الرجال أمامهن ، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى : إن كيدكن عظيم [ 12 \ 28 ] ، بينما قال في كيد الشيطان : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ 4 \ 76 ] .
وقد عبر الشاعر عن ذلك بقوله :
ما استعظم الإله كيدهنه إلا لأنهن هن هنه
قوله تعالى : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا .
فيه بيان أن الخيرية التي يختارها الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في النساء هي تلك الصفات من الإيمان والصلاح .
[ ص: 222 ] وجاء الحديث " فعليك بذات الدين تربت يمينك " .
وقوله تعالى : ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم [ 2 \ 221 ] .
وفي تقديم الثيبات على الأبكار هنا في معرض التخيير ما يشعر بأولويتهن ، مع أن الحديث : " هلا بكرا تداعبك وتداعبها " ، ونساء الجنة لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ، ففيه أولوية الأبكار ، وقد أجاب المفسرون بأن هذا للتنويع فقط ، وأن الثيبات في الدنيا والأبكار في الجنة كمريم ابنة عمران ، والذي يظهر والله تعالى أعلم ، أنه لما كان في مقام الانتصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتنبيههن لما يليق بمقامه عندهن ذكر من الصفات العالية دينا وخلقا ، وقدم الثيبات ; ليبين أن الخيرية فيهن بحسب العشرة ومحاسن الأخلاق .
وقوله تعالى : عسى ربه إن طلقكن ، لم يبين هل طلقهن ، أم لا ؟ مع أن عسى من الله للتحقيق ، ولكنه لم يقع طلاقهن كما بينه تعالى في سورة " الأحزاب " ، بأنه تعالى خيرهن بين الله ورسوله ، وبين الحياة الدنيا وزينتها ، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة فلم يطلقهن ، ولم يبدله أزواجا خيرا منهن .
وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذه المسألة وإخلال الزواج إليه وتحريم النساء بعدهن عليه عند قوله تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية [ 33 \ 50 ] .
وقوله : ترجي من تشاء منهن [ 33 \ 51 ] .
وقوله : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن الآية [ 33 \ 52 ] .
وبين الناسخ من المنسوخ في ذلك في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب .
قوله تعالى : يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم .
لم يبين هنا نوع الاعتذار الذي نهوا عنه ولا سبب النهي عنه لماذا ؟ ولا زمنه ، وقد بين تعالى نوع اعتذارهم في مثل قوله تعالى : حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار [ 7 \ 38 ] .
وكقوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم [ 6 \ 23 ] .
[ ص: 223 ] وكقوله بعدها : ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين [ 6 \ 27 ] فهذا غاية في الاعتذار ، ولكنهم نهوا عنه وذلك يوم القيامة ، كما في قوله : إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نرد ، أي : إلى الدنيا .
وقد نهوا عن هذا الاعتذار ; لأنه لا ينفعهم كما في قوله تعالى : فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون [ 30 \ 57 ] .
وقوله : يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار [ 40 \ 52 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا .
تقدمت الإحالة على كلام الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في بيان أنواع التوبة ، وشروط كونها نصوحا على قوله تعالى : وتوبوا إلى الله جميعا [ 24 \ 31 ] .
قوله تعالى : نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم إلى آخر الآية .
تقدم بيان هذا النور وحالتهم تلك للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الحديد " عند قوله تعالى : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم [ 57 \ 12 ] .
قوله تعالى : يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم .
فيه الأمر بقتال الكفار ، والمنافقين والغلظة عليهم ، ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل الكفار ، ولم يعلم أنه قاتل المنافقين قتاله للكفار ، فما نوع قتاله - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين وبينه ؟ والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وجاهدهم به جهادا كبيرا [ 25 \ 52 ] ، أي : بالقرآن لقوله قبله : ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا [ 25 \ 50 ] .
ومعلوم أن المنافقين كافرون ، فكان جهاده - صلى الله عليه وسلم - للكفار بالسيف ومع المنافقين بالقرآن .
[ ص: 224 ] كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في عدم قتلهم ; لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه ، ولكن كان جهادهم بالقرآن لا يقل شدة عليهم من السيف ، لأنهم أصبحوا في خوف وذعر يحسبون كل صيحة عليهم ، وأصبحت قلوبهم خاوية كأنهم خشب مسندة ، وهذا أشد عليهم من الملاقاة بالسيف ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا .
أجمع المفسرون هنا على أن الخيانة ليست زوجية .
وقال ابن عباس : نساء الأنبياء معصومات ، ولكنها خيانة دينية بعدم إسلامهن وإخبار أقوامهن بمن يؤمن مع أزواجهن . اهـ .
وقد يستأنس لقول ابن عباس هذا بتحريم التزوج من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده ، والتعليل له بأن ذلك يؤذيه ، كما في قوله تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما [ 33 \ 53 ] .
فإذا كان تساؤلهن بدون حجاب يؤذيه ، والزواج بهن من بعده عند الله عظيم ، فكيف إذا كان غير التساؤل وبغير الزواج ؟ إن مكانة الأنبياء عند الله أعظم من ذلك .
وقوله تعالى : فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، فيه بيان أن العلاقة الزوجية لا تنفع شيئا مع الكفر ، وقد بين تعالى ما هو أهم من ذلك في عموم القرابات كقوله تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون [ 26 \ 88 ] .
وقوله : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه الآية [ 80 \ 34 - 35 ] .
وجعل الله هاتين المرأتين مثلا للذين كفروا ، وهو شامل لجميع الأقارب كما قدمنا .
وقد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في معرض محاضرة له الاستطراد في ذلك ، وذكر قصة هاتين المرأتين ، وقصة إبراهيم مع أبيه ونوح مع ولده ، فاستكمل جهات القرابات زوجة مع زوجها ، وولد مع والده ، ووالد مع ولده . وذكر حديث . " يا فاطمة اعملي ; فإني لا أغني عنك من الله شيئا " .
ثم قال : ليعلم المسلم أن أحدا لا يملك نفع أحد يوم القيامة ، ولو كان أقرب قريب [ ص: 225 ] إلا بواسطة الإيمان بالله ، وبما يكرم الله به من شاء بالشفاعة ، كما في قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم الآية [ 52 \ 21 ] .
قوله تعالى : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين .
جاء في هذا المثل بيان مقابل للبيان المتقدم والمفهوم المخالف له ، وهو أن المؤمن لا تضره معاشرة الكافر ، كما أن الكافر لا تنفعه معاشرة المؤمن ، وفي هذا المثل قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الإملاء :
لقد اختارت امرأة فرعون في طلبها حسن الجوار قبل الدار . اهـ .
أي : في قولها : ابن لي عندك بيتا في الجنة الآية [ 66 \ 11 ] .
قوله تعالى : ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا .
بين تعالى المراد بالروح بأنه جبريل - عليه السلام - في قوله : فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا [ 19 \ 17 ] ، وهو جبريل .
كما في قوله : نزل به الروح الأمين أي نزل جبريل بالقرآن ، وفي هذه الآية رد على النصارى استدلالهم بها على أن عيسى - عليه السلام - ابن الله ومن روحه تعالى ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وبيان هذا الرد أن قوله تعالى : فأرسلنا إليها روحنا تعدية أرسل بنفسه يدل على أن الذي أرسل يمكن إرساله بنفسه ، وهو فرق عند أهل اللغة ، بينما يرسل نفسه وما يرسل مع غيره كالرسالة والهدية ، فيقال فيه : أرسلت إليه بكذا ، كما في قوله : وإني مرسلة إليهم بهدية الآية [ 27 \ 35 ] .
فالهدية لا ترسل بنفسها ، ومثله بعثت ، تقول : بعثت البعير من مكانه ، وبعثت مبعوثا ، وبعثت برسالة ، ثانيا قوله : فتمثل لها لفظ الروح مؤنث ، كما في قوله تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون [ 56 \ 83 - 84 ] ، أنث الفعل في بلغت ، وهنا الضمير مذكر عائد لجبريل .
وقوله : فتمثل لها بشرا سويا ، ولو أنه من روح الله على ما ذهب إليه النصارى ، لما كان في حاجة إلى هذا التمثيل .
[ ص: 226 ] ثالثا قوله لها : إنما أنا رسول ربك [ 19 \ 19 ] ورسول ربها هو جبريل - عليه السلام - وليس روحه تعالى .
رابعا : قوله : لأهب لك غلاما زكيا [ 19 \ 19 ] ، ولم يقل لأهب لك روحا من الله .
ومن هذا أيضا قوله تعالى للملائكة : إني خالق بشرا من طين [ 38 \ 71 ] يعني آدم عليه السلام : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي [ 15 \ 29 ] ، أي : نفخت فيه الروح التي بها الحياة : فقعوا له ساجدين [ 15 \ 29 ] . فلو أن الروح من الله لكان آدم أولى من عيسى ; لأنه لم يذكر إرسال رسول له ، وقد قال تعالى : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون [ 3 \ 59 ] ، فكذلك عيسى - عليه السلام - لما بشرتها به الملائكة : قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [ 3 \ 47 ] ، فكل من آدم وعيسى ، قال له تعالى : كن فكان والله تعالى أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 10:55 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (559)
سُورَةُ التَّحْرِيمِ
صـ 227 إلى صـ 236
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْمُلْكِ
قوله تعالى : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - معنى تبارك ، وذكر أقوال المفسرين واختلافهم في معناها . ورجح أنه بحسب اللغة والاشتقاق أنه تفاعل من البركة ، والمعنى : تكاثرت البركات والخيرات من قبله ، وهذا يستلزم عظمته وتقديسه . . إلخ .
ثم ذكر تنبيها في عدم تصريفها واختصاصها بالله تعالى . وإطلاق العرب إياها على الله تعالى .
وقال في إملائه : الذي بيده الملك . أي : نفوذ المقدور في كل شيء يتصرف في كل شيء بما يشاء لا معقب لحكمه . اهـ .
والتقديم للموصول وصلته هنا بالصفة الخاصة به تعالى ، وهي قوله تعالى : تبارك يدل على عظمة الموصول .
ويدل له قوله تعالى : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون [ 36 \ 83 ] ; لأن التقديم بالتسبيح وهو التنزيه يساوي التقديم بقوله تعالى : تبارك ، والموصول بعد التسبيح بصلته كالموصول بعد تبارك وصلته سواء بسواء ، وهذا يؤيد ما ذكره الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه . والله أعلم .
وقد تقدمت الإشارة إلى الفرق بين الملك والمالك عند قوله تعالى : الملك القدوس السلام المؤمن [ 59 \ 23 ] ، وهنا تجتمع الصفتان ، فالذي بيده الملك وملكوت كل شيء هو المالك له الملك عليه ، وهو رب العالمين سبحانه .
قوله تعالى : الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - معنى هذه الآية الكريمة بما يوضحها من [ ص: 228 ] الآيات عند الكلام على قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] ، وقبلها في سورة " هود " على قوله تعالى : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 11 \ 7 ] .
وقال - رحمه الله - في إملائه : جعل للعالم موتتين وإحياءتين ، وبينه بقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم الآية [ 2 \ 28 ] .
والآية تدل عن أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة ، لأنه لو كان عدميا لما تعلق به الخلق .
قوله تعالى : الآية .
ذكر خلق السماوات السبع الطباق على هذا النحو دون تفاوت أو فطور بعد ذكر أول السورة ، يدل على أن خلق هذه السبع من كمال قدرته .
وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الحكمة في خلق السماوات والأرض ضمن تنبيه عقده في أواخر سورة " الذاريات " .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - معنى الآية الكريمة ، والآيات الموضحة لها عند الكلام على أول سورة " ق " عند قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] وقال في إملائه : إن قوله تعالى : في خلق الرحمن عام في جميع مخلوقاته ، من معنى الاستواء والحكمة والدقة في الصنع ، وتدخل السماوات في ذلك بدليل قوله تعالى : صنع الله الذي أتقن كل شيء [ 27 \ 88 ] . وإتقان كل شيء بحسبه ، كما في قوله : قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [ 20 \ 50 ] .
وقوله : الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين [ 32 \ 7 ] . وهذا الحال للسماء في الدنيا فقط ، وستنفطر يوم القيامة ، كما في قوله تعالى : إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] : إذا السماء انشقت [ 84 \ 1 ] : ويوم تشقق السماء بالغمام [ 25 \ 25 ] ونحو ذلك من الآيات .
قوله تعالى : فارجع البصر هل ترى من فطور .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى : وجعلنا السماء سقفا محفوظا [ ص: 229 ] [ 21 \ 32 ] في سورة الأنبياء .
وعند قوله : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم [ 50 \ 6 ] في سورة " ق " ولعل مجئ هذه الآية بعد : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 2 ] توجيه إلى حسن صنع الله وإبداعه في خلقه : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] .
قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان زينة السماء بالمصابيح ، وجعلها رجوما للشياطين بيانا كاملا عند قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين [ 15 \ 16 - 18 ] .
وقد ذكر طرفا من هذا البحث في سورة " الفرقان " لا بد من ضمه إلى هذا المبحث هناك ; لارتباط بعضها ببعض .
تنبيه
فقد ظهرت تلك المخترعات الحديثة ، ونادى أصحاب النظريات الجديدة والناس ينقسمون إلى قسمين : قسم يبادر بالإنكار ، وآخر يسارع للتصديق ، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن أو السنة . ولعل من الأولى أن يقال : إن النظريات الحديثة قسمان : نظرية تتعارض مع صريح القرآن ، فهذه مردودة بلا نزاع كنظرية ثبوت الشمس مع قوله تعالى : والشمس تجري لمستقر لها [ 36 \ 38 ] .
ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص عليها ، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا يرفضها . فالأولى أن يكون موقفنا موقف التثبت ولا نبادر بحكم قاطع إيجابا أو نفيا ، وذلك أخذا من قضية الهدهد وسبأ مع نبي الله سليمان لما جاء يخبرهم ، وكان - عليه السلام - لم يعلم عنهم شيئا فلم يكذب الخبر بكونه من الهدهد ولم يصدقه ; لأنه لم يعلم عنهم سابقا ، مع أنه وصف حالهم وصفا دقيقا .
وكان موقفه - عليه السلام - موقف التثبت مع ما لديه من إمكانيات الكشف والتحقيق من [ ص: 230 ] الريح ، والطير ، والجن ، فقال للمخبر وهو الهدهد : سننظر ، أصدقت أم كنت من الكاذبين .
ونحن في هذه الآونة لسنا أشد إمكانيات من نبي الله سليمان آنذاك ، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد ، فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه ؟ والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس صريحا فيه ما لا يحتمله ، ثم يظهر كذب النظرية أو صدقها ، فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة ، والقرآن فوق ذلك كله : لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد [ 41 \ 42 ] .
قوله تعالى : ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير .
المنصوص هنا إرجاع البصر كرتين ، ولكن حقيقة النظر أربع مرات .
الأولى في قوله : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] .
والثانية في قوله : فارجع البصر هل ترى من فطور [ 67 \ 3 ] .
والثالثة والرابعة في قوله : ثم ارجع البصر كرتين [ 67 \ 4 ] .
وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد ، والحسير : العيي الكليل العاجز المتقطع دون غاية ، كما في قول الشاعر :
من مد طرفا إلى ما فوق غايته ارتد خسآن من الطرف قد حسرا
قال القرطبي : يقال قد حسر بصره يحسر حسورا ، أي : كل وانقطع نظره من طول مدى ، وما أشبه ذلك فهو حسير ومحسور أيضا .
قال :
نظرت إليها بالمحصب من منى فعاد إلي الطرف وهو حسير
قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا .
فالدنيا تأنيث الأدنى أي : السماء الموالية للأرض ، ومفهومه أن بقية السماوات ليست فيها مصابيح التي هي النجوم والكواكب كما قال : بزينة الكواكب [ 37 \ 6 ] . ويدل لهذا [ ص: 231 ] المفهوم ما جاء به عن قتادة : أن الله جعل النجوم لثلاثة أمور : أمران هنا ، وهما : زينة السماء الدنيا ورجوما للشياطين . والثالثة علامات واهتداء في البر والبحر ، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا . لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى ; لأنها أجرام محفوظة ، كما في حديث الإسراء : " لها أبواب وتطرق ولا يدخل منها إلا بإذن " .
وكقوله : إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء [ 7 \ 40 ] .
وكذلك ليس هناك من يحتاج إلى اهتداء بها في سيره ; لأن الملائكة كل في وضعه الذي أوجده الله عليه ، ولأن الزينة لن ترى لوجود جرم السماء الدنيا ، فثبت أن النجوم خاصة بالسماء الدنيا .
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله تعالى : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد [ 37 \ 6 - 7 ] .
ومفهوم الدنيا عدم وجودها فيما بعدها ، ولا وجود للشيطان في غير السماء الدنيا .
قوله تعالى : وجعلناها رجوما للشياطين .
هي الشهب من النار ، والشهب النار ، كما في قوله : أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون [ 27 \ 7 ] ، والرجوم والشهب هي التي ترمى بها الشياطين عند استراق السمع ، كما في قوله تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] .
وقوله : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب [ 37 \ 10 ] .
وهنا سؤال ، وهو إذا كان الجن من نار ، كما في قوله : وخلق الجان من مارج من نار [ 55 \ 15 ] ، فكيف تحرقه النار ؟
فأجاب عنه الفخر الرازي بقوله : إن النار يكون بعضها أقوى من بعض ، فالأقوى يؤثر على الأضعف ، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده وأعتدنا لهم عذاب السعير [ 67 \ 5 ] والسعير : أشد النار .
ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض ، وهذا أمر ملموس ، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضا ، أقوى منها فتكسرها .
[ ص: 232 ] كما قيل : لا يفل الحديد إلا الحديد ، فلا يمنع كون أصله من نار ألا يتعذب بالنار ، كما أن أصل الإنسان من طين من حمأ مسنون ، ومن صلصال كالفخار ، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار ، فقد يقضى عليه بضربة من قطعة من فخار . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه في هذه الآية : إثبات أن للنار حسا وإدراكا وإرادة ، والقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ وتبصر وتتكلم وتطلب المزيد ، كما قال هنا : تكاد تميز من الغيظ [ 67 \ 8 ] .
وقال : إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا [ 25 \ 12 ] .
وقال : يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد [ 50 ] .
قوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها .
بين تعالى أن للنار خزنة ، وقد بين تعالى أن هؤلاء الخزنة هم الملائكة الموكلون بالنار ، كما في قوله تعالى : عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] .
كما بين عدتهم في قوله تعالى : عليها تسعة عشر [ 74 ] .
وقال : وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا [ 74 \ 31 ] .
وقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : دلت هذه الآية على أن أهل النار يدخلونها جماعة بعد جماعة ، كما في قوله تعالى : كلما دخلت أمة لعنت أختها [ 8 \ 38 ] .
قوله تعالى : ألم يأتكم نذير .
قال - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : هذا سؤال الملائكة لأهل النار ، والنذير بمعنى المنذر ، فهو فعيل بمعنى مفعل ، وإن ذكر عن الأصمعي إنكاره ونظيره من [ ص: 233 ] القرآن : بديع السماوات [ 2 \ 117 ] : بمعنى مبدع ، و أليم [ 2 \ 10 ] : بمعنى مؤلم .
ومن كلام العرب قول عمرو بن معديكرب :
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
فالسميع بمعنى المسمع .
وقول غيلان :
ويرفع من صدور شمردلات يصد وجوهها وهج أليم
أي : مؤلم ، والإنذار إعلام مقترن بتخويف .
وقال : وهذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحدا إلا بعد أن ينذره في الدنيا ، وقد بين هذا المعنى بأدلته بتوسع عند قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وساق هذه الآية هناك .
قوله تعالى : قالوا بلى قد جاءنا نذير .
قد اعترفوا بمجئ النذير إليهم .
وقد بين تعالى ذلك في قوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] .
قوله تعالى : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : أي : قال أهل النار : ( لو كنا نسمع ) من يعقل عن الله حججه ( أو نعقل ) حجج الله ( ما كنا في أصحاب السعير ) ، أي : النار ، فهم يسمعون ، ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة ، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة ; لأن الله قال : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم [ 2 \ 7 ] .
وقال : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] .
وقد بين هذا الذي ذكره - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عدة نصوص صريحة في ذلك ، منها أصل خلقتهم الكاملة في قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا [ ص: 234 ] [ 76 \ 2 ] .
وفي آخر سورة " الملك " هذه قوله : قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون [ 67 \ 23 ] .
ولكنهم سمعوا وعصوا ، كما في قوله : سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم [ 2 \ 93 ] .
وهذا ، وإن كان في بني إسرائيل ، إلا أنه قال لهذه الأمة : ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون [ 8 \ 21 ] . وقال تعالى عنهم : قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا [ 8 \ 21 ] .
وقال تعالى عنهم : قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا [ 8 \ 31 ] .
وقوله عنهم : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه [ 41 \ 26 ] .
وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا [ 45 \ 7 - 9 ] .
وقوله : وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها [ 31 \ 7 ] .
فقولهم هنا : لو كنا نسمع أو نعقل ، أي : سماع تعقل وتفهم .
قوله تعالى : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير .
قال - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه : الاعتراف الإقرار ، أي : أقروا بذنبهم يوم القيامة حيث لا ينفع الإقرار والندم ، وتقدم له - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان انتفاع الكفار بإقرارهم هذا بتوسع عند قوله تعالى : يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل [ 7 \ 53 ] .
واستدل بهذه الآية ، آية " الملك " هناك .
والظاهر أن الأصل في ذلك كله أن اعترافهم وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة ، [ ص: 235 ] كما جاء في حق فرعون في قوله تعالى : حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين [ 10 \ 90 ] ، فقيل له : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 91 ] .
وجاء أصرح ما يكون في قوله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا [ 6 \ 158 ] .
فلما جاء بعض آيات الله وظهر الحق ، لم يكن للإيمان محل بعد المعاينة : لا ينفع نفسا إيمانها ، أي : من قبل المعاينة كحالة فرعون المذكورة ; لأن حقيقة الإيمان التصديق بالمغيبات ، فإذا عاينها لم تكن حينذاك غيبا ، فيفوت وقت الإيمان والعلم عند الله ، وعليه حديث التوبة : " ما لم يغرغر " .
قوله تعالى : إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير .
الخشية : شدة الخوف ، كما قال تعالى : الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون [ 21 \ 49 ] .
وبين تعالى محل تلك الخشية في قوله : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ 35 \ 28 ] ; لأنهم يعرفون حق الله تعالى ويراقبونه .
وقد بين تعالى حقيقة خشية الله : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] .
وقوله : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله [ 59 \ 21 ] .
فالذين يخشون ربهم بالغيب هم الذين يعرفون حق الله عليهم ومراقبته إياهم في السر والعلن ، ويعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخسفوا وتستروا وهم دائما منيبون إلى الله ، كما في قوله : هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب [ 50 \ 32 - 33 ] ، وهذه أعلى درجات السلوك مع الله تعالى ، كما بين أنها منزلة العلماء .
وقد عاب تعالى أولئك الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ، ويخشون [ ص: 236 ] الناس ، ولا يخشون الله : فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين [ 9 \ 13 ] .
وإفراد الله بالخشية منزلة الأنبياء ، كما في قوله : الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا [ 33 \ 39 ] .
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : والعرب تمدح من يكون في خلوته كمشهده مع الناس .
ومنه قول مسلم بن الوليد :
يتجنب الهفوات في خلواته عف السريرة غيبه كالمشهد
والواقع أن هذه الصفة ، وهي خشية الله بالغيب والإيمان بالغيب أساس عمل المسلم كله ، ومعاملاته ; لأنه بإيمانه بالغيب سيعمل كل خير طمعا في ثواب الله ، كما في مستهل المصحف : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب الآية [ 2 \ 1 - 3 ] .
وبمخافة الله بالغيب سيتجنب كل سوء ، فيسلم ويتحصل له ما قال الله تعالى عنهم : مغفرة وأجر عظيم [ 5 \ 9 ] ، ( مغفرة ) من ذنوبه : وأجر عظيم على أعماله . رزقنا الله خشيته في السر والعلن .
وليعلم أن المراد بالغيب مما هو من جانب العبد لا سيده ، كما في الحديث في الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ، وهذا الإحساس هو أقوى عامل على اكتساب خشية الله سبحانه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 11:01 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (560)
سُورَةُ الْقَلَمِ
صـ 237 إلى صـ 244
قوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور .
فيه دلالة على أن السر والجهر عند الله وفي علم الله على حد سواء ; لأنه عليم بذات الصدور يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وقوله تعالى : سواء منكم من أسر القول ومن جهر به [ 13 \ 10 ] .
وقوله : وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى [ 20 \ 7 ] .
وتقدم للشيخ عند كل من الآيتين بيان هذه الآية .
[ ص: 237 ] وقد تقدم قوله تعالى : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله الآية [ 58 \ 1 ] .
وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه [ 50 \ 16 ] .
وتقدم في سورة " التحريم " قبل هذه السورة مباشرة قوله تعالى : وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه الآية [ 66 \ 3 ] ، ففيه بيان عملي مشاهد بأنه تعالى يعلم السر وأخفى ، ولذا قال تعالى هنا :
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير .
كما قال في سورة " التحريم " : قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير [ 66 \ 3 ] .
وقال القرطبي نقلا عن أبي إسحاق الإسفرائيني : من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم ، ومعناه تفهيم جميع المعلومات ، ومنها : الخبير ، ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ، ومنها : الحكيم ويختص بأنه يعلم دقائق الأوصاف ، ومنها : الشهيد ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر ، ومعناه ألا يغيب عنه شيء . ومنها : الحافظ ويختص بأنه لا ينسى ، ومنها : المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النهار واشتداد الريح وتساقط الأوراق ، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة ، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال : ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ، ( ومن ) في قوله تعالى : ألا يعلم من خلق ، أجازوا فيها أن تكون فاعل ( يعلم ) ، وهو الله تعالى ، أي : إن الذي خلق يعلم ما خلق ومنه ما في الصدور .
وأجازوا أن تكون مفعولا والفاعل ضمير مستتر في الفعل ( يعلم ) ، ذكرهما القرطبي وأبو حيان ، وهو واضح ومحتمل .
ولكن الذي تشهد له النصوص أنها مفعول كما في قوله : إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 12 ] : يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [ 40 \ 19 ] .
وقوله : والله خلقكم وما تعملون [ 37 \ 96 ] ، ومن أعمالهم ما يسرون ، وما يجهرون . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور .
[ ص: 238 ] الذلول فعول بمعنى مفعول ، وهو مبالغة في الذل .
تقول : دابة ذلول بينة الذل ، وقيل في معنى تذليل الأرض عدة أقوال لا تنافي بينها ، ومجموعها دائر على تمكين الانتفاع منها عن تسهيل الاستقرار عليها وتثبيتها بالجبال ، كقوله تعالى : والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم [ 79 \ 32 - 33 ] .
ومن إمكان الزرع فيها كقوله : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا [ 80 \ 27 - 28 ] إلى قوله أيضا : متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 32 ] ، وقد جمع أكثرها في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا [ 77 \ 25 - 27 ] .
وكنت أسمع الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - يقول في هذه الآية : إنها من تسخير الله تعالى للأرض أن جعلها كفاتا للإنسان في حياته بتسهيل معيشته منها وحياته على ظهرها ، فإذا مات كانت له أيضا كفاتا بدفنه فيها .
ويقول : لو شاء الله لجعلها حديدا ، ونحاسا فلا يستطيع الإنسان أن يحرث فيها ، ولا يحفر ولا يبني ، وإذا مات لا يجد مدفنا فيها .
ومما يشير إلى هذه المعاني كلها قوله تعالى : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] ; لترتبه على ما قبله بالفاء ، أي : بسبب تذليلها بتيسير المشي في أرجائها ، وطلب الرزق في أنحائها بالتسبب فيها من زراعة وصناعة وتجارة إلخ .
والأمر في قوله تعالى : فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه للإباحة ، ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فيه امتنان من الله تعالى على خلقه مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيها وحثا للأمة على السعي والعمل والجد ، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب ; لتسخيرها وتذليلها ، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها .
كما قال تعالى : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره [ 22 \ 65 ] .
[ ص: 239 ] وفي قوله : وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه [ 45 \ 13 ] ، وغير ذلك من الآيات .
ومن رأى هذا التسخير اعترف لله بالفضل والقيام لله بالحمد ، وتقديم الشكر كما قال تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون [ 22 \ 36 ] .
وقوله : والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون [ 43 \ 12 - 14 ] .
أي : مع شكر النعمة الاتعاظ والعبرة والاستدلال على كمال القدرة .
ومنها المعاد والمنقلب إلى الله تعالى ، فقوله : وإليه النشور بعد المشي في مناكب الأرض ، وتطلب الرزق وما يتضمن من النظر والتأمل في مسببات الأسباب وتسخير الله لها ، كقوله تعالى : وإنا إلى ربنا لمنقلبون بعد ذكر : خلق الأزواج كلها أي : الأصناف ، وتسخير الفلك ، والأنعام ، والبحر والبر فيه ضمنا إثبات القدرة على البعث ، فيكون المشي في مناكب الأرض ، واستخدام مناكبها ، واستغلال ثرواتها والانتفاع من خيراتها لا لطلب الرزق وحده ، وإلا لكان يمكن سوقه إليهم ، ولكن للأخذ بالأسباب أولا ، وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات ، كما في آية " الجمعة " : فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ 62 \ 10 ] .
أي : عند مشاهدة آيات قدرته وعظيم امتنانه .
وعليه ، فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى ، والاستغناء والاستثمار والإنتاج ، فما نقص عليها من أمور دنياها إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل وأضاعت من حقها في هذا الوجود .
وقد قال النووي في مقدمة المجموع : إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار [ ص: 240 ] وإنتاج كل حاجياتها حتى الإبرة ; لتستغني عن غيرها ، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج ، وهذا هو واقع العالم اليوم ، إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية .
وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله ، فعليهم أن يحتلوا مكانهم ، ويحافظوا على مكانتهم ، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا . وبالله التوفيق .
قوله تعالى : ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور .
ذكر أبو حيان في قراءة : ءأمنتم عدة قراءات من تحقيق الهمزتين ، ومن تسهيل الثانية ومن إدخال ألف بينهما وغير ذلك ، والخسف ذهابها سفلا ، كما خسف بقارون ، والمور الحركة المضطربة أو الحركة بسرعة ، وقد ثبتها تعالى بالجبال أوتادا كما قال : والجبال أرساها متاعا لكم [ 79 \ 32 - 33 ] و ( من في السماء ) . قال ابن جرير : هو الله تعالى . اهـ .
وعزاه القرطبي لابن عباس ، ويشهد لما قاله : ما جاء بعده من خسف الأرض وإرسال الحاصب ، فإنه لا يقدر عليه إلا الله ، كما أنه ظاهر النص ، وبهذا يرد على الكسائي فيما ذهب إليه ومن تبعه عليه كأبي حيان ، إذا قالوا : إنه على تقدير محذوف من قبيل المجاز ، ومجازه عندهم أن ملكوته في السماء أي : على حذف مضاف ، وملكوته في كل شيء ، ولكن خص السماء بالذكر ; لأنها مسكن ملائكته ، وثم عزته وكرسيه واللوح المحفوظ ، ومنها تتنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونهيه ، إلخ .
وقيل : هو جبريل ; لأنه الموكل بالخسف ، وقيل : إنه مجاراة لهم في معتقدهم بأن الله في السماء ، وهذه الأقوال مبناها على نفي صفة العلو لله تعالى ، وفرارا من التشبيه في نظرهم ، ولكن ما عليه السلف خلاف ما ذهبوا إليه ، ومعتقد السلف هو طبق ما قاله ابن جرير لحديث الجارية : " أين الله ؟ " قالت : في السماء ، قال : اعتقها ; فإنها مؤمنة " ، ولعدة آيات في هذا المعنى .
وقد بحث الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذا المبحث بأوسع وأوضح ما يمكن مما لم يدع لبسا ، ولا يترك شبهة ، ولا يستغني عنه مسلم عالما كان أو متعلما ، فالعالم يأخذ منه منهج التعليم السليم وأسلوب البيان الحكيم ، والمتعلم يأخذ منه ما يجب عليه من [ ص: 241 ] معتقد قويم واضح جلي سليم .
وقد يقال : إن معنى ( في ) هو الظرفية ، فنجعل السماء ظرفا لله تعالى ، وهذا يقتضي التشبيه بالمتحيز .
فيقال : إنه سبحانه منزه عن الظرفية بالمعنى المعروف والمنصوص في حق المخلوق .
وقد دلت النصوص من السنة على نفي ذلك عنه تعالى واستحالته عقلا عليه سبحانه في حديث : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة أو دراهم في ترس ، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة ، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم " فانتفت ظرفية السماء له سبحانه على المعروف لنا ; ولأنه سبحانه مستو على عرشه .
وفيما قدمه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في هذا المبحث شفاء وغناء ، ولله الحمد والمنة . قال القرطبي : ( إن في السماء ) بمعنى فوق السماء كقوله : فسيحوا في الأرض [ 9 \ 2 ] أي : فوقها لا بالمماسة والتحيز .
وقيل : ( في ) : بمعنى على كقوله : ولأصلبنكم في جذوع النخل [ 20 \ 71 ] أي : عليها إلى أن قال : والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلو ، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند ، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ووصفه بالعلو . اهـ .
وهذا الذي ذكره هو عين مذهب السلف ، وقد ذكر كلاما آخره فيه التأويل وفيه التنزيه .
قوله تعالى : أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير .
الطير صافات : أي : مادات أجنحتها ( ويقبضن ) : أي : يضمنها إلى أجسامها .
قال أبو حيان : عطف بالفعل ويقبضن على الاسم ، صافات ، ولم يعطف باسم قابضات ; لأن الأصل في الطيران هو بسط الجناح ، والقبض طارئ ، وهذا الذي قاله أبو [ ص: 242 ] حيان : جار على القاعدة عندهم من أن الاسم للدوام والثبوت ، والفعل للتجدد والحدوث ، فالحركة الدائمة في الطيران هي صف الجناح ، والجديد عليه هو القبض .
وقوله تعالى : ما يمسكهن إلا الرحمن دليل على قدرته تعالى وآية لخلقه ، كما في قوله تعالى : ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون [ 16 \ 79 ] .
فهي آية على القدرة ، وقد جاء في آيات أخرى أنه تعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض بقدرته جل وعلا ، كما في قوله تعالى : إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا [ 35 \ 41 ] .
فهو سبحانه ممسكهما بقدرته تعالى عن أن تزولا ، ولو قدر فرضا زوالهما لا يقدر على إمساكهما إلا هو ، وكما في قوله : ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه [ 22 \ 65 ] .
تنبيه
ولعل مما يستدعي الانتباه توجيه النظر إلى الطير في الهواء ( صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن ) ، بعد التخويف بخسف الأرض بأن الأرض معلقة في الهواء كتعلق الطير المشاهد إليكم ما يمسكها إلا الله ، وإيقاع الخسف بها ، كإسقاط الطير من الهواء ; لأن الجميع ما يمسكه إلا الله تعالى ، وهو القادر على الخسف بها ، وعلى إسقاط الطير .
قوله تعالى : أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه .
يقول تعالى للمشركين : من هذا الذي غيره سبحانه يرزقكم ، إن أمسك الله عنكم رزقه .
والجواب : لا أحد يقدر على ذلك ولا يملكه إلا الله .
وقد صرح تعالى بهذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله [ 34 \ 24 ] .
أي : لا أحد سواه سبحانه لا إله إلا هو ، قال تعالى : هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون [ ص: 243 ] [ 35 \ 3 ] .
وذلك لأن الذي يقدر على الخلق هو الذي يملك القدرة على الرزق ، كما قال تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .
وكقوله : الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم [ 30 \ 40 ] .
وهذا من كمال القدرة على الإحياء والإماتة والرزق ، وقد بين تعالى أن ذلك لمن بيده مقاليد الأمور سبحانه ، وتدبير شئون الخلق كما في قوله تعالى : له مقاليد السماوات والأرض ، ثم قال : يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم [ 42 \ 12 ] ، أي : يبسط ويقدر ، يعلم لا عن نقص ولا حاجة ، ولكن يعلم بمصالح عباده ، الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز [ 42 \ 19 ] أي : يعاملهم بلطفه وهو قوي على أن يرزق الجميع رزقا واسعا ، وهو العزيز في ملكه ، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، كما قال تعالى : الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر [ 39 \ 52 ] أي : بمقتضى اللطف والعلم : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها [ 11 \ 6 ] .
ومن هذا كله يرد على أولئك الذين يطلبون عند غيره الرزق ، كما في قوله : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون [ 16 \ 73 ] .
وقد جمع الأمرين توبيخهم وتوجيههم في قوله تعالى : إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون [ 29 \ 17 ] .
وقد بين تعالى قضية الخلق والرزق والعبادة كلها في قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 56 - 58 ] .
وقد بين تعالى في الآيات المتقدمة أنه يرزق العباد من السماوات والأرض جملة .
[ ص: 244 ] وبين في آيات أخرى كيفية هذا الرزق تفصيلا مما يعجز الخلق عن فعله ، وذلك في قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم [ 80 \ 24 - 32 ] .
فجميع أنواع الرزق في ذلك ابتداء من إنزال الماء من السماء ، ثم ينشأ عنه إشقاق الأرض عن النبات بأنواعه حبا وعنبا وزيتونا ونخلا وحدائق وفاكهة ، وكلها للإنسان ، وقضبا وأبا للأنعام ، والأنعام أرزاق أيضا لحما ولبنا ، وجميع ذلك قوامه إنزال الماء من السماء ، ولا يقدر على شيء من ذلك كله إلا الله .
فإذا أمسكه الله عن الخلق لا يقوى مخلوق على إنزاله ، فإذا علم المسلم أن الأرزاق بيد الخلاق ، ومن بيده مقاليد السماوات والأرض لن يتجه برغبة ولا يتوجه بسؤال إلا إلى الله تعالى ، موقنا حق اليقين أنه هو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين .
وكما قال تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ 51 \ 22 - 23 ] .
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قولها : والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أعظم مما بيده .
قوله تعالى : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه عند قوله تعالى : وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون [ 23 \ 18 ] في سورة " المؤمنون " .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْقَلَمِ
قوله تعالى : ن .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور عند الكلام على أول سورة هود : وذكر الأقوال كلها ، وهي خمسة أقوال :
فقيل : إنها مما استأثر الله بعلمه أو أنها من أسماء الله ، أو مركبة من عدة حروف كل حرف من اسم ، أو أسماء للسور ، أو أنها للإعجاز ، وبين - رحمه الله - وجه كل قول منها ، ورجح الأخير ، وأنها للإعجاز بدليل أنه يأتي بعدها دائما الانتصار للقرآن ، وقد بسط البحث بما يكفي ويشفي .
وقال ابن كثير بأقوال أخرى ، منها أن : ن بمعنى الدواة أي : بمناسبة ذكر القلم ، وعزاه إلى الحسن وقتادة ، وقال : إن فيه حديثا مرفوعا ، ولكن غريب جدا ، وهو عن ابن عباس : " إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال : اكتب " ، الحديث .
وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " خلق الله النون وهي الدواة " .
وذكر ابن جرير كل هذه الأوجه وزاد أوجها أخرى : منها أنها افتتاحيات لأوائل السور تسترعي انتباه المستمعين ، ثم يتلى عليهم ما بعدها ، وقيل : هي من حساب الجمل وغير ذلك .
وقد ذكر ابن جرير عند أول " سورة الشورى " : حم عسق [ 42 \ 1 - 2 ] أثرا نقله عنه ابن كثير واستغربه واستنكره ، ولكن وقع ما يقرب من مصداقه ومطابقته مطابقة تامة .
ونصه من ابن جرير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال له وعنده حذيفة بن اليمان : أخبرني عن تفسير قول الله : حم عسق قال : فأطرق ثم أعرض عنه ، ثم كرر مقالته فأعرض فلم يجبه بشيء ، وكره مقالته ، ثم كررها الثالثة فلم يجبه شيئا .
[ ص: 246 ] فقال له حذيفة : أنا أنبئك بها ، وقد عرفت بم كرهها ، نزلت في رجل من أهل بيته يقال له : عبد الإله أو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق تنبني عليه مدينتان فشق النهر بينهما شقا ، فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدنهم ، بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت ، كأنها لم تكن مكانها ، وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فذلك قوله : حم عسق يعني عزيمة من الله ، وفتنة ، وقضاء .
حم عسق يعني عدلا منه : سين يعني سيكون و ق يعني واقع بهاتين المدينتين . اهـ .
ومع استغراب ابن كثير إياه واستنكاره له ، فقد وقع مثل ما يشير إليه الحديث على ثورة العراق على عبد الإله في بغداد ، حيث يشقها النهر شقين ، وأنه من آل البيت ، وقد وقع بها ما جاء وصفه في الأثر المذكور .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 11:25 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (561)
سُورَةُ الْقَلَمِ
صـ 245 إلى صـ 254
قوله تعالى : ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون وإنك لعلى خلق عظيم .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الرد على مقالتهم تلك عند قوله تعالى : أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق الآية [ 23 \ 70 ] من سورة " المؤمنون " .
وساق النصوص ، وقال : إن في الآية ما يرد عليهم ، وهو قوله تعالى : بل جاءهم بالحق . اهـ .
وهكذا هنا في الآية ما يدل على بطلان دعواهم ، ويرد عليهم ، وهو قوله تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون أي على ما جئت به من الحق وقمت به من البلاغ عن الله والصبر عليه ، كما رد عليهم بقوله : وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] .
وكذلك قوله تعالى في حق رسوله الكريم الأعظم : وإنك لعلى خلق عظيم ; لأن المجنون سفيه لا يعني ما يقول ، ولا يحسن أي تصرف .
والخلق العظيم أرقى منازل الكمال في عظماء الرجال .
[ ص: 247 ] وقوله تعالى : وإن لك لأجرا غير ممنون ، المن : القطع . أي : إن أجره - صلى الله عليه وسلم - عند الله غير منقطع .
قال الشاعر : \ 5
لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب لا يمن طعامها
وقد بين تعالى دوام أجره دون انقطاع في قوله تعالى : إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما [ 33 \ 56 ] .
وصلوات الله تعالى عليه ، وصلوات الملائكة ، والمؤمنين لا تنقطع ليلا ولا نهارا وهي من الله تعالى رحمة ، ومن الملائكة والمؤمنين دعاء .
وفي سورتي : " الضحى " و " ألم نشرح " بكاملها : ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 3 - 5 ] .
وقوله : ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 4 ] .
ومعلوم من السنة أن من دل على خير فله مثل من عمل به ، فما من مسلم تكتب له حسنة في صحيفته إلا وللرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلها .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث " .
ومنها : " أو علم ينتفع به " ، وأي علم أعم نفعا مما جاء به - صلى الله عليه وسلم - وتركه في الأمة حتى قال : " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي " ، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على دوام أجره .
أما جزاؤه عند الله فلا يقدر قدره إلا الله تعالى .
وقوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم تقدم أن هذه بمثابة الرد على ادعاء المشركين أولا عليه - صلى الله عليه وسلم - ورميه بالجنون ; لأن أخلاق المجانين مذمومة بل لا أخلاق لهم ، وهنا أقصى مراتب العلو في الخلق .
وقد أكد هذا السياق بعوامل المؤكدات باندراجه في جواب القسم الأول في أول السورة ، وبأن اللام في ( لعلى ) ، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء والتمكن بدلا من ذو [ ص: 248 ] مثلا : ذو خلق عظيم لبيان قوة التمكن والاستعلاء ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - فوق كل خلق عظيم متمكن منه مستعل عليه .
وقد أجمل الخلق العظيم هنا وهو من أعم ما امتدح الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كتابه ، وقد أرشدت عائشة - رضي الله عنها - إلى ما بين هذا الإجمال حينما سئلت عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - الذي امتدح به فقالت : " كان خلقه القرآن " تعني والله تعالى أعلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - يأتمر بأمره وينتهي بنواهيه ، كما في قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
وكما في قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] .
وكما قال صلى الله عليه وسلم : " لن يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " ، فكان هو - صلى الله عليه وسلم - ممتثلا لتعاليم القرآن في سيرته كلها ، وقد أمرنا بالتأسي به صلوات الله وسلامه عليه ، فكان من أهم ما يجب على الأمة معرفة تفصيل هذا الإجمال ; ليتم التأسي المطلوب .
وقد أخذت قضية الأخلاق عامة ، وأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - خاصة محل الصدارة من مباحث الباحثين ، وتقرير المرشدين ، فهي بالنسبة للعموم أساس قوام الأمم ، وعامل الحفاظ على بقائها ، كما قيل :
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وقد أجمل - صلى الله عليه وسلم - البعثة كلها في مكارم الأخلاق في قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت ; لأتمم مكارم الأخلاق " .
وقد عني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضوان الله تعالى عليهم بقضية أخلاقه بعد نزول هذه الآية ، فسألوا عائشة - رضي الله عنها - عن ذلك فقالت : " كان خلقه القرآن " ، وعني بها العلماء بالتأليف ، كالشمائل للترمذي .
أما أقوال المفسرين في الخلق العظيم المعني هنا فهي على قولين ، لا تعارض بينهما :
منها : أنه الدين ، قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم .
والآخر قول عائشة : " كان خلقه القرآن " ، والقرآن والدين مرتبطان . ولكن لم يزل الإجمال موجودا . وإذا رجعنا إلى بعض الآيات في القرآن نجد بعض البيان لما كان [ ص: 249 ] عليه - صلى الله عليه وسلم - من عظيم الخلق مثل قوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ 7 \ 199 ] .
وقوله : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] .
وقوله : فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم [ 3 \ 159 ] .
وقوله : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] .
ومثل ذلك من الآيات التي فيها التوجيه أو الوصف بما هو أعظم الأخلاق ، وإذا كان خلقه - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن ، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم .
والمتأمل للقرآن في هديه يجد مبدأ الأخلاق في كل تشريع فيه حتى العبادات . ففي الصلاة خشوع وخضوع وسكينة ووقار ، فأتوها وعليكم السكينة والوقار .
وفي الزكاة مروءة وكرم ياأيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ 2 \ 264 ] .
وقوله : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ 76 \ 9 ] .
وفي الصيام : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " الصيام جنة " .
وفي الحج : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج .
وفي الاجتماعيات : خوطب - صلى الله عليه وسلم - بأعلى درجات الأخلاق ، حتى ولو لم يكن داخلا تحت الخطاب ; لأنه ليس خارجا عن نطاق الطلب : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، ثم يأتي بعدها وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا [ ص: 250 ] [ 17 \ 23 - 24 ] ، مع أن والديه لم يكن أحدهما موجودا عند نزولها ، إلى غير ذلك من التعاليم العامة والخاصة التي اشتمل عليها القرآن .
وقد عني - صلى الله عليه وسلم - بالأخلاق حتى كان يوصي بها المبعوثين في كل مكان ، كما أوصى معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بقوله : " اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " إن مما أدرك الناس من كلام النبوة : إذا لم تستح فاصنع ما تشاء " ، أي : إن الحياء وهو من أخص الأخلاق سياج من الرذائل ، وهذا مما يؤكد أن الخلق الحسن يحمل على الفضائل ، ويمنع من الرذائل ، كما قيل في ذلك :
إن الكريم إذا تمكن من أذى جاءته أخلاق الكرام فأقلعا
وترى اللئيم إذا تمكن من أذى يطغى فلا يبقي لصلح موضعا
وقد أشار القرآن إلى هذا الجانب في قوله تعالى : الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 134 ] .
تنبيه
إن من أهم قضايا الأخلاق بيانه - صلى الله عليه وسلم - لها بقوله : " إنما بعثت ; لأتمم مكارم الأخلاق " .
مع أن بعثته بالتوحيد ، والعبادات ، والمعاملات ، وغير ذلك مما يجعل الأخلاق هي البعثة .
وبيان ذلك في قضية منطقية قطعية حملية ، مقدمتها حديث صحيح ، وهو : " الدين حسن الخلق " ، والكبرى آية كريمة قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون [ 2 \ 177 ] .
ولمساواة طرفي الصغرى في الماصدق ، وهو : " الدين حسن الخلق " ، يكون التركيب المنطقي بالقياس الاقتراني حسن الخلق هو البر ، والبر هو الإيمان بالله واليوم [ ص: 251 ] الآخر ، إلى آخر ما جاء في الآية الكريمة ، ينتج حسن الخلق هو الإيمان بالله واليوم الآخر وما عطف عليه .
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الدين كله بأقسامه الثلاثة :
الإسلام من صلاة وزكاة . إلخ .
والإيمان بالله وملائكته . إلخ .
ومن إحسان في وفاء وصدق وصبر ، وتقوى الله تعالى ; إذ هي مراقبة الله سرا وعلنا ، وقد ظهرت نتيجة عظم هذه الأخلاق في الرحمة العامة الشاملة في قوله تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] .
وكذلك للأمة يوم القيامة ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا " .
وهي قضية منطقية أخرى : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين .
فمكارم الأخلاق رحمة للعالمين في الدنيا ، ومنزلة عليا للمؤمنين في الآخرة .
تنبيه آخر .
اتفق علماء الاجتماع أن أسس الأخلاق أربعة :
هي : الحكمة ، والعفة ، والشجاعة ، والعدالة .
ويقابلها رذائل أربعة :
هي الجهل ، والشره ، والجبن ، والجور .
ويتفرع عن كل فضيلة فروعها :
الحكمة : الذكاء وسهولة الفهم ، وسعة العلم . وعن العفة : القناعة ، والورع ، والحياء ، والسخاء ، والدعة ، والصبر ، والحرية . وعن الشجاعة : النجدة ، وعظم الهمة . وعن السماحة : الكرم ، والإيثار ، والمواساة ، والمسامحة .
[ ص: 252 ] أما العدالة - وهي أم الفضائل الأخلاقية - فيتفرع عنها : الصداقة ، والألفة ، وصلة الرحم ، وترك الحقد ، ومكافأة الشر بالخير ، واستعمال اللطف . فهذه أصول الأخلاق وفروعها ، فلم تبق خصلة منها إلا وهي مكتملة فيه - صلى الله عليه وسلم - .
وقد برأه الله من كل رذيلة ، فتحقق أنه - صلى الله عليه وسلم - على خلق عظيم ، فعلا وعقلا .
وقال الفخر الرازي : لقد كان - صلى الله عليه وسلم - على خلق عظيم . والخلق ما تخلق به الإنسان ; لأن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 \ 90 ] ، ولا بد لكل نبي من خصلة فاضلة . فاجتمع له - صلى الله عليه وسلم - جميع خصال الفضل عند جميع الأنبياء . وهذا وإن كان له وجه إلا أن واقع سيرته - صلى الله عليه وسلم - أعم من ذلك .
فقد كان قبل البعثة والوحي ، ملقبا عند القرشيين بالأمين ، كما في قصة وضع الحجر في الكعبة ; إذ قالوا عنه : الأمين ارتضيناه .
وجاء عن زيد بن حارثة ، لما أخذ أسيرا وأهدته خديجة - رضي الله عنها - لخدمته - صلى الله عليه وسلم - . وجاء أهله بالفداء يفادونه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال لهم : " ادعوه وأخبروه ، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء ) فقال زيد : والله لا أختار على صحبتك أحدا أبدا ، فقال له أهله : ويحك ! أتختار الرق على الحرية ؟ ! فقال : نعم ، والله لقد صحبته فلم يقل لي لشيء فعلته : لم فعلته قط . ولا لشيء لم أفعله : لم لم تفعله قط : " ورجع قومه ، وبقي هو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذ بيده ، وأعلن تبنيه على ما كان معهودا قبل البعثة .
إننا لو قلنا : إن اختيار الله إياه قبل وجوده ، وتعهد الله إياه بعد وجوده ; من شق الصدر في طفولته ، ومن موت أبويه ورعاية الله له .
كما في قوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى إلى قوله : ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث [ 93 \ 3 - 11 ] .
إنها نعمة الله تعالى عليه ، وعلى أمته معه - صلوات الله وسلامه عليه - ورزقنا التأسي به .
قوله تعالى فلا تطع المكذبين ودوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتل بعد ذلك زنيم أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين سنسمه على الخرطوم [ ص: 253 ]
إذا كان في مجيء الآية قبل هذه : وإنك لعلى خلق عظيم رد على دعواهم الكاذبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنون .
ففي هذه الآية تنزيهه - صلى الله عليه وسلم - مما اشتملت عليه من رذائل ونقائص وافتضاح لهم . وبيان الفرق والبون الشاسع بينه وبينهم . ففي الوقت الذي وصفه بأنه على خلق عظيم ، وصفهم بعكس ذلك من : كذب ، ومداهنة ، وكثرة حلف ، ومهانة ، وهمز ، ومشي بنميمة ، ومنع للخير ، وعتل ، وتجبر ، واعتداء ، وظلم ، وانقطاع زنيم ، عشر خصال ذميمة . ونتيجتها الوسم بالخزي على الأنوف صغارا لهم .
وقد جاءت آيات القرآن تبين مساوئ تلك الصفات وتحذر منها ، ولا يسعنا إيرادها كلها ، وتكفي الإشارة إلى بعضها; تنبيها على جميعها في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم [ 49 \ 11 - 12 ]
وقوله تعالى : ودوا لو تدهن فيدهنون
ذكر القرطبي لمعاني المداهنة فوق عشرة أقوال أرجحها الملاينة ، وقد ذكر هنا ودادتهم وتمنيهم المداهنة ، ولم يذكر لنا هل داهنهم - صلى الله عليه وسلم - أم لا ؟ وهل يريدون بذلك مصلحة أم لا ؟ وقد جاء بيان ذلك مفصلا ; بأنهم أرادوا التدرج من المداهنة وملاينته - صلى الله عليه وسلم - معهم ، إلى ما بعدها من تعطيل الدعوة .
وقد رجح ابن جرير ذلك بقوله : ود هؤلاء المشركون يا محمد ، لو تلين لهم في دينك ; بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم فيلينون لك في عبادتك إلهك ، كما قال - جل ثناؤه - : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا [ 17 \ 74 ] اهـ .
ويشهد لما قاله ابن جرير هذا ما جاء في سبب نزول سورة ( الكافرون ) .
[ ص: 254 ] فأنزل الله تعالى : قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد . السورة [ 109 \ 1 - 3 ] .
ومما هو صريح في قصدهم بالمداهنة ، والدافع عليها والجواب عليهم قد جاء موضحا في قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] ، ثم قال تعالى مبينا موقف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من هذه المحاولة بقوله : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره [ 2 \ 109 ] .
وقد جاء الله بأمره حكما بينه وبينهم ، وهنا يمكن أن يقال : إن كل مداهنة في الدين مع المشركين تدخل في هذا الموضوع .
وقد جاء بعد قوله تعالى : ولا تطع كل حلاف مهين إشارة إلى أنهم لا يطاعون في مداهنتهم ، وأنهم سيبذلون كل ما في وسعهم; لترويج مداهنتهم ولو بكثرة الحلف ، وفرق بين المداهنة في الدين والملاطفة في الدنيا ، أو التعاون وتبادل المنافع الدنيوية ، كما قدمنا عند قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم الآية [ 60 \ 8 ] . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون
هذا استفهام إنكاري ; يدل على أنه لم يسألهم أجرا على دعوته إياهم .
وقال تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] . فالأجر المسئول المستفهم عنه هو الأجر المادي بالمال ونحوه .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : مبحث الأجر على الدعوة من جميع الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - ، ومبحث أخذ الأجرة على الأعمال التي أصلها مزية الله ; بحثا وافيا عند قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله [ 11 \ 29 ] من سورة هود .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 11:34 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (562)
سُورَةُ الْقَلَمِ
صـ 255 إلى صـ 262
قوله تعالى : فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم
لم يبين هنا من هو صاحب الحوت ، ولا نداءه وهو مكظوم ، ولا الوجه المنهي عنه أن يكون مثله ، وقد بين تعالى صاحب الحوت في ( الصافات ) في قوله تعالى : وإن يونس [ ص: 255 ] لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون . إلى قوله : فالتقمه الحوت وهو مليم
[ 37 \ 139 - 142 ] .
وأما النداء ، فقال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : قد بينه تعالى في سورة ( الأنبياء ) عند قوله تعالى : وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين [ 21 \ 87 - 88 ] .
فصاحب الحوت هو يونس ، ونداؤه هو المذكور في الآية ، وحالة ندائه وهو مكظوم .
أما الوجه المنهي عن أن يكون مثله : فهو الحال الذي كان عليه عند النداء ، وهو في حالة غضبه ، وهو مكظوم ، وهذا بيان لجانب من خلقه - صلى الله عليه وسلم - وتخلقه في قوله تعالى : فاصبر أي : على إيذاء قومك ، ولعل هذا من خصائص وخواص توجيهات الله إليه ، كما في قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله [ 16 \ 126 - 127 ] إلى آخر الآية ، فقد بين تعالى خلقا فاضلا عاما للأمة : في حسن المعاملة والصفح .
ثم خص النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : واصبر أي : لا تعاقب انتقاما ولو بالمثلية ولكن اصبر ، وقد كان منه - صلى الله عليه وسلم - مصداق ذلك ; في رجوعه من ثقيف حينما آذوه ، وجاءه جبريل - عليه السلام - ، ومعه ملك الجبال يأتمر بأمره ، إلى أن قال : ( لا ، اللهم اهد قومي ; فإنهم لا يعلمون . . إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمن بالله ) . فقد صفح وصبر ، ورجى من الله إيمان من يخرج من أصلابهم .
وهذا أقصى درجات الصبر والصفح ، وأعظم درجات الخلق الكريم .
قوله تعالى : لنبذ بالعراء وهو مذموم .
بين تعالى أنه لم ينبذ بالعراء على صفة مذمومة ، بل إنه تعالى أنبت عليه شجرة تظله وتستره ، كما في قوله تعالى : وأنبتنا عليه شجرة من يقطين [ 37 \ 146 ] .
قوله تعالى : فاجتباه ربه فجعله من الصالحين
[ ص: 256 ] بينه تعالى بقوله : وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين [ 37 \ 147 - 148 ] .
قوله تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين
فيه عود آخر السورة على أولها . وأن الكفار إذا سمعوا الذكر شخصت أبصارهم نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويرمونه بالجنون . والرد عليهم : بأن هذا الذي سمعوه ليس بهذيان المجنون ، وما هو إلا ذكر للعالمين ، وفيه ترجيح القول : بأن المراد بنعمة ربك في أول السورة ، إنما هي ما أوحاه إليه من الذكر .
[ ص: 257 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْحَاقَّةِ .
قوله تعالى : الحاقة ما الحاقة .
( الحاقة ) : من أسماء القيامة ، وجاء بعدها كذبت ثمود وعاد بالقارعة [ 69 \ 4 ] . وهي من أسماء القيامة أيضا ، كما قال تعالى : وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث الآية [ 101 \ 3 - 4 ] .
سميت بالحاقة; لأنه يحق فيها وعد الله بالبعث والجزاء ، وسميت بالقارعة ; لأنها تقرع القلوب بهولها : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى [ 22 \ 2 ] .
كما سميت : الواقعة ليس لوقعتها كاذبة [ 56 \ 1 - 2 ] .
قوله تعالى : كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية
والطاغية فاعلة من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد مطلقا ، كقوله : إنا لما طغى الماء [ 69 \ 11 ] .
وقوله : إن الإنسان ليطغى [ 96 \ 6 ] .
وقد اختلف في معنى الطغيان هنا ، فقال قوم : طاغية : عاقر الناقة ، كما في قوله تعالى : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها [ 91 \ 11 - 12 ] ، فتكون الباء سببية ، أي : بسبب طاغيتها ، وقيل : الطاغية : الصيحة الشديدة التي أهلكتهم ، بدليل قوله تعالى : إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر [ 54 \ 31 ] ، فتكون الباء آلية ، كقولك : كتبت بالقلم ، وقطعت بالسكين .
والذي يشهد له القرآن هو المعنى الثاني ; لقوله تعالى : وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون [ 51 \ 44 ] . وقيل : لا مانع من إرادة المعنيين ; لأنهما متلازمان تلازم المسبب للسبب ; لأن الأول سبب الثاني لما كانوا بعيدا ، ويشير إليه قوله تعالى : فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة .
[ ص: 258 ] فالعتو هو الطغيان في الفعل ، والصاعقة هي الصيحة الشديدة ، وقد ربط بينهما بالفاء .
قوله تعالى : وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، بيان ذلك عند قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات [ 41 \ 16 ] المتقدم في فصلت ، وفي هذا التفصيل لكيفية إهلاك عاد وثمود بيان لما أجمل في سورة ( الفجر ) ، في قوله تعالى : فصب عليهم ربك سوط عذاب [ 89 \ 13 ] .
قوله تعالى : وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة
المؤتفكات : المنقلبات ، وهي قرى قوم لوط .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تفصيل ذلك ، عند قوله تعالى في ( هود ) فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها الآية [ 11 \ 82 ] .
وفي ( النجم ) عند قوله تعالى : والمؤتفكة أهوى [ 53 \ 53 ] .
تنبيه .
نص تعالى هنا أن فرعون ومن قبله ، والمؤتفكات جاءوا بالخاطئة ، وهي : فعصوا رسول ربهم [ 69 \ 10 ] ، وكذلك عاد وثمود كذبوا بالقارعة . فالجميع اشترك في الخاطئة ، وهي عصيان الرسول فعصى فرعون الرسول [ 73 \ 16 ] ، ولكنه قد أخذهم أخذة رابية .
ونوع في أخذهم ذلك : فأغرق فرعون وقوم نوح ، وأخذ ثمود بالصيحة ، وعادا بريح ، وقوم لوط بقلب قراهم ، كما أخذ جيش أبرهة بطير أبابيل ، فهل في ذلك مناسبة بين كل أمة وعقوبتها ، أم أنه للتنويع في العقوبة; لبيان قدرته تعالى وتنكيله بالعصاة لرسل الله .
الواقع أن أي نوع من العقوبة فيه آية على القدرة ، وفيه تنكيل بمن وقع بهم ، ولكن تخصيص كل أمة بما وقع عليها يثير تساؤلا ، ولعل مما يشير إليه القرآن إشارة خفيفة هو [ ص: 259 ] الآتي .
أما فرعون ، فقد كان يقول : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [ 43 \ 51 ] ، فلما كان يتطاول بها جعل الله هلاكه فيها ، أي : في جنسها .
وأما قوم نوح ، فلما يئس منهم بعد ألف سنة إلا خمسين عاما ، وأصبحوا لا يلدون إلا فاجرا كفارا ، فلزم تطهير الأرض منهم ، ولا يصلح لذلك إلا الطوفان .
وأما ثمود ، فأخذوا بالصيحة الطاغية ، لأنهم نادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ، فلما كان نداؤهم صاحبهم سببا في عقر الناقة ، كان هلاكهم بالصيحة الطاغية .
وأما عاد ، فلطغيانهم بقوتهم ، كما قال تعالى فيهم : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد [ 89 \ 6 - 8 ] ، وسواء عماد بيوتهم وقصورهم ، فهو كناية عن طول أجسامهم ، ووفرة أموالهم ، وتوافر القوة عندهم ، فأخذوا بالريح ، وهو أرق وألطف ما يكون ، مما لم يكونوا يتوقعون منه أية مضرة ولا شدة .
وكذلك جيش أبرهة ، لما جاء مدل بعدده وعدته ، وجاء معه بالفيل أقوى الحيوانات ، سلط الله عليه أضعف المخلوقات : الطيور وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل [ 105 \ 3 - 4 ] .
أما قوم لوط ، فلكونهم قلبوا الأوضاع بإتيان الذكور دون الإناث ، فكان الجزاء من جنس العمل ، قلب الله عليهم قراهم . والعلم عند الله تعالى .
ولا شك أن في ذلك كله تخويفا لقريش .
قوله تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة
تقدم بيانه للشيخ - رحمه الله - في سورة ( الكهف ) عند قوله تعالى : ويوم نسير الجبال [ 18 \ 47 ] .
قوله تعالى : يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية
تقدم بيانه للشيخ - رحمه الله - عند قوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] .
[ ص: 260 ] قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه
تقدم للشيخ - رحمه الله - بيان قضية أخذ الكتب وحقيقتها ، عند قوله تعالى : ووضع الكتاب [ 18 \ 49 ] في سورة ( الكهف ) .
وكذلك بحثها في كتابه دفع إيهام الاضطراب ، وبيان القسم الثالث من وراء ظهره ، وفي هذا التفصيل في حق الكتاب والكتابة وتسجيل الأعمال وإيتائها بنصوص صريحة واضحة ، كقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] .
وقولهم صراحة : ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [ 18 \ 49 ] .
وقوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] .
وقوله : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 14 ] ، فهو كتاب مكتوب ينشر يوم القيامة يقرؤه كل إنسان بنفسه ، مما يرد قول من يجعل أخذ الكتاب باليمين أو الشمال كناية عن اليمن والشؤم . وهذا في الواقع إنما هو من شؤم التأويل الفاسد ، وبدون دليل عليه ، والمسمى عند الأصوليين باللعب . نسأل الله السلامة والعافية .
قوله تعالى : إنى ظننت أنى ملاق حسابيه
والظن واسطة بين الشك والعلم ، وقد يكون بمعنى العلم إذا وجدت القرائن ، وتقدم للشيخ بيانه عند قوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، أي : علموا بقرينة قوله : ولم يجدوا عنها مصرفا [ 18 \ 53 ] ، وهو هنا بمعنى العلم ; لأن العقائد لا يصلح فيها الظن ، ولا بد فيها من العلم والجزم .
وقد دل القرآن على أن الظن قد يكون بمعنى العلم ، بمفهوم قوله تعالى : إن بعض الظن إثم [ 49 \ 12 ] ، فمفهومه أن بعضه ليس إثما ، فيكون حقا ، وكذلك قوله تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ 2 \ 46 ] .
قوله تعالى : ما أغنى عني ماليه .
[ ص: 261 ] قيل في ( ما ) : إنها استفهامية ; بمعنى أي شيء أغنى عني ماليه ، والجواب : لا شيء ، وقيل : نافية ، أي : لم يغن عني ماليه شيئا في هذا اليوم ، ويشهد لهذا المعنى الثاني قوله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون [ 26 \ 88 ] .
وقوله : ما أغنى عنه ماله وما كسب [ 111 \ 2 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله علينا وعليه - في سورة ( الكهف ) على قوله تعالى : ولئن رددت إلى ربي [ 18 \ 36 ] .
وفي سورة ( الزخرف ) عند قوله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا الآية [ 43 \ 36 ] .
قوله تعالى : هلك عني سلطانيه
أي : لا سلطان ولا جاه ولا سلطة لأحد في ذلك اليوم ، كما في قوله تعالى : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة [ 18 \ 48 ] : حفاة عراة .
وقوله : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ 6 \ 94 ] .
قوله تعالى : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين
فيه عطف عدم الحض على طعام المسكين ، على عدم الإيمان بالله العظيم ، مما يشير إلى أن الكافر يعذب على الفروع .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث هذه المسألة في أول سورة ( فصلت ) عند قوله تعالى : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة [ 41 \ 6 - 7 ] ، وكنت سمعت منه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - قوله : كما أن الإيمان يزيد بالطاعة ، والمؤمن يثاب على إيمانه وعلى طاعته ، فكذلك الكفر يزداد بالمعاصي . ويجازى الكافر على كفره وعلى عصيانه ، كما في قوله تعالى : الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون [ 16 \ 88 ] .
فعذاب على الكفر وعذاب على الإفساد ، ومما يدل لزيادة الكفر ، قوله تعالى : إن [ ص: 262 ] الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم [ 3 \ 90 ] ، وتقدم للشيخ - رحمه الله - مبحث زيادة العذاب عند آية ( النحل ) .
قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم
إضافة القول إلى الرسول الكريم على سبيل التبليغ ، كما جاء بعدها ، قوله تنزيل من رب العالمين [ 69 \ 43 ] والرسول يحتمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ويحتمل جبريل ، وقد جاء في حق جبريل قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [ 81 \ 19 - 21 ] .
وهنا المراد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقرينة قوله تعالى : وما هو بقول شاعر [ 69 \ 41 ] وما عطف عليه ; لأن من اتهم بذلك هو الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - فنفاه ذلك عنه ، فيكون في ذلك كله إثبات الصفة الكريمة لسند القرآن من محمد عن جبريل عن الله ، وقد أشار لذلك في الآية الأولى في قوله : مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 21 - 22 ] .
فأثبت السلامة والعدالة لرسل الله في تبليغ كلام الله ، وفي هذا رد على قريش ما اتهمت به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وفيه أيضا الرد على الرافضة دعواهم التغيير أو النقص في القرآن .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 11:41 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (563)
سُورَةُ الْقَلَمِ
صـ 263 إلى صـ 270
قوله تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المعنى ، وهو على ظاهره عند الكلام على قوله تعالى : أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا الآية [ 46 \ 8 ] ، وهو على سبيل الافتراض بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد استبعد أبو حيان أن يكون الضمير في ( تقول ) راجعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لاستحالة وقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - .
وقال : إنها قرئت بالمبني للمجهول ورفع ( بعض ) ، وقال : وعلى قراءة الجمهور يكون فاعل ( تقول ) مقدرا تقديره : ولو تقول علينا متقول ، وقد ذكر تلك القراءة كل من القرطبي والكشاف ، ولكن لم يذكرها ابن كثير ولا الطبري ولا النيسابوري ممن يعنون بالقراءات ، مما يجعل في صحتها نظرا ، فلو صحت لكانت موجهة ولكن ما استبعده أبو [ ص: 263 ] حيان ، ومنعه بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو في الواقع صحيح ، ولكن على سبيل الافتراض فليس ممنوعا ، وقد جاء الافتراض في القرآن فيما هو أعظم من ذلك .
كما في قوله تعالى قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 43 \ 81 ] ، وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] ، والنص الصريح في الموضوع ما قاله الشيخ : في قوله تعالى قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا [ 46 \ 8 ] .
قوله تعالى : وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم
في هذا نفي كل باطل : من شعر أو كهانة أو غيرها ، ولكل نقص أو زيادة .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان إضافة الحق لليقين ، ومعنى التسبيح باسم ربك عند آخر سورة ( الواقعة ) ، وحق اليقين هو منتهى العلم ، إذ اليقين ثلاث درجات :
الأولى : علم اليقين .
والثانية : عين اليقين .
والثالثة : حق اليقين ، كما في التكاثر كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 5 - 7 ] فهاتان درجتان ، والثالثة إذا دخلوها كان حق اليقين ، ومثله في الدنيا : العلم بوجود الكعبة والتوجه إليها في الصلاة ، ثم رؤيتها عين اليقين ، ثم بالدخول فيها يكون حق اليقين ، وكما نسبح الله وهو تنزيهه ، فكذلك ننزه كلامه ; لأنه صفة من صفاته .
[ ص: 264 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْمَعَارِجِ .
قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع
المعلوم أن مادة سأل لا تتعدى بالباء ، كتعديها هنا . ولذا قال ابن كثير : إن الفعل ضمن معنى فعل آخر يتعدى بالباء وهو مقدر : ما استعجل ، واستدل لذلك بقوله تعالى ويستعجلونك بالعذاب [ 29 \ 53 ] ، وذكر عن مجاهد : أن سأل بمعنى دعا .
واستدل له بقوله تعالى عنهم : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ 8 \ 32 ] ، وذكر هذا القول ابن جرير أيضا عن مجاهد .
وقرئ ( سال ) بدون همزة من السيل ، ذكرها ابن كثير وابن جرير ، وقالوا : هو واد في جهنم ، وقيل : مخفف ( سأل ) اهـ .
ولعل مما يرجح قول ابن جرير أن الفعل ضمن معنى مثل آخر قوله تعالى : يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها الآية [ 42 \ 18 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء [ 8 \ 32 ] ، وأحال على سورة ( سأل ) وقال : وسيأتي زيادة إيضاح إن شاء الله .
وقد بين هناك : أن قولهم يدل على جهالتهم ; حيث لم يطلبوا الهداية إليه إن كان هو الحق .
وحيث إنه - رحمه الله - أحال على هذه السورة لزيادة الإيضاح ; فإن المناسب إنما هو هذه الآية : ( سأل سائل ) بمعنى : استعجل أو دعا ; لوجود الارتباط بين آية ( سأل ) وآية : اللهم إن كان هذا هو الحق المذكورة . فإنهما مرتبطان بسبب النزول .
[ ص: 265 ] كما قال ابن جرير وغيره عن مجاهد في قوله تعالى : سأل سائل ، قال : دعا داع ( بعذاب واقع ) . قال : هو قولهم اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا الآية . والقائل هو النضر بن الحارث بن كلدة .
والإيضاح المنوه عنه يمكن استنتاجه من هذا الربط ، ومن قوله - رحمه الله - : إنه يدل على جهالتهم ، وبيان ما إذا كان هذا العذاب الواقع هل وقوعه في الدنيا أم يوم القيامة ؟ .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن جهالة قريش دل عليها العقل والنقل ; لأن العقل يقضي بطلب النفع ودفع الضر كما قيل :
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن ساعيا .
وأما النقل ; فلأن مما قص الله علينا : أن سحرة فرعون وقد جاءوا متحدين غاية التحدي لموسى - عليه السلام - ، ولكنهم لما عاينوا الحق ، قالوا : آمنا ، وخروا سجدا ولم يكابروا ، كما قص الله علينا من نبئهم في كتابه ، قال تعالى : فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى ولما اعترض عليهم فرعون ، وقال : آمنتم له قبل أن آذن لكم إلى آخر كلامه ، قالوا وهو محل الشاهد هنا : ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ) ولم يبالوا بوعيده ولا بتهديده . وقالوا في استخفاف : ( فاقض ما أنت قاض ) [ 20 \ 70 - 72 ] ، فهم لما عاينوا البينات خروا سجدا وأعلنوا إيمانهم ، وهؤلاء كفار قريش يقولون مقالتهم تلك .
أما وقوع العذاب المسئول عنه ; فإنه واقع بهم يوم القيامة ، وإنما عبر بالمضارع الدال على الحال ; للتأكيد على وقوعه ، وكأنه مشاهد ، وقاله الفخر الرازي ، وقال : هو نظير قوله تعالى أتى أمر الله فلا تستعجلوه [ 16 \ 1 ] .
وفي قوله تعالى للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج دليل على تأكيد وقوعه ; لأن ما ليس له دافع لا بد من وقوعه . أما متى يكون فقد دلت آية ( الطور ) نظيرة هذه أن ذلك سيكون يوم القيامة في قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع [ 52 \ 7 - 8 ] ، ثم بين ظرف وقوعه : يوم تمور السماء مورا وتسير الجبال سيرا [ 52 \ 9 - 10 ] ، وفي سياق هذه السورة في قوله تعالى : يوم تكون [ ص: 266 ] السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم إلى قوله تعالى : تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى [ 70 \ 8 - 18 ] ; فإنها كلها من أحوال يوم القيامة ، فدل بذلك على زمن وقوعه . ولعل في قوله تعالى : تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى ردا على أولئك المستخفين بالعذاب المستعجلين به ; مجازاة لهم بالمثل ، كما دعوا وطلبوا لأنفسهم العذاب استخفافا ; فهي تدعوهم إليها زجرا وتخويفا ، مقابلة دعاء بدعاء ، أي : إن كنتم في الدنيا دعوتم بالعذاب فهذا هو العذاب يدعوكم إليه تدعوا من أدبر عن سماع الدعوة ، وأعرض عنها وتولى ، وهذا الرد بهذه الصفات التي قبله من تغيير السماء كالمهل ، وتسيير الجبال كالعهن ، وتقطع أواصر القرابة من الفزع والهول مما يخلع القلوب ، كما وقع بالفعل في الدنيا ، كما ذكر القرطبي قصة جبير بن مطعم .
قال : قدمت المدينة لأسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر ، فسمعته يقرأ : والطور وكتاب مسطور إلى قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع [ 52 \ 1 - 8 ] ، فكأنما صدع قلبي فأسلمت ; خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع العذاب .
وذكر القرطبي أيضا عن هشام بن حسان ، قال : انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن ، وعنده رجل يقرأ : ( والطور ) حتى بلغ : إن عذاب ربك لواقع ، فبكى الحسن وبكى أصحابه ، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه .
وذكر ابن كثير عن عمر - رضي الله عنه - : أنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة ، إذ سمع رجلا يقرأ بالطور; فربا لها أعيد منها عشرين ليلة ، فكان هذا الوصف المفزع ردا على ذاك الطلب المستخف . والله تعالى أعلم . ونأمل أن نكون قد وفينا الإيضاح الذي أراده - رحمه الله تعالى - .
قوله تعالى : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
في هذه الآية الكريمة مقدار هذا اليوم خمسون ألف سنة ، وجاءت آيات أخر بأنه ألف سنة في قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، وقوله : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة [ 32 \ 5 ] [ ص: 267 ] فكان بينهما مغايرة في المقدار بخمسين مرة .
وقد بحث الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذه المسألة في كتاب دفع إيهام الاضطراب ، وفي الأضواء في سورة ( الحج ) عند الكلام على قوله تعالى : وإن يوما عند ربك الآية [ 22 \ 47 ] .
ومما ينبغي أن يلاحظ أن الأيام مختلفة : ففي ( سأل ) هو يوم عروج الروح والملائكة ، وفي سورة ( السجدة ) هو يوم عروج الأمر ; فلا منافاة .
قوله تعالى : يوم تكون السماء كالمهل
المهل : دريدي الزيت ، وقيل غير ذلك .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة ( الرحمن ) عند الكلام على قوله تعالى : فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان [ 55 \ 37 ] .
قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن
العهن : الصوف ، وجاء في آية أخرى وصف العهن بالمنفوش في قوله تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 4 - 5 ] ، وجاءت لها عدة حالات أخرى : كالكثيب المهيل ، وكالسحاب .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان كل ذلك عند قوله تعالى : ويوم نسير الجبال [ 18 \ 47 ] في سورة ( الكهف ) .
قوله تعالى : ولا يسأل حميم حميما
الحميم : القريب والصديق والولي الموالي ، كما في قوله تعالى : ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 41 \ 34 ] .
وفي هذه الآية الكريمة : أنه في يوم القيامة لا يسأل حميم حميما ، مع أنهم يبصرونهم بأبصارهم . وقد بين تعالى موجب ذلك وهو اشتغال كل إنسان بنفسه ، كما في قوله تعالى : [ ص: 268 ] لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 37 ] ، وكل يفر من الآخر يقول : نفسي نفسي ، كما في قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 34 - 37 ] .
وقد جاء ما هو أعظم من ذلك في حديث الشفاعة ; كل نبي يقول : نفسي نفسي ، وجاء قوله تعالى : يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت [ 22 \ 2 ] ، وليس بعد ذلك من فزع إلا المؤمنون : وهم من فزع يومئذ آمنون [ 27 \ 89 ] ، جعلنا الله تعالى منهم . آمين .
قوله تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا
الهلوع : فعول من الهلع صيغة مبالغة ، والهلع ، قال في الكشاف : شدة سرعة الجزع عند مس المكروه ، وسرعة المنع عند مس الخير ، وقد فسره الله في الآية إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا [ 70 \ 20 - 21 ] .
ولفظ : ( الإنسان ) هنا مفرد ، ولكن أريد به الجنس ، أي : جنس الإنسان في الجملة ; بدليل استثناء المصلين بعده في قوله تعالى : إلا المصلين [ 70 \ 22 ] ، ومثله قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات [ 103 \ 1 - 3 ] ونظيره كثير .
وقد قال ابن جرير : إن هذا الوصف بالهلع في الكفار ، ويدل لما قاله أمران :
الأول : تفسيره في الآية واستثناء المصلين وما بعده منه ; لأن تلك الصفات كلها من خصائص المؤمنين ، ولذا عقب عليهم بقوله : أولئك في جنات مكرمون [ 70 \ 35 ] ، ومفهومه أن المستثنى منه على خلاف ذلك .
والثاني : الحديث الصحيح : " عجبا لأمر المؤمن ! شأنه كله خير : إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن " ، فمفهومه أن غير المؤمنين بخلاف ذلك ، وهو الذي ينطبق عليه الوصف المذكور في الآية : أنه هلوع .
قوله تعالى : إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون
وصف الله تعالى من استثناهم من الإنسان الهلوع بتسع صفات :
[ ص: 269 ] اثنتان منها تختص بالصلاة ، وهما الأولى والأخيرة ; مما يدل على أهمية الصلاة ، ووجوب شدة الاهتمام بها . وهذا من المسلمات في الدين ; لمكانتها من الإسلام ، وفي وصفهم هنا بأنهم : ( على صلاتهم دائمون ) ، وفي الأخير : ( على صلاتهم يحافظون ) [ 70 \ 34 ] .
قال في الكشاف : الدوام عليها المواظبة على أدائها لا يخلون بها ، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل .
وذكر حديث عائشة مرفوعا : " أحب الأعمال إلى الله أدومها ولو قل " .
ويشهد لهذا الذي قاله قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما [ 24 \ 36 - 37 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ 62 \ 9 ] .
قال : والمحافظة عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها ، وهذا يشهد له قوله تعالى : قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون [ 23 \ 1 - 2 ] .
وحديث المسيء صلاته ، حيث قال له - صلى الله عليه وسلم - : " ارجع فصل ; فإنك لم تصل " ، فنفى عنه أنه صلى مع إيقاعه الصلاة أمامه ; وذلك لعدم الحفاظ عليها بتوفيتها حقها .
وقد بدأ الله أولئك المستثنين وختمهم بالصلاة ، مما يفيد أن الصلاة أصل لكل خير ، ومبدأ لهذا المذكور كله ; لقوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ 2 \ 45 ] ، فهي عون على كل خير .
ولقوله تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ 29 \ 45 ] ، فهي سياج من كل منكر ، فجمعت طرفي المقصد شرعا ، وهما العون على الخير والحفاظ من الشر ، أي : جلب المصالح ودرء المفاسد ; ولذا فقد عني بها النبي - صلى الله عليه وسلم - كل عنايتها ، كما هو معلوم ، إلى الحد الذي جعلها الفارق والفيصل بين الإسلام والكفر في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " العهد الذي بيننا [ ص: 270 ] وبينهم الصلاة ، من ترك الصلاة فقد كفر " .
واتفق الأئمة - رحمهم الله - على قتل تاركها . وكلام العلماء على أثر الصلاة على قلب المؤمن وروحه وشعوره ، وما تكسبه من طمأنينة وارتياح ، كلام كثير جدا توحي به كله معاني سورة ( الفاتحة ) .
قوله تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم
هذا هو الوصف الثاني ، ويساوي إيتاء الزكاة ; لأن الحق المعلوم لا يكون إلا في المفروض ، وهو قول أكثر المفسرين . ولا يمنع أن السورة مكية ; فقد يكون أصل المشروعية بمكة ، ويأتي التفصيل بالمدينة ، وهو في السنة الثانية من الهجرة ، وهنا إجمال في هذه الآية .
الأول : في الأموال .
والثاني : في الحق المعلوم . أي : القدر المخرج ، ولم تأت آية تفصل هذا الإجمال إلا آية : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] ، وقد بينت السنة هذا الإجمال .
أما الأموال ، فهي لإضافتها تعم كل أموالهم ، وليس للأمر كذلك ، فالأموال الزكوية بعض من الجميع ، وأصولها عند جميع المسلمين هي :
أولا : النقدان : الذهب والفضة .
ثانيا : ما يخرج من الأرض من حبوب وثمار .
ثالثا : عروض التجارة .
رابعا : الحيوان ، ولها شروط وأنصباء . وفي كل من هذه الأربعة تفصيل ، وفي الثلاثة الأولى بعض الخلاف .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 11:45 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (564)
سُورَةُ الْمَعَارِجِ
صـ 271 إلى صـ 278
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان كل ما يتعلق بأحكامها جملة وتفصيلا عند آيتي : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 \ 34 ] وقوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده [ 63 \ 141 ] ، ولم يتقدم ذكر لزكاة الحيوان [ ص: 271 ] ولا زكاة الفطر ، وعليه نسوق طرفا من ذلك لتفصيل النصاب في كل منها ، وما يجب في النصاب ، وما تدعو الحاجة لذكره من مباحث في ذلك كالخلطة مثلا ، والصفات في المزكى ، والراجح فيما اختلف فيه ، ثم نتبع ذلك بمقارنة بين هذه الأنصباء في بهيمة الأنعام وأنصباء الذهب والفضة ; لبيان قوة الترابط بين الجميع ، ودقة الشارع في التقدير .
أولا : بيان النوع الزكوي من الحيوان .
اعلم - رحمنا الله وإياك - : أن مذهب الجمهور : أنه لا زكاة في الحيوان إلا في بهيمة الأنعام الثلاثة : الإبل ، والبقر ، والغنم ، الضأن والمعز سواء . وألحق بالبقر الجواميس ، والإبل تشمل العراب والبخاتي ، والخلاف في الخيل .
ولأبي حنيفة - رحمه الله تعالى - دليل أبي حنيفة - رحمه الله - استدل لوجوب الزكاة في الخيل بالقياس في حملها على الأصناف الثلاثة الأخرى ، إذا كانت للنسل أي : كانت ذكورا وإناثا ، بخلاف ما إذا كانت كلها ذكورا بجامع التناسل في كل واشترط لها السوم أيضا .
وبحديث : " ما من صاحب ذهب لا يؤدي زكاته إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار ، فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره " الحديث . وفيه ذكر الأموال الزكوية كلها ، والإبل ، والبقر ، والغنم . فقالوا : والخيل يا رسول الله ؟ فقال " الخيل ثلاثة : هي لرجل أجر ، ولرجل ستر ، ولرجل وزر . أما التي لرجل أجر : فرجل ربطها في سبيل الله ، فأطال لها في مرج أو روضة " إلى آخر ما جاء في هذا القسم . ورجل ربطها تغنيا وتعففا ، ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك ستر . ورجل ربطها رياء وفواء لأهل الإسلام ; فهي على ذلك وزر .
فقال - رحمه الله - : إن حق الله في رقابها وظهورها هو الزكاة . وقد خالفه في ذلك صاحباه أبو يوسف ومحمد ، ووافقه زفر ، وبما رواه الدارقطني والبيهقي والخطيب من حديث جابر مرفوعا " في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم " .
أدلة الجمهور على عدم [ ص: 272 ] وجوب الزكاة فيها والرد على أدلة أبي حنيفة - رحمه الله - :
واستدل الجمهور بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " .
والفرس اسم جنس يعم ، وبعدم ذكرها مع بقية الأجناس الأخرى حتى سئل عنها - صلى الله عليه وسلم - ، فلو كانت مثلها في الحكم لما تركها في الذكر .
وحديث " قد عفوت عن الخيل ; فهاتوا زكاة الرقة " . رواه أبو داود .
وأجابوا على استدلال أبي حنيفة ، بأن حق الله في رقابها ، وظهورها إعارتها ، وطرقها إذا طلب ذلك منه .
كما أجابوا على حديث جابر بما نقله الشوكاني والدارقطني من أنه : لا تقوم به حجة .
ورد أبو حنيفة على دليل الجمهور : بأن فرسه مجمل ، وهو يقول بالحديث إذا كان الفرس للخدمة . أما إذا كانت الخيل للتناسل ، فقد خصها القياس ، وعلى حديث ( عفوت عن الخيل ) بأنه لم يثبت ، وهذه دعوى تحتاج إلى إثبات ، فقد ذكر الشوكاني أنه حسن .
ولعل مما يرد استدلال أبي حنيفة نفس الحديث الذي استدل به من قرينة التقسيم ، إذا أناط الأجر فيها بالجهاد عليها ، ولم يذكر الزكاة ، مع أن الزكاة قد تكون ألزم من الأجر أو أعم من الجهاد ; لأنها تكون لمن لا يستطيع الجهاد : كالمرأة مثلا فتزكي ; فلو كانت فيها الزكاة لما خرجت عن قسم الأجر .
ثانيا : لو كان حق الله في المذكور هو الزكاة لما ترك لمجرد تذكرها وخيف تعرض للنسيان ; لأن زكاة الأصناف الثلاثة الأخرى لم تترك لذلك بل يطالب بها صاحبها ، ويأتي العامل فيأخذها ، وإن امتنع صاحبها أخذت جبرا عليه ، وبهذا يظهر رجحان مذهب الجمهور في عدم الوجوب .
ومن ناحية أخرى ، فقد اختلف القول عن أبي حنيفة - رحمه الله - فيما تعامل به ، وفيما يخرج في زكاتها ، فقيل : إنه مخير بين أن يخرج عن كل فرس دينارا أو عشرة دراهم ، وبين أن يقومها ويدفع عن كل مائتي درهم خمسة دراهم .
وقد جعل الأحناف زكاتها لصاحبها ، ولا دخل للعامل فيها ، ولا يجبر الإمام عليها ، [ ص: 273 ] وقد أطال في الهداية الكلام عليها ، ولعل أحسن ما يقال في ذلك ما جاء عن عمر - رضي الله عنه - في سنن الدارقطني ، قال : جاء ناس من أهل الشام إلى عمر - رضي الله عنه - ، فقالوا : إنا قد أصبنا أموالا وخيلا ورقيقا ، وإنا نحب أن نزكيه ، فقال : ما فعله صاحباي قبلي فأفعله أنا ، ثم استشار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : حسن ، وسكت علي ، فسأله ، فقال : هو حسن لو لم تكن جزية راتبة يؤخذون بها بعدك . فأخذ من الفرس عشرة دراهم ، وفيه : فوضع على الفرس دينارا .
وفي المنتقى عن أحمد - رحمه الله - أنهم قالوا : نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور ، فهي إذا دائرة بين الاستحباب والترك .
وقد جاء في نفس الحديث الطويل المتقدم أنهم قالوا : والحمر يا رسول الله ؟ فقال " ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] رواه الستة إلا الترمذي .
وعليه ; فإن الأحاديث التي هي نص في الوجوب أو للترك لم تصلح للاحتجاج ، والحديث الذي فيه الاحتمال في معنى حق الله في ظهورها ورقابها ، قال ابن عبد البر : إنه مجمل ، فلم يكن في النصوص المرفوعة متمسك للأحناف في قولهم : بوجوب زكاة الخيل ، وبقي مفهوم الحديث ، وقول عمر - رضي الله عنه - .
أما مفهوم الحديث ; فقد أشرنا إلى القرائن التي فيه على عدم الوجوب .
وأما فعل عمر - رضي الله عنه - ففيه قرائن أيضا ، بل أدلة على عدم الوجوب ، وهي :
أولا : لأنهم هم الذين طلبوا منه أن يزكيها ويطهرها بالزكاة ، وإيجاب الزكاة لا يتوقف على رغبة المالك .
ثانيا : توقف عمر وعدم أخذها منهم لأول مرة ، ولو كانت معلومة له مزكاة لما خفيت عليه ولما توقف .
ثالثا : تصريحه بأنه لم يفعله صاحباه من قبله ، فكيف يفعله هو ؟ ! .
رابعا : قول علي : ما لم تكن جزية من بعدك . أي : إن أخذها عمر استجابة لرغبة أولئك فلا بأس لتبرعهم بها ، ما لم يكن ذلك سببا لجعلها لازمة على غيرهم فتكون كالجزية على المسلمين .
ومما يستدل به للجمهور حديث : " قد عفوت عن الخيل والرقيق فأدوا زكاة [ ص: 274 ] أموالكم " . رواه أبو داود .
قال الشوكاني بإسناد حسن : وهذا ما يتفق مع حديث : " ليس على المسلم في فرسه ولا في عبده " رواه الجماعة .
وقد أجاب الأحناف على تردد عمر : بأن الخيل لم تكن تعرف سائمة للنسل عند العرب ، ولكنها ظهرت بعد الفتوحات في عهد عمر . وفي هذا القول نظر . وعليه فلا دليل على وجوب الزكاة في الخيل فتبقى على البراءة الأصلية ، ولهذا لم يأت للخيل ذكر في كتاب أنصباء بهيمة الأنعام ، ولا يرد عليه أن البقر لم يأت ذكرها أيضا فيه ; لأن زكاة البقر جاءت فيها نصوص متعددة لأصحاب السنن .
وللبخاري وغيره بيان أنصباء الزكاة وما يؤخذ فيها : معلوم أنه لم يأت نص من كتاب الله يفصل ذلك ، ولكن تقدم في مقدمة الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أن من أنواع البيان بيان القرآن بالسنة ، وهو نوع من بيان القرآن ; لقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه [ 59 \ 7 ] .
وقد بينت السنة أركان الإسلام : كعدد الركعات وأوقات الصلوات مفصلة ومناسك الحج .
فكذلك بينت السنة مجمل هذا الحق ، وفي أي أنواع الأموال ، وإن أجمع نص في ذلك هو كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه وقرنه بسيفه ، وقد عمل به أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - ومضى عليه العمل فيما بعد .
وقد رواه الجماعة عن أنس - رضي الله عنه - ، قال أرسل إلي أبو بكر كتابا ، وكان نقش الخاتم عليه : " محمد " سطر ، و " رسول " سطر ، و " الله " سطر :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المسلمين ، والتي أمر الله بها رسوله ، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطه : في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم في كل خمس شاة ، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض ، فإن لم تكن بنت مخاض فابن لبون ، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون ، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل ، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة ، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين [ ص: 275 ] ففيها بنتا لبون ، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل ، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين ابنة لبون ، وفي كل خمسين حقة ، ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة .
وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة ، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين فيها شاتان ، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه ، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة .
فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة عن أربعين شاة ، واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها ، فلا يجتمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية . الحديث .
فقد بين - صلى الله عليه وسلم - في هذا الكتاب أنصباء الإبل والغنم وما يجب في كل منهما ، ولم يتعرض لأنصباء البقر ، ولكن بين أنصباء البقر حديث معاذ عند أصحاب السنن .
قال : أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثني إلى اليمن ، ألا آخذ من البقر شيئا حتى تبلغ ثلاثين ، فإذا بلغت : ففيها عجل تبيع جذع أو جذعة حتى تبلغ أربعين ، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة .
ولهذين النصين الصحيحين يكتمل بيان أنصباء بهيمة الأنعام : الإبل ، والبقر ، والغنم . وهو الذي عليه الجمهور وعليه العمل .
وما روي عن سعيد بن المسيب : في كل عشر من البقر شاة إلى ثلاثين ففيها تبيع ، فلم يعمل به أحد .
تنبيه .
وليس في الوقص في بهيمة الأنعام زكاة ، والوقص هو ما بين كل نصاب والذي يليه ، كما بين الخمسة والتسعة من الإبل ، وما بين الأربعين والعشرين ومائة من الغنم ، وما بين الثلاثين والأربعين من البقر ، وهذا باتفاق ، إلا خلاف للأحناف في وقص البقر فقط ، والصحيح هو مذهب الجمهور في الجميع ; لحديث معاذ لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " حتى تبلغ أربعين ، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة " ، فمفهومه أنه لا زكاة بعد الثلاثين حتى تبلغ أربعين ، فما بين [ ص: 276 ] الثلاثين والأربعين لا زكاة فيه .
وأبو حنيفة يقول فيه بنسبة من التبيع ، وقد اشترط لزكاة بهيمة الأنعام النسل والسوم ، وأنه لا زكاة في المعلوفة ، ولا التي للعمل : كالإبل للحمل عليها ، والبقر للحرث ، ونحو ذلك .
وقال مالك : في المعلوفة وفي العوامل الزكاة ، قال في الموطإ ما نصه : في الإبل النواضح والبقر السواقي وبقر الحرث ; إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله إذا وجبت فيه الصدقة . واستدلوا لمالك في ذلك بأمرين :
الأول : من جهة النصوص .
والثاني : من جهة المعنى .
أما النصوص ; فما جاء عاما في حديث أبي بكر - رضي الله عنه - في أنصباء الزكاة في أربع وعشرين من الإبل فما دونه الغنم ، في كل خمس شاة ، لعمومه في السائمة والمعلوفة . هذا في الإبل ، وكذلك في الغنم في كل أربعين شاة شاة ، أي : بدون قيد السوم .
وأما من جهة المعنى : فقال الباجي : إن كثرة النفقات وقلتها إذا أثرت في الزكاة ; فإنها تؤثر في تخفيفها وتثقيلها ولا تؤثر في إسقاطها ولا إثباتها : كالخلطة ، والتفرقة ، والسقي ، والنضح ، والسبح ، ولا فرق بين السائمة والمعلوفة إلا تخفيف النفقة وتثقيلها .
وأما التمكن من الانتفاع بها فعلى حد واحد لا يمنع علفها من الدر والنسل ، ورد الجمهور على أدلة مالك أيضا بأمرين :
الأول : من جهة النصوص .
والثاني : من جهة المعنى .
أما النصوص : فما جاء من الإبل في حديث بهز بن حكيم ، وفيه : " في كل أربعين من الإبل سائمة ابنة لبون " رواه أبو داود ، والنسائي ، وغيرهما .
وفي الغنم حديث : " في سائمة الغنم الزكاة " وهو حديث صحيح .
وفي كتاب أبي بكر وعمر ، فقالوا : جاء قيد السوم في الحديثين ، وأدلة مالك مطلقة ; ويحمل المطلق على المقيد كما هو معلوم .
[ ص: 277 ] ومما يدل على رجحان أدلة الجمهور : أن في حديث الغنم جاء المطلق في بيان العدد في كل أربعين شاة شاة ، فهو لبيان النصاب أكثر منه لبيان الوصف .
وحديث : " في سائمة الغنم الزكاة " : لبيان محل الوجوب أكثر منه لبيان العدد ، ومن جهة أخرى يعتبر الحديثان مترابطين ، وأن كلا منهما عام من وجه ، خاص من وجه آخر ، فحديث : " في سائمة الغنم الزكاة " عام في الغنم بدون عدد ، خاص في السائمة .
وحديث : " في كل أربعين شاة شاة " . عام في الشياه ، خاص بالأربعين . فيخصص عموم كل منهما بخصوص الآخر ، فيقال : في سائمة الغنم الزكاة إذا بلغت أربعين ، ويقال : في كل أربعين شاة شاة إذا كانت سائمة ، وبهذا تلتئم الأدلة في الإبل والغنم ; لاشتراط السوم وتحديد العدد .
أما البقر : فقد حكي الإجماع على اعتبار السوم ، ومن أدلة الجمهور من جهة المعنى أن السوم والنسل للنماء ، فيحتمل المواساة ، أما المعلوفة والعوامل فليست تحتمل المواساة . ومما تقدم يترجح قول الجمهور في اشتراط السوم والنسل . والله تعالى أعلم .
ما جاء في الخلطة ، وهي اختلاط المالين معا لرجلين أو أكثر ، وهي على قسمين :
أولا : خلطة أعيان .
ثانيا : خلطة أوصاف .
فخلطة الأعيان : أن يكون المال مشتركا بين الخلطاء على سبيل المشاع ، كمن ورثوا غنما أو بقرا مثلا ولم يقتسموه ، أو أهدي إليهم ولم يقتسموه . وهذه الخلطة يكون حكم المال فيها كحكمه لو كان لشخص واحد ، أو خلطة الأوصاف ، فهي أن يكون المال متميزا ، وكل منهم يعرف حصته وماله بعدد وأوصاف ، سواء بألوانها أو بوسمها أو نحو ذلك . ولكنهم خلطوا المال ليسهل القيام عليه ، كاختلاطهم في الراعي والمرعى ، والمسرح والمراح ، والفحل والدلو والمحلب .
ونحو ذلك مما هو منصوص عليه ; لما فيه من الرفق والاكتفاء بواحد من كل ذلك لجميع المال ، ولو فرق لاحتاج كل مال منه إلى واحد من ذلك كله ، فهذه الخلطة لها تأثير في الزكاة عند الأئمة الثلاثة : مالك ، والشافعي ، وأحمد - رحمهم الله - ، ولا تأثير لها عند أبي [ ص: 278 ] حنيفة - رحمه الله - ، وإنما التأثير عنده في خلطة المشاع .
واختلف القائلون بتأثيرها في الزكاة على من تؤثر :
فقال أحمد ، والشافعي : تؤثر على جميع الخلطاء ، من يملكون نصابا ، ومن لا يملك .
وقال مالك : لا تؤثر إلا على من ملك نصابا فأكثر ، ومن لا يملك نصابا فلا تأثير لها عليه . ودليل الجمهور على أبي حنيفة في تأثيرها هو قوله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب بيان أنصباء الصدقة : ( ولا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين مفترق ; خشية الصدقة ، وما كان من خليطين ; فإنهم يتراجعان بالسوية ) .
فقال الجمهور : النهي عن تفريق المجتمع لا يتأتى إلا في اجتماع الأوصاف ; لأن اجتماع المشاع لا يتأتى تفريقه خشية الصدقة ، وكذلك التراجع بالسوية لا يقال إلا في خلطة الأوصاف ; لأن خلطة المشاع ما يؤخذ منها مأخوذ من المجموع وعلى المشاع أيضا ; لأن كل شريك على المشاع له حصته من كل شاة على المشاع .
مثال ذلك عند الجميع ، وإليك المثال للجميع : لو أن ثلاثة أشخاص يملك كل واحد منهم أربعين شاة ، فإن كان كل منهم على حدة ، فعلى كل واحد منهم شاة ، فإن اختلطوا كانت عليهم جميعا شاة واحدة بالسوية بينهم ; لأن مجموعهم مائة وعشرون ، وهو حد الشاة .
وهذا عند الأئمة الثلاثة القائلين بتأثير الخلطة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، ولو أن للأول عشرين شاة وللثاني أربعين وللثالث ستين ، ففيها أيضا شاة .
ولكن عند أحمد والشافعي كل بحصته ، فلو كانت الشاة بستين درهما ، لكان على الأول عشرة دراهم بنسبة غنمه من المجموع ، وعلى الثاني عشرون ، وعلى الثالث ثلاثون ; كل بنسبة غنمه من المجموع .
وعند مالك : لا شيء على الأول ; لأنه لم يملك نصابا ، والشاة على الثاني والثالث فقط ، وبنسبة غنمهما من المجموع ، فعلى الثاني خمسا القيمة أربعة وعشرون . وعلى الثالث ثلاثة أخماسها ستة وثلاثون درهما وهكذا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 11:49 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (565)
سُورَةُ الْمَعَارِجِ
صـ 279 إلى صـ 286
[ ص: 279 ] والدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين مفترق ; خشية الصدقة ، وما كان من خليطين فإنما يتراجعان بالسوية " .
فقال الجمهور : النهي عن تفريق المجتمع وتقاسمهما بالسوية دليل على تأثير الخلطة في الزكاة ; لما فيه من إرفاق .
قال الباجي : كما في الإرفاق في سقي الحرث ما سقي بالنضح وما سقي بغير النضح .
وقال أبو حنيفة : ما كان من خليطين يعني : الشريكين ، ولكن يرده قوله - صلى الله عليه وسلم - : " يتراجعان بالسوية " ; لأن التراجع لا يتحقق إلا في خلطة الجوار والأوصاف .
وقال مالك : لا تأثير للخلطة على من لم يملك النصاب ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " في كل أربعين شاة شاة " ، فمن لم يملك أربعين شاة فلا زكاة عليه ، ولا تأثير للخلطة عليه . ولعل من النصوص المقدمة يكون الراجح مذهب أحمد والشافعي في قضية الخلطة . والله تعالى أعلم .
الشروط المؤثرة في الخلطة عند القائلين بها كالآتي : عند أحمد - رحمه الله تعالى - خمسة أوصاف ، وهي اتحاد المالين في الآتي : المرعى . المسرح . المبيت . المحلب . الفحل .
وعند الشافعي - رحمه الله - ذكر النووي عشرة أوصاف ، الخمسة الأولى . وزاد أن يكون الشريكان من أهل الزكاة : أن يكون المال المختلط نصابا ، أن يمضي عليهم حول كامل ، اتحاد المشرب ، اتحاد الراعي .
وعند مالك : الراعي ، والفحل ، والمراح ، والدلو ، والمراد بالدلو : المشرب عند الشافعي ، وعليه : يكون الجميع متفقين تقريبا في الأوصاف ، وما زاده الشافعي معلوم شرعا ; لأنها شروط في أصل وجوب الزكاة . ولكن اختلفوا في المراد من هذه الأوصاف : هل تشترط جميعها أو يكفي وجود بعضها ؟ .
الواقع أنه لا نص في ذلك ، ولكن يرجع إلى تحقيق المناط فيما يكون به الإرفاق ، فمالك اكتفى ببعضها : كالفحل ، والمرعى ، والراعي . والشافعي : اشترط توفر جميع تلك [ ص: 280 ] الأوصاف ، وإلا فلا تكون الخلطة مؤثرة ، ولكل في مذهبه خلاف في تلك الأوصاف لا نطيل الكلام بتتبعه ، وإنما يهمنا بيان الراجح فيما فيه الخلاف في أصل المسألة ، وقد ظهر أن الراجح هو الآتي :
أولا : صحة تأثير الخلطة .
ثانيا : اشتراط الأوصاف التي تتحقق بها الخلطة عرفا .
ملحوظة .
لقد عرفنا أنصباء بهيمة الأنعام جملة وتفصيلا ، وبقي علينا الإجابة عن سؤال طال ما جال تفكر كل دارس فيه ، وهو ما يقوله جميع الفقهاء : إن المقادير توقيفية ، ومنها أنصباء الزكاة . ومعنى توقيفية : أنه لا اجتهاد فيها ، ولكن هل هي جاءت لغوية ، أو أن بين هذه الأنصباء ارتباطا ونسبة مطردة .
الواقع : أنه وإن كان الواجب على كل مسلم - والذي عليه المسلمون قديما وحديثا - هو الامتثال والطاعة ، إلا أننا لما كنا في عصر مادي ، والنظام الاقتصادي هو الأصل في سياسة العالم اليوم ; فإن البعض قد يتطلع إلى الإجابة عن هذا السؤال .
وقد حاولت الإجابة عليه بعمل مقارنة عامة توجد بها نسبة مطردة كالآتي :
أولا : في النقدين ; معلوم أن نصاب الذهب عشرون مثقالا ، والفضة مائتا درهم ، وفي كل منهما ربع العشر ، وكان صرف الدينار عشرة دراهم ، فيكون نصاب الذهب من ضرب عشرين في عشرة فيساوي مائتين ، فهي نسبة مطردة كما ترى .
وإذا جئنا للنسبة بين الذهب والفضة - وهي أصل الأثمان - وبين الغنم نجد الآتي :
أولا : في حديث عروة البارقي : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه دينارا ; ليتشري لهم شاة ، فذهب وأتاهم بشاة ودينار ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " ماذا فعلت ؟ " فقال : اشتريت شاتين بالدينار ، ثم لقيني رجل فقال : أتبيعني شاة فبعته شاة بدينار ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - " بارك الله لك في صفقة يمينك " .
معنى هذا : أن الدينار قيمته الشرائية تعادل شاتين ، من ضرب عشرين دينارا في اثنتين فيساوي أربعين شاة ، وهذا هو نصاب الغنم ، وفي الأربعين شاة شاة ، وقيمتها الشرائية نصف الدينار ، وهي خمسة دراهم وهي ما يؤخذ في العشرين مثقالا ; فاطردت النسبة أيضا [ ص: 281 ] بين الذهب والفضة وبين الغنم .
أما بين الغنم والإبل : فقد وجدنا أن البدنة عن سبع شياه في الهدي ، ونصاب الإبل خمسة وتضربها في سبع فيساوي خمسة وثلاثين ، ولو جعلت ستا لكانت تعادل اثنين وأربعين ، فأخذنا بالأقل ; احتياطا لحق المسكين ، فكان بين نصاب الإبل ونصاب الغنم نسبة مطردة .
وكذلك نصاب الغنم ونصاب النقدين نسبة مطردة . فظهرت الدقة واطراد النسبة في الأنصباء .
ما يجوز أخذه وما لا يجوز أخذه في الزكاة .
اتفقوا على أنه لا تؤخذ الذكور في الزكاة ، اللهم إلا ابن لبون لمن لم تكن عنده بنت مخاض .
واختلف فيما لو كان النصاب كله ذكورا ، والواقع أن هذا نادر ، ولكن اتفقوا على أنه لا تؤخذ السخال مع وجوب الاعتداد بها على صاحبها .
كما جاء عن عمر - رضي الله عنه - : اعتد عليهم بالسخلة يأتي بها الراعي ، ولا تأخذها منهم ، ولا يجوز أخذ فحل الإبل ولا تيس الغنم ، ولا الربى ، ولا الحلوبة ; لما في ذلك من المضرة على صاحب المال .
كما لا تؤخذ السخلة ولا العجفاء ; لما فيه من مضرة المسكين ، والأصل في ذلك ما رواه مالك - رحمه الله - في الموطأ ، قال : اعتد عليهم بالسخلة يحملها الراعي ، ولا تأخذها ، ولا تأخذ الأكولة ، ولا الربى ، ولا الماخض ، ولا فحل الغنم ، وتأخذ الجذعة والثنية ، وذلك عدل بين غذاء الغنم وخيارها ، وغذاء الغنم صغارها ، وخيارها كبارها وأسمنها ; فهي عدل ، أي : وسط .
وهنا تتحتم كلمة ، يعتبر كل نظام مالي في العالم نظاما ماديا بحتا يقوم على مباني الأرقام والإحصاء ، فهو جاف في شكله ، كالجسم بدون روح ، إلا نظام الزكاة ; فهو نظام حي له روحه وعاطفته .
ففي الوقت الذي يلزم الغني بدفع قسط للفقير ، يحظر على العامل أن يأخذ فوق [ ص: 282 ] ما وجب ، أو أحسن ما وجد .
كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " وإياك وكرائم أموالهم " .
وفي الوقت الذي يدفع الغني فيه جزءا من ماله ، يستشعر أنه يدفعه لوجه الله وينتظر أجره - جل وعلا - فأصبحت الزكاة بين عامل متحفظ وبين مالك متطوع ، عامل يخشى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " واتق دعوة المظلوم ; فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " ، ومالك يرجو في الحسنة عشر أمثالها وسبعمائة ، وزيادة مضاعفة .
وقد وقعت قضية مذهلة لم يشهد نظام مالي في العالم مثلها ، وهي أنه : ذهب عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصدقة ، فمر برجل في قرية قريبة من المدينة بصاحب إبل ، فحسبها ، فقال لصاحبها : أخرج بنت لبون . فقال صاحب الإبل : كيف أخرج بنت لبون في الزكاة ; وهي لا ظهر يركب ولا ضرع يحلب ، ولكن هذه ناقة كوماء ، فخذها في سبيل الله . فقال العامل : وكيف آخذ شيئا لم يجب عليك ؟ فتلاحيا معا - العامل وصاحب المال - وأخذا ، قال له العامل : إن كنت ولا بد مصرا ، فها هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك قريب بالمدينة . اذهب بها إليه فإن قبلها منك أخذتها ، فذهب بها ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - : " أعن طيب نفس ؟ " قال : نعم يا رسول الله . فأمر العامل بأخذها ، فدعا له - صلى الله عليه وسلم - بالبركة ; فعاش حتى عهد معاوية . فكانت زكاة إبله هذه هي روح الزكاة في الإسلام ، لا ما يفعله أصحاب الأموال في النظم الأخرى .
أما نظام الضرائب حيث يتهربون ، ويقللون ويتخذون دفاتر متعددة بعضها لمصلحة الضرائب يقلل فيها دخله وكسبه لتخف الضريبة عليه ; لأنه يراها مغرما كالجزية ، وبعضها لنفسه ليعرف حقيقة ماله .
أما الزكاة : فإن مالكها يقدم زكاتها لوجه الله ; ليطهر ماله ; لقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] .
وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : " إن أحدكم ليتصدق بالصدقة ، وإنها لتقع أول ما تقع في كف الرحمن فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه - أي : ولد فرسه - حتى تكون مثل جبل أحد " .
[ ص: 283 ] وكما قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما نقصت صدقة من مال " .
زكاة الفطر .
إن أهم مباحث زكاة الفطر هي الآتي :
أولا : حكمها ، صدر تشريعها .
ثانيا : على من تكون .
ثالثا : مم تكون .
رابعا : كم تكون .
خامسا : متى تكون .
سادسا : هل تجزئ فيها القيمة أم لا ؟
وكذلك القيمة في غيرها من الزكوات .
أما حكمها : فهي فرض عين عند أحمد والشافعي ، وعند أبي حنيفة هي واجب على اصطلاحه ، أي : ما وجب بالسنة .
وعند المالكية واجبة ، وقيل : سنة .
قال في مختصر خليل بن إسحاق : يجب بالسنة الصاع . إلخ .
والسبب في اختلافهم هذا ، هل هي داخلة في عموم : وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، أي : شرعت بأصل مشروعية الزكاة في الكتاب والسنة ، أم أنها شرعت بنص مستقل عنها .
فمن قال بفرضيتها ، قال : إنها داخلة في عموم إيجاب الزكاة ، ومن قال بوجوبها ، فهذا اصطلاح للأحناف . ولا يختلف الأمر في نتيجة التكليف إلا أن عندهم لا يكفر بجحودها .
وقال المالكية : يجب بالسنة صاع من بر إلخ . أي : أن وجوبها بالسنة لا بالكتاب .
وعندهم : لا يقاتل أهل بلد على منعها ، ويقتل من جحد مشروعيتها ، وهذا هو الفرق بينهم وبين الأحناف .
[ ص: 284 ] ولكن في عبارة مالك في الموطأ إطلاق الوجوب أنه قال : أحسن ما سمعت فيما يجب على الرجل من زكاة الفطر : أن الرجل يؤدي ذلك عن كل من يضمن نفقته . إلخ .
ومن أسباب الخلاف بين الأئمة - رحمهم الله - نصوص السنة ، منها قولهم : فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير . الحديث .
فلفظة فرض : أخذ منها من قال بالفرضية ، وأخذ منها الآخرون ، بمعنى قدر ; لأن الفرض : القدر والقطع .
وحديث قيس بن سعد بن عبادة عند النسائي ، قال : " أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله " .
فمن قال بالوجوب والفرض . قال : الأمر للأول للوجوب ، وفرضية زكاة المال شملتها بعمومها . فلم يحتج معها لتجديد أمر ولم تنسخ فنهى عنها ، وبقيت على الوجوب الأول ، وحديث : " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر ; طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات " . فمن لم يقل بفرضيتها قال : إنها طهرة للصائم وطعمة للمساكين ، فهي لعلة مربوطة بها وتفوت بفوات وقتها ، ولو كانت فرضا لما فاتت بفوات الوقت . وأجاب الآخرون بأن ذلك على سبيل الحث على المبادرة لأدائها ، ولا مانع من أن تكون فرضا وأن تكون طهرة .
ويشهد لهذا قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، فهي فريضة وهي طهرة . والراجح من ذلك كله أنها فرض ; للفظ الحديث " فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر صاعا من تمر " ; لأن لفظ فرض إن كان ابتداء فهو للوجوب ، وإن كان بمعنى قدر ، فيكون الوجوب بعموم آيات الزكاة ، وهو أقوى .
وحديث " خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر بصدقة الفطر صاعا من تمر " الحديث . رواه أبو داود . والأمر للوجوب ، ولا صارف له هنا .
[ ص: 285 ] وقد قال النووي : إن القول بالوجوب هو قول جمهور العلماء ، وهذا هو القول الذي تبرأ به الذمة ، ويخرج به العبد من العهدة ، والله تعالى أعلم .
أما مم تكون : فالأصل في ذلك أثر أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، ورواه مالك في الموطأ عنه .
قال : كنا نخرج صاعا من طعام ، أو صاعا من أقط ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من زبيب .
وجاء لفظ السلت ، وجاء لفظ الدقيق ، وجاء لفظ السويق . فوقف قوم عند المنصوص عليه فقط وهم الظاهرية . ونظر الجمهور إلى عموم الطعام والغرض من مشروعيتها على خلاف في التفصيل عند الأئمة - رحمهم الله - كالآتي :
أولا : عند الشافعية يجوز إخراجها من كل قوت ; لأثر أبي سعيد ، وفيه لفظ الطعام .
ثانيا : من غالب قوت المكلف بها ; لأنها الفاضل عن قوته .
ثالثا : من غالب قوت البلد ; لأنها حق يجب في الذمة تعلق بالطعام كالكفارة .
وقال النووي : تجوز من كل حب معشر ، وفي الأقط خلاف عن الشافعي المالكية .
روى مالك في الموطأ حديث أبي سعيد المتقدم . وقال الباجي في شرحه : تخرج من القوت ، ونقل عن مالك في المختصر : يؤديها من كل ما تجب فيه الزكاة إذا كان ذلك من قوته . وهو مثل قول النووي : من كل حب معشر . وناقش الباجي مسألة إجزائها من الأرز والذرة والدخن . فقال : لا تجوز منها عند أشهب ويجوز عند مالك . وناقش القطاني : الحمص ، والترمس ، والجلبان ، فقال : مالك يجوزها إذا كانت قوته ، وابن حبيب : لا يجوزها ; لأنها ليست من المنصوص .
واتفق مذهب المالكية : أن المطعوم الذي يضاف إلى غيره كالأبازير : كزبرة ، وكمون ونحوه ، أنها لا تجزئ .
الحنابلة ، قال في المغني : من كل حبة وثمرة تقتات .
وقال في الشرح : أي عند عدم الأجناس المنصوص عليها ، فيجزئ كل مقتات من الحبوب والثمار .
[ ص: 286 ] قال : وظاهر هذا أنه لا يجزئه المقتات من غيرها كاللحم واللبن ، وعند انعدام هذه أيضا يعطي ما قام مقام الأجناس المنصوص عليها .
وعن ابن حامد عندهم : حتى لحم الحيتان والأنعام ، ولا يردون إلى أقرب قوت الأمصار ، ويجزئ الأقط لأهل البادية إن كان قوتهم . وعندهم : من قدر على المنصوص عليه فأخرج غيره لم يجزه .
الأحناف : تجوز من البر ، والتمر ، والشعير ، والزبيب ، والسويق ، والدقيق . ومن الخبز مع مراعاة القيمة ، وتجوز القيمة عندهم عوضا عن الجميع ، مع الاختلاف عندهم في مقدار الواجب من هذه الأصناف بين الصاع أو نصف الصاع ، على ما يأتي إن شاء الله .
وقد ناقشهم ابن قدامة في المغني عند قوله :
ومن أعطى القيمة لم تجزئه ، ونقل عن أحمد : أخاف ألا تجزئه خلاف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبهذا العرض نجد الأئمة - رحمهم الله - اتفقوا على المنصوص عليه في أثر أبي سعيد ، وزاد بعضهم من غير المنصوص عليه غير المنصوص : إما بعموم لفظ الطعام ، وإن كان يراد به عرفا القمح ، إلا أن العبرة بعموم اللفظ وهو العرف اللغوي . وإما بعموم مدلول المعنى العام ، والخلاف في الأقط . والنص يقضي به .
وانفرد الأحناف بالقول بالقيمة وبالنظر إلى المعنى العام لمعنى الزكاة ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : " طعمة للمسكين ، وطهرة للصائم " . وقوله : ( أغنوهم بها عن السؤال ) . لوجدنا إشارة إلى جواز إخراجها من كل ما هو طعمة للمساكين ، ولا نحده بحد أو نقيده بصنف ، فإلحاق غير المنصوص بالمنصوص بجامع العلة متجه ، أما القيمة : فقد ناقش مسألتها صاحب فتح القدير شرح الهداية في باب زكاة الأموال ، وعمدة أدلتهم الآتي :
أولا : بين الجذعة والمسنة في الإبل بشاتين .
ثانيا : قول معاذ لأهل اليمن : " ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير ؟ أهون عليكم ، وخير لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه البخاري .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 11:53 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (566)
سُورَةُ الْمَعَارِجِ
صـ 287 إلى صـ 294
[ ص: 287 ] ثالثا : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ناقة حسنة في إبل الصدقة ، فقال : " ما هذه ؟ " قال صاحب الصدقة : إني ارتجعتها ببعيرين من حواشي الإبل ؟ . قال : " نعم " .
رابعا : مثلها مثل الجزية ; يؤخذ فيها قدر الواجب كما تؤخذ عينه . والجواب عن هذا كله كالآتي : أما التعويض بين الجذعة والمسنة أو الحقة إلى آخره في الإبل بشاتين أو عشرين درهما ، وهو المنصوص في حديث أنس في كتاب الأنصباء المتقدم ، ونصه : ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة وليست عنده ، وعنده حقة ، فإنه تقبل منه الحقة ، ويجعل معها شاتين أو عشرين درهما ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده ، وعنده الجذعة ، فإنها تقبل منه ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين ، ومن بلغت عنده صدقة الحقة وليست عنده إلا ابنة لبون ، فإنها تقبل منه ابنة لبون ويعطي شاتين أو عشرين درهما . إلى آخر الحديث .
فليس في هذا دليل على قبول القيمة في زكاة الفطر ; لأن نص الحديث فمن وجبت عليه سن معينة وليست عنده ، وعنده أعلى أو أنزل منها ; فللعدالة بين المالك والمسكين جعل الفرق لعدم الحيف ، ولم يخرج عن الأصل وليس فيه أخذ القيمة مستقلة ، بل فيه أخذ الموجود ، ثم جبر الناقص .
فلو كانت القيمة بذاتها وحدها تجزئ لصرح بها - صلى الله عليه وسلم - .
ولا يجوز هذا العمل إلا عند افتقاد المطلوب ، والأصناف المطلوبة في زكاة الفطر إذا عدمت أمكن الانتقال إلى الموجود مما هو من جنسه لا إلى القيمة ، وهذا واضح .
وقال ابن حجر - رحمه الله - في الفتح : لو كانت القيمة مقصودة لاختلفت حسب الزمان والمكان ، ولكنه تقدير شرعي .
أما قول معاذ لأهل اليمن : " ائتوني بخميس أو لبيس مكان الذرة والشعير " . فقد ناقشه ابن حجر في الفتح من حيث السند والمعنى . ولكن السند ثابت ، أما المعنى ، فقيل : إنه في الجزية .
ورد هذا : بأن فيه مكان الذرة والشعير ، والجزية ليست منها .
[ ص: 288 ] وقيل : إنه بعد أن يستلم الزكاة الواجبة من أجناسها يستبدلها من باب البيع والمعاوضة عملا بما فيه المصلحة للطرفين .
وقيل : إنه اجتهاد منه - رضي الله عنه - ، ولكنه اجتهاد أعرفهم بالحلال والحرام إلى غير ذلك .
والصحيح الثاني : أنه تصرف بعد الاستلام وبلوغها محلها ولا سيما مع نقلها إلى المدينة ، بخلاف زكاة الفطر فليست تنقل ابتداء ، ولأن مهمة زكاة المال أعم من مهمة زكاة الفطر ; ففيها النقدان والحيوان .
أما زكاة الفطر فطعمة للمسكين في يوم الفطر ; فلا تقاس عليها .
أما الناقة الحسنة التي رآها - صلى الله عليه وسلم - ، وأنها بدل من بعيرين ، فهو من جنس الاستبدال بالجنس عملا للمصلحة ، لم تخرج عن جنس الواجب .
وأما الجزية يؤخذ منها قدر الواجب : فلا دليل فيه ; إذ زكاة الفطر فيها جانب تعبد وارتباط بركن في الإسلام .
وأما الجزية : فهي عقوبة على أهل الذمة عن يد وهم صاغرون ، فأيما أخذ منهم فهو واف بالغرض ، فلم يبق للقائلين بالقيمة في زكاة الفطر مستند صالح ، فضلا عن عدم النص عليها .
وختاما : إن القول بالقيمة فيه مخالفة للأصول من جهتين :
الجهة الأولى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر تلك الأصناف لم يذكر معها القيمة ولو كانت جائزة لذكرها مع ما ذكر ، كما ذكر العوض في زكاة الإبل ، وهو - صلى الله عليه وسلم - أشفق وأرحم بالمسكين من كل إنسان .
الجهة الثانية : - وهي القاعدة العامة - أنه لا ينتقل إلى البدل إلا عند فقد المبدل عنه ، وأن الفرع إذا كان يعود على الأصل بالبطلان فهو باطل .
كما رد ابن دقيق العيد على الحنابلة قولهم : إن الأشنان يجزئ عن التراب في الولوغ . أي : لأنه ليس من جنسه ويسقط العمل به .
وكذلك لو أن كل الناس أخذوا بإخراج القيمة ; لتعطل العمل بالأجناس المنصوصة ، [ ص: 289 ] فكأن الفرع الذي هو القيمة سيعود على الأصل الذي هو الطعام بالإبطال ، فيبطل .
ومثل ما يقوله بعض الناس اليوم في الهدي بمنى مثلا بمثل ، علما بأن الأحناف لا يجيزون القيمة في الهدي ; لأن الهدي فيه جانب تعبد ، وهو النسك .
ويمكن أن يقال لهم أيضا : إن زكاة الفطر فيها جانب تعبد ; طهرة للصائم ، وطعمة للمساكين ، كما أن عملية شرائها ومكيلتها وتقديمها فيه إشعار بهذه العبادة . أما تقديمها نقدا فلا يكون فيها فرق عن أي صدقة من الصدقات ، من حيث الإحساس بالواجب والشعور بالإطعام .
وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة ; لأن القول بالقيمة فيها جرأ الناس على ما هو أعظم ، وهو القول بالقيمة في الهدي وهو ما لم يقله أحد على الإطلاق حتى ولا الأحناف .
بيان القدر الواجب في زكاة الفطر
اتفق الجميع على أن الواجب في زكاة الفطر على كل شخص عن نفسه ، إنما هو صاع بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأصناف المتقدم ذكرها .
وخالف أبو حنيفة في القمح ، فقال : نصف الصاع فقط منها يكفي . وسيأتي بيان الراجح في ذلك . إن شاء الله .
ثم اختلفوا بعد ذلك في مقدار الصاع الواجب من حيث الوزن . فقال الجمهور : هو خمسة أرطال وثلث . وقال أبو حنيفة : هو ثمانية أرطال ، وخالفه أبو يوسف ، ووافق الجمهور . ما مقدار الصاع ، فهو في العرف الكيل ، وهو أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين ، ولتفاوت الناس في ذلك عمد العلماء إلى بيان مقداره بالوزن .
وقد نبه النووي أن المقدار بالوزن تقريبي ; لأن المكيلات تختلف في الوزن ثقلا وخفة باختلاف أجناسها : كالعدس ، والشعير مثلا ، وما كان عرفه الكيل لا يمكن ضبطه بالوزن ، ولكنه على سبيل التقريب .
ولهذا المعنى قال صاحب المغني : إن من أخرج الزكاة بالوزن عليه أن يزيد بالقدر الذي يعلم أنه يساوي الكيل ، ولا سيما إذا كان الموزون ثقيلا .
[ ص: 290 ] ونقل عن أحمد : أن من أخرج وزن الثقيل من الخفيف يكون قد أخرج الواجب بالتأكيد .
أقوال العلماء في وزن الصاع .
قال الجمهور : هو خمسة أرطال وثلث ، الرطل بالعراقي .
وقال أبو حنيفة - رحمه الله - : هو ثمانية أرطال ، وخالفه أبو يوسف كما تقدم ، وسبب الخلاف هو : أن أبا حنيفة أخذ بقول أنس : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ بمد " وهو رطلان ، ومعلوم أن الصاع أربعة أمداد ، فعليه يكون ثمانية أرطال .
ودليل الجمهور : هو أن الأصل في الكيل هو عرف المدينة ، كما أن الأصل في الوزن هو عرف مكة ، وعرف المدينة في صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خمسة أرطال وثلث . كما جاء عن أحمد - رحمه الله - ، قال : أخذت الصاع من أبي النضر . وقال أبو النضر : أخذته عن أبي ذؤيب ، وقال : هذا صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي يعرف بالمدينة .
قال أبو عبد الله : فأخذنا العدس فعبرنا به ، وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به ; لأنه لا يتجافى عن موضعه ، فكلنا به ، ثم وزناه ، فإذا هو خمسة أرطال وثلث ، وقال : هذا أصلح ما وقفنا عليه ، وما تبين لنا من صاع النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا كان الصاع خمسة أرطال وثلثا من البر والعدس وهما أثقل الحبوب ، فما عداهما من أجناس الفطرة أخف منهما ، فإذا أخرج منهما خمسة أرطال وثلث فهي أكثر من صاع .
وقال النووي : نقل الحافظ عبد الحق في كتاب الأحكام عن أبي محمد بن علي بن حزم : أنه قال : وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يؤدي به الصدقات ليس بأكثر من رطل ونصف ، ولا دون رطل وربع .
وقال بعضهم : هو رطل وثلث ، وقال : ليس هذا اختلافا ، ولكنه على حسب رزنه بالراء ، أي : رزانته وثقله من البر والتمر والشعير . قال : وصاع ابن أبي ذؤيب خمسة أرطال [ ص: 291 ] وثلث ، وهو صاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومن أدلة الجمهور ، وسبب رجوع أبي يوسف عن قول أبي حنيفة ، ما جاء في المغني وغيره : أن أبا يوسف لما قدم المدينة وسألهم عن الصاع ، فقالوا : خمسة أرطال وثلث ، فطالبهم بالحجة ، فقالوا : غدا ، فجاء من الغد سبعون شيخا كل واحد منهم أخذ صاعا تحت ردائه ، فقال : صاعي ورثته عن أبي وورثه أبي عن جدي ، حتى انتهوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخذ أبو يوسف يقارنها فوجدها كلها سواء ، فأخذوا واحدا منها وعايره بالماش - وهو العدس غير المدشوش - ، فكان خمسة أرطال وثلثا ، فرجع إلى قول أهل المدينة .
وفي تلك القصة : أنه رجع إلى العراق ، فقال لهم : أتيتكم بعلم جديد ; الصاع خمسة أرطال وثلث ، فقالوا له : خالفت شيخ القوم ، فقال : وجدت أمرا لم أجد له مدفعا .
أما وزن الرطل العراقي فأساس الوحدة فيه هي الدرهم ، وقد ذكر النووي عنه ثلاثة أقوال :
الأول : أنه مائة وثلاثون درهما بدراهم الإسلام .
والثاني : أنه مائة وثمانية وعشرون .
والثالث : أنه مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ، وهي تسعون مثقالا .
وقال في المغني : وقد زادوه مثقالا فصار واحدا وتسعين مثقالا ، وكمل به مائة وثلاثون درهما ، وقصدوا بهذه الزيادة إزالة كسر الدرهم .
ثم قال : والعمل الأول .
أما بالنسبة لبقية الأرطال في الأمصار الأخرى ، فكالآتي نقلا من كشاف القناع :
الرطل البعلي : تسعمائة درهم .
والقدسي : ثمانمائة .
والحلبي : سبعمائة وعشرون .
والدمشقي : ستمائة .
والمصري : مائة وأربعة وأربعون . وكل رطل اثنتا عشرة أوقية في سائر البلاد ، مقسوم [ ص: 292 ] عليها الدراهم .
وعليه ; فالصاع يساوي ستمائة وخمسة وثمانين وخمسة أسباع الدرهم ، وأربعمائة وثمانين مثقالا .
وعليه أيضا ; يكون الصاع بالأرطال الأخرى . هو المصري أربعة أرطال وتسع أواق وسبع أوقية ، وبالدمشقي رطل وخمسة أسباع أوقية . وبالحلبي أحد عشر رطلا وثلاثة أسباع أوقية ، وبالقدسي عشر أواق وسبعا أوقية .
وإذا كانت موازين العالم اليوم قد تحولت إلى موازين فرنسية ، وهي بالكيلوجرام ، والكيلو ألف جرام ، فلزم بيان النسبة بالجرام ، وهي : أن المكيلات تتفاوت ثقلا وكثافة ، فأخذت الصاع الذي عندي ، وعايرته أولا على صاع آخر قديما ، فوجدت أمرا ملفتا للنظر عند المقارنة ، وهو أن الصاع الذي عندي يزيد عن الصاع الآخر قدر ملء الكف ، فنظرت فإذا القدر الذي فوق فتحة الصاعين مختلفة ; لأن أحد الصاعين فتحته أوسع . فكان الجزء المعلى فوق فتحته يشكل مثلثا قاعدته أطول من قاعدة المثلث فوق الصاع الآخر ، فعايرتهما مرة أخرى على حد الفتحة فقط بدون زيادة فكانا سواء . فعايرتهما بالماء حيث إن الماء لا يختلف وزنه غالبا ما دام صالحا للشرب وليس مالحا ، وأنه لا يسمح بوجود قدر زائد فوق الحافة ، فكان وزن الصاع بعد هذا التأكيد هو بالعدس المجروش 2 ، 600 كيلوين وستمائة جرام .
وبالماء 3 ، 100 ثلاثة كيلوات ومائة جرام .
وأرجو أن يكون هذا العمل كافيا لبيان الوزن التقريبي للصاع النبوي في الزكاة .
زكاة الورق المتداول .
من المعلوم أن التعامل بالورق بدلا عن الذهب والفضة أمر قد حدث بعد عصور الأئمة الأربعة ، وعصور تدوين الفقه الإسلامي ، وما انتشرت إلا في القرن الثامن عشر ميلاديا فقط ، ولهذا لم يكن لأحد الأئمة - رحمهم الله - رأي فيها ، ومنذ أن وجدت وعلماء المسلمين مختلفون في تقييمها وفي تحقيق ماهيتها ما بين كونها سندات : عن ذهب أو فضة ، أو عروض تجارة ، أو نقد بذاتها .
والخلاف في ذلك مشهور ، وإن كان الذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أنها وثائق ضمان [ ص: 293 ] من السلطان .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - إبداء وجهة نظره فيها في الربا ، وهل يباع بها الذهب والفضة نسيئة أم لا ؟
ومهما يكن من نظريات في ماهيتها ، فإنها باتفاق الجميع تعتبر مالا ، وهي داخلة في عموم قوله تعالى : وفي أموالهم [ 70 \ 24 ] ; لأنها أصبحت ثمن المبيعات وعوض السلع .
فعليه تكون الزكاة فيها واجبة . والنصاب بالنسبة إليها يعتبر بما يشترى بها من ذهب وفضة في أي عملة كانت هي .
ففي السعودية مثلا ينظر كم يشترى بها عشرون مثقالا ذهبا ، أو مائتا درهم فضة ، فيعتبر هذا القدر هو النصاب ، وفيه الزكاة ، وهو ربع العشر سواء بسواء .
وهكذا مثل الإسترليني ، والروبية والدولار ; لأن كل عملة من ذلك وثيقة ضمان من السلطان الذي أصدرها ، أي : الدولة التي أصدرتها . سواء قيل : إن الزكاة فيما ضمنته تلك الوثيقة ، أو فيها بعينها ، أو في قيمتها كعرض ، فهي لن تخرج بحال من الأحوال عن دائرة التمول والاستبدال ، وإن تحصيل الفقير لشيء منها أيا كانت ; فإنه بها سيحصل على مطلوبه من مأكل وملبس وما يشاء من مصالح وفق ما يحصل عليه بعين الذهب والفضة .
وفي هذا رد على من يقول : لا زكاة فيها ; لأنها ليست بنقد ذهب ولا فضة ، ولا يخفى أن إسقاط الزكاة عنها إسقاط للزكاة من أغلبية العالم ، إن لم يكن من جميعه .
تنبيه .
سبق أن سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في موضوع زكاة العروض في قول المالكية :
يشترط أن ينص في يد التاجر المدير ولو درهما أثناء الحول ، وإلا لما وجبت عليه زكاة في عروض تجارته .
فقال - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : لو كان مالك - رحمه الله - موجودا اليوم لم يقل ذلك ; لأن العالم اليوم كله لا يكاد يعرف إلا هذه الأوراق ، وقد لا ينص في يده درهم [ ص: 294 ] واحد فضة . ويترتب على ذلك إسقاط الزكاة عن عروض التجارة ، وهي غالب أموال الناس اليوم .
فكذلك يقال لمن لا يرى الزكاة في الأوراق النقدية : أنه يترتب عليه باطل خطير ; وهو تعطيل ركن الزكاة ، وحرمان المسكين من حقه المعلوم في أموال الأغنياء ، وما ترتب عليه باطل ; فهو باطل .
ولعلنا بهذا العرض الموجز ، نكون قد أوردنا عجالة ما بقي من مبحث الزكاة ، وإن لم يكن على سبيل التفصيل المعهود من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، فقد قدمنا أنه لن يجارى في تفصيله ، وأن تتبع الجزئيات في هذا المبحث سيطيل الكتابة ، وهو - بحمد الله - مبسوط في كتب الفقه ، وإنما قصدنا بيان أهم المسائل ، وبيان ما هو الراجح فيما اختلف فيه . وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : والذين يصدقون بيوم الدين
يوم الدين : هو يوم الحساب . كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة ( الفاتحة ) .
قوله تعالى : والذين هم من عذاب ربهم مشفقون
أي : خائفون ; كما بينه تعالى بقوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] .
وقوله : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم [ 52 \ 26 - 27 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-19, 11:57 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (567)
سُورَةُ الْمَعَارِجِ
صـ 295 إلى صـ 302
قوله تعالى : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قد أفلح المؤمنون ، وما بعدها ، وفي سورة " النساء " ، وبين أن كل مبتغ وراء الزوجة وملك اليمين فهو داخل تحت قوله : فأولئك هم العادون ، وخاصة من قال بنكاح المتعة ; لأن المستمتع بها ليست زوجة وليست أمة مملوكة .
[ ص: 295 ] تنبيه .
والجدير بالذكر أنه لم يبق من يقول بنكاح المتعة كمذهب لطائفة ما ، إلا الشيعة بصرف النظر عمن خالف الإجماع من غيرهم ، ولكن الشيعة أنفسهم شبه متناقضين في كتبهم ، إذ ينص الحللي - وهو من أئمتهم - في باب النكاح : أن للحر وللعبد على السواء أن ينكح نكاحا مؤقتا ، وهو نكاح المتعة ، بأي عدد شاء من النساء وبدون حد ، فجعل هذا العقد كملك اليمين ، والحال أن المعقود عليها حرة ، وهذا متناقض .
وفي كتاب الطلاق ، قال : إن المطلقة ثلاثا لا يحلها لزوجها الأول إلا أن تنكح زوجا غيره ، في نكاح دائم وليس مؤقتا .
وهنا يقال لهم : إما أن تعتدوا بنكاحها الثاني المؤقت ، فيلزم أن يحلها للأول ; لأنه تعالى قال : حتى تنكح زوجا غيره [ 2 \ 230 ] ، فإن اعتبرتموه نكاحا لزم إحلالها به للزوج الأول . وإن لم تعتبروه نكاحا لزمكم القول ببطلانه وهو المطلوب .
وبهذا يظهر أن مبتغي وراء ذلك ، أي : أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم هم العادون .
قوله تعالى : والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه في أول سورة قد أفلح المؤمنون .
وفي المسألة السادسة من مسائل مبحث : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث [ 21 \ 78 ] .
قوله تعالى : والذين هم بشهاداتهم قائمون
قرئ " بشهاداتهم " بالجمع ، وقرئ " بشهادتهم " بالإفراد ، فقيل : إن الإفراد يؤدي معنى الجمع للمصدر ، كما في قوله : إن أنكر الأصوات لصوت الحمير [ 31 \ 19 ] . فأفرد في الصوت مرادا به الأصوات .
وقيل : الإفراد لشهادة التوحيد مقيمون عليها . والجمع لتنوع الشهادات بحسب متعلقها ، ولا تعارض بين الأمرين ; فما يشهد لذلك قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ 41 \ 30 ] .
[ ص: 296 ] قال أبو بكر - رضي الله عنه - : أي داموا على ذلك حتى ماتوا عليه .
ويدل للثاني عمومات آية الشهادة المتنوعة في البيع ، والطلاق ، والكتابة في الدين ، وغير ذلك . والله تعالى أعلم .
وفي هذه الآية عدة مسائل :
المسألة الأولى : أطلق القيام بالشهادة هنا وبين أن قيامهم بها إنما هو لله في قوله تعالى : وأقيموا الشهادة لله [ 65 \ 2 ] ، وقوله : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم [ 4 \ 135 ] .
المسألة الثانية قوله : بشهاداتهم قائمون في معرض المدح ، وإخراجهم من وصف إن الإنسان خلق هلوعا [ 70 \ 19 ] يدل بمفهومه أن غير القائمين بشهاداتهم غير خارجين من ذلك الوصف الذميم .
وقد دلت آيات صريحة على هذا المفهوم ، منها قوله تعالى : ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] ، وقوله : ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين [ 5 \ 106 ] .
وكذلك في معرض المدح في وصف عباد الرحمن في قوله : والذين لا يشهدون الزور [ 25 \ 72 ] .
وفي الحديث من عظم جرم شهادة الزور ، وكان - صلى الله عليه وسلم - متكئا فجلس ، فقال " ألا وشهادة الزور ، ألا وشهادة الزور " ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت " .
تنبيه .
قوله : والذين هم بشهاداتهم قائمون ، يفيد القيام بالشهادة مطلقا ، وجاء قوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا [ 2 \ 282 ] ، فقيد القيام بالشهادة بالدعوة إليها .
وفي الحديث : " خير الشهود من يأتي بالشهادة قبل أن يسألها " .
[ ص: 297 ] وفي حديث آخر في ذم المبادرة بها ، ويشهدون قبل أن يستشهدوا . وقد جمع العلماء بين الحديثين ; بأن الأول في حالة عدم معرفة المشهود له بما عنده من شهادة ، أو يتوقف على شهاداته حق شرعي : كرضاع ، وطلاق ونحوه ، والثاني بعكس ذلك .
وقد نص ابن فرحون : أن الشهادة في حق الله على قسمين : قسم تستديم فيه الحرمة : كالنكاح ، والطلاق ، فلا يتركها ، وتركها جرحة في عدالته . وقسم لا تستديم فيه الحرمة : كالزنى ، والشرب ، فإن تركها أفضل ما لم يدع لأدائها ; لحديث هزال في قصة ماعز حيث قال له - صلى الله عليه وسلم - : " هلا سترته بردائك " .
المسألة الثالثة : مواطن الشهادة الواردة في القرآن ، والتي يجب القيام فيها ، نسوقها على سبيل الإجمال .
الأول : الإشهاد في البيع في قوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم [ 2 \ 282 ] .
الثاني : الطلاق ، والرجعة لقوله تعالى : فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 \ 2 ] .
الثالث : كتابة الدين ; لقوله تعالى : فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ 2 \ 282 ] .
الرابع : الوصية عند الموت ; لقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم [ 5 \ 106 ] .
الخامس : دفع مال اليتيم إليه إذا رشد ; لقوله تعالى : فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم [ 4 \ 6 ] .
السادس : إقامة الحدود ; لقوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] .
السابع : في السنة عقد النكاح ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " ، وهذه كلها مواطن هامة تتعلق بحق الله ، وحق العباد من : حفظ للمال ، والعرض ، والنسب ، وفي حق الحي والميت ، واليتيم والكبير ، فهي في شتى مصالح الأمة استوجبت الحث على القيام بها : والذين هم بشهاداتهم قائمون ، والتحذير من كتمانها : ولا تكتموا الشهادة ومن [ ص: 298 ] يكتمها فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] .
وقوله : ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [ 2 \ 140 ] .
وقوله : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا [ 2 \ 282 ] .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : والذين هم بشهاداتهم قائمون ، كلها صيغ الجمع ، والشهادة قد تكون من فرد ، وقد تكون من اثنين ، وقد تكون من ثلاثة ، وقد تكون من أربعة ، وقد تكون من جماعة .
وجملة ذلك أن الشهادة في الجملة من حث الشاهد تكون على النحو الآتي إجمالا : رجل واحد ، ورجل ويمين ، ورجل وامرأتان ، ورجلان ، وثلاثة رجال ، وأربعة ، وطائفة من المؤمنين ، وامرأة ، وامرأتان ، وجماعة الصبيان .
وقد جاءت النصوص بذلك صريحة . أما الواحد ، فقال تعالى : وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل [ 12 \ 26 ] .
فهو ، وإن كان ملفت النظر إلى القرينة في شق القميص ، إلا أنه شاهد واحد .
وجاء في السنة : شهادة خزيمة - رضي الله عنه - ، لما شهد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشراء الفرس من الأعرابي ، وجعلها - صلى الله عليه وسلم - بشهادة رجلين .
وجاءت السنة بثبوت شهادة الطبيب ، والقائف ، والخارص ، ونحوهم .
وجاء في ثبوت رمضان ، فقد قبل - صلى الله عليه وسلم - شهادة أعرابي ، وقبل شهادة عبد الله بن عمر ، سواء كان قبولها اكتفاء بها أو احتياطا لرمضان .
وأما شهادة الرجل الواحد ويمين المدعي ، فلحديث ابن عباس : " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد واليمين " وتكلم عليه ابن عبد البر ، وأطال في تصحيحه وتوجيهه .
وعند مالك ، ومذهب لأحمد شهادة امرأتين ، ويمين المدعي ، وخالفهما الجمهور .
وأما شهادة رجل وامرأتين ، فلقوله تعالى : فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [ 2 \ 282 ] .
وبين تعالى توجيه ذلك بقوله : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] .
[ ص: 299 ] وبهذا النص رد الجمهور مذهب مالك ، والمذهب المحكي عن أحمد ; لأنه لم ينقل إلا أربع نسوة ولم تستقل التسوية بالشهادة .
وأما شهادة الرجلين ; فلقوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ 2 \ 282 ] .
وأما ثلاثة رجال ، فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الفاقة والإعسار : " حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه ، فيقولون : لقد أصابت فلانة فاقة " الحديث . وهو حديث قبيصة عند مسلم وأحمد .
وأما الأربعة ففي إثبات الزنا خاصة ، وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ذلك في أول سورة " النور " .
وأما الطائفة ففي إقامة الحدود ; لقوله تعالى : وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [ 24 \ 2 ] .
وأما شهادة المرأة ففي أحوال النساء خاصة ، كما في حديث عقبة بن الحارث : " جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت : إني أرضعتهما ، فقال له - صلى الله عليه وسلم - " فارقها " ، فقال : كيف أفارقها لقول امرأة ؟ فقال له : " كيف وقد قيل ؟ " وقد وقع الخلاف في قبول شهادتها وحدها ، ولكن الصحيح ما قدمنا .
وأما المرأتان فعند من لم يقبل شهادة المرأة ، وقيل عند استهلال الصبي ; لأن الغالب حضور أكثر من واحدة .
وأما جماعة الصبيان ففي جناياتهم على بعض ، وقبل أن يتفرقوا ولم يدخل فيهم كبير . وفيه خلاف .
ورجح الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - العمل بها في مذكرة أصول الفقه ، في مبحث رواية الصغار .
المسألة الخامسة : اتفقوا أنه لا دخل للنساء في الشهادة في الحدود ، وإنما تكون في المال أو ما يئول إلى المال ، وفيما يتعلق بما تحت الثياب من النساء .
وفي الشهادة مباحث عديدة مبسوطة في كتب الفقه وكتب القضاء ، كتبصرة الحكام [ ص: 300 ] لابن فرحون وغيره .
وقد بسط ابن القيم الكلام عليها في الطرق الحكمية ، وابن فرحون في تبصرة الحكام ، لمن أحب الرجوع إليه ، ولكن مما لا بد منه هو شروط الشاهد المعتبرة ، وكلها تدور على ما تحصل به الطمأنينة إلى الحق المشهود به ; لأمرين أساسيين هما : الضبط ، كما في قوله تعالى في حق النسوة : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] .
والثاني : العدالة ، والصدق ، كما في قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ 49 \ 6 ] .
وهنا مبحث مشهور ، وهو : هل الأصل في المسلمين العدالة حتى يظهر جرحه أم العكس ؟
والصحيح الأول .
وقد كان العمل على ذلك إلى أن جاء رجل من العراق لعمر - رضي الله عنه - ، فقال له : أدرك الناس ; لقد تفشت شهادة الزور . فقال عمر : بتزكية الشهود وإثبات عدالتهم .
وقد أورد ابن فرحون في مراتب الشهود إحدى عشرة مرتبة ، وهي :
الأولى : الشاهد المبرز في العدالة العالم بما تصح به الشهادة ، فتجوز شهادته في كل شيء وتجريحه ، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به من ذلك كله إذا أبهمه ، ولا يقبل فيه التجريح إلا بالعداوة .
الثانية : المبرز في العدالة غير العالم بما تصح به الشهادة ، فحكمه كالأول ، إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
الثالثة : الشاهد المعروف بالعدالة العالم بما تصح به الشهادة ، فتجوز شهادته إلا في ستة مواضع على اختلاف في بعضها ، وهي : التزكية ، شهادته لأخيه ولمولاه ولصديقه الملاطف ولشريكه في غير التجارة ، وإذا زاد في شهادته أو نقص فيها ، ويقبل فيه التجريح بالعداوة وغيرها ، ولا يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
الرابعة : المعروف بالعدالة غير العالم بما تصح به الشهادة ، حكمه كذلك إلا أنه يسأل عن كيفية علمه بما شهد به إذا أبهم ذلك .
[ ص: 301 ] الخامسة : الشاهد المعروف بالعدالة ; إذا قذف قبل أن يحد ، فاختلف في قبول شهادته ، وأجازها ابن القاسم ، وهو مذهب مالك .
السادسة : الذي يتوسم فيه العدالة ; تجوز دون تزكية فيما يقع بين المسافرين في السفر من المعاملات ، وفيما عدا ذلك لا بد من تزكيته ; لأنه هو المعروف بمجهول الحال .
والصحيح أن مثله لا بد من التحري عنه حتى ينكشف أمره .
السابعة : الذي لا يتوسم فيه العدالة ولا الجرحة ; فلا تجوز شهادته في موضع من المواضع دون تزكية ، إلا أن شهادته تكون شبيهة في بعض المواضع عند بعض العلماء ، فتوجب اليمين ، وتوجب الحميل ، وتوقيف الشيء على المدعى عليه .
الثامنة : الذي يتوسم فيه الجرحة ; فلا تجوز شهادته دون تزكية ، ولا تكون شهادته شبهة توجب حكما .
التاسعة : الشاهد الذي ثبت عليه جرحة قديمة أو يعلمها الحاكم فيه ; فلا تجوز شهادته دون تزكية ، ولا تقبل فيه التزكية على الإطلاق ، وإنما تقبل ممن علم بجرحته إذا شهد على توبته منها ، ونزوعه منها ، والمحدود في القذف بمنزلته على مذهب مالك ; لأن تزكيته لا تجوز على الإطلاق ، وإنما تجوز بمعرفة تزيده في الخبر .
العاشرة : المقيم على الجرحة المشهود بها ; فلا تجوز شهادته ، ولا تقبل التزكية فيه وإن زكي ، وإنما تقبل تزكيته فيما يستقبل إذا تاب .
الحادية عشرة : شاهد الزور ; فلا تصح شهادته وإن تاب وحسنت حاله ، وروى أبو زيد عن ابن القاسم : أن شهادته تجوز إذا تاب وعرفت توبته بتزيد حاله في الصلاح .
قال : ولا أعلمه إلا في قول مالك ، فقيل : إن ذلك اختلاف من القول .
وقيل : معنى رواية أبي زيد إذا جاء تائبا مقرا على نفسه بشهادة الزور قبل أن تظهر عليه ، وهو الأظهر . والله سبحانه وتعالى أعلم . اهـ .
وقد أوردنا هذه المراتب ; لأنها شملت أنواع الشهود قوة وضعفا ، وفيما تقبل شهاداتهم .
[ ص: 302 ] تنبيه .
وقد قيل في تفريق الشهود : إن هذا في الزنا خاصة ، وقيل : للقاضي أن يفرقهم متى ما رأى ذلك ، وأن أول من فرقهم علي - رضي الله عنه - ، وذكر الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تفريق الشهود في قصة سليمان ، وهو كلام في قضية المرأة التي رميت بالزنا ، واختلف في تحليف الشاهد .
فالجمهور : لا يحلف ، ورجح ابن القيم جوازه فيما تقبل شهادته للضرورة كالمرأة الواحدة ، والكافر في السفر ، ومدار قبول الشهادة على الطمأنينة لصدق الشاهد ، وذلك يدور على أصلين :
الأول : هو الضابط كما في قوله تعالى : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 \ 282 ] .
والثاني : العدالة ، كما في قوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا [ 49 \ 6 ] ، والعلم عند الله تعالى .
وللشهادة مباحث عديدة اكتفينا بما أوردنا .
وقد بحث ابن القيم - رحمه الله - مباحث الشهادة من حيث العدد والموضوع في كتاب الطرق الحكمية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-20, 12:06 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (568)
سُورَةُ نُوحٍ
صـ 303 إلى صـ 310
تنبيه .
للشهادة علاقة باليمين في الحكم ، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " شاهدان أو يمينه " .
فما هي تلك العلاقة ؟ وبين هذه العلاقة قوله تعالى : قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم [ 6 \ 19 ] ، وقوله : أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [ 41 \ 53 ] ، وقوله : وكنا لحكمهم شاهدين [ 21 \ 78 ] ، وقوله : هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم [ 46 \ 8 ] . ونحو ذلك من الآيات ; لأنه تعالى : شاهد ومطلع على أحوال العباد لا تخفى عليه خافية ، يعلم [ ص: 303 ] خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فإذا أعوز المدعي شاهدا حلف مع الشاهد كأنه قال : أستشهد بالله الذي يعلم مني صدق دعواي .
وكذلك المدعى عليه ، إذا عجز المدعي عن البينة وكانت الدعوى متوجهة ، ومما يشبه ، كما يقول المالكية : فإن المدعى عليه يقول : لدي البينة والشهادة على عدم ثبوت ما ادعى به علي ، ألا وهو خير الشاهدين .
من هو أكبر شهادة مما عجز عنها المدعي ألا وهو الاستشهاد بالله تعالى ، فيحلف على براءة ذمته مما ادعى به عليه .
تنبيه .
ومن هنا يعلم حقيقة قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف بغير الله فقد أشرك " أي ; لأن الحالف يقيم المحلوف به مقام الشهود الذين رأوا أو سمعوا ، والمخلوق إذا كان غائبا لا يرى ولا يسمع ، فإذا حلف به كان قد أعطاه صفات من يرى ويسمع ، والحال أنه بخلاف ذلك ، ومن ناحية أخرى الحالف والمستحلف بالله يعلمان أن الله تعالى قادر على أن ينتقم من صاحب اليمين الغموس ، وغير الله إذا ما حلف به لا يقوى ولا يقدر على شيء من ذلك . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين
" مهطعين " : أي مسرعين نافرين ، " وعزين " جمع عزة ، وهم الجماعة ، أي : ما بال أولئك الكفار المنصرفين عنك متفرقين ، وعليه قول الكميت :
ونحن وجندل باغ تركنا كتائب جندل شتى عزين
وكذلك هنا فهم متفرقون عنه - صلى الله عليه وسلم - جماعات من كل جهة عن اليمين وعن الشمال . تفرقت بهم الأهواء ، وأخذتهم الحيرة ، كقوله تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة [ 74 \ 49 - 51 ] .
ونقل ابن كثير عن أحمد - رحمه الله - في أهل الأهواء ، فهم مخالفون للكتاب ، مختلفون ، متفقون على مخالفة الكتاب .
قوله تعالى : إنا خلقناهم مما يعلمون
[ ص: 304 ] أجمل ما يعلمون في ما الموصولة " مما " ، وقد بينه تعالى في عدة مراحل : من تراب أولا ، ثم من نطفة . وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في أكثر من موضع ، وأصرح نص في ذلك قوله تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين [ 77 \ 20 ] ، وقوله : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 5 - 7 ] أي : ماء الرجل وماء المرأة يختلطان معا ، كما في قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 1 - 2 ] .
وقوله تعالى : كلا إنا خلقناهم مما يعلمون [ 70 \ 39 ] ليس لمجرد الإخبار ; لأنهم يعلمون ، والعالم ليس في حاجة إلى إخبار ، ولكن يراد بذلك لازم الخبر ، وهو إفهامهم بأن من خلقهم من هذا الذي يعلمون قادر على إعادتهم وبعثهم ومجازاتهم ، كما في سورة " الدهر " إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا [ 76 \ 2 ] . ثم قال : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] . ثم بين المصير إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 4 - 5 ] .
قوله تعالى : فلا أقسم برب المشارق والمغارب
قوله تعالى فلا أقسم ظاهره النفي ، والحال أنه أقسم بدليل جواب القسم بعده إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم [ 70 \ 40 - 41 ] ، وللعلماء في مجيء " لا " هذه كلام كثير ، وقد فصله الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب في سورة " البلد " ، وسيطبع إن شاء الله في نهاية هذه التتمة .
وقوله : برب المشارق والمغارب [ 70 \ 40 ] فهو الله تعالى رب كل شيء ومليكه ، وقد نص على نظيره في سورة " الرحمن " : رب المشرقين ورب المغربين فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 17 - 18 ] .
وقد جمعت " المشارق " هنا ، وثنيت في " الرحمن " وأفردت في قوله تعالى ولله المشرق والمغرب [ 2 \ 115 ] ، فالجمع على مشارق الشمس في السنة لكل يوم مشرق [ ص: 305 ] كما قال ابن عباس والتثنية لمشرق الشمس والقمر والإفراد على الجهة ، وسيأتي في دفع إيهام الاضطراب أيضا .
قوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا
بين هنا حالة الخروج من الأجداث وهي القبور ، وهي أنهم يخرجون سراعا ، وبين في موضع آخر أنهم يخرجون مبعثرين هنا وهناك . في قوله تعالى : إذا بعثر ما في القبور [ 100 \ 9 ] ، وفي قوله تعالى : يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم [ 99 \ 6 ] .
قوله تعالى : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة
حالة ثانية ، وقد جمع الحالات في سورة " اقتربت الساعة " في قوله تعالى يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 6 - 8 ] . نسأل الله تعالى السلامة والعافية .
وفي ختام السورة الكريمة لهذا الوصف والوعيد الشديد تأييد للقول ; بأن سؤالهم في أولها " بعذاب واقع " ، إنما هو استخفاف واستبعاد . فبين لهم تعالى بعد عرض السورة نهاية ما يستقبلون به ; ليأخذوا حذرهم ويرجعوا إلى ربهم . فارتبط آخر السورة بأولها .
[ ص: 306 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ نُوحٍ .
قوله تعالى : إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم
فيه بيان أن الله تعالى أرسل رسوله نوحا لينذر قومه قبل أن يأتيهم العذاب ، فالنذارة أولا وهي عامة في جميع الأمم والرسل .
كقوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ; وذلك لإقامة الحجة أولا ، كما في قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه المسألة في سورة " بني إسرائيل " على قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
قوله تعالى : أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم الآية . جعل الطاعة هنا لنبي الله نوح - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - وعلق عليها مغفرة الله لذنوبهم .
وقد بين تعالى أن طاعة النبي هي طاعة الله ، فهي في الأصل طاعة لله ; لأنه مبلغ عن الله كما في قوله تعالى في سورة " النساء " وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 79 - 80 ] .
قوله تعالى : قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا
أي : على الدوام كما قال : ثم إني دعوتهم جهارا ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا [ 71 \ 8 - 9 ] .
أي : أن نبي الله نوحا عليه - وعلى نبينا الصلاة والسلام - بذل كل ما يمكنه في سبيل الدعوة إلى الله ، وقد بين تعالى مدة مكثه فيهم على تلك الحالة في قوله تعالى : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما [ 29 \ 14 ] .
[ ص: 307 ] قوله تعالى : جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا
بين تعالى الغرض من جعل الأصابع في الآذان لعدم السماع ، كما في قوله تعالى : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن [ 41 \ 26 ] ، وإصرارهم واستكبارهم إنما هو عن اتباع ما دعاهم إليه نوح - عليه السلام - .
كما قالوا : وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل [ 11 \ 27 ] ، وقريب منه قوله تعالى : كبر على المشركين ما تدعوهم إليه [ 42 \ 13 ] .
قوله تعالى : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا
رتب إرسال السماء عليهم مدرارا على استغفارهم ، وهذا يدل على أن الاستغفار والتوبة والعمل الصالح قد يكون سببا في تيسير الرزق .
وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك في الحديث : " من أراد أن ينسأ له في عمره ، ويوسع له في رزقه ; فليصل رحمه " .
وقد تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - على هذه المسألة في سورة " هود " عند قوله تعالى : وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا [ 11 \ 3 ] .
كما دلت الآية الأخرى في هذه السورة على أن المعصية سبب للهلاك في قوله : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] .
قوله تعالى : وقد خلقكم أطوارا هي المبينة في قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 12 \ 12 - 14 ] .
وهذا مروي معناه عن ابن عباس . قاله ابن كثير والقرطبي .
وقيل : " أطوارا " : شبابا ، وشيوخا ، وضعفاء .
وقيل : " أطوارا " أي : أنواعا : صحيحا ، وسقيما ، وبصيرا ، وضريرا ، وغنيا ، وفقيرا .
[ ص: 308 ] وقيل : " أطوارا " : اختلافهم في الأخلاق والأفعال . قاله القرطبي .
ولكن كما قدم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أنه إذا تعددت الأقوال في الآية وكان فيها قرينة دالة على أحد الأقوال فإنه يبينه ، وهنا قرينة في الآية على أن المراد هو الأول ، وإن كان الجميع صحيحا ، والقرينة هي أن الآية في قضية الخلق وهو الإيجاد الأول ; لأن ما بعد الإيجاد صفات عارضة .
وقد جاء نظير الآية في سورة " المؤمنون " كما قدمنا ، وقد ذيلت بقوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 14 ] .
ومنها أن الآية سيقت في الدلالة على قدرة الله على بعثهم بعد موتهم لمجازاتهم ، فكان الأنسب بها أن يكون متعلقها كمال الخلقة والقدرة على الإيجاد .
والأنسب لهذا المعنى هو خلقهم من نطفة أمشاج وماء مهين ، ثم تطويرها إلى علقة ، ثم تطوير العلقة مضغة ، ثم خلق المضغة عظاما ، ثم كسو العظام لحما . ثم نشأته نشأة أخرى .
إنها قدرة باهرة وسلطة قاهرة .
ومثله في " الواقعة " : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] .
وفي " الطور " في أصل الخلقة : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] .
إن أصل الخلقة والإيجاد ، وهو أقوى دليل على القدرة ، وهو الذي يجاب به على الكفرة ، كما في قوله تعالى :قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] ثم قال : من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره [ 80 \ 18 - 19 ] ذلك كله دليل على أن المراد بالأطوار في الآية ، هو ما جاء عن ابن عباس المشتملة عليه سورة " المؤمنون " .
تنبيه .
إن بيان أطوار خلقة الإنسان على النحو المتقدم أقوى في انتزاع الاعتراف بقدرة الله [ ص: 309 ] من العبد ، من يحيي المخلوق جملة ; لأنه يوقفه على عدة مراحل من حياته وإيجاده ، وكل طور منها آية مستقلة ، وهذا التوجيه موجود في الظواهر الكونية أيضا من سماء وأرض ، فالسماء كانت دخانا وكانت رتقا ففتقهما ، والأرض كانت على غير ما هي عليه الآن ، وبين الجميع في قوله : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها [ 79 \ 27 - 32 ] . وأجمع من ذلك كله في قوله تعالى في " فصلت " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا [ 41 \ 9 - 12 ] . ثم ختم تعالى هذا التفصيل الكامل بقوله : ذلك تقدير العزيز العليم [ 41 \ 12 ] ، ففيه بيان أن تلك الأطوار في المخلوقات بتقدير معين ، وأنه بعلم ، ومن العزيز سبحانه ، فكان من الممكن خلقها دفعة واحدة ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
ولكن العرض على هذا التفصيل أبعد أثرا في نفس السامع وأشد تأثيرا عليه . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا في هذه الآية مع ما قبلها ثلاثة براهين من براهين البعث الأربعة التي كثر مجيئها في القرآن :
الأولى : خلق الإنسان : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] .
والثانية : خلق السماوات والأرض : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] .
[ ص: 310 ] والثالثة : إحياء الأرض بعد موتها : فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] .
والرابع : الذي لم نذكر هنا هو إحياء الموتى بالفعل ، كقتيل بني إسرائيل : فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى [ 2 \ 73 ] .
وقد تقدم تفصيل ذلك في أكثر من موضع للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - وهنا سياق هذه البراهين للرد على المكذبين بالبعث ، ولكن في هذا السياق إشكال فيما يبدو كبير وهو قوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا [ 71 \ 15 ] .
وإذا كان السياق للاستدلال بالمعلوم المشاهد على المجهول الغيبي ، فإن خلق الإنسان أطوارا محسوس مشاهد ومسلم به ، وإنبات الإنسان من الأرض بإطعامه من نباتها ، وإحياؤها بعد موتها ، واهتزازها ، وإنباتها النبات أمر محسوس .
ويمكن أن يقال للمخاطب : كما شاهدت خلق الإنسان من عدم وتطوره أطوارا ، وشاهدت إحياء الأرض الميتة ، فإن الله الذي خلقك وأحيا لك الأرض الميتة قادر على أن يعيدك ويخرجك منها إخراجا .
ولكن كيف تقول : وكما شاهدت خلق السماوات سبعا طباقا ، فإن القادر على ذلك قادر على بعثك . والحال أن الإنسان لم يشاهد خلق السماوات سبعا طباقا ، ولا رأى كيف خلقها الله سبعا طباقا ، والإشكال هنا هو كيف قيل لهم : ألم تروا كيف [ 71 \ 15 ] .
والكيف للحالة والهيئة ، وهم لم يشاهدوها كما قال تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [ 18 \ 51 ] .
وكيف يستدلون بالمجهول عندهم على المغيب عنهم ؟
وهنا تساءل ابن كثير تساؤلا واردا ، وهو قوله : طباقا أي : واحدة فوق واحدة ، وهل هذا يتلقى من جهة السمع فقط ؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس ، مما علم من التسيير والكسوفات . وأظنه يعني التسيير من السير ، فإن الكواكب السبعة السيارة يكسف بعضها بعضا ، فأدناها القمر في السماء الدنيا ، وذكر الكواكب السبعة في السماوات السبع ، وكلام أهل الهيئة ولم يتعرض للإشكال بحل يركن إليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-20, 12:12 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (569)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 311 إلى صـ 318
[ ص: 311 ] وقال القرطبي : قوله تعالى : ألم تروا كيف على جهة الإخبار لا المعاينة .
كما تقول : ألم تر كيف فعلت بفلان كذا ؟
وعلى كلام القرطبي يرد السؤال الأول ، إذا كان ذلك على جهة الإخبار ، فكيف يجعل الخبر دليلا على خبر آخر لا يدرك إلا بالسمع ؟
والجواب عن ذلك مجملا مما تشير إليه آيات القرآن الكريم كالآتي :
أولا : إن تساؤل ابن كثير هل يتلقى ذلك من جهة السمع فقط ؟ أو هو من الأمور المدركة بالحس ، لا محل له ; لأنه لا طريق إلا النقل فقط ، كما قال تعالى : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم [ 18 \ 51 ] ، أي : آدم . فلم نعلم كيف خلق ، ولا كيف سارت الروح في جسم جماد صلصال ، فتحول إلى جسم حساس نام ناطق .
وأما قول القرطبي : إنه على جهة الإخبار لا المعاينة ، فهو الذي يشهد له القرآن .
ويجيب القرآن على السؤال الوارد عليه ، وذلك في قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود [ 41 \ 9 - 13 ] ; لأن الله تعالى خاطب هنا الكفار قطعا ; لقوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين .
وخاطبهم بأمور مفصلة لم يشهدوها قطعا من خلق الأرض في يومين ، ومن تقدير أقواتها في أربعة أيام ، ومن استوائه إلى السماء وهي دخان .
ومن قوله لها وللأرض : ائتيا طوعا أو كرها .
ومن قولهما : أتينا طائعين .
[ ص: 312 ] ومن قضائهن سبع سماوات في يومين .
ومن وحيه في كل سماء أمرها .
كل ذلك تفصيل لأمور لم يشهدوها ولم يعلموا عنها بشيء ، ومن ضمنها قضاؤه سبع سماوات ، فكان كله على سبيل الإخبار لجماعة الكفار .
وعقبه بقوله : ذلك تقدير العزيز العليم ; فكان مقتضى هذا الإخبار وموجب هذا التقدير من العزيز العليم ، أن يصدقوا أو أن يؤمنوا . وهذا من خصائص كل إخبار يكون مقطوعا بصدقه من كل من هو واثق بقوله : يقول الخبر ، وكان لقوة صدقه ملزما لسامعه ، ولا يبالي قائله بقبول السامع له أو إعراضه عنه .
ولذا قال تعالى بعد ذلك مباشرة : فإن أعرضوا أي : بعد إعلامهم بذلك كله ، فلا عليك منهم : فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود .
وحيث إن الله خاطبهم هنا ألم تروا كيف فكان هذا أمرا لفرط صدق الإخبار به ، كالمشاهد المحسوس الملزم لهم
وقد جاءت السنة ، وبينت تلك الكيفية أنها سبع طباق ، بين كل سماء والتي تليها مسيرة خمسمائة عام ، وشمل كل سماء وسمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام .
وقد يقال : إن الرؤية هنا في الكيفية حاصلة بالعين محسوسة ، ولكن في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء والمعراج ; حيث عرج به ورأى السبع الطباق ، وكان يستأذن لكل سماء . ومشاهدة الواحد من الجنس كمشاهدة الجميع ، فكأننا شاهدناها كلنا لإيماننا بصدقه - صلى الله عليه وسلم - ولحقيقة معرفتهم إياه - صلى الله عليه وسلم - في الصدق من قبل . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا ينص تعالى هنا أن قوم نوح اتبعوا من هذا وصفه مع أن المال يزيد الإنسان نفعا . وقد بين تعالى أن المال فعلا قد يورث خسارة وهلاكا كما في قوله تعالى : إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 - 7 ] ، أي : بالطغيان يكون إهلاكا .
قوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا
[ ص: 313 ] في هذا نص على أن نبي الله نوحا طلب من الله إهلاك من على الأرض جميعا ، مع أن عادة الرسل الصبر على أممهم ، وفيه إخبار نبي الله نوح عمن سيولد من بعد ، وأنهم لم يلدوا إلا فاجرا كفارا ، فكيف دعا على قومه هذا الدعاء ، وكيف حكم على المواليد فيما بعد ؟
والقرآن الكريم بين هذين الأمرين :
أما الأول : فإنه لم يدع عليهم هذا الدعاء إلا بعد أن تحدوه ويئس منهم ، أما تحديهم ففي قولهم : يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا [ 11 \ 32 ] .
وقوله : كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [ 54 \ 9 - 10 ] .
وأما يأسه منهم ; فلقوله تعالى : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ 11 \ 36 ] .
وأما إخباره عمن سيولد : بأنه لن يولد لهم إلا فاجر كفار ، فهو من مفهوم الآية المذكورة آنفا ; لأنه إذا لم يؤمن من قومه إلا من قد آمن ، فسواء في الحاضر أو المستقبل .
وكذلك بدليل الاستقراء ، وهو دليل معتبر شرعا وعقلا ، وهو أنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما وما آمن معه إلا قليل ، كانوا هم ومن معهم غيرهم حمل سفينة فقط ، فكان دليلا على قومه أنهم فتنوا بالمال ولم يؤمنوا له ، وهو دليل نبي الله موسى - عليه السلام - أيضا على قومه .
كما قال تعالى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 88 ] .
فأخبر نبي الله موسى عن قومه : أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ، وذلك من استقراء حالهم في مصر لما أراهم الآية الكبرى : فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 21 - 24 ] .
وبعد أن ابتلاهم الله بما قص علينا في قوله : [ ص: 314 ] فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين [ 7 \ 133 ] .
وقوله تعالى بعدها : ولما وقع عليهم الرجز قالوا ياموسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون [ 7 \ 134 - 135 ] .
فمن كانت هذه حالته وموسى يعاين ذلك منهم ، لا شك أنه يحكم عليهم أنهم لن يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .
وكذلك كان دليل الاستقراء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قومه ، استدل به على عكس الأقوام الآخرين ، حينما رجع من الطائف ، وفعلت معه ثقيف ما فعلت فأدموا قدميه ، وجاءه جبريل ومعه ملك الجبال ، واستأذنه في أن يطبق عليهم الأخشبين ، فقال : " لا ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول : لا إله إلا الله " وذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - علم باستقراء حالهم ; أنهم لا يعلمون فهم يمتنعون عن الإيمان لقلة تعلمهم ، وأنهم في حاجة إلى التعليم .
فإذا علموا تعلموا ، وأن طبيعتهم قابلة للتعليم لا أنهم كغيرهم في إصرارهم ; لأنه شاهد من كبارهم إذا عرض عليهم القرآن ، وخوطبوا بخطاب العقل ، ووعوا ما يخاطبون به ، وسلموا من العصبية والنوازع الأخرى ، فإنهم يستجيبون حالا كما حدث لعمر وغيره - رضي الله عنهم - إلا من أعلمه الله بحاله مثل : الوليد بن المغيرة : ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا إلى قوله إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إلى قوله سأصليه سقر [ 74 \ 11 - 26 ] فعلم - صلى الله عليه وسلم - حاله ومآله ، ولذا فقد دعا عليه يوم بدر .
ومثله أبو لهب لما تبين حاله بقوله تعالى : سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب [ 111 \ 3 - 4 ] فلكون العرب أهل فطرة ، ولكون الإسلام دين الفطرة أيضا كانت الاستجابة إليه أقرب .
انظر مدة مكثه - صلى الله عليه وسلم - من البعثة إلى انتقاله إلى الرفيق الأعلى ثلاثا وعشرين سنة ، كم عدد من أسلم فيها بينما نوح - عليه السلام - يمكث ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يؤمن معه إلا القليل .
[ ص: 315 ] ولذا كان قول نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - : ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، كان بدليل الاستقراء من قومه ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى : وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا لم يبين هنا هل استجيب له أم لا ؟ وبينه في مواضع أخر ، منها قوله : ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له [ 21 \ 76 ] .
وفي هذه السورة نفسها وقبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا [ 71 \ 25 ] ، فجمع الله لهم أقصى العقوبتين : الإغراق ، والإحراق ، مقابل أعظم الذنبين : الضلال ، والإضلال .
وكذلك بين تعالى كيفية إهلاك قومه ونجاته هو وأهله ومن معه في قوله : فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا الآية [ 54 \ 10 - 14 ] .
قال ابن كثير : لقد أغرق الله كل من على وجه الأرض من الكفار ، حتى ولد نوح من صلبه . وهنا تنبيه على قضية ولد نوح في قوله يابني اركب معنا إلى قوله فكان من المغرقين [ 11 \ 42 - 43 ] لما أخذت نوحا العاطفة على ولده ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، إلى قوله : إنه ليس من أهلك [ 11 \ 45 - 46 ] أثار بعض الناس تساؤلا حول ذلك في قراءة : إنه عمل غير صالح [ 11 \ 46 ] إنه عمل ماض يعمل ، أي : بكفره .
وتساءلوا حول صحة نسبه ، والحق أن الله تعالى قد عصم نساء الأنبياء ; إكراما لهم ، وأنه ابنه حقا ; لأنه لما قال : إن ابني من أهلي تضمن هذا القول أمرين : نسبته إليه في بنوته ، ثانيا : نسبته إليه في أهله ، فكان الجواب عليه من الله بنفي النسبة الثانية لا الأولى ، " إنه ليس من أهلك " . ولم يقل : إنه ليس ابنك ، والأهل أعم من الابن ، ومعلوم أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، والعكس بالعكس ، فلما نفى نسبته إلى أهله علمنا أن نسبته إليه بالبنوة باقية ، ولو لم يكن ابنه لصلبه لكان النفي ينصب عليها .
ويقال : إنه ليس ابنك ، وإذا نفى عنه البنوة انتفت عنه نسبته إلى أهله ، وكذلك قوله [ ص: 316 ] تعالى بعدها : ولا تخاطبني في الذين ظلموا [ 11 \ 37 ] أي ; لأن الظالمين ليسوا من الأهل بالنسبة للدين ; لأن الدين يربط البعيدين ، والظلم الذي هو بمعنى الكفر يفرق القريبين . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 317 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْجِنِّ .
قوله تعالى : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا
فيه إثبات سماع الجن للقرآن وإعجابهم به ، وهدايتهم بهديه ، وإيمانهم بالله . وتقدمت الإشارة بذلك من كلام الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الأحقاف " عند قوله تعالى : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن [ 46 \ 29 ] ، وفي آية " الأحقاف " بيان لما قام به النفر من الجن بعد سماعهم القرآن ، بأنهم لما قضي سماعهم ولوا إلى قومهم منذرين .
وفيها : بيان أنهم عالمون بكتاب موسى وهو التوراة ، وقد شهدوا بأن القرآن مصدق لما بين يديه ، وأنه يهدي إلى صراط مستقيم ، كما جاء هنا قوله : يهدي إلى الرشد .
قوله تعالى : وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا
والشطط : البعيد المفرط في البعد ، قال عنترة في معلقته :
شطت مزار العاشقين فأصبحت عسرا على طلابها ابنة مخرم
وروي :
حلت بأرض الزائرين فأصبحت وأنشد أيضا لغيره :
شط المزار بجذوي وانتهى الأمل ففي كلا البيتين الشطط : الإفراط في البعد ، إذ في الأول قال : فأصبحت عسرا على طلابها ، وفي الثاني قال : وانتهى الأمل ، وقد بين القرآن أن المراد بالشطط البعد الخاص ، [ ص: 318 ] وهو البعد عن الحق ، كما في قوله تعالى : فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط [ 38 \ 22 ] .
ومنه البعد عن حقيقة التوحيد إلى الشرك ، وهو المراد هنا كما في سورة " الكهف " في قوله : لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا [ 18 \ 14 ] ; لأن دعاءهم غير الله أبعد ما يكون عن الحق .
ويدل على أن المراد هنا ما جاء في هذه السورة : فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا [ 72 \ 2
قوله تعالى : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا
بين تعالى المراد بتلك الحراسة : بأنه لحفظها عن استراق السمع ، كما في قوله : إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا [ 37 \ 6 - 7 ] ، وبين تعالى حالهم قبل ذلك بأنهم كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع ، فيسترقون الكلمة وينزلون بها إلى الكاهن ، فيكذب معها مائة كذبة ، كما بين تعالى أن الشهب تأتيهم من النجوم .
كما في قوله تعالى : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين [ 67 \ 5 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-05-20, 12:16 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (570)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 319 إلى صـ 326
قوله تعالى : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا
فيه نص على أن الجن لا تعلم الغيب ، وقد صرح تعالى في قوله : فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين [ 34 \ 14 ] .
وقد يبدو من هذه الآية إشكال ، حيث قالوا أولا : إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به [ 72 \ 1 - 2 ] ثم يقولون وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا [ 72 \ 10 ] والواقع أنهم تساءلوا لما لمسوا السماء فمنعوا منها لشدة حراستها ، وأقروا أخيرا لما سمعوا القرآن وعلموا السبب في تشديد حراسة السماء ; لأنهم لما منعوا ما كان يخطر ببالهم أنه من أجل الوحي ; لقوله وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا [ 72 \ 7 ] .
وقوله تعالى : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا [ 72 \ 8 ] يدل بفحواه أنهم منعوا من السمع ، كما قالوا : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] [ ص: 319 ] ولكن قد يظن ظان أنهم يحاولون السماع ولو مع الحراسة الشديدة ، ولكن الله تعالى صرح بأنهم لم ولن يستمعوا بعد ذلك ، كما قال تعالى : إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] .
قوله تعالى : وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا وهذا كما قال تعالى : ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم [ 5 \ 66 ] ، وقوله : ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض [ 7 \ 96 ] فكلها نصوص على أن الأمة إذا استقامت على الطريقة القويمة شرعة الله لفتح عليهم بركات من السماء والأرض .
ومثل ذلك قوله تعالى : فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [ 71 \ 10 - 12 ] .
ومفهوم ذلك : أن من لم يستقم على الطريقة فقد يكون انحرافه أو شركه موجبا لحرمانه من نعمة الله تعالى عليه ، كما جاء صريحا في قوله : واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر [ 18 \ 10 - 34 ] .
فهذه نعمة كاملة ، كما وصف الله تعالى فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا إلى قوله : وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول ياليتني لم أشرك بربي أحدا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا [ 18 \ 34 - 43 ] .
وما أشبه الليلة بالبارحة فيما يعيشه العالم الإسلامي اليوم بين الاتجاهين المتناقضين الشيوعي والرأسمالي . وما أثبته الواقع من أن المعسكر الشيوعي الذي أنكر وجود الله ، وكفر بالذي خلقه من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلا ، فإنه وكل من يسير في فلكه مع مدى تقدمه الصناعي ، فإنه مفتقر لكافة الأمم الأخرى في استيراد القمح ، وإن روسيا بنفسها [ ص: 320 ] لتفرج عن بعض احتياطها من الذهب لتشتري قمحا . ولا زالت تشتريه من المعسكر الرأسمالي .
وهكذا الدول الإسلامية التي تأخذ في اقتصادياتها بالمذهب الاشتراكي المتفرع من المذهب الشيوعي ; فإنها بعد أن كانت تفيض بإنتاجها الزراعي على غيرها ، أصبحت تستورد لوازمها الغذائية من خارجها ، وتلك سنة الله في خلقه ، ولو كانوا مسلمين كما قص الله تعالى علينا قصة أصحاب الجنة : إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون ، إلى قوله فأصبحت كالصريم ، إلى قوله قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين [ 68 \ 17 - 29 ] .
ولذا كانت الزكاة طهرة للمال ونماء له .
وقوله لنفتنهم فيه [ 72 \ 17 ] ، أي : نختبرهم فيما هم فاعلون من شكر النعمة وصرفها فيما يرضي الله ، أم الطغيان بها ومنع حقها ؟ إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 \ 6 - 7 ] ، إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] ، إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 15 - 16 ] .
قوله تعالى : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا
" المساجد " : جمع مسجد . والمسجد لغة اسم مكان على وزن مفعل ، كمجلس على غير القياس مكان الجلوس ، وهو لغة يصدق على كل مكان صالح للسجود .
وقد ثبت من السنة أن الأرض كلها صالحة لذلك ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ، واستثنى منها أماكن خاصة نهى عن الصلاة فيها ; لأوصاف طارئة عليها ، وهي المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، وفوق الحمام ، ومواضع الخسف ، ومعاطن الإبل ، والمكان المغصوب على خلاف فيه من حيث الصحة وعدمها ، والبيع .
وقد عد الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تسعة عشر موضعا عند قوله تعالى : ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين [ 15 \ 80 ] في الكلام على حكم أرض الحجر ، ومواطن الخسف ، وساق كل موضع بدليله ، وهو بحث مطول مستوفى ; والمسجد عرفا [ ص: 321 ] كل ما خصص للصلاة ، وهو المراد بالإضافة هنا لله تعالى ، وهي إضافة تشريف وتكريم مع الإشعار باختصاصها بالله ، أي : بعبادته وذكره ، كما قال تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة [ 24 \ 36 - 37 ] .
ولهذا منعت من اتخاذها لأمور الدنيا من بيع وتجارة ، كما في الحديث : " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له : لا أربح الله تجارتك " رواه النسائي ، والترمذي وحسنه .
وكذلك إنشاد الضالة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا سمعتم من ينشد ضالة بالمسجد ، فقولوا له : لا ردها الله عليك ; فإن المساجد لم تبن لذلك " رواه مسلم .
وفي حديث الأعرابي الذي بال في المسجد قال له - صلى الله عليه وسلم - : " إن هذه المساجد لم تبن لذلك ; إنما هي لذكر الله وما والاه " ، وفي موطأ مالك : أن عمر - رضي الله عنه - بنى رحبة في ناحية المسجد تسمى : البطحاء . وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا ، أو يرفع صوته ، فليخرج إلى هذه الرحبة .
واللغط هو : الكلام الذي فيه جلبة واختلاط . وأل في المساجد : للاستغراق ; فتفيد شمول جميع المساجد ، كما تدل في عمومها على المساواة ، ولكن جاءت آيات تخصص بعض المساجد بمزيد فضل واختصاص ، وهي :
المسجد الحرام ; خصه الله تعالى بما جاء في قوله : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 96 - 97 ] . فذكر هنا سبع خصال ليست لغيره من المساجد من أنه : أول بيت وضع للناس ، ومبارك ، وهدى للعالمين ، وفيه آيات بينات ، ومقام إبراهيم ، ومن دخله كان آمنا ، والحج والعمرة إليه ، وآيات أخر .
والمسجد الأقصى ; قال تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير [ 17 \ 1 ] فخص بكونه مسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه ، وبالبركة حوله ، وأري - صلى الله عليه وسلم - فيه من آيات ربه .
[ ص: 322 ] وقد كان من الممكن أن يعرج به إلى السماء من جوف مكة ، ومن المسجد الحرام ، ولكن ليريه من آيات الله : كعلامات الطريق ; لتكون دليلا له على قريش في إخباره بالإسراء والمعراج ، وتقديم جبريل له الأقداح الثلاثة : بالماء ، واللبن ، والخمر ، واختياره اللبن رمزا للفطرة . واجتماع الأنبياء له والصلاة بهم في المسجد الأقصى ، بينما رآهم في السماوات السبع ، وكل ذلك من آيات الله أريها - صلى الله عليه وسلم - في المسجد الأقصى .
والمسجد النبوي ، ومسجد قباء : فمسجد قباء : نزل فيه قوله تعالى : لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين [ 9 \ 108 ] .
فجاء في صحيح مسلم : أن أبا سعيد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أي مسجد أسس على التقوى من أول يوم ؟ فأخذ - صلى الله عليه وسلم - حفنة من الحصباء وضرب بها أرض مسجده ، وقال : " مسجدكم هذا " .
وجاء في بلوغ المرام وغيره : حديث ابن عباس - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل أهل قباء ، فقال : " إن الله يثني عليكم " ، فقالوا : إنا نتبع الحجارة الماء ، رواه البزار بسند ضعيف .
قال ابن حجر : وصححه ابن خزيمة من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بدون ذكر الحجارة .
وقال صاحب وفاء الوفاء : وروى ابن شيبة من طرق ما حاصله أن : الآية لما نزلت أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل قباء .
وفي رواية : أهل ذلك المسجد .
وفي رواية : بني عمرو بن عوف . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ، فما بلغ من طهوركم ؟ قالوا : نستنجي بالماء " .
قال : وروى أحمد ، وابن شيبة ، واللفظ لأحمد عن أبي هريرة ، قال : انطلقت إلى مسجد التقوى أنا وعبد الله بن عمر وسمرة بن جندب ، فأتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا لنا : انطلقوا إلى مسجد التقوى ، فانطلقنا نحوه . فاستقبلنا يداه على كاهل أبي بكر وعمر فثرنا في وجهه ، فقال : من هؤلاء يا أبا بكر ؟ فقال : عبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وجندب .
[ ص: 323 ] فحديث مسلم في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتلك النصوص في مسجد قباء .
وقد قال ابن حجر - رحمه الله - : والحق أن كلا منهما أسس على التقوى ، وقوله تعالى : فيه رجال يحبون أن يتطهروا [ 9 \ 108 ] ظاهر في أهل قباء .
وقيل : إن حديث مسلم في خصوص مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جاء ردا على اختلاف رجلين في المسجد المعني بها ، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم أن الآية ليست خاصة بمسجد قباء ، وإنما هي عامة في كل مسجد أسس على التقوى ، وأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما هو معلوم في الأصول .
وعليه ، فالآية إذا اشتملت وتشتمل على كل مسجد أينما كان ، إذا كان أساسه من أول يوم بنائه على التقوى ، ويشهد لذلك سياق الآية بالنسبة إلى ما قبلها وما بعدها ، فقد جاءت قبلها قصة مسجد الضرار بقوله : والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه [ 9 \ 107 - 108 ] .
ومعلوم أن مسجد الضرار كان بمنطقة قباء ، وطلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي لهم فيه تبركا في ظاهر الأمر ، وتقريرا لوجوده يتذرعون بذلك ، ولكن الله كشف عن حقيقتهم .
وجاءت الآية بمقارنة بين المسجدين ، فقال تعالى له : لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا الآية [ 9 \ 108 ] .
وجاء بعد ذلك مباشرة للمقارنة مرة أخرى أعم من الأولى في قوله تعالى : أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم [ 9 \ 109 - 110 ] .
وبهذا يكون السبب في نزول الآية هو المقارنة بين مبدأين متغايرين ، وأن الأولية في الآية في قوله : من أول يوم [ 9 \ 108 ] أولية نسبية ، أي : بالنسبة لكل مسجد في أول [ ص: 324 ] يوم بنائه ، وإن كان الظاهر فيها أولية زمانية خاصة ، وهو أول يوم وصل - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، ونزل بقباء ، وتظل هذه المقارنة في الآية موجودة إلى ما شاء الله في كل زمان ومكان كما قدمنا .
وقد اختصت تلك المساجد الأربعة بأمور تربط بينها بروابط عديدة ، أهمها : تحديد مكانها حيث كان بوحي أو شبه الوحي ، ففي البيت الحرام قوله تعالى : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت [ 22 \ 26 ] .
وفي المسجد الأقصى ما جاء في الأثر عنه : أن الله أوحى إلى نبيه داود أن ابن لي بيتا ، قال : وأين تريدني أبنيه لك يا رب ؟ قال : حيث ترى الفارس المعلم شاهرا سيفه . فرآه في مكانه الآن ، وكان حوشا لرجل من بني إسرائيل . إلى آخر القصة في البيهقي .
وفي مسجد قباء بسند فيه ضعف . لما نزل - صلى الله عليه وسلم - قباء ، قال : " من يركب الناقة " إلى أن ركبها علي ، فقال له : " أرخ زمامها " فاستنت ، فقال : " خطوا المسجد حيث استنت " .
وفي المسجد النبوي : جاء في السير كلها : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان كلما مر بحي من أحياء المدينة ، وقالوا له : هلم إلى العدد والعدة ، فيقول : " خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة " ، حتى وصلت إلى أمام بيت أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - . وكان أمامه مربد لأيتام ومقبرة ليهود ، فاشترى المكان ونبش القبور وبنى المسجد .
وكذلك في البناء فكلها بناء رسل الله ، فالمسجد الحرام بناه إبراهيم - عليه السلام - ، أي البناء الذي ذكره القرآن وما قبله فيه روايات عديدة ، ولكن الثابت في القرآن قوله تعالى : وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل [ 2 \ 127 ] .
وكذلك بيت المقدس ، وبينه وبين البيت أربعون سنة ، كما في حديث عائشة في البخاري ، أي : تجديد بنائه .
وكذلك مسجد قباء ، فقد شارك - صلى الله عليه وسلم - في بنائه ، وجاء في قصة بنائه أن رجلا لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - حاملا حجرا ، فقال : دعني أحمله عنك يا رسول الله ، فقال له : " انطلق وخذ غيرها ، فلست بأحوج من الثواب مني " .
وكذلك مسجده الشريف بالمدينة المنورة ، حين بناه أولا من جذوع النخل وجريده [ ص: 325 ] ثم بناه مرة أخرى بالبناء بعد عودته من تبوك .
ولهذه الخصوصيات لهذه المساجد الأربعة ، تميزت عن عموم المساجد كما قدمنا .
ومن أهم ذلك مضاعفة الأعمال فيها ، أصلها الصلاة ، كما بوب لهذا البخاري بقوله : باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة . وساق الحديثين .
الأول حديث : " لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - " .
والحديث الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام " .
كما اختص المسجد النبوي بروضته ، التي هي روضة من رياض الجنة .
وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ومنبري على ترعة من ترع الجنة " ، وهو حديث مشهور : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنة " .
واختص مسجد قباء بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من تطهر في بيته ، ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين ، كان له كأجر عمرة " ، أخرجه ابن ماجه وعمر بن شبة بسند جيد ، ورواه أحمد والحاكم ، وقال : صحيح بسند .
قال في وفاء الوفاء : وقال عمر بن شبة : حدثنا سويد بن سعيد ، قال حدثنا أيوب بن حيام ، عن سعيد بن الرقيش الأسدي ، قال : جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلس وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! : ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة .
وقد اشتهر هذا المعنى عند العامة والخاصة ، حتى قال عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :
فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء من اللائي سوالفهن غيد
عليهن الملاحة بالبهاء
[ ص: 326 ] وروى ابن شبة بسند صحيح من طريق عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ، قالت : سمعت أبي يقول : لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحب إلي من أن آتي بيت المقدس مرتين . لو يعلمون ما في قباء ; لضربوا إليه أكباد الإبل ، وغير ذلك من الآثار مرفوعة وموقوفة ، مما يؤكد هذا المعنى من أن قباء اختص بأن من تطهر في بيته وأتى إليه عامدا ، وصلى فيه ركعتين ; كان له كأجر عمرة .
تنبيه .
وهنا سؤال يفرض نفسه : لماذا كان مسجد قباء دون غيره ، ولماذا اشترط التطهر في بيته لا من عند المسجد ؟ ولقد تطلبت ذلك طويلا فلم أقف على قول فيه ، ثم بدا لي من واقع تاريخه ، وارتباطه بواقع المسلمين والمسجد الحرام : أن مسجد قباء له ارتباطات عديدة بالمسجد الحرام :
أولا : من حيث الزمن ، فهو أسبق من مسجد المدينة .
ومن حيث الأولية النسبية ، فالمسجد الحرام أول بيت وضع للناس .
ومسجد قباء أول مسجد بناه المسلمون .
والمسجد الحرام بناه الخليل .
ومسجد قباء بناه خاتم المرسلين .
والمسجد الحرام كان مكانه باختيار من الله ، وشبيه به مكان مسجد قباء .
ومن حيث الموضوعية; فالمسجد الحرام مأمن وموئل للعاكف والباد .
ومسجد قباء مأمن ومسكن وموئل للمهاجرين الأولين ، ولأهل قباء ، فكان للصلاة فيه شدة ارتباط بالمسجد الحرام تجعل المتطهر في بيته والقاصد إليه للصلاة فيه كأجر عمرة . ولو قيل : إن اشتراط التطهير في بيته لا عند المسجد شدة عناية به أولا ، وتمحيص القصد إليه ثانيا ، وتشبيه أو قريب بالفعل من اشتراط الإحرام للعمرة من الحل ، لا من عند البيت في العمرة الحقيقة ، لما كان بعيدا . فالتطهر من بيته والذهاب إلى قباء للصلاة فيه كالإحرام من الحل والدخول في الحرم للطواف والسعي ، كما فيه تعويض المهاجرين عما فاتهم من جوار البيت الحرام قبل الفتح . - والله تعالى أعلم - .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:28 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (571)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 327 إلى صـ 334
تنبيه آخر .
إن مما ينبغي أن يعلم : أن للمسجد في المجتمع الإسلامي رسالة عظمى ، ألزم ما يكون على المسلمين إحياؤها : وهي أن المسجد لهم هو بيت الأمة فيهم ، لجميع مصالحهم العامة والخاصة تقريبا مما يصلح له ، فكأن المسجد النبوي في أول أمر المسلمين المثال لذلك .
إذ كان المصلى الذي تتضاعف فيه الصلاة ، وكان المعهد لتلقي العلم منه - صلى الله عليه وسلم - ، ومن جبريل - عليه السلام - ومن الأئمة ورثة الأنبياء ، ولا يزال - بحمد الله - كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالما كعالم المدينة " .
وكما قال : " من راح إلى مسجدي لعلم يتعلمه أو يعلمه كان كمن غزا في سبيل الله " ، وكان فيه تعليم الصبيان للقراءة والكتابة ، وكان ولا يزال كذلك إلى اليوم - بحمد الله - ، وكان مقرا للإفتاء ، ومجلسا للقضاء ، ومقرا للضيافة ، ومنزلا للأسارى ، ومصحا للجرحى .
وقد ضربت لسعد فيه قبة لما أصابه سهم ليعوده - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، ومقرا للقيادة ، فتعقد فيه ألوية الجهاد ، وتبرم فيه معاهدات الصلح ، ومنزلا للوفود : كوفد تميم وعبد القيس ، وبيتا للمال : كمجيء مال البحرين وحراسة أبي هريرة له .
ولما نقب بيت مال المسلمين ، قال عمر - رضي الله عنه - لعامله هناك : انقله إلى المسجد فلا يزال المسجد فيه مصلي ، أي : ليتولى حراسته ومقيلا للعزاب ومبيتا للغرباء . إلى غير ذلك مما لا يوجد في أي مؤسسة أخرى . ولا تتأتى إلا في المسجد ، مما يؤكد رسالة المسجد ، ويستدعي الانتباه إليه وحسن الاستفادة منه .
وبمناسبة اختصاص هذه المساجد الأربعة بمزيد الفضل وزيادة مضاعفة الصلاة ، فإن في المسجد النبوي خاصة عدة مباحث طالما أشير إليها في عدة مواضع وهي من الأهمية بمكان ، وأهمها أربعة مباحث نوردها بإيجاز ، وهي :
الأول : مضاعفة الصلاة بألف . وهل هي خاصة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي كان من بنائه - صلى الله عليه وسلم - ، أم يشمل ذلك ما دخله من زيادات .
وكذلك امتداد الصفوف خارجه عن الزحمة ، وهل هي في الفرض فقط أم فيه وفي النفل ؟ ، وهل هي للرجال والنساء أم للرجال فقط ؟ .
[ ص: 328 ] وقضية الأربعين صلاة الثانية بعد التوسعة الأولى لعمر وعثمان ، ونقل المحراب إلى القبلة عن الروضة ، فأي الصفين أفضل ؟ الصف الأول أم صفوف الروضة .
الثالثة : صلاة المأمومين عند الزحام أمام الإمام .
الرابعة : حديث شد الرحال والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يأتي مبحث موجب الربط بين أول الآية وآخرها ، وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا
لما فيه من التنويه والإيماء إلى بناء المساجد على القبور مع تمحيص العبادة لله وحده .
وتلك المباحث كنت قد فصلتها في رسالة المسجد النبوي التي كتبتها من قبل ، ونجمل ذلك هنا .
المبحث الأول .
هل الفضلية خاصة بالفرض ، أم بالنفل ؟ اتفق الجمهور على الفرض ، ووقع الخلاف في النفل ، ما عدا تحية المسجد ركعتين بعد الجمعة وركعتين قبل المغرب .
وأما الخلاف في النوافل الراتبة في الصلوات الخمس وفي قيام الليل ، وسبب الخلاف هو عموم : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " فمن حمله على العموم شمله بالنافلة ، ومن حمل العموم على الأصل فيه قصره على الفريضة ، إذ العام على الإطلاق يحمل على الأخص منه ، وهي الفريضة .
وقد جاء حديث زيد بن ثابت عند أبي داود وغيره : " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " .
وجاء التصريح بمسجده بقوله : " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة " .
وما جاء عن الترمذي في الشمائل ومجمع الزوائد : أن عبد الله بن سعد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في بيته والصلاة في المسجد ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " قد ترى ما أقرب بيتي من المسجد ; فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد ، إلا أن تكون المكتوبة " .
وفي رواية : " أرأيت قرب بيتي من المسجد ؟ " ، قال : بلى . قال : " فإني [ ص: 329 ] أصلي النافلة في بيتي " .
المبحث الثاني .
أقوال الأئمة - رحمهم الله - ، وعلى هذا التفصيل كانت أقوال الأئمة - رحمهم الله - كالتالي :
قول الإمام أبي حنيفة : إن النافلة في البيت أفضل ، وإذا وقعت في المسجد النبوي كان لها نفس الأجر ، أي : أنها عامة في كل الصلوات . ولكنها في البيت أفضل هي منها في المسجد .
وعند الشافعي : اختلفت الرواية عنه ، فذكر النووي في شرح مسلم العموم . وجاء عنه في المجموع ما يفيد الخصوص وإن لم يصرح به .
والنصوص في صلاة النافلة في البيت عديدة ، منها : " اجعلوا صلاتكم في بيوتكم " .
ومنها : " أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم " .
وذكر القرطبي عن مسلم : " إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده ; فليجعل لبيته نصيبا من صلاته " .
وعند المالكية : يعم الفرض والنفل ، واستدل لذلك بأن الحديث في معرض الامتنان ، والنكرة إذا كانت في سياق الامتنان تعم ، أي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " ، فصلاة لفظ نكرة .
وفي معرض الامتنان والتفضل بهذا الأجر العظيم ، فكان عاما في الفرض والنفل ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - لا خلاف بين الفريقين . إذ فضيلة الألف حاصلة لكل صلاة صلاها الإنسان فيه فرضا كانت أو نفلا .
وصلاة النافلة في البيت تكون أفضل منها في المسجد بدوام صلاته - صلى الله عليه وسلم - النوافل في البيت مع قرب بيته من المسجد ، كما أن هذه الفضيلة تشمل صلاة الرجل والمرأة .
[ ص: 330 ] ولكن صلاة المرأة مع ذلك أفضل في بيتها منها في المسجد ، وهذا هو المبحث الثاني ، أي : أيهما أفضل للمرأة : صلاتها في بيتها أم في المسجد النبوي ؟ .
وهذه المسألة قد بحثها فضيلة الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال [ 24 \ 37 ] .
وأن مفهوم " رجال " مفهوم صفة في هذه المسألة لا مفهوم لقب ; وعليه فالنساء يسبحن في بيوتهن ، وقد ساق البحث وافيا في عموم المساجد وخصوص المسجد النبوي ، مما يكفي توسعا .
المبحث الثالث .
وهو : هل المضاعفة خاصة بمسجده - صلى الله عليه وسلم - الذي بناه ، والذي كان موجودا أثناء حياته - صلى الله عليه وسلم - ، أو أنها توجد فيه وفيما دخله من الزيادة من بعده .
أما مثار البحث هو ما جاء في نص الحديث اسم الإشارة في مسجدي هذا ، فقال بعض العلماء : اسم الإشارة موضوع للتعيين ، وقال علماء الوضع : إنه موضوع بوضع عام لموضوع له خاص ، فيختص عند الاستعمال بمفرد معين ، وهو ما كان صالحا للإشارة الحسية ، وهو عين ما كان موجودا زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ومعلوم أن الإشارة لم تتناول الزيادة التي وجدت بعد تلك الإشارة ، فمن هنا جاء الخلاف والتساؤل .
وقد نشأ هذا التساؤل في زمن عمر - رضي الله عنه - عند أول زيادة زادها في المسجد النبوي ، فرأى بعض الصحابة يتجنبون الصلاة في تلك الزيادة ويرغبون في القديم منها ، فقال لهم : لولا أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد توسعة المسجد لما وسعته ، ووالله إنه لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو امتد إلى ذي الحليفة ، أو ولو امتد إلى صنعاء ، فهذا مثار البحث وسببه .
ولكن لو قيل : إنه في نفس الحديث مبحث لغوي آخر وهو أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " في [ ص: 331 ] مسجدي " ، بالإضافة إليه - صلى الله عليه وسلم - ، والإضافة تفيد التخصيص أو التعريف .
وفيه معنى العموم والشمول ، والآن مع الزيادة في كل زمان وعلى مر الأيام ، فإنه لم يزل هو مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعليه كان تصريح عمر : إنه لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
أقوال العلماء : الجمهور على أن المضاعفة في جميع أجزائه بما فيها الزيادة ، ونقل عن النووي في شرح مسلم : أنها خاصة بالمسجد .
الأول : قبل الزيادة ، وقيل : إنه رجع عنه . وهذا الرجوع موجود في المجموع شرح المهذب ، وعليه فلم يبق خلاف في المسألة .
وقال ابن فرحون : وقفت على كلام لمالك ، سئل عن ذلك فقال : ما أراه - عليه السلام - أشار بقوله : " في مسجدي هذا " إلا لما سيكون من مسجد بعده ، وأن الله أطلعه على ذلك .
وقد قدمت الإشارة إلى أن عمر - رضي الله عنه - ما زاد في المسجد إلا بعد أن سمع من الرسول - صلى الله عليه وسلم - رغبته في الزيادة ، فيكون تأييدا لقول مالك - رحمه الله - . وروي أيضا : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوما وهو في مصلاه في المسجد : " لو زدنا في مسجدنا " ، وأشار بيده نحو القبلة .
وفي رواية : " إني أريد أن أزيد في قبلة مسجدنا " ، مما يدل على أن الزيادة كانت في حسبان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومع الرغبة في الزيادة لم تأت إشارة إلى ما يغير حكم الصلاة في تلك الزيادة المنتظرة ، ولا يقال : إنها قبل وجودها لا يتعلق بها حكم ; لأننا رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رتب أحكاما على أمور لم توجد بعد : كمواقيت الإحرام المصري والشامي والعراقي ، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ستفتح اليمن ، وستفتح الشام ، وستفتح العراق " ، ومع كل منها يقول : " سيؤتى بأقوام يبسون هلم إلى الرخاء والسعة فيحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " .
وقال البعض : إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " في مسجدي هذا " لدفع توهم دخول سائر المساجد المنسوبة إليه بالمدينة غير هذا المسجد ، لا لإخراج ما سيزاد في المسجد النبوي . قاله [ ص: 332 ] السمهودي . اهـ .
ولكن لم يعلم أنه كانت هناك عدة مساجد له - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يكن إلا المسجد والمصلى ، وبقية المساجد أطلقت عليها اصطلاحا .
ولابن تيمية كلام موجز في ذلك ، وهو أن الزيادة كانت في عهدي عمر وعثمان - رضي الله عنهما - .
وقعت زيادة كل منهما من جهة القبلة ، ومع هذا فإن كلا منهما كان إذا صلى بالناس قام في القبلة الواقعة في تلك الزيادة ، فيمتنع أن تكون الصلاة في تلك الزيادة ليست لها فضيلة المسجد ، إذ يلزم عليه صلاةعمر وعثمان بالناس .
وصلاة الناس معهم في الصفوف الأولى في المكان المفضول مع ترك الأفضل . اهـ .
ومن كل ما قدمنا يتضح أن : حكم الزيادة في المسجد النبوي كحكم الأصل في مضاعفة الأجر إلى الألف .
وقد كنت سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ما يفيد ذلك ، وسيأتي ذلك - إن شاء الله - في مبحث الأربعين صلاة ، وصلاة الناس في الصف خارج المسجد .
تنبيه .
هذه المضاعفة أجمعوا على أنها في الكيف لا في الكم ، فلو أن على إنسان فوائت يوم خمس صلوات ، وصلى صلاة هي خير من ألف صلاة ، لن تسقط عنه شيئا من تلك الفوائت ، فهي في نظري بمثابة ثوب وثوب آخر أحدهما قيمته ألف درهم ، والآخر بدرهم واحد ، فكل منهما ثوب في مهمته ، ولن يلبسه أكثر من شخص في وقت مهما كان ثمنه .
وكذلك كالقلم والقلم ، فمهما غلا ثمن القلم ، فلن يكتب به شخصان في وقت واحد .
تنبيه آخر .
مما لا شك فيه أن للمسجد الأساسي خصائص لم توجد في بقية المسجد : كالروضة من الجنة . والمنبر على ترعة من ترع الجنة ، بعض السواري ذات التاريخ .
[ ص: 333 ] وقد قال النووي : إذا كان الشخص سيصلي منفردا أو نفلا ، فإن الأفضل أن يكون في الروضة وإلا ففي المسجد الأول ، وإذا كان في الجماعة ، فعليه أن يتحرى الصف الأول ، وإلا ففي أي مكان من المسجد ، وهذا معقول المعنى . والحمد لله .
المبحث الرابع .
وهو بعد هذه التوسعة وانتقال الصف الأول عن الروضة ، فهل الأفضل الصلاة في الجماعة في الصف الأول ، أم في الروضة مع تخلفه عن الأول ؟ ولتصوير هذه المسألة نقدم الآتي :
أمام المصلى موضعان :
أحدهما الروضة ; بفضلها روضة من رياض الجنة .
والصف الأول : وفيه : " لو يعلمون ما الصف الأول لاستهموا عليه " ، فأي الموضعين يقدم على الآخر ؟
ومعلوم أنهم كانوا قبل التوسعة يمكنهم الجمع بين الفضيلتين ، إذ الصف الأول كان في الروضة .
أما الآن وبعد التوسعة فقد انفصل الصف الأول عن الروضة ، ما دام الإمام يصلي في مقدمة المسجد ، ولم أقف على تفصيل في المسألة .
ولكن عمومات للنووي ، ولابن تيمية - على ما قدمنا في مبحث شمول المضاعفة للزيادة ، ولكن توجد قضية يمكن استنتاج الجواب منها ، وهي قبل التوسعة كان للصف الأول ميمنة وميسرة ، وكان للميمنة فضيلة على الميسرة . ومعلوم أن ميمنة الصف قبل التوسعة كانت تقع غربي المنبر ، أي : خارجة عن الروضة ، والميسرة كلها كانت في الروضة ، ومع ذلك فقد كانوا يفضلون الميمنة على الميسرة لذاتها ، عن الروضة لذاتها أيضا ، فإذا كانت الميمنة - وهي خارج الروضة - مقدمة عندهم عن الروضة ، فلأن يقدم الصف الأول من باب أولى .
وهناك حقيقة فقهية ذكرها النووي ، وهي تقديم الوصف الذاتي على الوصف العرضي ، وهو هنا الصف الأول وصف ذاتي للجماعة . وفضل الروضة وصف عرضي للمكان . أي : لكل حال من ذكر أو صلاة فريضة أو نافلة ، فتقديم الصف الأول لكونه ذاتيا
[ ص: 334 ] بالنسبة للجماعة أولى من تقديم الروضة ; لكونه وصفا عرضيا .
وقد مثل لهذه القاعدة النووي بقوله : فلو أن إنسانا في طريقه إلى الصلاة بالمسجد النبوي فوجد مسجدا آخر يصلي جماعة ، فكان بين أن يدرك الجماعة مع هؤلاء أو يتركها ويمضي إلى المسجد النبوي ، وتفوته الصلاة فيصلي منفردا بألف صلاة ، فقال : يصلي في هذا المسجد جماعة أولى له ; لأنه تحصيل الجماعة وصف ذاتي للصلاة ، وتحصيل خير من ألف صلاة وصف عرضي بسبب فضل المسجد النبوي . اهـ . ملخصا .
وقد يقال أيضا : إن العبد مكلف بإيقاع الصلاة في جماعة أكثر منه تكليفا بإيقاعها في المسجد النبوي .
وهكذا الحال ; فإنا مطالبون بالصف الأول على الإطلاق حيث ما كان ، أكثر منا مطالبة بالصلاة في الروضة . والعلم عند الله تعالى .
المبحث الخامس .
وهو في حالة ازدحام المسجد وامتداد الصفوف إلى الخارج في الشارع أو البرحة ، فهل لامتداد الصفوف تلك المضاعفة أم لا ؟
لنعلم أن فضيلة الجماعة حاصلة بلا خلاف . أما المضاعفة إلى ألف ، فلم أقف على نص فيها ، وقد سألت الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن ذلك مرتين ، ففي الأولى : مال إلى اختصاص المسجد بذلك ، وفي المرة الثانية - وبينهما نحو من عشر سنوات - : مال إلى عموم الأجر ، وقال ما معناه : إن الزيادة تفضل من الله ، وهذا امتنان على عباده ، فالمؤمل في سعة فضل الله أنه لا يكون رجلان في الصف متجاورين أحدهما على عتبة المسجد إلى الخارج ، والآخر عليها إلى الداخل ، ويعطي هذا ألفا ويعطي هذا واحدة . وكتفاهما متلاصقتان ، وهذا واضح . والحمد لله .
وقد رأيت في مسألة الجمعة عند المالكية نصا ، وكذلك عند غيرهم ممن يشترطون المسجد للجمعة ، فإنهم متفقون أن الصفوف إذا امتدت إلى الشوارع والرحبات خارج المسجد أن الجمعة صحيحة ، مع أنهم أوقعوها في غير المسجد ، لكن لما كانت الصفوف ممتدة من المسجد إلى خارجه انجر عليها حكم المسجد وصحت الجمعة .
فنقول هنا : كذلك لما كانت الصفوف خارجة عن المسجد النبوي : ينجر عليها حكم المسجد - إن شاء الله - . والله تعالى أعلم .
[ ص: 335 ] وقد يستدل لذلك بالعرف وهو : لو سألت من صلى في مثل ذلك : أين صليت ؟ أفي قباء ؟ أم في المسجد النبوي ؟ لقال : بل في المسجد النبوي . فلم يخرج بذلك عن مسمى المسجد عرفا .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:29 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (572)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 335 إلى صـ 342
المبحث السادس .
وهو عند الزحام في المسجد النبوي خاصة ، وفي بقية المساجد عامة . حينما يضيق المكان ويضطر المصلون للصلاة في صفوف عديدة خارج المسجد ، وأمام الإمام متقدمين عليه بعدة صفوف ، فما حكم صلاة هؤلاء ؟
قد ذكر النووي في المجموع الخلاف عن الشافعي . وأن الصحيح من المذهب هو الصحة مع الكراهة .
وذكر المالكية الصحة كذلك ، وقد استدلوا لها بصلاة ابن عباس - رضي الله عنه - ذات ليلة عند ميمونة - رضي الله عنها - بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وابن عباس آنذاك غلام ، فقام على يساره - صلى الله عليه وسلم - ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه ; تكريما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما شعر به - صلى الله عليه وسلم - وبعد أن كبر ودخل في الصلاة ، فأخذه - صلى الله عليه وسلم - بيده ونقله من ورائه ، وجعله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه بحذائه في موقف الواحد ، كما هو معلوم من حكم المنفرد مع الإمام .
ومحل الاستدلال في ذلك هو أن الجهات بالنسبة للإمام أربع : خلفه ; وهي للكثيرين من اثنين فصاعدا . وعن يمينه ; وهو موقف الفرد ، ويساره وأمامه . أما اليسار ; فقد وقف فيه ابن عباس وليس بموقف ، فأخذه - صلى الله عليه وسلم - وجعله عن يمينه .
ولكن بعد أن دخل في الصلاة وأوقع بعض صلاته في ذلك المقام ، وقد صحت صلاته حيث بنى على الجزء الذي سبق أن أوقعه عن اليسار ; لضرورة الجهل بالموقف .
وبقيت جهة الإمام ; فليست بجهة موقف ، ولكن عند الضرورة وللزحمة لم يكن من التقدم على الإمام بد ، فجازت أو فصحت للضرورة ، كما صحت عن يساره - صلى الله عليه وسلم - . - والله تعالى أعلم - .
ويقوي هذا الاستدلال : أنه لو جاء شخص إلى الجماعة ولم يجد له مكانا إلا بجوار
[ ص: 336 ] الإمام ، فإنه يقف عن يمينه بجواره ، كما لو كان منفردا مع وجود الصفوف العديدة . ولكن صح وقوفه للضرورة .
المبحث السابع .
موضوع الأربعين صلاة ، وهو من جهة خاص بالمسجد النبوي ، ومن جهة عام في كل مسجد ، ولكن لا بأربعين صلاة بل بأربعين يوما . أما ما يخص المسجد النبوي ، فقد جاء في حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من صلى في مسجدي أربعين صلاة لا تفوته صلاة ; كتبت له براءة ونجاة من العذاب ، وبرئ من النفاق " .
قال المنذري في الترغيب والترهيب : رواته رواة الصحيح . أخرجه أحمد في مسنده والطبراني في الأوسط .
وفي مجمع الزوائد : رجاله ثقات . وهو عند الترمذي بلفظ : " من صلى أربعين يوما في جماعة ، يدرك التكبيرة الأولى ، كتب له براءتان : براءة من النار ، وبراءة من النفاق " .
قال الترمذي : هو موقوف على أنس ، ولا أعلم أحدا رفعه .
وقال ملا علي القاري : مثل هذا لا يقال بالرأي ، وقد تكلم بعض الناس في هذا الحديث بروايتين :
أما الأولى : فبسبب نبيط بن عمر .
وأما الثانية : فمن جهة الرفع والوقف . وقد تتبع هذين الحديثين بعض أهل العلم بالتدقيق في السند ، وأثبت صحة الأول ، وحكم الرفع للثاني . وقد أفردهما الشيخ حماد الأنصاري برسالة رد فيها على بعض من تكلم فيهما من المتأخرين . نوجز كلامه في الآتي :
قال الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة في زوائد الأربعة : نبيط بن عمر ، ذكره ابن حبان في الثقات ، فاجتمع على توثيق نبيط كل من ابن حبان والمنذري والبيهقي وابن حجر ، ولم يجرحه أحد من أئمة هذا الشأن . فمن ثم لا يجوز لأحد أن يطعن ولا أن يضعف من وثقه أئمة معتبرون ، ولم يخالفهم إمام من أئمة الجرح والتعديل . وكفى من ذكروا من أئمة هذا الشأن قدوة .
[ ص: 337 ] ذلك ; ولو فرض وقدر جدلا أنه في السند مقال ، فإن أئمة الحديث لا يمنعون إذا لم يكن في الحديث حلال أو حرام أو عقيدة ، بل كان باب فضائل الأعمال لا يمنعون العمل به ; لأن باب الفضائل لا يشدد فيه هذا التشديد .
ونقل السيوطي مثل ذلك عن أحمد ، وابن المبارك .
أما حديث إدراك تكبيرة الإحرام في أي مسجد ، فهذا أعم من موضوع المسجد النبوي الذي نتحدث عنه ، وكل أسانيده ضعيفة ، ولكن قال الحافظ ابن حجر : يندرج ضمن ما يعمل به في فضائل الأعمال . انتهى ملخصا .
وهذا الحث على أربعين صلاة في المسجد النبوي ، لعله - والله تعالى أعلم - من باب التعود والتزود ، لما يكسبه ذلك العمل من مداومة ، وحرص على أداء الصلوات الخمس ثمانية أيام في الجماعة ، واشتغاله الدائم بشأن الصلاة وحرصه عليها ، حتى لا تفوته صلاة مما يعلق قلبه بالمسجد ، فتصبح الجماعة له ملكة ، ويصبح مرتاحا لارتياد المسجد ، وحريصا على بقية الصلوات في بقية أيامه لا تفوته الجماعة إلا من عذر .
فلو كان زائرا ورجع إلى بلاده رجع بهذه الخصلة الحميدة ، ولعل في مضاعفة الصلاة بألف تكون بمثابة الدواء المكثف الشديد الفعالية ، السريع الفائدة ، أكثر مما جاء في عامة المساجد بأربعين يوما لا تفوته تكبيرة الإحرام ، إذ الأربعون صلاة في المسجد النبوي تعادل أربعين ألف صلاة فيما سواه ، وهي تعادل حوالي صلوات اثنين وعشرين سنة .
ولو راعينا أجر الجماعة : خمسا وعشرين درجة ، لكانت تعادل صلاة المنفرد : خمسمائة وخمسين سنة ، أي : في الأجر والثواب لا في العدد ، أي : كيفا لا كما ، كما قدمنا . وفضل الله عظيم .
وليعلم أن الغرض من هذه الأربعين هو كما أسلفنا التعود والحرص على الجماعة .
أما لو رجع فترك الجماعة وتهاون في شأن الصلاة ، عياذا بالله ، فإنها تكون غاية النكسة . نسأل الله العافية ، كما نعلم أن هذه الأربعين صلاة لا علاقة لها لا بالحج ولا بالزيارة ، على ما تقدم للشيخ - رحمه الله - في آداب الزيارة في سورة " الحجرات " .
وأن الزيارة تتم بصلاة ركعتي تحية المسجد ، والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى
[ ص: 338 ] صاحبيه - رضوان الله تعالى علينا وعليهم - ، ثم الدعاء لنفسه وللمسلمين بالخير ، ثم إن شاء انصرف إلى أهله ، وإن شاء جلس ما تيسر له . وبالله تعالى التوفيق .
مبحث السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان جانب من جوانب السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الكلام على قوله تعالى : أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ 49 \ 2 ] في التحذير من مبطلات الأعمال وبيان ما هو حق لله فلا يصرف لغيره ، وما هو حق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتجاوز به .
وقد يجر الحديث عن السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضله وفضيلته إلى موضوع شد الرحال إلى المسجد ، وإلى السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
شد الرحال إلى المسجد النبوي للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومما اختص به المسجد النبوي ، بل ومن أهم خصائصه بعد الصلاة ، السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من داخل هذا المسجد قديما وحديثا .
كما جاء في الصحيح : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام " ومجمعون أن ذلك يحصل لمن سلم عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من المسجد النبوي ، سواء قبل أو بعد إدخال الحجرة في المسجد .
ومعلوم أن أول آداب الزيارة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، البدء بصلاة ركعتين تحية المسجد ، وبعد السلام ينصرف عن المواجهة ، ويدعو ما شاء وهو في أي مكان من المسجد .
وهنا مسألة طالما أثير النزاع فيها : وهي شد الرحال للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهي إن كان محلها مبحث الزيارة وأحكامها وآدابها ، إلا أننا نسوق موجزا عنها بمناسبة حديث شد الرحال ، ونسأل الله تعالى الهداية والتوفيق .
من المعلوم أن أصل هذه المسألة هو حديث : " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " المتقدم ذكره ; لاختلافهم في تقدير المستثنى منه . والمراد بشد الرحال إليه في تلك [ ص: 339 ] المساجد ، أهو خصوص الصلاة أم للصلاة وغيرها ؟ .
ولنتصور حقيقة هذه المسألة ينبغي أن نعلم أولا : أن البحث في هذه المسألة له ثلاث حالات :
الأولى : شد الرحال إلى المسجد النبوي للزيارة . وهذا مجمع عليه .
الثانية : زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه من قريب بدون شد الرحال ، وهذا أيضا مجمع عليه .
الثالثة : شد الرحال للزيارة فقط . وهذه الحالة الثالثة هي محل البحث عندهم ، ومثار النقاش السابق .
قال ابن حجر في فتح الباري على حديث شد الرحال : قال الكرماني : وقد وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة ، وصنفت فيها مسائل من الطرفين .
قلت : - أي : ابن حجر - يشير إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على تقي الدين بن تيمية ، وما انتصر به الحافظ : شمس الدين بن عبد الهادي وغيره لابن تيمية ، وهي مشهورة في بلادنا . اهـ . وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه .
وقد أشار ابن حجر إلى مجمل القول فيها بقوله : إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وإن حديث : " لا تشد الرحال " إنما يقصد به خصوص الصلاة ، وليس مكان أولى من مكان بالصلاة تشد له الرحال إلا المساجد الثلاثة ; لما خصت من فضيلة مضاعفة الصلاة فيها .
تقي الدين جعل موضوع النهي عن شد الرحال عاما للصلاة وغيرها . واعترض عليه باتفاق الأمة على جواز شد الرحال لأي مكان ; لعدة أمور كما هو معلوم .
ومما استدل به على عدم شد الرحال لمجرد الزيارة ، ما روي عن مالك : كراهية أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وأجيب عن ذلك : بأن كراهية مالك للفظ فقط تأدبا لا أنه كره أصل الزيارة ، فإنها من أفضل الأعمال ، وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال ، وأن مشروعيتها محل إجماع [ ص: 340 ] بلا نزاع . والله الهادي إلى الصواب . اهـ .
ولعل مذهب البخاري حسب صنيعه هو مذهب الجمهور ; لأنه أتى في نفس الباب ، بعد حديث شد الرحال مباشرة بحديث : " صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه " ، مما يشعر بأنه قصد بيان موجب شد الرحال هو فضيلة الصلاة ، فيكون النهي عن شد الرحال مختصا بالمساجد ، ولأجل الصلاة إلا في تلك المساجد الثلاثة ; لاختصاصها بمضاعفة الصلاة فيها دون غيرها من بقية المساجد والأماكن الأخرى .
وقد ناقش ابن حجر لفظ الحديث ، ورجح هذا المذهب حيث قال :
قال بعض المحققين : قوله : " إلا إلى ثلاثة مساجد " المستثنى منه محذوف . فإما أن يقدر عاما فيصير لا تشد الرحال إلى مكان في أي أمر كان إلا إلى الثلاثة . أو أخص من ذلك . لا سبيل إلى الأول لإفضائه إلى سد باب السفر للتجارة وصلة الرحم وطلب العلم وغيرها ، فتعين الثاني .
والأولى : أن يقدر ما هو أكثر مناسبة ، وهو لا تشد الرحال إلى مسجد للصلاة فيه إلا إلى الثلاثة . فيبطل بذلك قول : من منع شد الرحال إلى زيارة قبره الشريف - صلى الله عليه وسلم - . وغيره من قبور الصالحين . والله أعلم .
وقال السبكي الكبير : ليس في الأرض بقعة تفضل لذاتها حتى تشد إليها الرحال غير البلاد الثلاثة . ومرادي بالفضل : ما شهد الشرع باعتباره ، ورتب عليه حكما شرعيا . أما غيرها من البلاد ، فلا تشد إليها لذاتها ، بل لزيارة أو جهاد أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات .
قال : وقد التبس ذلك على بعضهم ، فزعم أن شد الرحال إلى الزيارة لمن في غير الثلاثة داخل في المنع وهو خطأ ; لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستثنى منه . فمعنى الحديث : لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان ، إلا إلى الثلاثة المذكورة . وشد الرحال إلى زيارة أو طلب ليس إلى المكان ، بل إلى من في ذلك المكان . والله أعلم . اهـ .
[ ص: 341 ] وبتأمل كلام ابن حجر ، نجده يتضمن إجراء معادلة على نص الحديث بأن له حالتين فقط :
الأولى : أن يقال : لا تشد الرحال إلا إلى المساجد الثلاثة لخصوص الصلاة ، ولا تشد لغيرها من الأماكن لأجل الصلاة ، فيكون النهي منصبا على شد الرحال لأي مكان سوى المساجد الثلاثة ; من أجل أن يصلي فيما عداها . فيبقى غير الصلاة خارجا عن النهي ; فتشد له الرحال لأي مكان كان .
وغير الصلاة يشمل : طلب العلم ، والتجارة ، والنزهة ، والاعتبار ، والجهاد ، ونحو ذلك ، والنصوص في ذلك كله متضافرة .
ففي طلب العلم ما قدمنا من نصوص ، وقد رحل نبي الله موسى إلى الخضر ، كما قال تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ، إلى قوله : لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا ، إلى قوله : قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا [ 18 \ 60 - 66 ] .
وفي السفر للتجارة قوله تعالى : وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ 73 \ 20 ] . وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] ، وغيرها كثيرة .
والسفر للعبرة قوله تعالى : قل سيروا في الأرض فانظروا [ 27 \ 69 ] .
وقوله ثم دمرنا الآخرين وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 136 - 138 ] .
وقوله : فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 45 - 46 ] .
فقد أمر الله العباد بالسير ; ليعقلوا بقلوبهم حالة تلك القرى الخاوية ليتعظوا بأحوال أهلها .
[ ص: 342 ] فهذه نصوص جواز السفر لعدة أمور ، فيكون من ضمنها السفر لزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه . حيث إن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - من الأمور المشروعة بلا نزاع ، والحالة الثانية : أن يكون النهي عاما لجميع الأماكن في جميع الأمور ; فلا تشد الرحال قط إلا إلى ثلاثة المساجد وبلدانها الثلاثة . ولكن لا لخصوص الصلاة فقط ، بل لكل شيء مشروع بأصله مما قدمنا أنواعه من طلب العلم والتجارة والعظة والنزهة وغير ذلك : كصوم ، واعتكاف ، ومجاورة ، وحج ، وعمرة ، وصلة رحم ، ومشاهدة معالم تاريخية ونحو ذلك .
ومن هذا كله السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا شد الرحال إلى المدينة لكل شيء كان منها الزيارة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا معارضة على حالة من الحالتين ، ولا يتعارض معهما الحديث المذكور ، على أي تقدير المستثنى منه في هذا الحديث .
وجهة نظر .
وبالتحقيق في هذه المسألة وإثارة النزاع فيها ، يظهر أن النزاع والجدال فيها أكثر مما كانت تحتمل ، وهو إلى الشكلي أقرب منه إلى الحقيقي . ولا وجود له عمليا .
وتحقيق ذلك كالآتي : وهو ما داموا متفقين على شد الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومتفقون على السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون شد الرحال ; فلن يتأتى لإنسان أن يشد الرحال للسلام دون المسجد ، ولا يخطر ذلك على بال إنسان ، وكذلك شد الرحل للصلاة في المسجد النبوي دون أن يسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يخطر على بال إنسان . وعليه فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر ; لأن المسجد النبوي ما هو إلا بيته - صلى الله عليه وسلم - ، وهل بيته إلا جزء من المسجد كما في حديث الروضة : " ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة " .
فهذا قوة ربط بين بيته ومنبره في مسجده .
ومن ناحية أخرى : هل يسلم أحد عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، لينال فضل رد السلام عليه منه - صلى الله عليه وسلم - ، إلا إذا كان سلامه عن قرب ومن المسجد نفسه ؟
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:30 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (573)
سُورَةُ الْجِنِّ
صـ 3435 إلى صـ 350
[ ص: 343 ] وهل تكون الزيارة سنية إلا إذا دخل المسجد وصلى أولا تحية المسجد ؟
وبهذا ; فلا انفكاك لشد الرحل إلى المسجد عن زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا لزيارته - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد ، فلا موجب لهذا النزاع .
وهنا وجهة نظر أخرى وهي : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام " . فإن إطلاقه عن كل قيد من قرب أو بعد مما يدل على العموم من حيث المجيء للسلام عليه .
فيقال : إن هذه فضيلة عظيمة ، ولا يتأتى للبعيد تحصيلها إلا بشد الرحال إليها كوسيلة لتحصيلها ، والوسيلة تأخذ حكم الغاية من وجوب أو ندب أو إباحة ، كالسعي إلى الجمعة واجب ; لأن أداء الجمعة واجب ، وإعداد الثياب الجميلة إليها مثلا مندوب ; لأن التجمل إليها مندوب ، ومثله إعداد الطيب بالنسبة لحضورها .
وقد رأيت لابن تيمية مناقشة هذه المسألة ، ولكنه جاء بأمثلة قابلة هي للنقاش ، فقال : ليس كل غاية مشروعة تكون وسيلتها مشروعة ، كحج المرأة وخروجها إلى المسجد ، فإن الأول مشروط فيه وجود المحرم . والثاني : مشروط فيه إذن الزوج .
والنقاش لها أن سفر المرأة مطلقا ممنوع إلا مع المحرم ، سواء كان لهذا المسجد وللحج أو لغيره .
وخروجها إلى المسجد ليس بمطلوب منها في الأصل ، ولكن إذا طلبت الإذن يؤذن لها . فالأصل فيه المنع حتى تحصل على الإذن .
وعلى هذا يقال : لو كان شد الرحل إليها غير مشروع ، لما كان لفاعله نصيب في فضلها ، ولا يحصل على رد السلام منه - صلى الله عليه وسلم - .
ولو كان كذلك للزم التنبيه عليه عند بيان فضيلته ; لعدم تأخير البيان ، فكأن يقال مثلا : فأرد عليه السلام ، إلا من شد الرحل لذلك . أو يقال : من أتاني من قريب فسلم علي . . . إلخ . ولكن لم يأت شيء من هذا التنبيه وبقي الحديث على عمومه .
وليعلم أن ابن تيمية - رحمه الله - يفرق بين السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين عامة المسلمين ، لما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حقوق وخصائص ليست لغيره من : وجوب محبة ، وتعظيم ، وفرضية صلاة ، [ ص: 344 ] وتسليم في صلواتنا ، وعند دخول المساجد والخروج منها ، بل وعند سماع ذكره مما ليس لغيره قط .
كما أن زيارة غيره - صلى الله عليه وسلم - للدعاء له والترحم عليه ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه ; ليرد الله تعالى عليه روحه فيرد علينا السلام .
وزيارة غيره في أي مكان من العالم لا مزية له ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - من مسجده وقد خص بما لم يختص به غيره .
وأعتقد أن هذه المسألة لولا نزاع معاصري ابن تيمية معه في غيرها لما كان لها محل ولا مجال .
ولكنهم وجدوها حساسة ولها مساس بالعاطفة ، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأثاروها وحكموا عليه بالالتزام . أي : يلازم كلامه حينما قال :
لا يكون شد الرحال لمجرد الزيارة ، بل تكون للمسجد من أجل الزيارة ، عملا بنص الحديث ، فتقولوا عليه ما لم يقله صراحة . ولو حمل كلامه على النفي بدلا من النهي لكان موافقا ، أي : لا يتأتى ذلك ; لأنه لم يمنع زيارته - صلى الله عليه وسلم - ولا السلام عليه ، بل يجعلها من الفضائل والقربات ، وإنما يلتزم بنص الحديث في جعل شد الرحال إلى المسجد ، ولكل شيء ومنه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صرح بذلك في كتبه .
قال في بعض رسائله وردوده ما نصه :
فصل
قد ذكرت فيما كتبته من المناسك : أن السفر إلى مسجده وزيارة قبره ، كما يذكر أئمة المسلمين في مناسك الحج عمل صالح مستحب .
وقد ذكرت في عدة مناسك الحج السنة في ذلك وكيف يسلم عليه ، وهل يستقبل الحجرة أم القبلة على قولين . فالأكثرون يقولون : يستقبل الحجرة ، كمالك ، والشافعي ، وأحمد ، إلى أن قال :
والصلاة تقصر في هذا السفر المستحب باتفاق أئمة المسلمين ، لم يقل أحد من أئمة [ ص: 345 ] المسلمين : إن هذا السفر لا تقصر فيه الصلاة ، ولا نهى أحد عن السفر إلى مسجده ، وإن كان المسافر إلى مسجده يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ، بل هذا من أفضل الأعمال الصالحة ، ولا في شيء من كلامي وكلام غيري نهي عن ذلك ، ولا نهي عن المشروع في زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، ولا عن المشروع في زيارة سائر القبور .
إلى أن قال :
وإذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة ، فزيارة قبور الأنبياء والصالحين أولى .
ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له خاصية ليست لغيره من الأنبياء والصالحين ، وهو أن أمرنا أن نصلي عليه ونسلم عليه في كل صلاة ، ويتأكد ذلك في الصلاة وعند الأذان وسائر الأدعية ، وأن نصلي ونسلم عليه عند دخول المسجد ، مسجده وغير مسجده ، وعند الخروج منه ; فكل من دخل مسجده فلا بد أن يصلي فيه ويسلم عليه في الصلاة .
والسفر إلى مسجده مشروع ، لكن العلماء فرقوا بينه وبين غيره ، حين كره مالك - رحمه الله - أن يقال : زرت قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن المقصود الشرعي بزيارة القبور السلام عليها والدعاء لهم ، وذلك السلام والدعاء قد حصل على أكمل الوجوه في الصلاة في مسجده وغير مسجده ، وعند سماع الأذان وعند كل دعاء . فتشرع الصلاة عليه عند كل دعاء ، فإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم . اهـ .
وإذا كان هذا كلامه ، فإن المسألة شكلية وليست حقيقية . إذ أنه يقرر بأن السفر إلى مسجده - صلى الله عليه وسلم - مشروع وإن كان يزور قبره - صلى الله عليه وسلم - ويسلم عليه ، وأن ذلك من أفضل القربات ومن صالح الأعمال .
أي : وإن كانت الزيارة مقصودة عند السفر .
وإذا كان السفر إلى المسجد لا ينفك عن السلام عليه - صلى الله عليه وسلم - ، والسلام عليه لا ينفك عن الصلاة في المسجد . فلا موجب لهذا النقاش ، وجعل هذه المسألة مثار نزاع أو جدال .
وقد صرح بما يقرب من هذا المعنى في موضع آخر من كلامه ، إذ يقول في ج 27 ص 342 من المجموع ، ما نصه :
[ ص: 346 ] فمن سافر إلى المسجد الحرام ، أو المسجد الأقصى ، أو مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فصلى في مسجده وصلى في مسجد قباء ، وزار القبور كما قضت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا هو الذي عمل العمل الصالح .
ومن أنكر هذا السفر ، فهو كافر يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل .
وأما من قصد السفر لمجرد زيارة القبر ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا يسلم عليه في الصلاة ، بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع ضال ، مخالف لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولإجماع أصحابه ، ولعلماء الأمة .
وهو الذي ذكر فيه القولان : أحدهما : أنه محرم . والثاني : أنه لا شيء عليه ، ولا أجر له .
والذي يفعله علماء المسلمين هو الزيارة الشرعية يصلون في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ويسلمون عليه في الدخول للمسجد وفي الصلاة ، وهذا مشروع باتفاق المسلمين . إلى أن قال : وذكرت أنه يسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبيه . اهـ .
فأي موجب لنزاع أو خلاف في هذا القول ، فإن كان في قوله فيمن قصد السفر لمجرد زيارة القبر ، ولم يقصد الصلاة في المسجد ، وسافر إلى مدينته فلم يصل في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ولا سلم عليه في الصلاة بل أتى القبر ثم رجع ; فهذا مبتدع . . إلخ .
فمن من المسلمين يجيز لمسلم : أن يشد رحله إلى المدينة ; لمجرد زيارة القبر دون قصد الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - ، ودون أن يصلي عليه - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، وهو يعلم أن الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - بألف صلاة .
فدل كلامه أن زيارة القبر والصلاة في المسجد مرتبطتان ، ومن ادعى انفكاكهما عمليا فقد خالف الواقع ، وإذا ثبتت الرابطة بينهما انتفى الخلاف وزال موجب النزاع . والحمد لله رب العالمين .
وصرح في موضع آخر ص 346 في قصر الصلاة في السفر لزيارة قبور الصالحين عن أصحاب أحمد أربعة أقوال . الثالث منها : تقصر إلى قبر نبينا - عليه الصلاة والسلام - .
وقال في التعليل لهذا القول : إذا كان عامة المسلمين لا بد أن يصلوا في مسجده [ ص: 347 ] فكل من سافر إلى قبره المكرم فقد سافر إلى مسجده المفضل .
وكذلك قال بعض أصحاب الشافعي ، إلى أن قال : وكذلك كثير من العلماء يطلق السفر إلى قبره المكرم ، وعندهم أن هذا يتضمن السفر إلى مسجده ، إذ كان كل مسلم لا بد إذا أتى الحجرة المكرمة أن يصلي في مسجده فهما عندهم متلازمان .
وبعد نقله لأقوال العلماء ، قال ما نصه :
وحقيقة الأمر أن فعل الصلاة في مسجده من لوازم هذا السفر ، فكل من سافر إلى قبره المكرم لا بد أن تحصل له طاعة وقربة ، يثاب عليها بالصلاة في مسجده .
وأما نفس القصد ، فأهل العلم بالحديث يقصدون السفر إلى مسجده ، وإن قصد منهم من قصد السفر إلى القبر أيضا إذا لم يعلم النهي .
وهذا غاية في التصريح منه أنه لا انفكاك من حيث الواقع بين الزيارة والصلاة في المسجد عند عامة العلماء .
ثم قال في حق الجاهل : وأما من لم يعرف هذا فقد لا يقصد إلا السفر إلى القبر ، ثم إنه لا بد أن يصلي في مسجده فيثاب على ذلك . وما فعله وهو منهي عنه ولم يعلم أنه منهي عنه لا يعاقب عليه ، فيحصل له أجر ولا يكون عليه وزر . اهـ .
وقد أكثرنا النقول عنه ; لما وجدنا من ليس في هذا الموضوع على كثير من الناس ، حتى قال ابن حجر في فتح الباري فيها : وهذا أعظم ما أخذ على ابن تيمية ، فهي وإن كانت شهادة من ابن حجر أنها أشد ما أخذ عليه مع ما رمي به من خصومه في العقائد ومحاربة البدع ، إلا أنها - بحمد الله - بعد هذه النقول عنه من صريح كلام لم يعد فيها ما يتعاظم منه ، فعلى كل متكلم في هذه المسألة أن يرجع إلى أقواله فلم يترك جانبا إلا وبينه ، سواء في حق العالم أو الجاهل . وبالله تعالى التوفيق .
هذا ما يتعلق بخصوص السفر إلى المدينة المنورة للمسجد وللزيارة معا ، على التفصيل المتقدم .
أما بقية الأماكن ما عدا المساجد الثلاثة ، فلا تشد الرحال إليها للصلاة أو الدعاء أو الاعتكاف ونحو ذلك ، مما لا مزية لها في مكان دون آخر قط ، أيا كانت تلك البقعة أو [ ص: 348 ] كانت تلك العبادة . وذلك لحديث أبي هريرة في الموطأ في الساعة التي في يوم الجمعة ، قال : " خرجت إلى الطور ، فلقيت كعب الأحبار فجلست معه ، فحدثني عن التوراة ، وحدثته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة ; فيه خلق آدم وفيه أهبط ، وفيه تيب عليه ، وفيه مات ، وفيه تقوم الساعة ، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تطلع الشمس ; شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه " .
قال كعب : ذلك في كل سنة يوم . فقلت : بل في كل جمعة ، فقرأ كعب التوراة ، فقال : صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
قال أبو هريرة : فلقيت بصرة بن أبي بصرة الغفاري ، فقال : من أين أقبلت ؟ فقلت : من الطور . فقال : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : إلى المسجد الحرام ، وإلى مسجدي هذا ، وإلى مسجد إيلياء أو بيت المقدس " يشك أبو هريرة .
ثم لقيت عبد الله بن سلام ، فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته به في يوم الجمعة إلى آخر الحديث هذا العظيم .
قال الباجي : على هذا الحديث : خروج أبي هريرة إلى الطور يحتمل أن يكون لحاجة عنت له فيه ، ويحتمل أن يكون قصده على معنى التعبد والتقرب بإتيانه ، إلا أن قول بصرة : لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت . دليل على أن فهم منه التقرب بقصده . وسكوت أبي هريرة حين أنكر عليه دليل على أن الذي فهم منه كان قصده . أقول : لقد صرح أبو هريرة أنه كان للصلاة كما في مجمع الزوائد لأحمد عن شهر ، وقال : حسن .
والحديث يدل على أن من نذر صلاة بمسجد البصرة أو الكوفة أنه يصلي بموضعه ولا يأتيه ; لحديث بصرة المنصوص في ذلك ، وذلك أن النذر يكون فيما فيه القربة . ولا فضيلة لمساجد البلاد على بعضها البعض ، تقتضي قصده بإعمال المطي إليه إلا المساجد الثلاثة ; فإنها تختص بالفضيلة .
وأما من نذر الصلاة والصيام في شيء من مساجد الثغور ، فإنه يلزمه إتيانها والوفاء [ ص: 349 ] بنذره ; لأن نذره قصدها لم يكن لمعنى الصلاة فيها ، بل قد اقترن بذلك الرباط ، فوجب الوفاء به .
ولا خلاف في المنع من ذلك من غير المساجد الثلاثة ، إلا ما قاله محمد بن مسلمة في المبسوط . فإنه أضاف إلى ذلك مسجدا رابعا وهو مسجد قباء ، فقال : من نذر أن يأتيه فيصلي فيه كان عليه ذلك . اهـ .
ولعل مقصد محمد بن مسلمة في إضافته مسجد قباء ، العمل بما جاء في مسجد قباء من أثر اختص به عن أنس بن مالك فيما رواه عمر بن شبة ، قال : حدثنا سويد بن سعيد ، قال : حدثنا أيوب بن صيام عن سعيد بن الرقيش الأسدي ، قال : جاءنا أنس بن مالك إلى مسجد قباء ، فصلى ركعتين إلى بعض هذه السواري ، ثم سلم وجلسنا حوله ، فقال : سبحان الله ! ما أعظم حق هذا المسجد ، ولو كان على مسيرة شهر كان أهلا أن يؤتى ، من خرج من بيته يريده معتمدا إليه ليصلي فيه أربع ركعات أقلبه الله بأجر عمرة .
وتقدم عن وفاء الوفاء نقله بقوله :
وكان هذا الحكم معلوما عند العامة ، حتى قال ابن شبة : قال أبو غسان : ومما يقوي هذه الأخبار ، ويدل على تظاهرها في العامة والخاصة ، قول عبد الرحمن بن الحكم في شعر له :
فإن أهلك فقد أقررت عينا من المعتمرات إلى قباء .
من اللاتي سوالفهن غيد عليهن الملاحة بالبهاء
تنبيه .
إن قول أنس ليشعر بجواز شد الرحل إلى قباء لو كان بعيدا ، ولكنه للمعاني في المساجد الثلاثة الأخرى ، فلا يتعارض مع الحديث الأول .
تنبيه آخر .
أبيات الشاعر تشعر بخطأ التجمع في يوم معين لقباء ، واجتماع الرجال والنساء .
[ ص: 350 ] تنبيه ثالث .
يوجد فرق بصفة إجمالية عامة بين زيارة عموم المقابر لعامة الناس ، وخصوص زيارة القبور الثلاثة . إذ الغرض من زيارة عامة المقابر هو الدعاء لها ، وتذكر الآخرة كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ; فإنها تذكر الآخرة " .
أما هذه الثلاثة المشرفة ، فلها خصائص لم يشاركها فيها غيرها :
أولا : ومن حيث الموضوع : ارتباطها بالمسجد النبوي أحد المساجد التي من حقها شد الرحال إليها .
ثانيا : عظيم حق من فيها على المسلمين ، إذ بزيارتهم لا بتذكر الآخرة فحسب ، بل ويستفيد ذكريات الدنيا وعظيم جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه ، وهداية الأمة ، والقيام بأمر الله ، حتى عبد الله وحده وعمل بشرعه ، فيما يثير إحساس المسلم وجوب تجديد العهد مع الله تعالى وحده على العمل بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وهدي خلفائه الراشدين - رضوان الله عليهم - .
وهذا ما يجعل الإنسان يتوجه إلى الله عقب السلام عليهم بخالص الدعاء ، أن يجزيهم على ذلك ما يعلم سبحانه أنهم أهل له .
ثالثا : عظيم الفضل من الله على من سلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن يرد الله تعالى عليه - صلى الله عليه وسلم - روحه فيرد عليه السلام ، وكل ذلك أو بعضه لا يوجد عند عامة المقابر . وهذا مع مراعاة الآداب الشرعية في الزيارة لما تقدم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:30 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (574)
سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ .
صـ 351 إلى صـ 358
مسألة .
في هذه الآية الكريمة : وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [ 72 \ 18 ] ، جمع بين مسألتين ، فكأن الأولى تدل على الثانية بمفهومها ، وكأن الثانية تكون منطوق الأولى ; لأن كون المساجد لله يقتضي إفراده تعالى بالعبادة وألا يدعى معه أحد .
أما إفراده بالعبادة ، فقد كتب الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - على ذلك مبحثا كاملا في سورة " الحجرات " في مسألة من المسائل على قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون [ 49 \ 2 ] .
[ ص: 351 ] وبين في هذه المسألة ما هو حق لله ، وما هو حق لرسول الله ، ووجوب إفراد الله تعالى بما هو حقه تعالى ، وبين فيها آداب السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن وضع اليد على اليد كهيأة الصلاة نوع من أنواع العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى . اهـ .
وأن الجمع هنا بين المفهوم والمنطوق بنفس المفهوم ، لما يدل على شدة الاهتمام به والعناية بأمره ، وإنه ليلفت النظر إلى ما جاء في الأحاديث الصحيحة من النهي الأكيد والوعيد الشديد بالنسبة لقضية المساجد ودعوة التوحيد ، وما كان يفعله الأولون من بناء المساجد على القبور ، ويفتحون بذلك بابا مطلا على الشرك . كحديث أم سلمة وأم حبيبة - رضي الله عنهما - عند البخاري ومسلم ، في قصتيهما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاهدتاه بالحبشة من هذا القبيل ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح ، أو العبد الصالح ، بنوا على قبره مسجدا ; أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة " .
وكحديث الصحيحين : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " ، قالت عائشة : ولولا ذلك لأبرز قبره ، أي : خشية اتخاذه مسجدا " .
حديث الموطأ قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " فكل ذلك مما يشدد الحذر من الجمع بين القبور والمساجد ; خشية الفتنة وسدا للذريعة ، ويشهد لهذا ما ذكره علماء التفسير - رحمهم الله - من سبب النزول ، أن اليهود والنصارى كانوا إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم ، أشركوا مع الله غيره ، فحذر الله المسلمين أن يفعلوا ذلك .
وهذه المسألة مما تفشت في كثير من البلدان الإسلامية مما يستوجب التنبه لها ، وربط هذه الآية بها مع تلك النصوص النبوية الصريحة في شأنها مهما كان المسجد .
وذكر ابن كثير ، عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية لم يكن في الأرض مسجد إلا المسجد الحرام ، ومسجد إيلياء ، بيت المقدس .
تنبيه .
قد أثير في هذه المسألة تساؤلات من بعض الناس بالنسبة للمسجد النبوي وموضع الحجرة منه بعد إدخالها فيه .
[ ص: 352 ] وقد أجاب عن ذلك ابن حجر في فتح الباري بقوله على حديث عائشة - رضي الله عنها - : إنه - صلى الله عليه وسلم - قال في مرضه الذي مات فيه : " لعن الله اليهود والنصارى ; اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . قالت : ولولا ذلك لأبرز قبره ، غير أني أخشى أن يتخذ مسجدا . رواه البخاري في كتاب الجنائز .
وفي بعض رواياته : غير أنه خشي ، فقال ابن حجر : وهذا قالته عائشة قبل أن يوسع المسجد النبوي ، ولهذا لما وسع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة ; حتى لا يتأتى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر مع استقبال القبلة . اهـ .
وذكرت كتب السيرة وتاريخ المسجد النبوي بعض الأخبار في ذلك ، من ذلك ما رواه السمهودي في وفاء الوفاء ، قال : وعن المطلب ، قال : كانوا يأخذون من تراب القبر فأمرت عائشة بجدار فضرب عليهم ، وكان في الجدار كوة فأمرت بالكوة فسدت هي أيضا . ونقل عن ابن شبة ، قال أبو غسان بن يحيى بن علي بن عبد الحميد - وكان عالما بأخبار المدينة ومن بيت كتابة وعلم - : لم يزل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دفن فيه هو وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - ظاهرا ، حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الخطار المزور الذي هو عليه اليوم ، حين بنى المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك ، وإنما جعله مزورا ; كراهة أن يشبه تربيع الكعبة ، وأن يتخذ قبلة يصلى إليه .
قال أبو زيد بن شبة ، قال أبو غسان : وقد سمعت غير واحد من أهل العلم يزعم : أن عمر بن عبد العزيز بنى البيت غير بنائه الذي كان عليه ، وسمعت من يقول : بنى على بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجدر فدون القبر ثلاثة أجدر : جدار بناء بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجدار البيت الذي يزعم أنه بنى عليه - يعني عمر بن عبد العزيز - ، وجدار الخطار الظاهر ، وقال : قال أبو غسان فيما حكاه الأقشهدي : أخبرني الثقة عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن منصور بن ربيعة ، عن عثمان بن عروة ، قال : قال عروة : نازلت عمر بن عبد العزيز في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ألا يجعل في المسجد أشد المنازلة ، فأبى وقال : كتاب أمير المؤمنين لا بد من إنفاذه .
قال : قلت : فإن كان لا بد فاجعل له جؤجؤا . أي : وهو الموضع لنزور خلف الحجرة . اهـ .
[ ص: 353 ] فهذه منازلة في موضوع الحجرة والمسجد ، وهذا جواب عمر بن عبد العزيز .
وقد آلت إليه الخلافة وهو الخليفة الراشد الخامس ، وقد أقر هذا الوضع لما اتخذت تلك الاحتياطات من أن يكون القبر قبلة للمصلين ، وهذا مما لا شك فيه في خير القرون الأولى ، ومشهد من أكابر المسلمين ، مما لا يدع لأحد مجالا لاعتراض أو احتجاج أو استدلال ، وقد بحثت هذه المسألة من علماء المسلمين في كل عصر .
وقال القرطبي : بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأعلوا حيطان تربته ، وسدوا المدخل إليها ، وجعلوها محدقة بقبره - صلى الله عليه وسلم - ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين ، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة ، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال ; حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره . اهـ . من فتح المجيد .
وقد قال بعض العلماء : إن هذا العمل الذي اتخذ حيال القبر الشريف وقبري صاحبيه ، إنما هو استجابة دعائه - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " ، كما قال ابن القيم في نونيته ، كابن تيمية قال :
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران حتى غدت أرجاؤه بدعائه
في عزة وحماية وصيان
وقال صاحب فتح المجيد : ودل الحديث أن قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لو عبد لكان وثنا . ولكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس ; فلا يوصل إليه .
ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها . اهـ .
وهذا الذي قاله حقيقة دقيق مأخذها ; لأنه لو لم يكن بعد إدخال الحجرة في مأمن من الصلاة إليه لكان وثنا ، وحاشاه - صلى الله عليه وسلم - يكون في حياته داعيا إلى الله وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى يكون قبره وثنا ينافي التوحيد ، ويهدم ما بناه في حياته .
وكيف يرضى الله لرسوله ذلك حاشا وكلا . هذا مجمل ما قيل في هذه المسألة .
[ ص: 354 ] وجهة نظر .
وهنا وجهة نظر ، وإن كنت لم أقف على قول فيها ، وهي أن كل نص متقدم صريح في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور ; بأن يكون القبر أولا ثم يتخذ عليه المسجد . كما جاء في قصة أصحاب الكهف : قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا أي : أن القبر أولا والمسجد ثانيا .
أما قضية الحجرة والمسجد النبوي فهي عكس ذلك ، إذ المسجد هو الأول وإدخال الحجرة ثانيا ، فلا تنطبق عليه تلك النصوص في نظري . والله تعالى أعلم .
ومن ناحية أخرى ، لم يكن الذي أدخل في المسجد هو القبر أو القبور ، بل الذي أدخل في المسجد هو الحجرة ، أي : بما فيها ، وقد تقدم كلام صاحب فتح المجيد في تعريف الوثن : أنه ما سجد إليه من قريب .
وعليه فما من مصل يبعد عن مكة إلا ويقع بينه وبين الكعبة قبور ومقابر . ولا يعتبر مصليا إلى القبور لبعدها ووجود الحواجز دونه ، وإن كان البعد نسبيا . فكذلك في موضوع القبور الثلاثة في الحجرة ، فإنها بعيدة عن مباشرة الصلاة إليها ، والحمد لله رب العالمين .
وأيضا لابن تيمية - رحمه الله - كلام في ذلك ملخصه من المجموع : مجلد 27 ص 323 وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ودفن في حجرة عائشة - رضي الله عنها - ، وكانت هي وحجر نسائه في شرقي المسجد وقبليه ، لم يكن شيء من ذلك داخلا المسجد . واستمر الأمر على ذلك إلى أن انقرض عصر الصحابة بالمدينة .
ثم بعد ذلك في خلافة الوليد بن عبد الملك بن مروان بنحو من سنة من بيعته ، وسع المسجد ، وأدخلت فيه الحجرة للضرورة . فإن الوليد كتب إلى نائبه - عمر بن عبد العزيز - : أن يشتري الحجر من ملاكها ورثة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإنهن كن توفين كلهن - رضي الله عنهن - ، فأمره أن يشتري الحجر ويزيدها في المسجد ، فهدمها وأدخلها في المسجد ، وبقيت حجرة عائشة على حالها . وكانت مغلقة لا يمكن أحد من الدخول إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لا لصلاة عنده ، ولا لدعاء ، ولا غير ذلك . إلى حين كانت عائشة في الحياة وهي توفيت قبل إدخال الحجرة بأكثر من عشرين أو ثلاثين سنة .
وقال في صفحة 328 : ولم تكن تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهى عنه [ ص: 355 ] وبعدها كانت مغلقة ، إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر .
فكل ذلك صيانة له - صلى الله عليه وسلم - ، أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا . وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون ، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم ، وكلهم معظمون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم ; بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد . ولا يتخذ بيته عيدا ، ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم . انتهى .
وتقدم شرح ابن القيم لوضع الجدران الثلاثة وجعل طرف الجدار الثالث من الشمال على شكل رأس مثلث ، وأن المشاهد اليوم بعد ابن تيمية وابن القيم ، وجود الشبك الحديدي من وراء ذلك كله ، ويبعد عن رأس المثلث إلى الشمال ما يقرب من ستة أمتار يتوسطها ، أي : تلك المسافة محراب كبير ، وهذا كان في المسجد سابقا ، أي : قبل الشبك . مما يدل على بعد ما بين المصلي في الجهة الشمالية من الحجرة المكرمة وبين القبور الثلاثة ، وينفي أي علاقة للصلاة من ورائه بالقبور الشريفة . والحمد لله رب العالمين .
وفي ختام هذه المسألة ، وقد أثير فيها كلام في موسم حج سنة 1394 في منى ومن بعض المشتغلين بالعلم نقول :
لو أنها لم تدخل بالفعل لكان للقول بعدم إدخالها مجال . أما وقد أدخلت بالفعل وفي عهد عمر بن عبد العزيز وفي القرون المشهود لها بالخير ، ومضى على إدخالها ثلاثة عشر قرنا ، فلا مجال للقول إذا .
ومن ناحية أخرى ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - سكت على ما هو أعظم من ذلك ، ألا وهو موضوع بناء الكعبة ، وكونها لم تستوعب قواعد إبراهيم ، ولها باب واحد ، ومرتفع عن الأرض .
وكان باستطاعته - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد بناءها على الوجه الأصح ، فتستوعب قواعد إبراهيم ، ويكون لها بابان ويسويهما بالأرض . ولكنه - صلى الله عليه وسلم - ترك ذلك ; لاعتبارات بينها في حديثعائشة - رضي الله عنها - .
ألا يسع من يتكلم في موضوع الحجرات اليوم ما وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ، وما وسع السلف - رحمهم الله - في عين الحجرة .
[ ص: 356 ] ومن ناحية ثالثة : لو أنه أخذ بقولهم ، فأخرجت من المسجد ، أي : جعل المسجد من دونها على الأصل الأول .
ثم جاء آخرون ، وقالوا : نعيدها على ما كانت عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ، ألا يقال في ذلك ما قال مالك للرشيد - رحمهما الله - في خصوص الكعبة لما بناها ابن الزبير ، وأعادها الحجاج ، وأراد الرشيد أن يعيدها على بناء ابن الزبير ، فقال له مالك - رحمه الله - : لا تفعل ; لأني أخشى أن تصبح الكعبة ألعوبة الملوك . فيقال : هنا أيضا فتصبح الحجرة ألعوبة الملوك بين إدخال وإخراج . وفيه من الفتنة ما فيه . والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ .
قوله تعالى : ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا
بين تعالى المراد من المقدار المطلوب قيامه بما جاء بعده نصفه أو انقص منه [ 73 \ 3 ] ، أي : من نصفه أو زد عليه ، أي : على نصفه ، وفي هذه الآية الكريمة وما بعدها بيان لمجمل قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك الآية [ 17 \ 79 ] .
وفيها بيان لكيفية القيام ، وهو بترتيل القرآن ، وفيها رد على مسألتين اختلف فيهما .
الأولى منهما : عدد ركعات قيام الليل ، أهو ثماني ركعات أو أكثر ؟
وقد خير - صلى الله عليه وسلم - بين هذه الأزمنة من الليل ، فترك ذلك لنشاطه واستعداده وارتياحه . فلا يمكن التعبد بعدد لا يصح دونه ولا يجوز تعديه ، واختلف في قيام رمضان خاصة ، والأولى أن يؤخذ بما ارتضاه السلف ، وقد قدمنا في هذه المسألة رسالة عامة هي رسالة التراويح أكثر من ألف عام في مسجد النبي - عليه السلام - ، وقد استقر العمل على عشرين في رمضان .
والمسألة الثانية : ما يذكره الفقهاء في كيفية قيام الليل عامة : هل الأفضل كثرة الركعات لكثرة الركوع والسجود ؟ ، وحيث إن أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد ، أم طول القيام للقراءة ؟ حيث إن للقارئ بكل حرف عشر حسنات ، فهنا قوله تعالى : ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، نص على أن العبرة بترتيل القرآن ترتيلا ، وأكد بالمصدر تأكيدا لإرادة هذا المعنى ، كما قال ابن مسعود : " لا تنثروه نثر الرمل ، ولا تهذوه هذ الشعر ؟ قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة " .
وقد بينت أم سلمة - رضي الله عنها - تلاوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقولها : كان يقطع قراءته آية آية : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] . رواه أحمد .
[ ص: 358 ] وفي الصحيح عن أنس : سئل عن قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : كانت مدا ، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ، ويمد الرحيم .
تنبيه .
إن للمد حدودا معلومة في التجويد حسب تلقي القراء - رحمهم الله - ، فما زاد عنها فهو تلاعب ، وما قل عنها فهو تقصير في حق التلاوة .
ومن هذا يعلم أن المتخذين القرآن كغيره في طريقة الأداء من تمطيط وتزيد لم يراعوا معنى هذه الآية الكريمة ، ولا يمنع ذلك تحسين الصوت بالقراءة ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " زينوا القرآن بأصواتكم " .
وقال أبو موسى - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي ; لحبرته لك تحبيرا . وهذا الوصف هو الذي يتأتى منه الغرض من التلاوة ، وهو التدبر والتأمل ، كما في قوله تعالى : أفلا يتدبرون القرآن [ 4 \ 82 ] ، كما أنه هو الوصف الذي يتأتى معه الغرض من تخشع القلب ، كما في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، ولا تتأثر به القلوب والجلود إلا إذا كان مرتلا ، فإذا كان هذا كالشعر أو الكلام العادي لما فهم ، وإذا كان مطربا كالأغاني لما أثر . فوجب الترتيل كما بين - صلى الله عليه وسلم - .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (575)
سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ .
صـ 359 إلى صـ 366
قوله تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا
معلوم أن القول هنا هو القرآن كما قال تعالى إنه لقول رسول كريم [ 69 \ 40 ] وقوله : ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون [ 28 \ 51 ] .
وقوله : إنه لقول فصل [ 86 \ 13 ] ، وقوله ومن أصدق من الله قيلا [ 4 \ 122 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
ولكن وصفه بالثقل مع أن الثقل للأوزان وهي المحسوسات .
فقال بعض المفسرين : إن الثقل في وزن الثواب ، وقيل في التكاليف به ، وقيل من أثناء نزول الوحي عليه ، وكل ذلك ثابت للقرآن الكريم : فمن جهة نزوله ، فقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه الوحي أخذته [ ص: 359 ] برحاء شديدة ، وكان يحمر وجهه كأنه مذهبة ، وكان إذا نزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وهو في سفره على راحلته بركت به الناقة ، وجاء عن أنس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان واضعا رأسه على فخذه ، فأتاه الوحي ، قال أنس : فكان فخذي تكاد تنفصل مني ، ومن جانب تكاليفه فقد ثقلت على السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها ، كما هو معلوم .
ومن جانب ثوابه : فقد جاء في حديث مسلم : " الحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض " .
وحديث البطاقة وكل ذلك يشهد بعضه لبعض ولا ينافيه .
وقد بين تعالى أن هذا الثقل قد يخففه الله على المؤمنين ، كما في الصلاة في قوله : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ 2 \ 45 - 46 ] ، وكذلك القرآن ثقيل على الكفار ، خفيف على المؤمنين محبب إليهم .
وقد جاء في الآثار أن بعض السلف كان يقوم الليل كله بسورة من سور القرآن تلذذا وارتياحا ، كما قال تعالى : ولقد يسرنا القرآن للذكر [ 54 \ 17 ] ، فهو ثقيل في وزنه ثقيل في تكاليفه ، ولكن يخففه الله وييسره لمن هداه ووفقه إليه .
قوله تعالى : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا
أي : ما تنشأه من قيام الليل أشد مواطأة للقلب ، وأقوم قيلا في التلاوة والتدبر والتأمل ، وبالتالي بالتأثر ، ففيه إرشاد إلى ما يقابل هذا الثقل فيما سيلقى عليه من القول ، فهو بمثابة التوجيه إلى ما يتزود به لتحمل ثقل أعباء الدعوة والرسالة .
وقد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - قوله : لا يثبت القرآن في الصدر ، ولا يسهل حفظه وييسر فهمه إلا القيام به من جوف الليل ، وقد كان - رحمه الله تعالى - لا يترك ورده من الليل صيفا أو شتاء ، وقد أفاد هذا المعنى قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] ، فكان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة .
وهكذا هنا فإن ناشئة الليل كانت عونا له - صلى الله عليه وسلم - على ما سيلقى عليه من ثقل القول .
مسألة :
قيل : إن قيام الليل كان فرضا عليه - صلى الله عليه وسلم - قبل أن تفرض الصلوات الخمس ; لقوله [ ص: 360 ] تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [ 17 \ 79 ] ، والنافلة : الزيادة ، وقيل : كان فرضا عليه - صلى الله عليه وسلم - وعلى عامة المسلمين ; لقوله تعالى في هذه السورة : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك ، ثم خفف هذا كله بقوله :
فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، إلى قوله : فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا [ 73 \ 20 ] .
ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عمل عملا داوم عليه ، فكان يقوم الليل شكرا لله كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - : " أفلا أكون عبدا شكورا " ، وبقي سنة لغيره بقدر ما يتيسر لهم . - والله تعالى أعلم - .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ .
قوله تعالى : يا أيها المدثر قم فأنذر
الإنذار إعلام بتخويف ، فهو أخص من مطلق الإعلام ، وهو متعد لمفعولين المنذر باسم المفعول والمنذر به ، ولم يذكر هنا واحد منهما .
أما المنذر فقد بينت آيات أخر أنه قد يكون للكافرين ، كما في قوله تعالى : وتنذر به قوما لدا [ 19 \ 97 ] ; تخويفا لهم .
وقد يكون للمؤمنين ; لأنهم المنتفعون به كما في قوله : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب [ 36 \ 11 ] .
وقد يكون للجميع ، أي : لعامة الناس كما في قوله تعالى : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا [ 10 \ 2 ] .
وأما المنذر به فهو ما يكون يوم القيامة .
وقد قدر الأمرين هنا ابن جرير بقوله : فأنذر عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - تفصيل ذلك عند قوله تعالى : لتنذر به وذكرى للمؤمنين [ 7 \ 2 ] في سورة الأعراف .
قوله تعالى : وثيابك فطهر
قد اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي : الثياب ، وفطهر ، هل هما دلا على الحقيقة ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات ؟ أم هما على الكناية ؟ والمراد بالثوب : البدن ، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها ، أم على الحقيقة والكناية ؟ ، فقد ذكر ابن جرير وغيره نحوا من خمسة أقوال :
[ ص: 362 ] الأول : عن ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك أن معناه : لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة ، واستشهد بقول غيلان :
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
وقول الآخر :
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
فاستعمل اللفظين في الكناية ، وقد يستدل له بقوله : ووضعنا عنك وزرك [ 94 \ 2 ] .
وورد عن ابن عباس : لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب ، فاستعمل الثياب في الحقيقة ، والتطهير في الكناية .
وعن مجاهد : أصلح عملك ، وعملك فأصلح ، فاستعملهما معا في الكناية عن العمل الصالح .
وعن محمد بن سيرين ، وابن زيد : على حقيقتهما ، فطهر ثيابك من النجاسة .
ثم قال : والذي قاله ابن سيرين وابن زيد أظهر في ذلك .
وقول ابن عباس وعكرمة قول عليه أكثر السلف . والله أعلم بمراده .
وقال غيره : ثيابك هي نساؤك ، كما في قوله هن لباس لكم [ 2 \ 187 ] ، فأمرهن بالتطهر ، وتخيرهن طاهرات خيرات .
هذه أقوال المفسرين واختيار ابن جرير منها ، والواقع في السياق ما يشهد لاختيار ابن جرير ، وهو حمل اللفظين على حقيقتهما .
وترجيح قول ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة ، والقرينة في الآية أنها اشتملت على أمرين :
الأول : طهارة الثوب ، والثاني : هجر الرجز .
ومن معاني الرجز : المعاصي ، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته ، وهو الرجز على حقيقته لمعنى جديد أولى .
[ ص: 363 ] وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بقسميها أصرح من ذلك في قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان [ 8 \ 11 ] - . والله تعالى أعلم - .
وقد جعل الشافعي هذه الآية دليلا على الطهارة للصلاة .
قوله تعالى : فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير
الناقور : هو الصور ، وأصل الناقور الصوت ، وقوله : يوم عسير على الكافرين غير يسير .
قيل : عسير وغير يسير على الكافرين .
وقال الزمخشري : إن غير يسير كان يكفي عنها يوم عسير ، إلا أنه ليبين لهم أن عسره لا يرجى تيسيره ، كعسر الدنيا ، وأن فيه زيادة وعيد للكافرين .
ونوع بشارة للمؤمنين لسهولته عليهم ، ولعل المعنيين مستقلان ، وأن قوله تعالى : يوم عسير ، هذا كلام مستقل وصف لهذا اليوم ، وبيان للجميع شدة هوله ، كما جاء في وصفه في قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ 22 \ 1 - 2 ] ، ومثل قوله تعالى يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه [ 80 \ 34 - 35 ] ، ونحو ذلك .
ثم بين تعالى أن اليوم العسير أنه على الكافرين غير يسير ، كما قال تعالى عنهم فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] ، بينما يكون على المؤمنين يسيرا ، مع أنه عسير في ذاته لشدة هوله ، إلا أن الله ييسره على المؤمنين ، كما بين تعالى هذه الصورة بجانبها في قوله تعالى من سورة " النمل " :
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب إلى قوله من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون [ 27 \ 87 - 90 ] . \ 5 [ ص: 364 ] فالفزع من صعقة يوم ينفخ في الصور عام لجميع من في السماوات ومن في الأرض ، ولكن استثنى الله من شاء ، ثم بين تعالى هؤلاء المستثنين ومن يبقى في الفزع ، فبين الآمنين وهم من جاء بالحسنة ، والآخرون من جاء بالسيئة .
قوله تعالى : عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر
في قوله تعالى : وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا حكى القرطبي في معنى الفتنة هنا معنيين :
الأول : التحريق كما في قوله : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات [ 85 \ 10 ] .
والثاني : الابتلاء . وقد تقدم للشيخ مرارا في كتابه ودروسه ، أن أصل الفتنة الاختبار . تقول : اختبرت الذهب إذا أدخلته النار ; لتعرف زيفه من خالصه .
ولكن السياق يدل على الثاني ، وهو الاختبار والابتلاء; لقوله تعالى :
وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا .
وقوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو أي : عددهم ، فلو كان المراد التحريق والوعيد بالنار ، لما كان مجال لتساؤل الذين في قلوبهم مرض والكافرين عن هذا المثل ، ولما كان يصلح أن يجعل مثلا ، ولما كان الحديث عن عدد جنود ربك بحال ، وفي هذه الآية الكريمة عدة مسائل هامة .
الأولى : جعل المثل المذكور ، أي : جعل العدد المعين فتنة لتوجه السؤال أو مقابلته بالإذعان ، فقد تساءل المستبعدون واستسلم وأذعن المؤمنون ، كما ذكر تعالى في صريح قوله : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا [ 2 \ 62 ] .
ثم بين تعالى الغرض من ذلك طبق ما جاء في الآية هنا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] [ ص: 365 ] فهذه الآية من سورة " البقرة " مبينة تماما لآية " المدثر " .
المسألة الثانية : قوله تعالى : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب أن هذا مطابق لما عندهم في التوراة ، وهذا مما يشهد لقومهم على صدق ما يأتي به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وما ادعاه لإيمانهم وتصديقهم .
وقد ذكر القرطبي حديثا في ذلك واستغربه ، ولكن النص يشهد لذلك .
المسألة الثالثة : أن المؤمن كلما جاءه أمر عن الله وصدقه ، ولو لم يعلم حقيقته اكتفاء بأنه من الله ، ازداد بهذا التصديق إيمانا وهي مسألة ازدياد الإيمان بالطاعة والتصديق .
المسألة الرابعة : بيان أن الواجب على المؤمن المبادرة بالتصديق والانقياد ، ولو لم يعلم الحكمة أو السر أو الغرض بناء على أن الخبر من الله تعالى . وهو أعلم بما رواه .
وفي هذه المسألة مثار نقاش حكمة التشريع ، وهذا أمر واسع ، ولكن المهم عندنا هنا ونحن في عصر الماديات ، وتقدم المخترعات ، وظهور كثير من علامات الاستفهام عند كثير من آيات الأحكام ، فإنا نود أن نقول :
إن كل ما صح عن الشارع الحكيم من كتاب أو سنة وجب التسليم والانقياد إليه ، علمنا الحكمة أو لم نعلم ; لأن علمنا قاصر ، وفهمنا محدود ، والعليم الحكيم الرءوف الرحيم - سبحانه - لا يكلف عباده إلا بما فيه الحكمة .
ومجمل القول أن الأحكام بالنسبة لحكمتها قد تكون محصورة في أقسام ثلاثة :
القسم الأول : حكم تظهر حكمته بنص كما في وجوب الصلاة ، جاء : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ 29 \ 45 ] ، وهذه حكمة جليلة ، والزكاة جاء عنها أنها : تطهرهم وتزكيهم [ 9 \ 103 ] .
وفي الصوم جاء فيه : لعلكم تتقون [ 2 \ 183 ] .
وفي الحج جاء فيه : ليشهدوا منافع لهم [ 22 \ 28 ] . فمع أنها عبادات لله فقد ظهرت حكمتها جلية .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:33 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (576)
سُورَةُ الْقِيَامَةِ .
صـ 367 إلى صـ 374
وفي الممنوعات كما قالوا في الضروريات الست ، حفظ الدين ، والعقل ، والدم ، [ ص: 366 ] والعرض ، والنسب ، والمال لقيام الحياة ووفرة الأمن ، وصيانة المجتمع ، وجعلت فيها حدود لحفظها وغير ذلك .
وقسم لم تظهر حكمته بهذا الظهور ، ولكنه لم يخل من حكمة : كالطواف ، والسعي ، والركوع ، والسجود ، والوضوء ، والتيمم ، والغسل ، ونحو ذلك .
وقسم ابتلاء وامتحان أولا ، ولحكمة ثانيا : كتحويل القبلة ، كما قال تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه [ 2 \ 143 ] .
وفي التحول عنها حكمة كما في قوله تعالى : لئلا يكون للناس عليكم حجة [ 2 \ 150 ] .
والمسلم في كلتا الحالتين ظهرت له الحكمة أو لم تظهر وجب عليه الامتثال والانقياد ، كما قال عمر عند استلامه للحجر : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك .
فقبله امتثالا واقتداء بصرف النظر عن ما جاء من : أن عليا - رضي الله عنه - قال له : بلى يا أمير المؤمنين ، إنه يضر وينفع ، فيأتي يوم القيامة وله لسان وعينان يشهد لمن قبله ; لأن عمر أقبل عليه ليقبله قبل أن يخبره علي - رضي الله عنه - .
وقد تنكشف الأمور عن حكمة لا نعلمها كما في قصة الخضر مع موسى - عليهما السلام - ، إذ خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وأقام الجدار ، وكلها أعمال لم يعلم لها موسى - عليه السلام - حكمة ، فلما أبداها له الخضر علم مدى حكمتها .
وهكذا نحن اليوم وفي كل يوم ، وقد بين تعالى هذا الموقف بقوله : والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا [ 3 \ 7 ] .
وقد جاء في نهاية الآية الكريمة ما يلزم البشر بالعجز ويدفعهم إلى التسليم ، في قوله : وما يعلم جنود ربك إلا هو .
فكذلك بقية الأمور من الله تعالى هو أعلم بها . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : [ ص: 367 ] ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين
في هذه الآية الكريمة : أن أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين ، وسبب دخولهم النار ، وكان الجواب : أنهم لم يكونوا من المصلين ، ولم يكونوا يطعموا المسكين ، وكانوا يخوضون مع الخائضين . وكانوا يكذبون بيوم الدين ، فجمعوا بين الكفر بتكذيبهم بيوم الدين وبين الفروع ، وهي ترك الصلاة والزكاة المعبر عنها بإطعام المسكين إلى آخره ، فهذه الآية من الأدلة على أن الكافر مطالب بفروع الشرع مع أصوله .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مناقشة هذه المسألة عند قوله تعالى : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون [ 41 \ 7 ] في سورة " فصلت " .
قوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين
فيه : أن الكفار لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، كما أن فيها إثبات الشفاعة للشافعين ، ومفهوم كونها لا تنفع الكفار أنها تنفع غيرهم .
وقد جاءت نصوص في الشفاعة لمن ارتضاهم الله ، وقد دلت نصوص على كلا الأمرين ، فمن عدم الشفاعة للكفار قوله تعالى : ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع [ 40 \ 18 ] .
وقوله : وما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين [ 26 \ 99 - 100 ] ونحو ذلك من الآيات .
وفي القسم الثاني قوله تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى [ 21 \ 28 ] .
وكذلك الشفيع لا يشفع إلا من أذن له ، ولا يشفعون إلا فيمن أذنوا فيه ، كما قال تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، وقوله : يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن [ 20 \ 109 ] .
ومبحث الشفاعة واسع مقرر في كتب العقائد .
وخلاصة القول فيها : أنها لا تكون إلا بإذن من الله للمأذون له فيها ، وقد ثبت [ ص: 368 ] للنبي - صلى الله عليه وسلم - الشفاعة العظمى وهي المقام المحمود ، وعدة شفاعات بعدها منها ما اختص به - صلى الله عليه وسلم - كالشفاعة العظمى ودخول الجنة ، والشفاعة في غير مسلم وهو عمه أبو طالب للتخفيف عنه ، ومنها ما يشاركه فيها غيره من الأنبياء والصلحاء . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فما لهم عن التذكرة معرضين كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة
في هذه الآية تشبيه المدعوين في إعراضهم عن الدعوة والتذكرة ، بالحمر الفارة من الصيادين أو الأسد ، وقد شبه أيضا العالم غير المنتفع بعلمه بالحمار يحمل أسفارا ، فهما تشبيهان بالداعي والمدعو إذا لم تنفعه الدعوة ، وتقدم للشيخ في مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْقِيَامَةِ .
قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة
قال ابن جرير : اختلف القراء في قراءة قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة ، فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار : " لا أقسم " مفصولة من أقسم سوى الحسن والأعرج ، فإنه ذكر عنهما أنهما كانا يقرءان ذلك : " لأقسم بيوم القيامة " . بمعنى : أقسم بيوم القيامة .
ثم دخلت عليها لام القسم ، والقراءة التي لا أستجيز غيرها في هذا الموضع " لا " مفصولة ، " أقسم " مبتدأة على ما عليه قراء الأمصار بإجماع الحجة من القراء عليه .
وقد اختلف الذين قرءوا ذلك على الوجه الذي اخترنا قراءته في تأويله ، فقال بعضهم : لا صلة ، وإنما معنى الكلام : " أقسم بيوم القيامة " ، وعزاه إلى سعيد بن جبير .
وقال آخرون : بل دخلت " لا " توكيدا للكلام .
وذكر عن أبي بكر بن عياش في قوله : " لا أقسم " توكيد للقسم ، كقوله : لا والله .
وقال بعض نحوي الكوفة : " لا " رد لكلام قد مضى من كلام المشركين الذين كانوا ينكرون الجنة والنار .
ثم ابتدئ القسم ، فقيل : أقسم بيوم القيامة ، وكان يقول : كل يمين قبلها رد كلام ، فلا بد من تقديم " لا " قبلها ; ليفرق بذلك بين اليمين التي تكون جحدا واليمين التي تستأنف ، ويقول : ألا ترى أنك تقول مبتدئا : والله إن الرسول لحق ، وإذا قلت : لا والله ، إن الرسول لحق ، فكأنك أكذبت قوما أنكروه ، واختلفوا أيضا في ذلك هل هو قسم أم لا ؟ .
وذكر الخلاف في ذلك ، والواقع أن هذه المسألة من المشكلات من حيث وجود اللام ، وهل هي نافية للقسم أم مثبتة ؟ وعلى أنها مثبتة فما موجبها ؟ هل هي رد لكلام سابق أم تأكيد للقسم ؟ وهل وقع إقسام أم لا ؟ كما ذكر كل ذلك ابن جرير .
[ ص: 370 ] وقد تناولها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في كتابه دفع إيهام الاضطراب في موضعين ، الأول : في هذه السورة . والثاني : في سورة " البلد " عند قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 \ 1 ] ، فبين في الموضع الأول أنها - أي " لا " - : نافية لكلام قبلها ; فلا تتعارض مع الإقسام بيوم القيامة فعلا الواقع في قوله تعالى : واليوم الموعود [ 85 \ 2 ] .
والثاني : أنها صلة ، وقال : سيأتي له زيادة إيضاح ، والموضع الثاني : لا أقسم بهذا البلد ، ساق فيه بحثا طويلا مهما جدا نسوق خلاصته . وسيطبع الكتاب - إن شاء الله - مع هذه التتمة فليرجع إليه .
خلاصة ما ساقه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - :
قال : الجواب عليها من أوجه . الأول - وعليه الجمهور - : أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت بلفظة " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] . يعني أن تتبعني .
وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] .
وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] .
وقول امرئ القيس :
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدع القوم أني أفر
يعني وأبيك ، وأنشد الفراء لزيادة لا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، قول الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني وعمر ، وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :
في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح شجر
والحور : الهلكة : يعني في بئر هلكة ، وأنشد غيره :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع
والوجه الثاني : أن " لا " نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
[ ص: 371 ] وقوله : أقسم : إثبات مستأنف .
وقيل : إن هذا الوجه ، وإن قال به كثير من العلماء ، إلا أنه ليس بوجيه عندي ; لقوله تعالى في سورة القيامة : ولا أقسم بالنفس اللوامة ; لأن قوله : ولا أقسم بالنفس اللوامة يدل على أنه لم يرد الإثبات المستأنف بعد النفي بقوله " أقسم " والله تعالى أعلم .
الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به . فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية . والمراد أنه لا يعظم بالقسم ، بل هو في نفسه عظيم أقسم به أو لا . وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من نظر .
الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء ، أشبعت فتحتها . والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف ، والكسرة بياء ، والضمة بواو . ومثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن الحارث :
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
فالأصل : كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .
وقول الراجز :
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملق
وقول عنترة في معلقته :
ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل العتيق المكدم
فالأصل ينبع ، يعني العرق ، ينبع من الذفرى : من ناقته ، فأشبعت الفتحة فصارت ينباع ، وقال : ليس هذا الإشباع من ضرورة الشعر .
ثم ساق الشواهد على الإشباع بالضمة والكسرة ، ثم قال : يشهد لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن . والعلم عند الله تعالى اهـ . ملخصا .
فأنت ترى أنه - رحمه الله - قدم فيها أربعة أوجه : صلة ، ونفي الكلام قبلها ، وتأكيد [ ص: 372 ] للقسم ، ولام ابتداء . واستدل له بقراءة قنبل ، أي : " لأقسم " متصلة ، أما كونها لام ابتداء لقراءة قنبل والحسن ، فقد تقدم أن ابن جرير لا يستجيز هذه القراءة ; لإجماع الحجة من القراء على قراءتها مفصولة : لا أقسم .
ولعل أرجح هذه الأوجه كلها أنها لتوكيد القسم ، كما ذكر ابن جرير عن نحويي الكوفة . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه
هذا الحسبان قد جاء مصرحا به في قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] .
وجاءه الجواب : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] .
قوله تعالى : بلى قادرين على أن نسوي بنانه
كل المفسرين على أن المعنى نجعل بنانه متساوية ملتحمة كخف البعير ، أي : لا يستطيع أن يتناول بها شيئا ولا يحسن بها عملا .
وهذا في الواقع لم نفهم له وجها مع السياق ، فهو وإن كان دالا على قدرة الله وعجز العبد . ولكن السياق في إنكار البعث واستبعاده ومجيء نظير ذلك في سورة " يس " ، يرشد إلى أن سبحانه قادر بعد موت العبد وتلاشيه في التراب وتحول عظامه رميما ، فهو قادر على أن يعيده تماما ، كما أنشأه أول مرة ، ومن ضمن تلك الإعادة أن يسوي بنانه ، أي : يعدلها وينشؤها كما كانت أول مرة ، والعلم عند الله تعالى .
ويرشد له قوله تعالى : وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] ، ومن الخلق ما كان عليه خلق هذا الإنسان المكذب المعترض ، فهو سبحانه يعيده على ما كان عليه تماما ، وهذا أبلغ في القدرة وأبلغ في الإلزام يوم القيامة . والعلم عند الله .
قوله تعالى : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر
قرئ " برق " بكسر الراء وفتحها ; فبالكسر : فزع ودهش ، أصله من برق الرجل ، إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ، ومنه قول ذي الرمة :
[ ص: 373 ]
لو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه مي سافرا كاد يبرق
وقول الأعشى :
وكنت أرى في وجه مية لمحة فأبرق مغشيا علي مكانيا
و " برق " بالفتح : شق بصره ، وهو من البريق ، أي : لمع بصره من شدة شخوصه .
قال أبو حيان : والواقع أنه لا مانع من إرادة المعنيين ما دامت القراءتان صحيحتين ، وقد يشهد لهذا النص في سورة " إبراهيم " في قوله تعالى : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم [ 14 \ 42 - 43 ] .
قال ابن كثير : ينظرون من الفزع هكذا وهكذا ، لا يستقر لهم بصر من شدة الرعب .
وقوله : يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر ، تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " ص " على قوله تعالى : كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] .
قوله تعالى : ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر
المراد : " بما قدم " هنا هو ما قدمه من عمل ليوم القيامة ، كما في قوله تعالى : يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 23 - 24 ] ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه عند قوله تعالى وبدا لهم سيئات ما كسبوا [ 39 \ 48 ] من سورة " الزمر " .
قوله تعالى : بل الإنسان على نفسه بصيرة
بينه قوله تعالى : اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 14 ] .
وقوله : ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] ، وتقدم في سورة " الكهف " .
قوله تعالى : ولو ألقى معاذيره
أي : أنها لا تنفعه آنذاك ، كما في قوله تعالى : يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم [ 40 \ 52 ] .
[ ص: 374 ] وقد بين تعالى بعض معاذيرهم تلك في مثل قوله تعالى : قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون [ 28 \ 63 ] .
وقوله : فأغويناكم إنا كنا غاوين [ 37 \ 32 ] .
وقوله : قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 106 - 108 ] .
وقوله : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 10 - 11 ] .
قوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه
فيه النهي عن تحريك لسانه - صلى الله عليه وسلم - ، وبيان أن الله تعالى عليه جمعه وقرآنه ، وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان لشدة حرصه على استيعاب ما يوحى إليه ، يحرك لسانه عند الوحي فنهي عن ذلك .
وقد بين تعالى مدى هذا النهي ومدة هذه العجلة في قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] ، وفيه الإيماء إلى حسن الاستماع والإصغاء عند الإيحاء به ، كما في آداب الاستماع : فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون [ 7 \ 204 ] .
وقوله : إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 17 ] ، قد بين تعالى أن جمعه وقراءته عليه في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .
تنبيه .
إن في قوله تعالى : إن علينا جمعه وقرآنه فيه إشارة إلى أنه نزل مفرقا ، وإشارة إلى أن جمعه على هذا النحو الموجود برعاية وعناية من الله تعالى وتحقيقا ; لقوله تعالى إن علينا جمعه وقرآنه ، ويشهد لذلك أن هذا الجمع الموجود من وسائل حفظه ، كما تعهد تعالى بذلك . والله تعالى أعلم .
[ ص: 375 ] وقال أبو حيان : إن علينا جمعه في صدرك . " وقرآنه " ، أي : تقرؤه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:34 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (577)
سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
صـ 375 إلى صـ 382
قوله تعالى : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه
تقدم للشيخ بيانه عند قوله تعالى : علمه شديد القوى [ 53 \ 5 ] ، من سورة " النجم " .
قوله تعالى : ثم إن علينا بيانه
قد نبه تعالى كما جاء في مقدمة الأضواء أنه ما من مجمل إلا وجاء تفصيله في مكان آخر ، وقد نص تعالى على هذا في كثير من الآيات ، كما في قوله : كتاب فصلت آياته [ 41 \ 3 ] ، وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، بيان ذلك في أول " فصلت " .
قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة
تقدم بيانه للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، عند قوله تعالى : قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني [ 7 \ 143 ] .
قوله تعالى : كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق
لم يبين ما هي التي بلغت التراقي ولكنه معلوم أنها الروح ، كما في قوله تعالى : فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون إلى قوله ترجعونها إن كنتم صادقين [ 56 \ 83 - 87 ] ، فهذه حالات النزع ، والروح تبلغ الحلقوم وتبلغ التراقي . وقد يترك التصريح للعلم كما في قوله تعالى : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب [ 38 \ 32 ] ، أي : الشمس ، وهكذا هنا فلمعرفتها بالقرائن ترك التصريح بالروح أو النفس ، وقد صرح تعالى بذلك في قوله : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الآية [ 6 \ 93 ] .
وقوله تعالى : وقيل من راق
اختلف في معنى راق هذه ، فقيل من الرقية أي : قال من حوله : من يرتقيه هل من طبيب يرقيه ؟ أي حالة اشتداد الأمر عليه رجاء لشفائه أو استبعادا بأنه لا ينفعه ، وقيل : من الرقي أي تقول الملائكة : من الذي سيرقى بروحه [ ص: 376 ] أملائكة العذاب أم ملائكة الرحمة ؟
ولكن في الآية قرينة على أن الأول أرجح ; لأن قول الملائكة يكون في حق الشخص المتردد في أمره ، وهذا هنا ليس موضع تردد ; لأن نهاية السياق فيه فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى [ 75 \ 31 ، 32 ] ، إلى ما بعده .
وقال أبو حيان : على أنه على قول الملائكة من يرقى بروحه ، يكون ذلك كراهية منهم أن يصعدوا بها ، وفي هذا نظر ; لأن الله تعالى جعل ملائكة للمشركين وهم ملائكة العذاب ، وملائكة للمؤمنين ، وهم ملائكة الرحمة . ولا يستكره فريق منهما أن يصعد بما تخصص له ، بل قد لا يسمح للآخر بما يخصه .
كما في حديث الذي قتل مائة نفس ، وأدركته الوفاة في منتصف الطريق ، فحضرته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب يختصمون أيهم يصعد بروحه ، كل يريد أن يتولى قبض روحه ، أولئك يقولون : إنه قتل مائة نفس ولم يعمل خيرا قط ، وأولئك يقولون : إنه خرج تائبا إلى الله تعالى .
وهذا كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - من ترجيح أحد المعنيين المختلف فيهما بين المفسرين ; لوجود قرينة في الآية . وقد وجدت القرينة وهي ما في آخر الآية والسياق من أنه ليس موضع تردد : فلا صدق ولا صلى الآية [ 75 \ 31 ] . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى
رد على زعم أنه خلق سدى وهملا ، وأنه لا يحاسب ولا يسأل وبالتالي لا يبعث .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم [ 23 \ 115 - 116 ] ، أي : تعالى الله عن العبث ، وقد ساق الشيخ الأدلة الوافية هناك .
قوله تعالى : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى
[ ص: 377 ] بلى إنه على كل شيء قدير ، مجيء هذا الاستفهام الإنكاري أو التقريري ، بعد أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، وسوق هذه الآيات العظيمات الدالة على القدرة الباهرة ، فيه رد على إنكار ضمني وهو أنه لا يعتقد وجوده سدى ، ولا حساب عليه إلا من استبعد البعث .
ولو أقر بالبعث لآمن بالجزاء واعترف بالسؤال ، وعلم أنه لم يخلق عبثا ، ولن يترك سدى . ولكن لما أنكر البعث ظن وحسب أنه يترك سدى ، فجاء تذكيره بأصل خلقته وتطوره ليستخلص منه اعترافه ; لأن من قدر على خلقه من مني يمنى ، وتطويره إلى علقة ثم إلى خلق سوي ، فهو قادر على بعثه مرة أخرى .
وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هذه الأطوار في أكثر من موضع ، وأحال عليها عند قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى [ 53 \ 45 - 47 ] في سورة " النجم " .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا
اتفق المفسرون على أن " هل " هنا بمعنى قد ، أي : أن الاستفهام تقريري يستوجب الإجابة عليه بنعم .
ولفظ الإنسان في هل أتى على الإنسان ، وقيل : هو الإنسان الأول آدم - عليه السلام - ، أتى عليه حين من الدهر ، لم يكن شيئا يذكر .
وقيل : هو عموم الإنسان من بني آدم فيكون المعنى على الأول ، أن آدم - عليه السلام - أتى عليه حين من الدهر ، قيل : أربعون سنة .
ذكر عن ابن عباس : كان طينا ، ثم صلصالا ، حتى نفخ فيه الروح .
ويكون على الثاني : أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر ، هو أربعون يوما نطفة ، ثم أربعون يوما علقة ، ثم أربعون يوما مضغة ، وكل ذلك شيء ولكنه لم يكن مذكورا ، أي ضعيفا ، وكلاهما محتمل .
ولفظ الإنسان الثاني في قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ، اتفقوا على أنه عام في بني آدم ; لأنه هو الذي خلق من نطفة أمشاج أخلاط ، وقد رجح الفخر الرازي أن لفظ الإنسان في الموضعين بمعنى واحد ، وهو المعنى العام ; ليستقيم الأسلوب بدون مغايرة بين اللفظين إذ لا قرينة مميزة .
ولعل في السياق قرينة تدل على ما قاله ، وهي أن قوله تعالى : نبتليه قطعا لبني آدم ; لأن آدم - عليه السلام - انتهى أمره بالسمع والطاعة : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 37 ] ، ولم يبق مجال لابتلائه ، إنما ذلك لبنيه . والله [ ص: 379 ] تعالى أعلم .
وقوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج فيه بيان مبدأ خلق الإنسان ، وله أطوار في وجوده بعد النطفة علقة ، ثم مضغة ، ثم خلقا آخر ، وكل ذلك من لا شيء قبله . كما قال تعالى : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا [ 19 \ 9 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند الآية الكريمة : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .
قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
الهداية هنا بمعنى البيان ، كما في قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
والسبيل : الطريق السوي ، وفيه بيان انقسام الإنسان إلى قسمين : شاكر معترف بنعمة الله تعالى عليه ، مقابل لها بالشكر ، أو كافر جاحد .
وقوله : إما شاكرا ، يشير إلى إنعام الله تعالى على العبد ، وقد ذكر تعالى نعمتين عظيمتين :
الأولى : إيجاد الإنسان من العدم بعد أن لم يكن شيئا مذكورا ، وهذه نعمة عظمى لا كسب للعبد فيها .
والثانية : الهداية بالبيان والإرشاد إلى سبيل الحق والسعادة ، وهذه نعمة إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ولا كسب للعبد فيها أيضا .
وقد قال العلماء : هناك ثلاث نعم لا كسب للعبد فيها :
الأولى : وجوده بعد العدم .
الثانية : نعمة الإيمان .
الثالثة : دخول الجنة .
وقالوا : الإيجاد من العدم ، تفضل من الله تعالى كما قال : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] ، ومن جعله الله عقيما فلن [ ص: 380 ] ينجب قط .
والثانية : الإنعام بالإيمان ، كما في قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] .
وقد جاء في الحديث : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه " . الحديث .
وكون المولود يولد بين أبوين مسلمين ، لا كسب له في ذلك .
والثالثة : الإنعام بدخول الجنة كما في الحديث : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ; إلا أن يتغمدني الله برحمته " .
وقد ذكر تعالى نعمتين صراحة ، وهما خلق الإنسان بعد العدم ، وهدايته السبيل .
والثالثة : تأتي ضمنا في ذكر النتيجة : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] ; لأن الأبرار هم الشاكرون بدليل التقسيم : شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 3 - 5 ] .
وقوله تعالى : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] تقدم أنها هداية بيان .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الهداية العامة والخاصة . والجمع بينهما في أكثر من موضع ، وفي مستهل هذه السورة بيان لمبدأ الإنسان وموقفه من بعثة الرسل وهدايتهم ، ونتائج أعمالهم من شكر أو كفر .
وقد جاءت السنة بقراءة هذه السورة في الركعة الثانية من فجر يوم الجمعة ، مع قراءة سورة السجدة في الركعة الأولى .
وقال ابن تيمية : إن قراءتهما معا في ذلك اليوم ; لمناسبة خلق آدم في يوم الجمعة ، ليتذكر الإنسان في هذا اليوم - وهو يوم الجمعة - مبدأ خلق أبيه آدم ، ومبدأ خلق عموم الإنسان ، ويتذكر مصيره ومنتهاه ; ليرى ما هو عليه من دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهل هو شاكر أو كفور . اهـ ملخصا .
ومضمون ذلك كله أنه يرى أن الحكمة في قراءة السورتين في فجر الجمعة ، أن يوم [ ص: 381 ] الجمعة هو يوم آدم - عليه السلام - فيه خلق ، وفيه نفخ فيه الروح ، وفيه أسكن الجنة ، وفيه أهبط إلى الأرض ، وفيه تيب عليه ، وفيه تقوم الساعة .
كما قيل : يوم الجمعة يوم آدم ، ويوم الإثنين يوم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي : فيه ولد وفيه أنزل عليه ، وفيه وصل المدينة في الهجرة ، وفيه توفي .
ولما كان يوم الجمعة يوم إيجاد الإنسان الأول ويوم أحداثه كلها ، إيجادا من العدم ، وإنعاما عليه بسكنى الجنة ، وتواجده على الأرض ، وتلقي التوبة عليه من الله ; أي : يوم الإنعام عليه حسا ومعنى ، فناسب أن يذكر الإمام بقراءته سورة " السجدة " في فجر يوم الجمعة ; لما فيها من قصة خلق آدم في قوله : الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه [ 32 \ 7 - 9 ] .
وفيها قوله تعالى : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين [ 32 \ 13 ] ، مما يبث الخوف في قلوب العباد ، إذ لا يعلم من أي الفريقين هو ، فيجعله أشد حرصا على فعل الخير ، وأشد خوفا من الشر .
ثم حذر من نسيان يوم القيامة : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 32 \ 14 ] .
وهكذا في الركعة الأولى ، يرجع المسلم إلى أصل وجوده ويستحضر قصة الإنسان الأول .
وكذلك يأتي في الركعة الثانية بقصته هو منذ بدأ خلقه : من نطفة أمشاج ، ويذكره بالهدي الذي أنزل عليه ، ويرغبه في شكر نعمه عليه ، ويحذره من جحودها وكفرانها .
وقد بين له منتهاه على كلا الأمرين : إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 4 - 5 ] .
فإذا قرع سمعه ذلك في يوم خلقه ويوم مبعثه ، حيث فيه تقوم الساعة ، فكأنه ينظر ويشاهد أول وجوده وآخر مآله ; فلا يكذب بالبعث . وقد علم مبدأ خلقه ولا يقصر في واجب ، وقد علم منتهاه ، وهذا في غاية الحكمة كما ترى .
[ ص: 382 ] ومما يشهد لما ذهب إليه - رحمه الله - ، اعتبار المناسبات كما في كثير من الأمور ، كما في قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فجميع الشهور من حيث الزمن سواء ، ولكن بمناسبة بدء نزول القرآن في هذا الشهر جعله الله محلا للصوم ، وأكرم فيه الأمة كلها بل العالم كله ، فتتزين فيه الجنة وتصفد فيه مردة الشياطين ، وتتضاعف فيه الأعمال .
وكذلك الليلة منه التي كان فيها البدء اختصها تعالى عن بقية ليالي الشهر ، وهي ليلة القدر جعلها الله تعالى خيرا من ألف شهر ، وما ذاك إلا لأنها كما قال تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] السورة بتمامها .
مسألة .
لقد أكثر الناس القول في اعتبار المناسبات في الإسلام وعدم اعتبارها ، ووقع فيها الإفراط والتفريط ، وكما قيل :
كلا طرفي قصد الأمور ذميم
ومنطلقا من كلام ابن تيمية ، نقدم هذه النبذة في هذه المسألة ، وهي أنه بالتأمل في الشرع وأحداث الإسلام عامة وخاصة ، أي في عموم الأمم وخصوص هذه الأمة ، نجد المناسبات قسمين : مناسبة معتبرة عني بها الشرع لما فيها من عظة وذكرى تتجدد مع تجدد الأيام والأجيال ، وتعود على الفرد والجماعة بالتزود منها . ومناسبة لم تعتبر ، إما لاقتصارها في ذاتها وعدم استطاعة الأفراد مسايرتها .
فمن الأول يوم الجمعة ، وتقدم طرف من خصائص هذا اليوم في سورة " الجمعة " ، وكلام ابن تيمية وقد عني بها الإسلام في الحث على القراءة المنوه عنها في صلاة الفجر ، وفي الحث على أدائها والحفاوة بها من اغتسال وطيب وتبكير إليها ، كما تقدم في سورة " الجمعة " .
ولكن من غير غلو ولا إفراط ، فقد جاء النهي عن صوم يومها وحده ، دون أن يسبق بصوم قبله ، أو يلحق بصوم بعده ، كما نهى عن إفراد ليلتها بقيام ، والنصوص في ذلك متضافرة ثابتة ، فكانت مناسبة معتبرة مع اعتدال وتوجه إلى الله ، أي بدون إفراط أو تفريط .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:34 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (578)
سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
صـ 383 إلى صـ 390
[ ص: 383 ] ومنها يوم الإثنين كما أسلفنا ، فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن صيامه يوم الإثنين ، فقال : " هذا يوم ولدت فيه ، وعلي فيه أنزل " ، وكان يوم وصوله المدينة في الهجرة ، وكان يوم وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فقد احتفى به - صلى الله عليه وسلم - للمسببات المذكورة ، وكلها أحداث عظام ومناسبات جليلة .
فيوم مولده - صلى الله عليه وسلم - وقعت مظاهر كونية ابتداء من واقعة أبرهة ، وإهلاك جيشه إرهاصا بمولده - صلى الله عليه وسلم - ، ثم ظهور نجم بني الختان ، وحدثت أمه وهي حامل به فيما قيل : أنها أتيت حين حملت به - صلى الله عليه وسلم - ، فقيل لها : " إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولي :
أعيذه بالواحد من شر كل حاسد
ثم سميه محمدا " ، وذكر ابن هشام : أنها رأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام .
وذكر ابن هشام : أن حسان بن ثابت وهو غلام سمع يهوديا يصرخ بأعلى صوته على أطمة بيثرب : يا معشر يهود ، حتى إذا اجتمعوا إليه ، قالوا : ويلك ! ما لك ؟ ، قال : طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به .
وساق ابن كثير في تاريخه ، والبيهقي في خصائصه ، وابن هشام في سيرته أخبارا عديدة مما شهده العالم ليلة مولده - صلى الله عليه وسلم - ، نوجز منها الآتي :
عن عثمان بن أبي العاص : أن أمه حضرت مولده - صلى الله عليه وسلم - ، قالت : فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور ، وإني أنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول : ليقعن علي .
وعن أبي الحكم التنوخي ، قال : كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة إلى الصبح يكفأن عليه برمة ، فأكفأن عليه - صلى الله عليه وسلم - برمة ، فانفلقت عنه ، ووجد مفتوح العينين ، شاخصا ببصره إلى السماء .
وقد كان لمولده من الأحداث الكونية ما لفت أنظار العالم كله .
ذكر ابن كثير منها انكفاء الأصنام على وجوهها ، وارتجاس إيوان كسرى ، وسقوط بعض شرفه ، وخمود نار فارس ، ولم تخمد قبلها ، وغاضت بحيرة ساوة ، فكان في ذلك إرهاص بتكسير الأصنام وانتشار الإسلام ، ودخول الفرس في الإسلام ، ثم كان بدء الوحي [ ص: 384 ] عليه - صلى الله عليه وسلم - في يوم الإثنين .
الحفاوة بهذا اليوم .
لا شك أن العالم لم يشهد حدثين أعظم من هذين الحدثين : مولد سيد الخلق ، وبدء إنزال أفضل الكتب ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يحتفي به ، وذلك بصيامه ، وهو العمل المشروع الذي يعبر به المسلم عن شعوره فيه ، والعبادة الخالصة التي يشكر الله تعالى بها على هاتين النعمتين العظيمتين .
أما ما يفعله بعض الناس من احتفالات ومظاهر ، فقد حدث ذلك بعد أن لم يكن لا في القرن الأول ولا الثاني ، ولا الثالث ، وهي القرون المشهود لها بالخير ، وأول إحداثه في القرن الرابع .
وقد افترق الناس فيه إلى فريقين : فريق ينكره ، وينكر على من يفعله ; لعدم فعل السلف إياه ، ولا مجيء أثر في ذلك . وفريق يراه جائزا ; لعدم النهي عنه ، وقد يشدد كل فريق على الآخر في هذه المسألة .
لابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم كلام وسط في غاية الإنصاف ، نورد موجزه لجزالته ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
قال ابن تيمية في فصل قد عقده للأعياد المحدثة : فذكر أول جمعة من رجب وعيد خم في الثامن عشر من ذي الحجة ، حيث خطب - صلى الله عليه وسلم - ، وحث على اتباع السنة وبأهل بيته ، ثم أتى إلى عمل المولد ، فقال :
وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام - ، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - عيدا ، مع اختلاف الناس في مولده ، أي : في ربيع أو في رمضان ، فإن هذا لم يفعله السلف - رضي الله عنهم - مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه .
ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيما له منا ، وهم على الخير أحرص .
وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره ، وإحياء سنته باطنا [ ص: 385 ] وظاهرا ، ونشر ما بعث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان ، فإن هذه طريقة السابقين الأولين منالمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، وأكثر هؤلاء الذين تراهم حرصاء على أمثال هذه البدع ، مع ما لهم فيها من حسن القصد والاجتهاد الذي يرجى لهم به المثوبة تجدونهم فاترين في أمر الرسول عما أمروا بالنشاط فيه . وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه ولا يتبعه . وبمنزلة من يزخرف المسجد ولا يصلي فيه ، أو يصلي فيه قليلا ، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجاجيد المزخرفة ، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع ويصحبها من الرياء والكبر ، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها .
واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع .
وفيه أيضا من بدعة وغيرها ، ثم رسم طريق العمل السليم للفرد في نفسه والداعية مع غيره ، فقال : فعليك هنا بأدبين : أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنا وظاهرا . الثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان ; فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه ، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه ، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضمر من فعل ذلك المكروه .
ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير ، فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان ، إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء .
ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرا إلا إلى مثله أو إلى خير منه ، فإنه كما أن الفاعلين لهذه البدع معيبون ، قد أتوا مكروها فالتاركون أيضا للسنن مذمومون .
وكثير من المنكرين لبدع العبادات تجدهم مقصرين في فعل السنن من ذلك أو الأمر به . . .
ولعل حال كثير منهم يكون أسوأ من حال من يأتي بتلك العادات المشتملة على نوع من الكراهة ، بل الدين هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فتعظيم المولد واتخاذه موسما قد يفعله بعض الناس ، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد .
[ ص: 386 ] ولهذا قيل لأحمد : إن بعض الأمراء ينفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك ، فقال : دعه ، فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ، أو كما قال ، مع أن مذهبه : أن زخرفة المصاحف مكروهة ، فمثل هؤلاء إن لم يفعلوا هذا ، وإلا اعتاضوا عنه الفساد الذي لا صلاح فيه مثل أن ينفقها في كتب فجور ، ككتب الأسمار والأصفار ، أو حكمة فارس والروم .
ومراتب الأعمال ثلاث : إحداها العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه .
والثانية : العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها ، إما لحسن القصد ، أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع .
والثالثة : ما ليس فيه صلاح أصلا .
فأما الأولى : فهي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي أعمال السابقين الأولين .
وأما الثانية فهي كثيرة جدا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ، ومن العامة أيضا ، وهؤلاء خير مما لا يعمل عملا صالحا مشروعا ولا غير مشروع ، ومع هذا فالمؤمن يعرف المعروف وينكر المنكر ، ولا يمنعه من ذلك موافقة بعض المنافقين له في ظاهر الأمر بذلك المعروف والنهي عن ذلك المنكر ، ولا مخالفة بعض علماء المؤمنين ، فهذه الأمور وأمثالها مما ينبغي معرفتها والعمل بها اهـ .
لقد عالج - رحمه الله - هذه المسألة بحكمة الداعي وسياسة الدعوة مما لا يدع مجالا للكلام فيها .
ولكن قد حدث بعده - رحمه الله - أمور لم تكن من قبل ، ابتلي بها العالم الغربي ، وغزا بها العالم الشرقي ، ولبس بها على المسلمين ، وهي تلك المبادئ الهدامة والغزو الفكري ، وإبراز شخصيات ذات مبادئ اقتصادية أو فسلفية ، ارتفع شأنها في قومهم ، ونفثت سمومهم إلى بني جلدتنا ، وصاروا يقيمون لهم الذكريات ، ويقدمون عنهم الدراسات جهلا أو تضليلا ، فقام من المسلمين من يقول :
نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ، ولا طريقا سلفيا ، ولا عمل القرون المشهود لها بالخير ، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة ، والذكريات بالذكرى ، لنجمع شباب المسلمين [ ص: 387 ] على سيرة سيد المرسلين ، ويكون ذلك من باب : يحدث للناس من الأحكام بقدر ما أحدثت من البدع إلى آخره .
وهنا لا ينبغي الإسراع في الجواب ، ولكن انطلاقا من كلام ابن تيمية المتقدم ، يمكن أن يقال : إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق ; حيث قرن ذكره - صلى الله عليه وسلم - مع ذكره تعالى في الشهادتين ، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد ، وفي كل إقامة لأداء صلاة ، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهرا وسرا . جهرا يملأ الأفق ، وسرا يملأ القلب والحس .
ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة : في المأكل باليمين ; لأنه السنة ، وفي الملبس في التيامن ; لأنه السنة ، وفي المضجع على الشق الأيمن ; لأنه السنة ، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وإن كان المراد التعبير عن المحبة ، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وولده ، وماله ، والناس أجمعين " .
فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب ، وفعل ما يحبه ، وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه ، ومن هذا يمكن أن يقال : إن ما يلابس عمل المولد من لهو ولعب واختلاط غير مشروع ، وأعمال في أشكال لا أصل لها ، يجب تركه وتنزيه التعبير عن محبته - صلى الله عليه وسلم - عما لا يرضاه - صلى الله عليه وسلم - .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يكرم هذا اليوم بالصوم ، وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة . فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ، ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما ، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور .
ومع ذلك ، فإن كان ولا بد فلا موجب للتقييد بزمن معين ، بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة ، وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من دراسة للسيرة النبوية .
وختاما ; فبدلا من الموقف السلبي عند التشديد في النكير ، أن يكون عملا إيجابيا فيه حكمة وتوجيه لما هو أولى بحسب المستطاع ، كما قال ابن تيمية . وبالله تعالى التوفيق .
ومن المناسبات ليلة القدر لبدء نزول القرآن فيها ; لقوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] [ ص: 388 ] ثم بين تعالى مقدارها بقوله : ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 3 ] ، وبين خواصها بقوله : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع الفجر [ 97 \ 4 - 5 ] .
الحفاوة بها .
لقد بين - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله : " التمسوها في العشر الأواخر ، وفي الوتر من العشر الأواخر " ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر كلها ; التماسا لتلك الليلة ، فكان يحييها قائما في معتكفه ، كما جاء في الحديث : " وإذا جاء العشر : شد مئزره ، وطوى فراشه ، وأيقظ أهله " ، فلم يكن يمرح ولا يلعب ولا حتى نوم ، بل اجتهاد في العبادة .
وكذلك شهر رمضان بكامله ; لكونه أنزل فيه القرآن أيضا ، كما تقدمت الإشارة إليه ، فكان تكريمه بصوم نهاره وقيام ليله ، لا بالملاهي واللعب والحفلات ، كماله بعض صار يعد الناس وسائل ترفيه خاصة ، فيعكس فيه القصد ويخالف المشروع .
ومن المناسبات يوم عاشوراء ، لقد كان له تاريخ قديم وكانت العرب تعظمه في الجاهلية وتكسو فيه الكعبة ، ولما قدم - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وجد اليهود يصومونه ، فقال لهم : " لم تصومونه ؟ " ، فقالوا : يوما نجى الله فيه موسى من فرعون ، فصامه شكرا لله فصمناه . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم " ، فصامه ، وأمر الناس بصيامه . إنها مناسبة عظمى : نجاة نبي الله موسى من عدو الله فرعون ، نصرة الحق على الباطل ، ونصر جند الله وإهلاك جند الشيطان .
وهذا بحق مناسبة يهتم لها كل مسلم . ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " نحن أحق بموسى منكم ، نحن معشر الأنبياء أبناء علات ، ديننا واحد " .
وقد كان صيامه فرضا حتى نسخ بفرض رمضان ، وهكذا مع عظم مناسبته من إعلاء كلمة الله ونصرة رسوله ، كان ابتهاج موسى - عليه السلام - به في صيامه شكرا لله .
وكذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا هو الطريق السليم والسنة النبوية الكريمة ، لا ما يحدثه بعض العوام والجهال من مظاهر وأحداث لا أصل لها ، ثم يأتي العمل الأعم والمناسبات [ ص: 389 ] المتعددة في مناسك الحج منها الهرولة في الطواف ، لقد كانت عن مؤامرة قريش في عزمها على الغدر بالمسلمين في عمرة القضية ، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - أن يظهروا النشاط في الطواف ، وذلك حينما جاء الشيطان لقريش وقال لهم : هؤلاء المسلمون مع محمد - صلى الله عليه وسلم - ، جاءوا إليكم وقد أنهكتهم حمى يثرب ، فلو ملتم عليهم لاستأصلتموهم ، فأخبر جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكان الموقف خطيرا جدا وحرجا ; حيث لا مدد للمسلمين ، ولا سبيل للانسحاب ، ولا بد لهم من إتمام العمرة .
فكان التصرف الحكيم ، أن يعكسوا على المشركين نظريتهم ، ويأتونهم من الباب الذي أتوا منه . فقال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه : " أروهم اليوم منكم قوة " ، فهرولوا في الطواف ، وأظهروا قوة ونشاطا مما أدهش المشركين ، حتى قالوا : والله ما هؤلاء بإنس إنهم لكالجن " ، وفوتوا عليهم الفرصة بذلك ، وسلم المسلمون .
فهو أشبه بموقف موسى من فرعون ، فنجى الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غدر قريش ، فكان هذا العمل مخلدا ومشروعا في كل طواف قدوم حتى اليوم ، مع زوال السبب حيث هرول المسلمون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بعد فتح مكة بسنتين .
قال العلماء : بقي هذا العمل ; تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا ، وتذكروا لهذا الموقف وما لقيه المسلمون في بادئ الدعوة .
وجاء السعي والهرولة فيه لما فيه من تجديد اليقين بالله ، حيث تركت هاجر ، وهي من سادة المتوكلين على الله والتي قالت لإبراهيم :
اذهب فلن يضيعنا الله . تركت حتى سعت إلى نهاية العدد ، كما يقول علماء الفرائض وهو سبعة .
إذ كل عدد بعده تكرار لمكرر قبله ، كما قالوا في عدد السماوات والأرض ، وحصى الجمار ، وأيام الأسبوع . إلخ .
وذلك لتصل إلى أقصى الجهد ، وتنقطع أطماعها من غوث يأتيها من الأرض ، فتتجه بقوة اليقين وشدة الضراعة إلى السماء ، وتتوجه بكليتها وإحساسها بقلبها وقالبها إلى الله . فيأتيها الغوث الأعظم سقيا لها وللمسلمين من بعدها .
فكان ذلك درسا عمليا ظل إحياؤه تجديدا له .
وهكذا النحر ، وقصة الفداء لما كان فيه درس الأمة لأفرادها وجماعتها في أسرة [ ص: 390 ] كاملة . والد ووالدة ، وولد كل يسلم قياده لأمر الله ، وإلى أقصى حد التضحية حينما قال إبراهيم لإسماعيل ما قصه تعالى علينا : يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى [ 37 \ 102 ] .
إنه حدث خطير ، وأي رأي للولد في ذبح نفسه ، ولكنه التمهيد لأمر الله ، فكان موقف الولد لا يقل إكبارا عن موقف الوالد :
ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، ولم يكن ذلك عرضا وقبولا فحسب ، بل جاء وقت التنفيذ إلى نقطة الصفر كما يقال .
والكل ماض في سبيل التنفيذ : فلما أسلما وتله للجبين [ 37 \ 103 ] ، يا له من موقف يعجز كل بيان عن تصويره ويئط كل قلم عن تفسيره ، ويثقل كل لسان عن تعبيره ، شيخ في كبر سنه يحمل سكينا بيده ، ويتل ولده وضناه بالأخرى ، كيف قويت يده على حمل السكين ، وقويت عيناه على رؤيتها في يده ، وكيف طاوعته يده الأخرى على تل ولده على جبينه ؟
إنها قوة الإيمان وسنة الالتزام ، وها هو الولد مع أبيه طوع يده ، يتصبر لأمر الله ويستسلم لقضاء الله : ستجدني إن شاء الله من الصابرين [ 37 \ 102 ] ، والموقف الآن والد بيده السكين ، وولد ملقى على الجبين ، ولم يبق إلا توقف الأنفاس للحظة التنفيذ ، ولكن - رحمة الله - أوسع ، وفرجه من عنده أقرب : وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين [ 37 \ 104 - 105 ] .
فكانت مناسبة عظيمة وفائدتها كبيرة ، خلدها الإسلام في الهدي والضحية .
وفي رمي الجمار ، إلى آخره ، وهكذا كلها في مناسك وعبادة وقربة إلى الله تعالى في تجرد وانقطاع ، ودوام ذكر لله تعالى .
وهناك أحداث جسام ومناسبات عظام ، لا تقل أهمية عن سابقاتها ، ولكن لم يجعل لها الإسلام أي ذكرى ، كما في صلح الحديبية .
لقد كان هذا الصلح من أعظم المناسبات في الإسلام ، إذ كان فيه انتزاع اعتراف قريش بالكيان الإسلامي مائلا في الصلح ، والعهد الذي وثق بين الطرفين ، وقد سماه الله فتحا ، كما قال تعالى : فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ 48 \ 27 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:35 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (579)
سُورَةُ الْإِنْسَانِ .
صـ 391 إلى صـ 398
[ ص: 391 ] ونزلت سورة " الفتح " في عودته - صلى الله عليه وسلم - من صلح الحديبية .
وكذلك يوم بدر كان يوم الفرقان ، فرق الله فيه بين الحق والباطل ، ونصر فيه المسلمين مع قلتهم على المشركين مع كثرتهم .
وكذلك يوم فتح مكة ، وتحطيم الأصنام ، والقضاء نهائيا على دولة الشرك في البلاد العربية ، ومن قبل ذلك ليلة خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة ونزوله في الغار ، إذ كان فيها نجاته - صلى الله عليه وسلم - من فتك المشركين ، كما قال الصديق وهما في الطريق إلى الغار ، حينما كان يسير أحيانا أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحيانا خلفه ، فسأل - صلى الله عليه وسلم - فقال : أتذكر الرصد فأكون أمامك ، وأتذكر الطلب فأكون خلفك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أتريد لو كان شيء يكون فيك يا أبا بكر ؟ " .
فقلت : نعم ; فداك أبي وأمي يا رسول الله ; فإني إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تصب أنت يا رسول الله تصب الدعوى معك " .
وكذلك وصوله - صلى الله عليه وسلم - المدينة بداية حياة جديدة وبناء كيان أمة جديدة ، وكل ذلك لم يجعل الإسلام لذلك كله عملا خاصا به والناس في إبانها تأخذهم عاطفة الذكرى ، ويجرهم حنين الماضي وتتراءى لهم صفحات التاريخ ، فهل يقفون صما بكما أم ينطقون بكلمة تعبير ؟ وشكر لله إنه إن يكن من شيء فلا يصح بحال من الأحوال ، أن يكون من اللهو واللعب والمنكر ، وما لا يرضي الله ولا رسوله .
إنه إن يكن من شيء ، فلا يصح إلا من المنهج الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثل تلك المناسبات من عبادة في : صيام ، أو صدقة ، أو نسك ، ولا يمكن أن يقال فيها بما يقال في المصالح المرسلة حيث كانت .
وكان عهد التشريع ولم يشرع في خصوصها شيء ، وهل الأمر فيها كالأمر في المولد ، وتكون ضمن عموم قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، وضمن قوله تعالى فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] رأي بقصص الماضين .
ونحن أيضا نقص على أجيالنا بعد هذه القرون ، أهم أحداث الإسلام لاستخلاص العظة والعبرة أم لا ؟
وهذا ما يتيسر إيراده بإيجاز في هذه المسألة . وبالله تعالى التوفيق .
تنبيه .
مما يعتبر ذا صلة بهذا المبحث في الجملة ما نقله ابن كثير في التفسير عند كلامه على [ ص: 392 ] قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] .
قال عندها : وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عوف ، حدثنا أبو العميس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا يا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : وأي آية ؟ قال : قوله : اليوم أكملت لكم دينكم ، فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عشية عرفة في يوم جمعة .
ورواه البخاري ، عن الحسن بن الصباح ، عن جعفر بن عون به ، ورواه أيضا مسلم ، والترمذي ، والنسائي أيضا من طرق عن قيس بن مسلم به . ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس ، عن طارق ، قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا ، فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة .
وساق عن ابن جرير ، قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه .
فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : اليوم أكملت لكم دينكم
فأجابه عمر بما أجاب به سابقا ، وقال : في يوم جمعة ويوم عرفة ، وكلاهما - بحمد الله - لنا عيد .
ونقل عن ابن جرير ، عن ابن عباس قرأ الآية ، فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ، ويوم جمعة .
ومحل الإيراد أن عمر سمع اليهودي يشيد بيوم نزولها ، فقد أقر اليهودي على ذلك ولم ينكر عليه ، ولكن أخبره بالواقع وهو أن يوم نزولها عيد بنفسه بدون أن نتخذه نحن .
وكذلك ابن عباس ; أقر اليهودي على إخباره وتطلعه واقتراحه ، فلم ينكر عليه كما لم ينكر عمر ، مما يشعر أنه لو لم يكن نزولها يوم عيد ، لكان من المحتمل أن تتخذ عيدا . ولكنه صادف عيدا أو عيدين ، فهو تكريم لليوم بمناسبة ما نزل فيه من إكمال الدين [ ص: 393 ] وإتمام النعمة .
قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، الأمشاج : الأخلاط ، كما قال تعالى : من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 7 ] .
قوله تعالى : إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا
بين تعالى أنه هدى الإنسان السبيل ، وهو بعد الهداية إما شاكرا وإما كفورا .
وهذه الهداية هداية بيان وإرشاد ، كما في قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] ، كما أن الهداية الحقيقية بخلق التوفيق فضلا من الله على من شاء ، كما تقدم عند قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ 28 \ 56 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الجمع بين الآيتين ، ومعنى الهداية العامة والخاصة .
قوله تعالى : سلاسل وأغلالا
بين تعالى نوع هذه السلاسل بذرعها في قوله تعالى : في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا [ 69 \ 32 ] .
قوله تعالى : يشربون من كأس
مادة يشرب تتعدى بنفسها ، فيقال : يشرب كأسا بدون مجيء " من " ، و " من " للتبعيض وللابتداء ، فقيل : هي هنا للابتداء ، وأن الفعل مضمن معنى فعل آخر ، وهو : يتنعمون ويرتوون كما قالوا في : عينا يشرب بها عباد الله [ 76 \ 6 ] . إذ الباء تكون للإرادة ولا إرادة هنا ، فهم يتنعمون بها .
والذي يظهر أن " من " للتبعيض فعلا ، وأن شرب أهل الجنة على سبيل الترفه والتلذذ ، وهي عادة المترفين المنعمين ، يشربون بعض الكأس لا كله .
وقد دل على ذلك أنهم لا يشربون عن ظمأ ، كما في قوله تعالى لآدم : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 119 ] ، وسيأتي تعدية [ ص: 394 ] يسقون بنفسها إلى الكأس : ويسقون فيها كأسا [ 76 \ 17 ] ، ويأتي قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا [ 76 \ 21 ] .
ويؤيد هذا اتفاقهم على التضمين في : عينا يشرب بها عباد الله ، فهو هنا واضح .
وهناك التبعيض ظاهر .
قوله تعالى : يوفون بالنذر
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث النذر وافيا عند قوله تعالى : وليوفوا نذورهم الآية [ 22 \ 29 ] في سورة " الحج " .
قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا
اختلف في مرجع الضمير في على حبه ، هل هو راجع على الطعام أم على الله تعالى ؟ أي : ويطعمون الطعام على حب الطعام لقلته عندهم وحاجتهم إليه ، أم على حب الله رجاء ثواب الله ؟
وقد رجح ابن كثير المعنى الأول ، وهو اختيار ابن جرير ، وساق الشواهد على ذلك كقوله : وآتى المال على حبه [ 2 \ 177 ] ، وقوله لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [ 3 \ 92 ] .
والواقع أن الاستدلال الأول فيه ما في هذه الآية ، ولكن أقرب دليلا وأصرح قوله تعالى : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 \ 9 ] .
وفي الآية التي بعدها في هذه السورة قرينة تشهد لرجوعه للطعام على ما تقدم ، وهي قوله تعالى بعدها : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا [ 76 \ 9 ] ; لأنها في معنى حب الله ، مما يجعل الأولى للطعام وهذه لله . والتأسيس أولى من التأكيد ، فيكون السياق : ويطعمون الطعام على حاجتهم إياه ، ولوجه الله تعالى . - والله تعالى أعلم - .
مسألة .
في قوله تعالى : مسكينا ويتيما وأسيرا ، جمع أصناف ثلاثة :
الأول والثاني من المسلمين غالبا ، أما الثالث وهو الأسير فلم يكن لدى المسلمين أسرى إلا من الكفار ، وإن [ ص: 395 ] كانت السورة مكية إلا أن العبرة بعموم اللفظ كما هو معلوم .
وقد نقل ابن كثير عن ابن عباس : أنها في الفرس من المشركين ، وساق قصة أسارى بدر .
واختار ابن جرير أن الأسرى هم الخدم ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الأسارى هنا على معناها الحقيقي ; لأن الخدم لا يخرجون عن القسمين المتقدمين : اليتيم ، والمسكين ، وهؤلاء الأسارى بعد وقوعهم في الأسر ، لم يبق لهم حول ولا طول . فلم يبق إلا الإحسان إليهم .
وهذا من محاسن الإسلام وسمو تعاليمه ، وإن العالم كله اليوم لفي حاجة إلى معرفة هذه التعاليم السماوية السامية حتى مع أعدائه ، وقد تقدم شيء من ذلك عند الكلام على قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم [ 60 \ 8 ] ، وهؤلاء بعد الأسر ليسوا مقاتلين .
قوله تعالى : ولقاهم نضرة وسرورا
تقدم معنى قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة [ 75 \ 22 ] ، وهنا جمع لهم بين النضرة والسرور ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن النضرة لما يرون من النعيم ، والسرور لما ينالونه من النظر إلى وجه الله الكريم كما تقدم : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 - 23 ] فيكون السرور نتيجة النظر إلى وجه الله الكريم . - والله تعالى أعلم - .
قوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قوارير قوارير من فضة قدروها تقديرا
فيه التنصيص على أواني الفضة في الجنة .
وجاء بصحاف من ذهب وأكواب ، وهي محرمة في الدنيا كما هو معلوم ، وقد بين تعالى أن الذي يطوف عليهم هم : ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا [ 76 \ 19 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الطور " عند قوله : ويطوف عليهم غلمان لهم [ 52 \ 24 ] [ ص: 396 ] والقوارير جمع قارورة ، والعرب تطلق القارورة على إناء الزجاج خاصة ، ولكن الآية صريحة في أنها قوارير من فضة ، مما يدل على صحة إطلاق القارورة على غير آنية الزجاج كالفضة مثلا .
قال صاحب اللسان : والقارورة : ما قر فيه الشراب وغيره ، وقيل : لا يكون إلا من الزجاج خاصة .
وقوله تعالى : قوارير بآنية من فضة ، قال بعض أهل العلم : معناه أواني زجاج في بياض الفضة وصفاء القوارير ، قال ابن سيده : وهذا أحسن . اهـ .
وقال ابن شدياق في معجم مقاييس اللغة في مادة قر : القاف والراء أصلان صحيحان يدل أحدهما على برد ، والآخر على تمكن ، وذكر من التمكن : استقر ومستقر ، كما ذكر صاحب اللسان كثيرا من ذلك ، ثم قال : ومن الباب القر - بضم الراء - : صب الماء في الشيء . يقال : قررت الماء ، والقر : صب الكلام في الأذن ، وذكر منه الإقرار : ضد الجحود ; لاستقرار الحق به .
ثم ذكر مسألة إثبات اللغة بالسماع أو بالقياس ، فقال : وهذه مقاييس صحيحة ، فإما أن نتعدى ونتحمل الكلام ، كما بلغنا عن بعضهم أنه قال : سميت القارورة لاستقرار الماء فيها وغيره ، فليس هذا من مذهبنا . وقد قلنا : إن كلام العرب ضربان : منه ما هو قياس وقد ذكرناه ، ومنه ما وضع وضعا .
والمسألة من مباحث الأصول في الألفاظ ، هل هي بوضع لا يقاس عليه وتبقى كما وضعتها العرب ، أو أنها توضع بالقياس ؟ وفائدة الخلاف هل المسكرات كلها مثلا يتناولها مسمى الخمر بالوضع فتكون محرمة بنص : إنما الخمر والميسر الآية [ 5 \ 90 ] ، أو أنها محرمة قياسا على الخمر بجامع علة الإسكار ؟ وعليه فإذا كانت اللغة تساعد على الإطلاق قياسا ، فهو أقوى في الحكم ; بأن يأتي الحكم بالنص لا بالقياس بجامع العلة . ولعل التحقيق في هذه المسألة ما قاله علماء الوضع : من أن اللغات منها توقيفي ومنها قياسي .
وفي قوله تعالى : قدروها تقديرا [ 76 \ 16 ] توجيه إلى حسن الصنع في التسوية في التقدير ، والمقاسات .
[ ص: 397 ] قوله تعالى : ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا
وقبلها قال تعالى : كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] ، فقد قيل : هما معا ، فهي في برد الكافور وطيب الزنجبيل .
قوله تعالى : وسقاهم ربهم شرابا طهورا
وهذا وصف شراب الجنة ، والشراب هنا هو الخمر ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المفهوم من أن شراب خمر الدنيا ليس طهورا ; لأن أحوال الجنة لها أحكامها الخاصة ، ويشهد لهذا ما تقدم في قوله تعالى : ويطاف عليهم بآنية من فضة [ 76 \ 15 ] ، مع أن أواني الفضة محرمة في الدنيا ; لحديث : " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " ، ومع ذلك فإن أهل الجنة ينعمون بها .
وكذلك ينعمون بخمر الجنة ، وكل أوصافها في الجنة عكس أوصافها في الدنيا كما تقدم ، لا يصدعون عنها ولا ينزفون ، كما أوضحه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] في سورة " الواقعة " .
قوله تعالى : إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا
" نزلنا " " تنزيلا " : يدل على التكرار بخلاف " أنزلنا " ، وقد بين تعالى أنه أنزل القرآن في ليلة القدر في سورة " القدر " : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] ، وهنا إثبات التنزيل .
وقد بين تعالى كيفية التنزيل في قوله تعالى : وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا [ 17 \ 106 ] .
وقد بين تعالى الحكمة في هذا التفريق على مكث في قوله تعالى : وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا [ 25 \ 32 ] ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه المسألة في سورة " الفرقان " ، والإحالة فيها على بيان سابق .
قوله تعالى : فاسجد له وسبحه ليلا طويلا
تقدم بيان مقدار المطلوب قيامه من الليل في أول سورة " المزمل " في قوله تعالى : [ ص: 398 ] ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه الآية [ 73 \ 4 ] .
قوله تعالى : نحن خلقناهم وشددنا أسرهم
الأسر : الربط بقوة مأخوذ من الأسر هو جلد البعير رطبا ، وهو القد ، وسمي الأسير أسيرا لشد قيده بقوة بجلد البعير الرطب ، وهو هنا تقوية بشد ربط الأعضاء المتحركة في الإنسان في مفاصله بالعصب ، وهو كناية عن الإتقان والقوة في الخلق .
وقد بين تعالى ذلك في قوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقوله : الذي أحسن كل شيء خلقه [ 32 \ 7 ] .
قوله تعالى : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا
السبيل هنا منكر ، ولكنه معين بقوله : إلى ربه ; لأن السبيل إلى ربه هو السبيل المستقيم .
كما قال تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم [ 6 \ 151 ] ، وفي النهاية قال : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه [ 6 \ 153 ] ، وهو الصراط المستقيم الذي دعا إليه - صلى الله عليه وسلم - .
كما في قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض [ 42 \ 52 - 53 ] وهو القرآن الكريم كما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، وقد بين تعالى أنه القرآن كله في قوله تعالى : الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 1 - 2 ] بعد قوله : اهدنا الصراط المستقيم ، كأنه قال : الهادي إلى الصراط المستقيم المنوه عنه في الفاتحة : هو القرآن الكريم : هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب [ 2 \ 2 - 3 ] إلى آخر " الصفات " ، فيكون السبيل هنا معلوما .
وقوله تعالى قبلها : إن هذه تذكرة [ 76 \ 29 ] مشعر بأن السبيل عن طريق التذكر فيها والاتعاظ بها .
وقوله : فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ، علق اتخاذ السبيل إلى الله على مشيئة من [ ص: 399 ] شاء ، وقيدها ربط مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى في قوله : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 \ 30 ] ، وهذه مسألة القدر .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحثها بحثا وافيا عند قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 \ 99 ] في " يونس " وأحال على " النساء " . إلا أن قوله تعالى في التذييل على الآية الكريمة بقوله : إن الله كان عليما حكيما [ 4 \ 11 ] أن كل ما يقع في هذا الكون من سلوك وأعمال أنه بعلم من الله وحكمة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-08-16, 06:36 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (580)
سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ .
صـ 399 إلى صـ 408
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ .
قوله تعالى : والمرسلات عرفا فالعاصفات عصفا والناشرات نشرا فالفارقات فرقا فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا
يقسم تعالى بهذه المسميات ، واختلف في : والمرسلات ، و : فالعاصفات ، و : والناشرات .
فقيل : هي الرياح ، وقيل : الملائكة أو الرسل ، و عرفا أي : متتالية كعرف الفرس ، واختار كونها الرياح ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة . واختار كونها الملائكة أبو صالح عن أبي هريرة ، والربيع بن أنس .
وعن أبي صالح : أنها الرسل ، قاله ابن كثير ، واختار الأول وقال : توقف ابن جرير ، والواقع أن كلام ابن جرير يفيد أنه لا مانع عنده من إرادة الجميع ; لأن المعنى محتمل ولا مانع عنده .
واستظهر ابن كثير أنها الرياح ; لقوله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح [ 15 \ 22 ] ، وقوله : وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 7 \ 57 ] .
وهذا هو الذي اختاره الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في مذكرة الإملاء ، أما الفارقات ، فقيل : الملائكة ، وقيل : آيات القرآن ، ورجح الشيخ الأول ، وأما الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا
فقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانها في سورة " الصافات " عند قوله : فالتاليات ذكرا [ 37 \ 3 ] .
وفي مذكرة الإملاء . قوله : عذرا : اسم مصدر بمعنى الإعذار ، ومعناه قطع العذر .
ومنه المثل : من أعذر فقد أنذر ، وهو مفعول لأجله ، والنذر اسم مصدر بمعنى الإنذار ، وهو مفعول لأجله أيضا ، والإنذار : الإعلام المقترن بتهديد ، و " أو " في قوله : [ ص: 401 ] أو نذرا بمعنى الواو ، أي : لأجل الإعذار والإنذار ، ومجيء " أو " بمعنى الواو كمجيء ذلك في قول عمرو بن معدي كرب :
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع
أي : وسافع .
قوله تعالى : إنما توعدون لواقع
هو المقسم عليه ، والواقع أن بين كل قسم ومقسم عليه مناسبة ارتباط في الجملة غالبا ، والله تعالى يقسم بما شاء على ما شاء ; لأن المقسم به من مخلوقاته فاختيار ما يقسم به هنا أو هناك غالبا يكون لنوع مناسبة ، ولو تأملناه هنا ، لوجدنا المقسم عليه هو يوم القيامة ، وهم مكذبون به ; فأقسم لهم بما فيه إثبات القدرة عليه ، فالرياح عرفا تأتي بالسحاب تنشره ثم يأتي المطر ، ويحيي الله الأرض بعد موتها .
وهذا من أدلة القدرة على البعث ، والعاصفات منها بشدة ، وقد تقتلع الأشجار وتهدم البيوت مما لا طاقة لهم بها ولا قدرة لهم عليها ، وما فيها من الدلالة على الإهلاك والتدمير ، وكلاهما دال على القدرة على البعث .
ثم تأتي الملائكة بالبيان والتوجيه والإعذار والإنذار : إنما توعدون لواقع
- والله تعالى أعلم - .
قوله تعالى : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت
كلها تغييرات كونية من آثار ذلك اليوم الموعود . وطمس النجوم : ذهاب نورها ، كقوله : وإذا النجوم انكدرت [ 81 \ 2 ] .
وإذا السماء فرجت أي : تشققت وتفطرت كما في قوله تعالى : إذا السماء انشقت [ 84 \ 1 ] ، إذا السماء انفطرت [ 82 \ 1 ] ، ونسف الجبال تقدم بيانه في عدة محال . وما يكون لها من عدة أطوار من : دك وتفتيت ، وبث وتسيير : كالسحاب ثم كالسراب ، وتقدم في سورة " ق " عند قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم [ 50 \ 6 ] .
قوله تعالى : وإذا الرسل أقتت
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه في سورة " الواقعة " عند قوله تعالى : [ ص: 402 ] قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم [ 56 \ 49 - 50 ] .
قوله تعالى : لأي يوم أجلت ليوم الفصل
يوم الفصل هو يوم القيامة ، يفصل فيه بين الخلائق ، بين الظالم والمظلوم ، والمحق والمبطل ، والدائن والمدين ، كما بينه تعالى بقوله : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين [ 77 \ 38 ] ، وكقوله ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] .
قوله تعالى : ويل يومئذ للمكذبين
وعيد شديد من الله تعالى للمكذبين .
وقد تقدم معنى ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند آخر سورة " الذاريات " ، عند قوله تعالى : فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون [ 51 \ 60 ] .
قوله تعالى : ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم
الماء المهين : هو النطفة الأمشاج ، والقرار المكين : هو الرحم ، وقد مكنه الله وصانه حتى من نسمة الهواء .
والآيات الباهرات في هذا القرار فوق أن توصف ، وقد بين تعالى أنه الرحم بقوله تعالى : ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى [ 22 \ 5 ] ، والقدر المعلوم هو مدة الحمل إلى السقط أو الولادة .
وتقدم للشيخ التنويه عن ذلك في أول سورة " الحج " ، وأنها أقدار مختلفة وآجال مسماة .
قوله تعالى : فقدرنا فنعم القادرون
فيه التمدح بالقدرة على ذلك وهو حق ، ولا يقدر عليه إلا الله كما جاء في قوله : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 59 ] .
وقد بينه تعالى في أول سورة " الحج " : ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة [ 22 \ 5 ] إلى آخر السياق .
[ ص: 403 ] قوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " طه " عند قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا [ 20 \ 35 ] ، والكفات : الموضع الذي يكفتون فيه ، والكفت : الضم أحياء على ظهرها ، وأمواتا في بطونها ، كما في قوله : وفيها نعيدكم [ 20 \ 55 ] ، وقد جمع المعنيين في قوله تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا [ 71 \ 1 - 18 ] .
قوله تعالى : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون
بينه بعد بقوله تعالى : انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر [ 77 \ 30 - 33 ] ، أي : وهي جهنم .
وقد بين تعالى في موضع آخر أنهم يدفعون إليها دفعا في قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا [ 52 \ 13 ] .
قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون
نص على أنهم لا ينطقون في ذلك اليوم مع أنهم ينطقون ويجيبون على ما يسألون ، كما في قوله تعالى : وقفوهم إنهم مسئولون [ 37 \ 24 ] .
وقوله : فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون [ 68 \ 30 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على هذه المسألة في سورة " النمل " عند قوله تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] .
وبين وجه الجمع بالإحالة على دفع إيهام الاضطراب عند سورة " المرسلات " ، هذه وأن ذلك في منازل وحالات .
قوله تعالى : كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون
فيه النص على أن عملهم في الدنيا سبب في تمتعهم بنعيم الجنة في الآخرة ، ومثله قوله تعالى : ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون [ 7 \ 43 ] .
[ ص: 404 ] وجاء في الحديث : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " ، ولا معارضة بين النصين ، إذ الدخول بفضل من الله وبعد الدخول يكون التوارث ، وتكون الدرجات ، ويكون التمتع بسبب الأعمال . فكلهم يشتركون في التفضل من الله عليهم بدخول الجنة ، ولكنهم بعد الدخول يتفاوتون في الدرجات بسبب الأعمال .
قوله تعالى : إنا كذلك نجزي المحسنين
في الآية التي قبلها قال تعالى : بما كنتم تعملون [ 77 \ 43 ] . وهنا قال : نجزي المحسنين ، ولم يقل : نجزي العاملين ، مما يشعر بأن الجزاء إنما هو على الإحسان في العمل لا مجرد العمل فقط ، وتقدم أن الغاية من التكليف ، إنما هي الإحسان في العمل : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ 67 \ 1 - 2 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الكهف " عند قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 \ 7 ] .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون
هذه الآية الكريمة من آيات الاستدلال على أن الكفار مؤاخذون بترك الفروع ، وتقدم التنبيه على ذلك مرارا ، والمهم هنا أن أكثر ما يأتي ذكره من الفروع هي الصلاة ; مما يؤكد أنها هي بحق عماد الدين .
قوله تعالى : فبأي حديث بعده يؤمنون
أي : بعد هذا القرآن الكريم لما فيه من آيات ودلائل ومواعظ كقوله تعالى : فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون [ 45 \ 6 ] .
وقد بين تعالى أنه نزله أحسن الحديث هدى في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء [ 39 \ 23 ] .
وذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم إلى أبي هريرة يرويه : إذا قرأ : والمرسلات عرفا ، فقرأ : فبأي حديث بعده يؤمنون ، فليقل : آمنت بالله وبما أنزل . [ ص: 405 ] وذكر في سورة " القيامة " عن أبي داود وأحمد عدة أحاديث بعدة طرق أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قرأ في سورة الإنسان : أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 40 ] ، قال : سبحانك اللهم فبلى . وإذا قرأ سورة " والتين " فانتهى إلى قوله : أليس الله بأحكم الحاكمين [ 95 \ 8 ] ، فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين . ومن قرأ : والمرسلات ، فبلغ : فبأي حديث بعده يؤمنون ، فليقل : آمنا بالله " . اهـ .
وإنا نقول : آمنا بالله كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ النَّبَأِ .
قوله تعالى : عم يتساءلون عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون
عم أصله عن ما أدغمت النون في الميم ، ثم حذف ألف الميم ، لدخول حرف الجر عليه ; للفرق بين ما الاستفهامية وما الموصولة .
والمعنى : عن أي شيء يتساءلون ، وقد يفصل حرف الجر عن ما ، فلا يحذف الألف .
وأنشد الزمخشري قول حسان - رضي الله عنه - :
على ما قام يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد
وقال في الكشاف : وعن ابن كثير أنه قرأ " عمه " بهاء السكت ، ثم وجهها بقوله : إما أن يجرى الوصل مجرى الوقف ، وإما أن يقف ويبتدئ : يتساءلون عن النبإ العظيم ، على أن يضمر يتساءلون ; لأن ما بعده يفسره .
وقال القرطبي : قوله : عن النبإ العظيم : ليس متعلقا بـ : يتساءلون المذكور في التلاوة ، ولكن يقدر فعل آخر عم يتساءلون عن النبإ العظيم ، وإلا لأعيد الاستفهام : أعن النبأ العظيم ؟
وعلى كل ، فإن ما تساءلوا عنه أبهم أولا ، ثم بين بعده بأنهم : يتساءلون عن النبإ العظيم ، ولكن بقي بيان هذا النبإ العظيم ما هو ؟ . فقيل : هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعثته لهم . وقيل : في القرآن الذي أنزل عليه يدعوهم به . وقيل في البعث بعد الموت .
[ ص: 407 ] وقد رجح ابن جرير : احتمال الجميع وألا تعارض بينها .
والواقع أنها كلها متلازمة ; لأن من كذب بواحد منها كذب بها كلها ، ومن صدق بواحد منها صدق بها كلها ، ومن اختلف في واحد منها لا شك أنه يختلف فيها كلها .
ولكن السياق في النبأ وهو مفرد . فما المراد به هنا بالذات ؟
قال ابن كثير والقرطبي : من قال إنه القرآن : قال بدليل قوله : قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون [ 38 \ 67 - 68 ] .
ومن قال : إنه البعث ، قال بدليل الآتي بعدها : إن يوم الفصل كان ميقاتا [ 78 \ 17 ] .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن أظهرها دليلا هو يوم القيامة والبعث ; لأنه جاء بعده بدلائل وبراهين البعث كلها ، وعقبها بالنص على يوم الفصل صراحة ، أما براهين البعث فهي معلومة أربعة : خلق الأرض والسماوات ، وإحياء الأرض بالنبات ، ونشأة الإنسان من العدم ، وإحياء الموتى بالفعل في الدنيا لمعاينتها . وكلها موجودة هنا .
أما خلق الأرض والسماوات ، فنبه عليه بقوله : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 \ 6 - 7 ] ، وقوله : وبنينا فوقكم سبعا شدادا وجعلنا سراجا وهاجا [ 78 \ 12 - 13 ] ، فكلها آيات كونية دالة على قدرته تعالى كما قال : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] .
وأما إحياء الأرض بالنبات ففي قوله تعالى : وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا [ 78 \ 14 - 16 ] كما قال تعالى : ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى [ 41 \ 39 ] .
وأما نشأة الإنسان من العدم ، ففي قوله تعالى : وخلقناكم أزواجا [ 78 \ 8 ] ، أي : أصنافا ، كما قال تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 79 ] .
وأما إحياء الموتى في الدنيا بالفعل ، ففي قوله تعالى : وجعلنا نومكم سباتا [ 78 \ 9 ] [ ص: 408 ] والسبات : الانقطاع عن الحركة . وقيل : هو الموت ، فهو ميتة صغرى ، وقد سماه الله وفاة في قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] ، وقوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه [ 6 \ 60 ] ، وهذا كقتيل بني إسرائيل وطيور إبراهيم ، فهذه آيات البعث ذكرت كلها مجملة .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - إيرادها مفصلة في أكثر من موضع ، ولذا عقبها تعالى بقوله : إن يوم الفصل كان ميقاتا [ 78 \ 17 ] ، أي : للبعث الذي هم فيه مختلفون ، يكون السياق مرجحا للمراد بالنبأ هنا .
ويؤكد ذلك أيضا ، كثرة إنكارهم وشدة اختلافهم في البعث أكثر منهم في البعثة وفي القرآن ، فقد أقر أكثرهم ببلاغة القرآن ، وأنه ليس سحرا ولا شعرا ، كما أقروا جميعا بصدقه - عليه السلام - وأمانته ، ولكن شدة اختلافهم في البعث كما في أول سورة " ص " و " ق " ، ففي " ص " قال تعالى : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 4 - 5 ] .
وفي " ق " قال تعالى : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ، فهم أشد استبعادا للبعث مما قبله ، - والله تعالى أعلم - .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:30 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (581)
سُورَةُ النَّازِعَاتِ .
صـ 409 إلى صـ 418
قوله تعالى : كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون
لم يبين هنا هل علموا أم لا . ولكن ذكر آيات القدرة الباهرة على إحيائهم بعد الموت بمثابة إعلامهم بما اختلفوا فيه ، لأنه بمنزلة من يقول لهم : إن كنتم مختلفين في إثبات البعث ونفيه ، فهذه هي آياته ودلائله فاعتبروا بها وقايسوه عليها ، والقادر على إيجاد تلك ، قادر على إيجاد نظيرها .
ولكن العلم الحقيقي بالمعاينة لم يأت بعد لوجود السين وهي للمستقبل ، وقد جاء في سورة " التكاثر " في قوله : ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين [ 102 \ 1 - 7 ] ، وهذا الذي سيعلمونه يوم الفصل المنصوص عليه [ ص: 409 ] في السياق : إن يوم الفصل كان ميقاتا [ 78 \ 17 ] .
قوله تعالى : ألم نجعل الأرض مهادا
قرئ بالإفراد ، " مهدا " أي : كالمهد للطفل ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى : الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا .
قوله تعالى : وجعلنا نومكم سباتا وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه الثلاثة ، كون النوم سباتا : راحة أو موتا ، والليل لباسا : ساترا ومريحا ، والنهار معاشا : لطلب المعاش ، وذلك عند كلامه على قوله تعالى من سورة " الفرقان " : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] ، وكلها آيات دالات على القدرة على البعث ، كما تقدمت الإشارة إليه .
قوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا
أي : السماوات السبع ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة " ق " : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج [ 50 \ 6 ] ، وساق النصوص مماثلة هناك .
قوله تعالى : يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا
النفخ في الصور للبعث ، وهذا معلوم ، وتأتون أفواجا : قد بين حال هذا المجيء مثل قوله تعالى : يخرجون من الأجداث سراعا [ 70 \ 43 ] ، وقوله : كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداعي [ 54 \ 7 - 8 ] ، والأفواج هنا قيل : الأمم المختلفة كقوله : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه الآية [ 17 \ 71 ] ، ولكن الآية بتاء الخطاب : فتأتون مما يشعر بأن الأفواج في هذه الأمة .
وقد روى القرطبي وغيره أثرا عن معاذ ، أنه سأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا معاذ ، سألت عن أمر عظيم من الأمور " ، ثم أرسل عينيه وقال : " تحشر عشرة أصناف من أمتي " وساقها ، وكذلك ساقها الزمخشري ، وقال ابن حجر في الكافي الشافي في تخريج [ ص: 410 ] أحاديث الكشاف : أخرجه الثعلبي ، وابن مردويه من رواية محمد بن زهير ، عن محمد بن الهندي ، عن حنظلة السدوسي ، عن أبيه ، عن البراء بن عازب ، عنه بطوله وهي : " بعضهم على صورة القردة ، وبعضهم على صورة الخنازير ، وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها ، وبعضهم عميا ، وبعضهم صما ، بكما ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم ، فهي مدلات على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار ، وبعضهم أشد نتنا من الجيف ، وبعضهم ملبسون جلبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم " .
أما الذين على صورة الخنازير : فأهل السحت ، والمنكسون : أكلة الربا ، والعمي : الجائرون في الحكم ، والصم : المعجبون بأعمالهم ، والذين يمضغون ألسنتهم : العلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، ومقطوعو الأيدي : مؤذو الجيران ، والمصلبون : السعاة بالناس إلى السلطان ، والذين أشد نتنا : متبعو الشهوات ، ومانعو حق الله في أموالهم ، ولابسو الجلباب : أهل الكبر والفخر . انتهى بإيجاز بالعبارة . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا
تقدم بيان أحوالها يوم القيامة ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك مفصلا ; عند قوله تعالى من سورة " طه " : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] ، وعند قوله تعالى في سورة " النمل " : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ 27 \ 88 ] .
قوله تعالى : لابثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا
لم يبين الأحقاب هنا كم عددها ، وهذه مسألة فناء النار ، وعدم فنائها .
وقيل : المراد بالأحقاب هنا : جزء من الزمن لا كله ، وهي الأحقاب الموصوف حالهم فيها لما بعدهم من كونهم لا يذوقون فيها ، أي : في النار أحقابا من الزمن ، لا يذوقون بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا .
أما بقية الأحقاب فيقال لهم : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 \ 30 ] ، وهذه المسألة قد بحثها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في كتاب دفع إيهام الاضطراب ، عند الكلام [ ص: 411 ] على هذه الآية ، وفي سورة " الأنعام " على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية [ 6 \ 128 ] ، وهو بحث مطول ، وسيطبع الكتاب - بإذن الله تعالى - مع هذه التتمة .
وذكر القرطبي في معنى الحقب آثارا عديدة منها : عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكون فيها أحقابا . الحقب : بضع وثمانون سنة ، والسنة ثلاثمائة وستون يوما ، كل يوم ألف سنة مما تعدون . فلا يتكلن أحدكم على أنه يخرج من النار " . ذكره الثعلبي .
وقد رجح القرطبي دوامهم - أي : الكفار في النار - أبد الآبدين . اهـ .
وكل شيء أحصيناه كتابا
قيل المراد بالشيء هنا : أعمال العباد ، أي : أنه بعد قوله : جزاء وفاقا [ 78 \ 26 ] ، أي : وفق أعمالهم بدون زيادة ولا نقص ، قال : وقد أحصينا أعمالهم وكتبناها ، وهذا كقوله تعالى : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] .
وقوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] ، وقوله : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] ، وقوله : أحصاه الله ونسوه [ 58 \ 6 ] .
واللفظ عام في كل شيء ، ويشهد له قوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] وبقدر فيه معنى الإحصاء ، وفي السنة : حديث القلم المشهور ، وكقوله : وكل شيء أحصيناه في إمام مبين [ 36 \ 12 ] ، وتقدم في سورة " الجن " قوله تعالى : وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا [ 72 \ 28 ] .
وهذه الآية أعظم الدلالات على قدرته تعالى وسعة علمه ، وألا يفوته شيء قط ، وأنه يعلم بالجزئيات علمه بالكليات .
وكما تقدم في سورة " المجادلة " : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم [ 58 \ 7 ] .
[ ص: 412 ] وكذلك التفصيل في قوله : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين .
قوله تعالى : إن للمتقين مفازا
بينه بعده بقوله تعالى : حدائق وأعنابا إلى قوله : جزاء من ربك عطاء حسابا [ 78 \ 32 - 36 ] .
قوله تعالى : عطاء حسابا
في حق الكفار قال : جزاء وفاقا ، وفي حق المؤمنين قال عطاء حسابا .
ففي الأول بيان أن مجازاتهم وفق أعمالهم ولا يظلم ربك أحدا . وفي الثاني بيان بأن هذا النعيم عطاء من الله وتفضل عليهم به من الأصل ، وهو المفاز المفسر في قوله تعالى : فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز [ 3 \ 185 ] .
ودخول الجنة ابتداء عطاء من الله كما في حديث : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " ، وقوله : حسابا : إشعار بأن تفاوت أهل الجنة في الجنة بالحساب ونتائج الأعمال . وقيل حسابا : بمعنى كفاية ، حتى يقول كل واحد منهم : حسبي حسبي . أي : كافيني .
قوله تعالى : يوم يقوم الروح والملائكة صفا تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه عند الكلام على قوله تعالى من سورة " الكهف " : وعرضوا على ربك صفا [ 18 \ 48 ] .
وقد ذكر ابن كثير لمعنى الروح هنا سبعة أقوال هي : أرواح بني آدم ، أو بنو آدم أنفسهم ، أو خلق من خلق الله على صور بني آدم ليسوا بملائكة ولا بشر ، ويأكلون [ ص: 413 ] ويشربون ، أو جبريل أو القرآن ، أو ملك عظيم بقدر جميع المخلوقات . ونقلها الزمخشري ، وحكاها القرطبي ، وزاد ثامنا : وهم حفظة على الملائكة ، وتوقف ابن جرير في ترجيح واحد منها .
والذي يشهد له القرآن بمثل هذا النص أنه جبريل - عليه السلام - ، كما في قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر [ 97 \ 4 ] ، ففيه عطف الملائكة على الروح من باب عطف العام على الخاص ، وفي سورة " القدر " عطف الخاص على العام . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن
قال الزمخشري : لشدة هول الموقف ، وهؤلاء وهم أكرم الخلق على الله وأقربهم إلى الله ، لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ، فغيرهم من الخلق من باب أولى .
وقال ابن كثير : هو مثل قوله تعالى : يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه [ 11 \ 105 ] ، ومثله قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] .
والواقع أن هذا كله مما يدل على أن ذلك اليوم لا سلطة ولا سلطان لأحد فقط ، حتى ولا بكلمة إلا ما أذن فيها ، كما قال تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .
قوله تعالى ذلك اليوم الحق
هو يوم القيامة لاسم الإشارة ، وقد أشير إليه بالاسم الخاص بالبعيد ذلك بدلا من هذا ، مع قرب التكلم عليه ; ولكن إما لبعده زمانيا عن زمن التحدث عنه ، وإما لبعد منزلته وعظم شأنه ، كقوله تعالى : الم ذلك الكتاب [ 2 \ 1 - 2 ] ، وفي هذا عود على بدء في أول السورة ، وهو إذا كانوا يتساءلون مستغربين أو منكرين ليوم القيامة ، فإنهم سيعلمون حقا ، وها هو اليوم الحق لا لبس فيه ولا شك ليرونه عين اليقين .
قوله تعالى : فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا .
المآب : المرجع ، كما تقدم مثله فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا [ 73 \ 19 ] ، فإذا كان هذا اليوم كائنا حقا ، والناس فيه إما إلى جهنم ، [ ص: 414 ] كانت مرصادا للطاغين مآبا [ 78 \ 21 - 22 ] ، وإما مفازا حدائق وأعنابا [ 78 \ 31 - 32 ] ، فبعد هذا البيان : فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا ، يؤوب به عند ربه مآبا يرضاه لنفسه ، و من شاء هنا نص في التخيير ، ولكن المقام ليس مقام تخيير ، وإنما هو بمثابة قوله تعالى : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا الآية [ 18 \ 29 ] .
فهو إلى التهديد أقرب ، كما أن فيه اعتبار مشيئة العبد فيما يسلك . والله تعالى أعلم .
ويدل على التهديد ما جاء بعده .
قوله تعالى : إنا أنذرناكم عذابا قريبا
وقوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، وهذا كله تحذير شديد ، وحث أكيد على السعي الحثيث لفعل الخير ، وطلب النجاة في اليوم الحق . نسأل الله السلامة والعافية .
قوله تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه
قد بين تعالى نتيجة هذا النظر إما المسرة به وإما الفزع منه ، كما في قوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد [ 3 \ 30 ] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ النَّازِعَاتِ .
قوله تعالى : والنازعات غرقا
الواو للقسم ، والمقسم به محذوف ، ذكرت صفاته في كل المذكورات ، إلى قوله : فالمدبرات أمرا [ 79 \ 5 ] .
وقد اختلف في المقسم به فيها كلها ، على ما سيأتي بيانه إن شاء الله .
" والنازعات " : جمع نازعة ، والنزع : جذب الشيء بقوة من مقره ، كنزع القوس عن كبده ، ويستعمل في المحسوس والمعنوي ، فمن الأول نزع القوس كما قدمنا ، ومنه قوله : " ونزع يده " [ 7 \ 108 ] ، وقوله : تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر [ 54 \ 20 ] ، وقوله : " ينزع عنهما لباسهما " [ 7 \ 27 ] ، ومن المعنوي قوله تعالى : ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا [ 15 \ 47 ] ، وقوله : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [ 4 \ 59 ] ، والحديث : " لعله نزعه عرق " .
والإغراق : المبالغة ، والاستغراق : الاستيعاب .
أما المراد بـ " النازعات غرقا " هنا ، فقد اختلف فيه إلى حوالي عشرة أقوال منها : أنها الملائكة تنزع الأرواح ، والنجوم تنتقل من مكان إلى مكان آخر ، والأقواس تنزع السهام ، والغزاة ينزعون على الأقواس ، والغزاة ينزعون من دار الإسلام إلى دار الحرب للقتال ، والوحوش تنزع إلى الطلا ، أي : الحيوان الوحشي .
" والناشطات " : قيل أصل الكلمة : النشاط والخفة ، والأنشوطة : العقدة سهلة الحل ، ونشطه بمعنى ربطه ، وأنشطه حله بسرعة وخفة ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " كأنما أنشط من عقال " .
أما المراد به هنا فقد اختلف فيه على النحو المتقدم تقريبا ، فقيل : الملائكة تنشط [ ص: 416 ] الأرواح ، وقيل : أرواح المؤمنين تنشط عند الفزع ، ولم يرجح ابن جرير معنى منها ، وقال : كلها محتملة ، وحكاها غيره كلها .
وقد ذكر في الجلالين المعنى الأول منها فقط ، والذي يشهد له السياق والنصوص الأخرى : أن كلا من " النازعات " و " الناشطات " : هم الملائكة ، وهو ما روي عن ابن عباس ومجاهد ، وهي صفات لها في قبض الأرواح .
ودلالة السياق على هذا المعنى : هو أنهما وصفان متقابلان : الأول نزع بشدة ، والآخر نشاط بخفة ، فيكون النزع غرقا لأرواح الكفار ، والنشط بخفة لأرواح المؤمنين ، وقد جاء ذلك مفسرا في قوله تعالى في حق نزع أوراح الكفار : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون الآية [ 6 \ 93 ] . وقوله تعالى : ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق [ 8 \ 50 ] ، وقال تعالى في حق المؤمنين : ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية [ 89 \ 27 - 28 ] ، وقوله : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 \ 30 ] .
وهذا يتناسب كل المناسبة مع آخر السورة التي قبلها إذ جاء فيها : إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، ونظر المرء ما قدمت يداه يبدأ من حالة النزع حينما يثقل اللسان عن النطق في حالة الحشرجة ، حين لا تقبل التوبة عند العاينة لما سيئول إليه ، فينظر حينئذ ما قدمت يداه ، وهذا عند نزع الروح أو نشطها . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : والسابحات سبحا فالسابقات سبقا
قيل : " السابحات " النجوم . وقيل : الشمس والقمر والليل والنهار ، والسحاب والسفن والحيتان في البحار ، والخيل في الميدان .
وذكرها كلها أيضا ابن جرير ولم يرجح . وقال : كلها محتملة ، وذكرها غيره كذلك .
والواقع ، فإنها كلها آيات عظام تدل على قدرته تعالى ، إلا أن السياق في أمر [ ص: 417 ] البحث والمعاد ، وأقرب ما يكون إليه الآيات الكونية : الشمس ، والقمر ، والنجوم . وقد وصف الله الشمس والقمر بالسابحات في قوله تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 40 ] ، " والسابقات " من النجوم ، السيارة .
قوله تعالى : فالمدبرات أمرا
اتفق المفسرون على أنها الملائكة ، وذكر الفخر الرازي رأيا له بعيدا ، وهو أنها الأرواح ، وأنها قد تدبر أمر الإنسان في المنامات ، وهو قول لا يعول عليه كما ترى .
والذي يشهد له النص أنها الملائكة ، كما في قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر [ 97 \ 4 ] ، وكما وصف الله الملائكة بقوله : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] .
قوله تعالى : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة
هما النفختان في الصور ، الراجفة هي الأولى ، والرادفة هي الثانية ، كما في قوله تعالى : ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون [ 39 \ 68 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " يس " عند قوله تعالى : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون [ 36 \ 51 ] ، وسميت الأولى الراجفة ; لما يأخذ العالم كله من شدة الرجفة ، كما في قوله تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، وقوله : فصعق من في السماوات ومن في الأرض [ 39 \ 68 ] .
وذكر ابن كثير عن الإمام أحمد - رحمه الله - بسنده : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " جاءت الرجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه . فقال رجل : يا رسول الله ، أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك ؟ قال : " إذن يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك " وسنده قال أحمد : حدثنا وكيع حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن أبي الطفيل بن أبي بن كعب ، عن أبيه ، قال : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث .
[ ص: 418 ] قوله تعالى : يقولون أئنا لمردودون في الحافرة قال ابن كثير : يستنكر المشركون البعث بعد الموت ، و " الحافرة " : الحياة بعد موتهم ومصيرهم إلى القبور .
ونقل أن الحافرة النار ، وأكثر المفسرين على أنها الحياة الأولى ، يقال : عاد في حافرته رجع في طريقه ، كأن محياه الأول حفر طريقه بمشيه فيها ، وعليه لا علاقة له بحفرة القبر ، وإنما هو تعبير عربي عن العودة في الأمر ، ويشهد له قول الشاعر :
أحافرة على صلع وشيب معاذ الله من صلع وعار
أي : أرجع إلى الصبا بعد الصلع والشيب .
وقول الآخر :
أقدم أخا نهم على الأساوره ولا يهولنك رءوس نادره
فإنما قصرك ترب الساهره حتى تعود بعدها في الحافره
من بعد ما صرت عظاما ناخره
وقد دلت الآية بعدها ، إلى أن المراد بالحافرة العودة إلى الحياة مرة أخرى ، في قوله : قالوا تلك إذا كرة خاسرة [ 79 \ 12 ] .
والكرة : هي العودة إلى الحياة الأولى ، وهي ما قبل حفرة القبر من تكرار الحياة السابقة . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أئذا كنا عظاما نخرة العظام النخرة البالية ، والتي تخللها الريح ، كما في قول الشاعر :
وأخليتها من مخها فكأنها قوارير في أجوافها الريح تنخر
ونخرة الريح شدة صوتها ، ومنه المنخر ، لأخذ الهواء منه ، ويدل لهذا قوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:31 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (582)
سُورَةُ النَّازِعَاتِ .
صـ 419 إلى صـ 428
قوله تعالى : هل أتاك حديث موسى .
[ ص: 419 ] بين تعالى هذا الحديث وموضوعه ومكانه بقوله تعالى بعده : إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى اذهب إلى فرعون إنه طغى إلى قوله فقال أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] .
قوله تعالى : ناداه ربه بالوادي المقدس ، بين القرآن الكريم أنه الطور في قوله تعالى : فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا إلى قوله فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة [ 28 \ 29 - 30 ] والمباركة تساوي المقدس .
فبين تعالى أن المناداة كانت بالطور وهو الوادي المقدس ، وهو طوى ، وفي البقعة المباركة . وقد بين تعالى ما كان في ذلك المكان من مناجاة وأمر العصا والآيات الأخرى في سورة " طه " من أول قوله تعالى : وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا إلى قوله اذهب إلى فرعون [ 20 \ 9 - 24 ] .
وقد فصل الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - القول في ذلك الموقف في سورة " مريم " عند قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] .
وقد بين تعالى في سورة " طه " ، كامل قصة المناداة من قوله : إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية [ 20 \ 12 - 15 ] .
ثم قصة العصا والآية في يده - عليه السلام - وإرساله إلى فرعون إنه طغى ، وسؤال موسى : رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري [ 20 \ 25 - 26 ] ، واستوزار أخيه معه ، دون التعرض إلى أسلوب الدعوة ، وفي هذه السورة الكريمة بيان لمنهج الدعوة ، وما ينبغي أن يكون عليه نبي الله موسى مع عدو الله فرعون .
وأسلوب العرض : " هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى " [ 79 \ 18 - 19 ] ، ثم تقديم الآية الكبرى ، ودليل صحة دعواه مما يلزم كل داعية اليوم أن يقف هذا الموقف ، حيث لا يوجد اليوم أكثر من فرعون ، ولا أشد طغيانا منه ; حيث ادعى الربوبية والألوهية معا ، فقال : أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] ، وقال : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 \ 38 ] ، [ ص: 420 ] ولا يوجد اليوم أكرم على الله من نبي الله موسى وأخيه هارون .
ومع ذلك فيكون منهج الدعوة من أكرم خلق الله إلى أكفر عباد الله بهذا الأسلوب الهادئ اللين الحكيم ، منطلقا من قوله تعالى : فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ 20 \ 44 ] فكانا كما أمرهما الله ، وقالا كما علمهما الله هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى ، وهذا المنهج هو تحقيق لقوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ 16 \ 125 ] .
وقد وضع القرآن منهجا متكاملا للدعوة إلى الله ، وفصله العلماء بما يشترط في الداعي والمدعو إليه ، ومراعاة حال المدعو .
وقد قدم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] من سورة " المائدة " .
وقوله تعالى : وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ 11 \ 88 ] في سورة " هود " .
وقوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] في سورة " النحل " .
ومجموع ذلك كله يشكل منهجا كاملا لمادة طريق الدعوة إلى الله تعالى ، فيما يتعلق بالداعي والمدعو وما يدعو إليه ، وكيفية ذلك . والحمد لله .
قوله تعالى : فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى
ذكر هنا الآية الكبرى فقط ، وذكر تعالى منها أن فرعون جمع بين التكذيب والعصيان ، وتقدم في سورة " القمر " قوله : ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر .
[ 54 \ 41 - 42 ] ، وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك هناك .
قوله تعالى : فأخذه الله نكال الآخرة والأولى
النكال : هو اسم لما جعل نكالا للغير ، أي : عقوبة له حتى يعتبر به ، والكلمة من [ ص: 421 ] الامتناع ، ومنه النكول عن اليمين ، والنكل القيد . قاله القرطبي .
واختلف في " الآخرة والأولى " : أهم الدنيا والآخرة ؟ أم هم الكلمتان العظيمتان اللتان تكلم بهما فرعون في قوله : ما علمت لكم من إله غيري [ 28 \ 38 ] .
والثانية قوله : أنا ربكم الأعلى [ 79 \ 24 ] .
قال ابن عباس : وكان بينهما أربعون سنة . وقد اختار ابن كثير الأول ، واختار ابن جرير الثاني ، ومعه كثير من المفسرين .
ولكن يرد على اختيار ابن كثير : أن السياق قدم الآخرة ، مع أن تعذيب فرعون مقدم فيه نكال الأولى ، وهي الدنيا .
كما يرد على اختيار ابن جرير ، أن الله تعالى جعل أخذه إياه نكالا ، ليعتبر به من يخشى ، والعبرة تكون أشد بالمحسوس ، وكلمتاه قيلتا في زمنه .
والقرآن يشهد لما قاله ابن كثير ، في قوله تعالى : فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية [ 10 \ 92 ] ، وهذا هو محل الاعتبار .
وقد قال تعالى بعد الآية : إن في ذلك لعبرة لمن يخشى [ 79 \ 26 ] .
واسم الإشارة في قوله : " إن في ذلك " : راجع إلى الأخذ والنكال المذكورين ، أي : المصدر المفهوم ضمنا في قوله تعالى : فأخذه الله ، وقوله : " نكال " ، بل إن " نكال " مصدر بنفسه ، أي : فأخذه الله ونكل به ، وجعل نكاله به عبرة لمن يخشى .
قوله تعالى : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها
لما كان فرعون على تلك المثابة من الطغيان والكفر ، وكان من أسباب طغيانه الملك والقوة ، كما في قوله تعالى : وفرعون ذي الأوتاد [ 89 \ 10 ] ، وقوله : إن فرعون علا في الأرض [ 28 \ 4 ] ، وقوله عنه : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [ 43 \ 51 ] .
وهذه كلها مظاهر طغيانه وعوامل قوته ، خاطبهم الله بما آل إليه هذا الطغيان ، ثم خاطبهم في أنفسهم محذرا من طغيان القوة : أأنتم أشد خلقا أم السماء ، حتى لو [ ص: 422 ] ادعيتم أنكم أشد قوة من فرعون ، الذي أخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فهل أنتم أشد خلقا أم السماء ؟
وقد جاء الجواب مصرحا بأن السماء أشد خلقا منهم في قوله تعالى : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ 40 \ 57 ] .
وبين ضعف الإنسان في قوله في نفس المعنى : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب [ 37 \ 11 ] .
وفي هذا بيان على قدرته تعالى على بعثهم بعد إماتتهم وصيرورتهم عظاما نخرة .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - شيء من ذلك عند آية " الصافات " : فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنا [ 37 \ 11 ] .
قوله تعالى : بناها رفع سمكها فسواها
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " ق " عند قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها الآية [ 50 \ 6 ] .
قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها
في هذه الآية الكريمة وصف الأرض بأن الله تعالى " دحاها " ، وجاء في آية أخرى أنه " طحاها " بالطاء ، وجاء في آية أخرى أنه بسطها ، وهي قوله تعالى : وإلى الأرض كيف سطحت [ 88 \ 20 ] .
وقد اختلف في تفسير قوله : " دحاها " ، فقال ابن كثير : تفسيره ما بعده أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها [ 79 \ 31 - 32 ] وهذا قول ابن جرير عن ابن عباس .
وقال القرطبي : " دحاها " أي : بسطها .
والعرب تقول : دحا الشيء إذا بسطه .
وقال أبو حيان : " دحاها " بسطها ومهدها للسكنى والاستقرار عليها ، ثم فسر ذلك التمهيد بما لا بد منه من إخراج الماء والمرعى ، وإرسائها بالجبال .
[ ص: 423 ] ومما ذكر يتأتى السكنى والمعيشة حتى الملح والمأكل والمشرب ، وهذا هو كلام الزمخشري بعينه .
وقال الفخر الرازي : " دحاها " : بسطها ، فترى أن جميع المفسرين تقريبا متفقون على أن دحاها بمعنى بسطها .
وقول ابن جرير وابن كثير : إن " دحاها " فسر بما بعده لا يتعارض مع البسط والتمهيد ، كما قال أبو حيان : إنه ذكر لوازم التسكن إلى المعيشة عليها من إخراج مائها ومرعاها ; لأن بهما قوام الحياة .
ومما يستأنس به أن الدحو معروف بمعنى البسط ، قول ابن الرومي :
ما أنس لا أنس خبازا مررت به يدحو الرقاقة وشك اللمح بالبصر ما بين رؤيتها في كفه كرة
وبين رؤيتها قوراء كالقمر إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء ترمي فيه بالحجر
وقد أثير حول هذه الآية مبحث شكل الأرض أمبسوطة هي أم كروية مستديرة ؟
وإذا رجعنا إلى أمهات كتب اللغة نجد الآتي :
أولا : في مفردات الراغب : قال " دحاها " ، أزالها من موضعها ومقرها .
ومنه قولهم : دحا المطر الحصى من وجه الأرض ، أي : جرفها ، ومر الفرس يدحو دحوا : إذا جر يده على وجه الأرض فيدحو ترابها .
ومنه أدحي النعام ، وقال : الطحو كالدحو ، وهو بسط الشيء والذهاب به والأرض وما طحاها ، وأنشد قول الشاعر :
طحا بك قلب في الحسان طروب
أي ذهب بك .
وفي معجم مقاييس اللغة ، مادة دحو : الدال والحاء والواو أصل واحد يدل على بسط وتمهيد .
يقال : دحى الله الأرض يدحوها دحوا إذا بسطها . ويقال : دحا المطر الحصى [ ص: 424 ] عن وجه الأرض ، وهذا لأنه إذا كان كذلك فقد مهد الأرض .
ويقال للفرس ، إذا رمى بيده رميا لا يرفع سنبكه عن الأرض كثيرا : مر يدحو دحوا ، ومن الباب أدحي النعام : الموضع الذي يفرخ فيه ، أفعول من دحوت ، لأنه يدحوه برجله ثم يبيض فيه ، وليس للنعامة عش .
وفي لسان العرب مادة دحا ، والدحو : البسط ، دحى الأرض يدحوها دحوا : بسطها .
وقال الفراء في قوله عز وجل : والأرض بعد ذلك دحاها قال : بسطها ، وذكر الأدحي مبيض النعام في الرمل ; لأن النعامة تدحوه برجلها ، ثم تبيض فيه .
وذكر حديث ابن عمر : " فدحا السيل فيه بالبطحاء " ، أي : رمى وألقى .
قال : وسئل ابن المسيب عن الدحو بالحجارة ، فقال : لا بأس به ، أي : المراماة بها والمسابقة .
وعن ابن الأعرابي : هو يدحو بالحجر ، أي يرمي به ويدفعه ، والداحي : الذي يدحو الحجر بيده ، وأنشد لأوس بن حجر بمعنى ينزع قوله :
ينزع جلد الحصى أجش مبترك كأنه فاحص أو لاعب داح
؟
وفي حديث أبي رافع : " كنت ألاعب الحسن والحسين - رضوان الله عليهما - بالمداحي " ، هي أحجار أمثال القرصة ، كانوا يحفرون حفرة يدحون فيها بتلك الحجارة ، فإذا وقع الحجر فيها غلب صاحبها ، وإن لم يقع غلب .
والدحو : هو رمي اللاعب بالحجر والجوز وغيره . اهـ .
وما ذكره صاحب اللسان عن أبي رافع لا زال موجودا حتى الآن بالمدينة ، ويسمى الدحل باللام ، كما وصف تماما .
وبعد إيراد أقوال أصول مراجع اللغة ، وما تقدم من أقوال المفسرين . فإننا نواجه الجدل القائم بين بعض علماء الهيئة ، وبعض العلماء الآخرين ، في موضوع شكل الأرض ، ولعلنا نوفق بفضل من الله إلى بيان الحقيقة في ذلك ، حتى لا يظن ظان تعارض القرآن ، وما يثبت من علوم الهيئة أو يغتر جاهل بما يقال في الإسلام .
[ ص: 425 ] وبتأمل قول المفسرين نجدها متفقة في مجموعها : بأن " دحاها " مهدها وسهل الحياة عليها ، وذكر لوازم التمكين من الحياة عليها من إخراج الماء ، والمرعى ، ووضع الجبال ، وهو المتفق مع نصوص القرآن في قوله :ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 \ 6 - 7 ] .
وقوله : هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه [ 67 \ 15 ] .
وكل ذلك من باب واحد ، وهو تمهيدها والتمكين للعيش عليها ، وليس فيه معنى التكوير والاستدارة .
وإذا جئنا إلى كتب اللغة نجدها كلها ، تنص على أن الدحو : البسط ، والرمي ، والإزالة ، والتمهيد ، فالبسط والتمهيد والرمي بالحجر المستدير في الحفرة الصغيرة معان مشتركة ، وكلها تفسر " دحاها " بمعنى بسطها ومهدها . وأن الأدحية مبيض النعام لا بيضه كما يقولون ، وسمي بذلك ; لأنها تدحوه بيدها لتبيض فيه ، إذ لا عش لها .
وعليه ، فلا دليل من كتب اللغة على أن الدحو هو التكوير ، ولكن ما قول العلماء في شكل الأرض ، بصرف النظر عن كون القرآن تعرض له أو لم يتعرض ؟
إذا رجعنا إلى كلام من نظر في علم الهيئة من المسلمين ، فإنا نجدهم متفقين على أن شكل الأرض مستدير .
وقبل إيراد شيء من أقوالهم ننبه على أنه لا علاقة لهذا البحث بموضوع الحركة ، سواء للأرض أو غيرها ، فذاك بحث مستقل ، ليس هذا محله ، وإنما البحث في الشكل .
أما أقوال العلماء في شكل الأرض ، فإن أجمع ما وقفت عليه ، وأصرح ، وأبين ، هو كلام ابن تيمية في رسالة الهلال ، جاء فيها : قال في موضع منها قوله : وقد ثبت بالكتاب والسنة والإجماع من علماء الأمة ، أن الأفلاك مستديرة ، قال تعالى : ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر [ 41 \ 37 ] ، وقال : وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون [ 21 \ 37 ] ، وقال تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 40 ] .
[ ص: 426 ] قال ابن عباس : في فلكة مثل فلكة المغزل . وهكذا هو في لسان العرب : الفلك الشيء المستدير . ومنه يقال : تفلك ثدي الجارية إذا استدار . قال تعالى : يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل [ 39 \ 5 ] ، والتكوير هو التدوير . ومنه قيل : كار العمامة وكورها ، ولهذا يقال للأفلاك : كروية الشكل ; لأن أصل الكرة كورة - تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا .
وقال : الشمس والقمر بحسبان [ 55 \ 5 ] مثل حسبان الرحى ، وقال : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] وهذا إنما يكون فيما يستدير من أشكال الأجسام دون المضلعات من المثلث أو المربع أو غيرهما ، فإنه يتفاوت ; لأن زواياه مخالفة لقوائمه . والجسم المستدير متشابه الجوانب والنواحي ، ليس بعضه مخالفا لبعض .
وجاء فيه قوله أيضا : وقال الإمام أبو الحسين : أحمد بن جعفر بن المنادي ، من أعيان العلماء المشهورين بمعرفة الآثار والتصانيف الكبار ، في متون العلوم الدينية من الطبقة الثانية من أصحاب أحمد : لا خلاف بين العلماء أن السماء على مثال الكرة ، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب ، كدورة الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين ، أحدهما في الشمال ، والآخر في ناحية الجنوب .
قال : ويدل على ذلك أن الكواكب جميعها تدور من المشرق تقع قليلا على ترتيب واحد في حركتها ومقادير أجزائها ، إلى أن تتوسط السماء ، ثم تنحدر على ذلك الترتيب ، فكأنها ثابتة في كرة تديرها جميعها دورا واحدا .
هذه نبذة من أقوال علماء المسلمين في شكل الأفلاك ، ثم قال : وهذا محل القصد بالذات ، وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة .
قال : ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب ، لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد ، بل على المشرق قبل المغرب .
قال : فكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء ، كالنقطة في الدائرة ، يدل على ذلك أن جرم كل كوكب يرى في جميع نواحي السماء ، على قدر واحد ، فيدل ذلك على بعد ما [ ص: 427 ] بين السماء والأرض من جميع الجهات بقدر واحد ، فاضطرار أن تكون الأرض وسط السماء . اهـ . بلفظه .
فهذا نقل لإجماع الأمة ، من إمام جليل في علمي المعقول والمنقول ، على أن الأرض على شكل الكرة ، وقد ساق الأدلة الاضطرارية من حركة الأفلاك على ذلك .
ومن جهة العقل أيضا يقال : إن أكمل الأجرام هو المستدير كما قال في قوله : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت [ 67 \ 3 ] .
وعليه ، فلو قدر لسائر على وجه الأرض ، وافترضنا الأرض مسطحة كسطح البيت أو القرطاس مثلا ، لكان لهذا السائر من نهاية ينتهي إليها ، وهي منتهى التسطيح أو يسقط في هاوية ، وباعتبارها كرة ، فإنه يكمل دورته ، ويكررها ولو سار طيلة عمره لما كان لمسيره منتهى ، لأنه يدور على سطحها من جميع جهاتها . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .
كان من الممكن أن نقدم هذه النتيجة من أول الأمر ما دامت متفقة في النهاية مع قول علماء الهيئة ، ولا نطيل النقول من هنا وهناك ، ولكن قد سقنا ذلك كله لغرض أعم من هذا كله ، وقضية أشمل وهي من جهتين :
أولاهما : أن علماء المسلمين مدركون ما قال به علماء الهيئة ، ولكن لا من طريق النقل أو دلالة خاصة على هذه الجزئية من القرآن ، ولكن عن طريق النظر والاستدلال ; إذ علماء المسلمين لم يجهلوا هذه النظرية ، ولم تخف عليهم هذه الحقيقة .
ثانيتهما : مع علمهم بهذه الحقيقة وإدراكهم لهذه النظرية ، لم يعز واحد منهم دلالتها لنصوص الكتاب أو السنة .
وبناء عليه نقول : إذا لم تكن النصوص صريحة في نظرية من النظريات الحديثة ، لا ينبغي أن نقحمها في مباحثها نفيا أو إثباتا ، وإنما نتطلب العلم من طريقه ، فعلوم الهيئة من النظر الاستدلال ، وعلوم الطب من التجارب والاستقراء ، وهكذا يبقى القرآن مصانا عن مجال الجدل في نظرية قابلة للثبوت والنفي ، أو التغيير والتبديل ، كما لا ينبغي لمن لم يعلم حقيقة أمر في فنه أن يبادر بإنكارها ما لم تكن مصادمة لنص صريح
[ ص: 428 ] وعليه أن يتثبت أولا ، وقد نبهنا سابقا على ذلك في مثل ذلك في قصة نبي الله سليمان مع بلقيس والهدهد حينما جاءه ، فقال : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين [ 27 \ 22 ] ، وقص عليه خبرها مع قومها ، فلم يبادر - عليه السلام - بالإنكار لكون الآتي بالخبر هدهدا ، ولم يكن عنده علم به ولم يسارع أيضا بتصديقه ; لأنه ليس لديه مستند عليه ، بل أخذ في طريق التثبت بواسطة الطريق الذي جاءه الخبر به ، قال : سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين [ 27 \ 27 ] ، وأرسله بالكتاب إليهم ، فإذا كان هذا من نبي الله سليمان ، ولديه وسائل وإمكانيات كما تعلم ; فغيره من باب أولى .
تنبيه آخر .
إذا كان علماء الإسلام يثبتون كروية الأرض ، فماذا يقولون في قوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت إلى قوله وإلى الأرض كيف سطحت [ 88 \ 17 - 20 ] . وجوابهم كجوابهم على قوله تعالى : حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة [ 18 \ 86 ] ، أي في نظر العين ; لأن الشمس تغرب عن أمة ، وتستمر في الأفق على أمة أخرى ، حتى تأتي مطلعها من الشرق في صبيحة اليوم الثاني ، ويكون بسط الأرض وتمهيدها ، نظرا لكل إقليم وجزء منها لسعتها وعظم جرمها .
وهذا لا يتنافى مع حقيقة شكلها ; فقد نرى الجبل الشاهق ، وإذا تسلقناه ووصلنا قمته وجدنا سطحا مستويا ، ووجدنا أمة بكامل لوازمها ، وقد لا يعلم بعض من فيه عن بقية العالم ، وهكذا . والله تعالى أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:32 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (583)
سُورَةُ عَبَسَ .
صـ 429 إلى صـ 438
قوله تعالى : كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها العشية : ما بين الزوال إلى الغروب ، والضحى : ما بين طلوع الشمس إلى الزوال ، وهذا تحديد بنصف نهار .
وقد جاء التحديد بساعة من نهار . وجاء : يوما أو بعض يوم [ 2 \ 259 ] . وجاء : إن لبثتم إلا عشرا [ 10 \ 103 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك عند قوله تعالى في سورة [ ص: 429 ] " يونس " : ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار [ 10 \ 45 ] ، وأحال على دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ، وسيطبع إن شاء الله مع هذه التتمة .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ عَبَسَ .
قوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى
سبب نزول هذه السورة باتفاق المفسرين ، أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولا بدعوة صناديد قريش ، فأتاه ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى ، وقال : " أقرئني يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلمني مما علمك الله ، وكرر ذلك ، فلم يتفق ذلك وما هو مشتغل به - صلى الله عليه وسلم - ، وما يرجوه مما هو أعظم ، فعبس وتولى عنه منصرفا ، لما هو مشتغل به .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب على قوله تعالى : أن جاءه الأعمى ما نصه : عبر تعالى عن هذا الصحابي الجليل - الذي هو عبد الله بن أم مكتوم - بلقب يكرهه الناس ، مع أنه قال : ولا تنابزوا بالألقاب [ 49 \ 11 ] .
والجواب : هو ما نبه عليه بعض العلماء : من أن السر في التعبير عنه بلفظ " الأعمى " ; للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار لما قطع كلامه . اهـ منه بلفظه .
وقال الفخر الرازي : إنه وإن كان أعمى لا يرى ، فإنه يسمع وبسماعه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإقدامه على مقاطعته يكون مرتكبا معصية ، فكيف يعاتب عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
فكلامه هذا يشعر بأنه إن كان معذورا لعدم الرؤية ، فليس معذورا لإمكان سماعه ، ولكن ذكره بوصفه ليوجب العطف عليه والرفق به .
والظاهر - والله تعالى أعلم - : أن كلام الرازي ليس بعيدا عما ذكره الشيخ ; لأن معناه أنه عاتبه لعدم رفقه به . ومراعاة حالة عماه .
فعليه ، يكون ذكره بهذا الوصف من باب التعريض بغيره من أولئك الصناديد وسادة القوم ، وكأنه يقول لهم : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ ص: 431 ] [ 22 \ 46 ] ، فهذا كفيف البصر ، ولكن وقاد البصيرة أبصر الحق وآمن ، وجاء مع عماه يسعى طلبا للمزيد ، وأنتم تغلقت قلوبكم وعميت بصائركم فلم تدركوا الحقيقة ولم تبصروا نور الإيمان ، كما في الآية الكريمة : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور
والعلم عند الله تعالى .
تنبيه .
مما اتفق عليه المحدثون : جواز ذكر مثل هذه الأوصاف إذا كانت للتعريف لا للتنقيص ، فقالوا : الأعمى والأعور والأعرج . وفي الحرف قالوا : الخراز ، والخرقي ، ونحو ذلك ، وهذا ما فيه مصلحة لترجمة الرجال في السند .
ومثله ليس تنابزا بالألقاب في هذا الفن . والله تعالى أعلم .
ومثله إذا كان للتعريف في غرض سليم دون تنقص كما قدمنا .
وقوله تعالى : عبس وتولى ، فإن فيه مثل ما في قوله تعالى : أن جاءه الأعمى ; لأن العبوسة أمر لا يتفق في الظاهر مع قوله تعالى في حقه - صلى الله عليه وسلم - : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] ، وقوله : واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] . ولم أقف على جواب لذلك ، ولم يتعرض له الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أنه لا يتأتى معه ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بما يسيء إلى هذا الصحابي في نفسه بشيء يسمعه فيزعجه ، كل ما كان منه - صلى الله عليه وسلم - إنما هو تقطيب الجبين ، وهذه حركة مرئية لا مسموعة .
والحال : أن هذا أعمى لا يرى تلك الحركة ، فكأنه لم يلق إساءة منه - صلى الله عليه وسلم - .
ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - مطمئن له لما هو عليه من خير في دينه . كما قال في حنين : " وأكل أقواما إلى ما في قلوبهم " ، أي : لما أعطى المؤلفة قلوبهم ، ولم يعط الأنصار ما هو معروف في القصة ، فلم يعاتبه الله على ذلك . ورضي الأنصار ، وبكوا فرحا ورضا .
ثم إن تقطيب الجبين وانبساط أسارير الوجه لحزن أو فرح ، يكاد يكون جبليا مما [ ص: 432 ] كان منه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو من باب الجبلية تقريبا ، كأن المثير له غرض عام من خصوص الرسالة ومهمتها .
ومع ذلك فقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان بعد نزولها يقول له : " مرحبا فيمن عاتبني فيه ربي " ، ويكرمه ، وقد استخلفه على المدينة مرتين .
وعلى هذا يكون المراد بهذا أمران :
الأول : التسامي بأخلاقه - صلى الله عليه وسلم - إلى ما لا نهاية له ، إلى حد اللحظ بالعين ، والتقطيب بالجبين ، ولو لمن لا يراه ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين " وذلك في صلح الحديبية .
والثاني : تأديب للأمة وللدعاة خاصة ، في شخصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما علمهم في شخصيته في بر الوالدين ، في قوله تعالى : إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما [ 17 \ 23 ] .
وهذا السياق بكامله من أول السورة إلى قوله تعالى : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره [ 80 \ 11 - 12 ] ، بيان ; لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يراعي في الدعوة إلى الله غنيا ولا فقيرا ، وأن يصبر على ضعفة المؤمنين ; لأن الرسالة تبليغ وليس عليه ما وراء ذلك في مسئولية ، فلا يتكلف لهم .
وقد حثه الله تعالى على الصبر مع المؤمنين ، لإيمانهم في قوله تعالى : واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [ 18 \ 28 - 29 ] .
ومثله قوله تعالى : ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين [ 6 \ 52 ] .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - شيء من هذا البيان عند هذه الآية ، وبين أن هذا التنبيه قد وقع من نبي الله نوح إلى قومه ، حينما ازدروا ضعفة المؤمنين في [ ص: 433 ] قوله تعالى : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي إلى قوله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون [ 11 \ 27 - 29 ] .
وقد دلت هذه الآية وأمثالها على صدق مقالة هرقل ، حينما سأل أبا سفيان عن أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - : أهم سادة القوم أم ضعفاؤهم ؟ فقال : بل ضعفاؤهم . فقال : هكذا هم أتباع الرسل .
وقال العلماء في ذلك : لأنهم أقرب إلى الفطرة ، وأبعد عن السلطان والجاه ، فليس لديهم حرص على منصب يضيع ، ولا جاه يهدر ، ويجدون في الدين عزا ورفعة ، وهكذا كان بلال وصهيب وعمار ، وهكذا هو ابن أم مكتوم - رضي الله عنهم - .
قوله تعالى : أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى
بيان لموقفه - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأمة ، وحرصه على إسلام الجميع حتى من أعرض واستغنى ، شفقة بهم ورحمة ، كما بين تعالى حاله - صلى الله عليه وسلم - بقوله : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم [ 9 \ 128 ] وكقوله : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] .
وقوله : وما عليك ألا يزكى ، بيان أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس عليه ممن لا يتزكى ، وقد صرح تعالى بذلك في قوله : إنما أنت منذر [ 13 \ 7 ] ، وقوله : إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] ، وقوله : ليس عليك هداهم [ 2 \ 172 ] ، ومثل ذلك .
وقد جمع الأمرين من الجانبين في قوله تعالى عن نوح - عليه السلام - : وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلا نذير مبين [ 26 \ 114 - 115 ] .
قوله تعالى : كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة
معلوم أن كلمة " كلا " : ردع عما سبق ، وهو في جملته منصب على التصدي لمن استغنى . والإلحاح عليهم والحرص على سماعهم منه ، ولكن الله تعالى يقول : إن منزلة القرآن والوحي والدين أعلى منزلة من أن تبذل لقوم هذه حالتهم ، فهي على ما هي عليه من [ ص: 434 ] تكريم ورفعة وطهرة وصيانة ، وما عليها من حفظة سفرة كرام بررة ، أحرى بأن يسعى إليها ، والخير لمن أتاها يطلبها .
فمن شاء ذكره ، وهذا للتهديد لا للتخيير بدليل ما بعده : قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] ، " قتل الإنسان " : دعاء عليه ، والإنسان : للجنس الكافر ، و " ما أكفره " : أي ما أشد كفره بها ، بعد هذا كله من علو منزلتها .
وقوله تعالى : قتل الإنسان ما أكفره قيل : " ما أكفره " هنا ، ما أفعله ، أي : ما أشد كفره .
وقال الزمخشري : هي تعجب من إفراطه في كفران نعم الله .
وقيل : أي شيء حمله على التكذيب والكفر ؟ وكلها محتملة .
ولعل المعنى الأول أظهر ; لقوله قبله : " قتل الإنسان " ، ولمجيء هذا المعنى في مواضع أخر : " إن الإنسان لظلوم كفار " [ 14 \ 34 ] ، وكذلك فعول في قوله : وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور [ 22 \ 66 ] ، وهكذا صفة الجاحدين لآيات الله ، كما في قوله : وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور [ 31 \ 32 ] .
ثم رد تعالى عليه ذلك برده إياه إلى أصل خلقته ، ليتعظ من نفسه في قوله تعالى : من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره [ 80 \ 18 - 21 ] ; لأن هذه الثلاثة مسلم بها ، ورتب عليها الرابعة : ثم إذا شاء أنشره [ 70 \ 22 ] .
وقوله : من نطفة خلقه فقدره تقدم مرارا بيان أصل خلق الإنسان وأطواره .
وقوله : ثم السبيل يسره قيل : " السبيل " إلى خروجه من بطن أمه ، حيث أدار رأسه إلى جهة الخروج ، بدلا مما كان عليه إلى أعلى ، وهذا من التيسير في سبيل خروجه ، وهذا مروي عن ابن عباس وغيره ، وهو اختيار ابن جرير .
وقيل : " السبيل " : أي الدين في وضوحه ، ويسر العمل به ، كقوله تعالى : [ ص: 435 ] إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] ، وهو مروي عن الحسن وابن زيد ، ورجحه ابن كثير .
ولعل ما رجحه ابن كثير هو الأرجح ; لأن تيسير الولادة أمر عام في كل حيوان ، وهو مشاهد ملموس ، فلا مزية للإنسان فيه على غيره ، كما أن ما قبله دال عليه أو على مدلوله وهو القدرة في قوله تعالى : من نطفة خلقه فقدره .
وقد يكون تيسير الولادة داخلا تحت قوله : " فقدره " . أي : قدر تخلقه وزمن وجوده وزمن خروجه ، وتقديرات جسمه وقدر حياته ، وقدر مماته ، كما هو معلوم .
أما تيسير سبيل الدين ، فهو الخاص بالإنسان . وهو المطلوب التوجه إليه . وهو الذي يتعلق بغيره ما بين تخلقه من نطفة وتقديره . وبين إماتته وإقباره . أي : فترة حياته في الدنيا ، أي : خلقه من نطفة وقدر مجيئه إلى الدنيا . ويسر له الدين في التكاليف . ثم أماته ليرى ماذا عمل : ثم إذا شاء أنشره .
ولذا جاء في النهاية بقوله : " كلا لما يقض ما أمره " [ 80 \ 23 ] . وليس هنا ما يدل على الأمر إلا السبيل يسره . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا
بعد ما بين له مم خلق ، ، بين له هنا كيف يطعمه ، وفي كليهما آية على القدرة .
وقد اتفقت الآيتان على خطوات ثلاث متطابقة فيهما . فصب الماء من السماء إلى الأرض ، يقابل دفق الماء في الرحم . وشق الأرض للنبات يقابل خروجه إلى الدنيا . وإنبات أنواع النباتات ، يقابل تقادير الخلق المختلفة .
وفي التنصيص على أنواع النبات من : حب ، وقضب ، وعنب ، ورمان ، وزيتون ، ونخيل ، وفواكه متعددة ، وحدائق ملتفة ، لظهور معنى المغايرة فيها ، مع أنها من أصلين مشتركين : الماء من السماء . والتربة في الأرض ، يسقى بماء واحد .
ومرة أخرى ، يقال للشيوعيين والدهريين : قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه [ 80 \ 17 - 18 ] : [ ص: 436 ] أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون لو نشاء لجعلناه حطاما [ 56 \ 58 - 65 ] .
إنهم بلا شك لا يدعون لأنفسهم فعل شيء من ذلك . وإنهم ليعلمون أن لها خالقا مدبرا . ولكنهم يكابرون . وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [ 27 \ 14 ] ، صدق الله العظيم ، وكذب كل كفار أثيم .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان خلق الإنسان في مواطن متعددة سابقة ، آخرها في سورة " الرحمن " : خلق الإنسان من صلصال كالفخار [ 55 \ 14 ] ، وبيان طعامه في كل من سورتي " الواقعة " و " الجاثية " .
قوله تعالى : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة
الإسفار : الإضاءة ، وهو تهلل الوجه بالسرور ، كما قال تعالى : ولقاهم نضرة وسرورا [ 76 \ 11 ] ، والاستبشار من تقدم البشرى في قوله تعالى : تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 \ 30 ] .
وقوله تعالى : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار [ 57 \ 12 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الحديد " .
قوله تعالى : ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ، بينهم تعالى بأنهم هم الكفرة الفجرة .
وتقدم بيان ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الرحمن " على الكلام على قوله تعالى : يعرف المجرمون بسيماهم [ 55 \ 41 ] .
وقد جمع لهم هنا بين الكفر والفجور ، وهما الكفر في الاعتقاد والفجور في الأعمال ، كما في قوله تعالى : ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [ 71 \ 27 ] ، والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ التَّكْوِيرِ .
قوله تعالى : إذا الشمس كورت
اختلف في معنى " كورت " هنا أكثر من عشرة أقوال ، وكلها تدور على نهاية أمرها .
فقيل : " كورت " : لف بعضها على بعض ، فانطمس نورها .
وقيل : حجبت بكارة ، أي : لفت بها . وقيل : ألقيت في البحر . وقيل : دخلت في العرش . وقيل : اضمحلت . وقيل : نكست . وقال ابن جرير : نقول كما قال الله تعالى : كورت .
والذي يشهد له القرآن ، أن هذا كله راجع إلى تغير حالها في آخر أمرها ; لأن الله تعالى جعل لها أجلا مسمى ، ومعنى ذلك أنها تنتهي إليه على الوجه الذي يعلمه - سبحانه وتعالى - كما في قوله تعالى : وسخر الشمس والقمر كل يجري إلى أجل مسمى [ 31 \ 29 ] .
فمفهومه : أنه إذا جاء هذا الأجل توقفت عن جريانها .
وهو ما يشير إليها قوله تعالى : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 7 - 9 ] ، أي : بعد أن لم يجتمعا قط ، وما كان لهما أن يجتمعا قبل ذلك الوقت ، كما في قوله تعالى : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 40 ] [ ص: 438 ]
ولعل أقرب الأقوال المنقولة في ذلك هو القول بأنه بمعنى : نكست . أي : ردت إلى حيث أتت ، كما في الحديث ، فتطلع من مغربها ، وعليه فتجتمع مع القمر .
قوله تعالى : وإذا النجوم انكدرت
قيل : " انكدرت " انصبت ، وقيل : تغيرت من الكدرة ، وكلها متلازمة ولا تعارض .
ويشهد للأول قوله تعالى : وإذا الكواكب انتثرت [ 82 \ 2 ] .
ويشهد للثاني : فإذا النجوم طمست [ 77 \ 8 ] ; لأنها إذا تناثرت وذهبت من أماكنها وتغير نظامها ، فقد ذهب نورها وطمست .
قوله تعالى : وإذا الجبال سيرت
أي : ذهب بها من مكانها .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان حالة الجبال في نهاية الدنيا في عدة مواطن . من أهمها عند قوله تعالى في سورة " طه " : ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا [ 20 \ 105 ] ، وعند قوله تعالى من سورة " الكهف " : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:33 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (584)
سُورَةُ التَّكْوِيرِ .
صـ 439 إلى صـ 448
قوله تعالى : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت الوأد : الثقل ، كما في قوله تعالى : ولا يئوده حفظهما [ 2 \ 255 ] .
والموءودة : المثقلة بالتراب حتى الموت ، وهي الجارية كانت تدفن حية ، فكانوا يحفرون لها الحفرة ويلقونها فيها ، ثم يهيلون عليها التراب .
وقوله تعالى : بأي ذنب قتلت إشعار بأنه لا ذنب لها فتقتل بسببه ، بل الجرم على قاتلها .
ولكن لعظم الجرم يتوجه السؤال إليها تبكيتا لوائدها .
[ ص: 439 ] وقد جاء عن عمر - رضي الله عنه - قوله : أمران في الجاهلية . أحدهما يبكيني والآخر يضحكني .
أما الذي يبكيني : فقد ذهبت بابنة لي لوأدها ، فكنت أحفر لها الحفرة وتنفض التراب عن لحيتي ، وهي لا تدري ماذا أريد لها ، فإذا تذكرت ذلك بكيت .
والأخرى : كنت أصنع إلها من التمر أضعه عند رأسي يحرسني ليلا ، فإذا أصبحت معافى أكلته ، فإذا تذكرت ذلك ضحكت من نفسي .
أما سبب إقدامهم على هذه الجريمة الشنيعة وما دفعهم على ارتكابها ، فقد ناقشه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بتوسع عند قوله تعالى من سورة " النحل " : ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون الآية [ 57 \ 59 ] .
وبهذه المناسبة ، فإن هنا تنبيهين لا بد من إيرادهما .
التنبيه الأول : ما يشبه الوأد في هذه الآونة الحديثة ، وهو التعرض لمنع الحمل بأي وسيلة كانت .
وقد بحثت هذه المسألة قديما وحديثا . أما قديما ففي عملية العزل ، وجاء فيه حديث جابر : " كنا نعزل والقرآن ينزل " رواه مسلم .
زاد إسحاق قال سفيان : لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن . وجاء فيه : فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا .
كما جاء التحذير الشديد في حديث جدامة بنت وهب أخت عكاشة ، قالت : حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس ، قال : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة ، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئا " فسألوه عن العزل ، فقال : " ذلك الوأد الخفي " .
زاد عبد الله في حديثه عن المقرئ زيادة وهي : " وإذا الموءودة سئلت " .
[ ص: 440 ] ففي الحديث الأول : ما يفيد التقرير . وفي الثاني : ما يفيد شدة النكير .
وجاء في صحيح مسلم أيضا عن أبي سعيد : " غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة بني المصطلق ، فسبينا كرائم العرب ، فطالت علينا الغربة ، ورغبنا في الفداء ، فأردنا أن نستمتع ونعزل ، فقلنا : نفعل ذلك ؟ ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا لا نسأله ، فسألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " لا عليكم ألا تفعلوا ، ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون " .
وفي رواية : " إن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة " .
وفي رواية : " فقال لنا : وإنكم لتفعلون ، وإنكم لتفعلون ، وإنكم لتفعلون . ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا هي كائنة " .
وفي رواية : " لا عليكم ألا تفعلوا ; فإنما هو القدر " .
قال أبو محمد : وقوله : " لا عليكم " أقرب إلى النهي .
وقال الحسن : والله لكأن هذا زجر . فأنت ترى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإنكم لتفعلون " مشعر بعدم علمه سابقا ، مما يتعارض مع الزيادة في حديث جابر ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينهنا ، نبقي قول جابر ، مما يستدل به المجوزون ، ويعارضه : وهي الموءودة ، أو الوأد الخفي .
وكان للوأد عند العرب في الجاهلية سببان :
الأول : اقتصادي ، خشية إملاق ، ومن إملاق حاضر .
والثاني : حمية وغيرة .
وقد رد القرآن عليهم في السبب الأول ، في قوله تعالى : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا [ 17 \ 31 ] .
وقوله : ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم [ 6 \ 151 ] .
وأخيرا كان هذا التساؤل شديد التوبيخ لهم : وإذا الموءودة سئلت [ ص: 441 ]
وفي هذه الآية أثيرت مرة أخرى ، وبشكل آخر أثارها أعداء المسلمين مكيدة للسذج ، فأثيرت من الناحية الاقتصادية .
وكان مبدؤها المعروف عند كتاب هذا العصر بنظرية : " مالتس " والآن لغرض عسكري لتقليل عدد جنود المسلمين ، حينما علم العدو أن الإسلام يبيح تعدد الزوجات مثنى وثلاث ورباع ، فأرادوا أن يوقفوا هذا النمو .
ويكفي أن نورد هنا قوله - صلى الله عليه وسلم - : " تناكحوا تناسلوا ; فإني مباه بكم الأمم " .
وفي رواية : " مكاثر بكم الأمم " .
وفيه : " تزوجوا الولود الودود " ونحو ذلك .
وقد كنت جمعت في ذلك بحثا في محاضرة وافية في هذا الغرض ، من حيث السياسة والاقتصاد ، والدفاع مع عمل إحصائيات للدول التي تطالب بهذا العمل ، مما يدفع رأي كل قائل به .
والذي يهمنا في هذا المقام تنبيه المسلمين ، إلى أن هذه الدعوة إلى تحديد أو تنظيم النسل منشؤها من اليهود ، وتشجيعها في الشرق من دول الغرب ، وكثير من الدول الغربية تبذل المال الطائل لتفشي هذا الأمر في دول الشرق الأوسط ، وخاصة الإسلامية والعربية .
التنبيه الثاني : وهو حول ما يصرح به دعاة تحرير المرأة في صورة مناصرة لها ، والواقع أنهم دعاة شقائها ومعاداة لها ، وهدم لما مكنها الله منه في ظل الإسلام .
وذلك أن المرأة في الجاهلية كانت هذه حالة من حالاتها توءد حية ، وتورث كالمتاع ، ومهملة الشخصية إلى غير ذلك . فحباها الإسلام ما يثبت شخصيتها ابتداء من إيفائها حقها في الحياة كالرجل ، ثم اختيارها في الزواج ، وحقها في الميراث إلى غير ذلك .
وقد تقدم الحديث عن ذلك في عدة محلات ، منها للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند قوله تعالى : الرجال قوامون على النساء [ 4 \ 34 ] .
[ ص: 442 ] قوله تعالى : وإذا الجحيم سعرت
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذا المعنى عند الكلام على قوله تعالى من سورة " الحج " : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ 22 \ 3 ] .
قوله تعالى : وإذا الجنة أزلفت
الزلفى : القربى ، " وأزلفت " : قربت ، وتقدم بيان ذلك للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " ق " عند قوله تعالى : وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد [ 50 \ 31 ] .
قوله تعالى : علمت نفس ما أحضرت
المراد بالنفس هنا : العموم ، أي كل نفس ، كما في قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا [ 3 \ 30 ] .
قوله تعالى : فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم
ظاهر قوله تعالى : فلا أقسم نفي القسم ، ولكنه قسم قطعا ، بدليل التصريح بجواب القسم في قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم [ 81 \ 19 ] .
وبهذا يترجح ما تقدم في أول سورة " القيامة " : لا أقسم بيوم القيامة [ 75 \ 1 ] .
ومثل الآتي لا أقسم بهذا البلد [ 90 \ 1 ] .
تنبيه .
يجمع المفسرون أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته ; لأنها دالة على قدرته ، وليس للمخلوق أن يحلف إلا بالله تعالى .
ولكن ; هل في المغايرة بما يقسم الله تعالى به معنى مقصود ، أم لمجرد الذكر ، وتعدد المقسم به ؟
[ ص: 443 ] وبعد التأمل ، ظهر - والله تعالى أعلم - أنه سبحانه لا يقسم بشيء في موضع دون غيره ، إلا لغرض يتعلق بهذا الموضع ، يكون بين المقسم به والمقسم عليه مناسبة وارتباط ، وقد يظهر ذلك جليا ، وقد يكون خفيا .
وهذا فعلا ما تقتضيه الحكمة والإعجاز في القرآن ، وإن كنت لم أقف على بحث فيه .
ولكن مما يشير إلى هذا الموضوع ، ما جاء بالإقسام بمكة مرتين ، وفي حالتين متغايرتين .
الأولى : قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد [ 90 \ 1 - 4 ] .
والموضع الثاني : قوله تعالى : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 1 - 4 ] .
فالمقسم به في الموضعين : مكة المكرمة ، والمقسم عليه في الموضعين خلق الإنسان ، ولكن في الموضع الأول كان المقسم عليه مكابدة الإنسان من أول ولادته إلى نشأته ، إلى كده في حياته ، إلى نهايته ومماته .
من ذلك مكابدته - صلى الله عليه وسلم - منذ ولادته إلى حيث مات أبوه قبله ، ولحقت به أمه ، وهو في طفولته ، وبعد الوحي كابد مع قومه ولقي منهم عنتا شديدا ، حتى تآمروا على قتله ، فلكأنه يقول له : اصبر على ذلك ، فإن المكابدة لا بد منها ، وهي ملازمة للإنسان كملازمتك لهذا البلد منذ ولادتك .
وفي ذكر ووالد وما ولد إشعار ببدء المكابدة ، وبأشدها من حالة الولادة وطبيعة الطفولة ، ولذا ذكر هنا هذا البلد بدون أي وصف .
أما في الموضع الثاني : فالمقسم عليه ، وإن كان هو خلق الإنسان ، إلا أنه في أحسن تقويم ، وهي أعظم نعمة عليه جاء بالمقسم به عرضا للنعم ، وتعددها من التين والزيتون ، سواء كان المراد بهما الفاكهة المذكورة أو أماكنها ، وهو بيت المقدس مع طور سينين .
[ ص: 444 ] فجاء بمكة أيضا ولكن بوصف مناسب ، فقال : وهذا البلد الأمين ، فكأنه يقول : إن من أنعم على تلك البقاع بالخير والبركة والقداسة ، أنعم على الإنسان بنعمة حسن خلقته وحسن تقويمه وفضله على سائر مخلوقاته . والله تعالى أعلم .
وهنا يقسم بحالات الكواكب على أصح الأقوال ، في ظهورها واختفائها وجريانها ، وبـ " والليل إذا عسعس " : أقبل وأدبر ، أو أضاء وأظلم ، " والصبح إذا تنفس " : أي أظهر وأشرق ، وهما أثران من آثار الشمس في غروبها وشروقها .
والمقسم عليه : هو أن القرآن قول رسول كريم ، كأنه يقول : إن القرآن المقسم عليه حاله في الثبوت والظهور ، وحال الناس معه كحال هذه الكواكب الثوابت لديكم في ظهورها تارة ، واختفائها أخرى .
وكحال الليل والصبح ، فهو عند أناس موضع ثقة وهداية كالصبح في إسفاره ، قلوبهم متفتحة إليه وعقولهم مهتدية به ، فهو لهم روح ونور ، وعند أناس مظلمة أمامه قلوبهم ، عمى عنه بصائرهم ، وفي آذانهم وقر ، وهو عليهم عمى ، وأناس تارة وتارة كالنجوم أحيانا ، وأحيانا ، تارة ينقدح نوره في قلوبهم ، فتظهر معالمه فيسيرون معه ، وتارة يغيب عنهم نوره فتخنس عنه عقولهم وتكنس دونه قلوبهم ، كما قال تعالى عنهم : كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا [ 2 \ 20 ] .
وليس بعيدا أن يقال : إنه من وجه آخر ، تعتبر النجوم كالكتب السابقة ، مضى عليها الظهور في حينها والخفاء بعدها .
" والليل إذا عسعس " : هو ظلام الجاهلية .
" والصبح إذا تنفس " : يقابله ظهور الإسلام ، وأنه سينتشر انتشار ضوء النهار ، ولا تقوى قوة قط على حجبه ، وسيعم الآفاق كلها ، مهما وقفوا دونه : يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون [ 61 \ 8 ] .
وقد يكون في هذا الإيراد غرابة على بعض الناس ، ولا سيما وأني لم أقف على بحث مستقل فيه ، ولا توجيه يشير إليه ، ولكن مع التتبع وجدت اطراده في مواضع متعددة ، وجدير بأن يفرد برسالة .
[ ص: 445 ] ومما اطرد فيه هذا التوجيه سورة " الضحى " ، يقول الله تعالى : والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى [ 93 \ 1 - 3 ] ، فإن المقسم عليه عدم تركه - صلى الله عليه وسلم - ولا التخلي عنه ، فجاء بالمقسم به قسمي الزمن ليلا ونهارا ، كأنه يقول له : ما قلاك ربك ولا تخلى عنك ، لا في ضحى النهار حيث تنطلق لسعيك ، ولا في ظلمة الليل حين تأوي إلى بيتك .
ومعلوم ما كان من عمه أبي طالب حينما كان يجعله ينام مع أولاده ليلا ، حتى إذا أخذ الجميع مضاجعهم يأتي خفية فيقيمه من مكانه . ويضع أحد أولاده محله ، حتى لو كان أحد نواه بسوء ، وقد رآه في مكانه الأول يصادف ولده ، ويسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وقوله : وللآخرة خير لك من الأولى [ 93 \ 4 ] ، أي : من كل ما طلعت عليه الشمس وسجاه الليل .
ومنه أيضا : وهو أشد ظهورا في سورة " العصر " قال تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا [ 103 \ 1 - 3 ] ، إلى آخر السورة . فإن المقسم عليه هو حالة الإنسان ، الغالية عليه من خسر ، إلا من استثنى الله تعالى ، فكان المقسم به ، والعصر المعاصر للإنسان طيلة حياته وهو محل عمله ، الذي به يخسر ويربح . وهو معاصر له وأصدق شاهد عليه .
وكنت قد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - يقول : إن العمر وزمن الحياة حجة على الإنسان كالرسالة والنذارة سواء ، وذكر قوله تعالى : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] ، فجعل في الآية التعمير ، وهو إشغال العمر موجبا للتذكر والتأمل ، ومهلة للعمل ، كما تخبر إنسانا بأمر ثم تمهله إلى أن يفعل ما مر به ، فهو أمكن في الحجة عليه .
فكان القسم في العصر على الربح والخسران ، أنسب ما يكون بينهما ، إذ جعلت حياة الإنسان كسوق قائمة والسلعة فيه العمل والعامل هو الإنسان ، كما قال تعالى : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله [ 61 \ 10 - 11 ] .
وفي الحديث الصحيح عند مسلم : " سبحان الله تملأ الميزان " ، وفيه " كل الناس [ ص: 446 ] يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " ، فإن كان يشغل عمره في الخير فقد ربح ، وأعتق نفسه وإلا فقد خسر وأهلكها " .
ويشير لذلك أيضا قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ 9 \ 111 ] .
فصح أن الدنيا سوق ، والسلعة فيها عمل الإنسان ، والمعاملة فيه مع الله تعالى ، فظهر الربط والمناسبة مع المقسم به ، والمقسم عليه .
قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم
أجمعوا على أن المراد بالقول هو القرآن ، وأما المراد بالرسول الكريم جبريل - عليه السلام - بدليل قوله تعالى : ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون [ 81 \ 22 ] .
فصاحبكم هنا : هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي صحبهم منذ ولادته وذو القوة عند ذي العرش : هو جبريل - عليه السلام - وفي إسناد القول إليه ما قد يثير شبهة أن القول منه ، مع أنه كلام الله تعالى .
وقد أجاب الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب ، بإيراد النصوص الصريحة في أن القرآن كلام الله تعالى ، وقال : وإن في نفس هذه الآية ما يرد هذه الشبهة ، ويثبت تلك الحقيقة ، وهي قوله تعالى : لقول رسول ; لأن الرسول لا يأتي بقول من عنده ، وإنما القول الذي جاء به هو ما أرسل به من غيره ، إلى ما أرسل إليه به .
تنبيه في وصف جبريل - عليه السلام - بتلك الأوصاف .
نص في تمكينه من حفظ ما أرسل به ، وصيانته عن التغيير والتبديل ، لأنه " مكين " ، فلا يصل إليه ما يخل برسالته ، ولأنه " مطاع ثم " . والمطاع لا يؤثر عليه غيره ، والأمين لا يخون ولا يبدل ، فكان القرآن الذي جاء به مصونا من أن يتسلط أحد [ ص: 447 ] عليه فيغيره ، ومن أن يغيره الذي جاء به ، وهذا كله بمثابة الترجمة لسند تلقي القرآن الكريم .
وقوله : وما صاحبكم بمجنون بيان لتتمة السند ، حيث قال : ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين [ 81 \ 23 - 24 ] ، فنفى عنه - صلى الله عليه وسلم - نقص التلقي بنفي آفة الجنون ، فهو في كمال العقل وقوة الإدراك ، ومن قبل أثبت له كمال الخلق : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] .
وأثبت له اللقيا ، فلم يلتبس عليه جبريل بغيره ، وهي أعلى درجات السند ، فاجتمع له - صلى الله عليه وسلم - الكمال الخلقي والكمال الخلقي - بضم الخاء وكسرها - أي : الكمال حسا ومعنى ، ثم نفى عنه التهمة بأن يضن بشيء مما أرسل به مع نفاسته وعلو منزلته وجليل علومه ، وأنه كلام رب العالمين .
وفي الختام إفهامهم بأنه ليس : " بقول شيطان رجيم " [ 81 \ 25 ] ، حيث تقدم إنهم عن السمع لمعزولون [ 26 \ 212 ] .
وأن : " فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا " [ 72 \ 9 ] ، فلم يبق لهم موجب للانصراف عنه ، وألزموا بالأخذ به حيث أصبح من الثابت أنه كلام الله ، جاء به رسول كريم ، وبلغه لصاحبكم صاحب الخلق العظيم ، وليس بقول شيطان رجيم .
فلزمهم الأخذ به ، وإلا فأين تذهبون . أين تسيرون عنه ، بعد أن ثبت لكم سنده ومصدره ؟
ونظير هذا السند في تمجيد القرآن وإثبات إتيانه من الله ، قوله تعالى في أول سورة " النجم " : ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى [ 53 \ 2 ، 3 - 7 ] .
قوله تعالى : فأين تذهبون ، بمثابة من يسد عليهم الطريق إلا له ; لأنه - أي القرآن - ليس في نزوله من الله [ ص: 448 ] على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي شبهة ولا تهمة ، فليس للعاقل أن يحيد عنه ، وكل ذهاب إلى غيره فطريق مسدود ، وضلال وهلاك .
قوله تعالى : لمن شاء منكم أن يستقيم أي : بعد هذا البيان وقوة هذا السند ، وإظهار ثبوت الرسالة ، فقد أعذر من أنذر : " لمن شاء منكم أن يستقيم " .
قوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين
فيه قضية القدر والإرادة الكونية والقدرية . وقد بحثها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في عدة مواطن . منها في سورة " الزخرف " عند قوله تعالى : لو شاء الرحمن ما عبدناهم [ 43 \ 20 ] ، وفيها مناظرة المعتزلي مع السني .
ومنها في سورة " الذاريات " : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق [ 51 \ 56 - 57 ] ، والفرق بين الإرادة الكونية والقدرية .
تنبيه .
إذا كان الكثيرون يستدلون في قضية القضاء والقدر بهذه الآية ، فإنه ينبغي ألا تغفل أهميتها في جانب الضراعة إلى الله دائما ، بطلب التفضل من الله تعالى علينا بالمشيئة بالاستقامة فضلا من عنده ، كما أمرنا في الصلاة في كل ركعة منها أن نطلبه هذا الطلب : اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] .
تنبيه آخر .
لقد أجملت الاستقامة هنا ، وهي منبه عليها في سورة " الفاتحة " : إلى صراط الذين أنعم الله عليهم ، كما هو معلوم . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:34 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (585)
سُورَةُ الِانْفِطَارِ .
صـ 449 إلى صـ 458
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الِانْفِطَارِ .
قوله تعالى : إذا السماء انفطرت
أي : انشقت ، كما في سورة " الانشقاق " : إذا السماء انشقت [ 84 \ 1 ] ، قيل : هيبة لله .
وقيل : لنزول الملائكة ، كقوله تعالى : ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا [ 25 \ 25 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الشورى " عند الكلام على قوله تعالى في وصف أهوال القيامة : يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به [ 73 \ 17 - 18 ] .
ومثل الانفطار والتشقق : الانفراج ، كقوله : فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت [ 77 \ 8 - 9 ] .
قوله تعالى : وإذا القبور بعثرت
أي : بعثر من فيها . كما في قوله تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 - 10 ] .
وقد دل هذا اللفظ على سرعة الانتشار ، كبعثرة الحب من الكف كما في قوله تعالى : يوم يخرجون من الأجداث سراعا [ 70 \ 43 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " ق " عند قوله تعالى : يوم تشقق الأرض عنهم سراعا [ 50 \ 44 ] .
قوله تعالى : علمت نفس ما قدمت وأخرت
[ ص: 450 ] أي كل نفس ، كما تقدم في سورة " التكوير " .
وقد تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - على ذلك في دفع إيهام الاضطراب في سورة " الانفطار " هذه ، عند نفس الآية .
قوله تعالى : الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الكهف " عند قوله تعالى : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا [ 18 \ 37 ] ، أي : هذه أطوار الإنسان في خلقته .
ومما يشهد لحسن الخلقة وكمال الصورة قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] .
واختلاف الصور إنما هو من آيات الله وابتداء من الرحم ، كما قال : هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء [ 3 \ 6 ] .
وتقدم في صورة " الحشر " : هو الله الخالق البارئ المصور [ 59 \ 24 ] .
وفي اختلاف الصور على تشابهها من أعظم آيات الله تعالى .
قوله تعالى : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " ق " عند الكلام على قوله تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 17 - 18 ] .
وأحال عندها على بعض ما جاء في سورة " مريم " عند قوله تعالى : كلا سنكتب ما يقول [ 19 \ 79 ] .
وبين - رحمة الله تعالى علينا وعليه - أن هذه الكتابة لإقامة الحجة على الإنسان ، كما في قوله : ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] .
وقيل في " حافظين " : يحفظون بدن الإنسان .
[ ص: 451 ] وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الأنعام " عند الكلام على قوله تعالى : ويرسل عليكم حفظة [ 6 \ 61 ] مستدلا بقوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] .
ومما تجدر الإشارة إليه ، أن في وصف الحفظة هنا بهذه الصفات ، من كونهم حافظين كراما يعلمون ، فاجتمعت لهم كل صفات التأهيل ، لا على درجات الكناية من حفظ وعلو منزلة ، وعلم بما يكتبون .
وكأنه توجيه لما ينبغي لولاة الأمور مراعاته في استكتاب الكتاب والأمناء .
ولذا قالوا : على القاضي أن يتخير كاتبا أمينا حسن الخط فاهما .
ومن هذا الوصف يعلم أنه لا يختلط عليهم عمل يعمل ، وكونهم حفظة لا يضيعون شيئا ، ولو كان مثقال الذرة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآية [ 99 \ 7 ] .
قوله تعالى : إن الأبرار لفي نعيم
أي : دائم ، كما في قوله تعالى : يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا [ 9 \ 21 - 22 ] .
قوله تعالى : وما هم عنها بغائبين
دليل من أدلة خلود الكفار في النار ; لقوله : وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين [ 82 \ 14 - 16 ] .
كقوله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] .
وهكذا غالبا أسلوب المقابلة بين الفريقين ومهلهما .
ثم بين أن ذلك يوم الدين وهو يوم الجزاء ، كما تقدم في سورة " الفاتحة " : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] .
ثم بين تعالى شدة الهول في ذلك اليوم : وما أدراك ما يوم الدين [ 82 \ 17 ] .
[ ص: 452 ] وتقدم في : الحاقة ما الحاقة [ 101 \ 1 - 2 ] .
ومثله قوله تعالى : القارعة ما القارعة [ 101 \ 1 - 2 ] .
قوله تعالى : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله
أي : لشدة هوله وضعف الخلائق ، كما تقدم في قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه [ 80 \ 34 - 35 ] ، وقوله : لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 37 ] .
ولحديث الشفاعة : " كل نبي يقول : نفسي نفسي ، إلى أن تنتهي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : " أنا لها " .
وحديث فاطمة : " اعملي . . . . " .
وقوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه [ 2 \ 255 ] ، ونحو ذلك .
وقوله : والأمر يومئذ لله ، ظاهر هذه الآية تقييد الأمر بالظرف المذكور ، ولكن الأمر لله في ذلك اليوم ، وقيل ذلك اليوم ، كما في قوله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد [ 30 \ 4 ] .
وقوله : ألا له الخلق والأمر [ 7 \ 54 ] ، أي : يتصرف في خلقه بما يشاء من أمره لا يشركه أحد ، كما لا يشركه أحد في خلقه .
ولذا قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : قل إن الأمر كله لله [ 3 \ 154 ] .
وقال : ليس لك من الأمر شيء [ 3 \ 128 ] ونحو ذلك .
ولكن جاء الظرف هنا لزيادة تأكيد ، لأنه قد يكون في الدنيا لبعض الناس بعض الأوامر ، كما في مثل قوله تعالى : وأمر أهلك بالصلاة [ 20 \ 132 ] .
وقوله : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم [ 4 \ 59 ] .
وقوله : فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد [ 11 \ 97 ] ، وهي كلها في الواقع أوامر نسبية : " وما تشاءون إلا أن يشاء الله " [ 76 \ 30 ] .
[ ص: 453 ] ولكن يوم القيامة حقيقة الأمر كله ، والملك كله لله تعالى وحده ; لقوله تعالى : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .
فلا أمر مع أمره ، ولا متقدم عليه حتى ولا بكلمة ، إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا ، وهو كقوله : الملك يومئذ الحق للرحمن [ 25 \ 26 ] ، مع أن هنا في الدنيا ملوكا ، كما في قصة يوسف : وقال الملك ائتوني به [ 12 \ 50 ] .
وفي قصة الخضر وموسى : وكان وراءهم ملك [ 18 \ 79 ] .
أما يوم القيامة فيكونون كما قال تعالى : ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [ 6 \ 94 ] .
وكقوله : هلك عني سلطانيه [ 69 \ 29 ] ، فقد ذهب كل سلطان وكل ملك ، والملك يومئذ لله الواحد القهار .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ .
قوله تعالى : ويل للمطففين .
التطفيف : التنقيص من الطفيف ، وهو الشيء القليل .
وقد فسره ما بعده في قوله تعالى : الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون [ 83 \ 2 - 3 ] .
قالوا : نزلت في رجل كان له مكيالان : كبير وصغير ، إذا اكتال لنفسه على غيره ، اكتال بالمكيل الكبير ، وإذا كال من عنده لغيره ، اكتال بالمكيل الصغير ، ففي كلتا الحالتين تطفيف ، أي : تنقيص على الناس من حقوقهم .
والتقديم في افتتاحية هذه السورة بالويل للمطففين ، يشعر بشدة خطر هذا العمل ، وهو فعلا خطير ; لأنه مقياس اقتصاد العالم وميزان التعامل ، فإذا اختل أحدث خللا في اقتصاده ، وبالتالي اختلال في التعامل ، وهو فساد كبير .
وأكبر من هذا كله ، وجود الربا إذا بيع جنس بجنسه ، وحصل تفاوت في الكيل أو الوزن .
وفيه كما قال تعالى : فأذنوا بحرب من الله ورسوله [ 2 \ 279 ] .
ولذا فقد ورد ذكر الكيل والوزن ، والحث على العناية بهما في عدة مواطن ، بعدة أساليب منها الخاص ومنها العام .
فقد ورد في " الأنعام " و " الأعراف " و " هود " و " بني إسرائيل " و " الرحمن " و " الحديد " ، أي : في ست سور من القرآن الكريم .
أولا في سورة " الأنعام " في سياق ما يعرف بالوصايا العشر : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا [ ص: 455 ] [ 6 \ 151 ] .
وذكر بر الوالدين والنهي عن قتل الأولاد والقرب من الفواحش ، وقتل النفس التي حرم الله ، والنهي عن مال اليتيم .
ثم قال : وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا [ 6 \ 152 ] .
وتكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عندها كلاما موجزا مفيدا ، بأن الأمر هنا بقدر الوسع ، ومن أخل من غير قصد التعدي لا حرج عليه .
وقال : ولم يذكر هنا عقوبة لمن تعمد ذلك ، ولكنه توعده بالويل في موضع آخر ، وساق أول هذه السورة : ويل للمطففين .
كما بين عاقبة الوفاء بالكيل بقوله : ذلك خير وأحسن تأويلا [ 4 \ 59 ] ، أي : مآلا .
وهنا يلفت كلامه - رحمه الله - النظر إلى نقطة هامة ، وهي في قوله تعالى : لا نكلف نفسا إلا وسعها [ 6 \ 152 ] ، حيث إن التطفيف : الزيادة الطفيفة ، والشيء الطفيف : القليل .
فكأن الآية هنا تقول : تحروا بقدر المستطاع من التطفيف ولو يسيرا .
وبعد بذل الجهد " لا نكلف نفسا إلا وسعها " ، وهذا غاية في التحري مع شدة التحذير والتوعد بالويل ، وإذا كان الوعيد بالويل على الشيء الطفيف ، فما فوقه من باب أولى .
الموضع الثاني في سورة " الأعراف " من قوله تعالى : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين [ 7 \ 85 ] .
فاقترن الأمر بالوفاء بالكيل بالأمر بعبادة الله وحده ; لأن في الأمرين إعطاء كل ذي حق حقه من غير ما نقص .
[ ص: 456 ] وبين أن في عدم الإيفاء المطلوب بخس الناس أشياءهم ، وفسادا في الأرض بعد إصلاحها .
الموضع الثالث في سورة " هود " ، ومع شعيب أيضا : وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ [ الآية \ 84 - 86 ] .
وبنفس الأسلوب أيضا كما تقدم ، ربطه بعبادة الله تعالى وحده ، وتكرار الأمر بعد النهي : " ولا تنقصوا المكيال والميزان " ، ثم : " أوفوا المكيال والميزان بالقسط " نهي عن نقصه ، وأمر بإيفائه ، نص على المفهوم بالتأكيد : " ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " مع التوجيه بأن ما عند الله خير لهم .
الموضع الرابع في سورة " بني إسرائيل " : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط [ 17 \ 29 ] ، أي : اعتدال في الإنفاق مع نفسه ، فضلا عن غيره ، ثم إن الله يبسط الرزق لمن يشاء ، ثم : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق [ 17 \ 32 ] ، وكلها في مجال الاقتصاد وبعدها : ولا تقربوا الزنا [ 17 \ 32 ] ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق [ 17 \ 33 ] .
وقد يكون الباعث عليهما أيضا غرض مالي : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ 17 \ 34 ] ، وهو من أخص أبواب المال .
ثم الوفاء بالعهد ، ثم : وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا [ 17 \ 35 ] ، فمع ضروريات الحياة حفظ النفس والعرض والمال يأتي الحفاظ على الكيل والوزن .
الموضع الخامس في سورة " الشورى " وهو أعم مما تقدم ، وجعله مقرونا بإنزال الكتاب في قوله تعالى : الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] .
[ ص: 457 ] وتكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند هذه الآية بما أشرنا إلى أنه عام ، فقال : الميزان هنا مراد به العدل والإنصاف ، وأن هذا المعنى متضمن آلة الوزن وزيادة .
وأورد بقية الآيات هنا في مبحث مفصل ، فذكر آية " الرحمن " ، وآية " الحديد " ، وتكلم على الجميع بالتفصيل .
وفي قوله تعالى في سورة " الرحمن " : والسماء رفعها ووضع الميزان [ 55 \ 7 ] ، مقابلة عظيمة بين رفع السماء الذي هو حق وعدل وقدرة ، والميزان وضعه في الأرض ، لتقوموا بالعدل والإنصاف ، وبهذا العدل قامت السماوات والأرض .
وفي سورة " الحديد " اقتران الميزان بإرسال الرسل وإنزال الكتب : لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [ 57 \ 25 ] .
ومعلوم أن الميزان الذي أنزل مع الكتاب هو ميزان الحق والعدل ، والنهي عن أكل أموال الناس بغير حق ، وعدم بخس الناس أشياءهم .
فكانت هذه الآية أعم وأشمل آيات الوفاء في الكيل والوزن ، بمثابة قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل [ 4 \ 58 ] .
وقد جمع لفظ الأمانة ; ليعم به كل ما يمكن أن يؤتمن الإنسان عليه .
وكذلك هنا الميزان مع الكتاب المنزل ، وبه يستوفي كل إنسان حقه في أي نوع من أنواع التعامل ، فكل من غش في سلعة أو دلس أو زاد في عدد ، أو نقص أو زاد في ذرع ، أو نقص فهو مطفف للكيل ، داخل تحت الوعيد بالويل .
فمن باع ذهبا مثلا على أنه صاف من الغش وزن درهم ، وفيه من النحاس عشر الدرهم ، فقد نقص وطفف لنفسه ، فأخذ حق درهم كامل ذهبا ، ونقص حيث أعطى درهما إلا عشرا .
ومن باع رطلا سمنا وفيه عشر الرطل شحما ، فقد طفف بمقدار هذا العشر لنفسه ، ونقص وبخس المشتري بمقدار ذلك .
[ ص: 458 ] وهكذا من باع ثوبا عشر أمتار وهو ينقص ربع المتر ، فقد طفف وبخس بمقدار هذا الربع .
وهكذا في القسمة بين الناس وبين الأولاد ، وبين الأهل ، وكل ما فيه عطاء وأخذ بين اثنين ، والله تعالى أعلم .
ومن باب ما يذكره العلماء في مناسبات السور بعضها من بعض .
فقد قال أبو حيان لما ذكر السورة التي قبلها مصير الأبرار والفجار يوم القيامة ذكر هنا من موجبات ذلك وأهمها : تطفيف الكيل ، وبخس الوزن ، وهذا في الجملة متوجه ، ولكن صريح قوله تعالى في السورة السابقة : وإذا القبور بعثرت علمت نفس ما قدمت وأخرت [ 82 \ 4 - 5 ] ، فهو وإن كان عاما في كل ما قدمه لنفسه من عمل الخير ، وما أخر من أداء الواجبات عليه ، فإنه يتضمن أيضا خصوص ما قدم من وفاء في الكيل ورجحان في الوزن ، وما أخر في تطفيف في الكيل وبخس طمعا في المال وجمعا للتراث ، كما قال تعالى : وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 19 - 24 ] .
ومن هنا يعلم للعاقل أن ما طفف من كيل أو بخس من وزن مهما جمع منه ، فإنه يؤخره وراءه ومسئول عنه ، ونادم عليه ، وقائل : " ياليتني قدمت لحياتي " ، ولات ساعة مندم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:35 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (586)
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ .
صـ 459 إلى صـ 468
قوله تعالى : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم
تقريع وتوبيخ لهؤلاء الناس ، وفيه مسألتان :
الأولى : أن الباعث على هذا العمل هو عدم اليقين بالبعث ، أو اليقين موجود لكنهم يعلمون على غير الموقنين - أي غير مبالين - كما قال الشاعر في مثل ذلك ، وهو ما يسمى في البلاغة بلازم الفائدة :
جاء شقيق عارضا رمحه إن بني عمك فيهم رماح
فالمتكلم يعلم أن شقيقا عالم بوجود الرماح في بني عمه ، وأنهم مستعدون للحرب [ ص: 459 ] معه ، ولكنه رأى منه عدم المبالاة وعدم الاستعداد ، بأن وضع رمحه أمامه معترضا ، فهو بمنزلة من لا يؤمن بوجود الرماح في بني عمه ، وهو لم يرد بكلامه معه أن يخبره بأمر يجهله ، ولكنه أراد أن ينبهه لما يجب عليه فعله من التأهب والاستعداد ، وهكذا هنا ، وهذا عام في كل مسوف ومتساهل كما جاء : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " إلخ .
أي : وهو مؤمن بالإيمان ولوازمه من الجزاء والحساب .
المسألة الثانية من قوله تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين [ 83 \ 6 ] يفهم أن مطفف الكيل والوزن وهم يعلمون هذا حقيقة غالبا ، ولا يطلع عليه الطرف الآخر ، فيكون الله تعالى هو المطلع على فعله ، فهو الذي سيحاسبه ويناقشه ، لأنه خان الله الذي لا تخفى عليه خافية سبحانه ، ولذا قال تعالى : يوم يقوم الناس لرب العالمين ، ولم يقل : يوم يقتص لكل إنسان من غريمه ، ويستوفي كل ذي حق حقه .
تحذير شديد .
قال القرطبي عند هذه الآية : وعن عبد الملك بن مروان : أن أعرابيا قال له : قد سمعت ما قال الله في المطففين ، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن ؟ ! . اهـ .
إنها مقالة ينبغي أن تقال لكل آكل أموال الناس بغير حق أيا كان هو ، وبأي وجه يكون ذلك .
تنبيه .
من المعلوم أن كل متبايعين يطلب كل منهما الأحظ لنفسه ، فالمطفف لا بد أن يخفي طريقه على غريمه .
وذكر علماء الحسبة طرقا عديدة مما ينبغي لولي الأمر خاصة ، وللمتعامل مع غيره عامة أن يتنبه لها .
من ذلك قالوا : أولا من ناحية المكيال قد يكون جرم المكيال لينا فيضغطه بين [ ص: 460 ] يديه ، فتتقارب جوانبه فينقص ما يحتوي عليه ، ولذا يجب أن يكون إناء الكيل صلبا ، والغالب جعله من الخشب أو ما يعادله .
ومنها : أنه قد يكون خشبا منقورا من جوفه ، ولكن لا يبلغ بالتجويف إلى نهاية المقدار المطلوب ، فيرى من خارجه كبيرا ، ولكنه من الداخل صغير لقرب قعره .
ومنها : قد يكون منقورا إلى نهاية الحد المطلوب ، ولكنه يدخل فيه شيئا يشغل فراغه من أسفله ، ويثبته في قعره . فينقص ما يكال بقدر ما يشغل الفراغ المذكور ، فقد يضع ورقا أو خرقا أو جبسا أو نحو ذلك .
ثانيا : من ناحية الميزان قد يبرد السنج ، أي معايير الوزن حتى ينقص وزنها ، وقد يجوف منها شيئا ويملأ التجويف بمادة أخف منها .
ولذا يجب أن يتفقد أجزاء المعايير ، وقد يتخذ معايرا من الحجر فتتناقص بكثرة الاستعمال بسبب ما يتحتت منها على طول الأيام .
ومنها : أن يضع تحت الكفة التي يزن فيها السلعة شيئا مثقلا لاصقا فيها ، لينتقص من الموزون بقدر هذا الشيء .
ولكيلا يظهر هذا ، فتراه دائما يضع المعيار في الكفة الثانية لتكون راجحة بها .
وهناك أنواع كثيرة ، كأن يطرح السلعة في الكفة بقوة ، فترجح بسبب قوة الدفع ، فيأخذ السلعة حالا قبل أن ترجع إلى أعلى ، موهما الناظر أنها راجحة بالميزان .
أما آلة الذرع ، فقد يكون المقياس كاملا وافيا ، ولكنه بعد أن يقيس المتر الأول يدفع بالآلة إلى الخلف ، ويسحب بالمذروع إلى الأمام بمقدار الكف مثلا ، فيكون النقص من المذروع بقدر ما سحب من القماش .
وكلها أمور قد تخفى على كثير من الناس ، وقد وقع لي مع بائع أن لاحظت عليه في ميزان مما يرفعه بيده حتى أعاد الوزن خمس مرات في كل مرة يأتي بطريقة تغاير الأخرى ، حتى قضى ما عنده ، فالتفت إلي وقال لي : لا أبيع بهذا السعر ، فقلت له : خذ ما تريد وزن كما أريد ، فطلب ضعف الثمن ، فأعطيته فأعطاني الميزان لأزن بنفسي .
وهنا ينبغي أن ننبه على حالات الباعة ، حينما يكون السعر مرتفعا وتجد بائعا يبيع [ ص: 461 ] برخص ، فقد يكون لعلة في الوزن أو في السلعة ، أو مضرة الآخر .
تنبيه آخر .
بهذه الأسباب وحقائقها وشدة خطرها كان عمر - رضي الله عنه - يتجول في السوق بنفسه ، ويتفقد المكيال والميزان . يخرج من السوق من يجد في مكياله أو ميزانه نقصانا ، ويقول : لا تمنع عنا المطر .
وهكذا يجب على ولاة الأمور تفقد ذلك باستمرار ، ولا سيما في البلاد التي يقل فيها الوازع الديني ، وتشتد فيها الأسعار ، بما يلجئ الباعة إلى التحايل أو العناد .
وقد منع عمر بائع زبيب أرخص السعر ، لعلمه أن تاجرا قدم ومعه زبيب بكثرة ، فقيل لعمر : لماذا منعت البيع برخص ؟ فقال : لأنه يفسد السوق ، فيخسر القادم فيمتنع من الجلب إلى المدينة ، وهذا قد ربح من قبل .
تنبيه آخر .
مما ينبغي أن يعلم أن نوع المكيال ومقداره ونوع الميزان ومقداره مرجعه إلى السلطان ، كما قال علماء الحسبة : إن على الأمة أن تطيع السلطان في أربع : في نوع المكيال والميزان ، ونوع العملة التي يطرحها للتعامل بها ، وإعلان الحرب أو قبول الصلح .
فإذا اتخذ الصاع أو المد أو الكيلة أو الويبة أو القدح ، أو أي نوع كبيرا كان أو صغيرا ، فيجب التقيد به في الأسواق .
وكذلك الوزن ؛ اتخذ الدرهم والأوقية والرطل أو الأقة ، أو اتخذ الجرام والكيلو ، فكل ذلك له .
أما إذا كان الأمر بين اثنين في قسمة مثلا : كقسمة صبرة من حب ، فتراضوا على أن يقتسموها بإناء كبير للسرعة وكان مضبوطا ، لا تختلف به المرات بأن يكون صلبا ويمكن الكيل به .
أو كذلك الوزن ، اتفقوا على قطعة حديد معينة ، لكل واحد وزنها عدة مرات فلا بأس بذلك ; لأن الغرض قسمة المجموع لا مثامنة على الأجزاء .
[ ص: 462 ] أما المكاييل الإسلامية الأساسية والموازين ، فقد تقدم بيانها من الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في زكاة ما يخرج من الأرض ، وزكاة النقدين ، وقدمنا بيان مقابلها بالوزن الحديث في زكاة الفطر ، عند قوله تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم [ 70 \ 24 - 25 ] . وبالله تعالى التوفيق .
غريبة .
في ليلة الفراغ من كتابة هذا المبحث رأيت الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - فيما يرى النائم ، وبعد أن ذهب عني ، رأيت من يقول لي : إن لتطفيف الكيل والوزن دخلا في الربا ، فألحقته في أول البحث ، بعد أن تأملته فوجدته صحيحا بسبب المفاضلة .
قوله تعالى : كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون
" ران " : بمعنى غطى كما في الحديث : " إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء ، وما يزال كذلك حتى يغطيه " الحديث .
وقال الشاعر :
وكم ران من ذنب على قلب فاجر فتاب من الذنب الذي ران فانجلى
وقال أبو حيان : وأصل الرين : الغلبة ، يقال : رانت الخمر على عقل شاربها واشتدت :
ثم لما رآه رانت به الخـ ـمر وألا يريه بانتفاء
بيان القراءات في هذه الآية :
قال أبو حيان : قرئ " بل ران " بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار وقف حفص على " بل " وقفا خفيفا يسيرا ليتبين الإظهار .
وقال أبو جعفر بن الباذش : وأجمعوا - يعني القراء - على إدغام اللام في الراء ، إلا ما كان من سكت حفص على " بل " ، ثم يقول : " ران " .
وهذا الذي ذكره كما ذكر من الإجماع .
ففي كتاب " اللوامع " عن قالون من جميع طرقه : إظهار اللام عند الراء نحو قوله : [ ص: 463 ] " بل رفعه الله إليه " [ 4 \ 158 ] " بل ربكم " [ 21 \ 56 ] .
وفي كتاب ابن عطية . وقرأ نافع : " بل ران " من غير مدغم .
وفيه أيضا : وقرأ نافع أيضا بالإدغام والإمالة .
وقال سيبويه : البيان والإدغام حسنان .
وقال الزمخشري : وقرئ بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار والإدغام أجود ، وأميلت الألف وفخمت . اهـ .
أما المعنى فقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك وافيا في سورة " الكهف " عند الكلام على قوله تعالى : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه الآية [ 18 \ 57 ] .
قوله تعالى : ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
توجيه إلى ما ينبغي أن تكون فيه المنافسة ، وهي بمعنى الرغبة في الشيء .
قال أبو حيان : نافس في الشيء : رغب فيه ، ونفست عليه بالشيء أنفس نفاسة ، إذا بخلت به عليه ولم تحب أن يصير إليه .
والذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن ذلك من المطالبة والمكاثرة بالشيء النفيس ، فكل يسابق إليه ليحوزه لنفسه .
وفي هذه الآية الكريمة لفت لأول السورة ، إذا كان أولئك يسعون لجمع المال بالتطفيف ، فلهم الويل يوم القيامة .
وإذا كان الأبرار لفي نعيم يوم القيامة ، وهذا شرابهم ، فهذا هو محل المنافسة ، لا في التطفيف من الحب أو أي مكيل أو موزون .
قوله تعالى : إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون
وصفهم بالإجرام هنا يشعر بأنه السبب في ضحكهم من المؤمنين وتغامزهم بهم ، [ ص: 464 ] وتقدم في سورة " البقرة " بيان موجب آخر في قوله تعالى : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا [ 2 \ 212 ] .
وقد بين تعالى في سورة " البقرة " أن الذين اتقوا فوق هؤلاء يوم القيامة ، والله يرزق من يشاء بغير حساب .
وتكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - هناك ، وأحال على هذه الآية في البيان لنوع السخرية ، وزاد البيان في سورة " الأحقاف " على قوله تعالى : وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه [ 46 \ 11 ] .
ومن الدافع لهم على هذا القول ونتيجة قولهم ، وساق آية " المطففين " عندها ، وكذلك عند أول سورة " الواقعة " على قوله تعالى : خافضة رافعة [ 56 \ 3 ] .
ومما تجدر الإشارة إليه ، أن هذه الحالة ليست خاصة بهذه الأمة ، بل تقدم التنبيه على أنها في غيرها ممن تقدم من الأمم .
ففي قوم نوح : ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه [ 11 \ 38 ] .
وكان نفس الجواب عليهم : قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم [ 11 \ 38 - 39 ] .
وجاء بما يفيد أكثر من ذلك حتى بالرسل في قوله تعالى : ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون [ 6 \ 10 ] .
ومثلها في سورة " الأنبياء " بنص الآية المذكورة .
تنبيه .
إذا كان هذا حال بعض الذين أجرموا مع بعض ضعفة المؤمنين ، وكذلك حال بعض الأمم مع رسلها ، فإن الداعية إلى الله تعالى يجب عليه ألا يتأثر بسخرية أحد منه ، ويعلم أنه على سنن غيره من الدعاة إلى الله تعالى ، وأن الله تعالى سينتصر له إما عاجلا وإما آجلا ، كما في نهاية كل سياق من هذه الآيات .
[ ص: 465 ] قوله تعالى : فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون
وهذا رد على سخرية المشركين منه في الدنيا ، وهو كما قال تعالى : والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة [ 2 \ 212 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيانه في سورة " المؤمنون " على الكلام على قوله : إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون [ 23 \ 111 ] . والحمد لله رب العالمين .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الِانْشِقَاقِ
قَوْلُهُ تَعَالَى إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ " الِانْفِطَارِ " ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ [ 82 \ 1 ] ، وَالْإِحَالَةُ عَلَى كَلَامِ الشَّيْخِ - رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ - فِي سُورَتَيِ " الشُّورَى " وَ " ق " .
قوله تعالى : وأذنت لربها وحقت
تقدم بيان مادة " أذن " في سورة " الجمعة " ، عند الكلام على الأذان ، " وأذنت " هنا بمعنى استمعت وأطاعت ، " وحقت " أي : حق لها أو هي محقوقة بذلك ، أي : لا يوجد ممانع لهذا الأمر .
وقد حمله بعض المفسرين على المعنى المجازي في " أذنت " ، أي : لما لم يكن ممانعة من تشققها ، كان ذلك بمثابة الامتثال والاستماع .
وقد قدمنا أن للجمادات بالنسبة إلى الله تعالى حالة لا كهي بالنسبة للمخلوقين في مبحث أول " الحشر " في معنى التسبيح من الجمادات .
وقد جاء صريحا في حق السماء والأرض ، من ذلك قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] ، وقال تعالى : ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين [ 41 \ 11 ] .
قوله تعالى : وإذا الأرض مدت
أي : سويت وأزيلت جبالها ، وسويت وهادها ، كما قال تعالى : [ ص: 467 ] ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ 20 \ 105 - 107 ] .
ومن هذا الحديث عن ابن عباس وعن علي . وساق هذا الثاني ابن كثير عن ابن جرير بسنده إلى علي بن الحسين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ، فأكون أول من يدعى " . الحديث .
وعن ابن عباس : تمد كما يمد الأديم العكاظي . وعند القرطبي عن ابن عباس : " يزاد فيها كذا وكذا " .
وقال الرازي : هو بمعنى تبدل الأرض غير الأرض ، والواقع أن استبدال الأرض غير الأرض ليس على معنى الذهاب بهذه الموجودة والإتيان بأرض جديدة ، لما جاء في حديث الأذان : " ما من حجر ولا مدر ولا شجر ، يسمع صوت المؤذن إلا سيشهد له يوم القيامة " . والذي يؤتى له من جديد لا يتأتى له أن يشهد على شيء لم يشهده ، وعلى كل فإن تسيير الجبال وتسوية الأرض لا شك أنه يوجد زيادة في وجه الأرض ومساحتها ، فسواء مدت بكذا وكذا - كما قال ابن عباس - أو مدت بتوسعة أديمها وزيد في بسطها ، بعد أن تلقي ما في جوفها كالشيء السميك إذا ما ضغط ، فخفت سماكته وزادت مساحته ، كما يشير إليه قوله تعالى : كلا إذا دكت الأرض دكا دكا [ 89 \ 21 ] .
وقوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية [ 69 \ 13 - 16 ] .
فيكون مد الأرض بسبب دكها ، فيزاد في بسطها ، ولعل هذا الوجه هو ما يشهد له القرآن لجمع الأمرين هنا ، " وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء " ، فهو وفق ما في هذه السورة : إذا السماء انشقت ، وبعدها : وإذا الأرض مدت
والله أعلم .
قوله تعالى : وألقت ما فيها وتخلت [ ص: 468 ] قيل : " ألقت كنوزها وتخلت عنها ، ورد هذا بأن ذلك قد يكون قبل الساعة .
وقيل : " ألقت " الموتى " وتخلت " عنهم بعد قيامهم وبعثهم من قبورهم ; فلم يبق في جوف الأرض أحد .
وقوله تعالى : " وتخلت " : أي : بعد أن كانت لهم كفاتا أحياء وأمواتا ، وبعد أن كانت لهم مهادا ، لفظتهم وتخلت عنهم ، وهذا ما يزيد في رهبة الموقف وشدته والتضييق على العباد ، وألا ملجأ لهم ولا منجى إلا إلى الله ، كما قال تعالى : كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر [ 75 \ 11 - 12 ] .
قوله تعالى : وأذنت لربها وحقت
أي : كما أذنت السماء ، فالكون كله أذن مطيع منقاد لأوامر الله ، طوعا أو كرها .
قوله تعالى : يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه
قيل : الإنسان للجنس وقيل لفرد ، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - ولكن السياق يدل للأول للتقسيم الآتي ، فأما من أوتي كتابه بيمينه ، وأما من أوتي كتابه بشماله ; لأنه لا يكون لفرد ، وإنما للجنس وعلى أنه للجنس فالكدح العمل جهد النفس .
وقال ابن مقبل :
وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقال غيره مشيرا إلى أن الكدح فيه معنى النصب :
ومضت بشاشة كل عيش صالح وبقيت أكدح للحياة وأنصب
ويشهد لهذا قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في كبد [ 90 \ 4 ] كما قدمنا في محله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:36 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (587)
سُورَةُ الِانْشِقَاقِ
صـ 469 إلى صـ 478
تنبيه .
من هذا العرض القرآني الكريم من مقدمة تغيير أوضاع الكون سماء وأرضا ، ووضع الإنسان فيه يكدح إلى ربه " كدحا فملاقيه " ، أي : بعلمه الذي يحصل عليه من [ ص: 469 ] خلال كدحه ، فإن العاقل المتبصر لا يجعل كدحه إلا فيما يرضي الله ويرضى هو به ، وإذا لقي ربه ما دام أنه كادح ، لا محالة كما هو مشاهد .
تنبيه آخر .
قوله تعالى : ياأيها الإنسان عام في الشمول لكل إنسان مهما كان حاله من مؤمن وكافر ، ومن بر وفاجر ، والكل يكدح ويعمل جاهدا لتحصيل ما هو مقبل عليه ، كما في الحديث : " اعملوا كل ميسر لما خلق له " أي : ومجد فيه وراض به ، وهذا منتهى حكمة العليم الخبير .
ومما هو جدير بالتنبيه عليه ، هو أنه إذا كانت السماء مع عظم جرمها ، والأرض مع مساحة أصلها " وأذنت لربها وحقت " ، مع أنها لم تتحمل أمانة ، ولن تسأل عن واجب ، فكيف بالإنسان على ضعفه ؟ ! أأنتم أشد خلقا أم السماء [ 79 \ 27 ] ، وقد تحمل أمانة التكليف فأشفقن منها وحملها الإنسان ، فكان أحق بالسمع والطاعة في كدحه ، إلى أن يلقى ربه لما يرضيه .
قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا إنه كان في أهله مسرورا إنه ظن أن لن يحور
في هذا التفصيل بيان لمصير الإنسان نتيجة كدحه ، وما سجل عليه في كتاب أعماله ، وذلك بعد أن تقدم في " الانفطار " قوله : وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ 82 \ 18 ] .
وجاء في " المطففين " : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين [ 83 \ 7 ] ، ثم بعده : كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين [ 83 \ 18 ] .
جاء هنا بيان إتيانهم هذه الكتب مما يشير إلى ارتباط هذه السور بعضها ببعض ، في بيان مآل العالم كله ومصير الإنسان نتيجة عمله .
وتقدم للشيخ مباحث إتيان الكتب باليمين وبالشمال ومن وراء الظهر ، عند كل من [ ص: 470 ] قوله تعالى : يوم ندعوا كل أناس بإمامهم في سورة " الإسراء " إلى قوله تعالى : فمن أوتي كتابه بيمينه [ 17 \ 71 ] ، وبين أحوال الفريقين أهل اليمين وأهل الشمال ، وأحال على أول السورة .
وقوله : ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه [ 18 \ 49 ] ، في سورة " الكهف " وهنا ذكر سبحانه وتعالى حالة من حالات كلا الفريقين .
فالأولى : " يحاسب حسابا يسيرا " وهو العرض فقط دون مناقشة ، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - : " من نوقش الحساب عذب " .
والثانية : يدعو على نفسه بالثبور وهو الهلاك ، ومنه : المواطأة على الشيء ، سميت مثابرة ، لأنه كأنه يريد أن يهلك نفسه في طلبه .
وهنا مقابلة عجيبة بالغة الأهمية ، وذلك بين سرورين أحدهما آجل ، والآخر عاجل .
فالأول في حق من أوتي كتابه بيمينه ، أنه ينقلب إلى أهله مسرورا ينادي فرحا : هاؤم اقرءوا كتابيه [ 69 \ 19 ] ، وأهله آنذاك في الجنة من الحور والولدان ، ومن أقاربه الذين دخلوا الجنة ، كما في قوله تعالى : جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم [ 13 \ 23 ] .
وقوله : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم [ 52 \ 21 ] ، فهم وإن كانوا ملحقين بهم إلا أنهم من أهلهم ، وهذا من تمام النعمة أن يعلم بها من يعرفه من أهله ، وهذا مما يزيد سرور العبد ، وهو السرور الدائم .
والآخر سرور عاجل ، وهو لمن أعطوا كتبهم بشمالهم ; لأنهم كانوا في أملهم مسرورين في الدنيا ، وشتان بين سرور وسرور .
وقد بين هنا نتيجة سرور أولئك في الدنيا ، بأنهم يصلون سعيرا ، ولم يبين سبب سرور الآخرين ، ولكن بينه في موضع آخر وهو خوفهم من الله في قوله تعالى : قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم [ 52 \ 26 - 28 ] .
وهنا يقال : إن الله سبحانه لم يجمع على عبده خوفان ، ولم يعطه الأمنان معا ، [ ص: 471 ] فمن خافه في الدنيا أمنه في الآخرة : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] .
وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى [ 79 \ 40 - 41 ] .
ومن أمن مكر الله ، وقضى كل شهواته ، وكان لا يبالي فيؤتى كتابه بشماله ويصلى سعيرا ، كما في قوله تعالى : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون [ 56 \ 41 - 47 ] ، تكذيبا للبعث .
وقوله هذا هو بعينه المذكور في هذه الآيات : إنه ظن أن لن يحور .
وقوله : إنه ظن أن لن يحور ، هذا الظن مثل ما تقدم في حق المطففين : ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم [ 83 \ 4 - 5 ] ، مما يشعر أن عدم الإيمان بالبعث أو الشك فيه هو الدافع لكل سوء والمضيع لكل خير ، وأن الإيمان باليوم الآخر هو المنطلق لكل خير والمانع لكل شر ، والإيمان بالبعث هو منطلق جميع الأعمال الصالحة كما في مستهل المصحف : هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] .
قوله تعالى : فلا أقسم بالشفق والليل وما وسق والقمر إذا اتسق لتركبن طبقا عن طبق
الشفق لغة : رقة الشيء .
قال القرطبي : يقال شيء شفيق ، أي : لا تماسك له لرقته ، وأشفق عليه أي : رق قلبه عليه ، والشفقة الاسم من الإشفاق وهو رقة القلب ، وكذلك الشفق .
قال الشاعر :
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
فالشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها ، فكأن تلك الرقة من ضوء الشمس .
ونقل عن الخليل : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة إذا ذهب ، قيل : غاب الشفق . اهـ .
[ ص: 472 ] وهذا ما عليه الأئمة الثلاثة في توقيت وقت المغرب من غروب الشمس إلى غياب الشفق ، وهو الحمرة بعد الغروب ، كما قال الخليل .
وعند أبي حنيفة - رحمه الله - : أن الشفق هو البياض الذي بعده .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في بيان أوقات الصلوات الخمس عند قوله تعالى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون [ 30 \ 17 - 18 ] ، ورجح أن الشفق : الحمرة .
ونقل القرطبي قولا ، قال : وزعم الحكماء أن البياض لا يغيب أصلا .
وقال الخليل : صعدت منارة الإسكندرية فرمقت البياض ، فرأيته يتردد من أفق إلى أفق ، ولم أره يغيب .
وقال ابن أويس : رأيته يتمادى إلى طلوع الفجر ، ثم قال : قال علماؤنا : فلما لم يتجدد وقته سقط اعتباره . اه .
فهو بهذا يرجح مذهب الجمهور في معنى الشفق ، والنصوص في ذلك من السنة فيها مقال .
فقد روى الدارقطني حديثا مرفوعا : " الشفق الحمرة " .
وتكلم عليه الشوكاني ، ثم ذكر من يقول به من الصحابة وهم : ابن عمر ، وابن عباس ، وأبو هريرة ، وعبادة . ومن الأئمة : الشافعي ، وابن أبي ليلى ، والثوري ، وأبو يوسف ، ومحمد من الفقهاء ، والخليل والفراء من أهل اللغة .
فأنت ترى أن أبا يوسف ومحمدا من أصحاب أبي حنيفة وافقا الجمهور .
وفي شرح الهداية أيضا رواية عن أبي حنيفة .
أما ما ذكره القرطبي ففيه نظر ، أي : من جهة عدم غياب البياض ، فإن المعروف عند علماء الفلك أن بين الأحمر والأبيض مقدار درجتين ، والدرجة تعادل أربع دقائق ، وعليه فالفرق بسيط . والله تعالى أعلم .
وقوله : والليل وما وسق ، هو الجمع والضم للشيء الكثير ، ومنه سمي [ ص: 473 ] الوسق بمقدار معين من مكيل الحب ، وهو ستون صاعا . وقيل : فيه معان أخرى ، ولكن هذا أرجحها .
والمعنى هنا : والليل وما جمعه من المخلوقات . قيل : كأنه أقسم بكل شيء كقوله تعالى : فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [ 69 \ 38 - 39 ] .
وقوله : والقمر إذا اتسق ، أي : اتسع أي تكامل نوره ، وهو افتعل من وسق ، والقاعدة الصرفية أن فاء الفعل المثالي - أي الذي فاؤه واو - إذا بني على افتعل تقلب الواو تاء وتدغم التاء في التاء ، كما في : وصلته فاتصل ووزنته فاتزن ، اوتصل اوتزن ، وهكذا هنا اوتسق .
وقوله : لتركبن طبقا عن طبق
قال ابن جرير : اختلف القراء في قراءته ، فقرأه عمر بن الخطاب ، وابن مسعود وأصحابه ، وابن عباس ، وعامة قراء مكة والكوفة : " لتركبن " بفتح التاء والباء ، واختلف قارئو ذلك في معناه ، فقال بعضهم : يعني يا محمد ، ويعني حالات الترقي والعلو والشدائد مع القوم ، وهذا المعنى عن مجاهد وابن عباس .
وقيل : " طبقا عن طبق " : يعني سماء بعد سماء ، أي طباق السماء ، وهو عن الحسن ، وأبي العالية ، ومسروق .
وعن ابن مسعود أنها السماء تتغير أحوالها ، تتشقق بالغمام ، ثم تحمر كالمهل ، إلى غير ذلك . وقد رجح القراءة الأولى والمعنى الأول .
وقرأ عامة قراء المدينة وبعض الكوفيين : " لتركبن " بالتاء وبضم الباء على وجه الخطاب للناس كافة .
وذكر المفسرون لمعناه حالا بعد حال معان عديدة : طفولة ، وشبابا ، وشيوخة ، فقرا وغنى ، وقوة وضعفا ، حياة وموتا وبعثا ، رخاء وشدة ، إلى كل ما تحتمله الكلمة .
وقال القرطبي : الكل محتمل ، وكله مراد ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن ذلك إنما هو بعامة الناس ويكون يوم القيامة ، إذ السياق في أصول البعث : " إذا السماء انشقت " ، " وإذا الأرض مدت " ، " فأما من أوتي كتابه بيمينه " وذكر الحساب المنقلب ، ثم التعبير بالمستقبل " لتركبن " ، ولو كان لأمر الدنيا من تغير الأحوال لكان [ ص: 474 ] أولى به الحاضر أو الماضي ، وإن كان من المستقبل ما سيأتي من الزمن لكنه ليس بجديد ، إذ تقلب الأحوال في شأن الحياة أمر مستقر في الأذهان ، ولا يحتاج إلى هذا الأسلوب .
أما أمور الآخرة من بعث ، وحشر ، وعرض ، وميزان ، وصراط ، وتطاير كتب ، واختلاف أحوال الناس باختلاف المواقف ، في عرصات القيامة ، فهي الحرية بالتنبيه عليها والتحذير منها ، والعمل لأجلها في كدحه إلى ربه ، فلذا جاء بذلك وهو مشعر باستمرار حالة الإنسان بعد الكدح إلى حالات متعددة ودرجات متفاوتة .
ولو اعتبرنا حال المقسم به من حيث تطور الحال من شفق ، أو آخر ضوء الشمس ، ثم ليل ، وما جمع وغطى بظلامه ، ثم قمر يبدأ هلالا إلى اتساق نوره - لكان انتقالا من تغير حركات الزمن إلى تغير أحوال الإنسان قطعا ، وأن القادر على ذلك في الدنيا قادر على ذلك في الآخرة .
قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون
قيل : المن : القطع والنقص ، ومنه قول الشاعر :
لمعفر قهد تناثر شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها
والقهد : ضرب من الضأن تعلوه حمرة صغيرة آذانه ، والكواسب : الوحوش ، أي : ذئاب أو سباع لا ينقطع طعامها .
وقال القرطبي : مننت الحبل إذا قطعته .
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عنها ، فقال : غير مقطوع ، فقال : هل تعرف ذلك العرب ؟ قال : نعم ، قد عرفه أخو يشكر ، حيث يقول :
فترى خلفهن من سرعة الرجـ ـع منينا كأنه أهباء
قال المبرد : المنين : الغبار ; لأنها تقطعه وراءها .
وقيل : " غير ممنون " أي : غير ممنون به عليهم ، لتكمل النعمة عليهم .
وقال ابن جرير : " غير ممنون " : أي : غير محسوب ولا منقوص . وذكره عن ابن عباس ومجاهد .
[ ص: 475 ] وقال ابن كثير : غير مقطوع ، كقوله تعالى : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، ورد قول من قال : إنه غير ممنون به عليهم ; لأن لله تعالى أن يمتن على عباده ، وهم ما دخلوا الجنة إلا بفضل من الله ومنه عليهم . انتهى .
ومما يشهد لقول ابن جرير " غير محسوب " عموم قوله تعالى : إن الله يرزق من يشاء بغير حساب [ 3 \ 37 ] ، وخصوص قوله تعالى : ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب [ 40 \ 40 ] .
وقوله تعالى : جزاء من ربك عطاء حسابا [ 78 \ 36 ] ، فهو بمعنى كافيا من قولك : حسبي : بمعنى كافيني .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن كلا من المعنيين مقصود ولا مانع منه ، وما ذهب إليه ابن كثير لا يتعارض مع قول الآخرين ; لأن المن الممنوع هو ما فيه أذى وتنقيص ، كما في قوله : ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى [ 2 \ 262 ] ، أما المن من الله تعالى على عبده ، فهو عين الإكرام والزلفى إليه سبحانه . والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْبُرُوجِ
قوله تعالى : والسماء ذات البروج
البروج : جمع برج ، واختلف في المعنى المراد به هنا : هل هي المنازل أو الكواكب ، أو قصور في السماء عليها حراسها ؟
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الحجر " ، عند الكلام على قوله تعالى : ولقد جعلنا في السماء بروجا [ 15 \ 16 ] ، وفي سورة " الفرقان " عند قوله تعالى : تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] .
وقيل : إن أصل هذه المادة من الظهور ، ومنه تبرج المرأة ، وساق بيان المعنى المقصود من بروج السماء وعدد المنازل المذكورة .
وبمناسبة ارتباط السور بعضها ببعض ، فإن بعض المفسرين يقول : لما ذكر مآل الفريقين وتطاير الصحف في السورة الأولى ، ذكر هنا عملا من أشد أعمال الكفار مع المؤمنين في قصة الأخدود .
والذي يظهر أقوى من هذا ، هو - والله تعالى أعلم - أنه لما ذكر سابقا انفطار السماء ، وتناثر النجوم ، وانشقاق السماء ، وإذنها لربها وحق لها ذلك - جاء هنا بيان كنه هذه السماء أنها عظيمة البنية بأبراجها الضخمة أو بروجها الكبيرة ، فهي مع ذلك تأذن لربها وتطيع ، وتنشق لهول ذلك اليوم وتنفطر ، فأولى بك أيها الإنسان . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : واليوم الموعود هو يوم القيامة بإجماع المفسرين ، وقد كانوا يوعدون به في الدنيا ، فهو اليوم الموعود به كل من الفريقين ، كما قال تعالى في حق المؤمنين : لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون [ 21 \ 103 ] ، وفي حق الكفار : [ ص: 477 ] فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [ 43 \ 83 ] ، وسيعترفون بذلك عند البعث ، حينما يقولون : قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [ 36 \ 52 ] .
فاليوم الموعود هو يوم القيامة الموعود به لمجازات كلا الفريقين على عملهم .
قوله تعالى : وشاهد ومشهود
لم يصرح هنا من الشاهد وما المشهود ، وقد ذكر الشاهد في القرآن بمعنى الحاضر ، كقوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، وقوله : عالم الغيب والشهادة [ 6 \ 73 ] .
وذكر المشهود بمعنى المشاهد باسم المفعول ، كقوله تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود [ 11 \ 103 ] .
فالشاهد والمشهود قد يكونان من المشاهدة ، وذكر الشاهد من الشهادة ، والمشهود من المشهود به أو عليه ، كما في قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] .
فشهيد الأولى : أي شهيد على الأمة التي بعثت فيها ، وشهيد الثانية : أي شاهد على الرسل في أممهم .
ومن هنا اختلفت أقوال المفسرين إلى ما يقرب من عشرين قولا .
قال ابن جرير ما ملخصه : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة أو النحر ، وعزاه لعلي وأبي هريرة ، والشاهد : محمد - صلى الله عليه وسلم - والمشهود : يوم القيامة . وعزاه لابن عباس والحسن بن علي . والشاهد : الإنسان ، والمشهود : يوم القيامة وعزاه لمجاهد وعكرمة . والشاهد : هو الله ، والمشهود : هو يوم القيامة ، وعزاه لابن عباس . ثم قال : والصواب عندي أنه صالح لكل ما يقال له مشاهد ، ويقال له مشهود ، فلم يفصل ما إذا كان بمعنى الحضور ، أو الشهادة ، ومثله القرطبي وابن كثير .
[ ص: 478 ] وقد فصل أبو حيان على ما قدمنا ، فقال : إن كان بمعنى الحضور ، فالشاهد الإنسان ، والمشهود يوم القيامة ، ولما ذكر اليوم الموعود ناسب أن يذكر كل من يشهد في ذلك اليوم ، ومن يشهد عليه ، وذكر نحوا من عشرين قولا .
وقال : كل له متمسك ، والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أنه من باب الشهادة ; لأن ذكر اليوم الموعود وهو يكفي عن اليوم المشهود ، بل إنه يحتاج إلى من يشهد فيه ، وتقام الشهادة على ما سيعرض فيه ; لإقامة الحجة على الخلق لا لإثبات الحق .
وقد جاء في القرآن تعداد الشهود في ذلك اليوم ، مما يتناسب مع العرض والحساب .
ومجمل ذلك أنها تكون خاصة وعامة وأعم من العامة ، فمن الخاصة : شهادة الجوارح على الإنسان كما في قوله تعالى : حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون [ 41 \ 20 ] ، وقوله : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] ، وهذه شهادة فعل ومقال لا شهادة حال ، كما بينها قوله تعالى عنهم : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون [ 41 \ 21 - 22 ] ، ورد الله زعمهم ذلك بقوله : وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين [ 41 \ 23 ] .
وتقدم للشيخ بيان شهادة الأعضاء في سورة " يس " وفي سورة " النساء " عند قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] ، وشهادة الملائكة وهم الحفظة كما في قوله تعالى : وقال قرينه هذا ما لدي عتيد [ 50 \ 23 ] ، وقوله : وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [ 50 \ 21 ] ، ثم شهادة الرسل كل رسول على أمته ، كما في قوله عن عيسى - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم - : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم [ 5 \ 117 ] ، فهذا وإن كان في الحياة فسيؤديها يوم القيامة .
وكقوله في عموم الأمم : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم [ 16 \ 89 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:36 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (588)
سُورَةُ الْبُرُوجِ
صـ 479 إلى صـ 488
ومنها : شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جميع الرسل ، كما في قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] .
ومنها : شهادة هذه الأمة على سائر الأمم ، كما في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس [ 2 \ 143 ] .
ومنها : شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأمة ; لقوله تعالى : ويكون الرسول عليكم شهيدا [ 2 \ 143 ] .
ومنها : شهادة الله تعالى على الجميع .
وهذا ما يتناسب مع ذكر اليوم الموعود وما يكون فيه من الجزاء والحساب على الأعمال ، ومجازاة الخلائق عليها : وسيأتي في نفس السياق قوله : والله على كل شيء شهيد [ 85 \ 9 ] ، وهو كما ترى لا يتقيد بشاهد واحد ، وأيضا لا يعارض بعضها بعضا .
فاختلاف الشهود وتعددهم باختلاف المشهود عليه وتعدده ، من فرد إلى أمة إلى رسل ، إلى غير ذلك ، وكلها داخلة في المعنى وواقعة بالفعل .
وقد ذكرت أقوال أخرى ، ولكن لا تختص بيوم القيامة .
ومنها : أن الشاهد الله والملائكة وأولو العلم ، والمشهود به وحدانية الله تعالى .
ومنها : الشاهد المخلوقات ، والمشهود به قدرة الله تعالى ، فتكون الشهادة بمعنى العلامة .
وأكثر المفسرين إيرادا في ذلك الفخر الرازي ; حيث ساقها كلها بأدلتها إلا ما ذكرناه من السنة فلم يورده .
وقد جاء في السنة تعيين الشهادات لغير ما ذكر .
منها الشهادة للمؤذن : " ما يسمع صوته شجر ولا حجر ولا مدر ، إلا شهد له يوم القيامة " .
[ ص: 480 ] ومنها : شهادة الأرض على الإنسان بما عمل عليها المشار إليه في قوله تعالى : يومئذ تحدث أخبارها [ 99 \ 4 ] .
ومنها : شهادة المال على صاحبه فيم أنفقه . ومنها : شهادة الصيام والقرآن وشفاعتهما لصاحبهما ، ونحو ذلك . والله تعالى أعلم .
تنبيه
في هذا العرض إشعار يتعلق بالقضاء وكمال العدالة ، وهو إذا كان رب العزة سبحانه وتعالى ، وهو على كل شيء شهيد ، وبكل شيء عليم ، وموكل حفظة يكتبون أعمال العباد ، ومع ذلك لم يقض بين الخلائق بما يعلمه منهم ولا بما سجلته ملائكته ، ويستنطق أعضاءهم ، ويستشهد الرسل على الأمم والرسول - صلى الله عليه وسلم - على الرسل ، أي بأنهم بلغوا أممهم رسالات الله إليهم ، فلأن لا يقضي القاضي بعلمه من باب أولى . والعلم عند الله تعالى .
وقد جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله : " إنكم تحتكمون إلي ، وإنما أنا بشر أقضي لكم على نحو ما أسمع ، فمن اقتطعت له شيئا من حق أخيه ، فإنما أقطع له قطعة من نار " . الحديث . أي : كان من الممكن أن ينزل عليه الوحي ، ولا سيما في تلك القضية بعينها ، إذ قالوا في مواريث درست معالمها ولا بينة بينهما ، ولكن إذا نزل الوحي عليه - صلى الله عليه وسلم - فيها فمن بالوحي لمن يأتي بعده في القضاء ؟
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر " .
ومعلوم أن البينة فعيلة من البيان ، فتشمل كل ما يبين الحق من شهادة وقرينة ، كما في قصة يوسف من القرائن مع إخوته ومع امرأة العزيز . إلخ .
قوله تعالى : قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود
قال أبو حيان : وجواب القسم في قوله تعالى : والسماء ذات البروج ، قيل : محذوف ، فقيل : لتبعثن ونحوه ، وقيل : مذكور ، فقيل : " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات " [ 85 \ 10 ] ونحوه ، وقيل : " قتل " ، وهذا نختاره ، وحذفت اللام - أي لقتل - [ ص: 481 ] وحسن حذفها كما حسن في قوله : والشمس وضحاها [ 91 \ 1 ] ، ثم قال : قد أفلح من زكاها [ 91 \ 9 ] ، أي : لقد أفلح ، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك ، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ; ليفتنوهم عن دينهم .
وإذا كان " قتل " هي الجواب فهي جملة خبرية ، وإذا كان الجواب غيرها فهي جملة إنشائية ، دعاء عليهم .
وقرئ : " قتل " بالتشديد ، قرأها الحسن وابن مقسم ، وقرأها الجمهور بالتخفيف . اهـ .
والأخدود : جمع خد ، وهو الشق في الأرض طويلا . وقوله : النار ذات الوقود ، الوقود بالضم وبالفتح ، والقراءة بالفتح كالسحور ، والوضوء . فبالفتح : ما توقد به كصبور والماء المتوضأ به ، والطعام المتسحر به . وبالضم : المصدر والفعل ، والوقود بالضم : ما توقد به .
ذكر صاحب القاموس ، و " النار ذات الوقود " : بدل من الأخدود .
وقيل في معناها عدة أقوال ، حتى قال أبو حيان : كسلت عن نقلها .
ونقل الفخر الرازي ثلاثة منها .
والمشهور عند ابن كثير ما رواه أحمد ومسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " كان فيمن كان قبلكم ملك ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبر سني ، وحضر أجلي ، فادفع إلي غلاما لأعلمه السحر ، فدفع إليه غلاما كان يعلمه السحر ، وكان بين الساحر والملك راهب ، فأتى الغلام الراهب ، فسمع من كلامه فأعجبه ، وكان إذا أتى الساحر ضربه ، وقال ما حبسك ؟ وإذا أتى أهله ضربوه وقالوا : ما حبسك ؟ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا أراد الساحر ضربك ، فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك ، فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو ذات يوم ، إذ أتى على دابة عظيمة فظيعة قد حبست الناس ، فلا يستطيعون أن يجوزوا ، فقال : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟ قال : فأخذ حجرا ، فقال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر ، فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس ، ورماها فقتلها ، ومضى الناس فأخبر الراهب بذلك ، فقال : أي بني ، أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا [ ص: 482 ] تدل علي ، فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم ، وكان للملك جليس أعمى فسمع به ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال : اشفني . فقال : ما أنا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله - عز وجل - فإن آمنت به دعوت الله فشفاك ، فآمن ، فدعا الله فشفاه ، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس ، فقال له الملك : يا فلان ، من رد عليك بصرك ؟ فقال : ربي ، فقال : أنا . قال : لا ، ربي وربك الله ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : نعم ، ربي وربك الله ، فلم يزل يعذبه حتى دله على الغلام ، فبعث إليه ، فقال : أي بني ، بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص ، وهذه الأدواء ، فقال : أما أنا لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله - عز وجل - قال : أنا . قال : لا ، قال : أولك رب غيري ؟ قال : ربي وربك الله ، فأخذه أيضا بالعذاب حتى دل على الراهب ، فأوتي بالراهب ، فقيل : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، وقال للأعمى : ارجع عن دينك ، فأبى ، فوضع المنشار في مفرقه أيضا ، وقال للغلام : ارجع عن دينك ، فأبى ، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا ، وقال : إذا بلغتم ذروته ، فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه ، فذهبوا به فلما علوا به الجبل ، قال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك ، فقال : ما فعل أصحابك ؟ فقال : كفانيهم الله تعالى ، فبعث به نفرا إلى البحر في قرقور ، فقال : إذا لججتم به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا فأغرقوه ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فغرقوا هم ، وجاء الغلام حتى دخل على الملك ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : ما هو ؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهما من كنانتي ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني ، ففعل ، ووضع السهم في قوسه ورماه به في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر ، فقد والله وقع بك ، قد آمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك ، فخدت فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها ، قال : فكانوا يتعادون ويتدافعون ، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي : اصبري يا أماه ; فإنك على الحق . وقد قيل : إن الغلام دفن فوجد زمن عمر بن الخطاب ويده على صدغه ، كلما رفعت خرج الدم من جرحه ، وإذا تركت أعيدت على الجرح " .
وقد سقنا هذه القصة ، وهي من أمثل ما جاء في هذا المعنى لما فيها من [ ص: 483 ] العبر ، والتي يمكن أن يستفاد منها بعض الأحكام ، حيث إن ابن كثير ، عزاها للإمام أحمد بن حنبل ومسلم ، أي لصحة سندها مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الآتي :
الأول : أن السحر بالتعلم كما جاء في قصة الملكين ببابل ، هاروت وماروت يعلمان الناس السحر .
الثاني : إمكان اجتماع الخير مع الشر ، إذا كان الشخص جاهلا بحال الشر ، كاجتماع الإيمان مع الراهب مع تعلم السحر من الساحر .
ثالثا : إجراء خوارق العادات على أيدي دعاة الخير ، لبيان الحق ، والتثبيت في الأمر ، كما قال الغلام : اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر ؟
الرابع : أنه كان أميل بقلبه إلى أمر الراهب ، إذ قال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك ، فسأل عن أمر الراهب ولم يسل عن أمر الساحر ؟
الخامس : اعتراف العالم بالفضل لمن هو أفضل منه ، كاعتراف الراهب للغلام .
السادس : ابتلاء الدعاة إلى الله ووجوب الصبر على ذلك ، وتفاوت درجات الناس في ذلك .
السابع : إسناد الفعل كله لله ، إنما يشفي الله .
الثامن : رفض الداعي إلى الله الأجر على عمله وهدايته : قل لا أسألكم عليه أجرا إن [ 6 \ 90 ] .
التاسع : بيان ركن أصيل في قضية التوسل ، وهو أن مبناه على الإيمان بالله ، ثم الدعاء وسؤال الله تعالى .
العاشر : غباوة الملك المشرك المغلق قلبه بظلام الشرك ، حيث ظن في نفسه أنه الذي شفى جليسه . وهو لم يفعل له شيئا ، وكيف يكون وهو لا يعلم ؟
الحادي عشر : اللجوء إلى العنف والبطش عند العجز عن الإقناع والإفهام أسلوب الجهلة والجبابرة .
الثاني عشر : منتهى القسوة والغلظة في نشر الإنسان ، بدون هوادة .
[ ص: 484 ] الثالث عشر : منتهى الصبر وعدم الرجوع عن الدين ، وهكذا كان في الأمم الأولى ، وبيان فضل الله على هذه الأمة ، إذ جاز لها التلفظ بما يخالف عقيدتها وقلبها مطمئن بالإيمان .
وقد جاء عن الفخر الرازي قوله :
الآية تدل على أن المكره على الكفر بالإهلاك العظيم الأولى به أن يصبر على ما خوف منه ، وأن إظهار كلمة الكفر كالرخصة في ذلك ، وقال : وروى الحسن أن مسيلمة أخذ رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لأحدهما : تشهد أني رسول الله ؟ فقال : نعم ، فتركه ، وقال للآخر مثله ، فقال : لا ، بل أنت كذاب ، فقتله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أما الذي ترك فأخذ بالرخصة فلا تبعة عليه ، وأما الذي قتل فأخذ بالأفضل فهنيئا له " .
وتقدم بحث هذه المسألة للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - .
الرابع عشر : إجابة دعوة الغلام ونصرة الله لعباده المؤمنين : اللهم اكفنيهم بما شئت .
الخامس عشر : التضحية بالنفس في سبيل نشر الدعوة ، حيث دل الغلام الملك على الطريقة التي يتمكن الغلام بها من إقناع الناس بالإيمان بالله ، ولو كان الوصول لذلك على حياته هو .
السادس عشر : إبقاء جسمه حتى زمن عمر - رضي الله عنه - إكراما لأولياء الله والدعاة من أن تأكل الأرض أجسامهم .
السابع عشر : إثبات دلالة القدرة على البعث .
الثامن عشر : حياة الشهداء لوجود الدم وعودة اليد مكانها بحركة مقصودة .
التاسع عشر : معرفة تلك القصة عند أهل مكة حيث حدثوا بها تخويفا من عواقب أفعالهم بضعفة المؤمنين ، كما هو موضح في تمام القصة .
العشرون : نطق الصبي الرضيع بالحق .
قوله تعالى : إذ هم عليها قعود . الضمير في قوله : هم ، والضمير في قوله : قعود ، ذكر فيهما خلاف .
[ ص: 485 ] فقيل : راجعان إلى من أحرقوا وأقعدوا عليها .
وقيل : راجعان إلى الكفار .
وعليه ففي قوله : " عليها قعود " إشكال ، وهو : كيف يتمكن لهم القعود على النار .
فقيل : إنها رجعت عليهم فأحرقتهم ، فقعودهم عليها حقيقة .
وقيل : قعود على حافتها ، كما تقول : قعود على النهر ، أو على البئر ، أو على حافته وحوله ، كما يقال : نزل فلان على ماء كذا ، أي : عنده .
وأنشد أبو حيان بيت الأعشى :
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
وقد استدل صاحب القول الأول بقوله تعالى الآتي : فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق [ 85 \ 10 ] فقال : الحريق في الدنيا ، وجهنم في الآخرة .
ولكن في الآية قرينة على أن الضمائر راجعة إلى الكفار الذين قتلوا المؤمنين وأحرقوهم ، وهي قوله : ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم [ 85 \ 10 ] حيث رتب العذاب المذكور على عدم التوبة ، وجاء بثم التي هي للتراخي ، مما يدل على أنهم لم تحرقهم نارهم انتقاما منهم حالا ، بل أمهلوا ليتوبوا من فعلتهم الشنيعة ، وإلا فلهم العذاب المذكور في الآخرة . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود
بمعنى حضور ، يتفق قوله تعالى : إذ هم عليها قعود [ 85 \ 6 ] ، أي : حضور يشاهدون إحراق المؤمنين ، وهذا زيادة في التبكيت بهم ، إذ يرون هذا المظهر بأعينهم ولم يشفقوا بهم ، ولم يعتبروا بثباتهم .
قوله تعالى : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد
هذا ما يسمى أسلوب المدح بما يشبه الذم ، ونظيره في العربية قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
[ ص: 486 ] وذكر أبو حيان قول الشاعر - وهو قيس الرقيات - :
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقول الآخر :
ولا عيب فيها غير شكلة عينها كذاك عناق الطير شكلا عيونها
يقال عين شكلاء : إذا كان في بياضها حمرة قليلة يسيرة .
وقدمنا أن نقمتهم عليهم للمستقبل ، كما في قوله تعالى : إلا أن يؤمنوا بالله ، لا على الماضي إلا أن آمنوا ; لأنهم كانوا يقولون لهم : إما أن ترجعوا عن دينكم ، وإما أن تلقوا في النار ، ولم يحرقوهم على إيمانهم السابق ، بل على إصرارهم على الإيمان للمستقبل .
والإتيان هنا بصفتي الله تعالى : " العزيز الحميد " إشعار بأنه سبحانه قادر على نصرة المؤمنين والانتقام من الكافرين ، إذ العزيز هو الغالب ، كما يقولون : من عز بز ، ولكن جاء وصفه بالحميد ; ليشعر بأمرين :
الأول : أن المؤمنين آمنوا رغبة ورهبة ، رغبة في الحميد على ما يأتي : " الغفور الودود " [ 85 \ 14 ] ، ورهبة من العزيز كما سيأتي في قوله : إن بطش ربك لشديد ، [ 85 \ 12 ] وهذا كمال الإيمان رغبة ورهبة وأحسن حالات المؤمن .
والأمر الثاني : حتى لا ييأس أولئك الكفار من فضله ورحمته ، كما قال : ثم لم يتوبوا [ 85 \ 10 ] ; إذ أعطاهم المهلة من آثار صفته الحميد سبحانه .
قوله تعالى : الذي له ملك السماوات والأرض
تأكيد وبيان للعزيز الحميد ، إذ لا يخرج عن سلطانه أحد ، فهو القاهر فوق عباده ، وهو المدبر أمر ملكه سبحانه وتعالى .
قوله تعالى : والله على كل شيء شهيد ربط بأول السورة : " وشاهد ومشهود " [ 85 \ 3 ] ، فهو سبحانه على كل شيء شهيد ، ومن ذلك فعل أولئك ، وفيه شدة تخويف أولئك وتحذيرهم ومن على شاكلتهم ، بأن الله [ ص: 487 ] تعالى شهيد على أفعالهم فلن تخفى عليه خافية .
وقد جاء بصيغة المبالغة في شهيد ; لما يتناسب مع هذا المقام ، كما فيه المقابلة بالفعل ، كما كانوا قعودا على النار وشهودا على إحراق أولياء الله تعالى ، فإنه سبحانه سيعاملهم بالمثل ، إذ يحرقهم وهو عليهم شهيد .
قوله تعالى : إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا
يحتمل أن يكون مرادا به أصحاب الأخدود ، و " فتنوا " بمعنى أحرقوا ، ويحتمل أن يكون عاما في كل من أذى المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم ، ويردوهم عنه بأي أنواع الفتنة والتعذيب .
وقد رجح الأخير أبو حيان ، وحمله على العموم أولى ; ليشمل كفار قريش بالوعيد والتهديد ، وتوجيههم إلى التوبة مما أوقعوه بضعفة المؤمنين : كعمار ، وبلال ، وصهيب ، وغيرهم .
ويرجح هذا العموم العموم الآخر الذي يقابله في قوله : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير [ 85 \ 11 ] فهذا عام بلا خلاف في كل من اتصف بهذه الصفات .
قوله تعالى : إن بطش ربك لشديد في مقام المنطوق بالمفهوم من " العزيز الحميد " ، كما تقدم .
قوله تعالى : إنه هو يبدئ ويعيد
قيل : يبدئ الخلق ويعيده ، كالزرع والنبات والإنسان ، بالمولد والموت ، ثم بالبعث .
وقيل : يبدأ الكفار بالعذاب ويعيده عليهم ، واستدل لهذا بقوله : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب [ 4 \ 56 ] .
وفي الحديث : " ما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة ، بطح لها بقاع قرقر ، ثم يؤتى بها أوفر ما تكون سمنا ، فتطؤه بخفافها ، فتستن عليه ، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولها ، حتى يقضي بين الخلائق فيرى مصيره إما إلى جنة ، وإما إلى نار " [ ص: 488 ] إلى آخر الحديث في صاحب البقر والغنم والذهب .
ولكن الذي يظهر - والله تعالى أعلم - هو الأول ; لأنه يكثر في القرآن كقوله تعالى : إنه يبدأ الخلق ثم يعيده [ 10 \ 4 ] . وقوله : قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون [ 10 \ 34 ] .
وجعله آية على قدرته ، ودليلا على عجز ونقص الشركاء في قوله في أول هذه الآية : قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، ورد عليهم بقوله : قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده ، وقوله : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:37 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (589)
سُورَةُ الطَّارِقِ
صـ 489 إلى صـ 498
قوله تعالى : هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود
بعد عرض قصة أصحاب الأخدود ; تسلية للمؤمنين وتثبيتا لهم ، وزجرا للمشركين وردعا لهم ، جاء بأخبار لبعض من سبق من الأمم وفرعون وثمود ، بدل من الجنود ، وهم جمع جند ، وهم الكثرة وأصحاب القوة ، وحديثه ما قص الله من خبره مع موسى وبني إسرائيل .
وفي اختيار فرعون هنا بعد أصحاب الأخدود ; لما بينهما من المشاكلة والمشابهة ، إذ فرعون طغى وادعى الربوبية ، كملك أصحاب الأخدود الذي قال لجليسه : ألك رب غيري ؟ ولتعذيبه بني إسرائيل بتقتيل الأولاد واستحياء النساء ، وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ، ولتقديم الآيات والبراهين على صدق الداعية ، إذ موسى - عليه السلام - قدم لفرعون من آيات ربه الكبرى ، فكذب وعصى ، والغلام قدم لهذا الملك الآيات الكبرى : إبراء الأكمه والأبرص بإذن الله ، وعجز فرعون عن موسى وإدراكه ، وعجز الملك عن قتل الغلام ; إذ نجاه الله من الإغراق والدهدهة من قمة الجبل ، فكان لهذا أن يرعوي عن ذلك ويتفطن للحقيقة ، ولكن سلطانه أعماه كما أعمى فرعون .
وكذلك آمن السحرة ; لما رأوا آية موسى ، وخروا لله سجدا .
وهكذا هنا آمن الناس برب الغلام ، فوقع الملك فيما وقع فيه فرعون ، إذ جمع فرعون السحرة ; ليشهد الناس عجز موسى وقدرته ، فانقلب الموقف عليه ، وكان أول [ ص: 489 ] الناس إيمانا هم أعوان فرعون على موسى ، وهكذا هنا كان أسرع الناس إيمانا الذي جمعهم الملك ليشهدوا قتله للغلام .
فظهر تناسب ذكر فرعون دون غيره من الأمم الطاغية السابقة ، وإن كان في الكل عظة وعبرة ، ولكن هذا منتهى الإعجاز في قصص القرآن وأسلوبه - والله تعالى أعلم .
وكذلك ثمود ، لما كان منهم من مظاهر القوة والطغيان ، وقد جمعها الله أيضا معا في سورة " الفجر " في قوله : وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي وفرعون ذي الأوتاد [ 89 \ 9 - 10 ] ، وهكذا جمعها هنا " فرعون وثمود " .
قوله تعالى : بل الذين كفروا في تكذيب
أي : مستمر في كل الأمم ، وتقدم في سورة " الانشقاق " قبلها : بل الذين كفروا يكذبون [ 84 \ 22 ] .
فقال الكرماني : محمود بن حمزة بن نصر تاج القراء ، في كتابه " أسرار التكرار في القرآن " : إن المغايرة لمراعاة رءوس الآي والفواصل ، ولكن الظاهر من السياق في الموضعين مراعاة السياق لا فواصل الآي ; لأن في سورة " الانشقاق " الحديث مع المشركين : لتركبن طبقا عن طبق فما لهم لا يؤمنون وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون بل الذين كفروا يكذبون [ 84 \ 19 - 22 ] .
وفي سورة " البروج " هنا ذكر الأمم من فرعون ، وثمود ، وأصحاب الأخدود ، والمشركين في مكة ، ثم قال : بل الذين كفروا يكذبون [ 85 \ 19 ] فناسب هذا هنا ، وناسب ذاك هناك ، والله تعالى أعلم .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الطَّارِقِ
قوله تعالى : والسماء والطارق
أصل الطرق في اللغة : الدق ، ومنه المطرقة ; ولذا قالوا للآتي ليلا : طارق ; لأنه يحتاج إلى طرق الباب .
وعليه قول امرئ القيس :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول
أي جئتها ليلا ، وقول الآخر :
ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
وقول جرير :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام
وفي الحديث : " أعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن " ، فهو لفظ عم في كل ما يأتي شيئه المفاجئ ، ولكأنه يأتي في حالة غير متوقعة ، ولكنه هنا خص بما فسر به بعده في :
قوله تعالى : وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب
فقيل : ما يثقب الشياطين عند استراق السمع ، كما تقدم في قوله تعالى : فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا [ 72 \ 9 ] فيكون عاما في كل نجم .
وقيل : خاص ، فقيل : زحل ، وقيل : المريخ ، وقيل : الثريا ; لأنه إذا أطلق النجم عند العرب كان مرادا به الثريا .
وتقدم هذا للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في أول سورة " النجم " .
[ ص: 491 ] وقيل : " الثاقب " : المضيء ، يثقب الظلام بضوئه ، وعليه فهو للجنس عامة ; لأن النجوم كلها مضيئة .
قال القرطبي ، وقال سفيان : كل ما في القرآن ، " وما أدراك " فقد أخبره به ، وكل شيء قال فيه : " وما يدريك " ، لم يخبره به .
والواقع أنه الغالب ، فقد جاءت : " وما أدراك " ثلاث عشرة مرة ، كلها أخبره بها إلا واحدة ، وهي في الحاقة : وما أدراك ما الحاقة [ 69 \ 3 ] ، وما عداها ، فقد أخبره بها ، وهي : وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر [ 74 \ 27 - 28 ] .
وفي " المرسلات " : وما أدراك ما يوم الفصل [ 77 \ 14 ] .
وفي " الانفطار " : وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا [ 82 \ 17 - 19 ] .
وفي " المطففين " : وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم [ 83 \ 8 - 9 ] .
وفي " البلد " : وما أدراك ما العقبة فك رقبة [ 90 \ 12 - 13 ] .
وفي " القدر " : وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 2 - 3 ] .
وفي " القارعة " : وما أدراك ما القارعة [ 101 \ 3 ] .
وأيضا : فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 9 - 11 ] ، وفي هذه السورة : وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب ، فكلها أخبره عنها إلا في " الحاقة " .
تنبيه .
يلاحظ أنها كلها في قصار السور من " الحاقة " وما بعدها ، أما " ما يدريك " ، فقد جاءت ثلاث مرات فقط : وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا [ 33 \ 63 ] ، في " الأحزاب " : وما يدريك لعل الساعة قريب [ 42 \ 17 ] ، في " الشورى " ، وما يدريك لعله يزكى [ 80 \ 3 ] في " عبس وتولى " ، فلم يخبره فيها صراحة ، إلا أنه في [ ص: 492 ] الثالثة قد يكون أخبره ; لأنه قال : لعله يزكى ، فهو وإن لم يصرح : هل هو تزكى أم لا ؟ إلا أن لعل من الله تعالى للتحقيق ، كما هو معلوم .
تنبيه آخر .
قال كثير من المفسرين : أقسم الله بالسماء ، وبالنجم الطارق ; لعظم أمرهما ، وكبر خلقهما ، كما في قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم [ 56 \ 75 - 76 ] ; ولأنه أقسم بالنجم إذا هوى . وفيما تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ترجيح كون مواقع النجوم : والنجم إذا هوى [ 53 \ 1 ] : إنما هو نجوم القرآن ، وتنزيله منجما وهو به نزول الملك به على النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله تعالى : إن كل نفس لما عليها حافظ
قيل : " حافظ " لأعماله يحصيها عليه ، كما في قوله : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] .
وقيل : " حافظ " أي : حارس ، كقوله تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله [ 13 \ 11 ] ، والسياق يشهد للمعنيين معا ; لأن قوله تعالى بعده : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب [ 86 \ 5 - 7 ] يدل على أنه في تلك المراحل في حفظ ، فهو أولا : " في قرار مكين " [ 23 \ 13 ] .
وفي الحديث : " أن الله وكل بالرحم ملكا " . الحديث .
وبعد بلوغه سن التكليف يجري عليه القلم ، فيحفظ عليه عمله ، فلا مانع من إرادة المعنيين معا ، وليس هذا من حمل المشترك على معنييه ; لأن كلا من المعنيين له متعلق يختص بزمن خلاف الآخر .
قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق
" الإنسان " هنا خاص ببني آدم وذريته عامة ، ولم يدخل فيه آدم ولا حواء ولا عيسى - عليه السلام - لأنه بين ما خلق منه ، وهو في قوله تعالى : خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب .
[ ص: 493 ] وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان هذه الآية عند قوله تعالى : خلق الإنسان من نطفة [ 16 \ 4 ] ، في سورة " النحل " ، وفي سورة " الواقعة " عند قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [ 56 \ 58 - 59 ] ، وتقدمت الإشارة إليه عند قوله تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج [ 76 \ 2 ] ، في سورة " الدهر " .
قوله تعالى : إنه على رجعه لقادر ، " إنه " هنا أي : إن الله " على رجعه " ، الضمير فيه قيل : راجع للماء الدافق ، أي : أنه سبحانه قادر على رجع هذا الماء من حيث خرج ، كرد اللبن إلى الضرع مثلا ، ورد الطفل إلى الرحم ، وهذا مروي عن عكرمة ومجاهد .
وقيل : على رجع الإنسان بعد الموت ، وهذا وإن كان في الأول دلالة على القدرة ، ولا يقدر عليه إلا الله ، إلا أن في السياق ما يدل على أن المراد هو الثاني ; لعدة أمور :
الأول : أن رد الماء لم يتعلق به حكم ولا أمر آخر سوى إثبات القدرة ، بخلاف رجع الإنسان بعد الموت ، فهو قضية الإيمان بالبعث . ويتعلق به كل أحكام يوم القيامة .
الثاني : مجيء القرآن بالخلق الأول دليل على الإعادة بعد الموت ، كقوله تعالى في " يس " : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه أي : من ماء دافق : قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 78 - 79 ] ، أي : " من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب " .
الثالث : أن الأول يحتاج معه إلى تقدير عامل لـ " يوم تبلى السرائر " ، نحو اذكر مثلا ، بخلاف الثاني ، فإن العامل فيه : هو " لقادر " ، أي : لقادر على رجعه يوم تبلى السرائر .
ونقل أبو حيان عن ابن عطية قوله : وكل من خالف ذلك إنما فر من أن يكون : " لقادر " هو العامل في الظرف ; لأنه يوهم أن قدرته على رجعه مقيدة بذلك ، ولكن بتأمل أسلوب العرب يعلم جوازه ; لأنه قال : إنه على رجعه لقادر على الإطلاق أولا وآخرا ، وفي كل وقت ، ثم ذكر تعالى وخصص من الأوقات الوقت الأهم [ ص: 494 ] على الكفار ; لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب للتحذير منه . اهـ .
فظهر بذلك أن الضمير في " رجعه " عائد للإنسان ، أي : بعد موته بالبعث ، وأن العامل هو : " لقادر " .
قوله تعالى : يوم تبلى السرائر
تقدم للشيخ - رحمة الله علينا وعليه - بيانه عند الكلام على قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [ 10 \ 30 ] ، وساق عندها هذه الآية ، وسيأتي التصريح به في سورة " العاديات " عند قوله تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور [ 100 \ 9 - 10 ] . وقد أجمل ابتلاء السرائر .
وكذلك أجمل الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بإيراد الآيات .
وذكر المفسرون : أن المراد بها أمانة التكليف فيما لا يعلمه إلا الله ، ومثلوا لذلك : بالحفاظ على الطهارة للصلاة ، وغسل الجنابة ، وحفظ الصوم ، ونحو ذلك . ومنه العقائد وصدق الإيمان أو النفاق ، عياذا بالله .
والسرائر : هي كل ما يخفيه الإنسان حتى في المعاملات مع الناس ، كما في الأثر : " الكيس من كانت له عند الله خبيئة سر " ، وقوله : وأسروا قولكم أو اجهروا به [ 67 \ 13 ] ، فالسر ضد الجهر ، وقال الأحوص :
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ود يوم تبلى السرائر
قال أبو حيان : سمعه الحسن ، فقال : ما أغفله عما في السماء والطارق .
قوله تعالى : فما له من قوة ولا ناصر
قالوا : ليس من قوة في نفسه لضعفه ، ويدل عليه قوله : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة [ 18 \ 48 ] .
وقوله : خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة [ 68 \ 43 ] ، أي : من الضعف وشدة الخوف ، ولا ناصر له من غيره ، كما في قوله : ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا [ 18 \ 43 ] .
[ ص: 495 ] وقوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [ 82 \ 19 ] . .
قوله تعالى : والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع قيل : رجع السماء : إعادة ضوء النجوم والشمس والقمر .
وقيل : " الرجع " : الملائكة ترجع بأعمال العباد .
وقيل : " الرجع " : المطر وأرزاق العباد . " والأرض ذات الصدع " قيل : تنشق عن الخلائق يوم البعث . وقيل : تنشق بالنبات .
والذي يشهد له القرآن : أن الرجع والصدع متقابلان من السماء والأرض : بالمطر والنبات . كما في قوله تعالى : فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا " [ 80 \ 24 - 28 ] . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : إنه لقول فصل : قال ابن كثير : قال ابن عباس : حق . وكذا قال قتادة ، وقال آخرون : حكم عدل . وقال القرطبي : إنه أي القرآن ، يفصل بين الحق والباطل .
وقيل : هو ما تقدم من الوعيد في هذه السورة : إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر [ 86 \ 8 - 9 ] .
وقال أبو حيان بما قال به القرطبي أولا ، ثم جوز أن يكون مرادا به الثاني ، أي : أن الإخبار عن رجع الإنسان يوم تبلى السرائر ، قول فصل ، وهذا ما يفيده كلام ابن جرير ، وعزاه النيسابوري إلى القفال .
وسياق السورة يشهد لهذا القول الثاني ; لأن السورة كلها في معرض إثبات القدرة على البعث ، وإعادة الإنسان بعد الفناء ، حيث تضمنت ثلاثة أدلة من أدلة البعث :
الأول : السماء ذات الطارق ; لعظم خلقتها ، وعظم دلالتها على القدرة .
[ ص: 496 ] الثاني : خلق الإنسان أولا من ماء دافق ، كما في قوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] .
الثالث : مجموع قوله : والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع ، أي : إنزال المطر ، وإنبات النبات وهو إحياء الأرض بعد موتها . فناسب أن يكون الإقسام على تحقق البعث .
وأكد هذا ما جاء بعده من الوعيد بالإمهال رويدا ، وقد سمي يوم القيامة بيوم الفصل ، كما في قوله : لأي يوم أجلت ليوم الفصل وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 12 - 15 ] .
وذكر الويل في هذه الآية للمكذبين ، يعادل الإمهال في هذه السورة للكافرين ، وإذا ربطنا بين القسم والمقسم عليه ، لكان أظهر وأوضح ; لأن رجع الماء بعد فنائه بتلقيح السحاب من جديد ، يعادل رجع الإنسان بعد فنائه في الأرض ، وتشقق الأرض عن النبات يناسب تشققها يوم البعث عن الخلائق . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا نسبة هذا الفعل له تعالى ، قالوا إنه : من باب المقابلة كقوله : ومكروا ومكر الله [ 3 \ 54 ] ، وقوله : إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم [ 2 \ 14 - 15 ] ، وهو في اللغة كقول القائل : لما سئل عن أي الطعام يريد ، وهو عار يريد كسوة :
قالوا اختر طعاما نجد لك طبخة قلت اطبخوا لي جبة وقميصا
وقد اتفق السلف ، أنه لا ينسب إلى الله تعالى على سبيل الإطلاق ، ولا يجوز أن يشتق له منه اسم ، وإنما يطلق في مقابل فعل العباد ; لأنه في غير المقابلة لا يليق بالله تعالى ، وفي معرض المقابلة فهو في غاية العلم والحكمة والقدرة ، والكيد أصله المعاجلة للشيء بقوة .
وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة : والعرب قد تطلق الكيد على المكر ، والعرب قد يسمون المكر كيدا ، قال الله تعالى : أم يريدون كيدا [ 52 \ 42 ] ، وعليه فالكيد هنا لم يبين ، فإذا كان بمعنى المكر ، فقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - [ ص: 497 ] بيان شيء منه عند قوله تعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين [ 3 \ 54 ] ; بأن مكرهم محاولتهم قتل عيسى ، ومكر الله إلقاء الشبه ، أي : شبه عيسى على غير عيسى .
وتقدم قوله تعالى : قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون [ 16 \ 26 ] ، وهذا في قصة النمرود ، فكان مكرهم بنيان الصرح ليصعد إلى السماء ، فكان مكر الله بهم أن تركهم حتى تصاعدوا بالبناء ، فأتى الله بنيانهم من القواعد ، فهدمه عليهم .
وهكذا الكيد هنا ، إنهم يكيدون للإسلام والمسلمين ، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله يكيد لهم بالاستدراج حتى يأتي موعد إهلاكهم ، وقد وقع تحقيقه في بدر ; إذ خرجوا محادة لله ولرسوله ، وفي خيلائهم ومفاخرتهم ، وكيد الله لهم : أن قلل المؤمنين في أعينهم ، حتى طمعوا في القتال ، وأمطر أرض المعركة ، وهم في أرض سبخة ، والمسلمون في أرض رملية فكان زلقا عليهم وثباتا للمؤمنين ، ثم أنزل ملائكته لقتالهم . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا قال الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب ما نصه : هذا الإمهال المذكور هنا ينافيه قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] .
والجواب : أن الإمهال منسوخ بآيات السيف . اهـ .
وهذا ما يفيده كلام الطبري ، وإن لم يصرح به وهو منصوص القرطبي . ولعل في نفس الآية ما يدل على ذلك ، وهو قوله : أمهلهم رويدا ; لأن " رويدا " : بمعنى قليلا ، فقد قيد الإمهال بالقلة ، مما يشعر بمجيء النسخ وأنه ليس نهائيا . والله تعالى أعلم .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْأَعْلَى .
قوله تعالى : سبح اسم ربك الأعلى
تقدم معنى التسبيح ، وهو التنزيه عن كل ما لا يليق ، والأمر بالتسبيح هنا منصب على اسم ربك ، وفي آيات أخر جاء الأمر بتسبيح الله تعالى كقوله : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا [ 76 \ 26 ] . ومثل : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون [ 30 \ 17 ] .
وتسبيح الرب سبحانه كقوله : سبحان ربك رب العزة عما يصفون [ 37 \ 180 ] ، فاختلف في هذه الآية ، هل المراد تسبيح الله سبحانه ، أو المراد تسبيح اسمه تعالى ، كما هو هنا ؟ ثم اختلف في المراد بتسبيح اسم الله تعالى ، وجاءت مسألة الاسم والمسمى .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الواقعة " ، عند قوله تعالى : فسبح باسم ربك العظيم [ 56 \ 96 ] ، قوله : إن الباء هناك داخلة على المفعول كدخولها عليه في قوله : وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا [ 19 \ 25 ] ، وأحال على متقدم في ذلك ، وحكى كلام القرطبي أن الاسم بمعنى المسمى ، واستشهد له من كلام العرب بقول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:38 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (590)
سُورَةُ الْأَعْلَى .
صـ 499 إلى صـ 508
وقال : لا يلزم في نظري أن الاسم بمعنى المسمى هنا ; لإمكان كون المراد نفس الاسم ; لأن أسماء الله ألحد فيها قوم ونزهها آخرون ، ووصفها الله بأنها بالغة غاية الحسن ; لاشتمالها على صفاته الكريمة ، كما في قوله : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها [ 7 \ 180 ] . [ ص: 499 ] وقوله تعالى : أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى [ 17 \ 110 ] . ثم قال : ولسنا نريد أن نذكر كلام المتكلمين في الاسم والمسمى : هل الاسم هو المسمى أو لا ؟ لأن مرادنا هنا بيان معنى الآية . اهـ .
فتضمن كلامه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - احتمال كون المراد : تنزيه اسم الله عما ألحد فيه الملحدون ، كاحتمال تنزيه الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله ، كما تضمن عدم لزوم كون الاسم هنا بمعنى المسمى ، ولعلنا نورد مجمل بيان تلك النقاط . إن شاء الله .
أما تنزيه أسماء الله فهو على عدة معان ، منها : تنزيهها عن إطلاقها على الأصنام : كاللات ، والعزى ، واسم الآلهة .
ومنها : تنزيهها عن اللهو بها واللعب ، كالتلفظ بها في حالة تنافي الخشوع والإجلال : كمن يعبث بها ويلهو ، ونظيره من يلهو ويسهو عن صلاته : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون [ 107 \ 4 - 5 ] ، أو وضعها في غير مواضعها : كنقش الثوب ، أو الفراش الممتهن .
ومنها : تنزيهها عن المواطن غير الطاهرة ، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء نزع خاتمه ; لما فيه من نقش محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومنه : صيانة الأوراق المكتوبة من الابتذال صونا لاسم الله .
وعلى هذا تكون هذه الآية موضحة لآية " الواقعة " ، وأن اسم ربك واقع موقع المفعول به ، وهو المراد بالتسبيح ، وعلى أن المراد تسبيح الله تعالى ، ، فقالوا : إن الاسم هو المسمى ، كما قال القرطبي وغيره ، وقالوا : الاسم صلة ، كما في بيت لبيد المتقدم .
أما مسألة الاسم : هل هو عين المسمى أم لا ؟ فقد أشار إليها الفخر الرازي ، وقال : إنه وصف ركيك .
أما قول الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - : ولا يلزم في نظري كون الاسم بمعنى المسمى هنا ، فإنه بلازم إلى بسط قليل ; ليظهر صحة ما قاله .
[ ص: 500 ] وقد ناقشها الرازي بعد مقدمة ، قال فيها : من الناس من تمسك بهذه الآية ، في أن الاسم نفس المسمى .
فأقول : إن الخوض في الاستدلال لا يمكن إلا بعد تلخيص محل النزاع ، فلا بد ها هنا من بيان أن الاسم ما هو ؟ والمسمى ما هو ؟
فنقول : إن كان المراد من الاسم هو هذا اللفظ ، وبالمسمى تلك الذات ، فالعاقل لا يمكن أن يقول : الاسم هو المسمى ، وإن كان المراد من الاسم هو تلك الذات ، وبالمسمى أيضا تلك الذات . كان قولنا : الاسم نفس المسمى ; هو أن تلك الذات هي تلك الذات . وهذا لا يمكن أن ينازع فيه عاقل ، فعلمنا أن هذه المسألة في وصفها ركيكة ، وذكر الاشتباه على المتأخرين ; بسبب لفظ الاسم الذي هو قسيم الفعل والحرف ، إذ هو مراد المتقدمين في إطلاقه وإرادة مسماه .
ومن هنا تعلم لماذا أعرض الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عن بيانها ؟ وقد أوردنا هذا البيان المجمل ; لنطلع القارئ إليه ، وعلى كل تقدير عند المتقدمين أو المتأخرين ; فإنه إن وقع الاحتمال في الذوات الأخرى ، فلا يقع في ذات الله وأسمائه ; لأن لأسماء الله أحكاما لا لأسماء الآخرين ، ولأسمائه سبحانه حق التسبيح والتنزيه ، والدعاء بها . كما تقدم .
وهنا وجهة نظر لم أر من صرح بها ، ولكن قد تفهم من كلام بعض المفسرين ، وتشير إليها السنة . وهي : أن يكون التسبيح هنا بمعنى الذكر والتعبد : كالتحميد ، والتهليل ، والتكبير .
وقد جاء في كلام الرازي قوله : ويكون المعنى سبح ربك بذكر أسمائه ، ونحوه في بعض نقول الطبري .
أما إشارة السنة إلى ذلك ، فقد روى الطبري وغيره عنه - صلى الله عليه وسلم - : أنها لما نزلت ، قال - صلى الله عليه وسلم - بعد أن قرأها : " سبحان ربي الأعلى " .
وكذلك ما روي : أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت : فسبح باسم ربك العظيم [ 56 \ 74 ] ، قال : " اجعلوها في ركوعكم " ولما نزلت هذه ، قال : " اجعلوها في سجودكم " .
[ ص: 501 ] وساق القرطبي أثرا طويلا في فضلها في الصلاة وخارج الصلاة ، لكنه ليس بصحيح .
وجاء الحديث الصحيح : " وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ، وتكبرون ثلاثا وثلاثين ، وتختمون المائة بلا إله إلا الله " .
وقد صح عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة ، بعد أن نزلت عليه : إذا جاء نصر الله والفتح [ 110 \ 1 ] ، إلا يقول : " سبحانك ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي " ، وقالت : يتأول القرآن .
وقالت أم سلمة : " إنه كان يقولها في قيامه وقعوده ، ومجيئه وذهابه - صلى الله عليه وسلم - فيكون : " سبح اسم ربك " : أي : اذكر ربك .
وهذا ما دلت عليه الآية الأخرى في هذه السورة نفسها في قوله تعالى : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى
[ 87 \ 14 - 15 ] ، فصرح بذكر اسم ربك ، كما جاء سبح اسم ربك ، فوضع الذكر موضع التسبيح ، وهو ما أشرنا إليه . وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : الذي خلق فسوى
أطلق الخلق ; ليعم كل مخلوق كما تقدم في " السجدة " ، " الذي أحسن كل شيء خلقه " [ 32 \ 7 ] ، والتسوية : التقويم والتعديل ، وقد خلق الله كل مخلوق مستو على أحسن ما يتناسب لخلقته وما خلق له ، فخلق السموات فسواها في أقوى بناء ، وأعلى سمك ، وأشد تماسك ، لا ترى فيها من تشقق ولا فطور ، وزينها بالنجوم ، وخلق الأرض ودحاها ، وأخرج منها ماءها ومرعاها ، والجبال أرساها وجعلها فراشا ومهادا ، وخلق الأشجار فسواها على ما تصلح له من ذوات الثمار ، ووقود النار ، وغير ذلك .
وهذه الحيوانات في خلقتها وتسويتها آية : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت [ 88 \ 17 - 20 ] .
أما الإنسان فهو في أحسن تقويم ، كل ذلك مما يستوجب حقا له سبحانه أن يسبح [ ص: 502 ] اسمه في ذاته ، وجميع صفاته ، حيث جمع بين الخلق والتسوية ، فلكمال القدرة والتنزيه عن كل نقص .
قوله تعالى : والذي قدر فهدى
أطلق هنا التقدير ; ليعم كل مقدور ، وهو عائد على كل مخلوق ; لأن من لوازم الخلق التقدير ، كما قال تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] ، وقوله : قد جعل الله لكل شيء قدرا [ 65 \ 3 ] ، وهذه الآية ومثيلاتها من أعظم آيات القدرة ، وقد جمعها تعالى عند التعريف التام لله تعالى ، لما سأل فرعون نبي الله موسى عن ربه ، قال : فمن ربكما ياموسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [ 20 \ 49 - 50 ] .
وقد تقدم بيان عموم قوله تعالى : الذي خلق فسوى [ 87 \ 2 ] ، وهنا قدر كل ما خلق ، وهدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، ففي العالم العلوي قدر مقادير الأمور ، وهدى الملائكة لتنفيذها ، وقدر مسير الأفلاك ، وهداها إلى ما قدر لها : " كل في فلك يسبحون " [ 21 \ 33 ] .
وفي الأشجار والنباتات ; قدر لها أزمنة معينة في إيتائها وهدايتها إلى ما قدر لها ، فالجذر ينزل إلى أسفل والنبتة تنمو إلى أعلى ، وهكذا الحيوانات في تلقيحها ، ونتاجها ، وإرضاعها . كل قد هداه إلى ما قدر له ، وهكذا الإنسان .
وقد قال الفخر الرازي : إن العالم كله داخل تحت منطوق هذه الآية .
أما معناها بالتفصيل ، فتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " طه " عند الكلام على قوله تعالى : قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى [ 20 \ 50 ] .
قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - معنى : نقرئك في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [ 20 \ 114 ] ، وبينه بآية " القيامة " : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 ] .
[ ص: 503 ] وقوله : " فلا تنسى " : بحثه - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب مع ما ينسخ من الآيات فينساه .
وسيطبع - إن شاء الله تعالى - مع هذه التتمة ، تتمة للفائدة .
قوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى
هل : إن هنا بمعنى إذ أو أنها شرطية ؟ وهل للشرط مفهوم مخالفة أم لا ؟ كل ذلك بحثه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بتوسع في دفع إيهام الاضطراب ، ورجح أنها شرطية ، وقسم المدعو إلى ثلاثة أقسام : مقطوع بنفعه ، ومقطوع بعدم نفعه ، ومحتمل ، وقال : محل التذكير ما لم يكن مقطوعا بعدم نفعه ، كمن بين له مرارا فأعرض ، كأبي لهب ، وقد أخبر الله عنه بمآله فلا نفع في تذكيره .
قوله تعالى : سيذكر من يخشى
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الحكمة من الذكرى .
ومنها تذكير المؤمنين ، وذلك في الكلام على قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 \ 55 ] ، في سورة " الذاريات " .
قوله تعالى : ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى
أي : بسبب شقائهم السابق أزلا ، كما قال تعالى : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق [ 11 \ 106 ] .
قوله تعالى : ثم لا يموت فيها ولا يحيا
نفى عنه الضدين ; لأن الإنسان بالذات إما حي وإما ميت ، ولا واسطة بينهما ، ولكن في يوم القيامة تتغير الموازين والمعايير ، وهذا أبلغ في التعذيب ، إذ لو مات لاستراح ، ومع أنه يتلقى من العذاب ما لا حياة معه ، كما في قوله تعالى : لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وقوله ( ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ) [ 35 \ 36 ] . وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى ذلك في سورة " طه " عند الكلام [ ص: 504 ] على قوله تعالى : إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 \ 74 ] .
قوله تعالى : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى أسند الفلاح هنا إلى : " من تزكى وذكر اسم ربه فصلى " وفي غير هذه الآية أسند التزكية لمشيئة الله في قوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا
[ 24 \ 21 ] ، وفي آية أخرى ، نهى عن تزكية النفس .
وقد تقدم للشيخ بيان ذلك في سورة " النور " عند الكلام على قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد على أن " زكا " بمعنى تطهر من الشكر والمعاصي ، لا على أنه أخرج الزكاة ، والذي يظهر أن آية " النجم " إنما نهى فيها عن تزكية النفس ; لما فيه من امتداحها ، وقد لا يكون صحيحا كما في سورة " الحجرات " : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ 49 \ 14 ] والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى قرئ : " تؤثرون " بالتاء وبالياء راجعا إلى الأشقى الذي يصلى النار الكبرى [ 87 \ 11 - 12 ] ، وعلى أنها بالتاء للخطاب أعم ، وحيث إن هذا الأمر عام في الأمم الماضية ، ويذكر في الصحف الأولى كلها عامة ، وفي صحف إبراهيم وموسى ، مما يدل على خطورته ، وأنه أمر غالب على الناس .
وقد جاءت آيات دالة على أسباب ذلك منها : الجهل ، وعدم العلم بالحقائق ، كما في قوله تعالى : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] ، أي : الحياة الدائمة .
وقد روى القرطبي عن مالك بن دينار قوله : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ، لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى ، فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى ؟
ومن أسباب ذلك أن الدنيا زينت للناس ، وعجلت لهم كما في قوله : [ ص: 505 ] زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث [ 3 \ 14 ] .
ثم قال : ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب [ 3 \ 14 ] .
وبين تعالى هذا المآب الحسن وهو في وصفه يقابل : والآخرة خير وأبقى ، فقال : قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد [ 3 \ 15 ] .
تأمل هذا البديل ، ففي الدنيا : ذهب ، وخيل ، ونساء ، والأنعام ، والحرث ، وقد قابل ذلك كله بالجنة ; فعمت وشملت . ولكن نص على أزواج مطهرة ; ليعرف الفرق بين نساء الدنيا ونساء الآخرة ، كما تقدم في : وأنهار من عسل مصفى ، ولبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وخمر لذة للشاربين ، لا يصدعون عنها ولا ينزفون [ 56 \ 19 ] ، وغير ذلك مما ينص على الخيرية في الآخرة .
ولا شك أن من آثر الآخرة غالب على من آثر الدنيا ، وظاهر عليه ، كما صرح تعالى بذلك في قوله : زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير حساب [ 2 \ 212 ] .
فمن هذا ; يظهر أن أسباب إيثار الناس للحياة الدنيا ، هو تزيينها وزخرفتها في أعينهم : بالمال ، والبنين ، والخيل ، والأنعام : المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا [ 18 \ 46 ] .
وقد سيق هذا ، لا على سبيل الإخبار بالواقع فحسب ، بل إن من ورائه ما يسمى لازم الفائدة ، وهو ذم من كان هذا حاله ، فوجب البحث عن العلاج لهذه الحالة .
وإذا ذهبنا نتطلب العلاج ، فإننا في الواقع نواجه أخطر موضوع على الإنسان ; لأنه يشمل حياته الدنيا ومآله في الآخرة ، ويتحكم في سعادته وفوزه ، أو شقاوته وحرمانه ، وإن أقرب مأخذ لنا لهو هذا الموطن بالذات من هذه السورة ، وهو بضميمة ما قبلها إليها من قوله تعالى : سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى [ 87 \ 10 - 12 ] ، وبعدها قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 14 - 6 ] [ ص: 506 ] فقد قسمت هذه الآيات الأمة كلها أمة الدعوة إلى قسمين .
أما التذكير والإنذار ، إذ قال تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى [ 87 \ 9 ] ، فهذا موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء تقسيم الأمة إلى القسمين في الآيتين : سيذكر من يخشى : فينتفع بالذكرى وتنفعه : ويتجنبها الأشقى ، فلا تنفعه ولا ينتفع بها ، ثم جاء الحكم بالفلاح : قد أفلح من تزكى ، أي : من يخشى وذكر اسم ربه فصلى ، ولم يغفل عن ذكر الله تعالى ، وهذا الموقف بنفسه هو المفصل في سورة " الحديد " ، وفي معرض التوجيه لنا والتوبيخ للأمم الماضية أيضا : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 16 ] .
فقسوة القلب ، وطول الأمد والتسويف : هي العوامل الأساسية للغفلة وإيثار الدنيا . والخشية والذكر : هي العوامل الأساسية لإيثار الآخرة ، ثم عرض الدنيا في حقيقتها بقوله : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث إلى قوله والله ذو الفضل العظيم [ 57 \ 20 - 21 ] .
فوصف الداء والدواء معا في هذا السياق . فالداء : هو الغرور ، والدواء : هو المسابقة إلى مغفرة من الله ورضوانه .
وقوله : إن هذا لفي الصحف الأولى ، قيل : اسم الإشارة راجع إلى السورة كلها ; لتضمنها معنى التوحيد والمعاد ، والذكر ، والعبادات . والصحف الأولى : هي " صحف إبراهيم وموسى " ، على أنها بدل من الأولى .
وجاء عند القرطبي : أن صحف إبراهيم كانت أمثالا ، وصحف موسى كانت مواعظ ، وذكر نماذج لها .
وعند الفخر الرازي من رواية أبي ذر - رضي الله عنه - : أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كم أنزل الله من كتاب ؟ فقال : مائة وأربعة كتب : على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان " .
[ ص: 507 ] وفي هذا نص على أن في القرآن مما في الصحف الأولى ، وقد جاء ما يدل أن معان أخرى كذلك في صحف إبراهيم وموسى كما في سورة " النجم " في قوله : أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى [ 53 \ 36 - 40 ] .
وهذا يؤيد أنها أكثرها أمثالا ومواعظ ، كما يؤكد ترابط الكتب السماوية .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْغَاشِيَةِ .
قوله تعالى : هل أتاك حديث الغاشية وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع
الكلام في هل هنا ، كالكلام في هل التي في أول سورة " الإنسان " ، أنها استفهامية أو أنها بمعنى قد ؟
ورجح أبو السعود وغيره : أنها استفهامية ; للفت النظر ، وشدة التعجب ، والتنويه بشأن هذا الحديث ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال - رضي الله عنه - : " لم يكن أتاه فأخبره به " وحديث الغاشية هو خبرها الذي يتحدث عنها .
والغاشية قال أبو حيان : أصلها في اللغة : الداهية تغشى الناس ، واختلف في المراد بها هنا ، فقيل : يوم القيامة .
وقيل : النار . واستدل كل قائل بنصوص . فمن الأول قوله : يوم يغشاهم العذاب [ 29 \ 55 ] .
قال الفخر الرازي : وإنما سميت القيامة بهذا الاسم ; لأن ما أحاط بالشيء من جميع جهاته فهو غاش له ، والقيامة كذلك من وجوه :
الأول : أنها ترد على الخلق بغتة ، وهو كقوله : أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة [ 12 \ 107 ] .
والثاني : أنها تغشى الناس جميعا من الأولين والآخرين .
والثالث : أنها تغشى الناس بالأهوال والشدائد .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:39 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (591)
سُورَةُ الْغَاشِيَةِ .
صـ 509 إلى صـ 518
[ ص: 509 ] ومن استدلالهم على أنها النار ، قوله تعالى : وتغشى وجوههم النار [ 14 \ 50 ] .
وقيل : الغاشية أهل النار يغشونها ، أي : يدخلونها ، فالغاشية كالدافة في حديث الأضاحي .
وقال الطبري : والراجح عندي أن الله تعالى أطلق ليعم ، فيجب أن تطلق ; ليعم أيضا .
والذي يظهر رجحانه - والله تعالى أعلم - : أنها في عموم القيامة ، وليس في خصوص النار ; فالنار من أهوال ودواهي القيامة ، وهو ما يشهد له القرآن في هذا السياق من عدة وجوه ، ومنها :
أنه جاء بعدها قوله : وجوه يومئذ [ 88 \ 2 ] ، ويوم أنسب للقيامة منه للنار .
ومنها : التصريح بعد ذلك ; بأن من كانت تلك صفاتهم : " تصلى نارا حامية " ، مما يدل على أن الغاشية شيء آخر سوى النار الحامية .
ومنها : أن التعميم ليوم القيامة يشمل جميع الخلائق ، وهو الأنسب بالموقف ، ثم ينجي الله الذين اتقوا .
وقد بين تعالى قسيم هذا الصنف ، مما يدل على أن الحديث المراد إلغاؤه ، إنما هو عن حالة عموم الموقف .
قوله تعالى : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية الآيات . اتفقوا على أن " يومئذ " يعني : يوم القيامة .
وقال أبو حيان : والتنوين فيه تنوين عوض . وهو تنوين عوض عن جملة ، ولم تتقدم جملة تصلح أن يكون التنوين عوضا عنها ، ولكن لما تقدم لفظ الغاشية . وأل موصولة باسم الفاعل ، فتنحل للتي غشيت ، أي : للداهية التي غشيت ، فالتنوين عوض من هذه الجملة التي انحل لفظ الغاشية إليها ، وإلى الموصول الذي هو التي ، وهذا مما يرجح ويؤيد ما قدمناه ، من أن الغاشية هي القيامة [ ص: 510 ]
" وجوه يومئذ خاشعة " ، بمعنى : ذليلة . قال أبو السعود : هذا وما بعده وقع جوابا عن سؤال ، نشأ من الاستفهام التشويقي المتقدم ، كأنه قيل من جانبه - صلى الله عليه وسلم - : " ما أتاني حديثها " ، فأخبره الله تعالى . فقال : " وجوه " إلخ .
قال : ولا بأس بتنكيرها ; لأنها في موقع التنويع ، أي : سوغ الابتداء بالنكرة كونها في موقع التنويع : وجوه كذا ، ووجوه كذا .
وخاشعة : خبر المبتدأ ، أي : وما بعده من صفاتهم .
وقوله : عاملة ناصبة العمل معروف ، والنصب : التعب ، وقد اختلف في زمن العمل والنصب هذين : هل هو كان منها في الدنيا أم هو واقع منهم فعلا في الآخرة ؟ وما هو على كلا التقديرين : فالذين قالوا : هو كان منهم في الدنيا ، منهم من قال : عمل ونصب في العبادات الفاسدة : كعمل الرهبان والقسيسين والمبتدعة الضالين ، فلم ينفعهم يوم القيامة ، أي : كما في قوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] .
ومنهم من قال : عمل ونصب والتذ ، فيما لا يرضي الله ، فعامله الله بنقيض قصده في الآخرة ، ولكن هذا الوجه ضعفه ظاهر ; لأن من هذه حالهم لا يعدون في عمل ونصب ، بل في متعة ولذة .
والذين قالوا : سيقع منهم بالفعل يوم القيامة ، اتفقوا على أنه عمل ونصب في النار من جر السلاسل ، عياذا بالله ، وصعودهم وهبوطهم الوهاد والوديان ، أي : كما في قوله : سأرهقه صعودا [ 74 \ 17 ] ، وقوله : ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا [ 72 \ 17 ] .
وقد ذكر الفخر الرازي تقسيما ثلاثيا ، فقال : إما أن يكون ذلك كله في الدنيا أو كله في الآخرة ، أو بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة ، ولم يرجح قسما منها إلا أن وجه القول : بأنها في الدنيا وهي في القسيسين ونحوهم . فقال : لما نصبوا في عبادة إله وصفوه بما ليس متصفا به ، وإنما تخيلوه تخيلا ، أي بقولهم : ثالث ثلاثة [ 5 \ 73 ] ، وقولهم : عزير ابن الله [ 9 \ 30 ] ، فكانت عبادتهم لتلك الذات المتخيلة لا لحقيقة الإله سبحانه .
[ ص: 511 ] ولا يبعد أن يقال على هذا الوجه : إن من كان ممن لا ينطق بالشهادتين ، ويعمل على جهالة فيما لا يعذر بجهله أن يخشى عليه من هذه الآية ، كما يخشى على من يعمل على علم ، ولكن في بدعة وضلالة .
ومما يشهد للأول حديث المسيء صلاته . ولأثر حذيفة : " رأى رجلا يصلي فطفق ، فقال له : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال : منذ أربعين سنة . قال له : ما صليت منذ أربعين سنة ، ولو مت على ذلك ، مت على غير فطرة محمد - صلى الله عليه وسلم - " .
والأحاديث الواردة في ذلك على سبيل العمومات ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملا ليس عليه أمري فهو رد " أي : مردود .
وحديث الحوض : " فيذاد أقوام عن حوضي ، فأقول : أمتي أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك ; إنهم غيروا وبدلوا " .
ونحو ذلك مما يوجب الانتباه إلى صحة العمل ، وموافقته لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وكذلك القسم الثاني ، كما في قوله : قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم الآية [ 18 \ 103 - 104 ] .
أما الراجح من القولين في زمن : عاملة ناصبة في صبة أهو في الدنيا أم في الآخرة ؟ فإنه القول بيوم القيامة ، وهو مروي عن ابن عباس وجماعة ، والأدلة على ذلك من نفس السياق .
ولابن تيمية كلام جيد جدا في هذا الترجيح ، ولم أقف على قول لغيره أقوى منه ، نسوق مجمله للفائدة :
قال في المجموع في تفسير هذه السورة بعد حكاية القولين : الحق هو الثاني لوجوه ، وساق سبعة وجوه :
الأول : أنه على القول الثاني يتعلق الظرف بما يليه ، أي : وجوه يوم الغاشية ، خاشعة عاملة ناصبة صالية . أما على القول الأول فلا يتعلق إلا بقوله : " تصلى " . ويكون قوله : " خاشعة " صفة للوجوه ، قد فصل بينها وبين الموصوف بأجنبي متعلق بصفة أخرى . والتقدير : وجوه [ ص: 512 ] خاشعة عاملة ناصبة يومئذ تصلى نارا حامية ، والتقديم والتأخير على خلاف الأصل ، فالأصل إقرار الكلام على نظمه وترتيبه ، لا تغيير ترتيبه ، والتقديم والتأخير إنما يكون مع قرينة .
والثاني : أن الله ذكر وجوه الأشقياء ووجوه السعداء في السورة بعد ذلك : وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية [ 88 \ 8 - 10 ] ، أي : في ذلك اليوم ، وهو يوم الآخرة : فالواجب تناظر القسمين ، أي : في الظرف .
الثالث : أن نظير هذين القسمين ما ذكر في موضع آخر في قوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة [ 75 \ 22 - 25 ] ، وفي موضع آخر في قوله : وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة [ 80 \ 38 - 42 ] ، وهذا كله وصف للوجوه في الآخرة .
الرابع : أن المراد بالوجوه أصحابها ; لأن الغالب في القرآن وصف الوجوه بالعلامة كقوله : سيماهم في وجوههم [ 48 \ 29 ] ، وقوله : فلعرفتهم بسيماهم [ 47 \ 30 ] ، وهذا الوجه لم تتضح دلالته على المقصود .
الخامس : أن قوله : " خاشعة عاملة ناصبة " ، لو جعل صفة لهم في الدنيا لم يكن في هذا اللفظ ذم ; فإن هذا إلى المدح أقرب ، وغايته أنه وصف مشترك بين عباده المؤمنين وعباده الكافرين ، والذم لا يكون بالوصف المشترك ، ولو أريد المختص لقيل : خاشعة للأوثان مثلا ، عاملة لغير الله ، ناصبة في طاعة الشيطان ، وليس في القرآن ذم لهذا الوصف مطلقا ولا وعيد عليه ، فحمله على هذا المعنى خروج عن الخطاب المعروف في القرآن ، وهذا الوجه من أقواها في المعنى ، وأوضحها دلالة .
وقد يشهد له أن هؤلاء قد يكون منهم العوام المغرورون بغيرهم ، ويندمون غاية الندم يوم القيامة على اتباعهم إياهم ، كما في قوله تعالى : وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين [ 41 \ 29 ] .
السادس : - وهو مهم أيضا - أنه لو جعل لهم في الدنيا ; لكان خاصا ببعض الكفار دون [ ص: 513 ] بعض ، وكان مختصا بالعباد منهم ، مع أن غير العباد منهم يكونون أسوأ عملا ، ويستوجبون أشد عقوبة .
السابع : أن هذا الخطاب لو جعل لهم في الدنيا ; لكان مثله ينفر من أصل العبادة والتنسك ابتداء ، أي : وقد جاءت السنة بترك أصحاب الصوامع والمتنسكين ، دون التعرض لهم بقتل ولا قتال ، كما أنها أقرت أصحاب الديانات على دياناتهم ، مما يشعر باحترام أصل التعبد لعموم الجنس ، كما أشار .
وقد أوردنا مجمل كلامه - رحمه الله - ; لئلا تتخذ الآية على غير ما هو الراجح فيها ، أو يحمل السياق على غير ما سيق له ، وقد ختم كلامه بتوجيه لطيف بقوله : ثم إذا قيد ذلك بعبادة الكفار والمبتدعة ، وليس في الخطاب تقييد ، كان هذا سعيا في إصلاح الخطاب بما لم يذكر فيه . اهـ .
ومن الذي يعطي نفسه حق إصلاح الخطاب في كلام رب العالمين ، إنها لفتة إلى ضرورة ومدى أهمية تفسير القرآن بالقرآن ، الذي نهجه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن .
وقد بدا لي وجه آخر ، وهو لو جعل هذا العمل الكفار والمبتدعة ; لكان منطوقه : أن العذاب وقع عليهم مجازاة على عملهم ونصبهم في عبادتهم تلك ، والحال أن عذاب الكفار عموما إنما هو على ترك العمل لله وحده ، وعقاب المبتدعة فيما ابتدعوه من ضلال ، فإذا كان ما ابتدعوه لا علاقة له بأركان الإسلام ولا بالعقيدة ، وإنما هو في فروع من العبادات ابتدعوها لم تكن في السنة ، فإنهم وإن عملوا ونصبوا فلا أجر لهم فيها ، ولا يقال : إنهم يعذبون عليها بطل ذلك المذكور مع سلامة العقيدة في التوحيد ، والقيام بالواجب في أركان الإسلام ، إذ العذاب المذكور ليس مقابلا بالعمل والنصب المذكور . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : تسقى من عين آنية
قيل : حاضرة ، وقيل : شديدة الحرارة ، وهذا الأخير هو ما يشهد له القرآن في قوله تعالى : يطوفون بينها وبين حميم آن ، ومعلوم أن الحميم شديد الحرارة ، كما أن حملها على معنى حاضرة لم يكن فيه بيان معنى ما في تلك العين من أنواع الشراب [ ص: 514 ] المعد والمحضر لهم ، وفي المعجم : " حميم آن " : قد انتهى حره ، والفعل : أنى الماء المسخن يأني بكسر النون . قال عباس :
علانية والخيل يغشى متونها حميم وآن من دم الجوف ناقع
قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع
تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الجمع بينه وبين قوله تعالى : فليس له اليوم هاهنا حميم ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 35 - 36 ] ، وبين الصحيح من معنى الضريع ما هو ، وأنه نبت معروف للعرب ، وهو على الحقيقة لا المجاز .
وقد أورد الفخر الرازي سؤالا والجواب عليه ، وهو : كيف ينبت الضريع في النار ؟ فأجاب بالإحالة على تصور : كيف يبقى جسم الكفار حيا في النار ؟ وكذلك الحيات والعقارب في النار .
وهذا وإن كان وجيها من حيث منطق القدرة ، ولكن القرآن قد صرح بأن النار فيها شجرة الزقوم ، وأنها فتنة للظالمين في قوله : أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم إنا جعلناها فتنة للظالمين إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم طلعها كأنه رءوس الشياطين فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون [ 37 \ 62 - 66 ] ، فأثبت شجرة تخرج في أصل الجحيم ، وأثبت لها لازمها وهو : طلعها في تلك الصورة البشعة ، وأثبت لازم اللازم وهو : أكلهم منها حتى ملء البطون .
والحق أن هذا السؤال وجوابه قد أثاره المبطلون ، ولكن غاية ما في الأمر سلب خاصية الإحراق في النار عن النبات ، وليس هذا ببعيد على قدرة من خلق النار وجعل لها الخاصية .
وقد وجد نظيره في الدنيا فتلك نار النمروذ ، كانت تحرق الطير في الجو إذا اقترب منها ، وعجزوا عن الدنو إليها ; ليلقوا فيها إبراهيم ووضعوه في المنجنيق ورموه من بعيد ، ومع ذلك حفظه الله منها بقوله تعالى لها : كوني بردا وسلاما على إبراهيم [ 21 \ 69 ] ، فسبحان من بيده ملكوت كل شيء .
قوله تعالى : وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة [ ص: 515 ] وهذا هو قسيم القسم الأول في بيان حال أهل الجنة ، ولم يعطف بالواو ; إيذانا بكمال تباين مضمونيهما . و " يومئذ " : هو يوم الغاشية المتقدم ، وهذا يقتضي أن الغاشية عامة في الفريقين . وإن اختلفت أحوالها مع مختلف الناس ، وعليه فمنهم من تغشاه بهولها ، ومنهم من تغشاه بنعيمها . وهي بالنسبة لكل منهما متناهية فيما تغشاهم به ، وهي صادقة على الفريقين .
ومعلوم أن الغاشية تطلق على الخير كما تطلق على الشر ، بمعنى الشمول والإحاطة التامة . ومن إطلاقها على الخير ما جاء في الحديث : " ما جلس قوم مجلسا يذكرون الله تعالى فيه إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ، وذكرهم الله فيمن عنده " أخرجه مسلم .
وبيان ذلك وتحقيقه في حق كلا القسمين كالآتي :
أما الأول منهما : - وهو الغاشية في حق أهل النار - فقد غشيهم العذاب حسا ومعنى ، ظاهرا وباطنا أو لا خشوع في ذلة ، وهي ناحية نفسية ، وهي أثقل أحيانا من الناحية المادية ، فقد يختار بعض الناس الموت عنها ، ثم مع الذلة العمل والنصب حسا وبدنا ، ومع النصب الشديد " تصلى نارا حامية " وكان يكفي تصلى نارا . ولكن إتباعها بوصفها حامية ; فهو زيادة في إبراز عذابهم ، وزيادة في غشيان العذاب لهم ، ثم يسقون " من عين آنية " : متناهية في الحرارة ; فيكونون بين نار حامية من الخارج وحميم من الداخل تصهر منه البطون ، فهو أتم في الشمول للغاشية لهم من جميع الوجوه ، وفي حق القسم المقابل تعميم كامل وسرور شامل كالآتي ، وجوه ناعمة مكتملة النعمة ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم .
وهذا في شموله من الناحية المعنوية ، كمقابلة في القسم الأول بدلا من خاشعة في ذلة ناعمة في نضرة " لسعيها راضية " الذي سعته في الدنيا ، والذي تسعى لتحصيله أو ثوابه " في جنة عالية " بدلا من عمل ونصب . " لا تسمع فيها لاغية " : منزلة أدبية رفيعة ; حيث لا تسمع فيها كلمة لغو ولا يليق بها ، فهو إكرام لهم حتى في الكلمة التي يسمعونها ، كما في قوله : [ ص: 516 ] لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما [ 56 \ 25 - 26 ] .
فيها عين جارية
ومعلوم أنها عيون وأنهار تجري ، كقوله : في جنات وعيون [ 15 \ 45 ] ، ومن لوازم العيون والأنهار ، هو كمال النعيم ، فأشجار ورياحين ، فروح وريحان وجنة نعيم . وهذا في التعميم يقابل العين الآنية في الحميم للقسم الأول .
" فيها سرر مرفوعة " وهم عليها متكئون ، بدل من عمل الآخرين في نصب وشقاء .
" وأكواب موضوعة " لإتمام التمتع وكمال الخدمة والرفاهية . " ونمارق مصفوفة " متكأ " وزرابي مبثوثة " مفروشة في كل مكان ، فاكتمل النعيم من كل جانب ، حيث اشتمل ما تراه العين وما تسمعه الأذن ، وما يتذوقون طعمه من شراب وغيره .
فيكون بذلك قد غشيتهم النعمة ، كما غشيت أولئك النقمة ، وتكون الغاشية بمعنى الشاملة ، وعلى عمومها للفريقين ، وهي صالحة لغة وشرعا للمعذبين بالعذاب ، وللمنعمين بالنعيم . وبالله تعالى التوفيق .
تنبيه .
مجيء فيها مرتين : فيها عين جارية ، فيها سرر مرفوعة ; للدلالة على قسمي نعيم الجنة . الأول : عيون ونزهة . والثاني : سرر وسكن .
قوله تعالى : أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت فذكر إنما أنت مذكر
توجيه الأنظار إلى تلك المذكورات الأربعة ; لما فيها من عظيم الدلائل على القدرة ، وعلى البعث ، وثم الإقرار لله تعالى بالوحدانية والألوهية ، نتيجة لإثبات ربوبيته تعالى لجميع خلقه .
أما الإبل : فلعلها أقرب المعلومات للعرب ، وألصقها بحياتهم في مطعمهم من لحمها ومشربهم من ألبانها ، وملبسهم من أوبارها وجلودها ، وفي حلهم وترحالهم بالحمل عليها ، مما لا يوجد في غيرها في العالم كله لا في الخيل ولا في الفيلة ، ولا في أي حيوان آخر ، وقد وجه الأنظار إليها مع غيرها في معرض امتنانه تعالى عليهم في قوله : [ ص: 517 ] أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون [ 36 \ 71 - 73 ] .
وكذلك في خصوصها في قوله : والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 5 - 7 ] .
إنها نعم متعددة ومنافع بالغة لم توجد في سواها البتة ، وكل منها دليل على القدرة بذاته . أما الجبال : فهي مما يملأ عيونهم في كل وقت ، ويشغل تفكيرهم في كل حين ; لقربها من حياتهم في الأمطار والمرعى في سهولها ، والمقيل في كهوفها وظلها ، والرهبة والعظمة في تطاولها وثباتها في مكانها . وقد وجه الأنظار إليها أيضا في موطن آخر في قوله تعالى : ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا [ 78 \ 6 - 7 ] ، ثوابت كما بين تعالى أنها رواسي للأرض أن تميد بكم والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم فهي مرتبطة بحياتهم وحياة أنعامهم كما أسلفنا .
أما السماء ورفعها : أي : ورفعتها في خلقها ، وبدون عمد ترونها ، وبدون فطور أو تشقق على تطاول زمنها ، فهي أيضا محط أنظارهم ، وملتقى طلباتهم في سقيا أنعامهم .
ومعلوم أن خلق السماء والأرض من آيات الله الدالة على البعث ، كما تقدم مرارا .
وتقدم للشيخ عند قوله تعالى : إن في خلق السماوات والأرض الآية [ 2 \ 164 ] . بيان كونها آية . أما الأرض وكيف سطحت ، فإن الآية فيها مع عمومها كما في قوله : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] .
وقوله : كيف سطحت [ 88 \ 20 ] آية ثابتة ; لأن جرمها مع إجماع المفسرين على تكويرها ، فإنها ترى مسطحة ، أي : من النقطة التي هي في امتداد البصر ، وذلك يدل على سعتها وكبر حجمها ; لأن الجرم المتكور إذا بلغ من الكبر والضخامة حدا بعيدا يكاد سطحه يرى مسطحا من نقطة النظر إليه ، وفي كل ذلك آيات متعددات للدلالة على قدرته تعالى على بعث الخلائق ، وعلى إيقاع ما يغشاهم على مختلف أحوالهم .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - التنبيه على هذا المعنى ، عند الكلام على [ ص: 518 ]
قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض [ 10 \ 101 ] . الآية من سورة " يونس " .
تنبيه .
التوجيه هنا بالنظر إلى الكيفية في خلق الإبل ، ونصب الجبال ، ورفع السماء ، وتسطيح الأرض ، مع أن الكيف للحالة ، والله تعالى لم يشهد أحدا على شيء من ذلك كله : ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض [ 18 \ 51 ] . فكيف يوجه السؤال إليهم للنظر إلى الكيفية وهي شيء لم يشهدوه ؟ ! ! .
والجواب - والله تعالى أعلم - : هو أنه بالتأمل في نتائج خلق الإبل ، ونصب الجبال إلخ . وإن لم يعلموا الكيف ، بل ويعجزون عن كنهه وتحقيقه ، فهو أبلغ في إقامة الدليل عليهم ، كمن يقف أمام صنعة بديعة يجهل سر صنعتها ، فيتساءل كيف تم صنعها ؟ وقد وقع مثل ذلك : وهو الإحالة على الأثر بدلا من كشف الكنه والكيف ، وذلك في سؤال الخليل - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام - ربه : أن يريه كيف يحيي الموتى . فكان الجواب : أن أراه الطيور تطير ، بعد أن ذبحها بيده وقطعها ، وجعل على كل جبل منها جزءا . فلم يشاهد كيفية وكنه ، وحقيقة الإحياء ، وهو دبيب الروح فيها وعودة الحياة إليها ; لأن ذلك ليس في استطاعته ، ولكن شاهد الآثار المترتبة على ذلك ، وهي تحركها وطيرانها ، وعودتها إلى ما كانت عليه قبل ذبحها . مع أنه كان للعزير موقف مماثل وإن كان أوضح في البيان ; حيث شاهد العظام وهو سبحانه ينشرها ، ثم يكسوها لحما . والله تعالى أعلم .
أما قوله تعالى بعد ذلك : فذكر إنما أنت مذكر ، فإن مجيء هذا الأمر بالفاء في هذا الموطن ، فإنه يشعر بأن النظر الدقيق والفكر الدارس ، مما قد يؤدي بصاحبه إلى الاستدلال على وجود الله وعلى قدرته ، كما نطق مؤمن الجاهلية : قس بن ساعدة ، في خطبته المشهورة : ليل داج ، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج ، ونجوم تزهر ، وبحار تزخر ، وجبال مرساة ، وأرض مدحاة ، وأنهار مجراة . فقد ذكر السماء ، والجبال ، والأرض .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:40 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (592)
سُورَةُ الْفَجْرِ .
صـ 519 إلى صـ 528
وكقول زيد بن عمرو بن نفيل ، مؤمن الجاهلية المعروف :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرا ثقالا [ ص: 519 ] دحاها فلما استوت شدها
سواء وأرسى عليها الجبالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له المزن تحمل عذبا زلالا إذا هي سيقت إلى بلدة
أطاعت فصبت عليها سجالا وأسلمت وجهي لمن أسلمت
له الريح تصرف حالا فحالا
فكان على هؤلاء العقلاء أن ينظروا بدقة وتأمل ، فيما يحيط بهم عامة . وفي تلك الآيات الكبار خاصة ، فيجدون فيها ما يكفيهم .
كما قيل :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فإذا لم يهدهم تفكيرهم ، ولم تتجه أنظارهم . فذكرهم إنما أنت مذكر . وهذا عام ، أي : سواء بالدلالة على القدرة من تلك المصنوعات ، أو بالتلاوة من آيات الوحي . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم
فيه الدلالة على أن الإياب هو المرجع .
قال عبيد :
وكل ذي غيبة يئوب وغائب الموت لا يئوب
كما في قوله : إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون [ 5 \ 48 ] ، وهو على الحقيقة كما في صريح منطوق قوله تعالى : ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم الآية [ 3 \ 55 ] . وقوله : ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون [ 6 \ 164 ] .
وقوله : ثم إن علينا حسابهم [ 88 \ 26 ] ، الإتيان بثم ; للإشعار ما بين إيابهم وبدء حسابهم : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] .
وقوله : إن علينا ، بتقدم حرف التأكيد ، وإسناد ذلك لله تعالى ، وبحرف " على " مما يؤكد ذلك لا محالة ، وأنه بأدق ما يكون ، وعلى الصغيرة والكبيرة كما في قوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [ 2 \ 284 ] .
[ ص: 520 ] ومن الواضح مجيء إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ، بعد قوله تعالى : فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر ; تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتخويفا لأولئك الذين تولوا وأعرضوا ، ثم إن الحساب في اليوم الآخر ليس خاصا بهؤلاء ، بل هو عام بجميع الخلائق . ولكن إسناده لله تعالى مما يدل على المعاني المتقدمة .
نسأل الله العفو والسلامة .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الْفَجْرِ .
قوله تعالى : والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسري
اختلف في المراد بالفجر ، فقيل : انفجار النهار من ظلمة الليل .
وقيل : صلاة الفجر .
وكلا القولين له شاهد من القرآن . أما انفجار النهار ، فكما في قوله تعالى : والصبح إذا تنفس [ 81 \ 18 ] .
وأما صلاة الفجر فكما في قوله : وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا [ 17 \ 78 ] ، ولكن في السياق ما يقرب القول الأول ، إذ هو في الأيام والليالي : " الفجر وليال عشر " ، " الليل إذا يسري " ، وكلها آيات زمنية أنسب لها انفجار النهار .
بقي بعد ذلك اختلافهم في أي الفجر عنى هنا ؟ فقيل بالعموم في كل يوم ، وقيل : بالخصوص . والأول قول ابن عباس وابن الزبير وعلي - رضي الله عنهم - .
وعلى الثاني ، فقيل : خصوص الفجر يوم النحر . وقيل : أول يوم المحرم ، وليس هناك نص يعول عليه . إلا أن فجر يوم النحر أقرب إلى الليالي العشر ، إن قلنا : هي عشر ذي الحجة على ما يأتي . إن شاء الله .
أما الليالي العشر : فأقوال المفسرين محصورة في عشر ذي الحجة ، وعشر المحرم ، والعشر الأواخر من رمضان . والأول : جاء عن مسروق أنها العشر التي ذكرها الله في قصة موسى - عليه السلام - : وأتممناها بعشر " [ 7 \ 142 ] ، وكلها الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس . وليس في القرآن نص بعينها .
وفي السنة بيان فضيلة عشر ذي الحجة ، وعشر رمضان كما هو معلوم ، فإن جعل الفجر خاصا بيوم النحر ، كان عشر ذي الحجة أقرب للسياق . والله تعالى أعلم .
[ ص: 522 ] " والشفع والوتر " : ذكر المفسرون أكثر من عشرين قولا ، ومجموعها يشمل جميع المخلوقات جملة وتفصيلا .
أما جملة ، فقالوا : إنما الوتر هو الله ; للحديث : " إن الله وتر يحب الوتر " ، وما سواه شفع ، كما في قوله تعالى : ومن كل شيء خلقنا زوجين [ 51 \ 49 ] ، فهذا شمل كل الوجود الخالق والمخلوق ، كما في عموم فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون [ 69 \ 38 - 39 ] .
أما التفصيل ، فقالوا : المخلوقات إما شفع كالحيوانات أزواجا ، والسماء ، والأرض ، والجبل ، والبحر ، والنار ، والماء . وهكذا ذكروا لكل شيء مقابله ، ومن الأشياء الفرد كالهواء . وكلها من باب الأمثلة .
والواقع أن أقرب الأقوال عندي - والله أعلم - : أنه هو الأول ; لأنه ثبت علميا أنه لا يوجد كائن موجود بمعنى الوتر قط حتى الحصاة الصغيرة .
فإنه ثبت أن كل كائن جماد أو غيره مكون من ذرات ، والذرة لها نواة ومحيط ، وبينهما ارتباط وعن طريقهما التفجير الذي اكتشف في هذا العصر ، حتى في أدق عالم الصناعة : كالكهرباء ; فإنها من سالب وموجب ، وهكذا لا بد من دورة كهربائية للحصول على النتيجة من أي جهاز كان ، حتى الماء الذي كان يظن به البساطة ; فهو زوج وشفع من عنصرين : أوكسجين وهدروجين ، ينفصلان إذا وصلت درجة حرارة الماء إلى مائة - أي : الغليان - ويتآلفان إذا نزلت الدرجة إلى حد معين فيتاقطران ماء . وهكذا .
ونفس الهواء عدة غازات وتراكيب ، فلم يبق في الكون شيء قط فردا وترا بذاته ، إلا ما نص عليه الحديث : " إن الله وتر يحب الوتر " ، ويمكن حمل الحديث على معنى الوتر فيه مستغن بذاته عن غيره ، والواحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله . فصفاته كلها وتر : كالعلم بلا جهل والحياة بلا موت . إلخ . بخلاف المخلوق ، وقلنا : المستغني بذاته عن غيره ; لأن كل مخلوق شفعا ، فإن كل عنصر منه في حاجة إلى العنصر الثاني ; ليكون معه ذاك الشيء والله سبحانه بخلاف ذلك . ولهذا كان القول الأول ، وهو أن الوتر هو الله ، والشفع هو المخلوقات جميعها ، هو القول الراجح ، وهو الأعم في المعنى .
قوله : والليل إذا يسري ، اتفق المفسرون على المعنى وهو سريان الليل ، ولكن [ ص: 523 ] الخلاف في التعيين : هل المراد به عموم الليالي في كل ليلة أم ليلة معينة ؟ وما هي ؟
فقيل : بالعموم كقوله : والليل إذا عسعس [ 81 \ 17 ] .
وقيل : بالخصوص في ليلة مزدلفة أو ليلة القدر .
وأيضا يقال : إذا كان الفجر فجر النحر ، والعشر عشر ذي الحجة فيكون : والليل إذا يسري ، ليلة الجمع . والله تعالى أعلم .
وقد رجح القرطبي وغيره عموم الليل ، وقد جمع في هذا القسم جميع الموجودات جملة وتفصيلا ، فشملت الخالق والمخلوق والشفع والوتر إجمالا وتفصيلا ، في انفجار الفجر ، وانتشار الخلق ، وسريان الليل ، وسكون الكون ، والعبادات في الليالي العشر .
فكان من أعظم ما أقسم الله به قوله تعالى : هل في ذلك قسم لذي حجر [ 89 \ 5 ] ، أي : عقل ، والحجر كل مادته تدور على الإحكام والقوة ، فالحجر ; لقوته . والحجرة ; لإحكام ما فيها . والعقل سمي حجرا - بكسر الحاء - ; لأنه يحجر صاحبه عما لا يليق . والمحجور عليه ; لمنعه من تصرفه وإحكام أمره ، وحجر المرأة لطفلها ، فهذه المقسم بها الخمسة هل فيها قسم كاف لذي عقل ؟ والجواب : بلى ، وهذا ما يقوي هذا القسم بلا شك .
ثم اختلف في جواب هذا القسم : حيث لم يصرح تعالى به كما صرح به في نظيره ، وهو قوله : فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم [ 56 \ 75 - 76 ] . ثم صرح بالمقسم عليه : إنه لقرآن كريم الآية [ 56 \ 77 ] . وهنا لم يصرح به مع عظم القسم ; فوقع الخلاف في تعيينه .
فقيل : هو مقدر تقديره ليعذبن يدل له قوله : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إلى قوله : فصب عليهم ربك سوط عذاب [ 89 \ 6 - 14 ] .
وقيل : موجود وهو قوله : إن ربك لبالمرصاد [ 89 \ 14 ] ، قاله القرطبي .
وهذا من حيث الصناعة في اللغة وأساليب التفسير وجيه ، ولكن يوجد في نظري - والله تعالى أعلم - : ارتباط بين القسم وجوابه ، وبين ما يجيء في آخر السورة من قوله [ ص: 524 ] كلا إذا دكت الأرض دكا دكا [ 89 \ 21 ] ، إلى آخر السورة .
كما أنه يظهر ارتباط كبير بينه وبين آخر السورة التي قبلها ، إذ جاء فيها : فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر [ 88 \ 21 - 24 ] ، والفجر وليال عشر إلى قوله : هل في ذلك قسم لذي حجر [ 89 \ 1 - 5 ] ; لأن ما فيه من الوعيد بالعذاب الأكبر والقصر في إيابهم إلى الله وحده وحسابهم عليه فحسب يتناسب معه هذا القسم العظيم .
أما ارتباطه بما في آخر السورة ، فهو أن المقسم به هنا خمس مسميات : والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر [ 89 \ 1 - 4 ] ، والذي في آخر السورة أيضا خمس مسميات : دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى [ 89 \ 21 - 23 ] .
صور اشتملت على اليوم الآخر كله من أول النفخ في الصور ، ودك الأرض إلى نهاية الحساب ، وتذكر كل إنسان ما له وما عليه ، تقابل ما اشتمل عليه القسم المتقدم من أمور الدنيا .
قوله تعالى : ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد
لم يبين هنا ماذا ولا كيف فعل ، بمن ذكروا ، وهم : عاد ، وثمود ، وفرعون .
وقد تقدم ذكر ثلاثتهم في سورة " الحاقة " عند قوله تعالى : فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم إلى قوله فأخذهم أخذة رابية [ 69 \ 105 - 10 ] .
والجديد هنا : هو وصف كل من عاد من أنها ذات العماد ، ولم يخلق مثلها في البلاد ، وثمود أنهم جابوا الصخر بالواد ، وفرعون أنه ذو أوتاد .
وقد اختلف في المعنى بهذه الصفات كلها :
أما عاد ، فقيل : العماد عماد بيوت الشعر ، والمراد بها القبيلة . وطول عماد [ ص: 525 ] بيوتها : كناية عن طول أجسامهم ، كما قيل في صخر :
رفيع العماد طويل النجاد
وطول الأجسام يدل على قوة أصحابها .
وقيل : إرم كانت مدينة رفيعة البنيان ، وذكروا في أخبارها قصصا تفوق الخيال ، وأنها في الربع الخالي ، ولكن حيث لم تثبت أخبارها بسند يعول عليه ، ولم يصدقه الواقع ، فقال قوم : قد خسف بها ولم تعد موجودة .
أما ثمود : فقد جابوا ، أي : نحتوا الصخر بالواد ، بواد القرى في مدائن صالح ، وهي بيوتهم موجودة حتى الآن .
وأما فرعون ذو الأوتاد ، فقيل : هي أوتاد الخيام ، كان يتدها لمن يعذبهم .
وقيل : هي كناية عن الجنود يثبت بها ملكه .
وقيل : هي أكمات وأسوار مرتفعات ، يلعب له في مرابعها .
قال ابن جرير ما نصه : حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال ثنا سعيد ، عن قتادة : " وفرعون ذي الأوتاد " ، ذكر لنا أنها كانت مطال ، وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وجبال " .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن هذا القول هو الصحيح ، وأنها مرتفعة ، وأنها هي المعروفة الآن بالأهرام بمصر ، ويرجح ذلك عدة أمور :
منها : أنها تشبه الأوتاد في منظرها طرفه إلى أعلى ، إذ القمة شبه الوتد ، مدببة بالنسبة لضخامتها ، فهي بشكل مثلث ، قاعدته إلى أسفل وطرفه إلى أعلى .
ومنها : ذكره مع ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ، بجامع مظاهر القوة ، فأولئك نحتوا الصخر بيوتا فارهين ، وهؤلاء قطعوا الصخر الكبير من موطن لا جبال حوله ، مما يدل أنها نقلت من مكان بعيد . والحال أنها قطع كبار صخرات عظام ففي اقتطاعها وفي نقلها إلى محل بنائها ، وفي نفس البناء كل ذلك مما يدل على القوة والجبروت ، وتسخير العباد في ذلك .
ومنها : أن حملها على الأهرام القائمة بالذات والمشاهدة في كل زمان ولكل جيل ، [ ص: 526 ] أوقع في العظة والاعتبار ; بأن من أهلك تلك الأمم ، قادر على إهلاك المكذبين من قريش وغيرهم .
صدق الله العظيم : إن ربك لبالمرصاد [ 89 \ 14 ] .
قوله تعالى : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا
بين تعالى أنه يعطي ويمسك ابتلاء للعبد .
وقوله تعالى : كلا ، وهي كلمة زجر وردع ، وبيان أن المعنى لا كما قلتم ، فيه تعديل لمفاهيم الكفار ; بأن العطاء والمنع لا عن إكرام ولا لإهانة ، ولكنه ابتلاء ، كما في قوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة [ 21 \ 35 ] .
وقوله : واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة [ 8 \ 28 ] .
قوله تعالى : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما بعد ما بين سبحانه صحة المفاهيم في العطاء والمنع ، جاء في هذه الآيات وبين حقيقة فتنة المال إيجابا وسلبا جمعا وبذلا ، فبدأ بأقبح الوجوه من : الإمساك من عدم إكرام اليتيم ، مهيض الجناح ، مكسور الخاطر ، والتقاعس عن إطعام المسكين ، خالي اليد ، جائع البطن ، ساكن الحركة ، وهذان الجانبان أهم مهمات بذل المال وهم يمسكون عنها ، وقد بين تعالى أن هذا الجانب هو اقتحام العقبة عند الشدة ، في قوله تعالى في سورة " البلد " : فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة [ 90 \ 11 - 16 ] .
ومن الجانب الآخر : وتأكلون التراث أكلا لما أي : الميراث ، فلا يعطون النسوة وهن ضعيفات الشخصية ، أحوج إلى مال مورثهن ، وتحبون المال حبا حتى استعبدكم وألهاكم التكاثر فيه .
وهنا لفت نظر للفريقين ، فمن أعطي منهم : لا ينبغي له أن يغفل طرق البذل الهامة ، ومن منع : لا ينبغي له أن يستشرف إلى ما لا ينبغي له . وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا .
[ ص: 527 ] تقدم في سورة " الحاقة " أيضا هذا السياق نفسه ، بعد ذكر ثمود ، وعاد ، وفرعون ، في قوله : فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة إلى قوله والملك على أرجائها [ 69 \ 13 - 17 ] . مما يبين معنى " صفا صفا " ، أي : على أرجائها صفا بعد صف .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الإحالة على ما يفسرها في سورة " الرحمن " على قوله تعالى : إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض [ 55 \ 33 ] . وقوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا [ 89 \ 22 ] ، " وجاء ربك " : من آيات الصفات .
مواضع البحث والنظر .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مرارا في الأضواء في عدة محلات ; وليعلم أنها والاستواء وحديث النزول والإتيان المذكور في قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور [ 2 \ 210 ] .
وقد أورد الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - مبحث آيات الصفات كاملة في محاضرة أسماها : " آيات الصفات " ، وطبعت مستقلة .
كما تقدم له - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في سورة " الأعراف " عند قوله تعالى : ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار [ 7 \ 54 ] ، وإن كان لم يتعرض لصفة المجيء بذاتها ، إلا أنه قال : إن جميع الصفات من باب واحد ، أي : أنها ثابتة لله تعالى على مبدأ : " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " [ 42 \ 11 ] ، على غير مثال للمخلوق ، فثبت استواء يليق بجلاله على غير مثال للمخلوق .
وكذلك هنا كما ثبت استواء ثبت مجيء ، وكما ثبت مجيء ثبت نزول .
والكل من باب ليس كمثله شيء ، أي : على ما قال الشافعي - رحمه الله - : نحن كلفنا بالإيمان ، فعلينا أن نؤمن بصفات الله على ما يليق بالله على مراد الله ، وليس علينا أن نكيف ، إذ الكيف ممنوع على الله سبحانه .
[ ص: 528 ] قوله تعالى : يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى
قد بين تعالى موضوع تذكر الإنسان ، وهو قوله : يقول ياليتني قدمت لحياتي [ 89 \ 24 ] .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان ذلك في سورة " الفرقان " عند قوله تعالى : ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا [ 25 \ 27 ] الآيات .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:41 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (593)
سورة البلد .
صـ 529 إلى صـ 538
بسم الله الرحمن الرحيم .
سورة البلد .
قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد
تقدم الكلام على هذه اللام ، وهل هي لنفي القسم أو لتأكيده ، وذلك عند قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة [ 75 \ 1 ] ، إلا أنها هنا ليست للنفي ; لأن الله تعالى قد أقسم بهذا البلد في موضع آخر ، وهو في قوله تعالى : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين [ 95 \ 1 - 3 ] ; لأن هذا البلد مراد به مكة إجماعا ; لقوله تعالى بعده : وأنت أي : الرسول - صلى الله عليه وسلم - حل ، أي : حال أو حلال بهذا البلد [ 90 \ 2 ] ، أي مكة ، على ما سيأتي إن شاء الله .
وقد ذكر القرطبي وغيره نظائرها من القرآن ، والشعر العربي ، مما لا يدل على نفي ، كقوله تعالى : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، مع أن المراد ما منعك من السجود ، وكقول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يتقطع
أي : وكاد صميم القلب يتقطع .
وقد بحثها الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحثا مطولا في دفع إيهام الاضطراب .
قوله تعالى : وأنت حل بهذا البلد ، " حل " : بمعنى حال ، والفعل المضعف يأتي مضارعه من باب نصر وضرب ، فإن كان متعديا كان من باب نصر .
تقول : حل العقدة يحلها - بالضم - ، وتقول : حل بالمكان يحل - بالكسر - : إذا أقام فيه ، والإحلال دون الإحرام .
[ ص: 530 ] وقد اختلف في المراد بحل : هل هو من الإحلال بالمكان ؟ أو هو من التحلل ضد الإحرام ؟
فأكثر المفسرين : أنه من الإحلال ضد الإحرام ، واختلفوا في المراد بالإحلال هذا .
فقيل : هو إحلال مكة له في عام الفتح ، ولم تحل لأحد قبله ولا بعده .
وقيل : " حل " : أي : حلال له ما يفعل بمكة غير آثم ، بينما هم آثمون بفعلهم .
وقيل : " حل " : أي : أن المشركين معظمون هذا البلد وحرمته في نفوسهم ، ولكنهم مستحلون إيذاءك وإخراجك .
وذكر أبو حيان : أنه من الحلول والبقاء والسكن ، أي : وأنت حال بها . اهـ .
وعلى الأول يكون إخبارا عن المستقبل ووعدا بالفتح ، وأنها تحل له بعد أن كانت حراما ، فيقاتل أهلها وينتصر عليهم ، أو أنه تسلية له وأن الله عالم بما يفعلون به ، وسينصره عليهم .
وعلى الثاني : يكون تأكيدا لشرف مكة ; إذ هي أولا فيها بيت الله وهو شرف عظيم ، ثم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حال فيها بين أهلها .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن هذا الثاني هو الراجح ، وإن كان أقل قائلا ; وذلك لقرائن من نفس السورة ومن غيرها من القرآن الكريم .
منها : أن حلوله - صلى الله عليه وسلم - بهذا البلد له شأن عظيم فعلا ، وأهمه أن الله رافع عنهم العذاب ; لوجوده فيهم ، كما في قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم [ 8 \ 33 ] ، فكأنه تعالى يقول : وهذا البلد الأمين من العذاب ، وهؤلاء الآمنون من العذاب بفضل وجودك فيهم .
ومنها : أنه - صلى الله عليه وسلم - بحلوله فيها بين أظهرهم ، يلاقي من المشاق ، ويصبر عليها .
وفيه أروع المثل للصبر على المشاق في الدعوة ، فقد آذوه كل الإيذاء ، حتى وضعوا سلا الجزور عليه وهو يصلي عند الكعبة ، وهو يصبر عليهم ، وآذوه في عودته من الطائف ، وجاءه ملك الجبال نصرة له ، فأبى وصبر ودعا لهم ، ومنعوه الدخول إلى [ ص: 531 ] بلده مسقط رأسه فصبر ، ولم يدع عليهم ، ورضي الدخول في جوار رجل مشرك وهذا هو المناسب ; لقوله بعده لقد خلقنا الإنسان في كبد [ 90 \ 4 ] ، وهذا من أعظمه .
فإذا كان كل إنسان يكابد في حياته ، أيا كان هو ، ولأي غرض كان ، فمكابدتك تلك جديرة بالتقدير والإعظام ، حتى يقسم بها . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ووالد وما ولد
قيل : الوالد : هو آدم ، وما ولد ، قيل : " ما " نافية . وقيل : مصدرية .
فعلى أنها نافية : أي : وكل عظيم لم يولد له .
وعلى المصدرية : أي : بمعنى الولادة من تخليص نفس من نفس ، وما يسبق ذلك من تلقيح وحمل ، ونمو الجنين ، وتفصيله وتخليقه ، وتسهيل ولادته .
وقيل : " ووالد وما ولد " : كل والد مولود من حيوان وإنسان .
وقد رجح بعض العلماء أن الوالد هو آدم ، وما ولد ذريته ، بأنه المناسب مع هذا البلد ; لأنها أم القرى ، وهو أبو البشر ، فكأنه أقسم بأصول الموجودات وفروعها .
قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في كبد
تقدم بيانه عند قوله تعالى : ياأيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه [ 84 \ 6 ] .
قوله تعالى : يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد لم يبين أيراه أحد ؟ ومن الذي يراه ؟
ومعلوم أنه سبحانه وتعالى يراه ، ولكن جاء الجواب مقرونا بالدليل والإحصاء في قوله تعالى بعده : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين [ 90 \ 8 - 10 ] ; لأن من جعل للإنسان عينين يبصر بهما ، ويعلم منه خائنة الأعين ، ولسانا ينطق به ويحصي عليه : " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " [ 50 \ 18 ] ، وهداه الطريق ، طريق البذل وطريق الإمساك ، وإذا كان الأمر كذلك ; فلن ينفق درهما إلا وهو سبحانه يعلمه ويراه .
[ ص: 532 ] قوله تعالى : وهديناه النجدين
النجد : الطريق ، وهو كما تقدم في سورة " الإنسان " بعد تفصيل خلق الإنسان : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل [ 76 \ 2 - 3 ] ، أي : الطريق على كلا الأمرين بدليل : إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] .
وتقدم المعنى هناك ، ويأتي في السورة بعدها عند قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] . زيادة إيضاح له . إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : فلا اقتحم العقبة
وقد بين المراد بالعقبة فيما بعد بقوله : وما أدراك ما العقبة [ 90 \ 12 ] ، ثم ذكر تفصيلها .
وقد ذكر أن كل ما جاء بصيغة " وما أدراك " ، فقد جاء تفصيله بعده كقوله تعالى : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث [ 101 \ 1 - 4 ] ، وما بعدها .
وتقدم عند قوله تعالى : الحاقة ما الحاقة [ 69 \ 1 - 2 ] .
وفي تفسير العقبة بالمذكورات ، فك الرقبة ، وإطعام اليتيم والمسكين ، توجيه إلى ضرورة الإنفاق حقا لا ما يدعيه الإنسان بدون حقيقة في قوله : أهلكت مالا لبدا [ 90 \ 6 ] .
أما فك الرقبة : فإنه الإسهام في عتق الرقيق ، والاستقلال في عتقها يعبر عنه بفك النسمة .
وهذا العنصر من العمل بالغ الأهمية ، حيث قدم في سلم الاقتحام لتلك العقبة .
وقد جاءت السنة ببيان فضل هذا العمل حتى أصبح عتق الرقيق أو فك النسمة ، يعادل به عتق المعتق من النار كل عضو بعضو ، وفيه نصوص عديدة ساقها ابن كثير ، وفي هذا إشعار بحقيقة موقف الإسلام من الرق ، ومدى حرصه وتطلعه إلى تحرير الرقاب .
[ ص: 533 ] فها هو هنا يجعل عتق الرقبة ، سلم اقتحام العقبة ، وجعله عتقا للمعتق من النار كل عضو بعضو . ومعلوم أن كل مسلم يسعى لذلك ، وجعله كفارة لكل يمين وللظهار بين الزوجين ، وكفارة القتل الخطأ ، كل ذلك نوافذ إطلاق الأسارى ، وفك الرقاب في الوقت الذي لم يفتح للاسترقاق إلا باب واحد ، هو الأسر في القتال مع المشركين لا غير ، وهما مما سبق تنبيها عليه ردا على المستشرقين ومن تأثر بهم ; في ادعائهم على الإسلام : أنه متعطش لاسترقاق الأحرار .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] في سورة " الإسراء " .
وقوله تعالى : أو إطعام في يوم ذي مسغبة [ 90 \ 14 ] . أي : شدة وجوع . والساغب : الجائع ; قال القرطبي : وأنشد أبو عبيدة :
فلو كنت جارا يا بن قيس لعاصم لما بت شبعانا وجارك ساغبا
أي : لو كنت جارا بحق تعني بحق الجار ، لما حدث لجارك هذا .
وهذا القيد لحال الإطعام ; دليل على قوة الإيمان بالجزاء ، وتقديم ما عند الله ; على ما في قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] ، على ما تقدم من أن الضمير في حبه أنه للطعام ، وهذا غالب في حالات الشدة والمسغبة .
وقوله : ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 \ 9 ] ، فهي أعلى منازل الفضيلة في الإطعام .
قوله تعالى : يتيما ذا مقربة ، فاليتيم من حرم أبويه أو أحدهما ، وقد خصوا في اللغة يتيم الحيوان ، من فقد الأم ، وفي الطيور من فقد الأبوين ، وفي الإنسان من فقد الأب .
و " ذا مقربة " : أي : قرابة ، وخص به ; لأن الإطعام في حقه أفضل وأولى من غيره ، وفيه الحديث : " إن الصدقة على القريب صدقة وصلة ، وعلى البعيد صدقة فقط " .
[ ص: 534 ] والأحاديث في الإحسان إلى اليتيم متضافرة ، ويكفي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهذين " أي : السبابة والتي تليها .
قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة
قيل : المسكين من السكون وقلة الحركة ، والمتربة : اللصوق بالتراب .
وقد اختلف في التفريق بين المسكين والفقير : أيهما أشد احتياجا وما حد كل منهما ؟ فاتفقوا أولا : على أنه إذا افترقا اجتمعا ، وإذا اجتمعا افترقا ، وإذا ذكر أحدهما فقط ، فيشمل الثاني معه ، ويكون الحكم جامعا لهما كما هو هنا ، فالإطعام يشمل الاثنين معا ، وإذا اجتمعا فرق بينهما بالتعريف .
فالمسكين كما تقدم ، والفقير ، قالوا : مأخوذ من الفقرة وهي : الحفرة تحفر للنخلة ونحوها للغرس ، فكأنه نزل إلى حفرة لم يخرج منها .
وقيل : من فقار الظهر ، وإذا أخذت فقار منها عجز عن الحركة ، فقيل : على هذا الفقير أشد حاجة ، ويرجحه ما جاء في قوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر [ 18 \ 79 ] ، فسماهم مساكين مع وجود سفينة لهم يتسببون عليها للمعيشة ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا " الحديث . مع قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إني أعوذ بك من الفقر " ، وهذا الذي عليه الجمهور ، خلافا لمالك .
وقد قالوا في تعريف كل منهما : المسكين من يجد أقل ما يكفيه ، والفقير : من لا يجد شيئا ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا
هذا قيد في اقتحام العقبة بتلك الأعمال من عتق ، أو إطعام ; لأن عمل غير المؤمن لا يجعله يقتحم العقبة يوم القيامة ; لإحباط عمله ولاستيفائه إياه في الدنيا ، و " ثم " هنا للترتيب الذكري لا الزمني ; لأن الإيمان مشروط وجوده عند العمل .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان شروط قبول العمل وصحته في سورة " الإسراء " عند قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن [ 20 \ 112 ] ، وكقوله : ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن [ 17 \ 19 ] ، وقوله : [ ص: 535 ] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن [ 16 \ 97 ] ; لأن الإيمان هو العمل الأساسي في حمل العبد على عمل الخير يبتغي به الثواب ، وخاصة الإنفاق في سبيل الله ; لأنه بذل بدون عوض عاجل .
وقد بحث العلماء موضوع عمل الكافر الذي عمله حالة كفره ثم أسلم ، هل ينتفع به بعد إسلامه أم لا ؟
والراجح : أنه ينتفع به ، كما ذكر القرطبي : أن حكيم بن حزام بعد ما أسلم ، قال : يا رسول الله ، إنا كنا نتحنث بأعمال في الجاهلية ; فهل لنا منها شيء ؟ فقال - عليه السلام - : " أسلمت على ما أسلفت من الخير " ، وحديث عائشة ، قالت : " يا رسول الله ، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم الطعام ، ويفك العاني ، ويعتق الرقاب ، ويحمل على إبله لله - فهل ينفعه ذلك شيئا ؟ قال : " لا ، إنه لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " .
ومفهومه أنه لو قالها ، أي : لو أسلم فقالها كان ينفعه . والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة
تتمة لصفاتهم ، والصبر عام على الطاعة وعن المعصية ، والمرحمة زيادة في الرحمة ، والحديث : " الراحمون يرحمهم الرحمن " .
وذكر المرحمة هنا يتناسب مع العطف على الرقيق والمسكين واليتيم . والله تعالى أعلم .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الشَّمْسِ .
قوله تعالى : والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها
في تلك الآيات العشر : يقسم الله تعالى سبع مرات بسبع آيات كونية ، هي : الشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، والسماء ، والأرض ، والنفس البشرية ، مع حالة لكل مقسم به ، وذلك على شيء واحد ، وهو فلاح من زكى تلك النفس وخيبة من دساها ، ومع كل آية جاء القسم بها توجيها إلى أثرها العظيم المشاهد الملموس ، الدال على القدرة الباهرة .
وذلك كالآتي أولا : والشمس وضحاها ، فالشمس وحدها آية دالة على قدرة خالقها ، لما فيها من طاقة حرارية في ذاتها تفوق كل تقدير ، وهي على الزمان بدون انتقاص ، فهي في ذاتها آية .
ثم جاء وصف أثرها وهو : " ضحاها " ، وهو انتشار ضوئها ضحوة النهار ، وهذا وحده آية ، لأنه نتيجة لحركتها ، وحركتها آية من آيات الله كما قال تعالى : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم [ 36 \ 37 - 38 ] ، وهي الآية التي حاج بها إبراهيم - عليه السلام - نمروذ في قوله : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر [ 2 \ 258 ] .
ففي هذا السير قدرة باهرة ودقة متناهية ، " وضحاها " : نتيجة لهذا السير ، ثم " ضحاها " نعم جزيلة على الكون كله ، من انتشار في الأرض ، وانتفاع بضوئها وأشعتها .
وقد قالوا : لو اقتربت درجة أو ارتفعت درجة ، لما استطاع أحد أن ينتفع منها بشيء ; لأنها تحرق باقترابها ، ويتجمد العالم من بعدها ، ذلك تقدير العزيز العليم .
[ ص: 537 ] فالضحى وحده آية وهو حرها كقوله : وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 119 ] ، أي : بحر الشمس ، وقد أقسم تعالى بالضحى وحده في قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى [ 93 \ 1 - 2 ] .
وقوله : والقمر إذا تلاها ، فهو كذلك القمر وحده آية ، وكذلك تلوه للشمس ونظام مسيره بهذه الدقة ، وهذا النظام فلا يسبقها ولا تفوته : لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون [ 36 \ 40 ] .
وفي قوله تعالى : إذا تلاها ، أي : تلا الشمس ، دلالة على سير الجميع ، وأنها سابقته وهو تاليها .
فقيل : تاليها عند أول الشهر تغرب ، ويظهر من مكان غروبها .
وقد قال بعض أهل الهيئة : تاليها في منزلة الحجم ، أي : كبرى وهو كبير بعدها في الحجم ، وفيه نظر .
ولا يخفى ما في القمر من فوائد للخليقة ، من تخفيف ظلمة الليل ، وكذلك بعض الخصائص على الزرع ، وأهم خصائصه بيان الشهور بتقسيم السنة ، ومعرفة العبادات من صوم ، وحج ، وزكاة ، وعدة النساء ، وكفارات بصوم ، وحلول الديون ، وشروط المعاملات ، وكل ما له صلة بالحساب في عبادة أو معاملة .
وقد جاء القسم بالقمر في " المدثر " في قوله : كلا والقمر والليل إذ أدبر [ 74 \ 32 - 33 ] ، وقوله : والقمر إذا اتسق [ 84 \ 18 ] ، مما يدل على عظم آيته ودقة دلالته .
وقوله : والنهار إذا جلاها ، " والنهار " هو أثر من آثار ضوء الشمس .
و " جلاها " قيل : الضمير فيه راجع للشمس كما في الذي قبله ، ولكن اختار ابن كثير أن يكون راجعا للأرض ، أي : كشفها وأوضح كل ما فيها ; ليتيسر طلب المعاش والسعي ، كقوله : هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا [ 10 \ 67 ] ، وقوله : وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا [ 25 \ 47 ] .
[ ص: 538 ] وقد أقسم تعالى بالنهار إذا تجلى : أي : ظهر ووضح بدون ضمير إلى غيره في قوله تعالى : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى [ 92 \ 1 - 2 ] ، أي : في مقابلة غشاوة الليل يكون بتجلي النهار .
وقد بين تعالى عظم آية النهار ، وعظم آية الليل ، وأنه لا يقدر على الإتيان بهما إلا الله ، كما في قوله : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون [ 28 \ 71 - 72 ] .
وقوله : والليل إذا يغشاها ، قالوا : يغشى الشمس فيحجب ضياؤها ، والكلام على الليل ، كالكلام على النهار ، من حيث الآية والدلالة على قدرته تعالى .
وتقدمت النصوص الكافية ، وسيأتي الإقسام بالليل في قوله : والليل إذا يغشى [ 92 \ 1 ] ، أي : يغشى الكون كله ، كما في قوله : والليل وما وسق [ 84 \ 17 ] ، أي : جمع واشتمل بظلامه .
والضمير في " يغشاها " : راجع إلى الشمس ، وعليه قيل : إن الإقسام في هذه الأربعة راجع كله إلى الشمس في حالات مختلفة ، في ضحاها ثم تجليها ، ثم تلو القمر لها ، ثم بغشيان الليل إياها ، وهنا سؤال : كيف يغشى الليل الشمس مع أن الليل وهو الظلمة نتيجة لغروب الشمس عن الجهة التي فيها الليل ؟
فقيل : إن الليل يغطي ضوء الشمس ، فتتكون الظلمة ، والواقع خلاف ذلك . وهو أن الشمس ظاهرة وضوءها منتشر ، ولكن في قسم الأرض المقابل للظلمة الموجودة ، كما أن الظلمة تكون في القسم المقابل للنهار ، وهكذا .
ولذا قال ابن كثير : إن الضمير في " يغشاها " و " جلاها " راجع إلى الأرض ، إلا أن فيه مغايرة في مرجع الضمير . والله تعالى أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:42 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (594)
سُورَةُ اللَّيْلِ .
صـ 539 إلى صـ 548
وقوله : والسماء وما بناها ، قيل : " ما " بمعنى الذي ، وجيء بها بدلا عن " من " التي لأولي العلم ; لإشعارها معنى الوصفية ، أي : " والسماء " والقادر الذي " بناها " ، وكذلك ما بعدها في " الأرض وما طحاها ونفس " ، والحكيم العليم [ ص: 539 ] " الذي سواها " ، و " ما " مشترك بين العالم وغيره ، كقوله : ولا أنتم عابدون ما أعبد [ 109 \ 3 ] ، ومثله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] .
وتقدم مرارا أحوال السماء في بنائها ورفعها ، وجعلها سبعا طباقا ، وقد بين في تلك النصوص كيفية بنائها ، وأنه سبحانه وتعالى بناها بقوة ، كما في قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد [ 51 \ 47 ] ، أي : بقوة
وقوله تعالى : والأرض وما طحاها [ 91 \ 6 ] ، مثل " دحاها " [ 79 \ 30 ] .
وقالوا : إبدال الدال طاء مشهور ، وطحا تأتي بمعنى خلق ، وبمعنى ذهب في كل شيء ، فمن الأول :
وما تدري جذيمة من طحاها ولا من ساكن العرش الرفيع
ومن الثاني قول علقمة :
طحا بك قلب في الحسان طروب يعيد الشباب عصر حان مشيب
ولا منافاة في ذلك بأنه تعالى خلقها ومدها ، وذهب بأطرافها كل مذهب ، أي : في مدها .
تنبيه .
قالوا : ذكر السماء وما بناها ; للدلالة على حدوثها ، وبالتالي على حدوث الشمس والقمر ، وأن تدبيرهما لله .
وقوله : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 7 - 8 ] ، قالوا : النفس تحمل كامل خلقة الإنسان بجسمه وروحه وقواه الإنسانية ، من تفكير وسلوك . . . إلخ .
وقيل : النفس هنا بمعنى القوى المفكرة ، المدركة مناط الرغبة والاختيار ، وعليه ; فذكر النفس بالمعنى الأول ، تكون تسويتها في استواء خلقتها وتركيب أعضائها ، وهي غاية في الدلالة على القدرة والكمال والعلم ، كما في قوله : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، وقال : وفي أنفسكم أفلا تبصرون [ 51 \ 21 ] ، أي : من أعضاء وأجزاء وتراكيب ، وعدة أجهزة تبهر العقول في السمع ، وفي البصر ، وفي الشم ، وفي الذوق ، وفي الحس ، ومن داخل الجسم ما هو أعظم ، فحق أن يقسم بها .
[ ص: 540 ] " وما سواها " : أي : بالقدرة الباهرة ، والعلم الشامل . وذكرها بالمعنى الثاني ، فإنه في نظري أعظم من المعنى الأول ; وذلك أن القوى المدركة والمفكرة والمقدرة للأمور التي لها الاختيار ، ومنها القبول والرفض والرضى والسخط والأخذ والمنع ، فإنها عالم مستقل .
وإنها كما قلنا أعظم مما تقدم ; لأن الجانب الخلقي قال تعالى فيه : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس [ 40 \ 57 ] ، ولكن في هذا الجانب ، قال : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا [ 33 \ 72 ] .
ومعلوم أن بعض أفراد الإنسان حملها بصدق وأداها بوفاء ، ونال رضى الله تعالى ، رضي الله عنهم ورضوا عنه .
فهذه النفس في تسويتها لتلقي معاني الخير والشر ، واستقبال الإلهام الإلهي للفجور ، والتقوى أعظم دلالة على القدرة من تلك الجمادات التي لا تبدي ولا تعيد ، والتي لا تملك سلبا ولا إيجابا .
وهنا مثال بسيط فيما استحدث من آلات حفظ وحساب ، كالآلة الحاسبة والعقل الألكتروني ، فإنها لا تخطئ كما يقولون ، وقد بهرت العقول في صفتها ، ولكن بنظرة بسيطة نجدها أمام النفس الإنسانية كقطرة من بحر .
فنقول : إنها أولا من صنع هذه النفس ذات الإدراك النامي والاستنتاج الباهر .
ثانيا : هي لا تخطئ ; لأنها لا تقدر أن تخطئ ; لأن الخطأ ناشئ عن اجتهاد فكري ، وهي لا اجتهاد لها ، إنما تشير وفق ما رسم لها : كالمادة المسجلة في شريط ، فإن المسجل مع دقة حفظه لها ، فإنه لا يقدر أن يزيد ولا ينقص حرفا واحدا .
أما الإنسان : فإنه يغير ويبدل ، وعندما يبدل كلمة مكان كلمة ، فلقدرته على إيجاد الكلمة الأخرى ، أو لاختياره ترك الكلمة الأولى .
وهكذا هنا ، فالله تعالى هنا خلق تلك النفس أولا ، ثم سواها على حالة تقبل تلقي الإلهام بقسيمه : الفجور والتقوى ، ثم تسلك أحد الطريقين ، فكأن مجيء القسم بها بعد [ ص: 541 ] تلك المسميات دلالة على عظم ذاتها وقوة دلالتها على قدرة خالقها ، وما سواها مستعدة قابلة لتلقي إلهام الله إياها .
تنبيه .
وفي مجيئها بعد الآيات الكونية ; من شمس ، وقمر ، وليل ، ونهار ، وسماء ، وأرض ، لفت إلى وجوب التأمل في تلك المخلوقات ، يستلهم منها الدلالة على قدرة خالقها ، والاستدلال على تغير الأزمان ، وحركة الأفلاك ، وإحداث السماء بالبناء ; أنه لا بد لهذا العالم من صانع ، ولا بد للمحدث المتجدد من فناء وعدم .
كما عرض إبراهيم - عليه السلام - على النمروذ نماذج الاستدلال على الربوبية والألوهية ، فأشار إلى الشمس أولا ، ثم إلى القمر ، ثم انتقل به إلى الله سبحانه .
وقوله : فألهمها فجورها وتقواها ، إن كان " ألهمها " بمعنى هداها وبين لها ، فهو كما في قوله : وهديناه النجدين [ 90 \ 10 ] ، وقوله : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] ، وهذا على الهداية العامة ، التي بمعنى الدلالة والبيان .
وإن كان بمعنى التيسير والإلزام ، ففيه إشكال القدر في الخير الاختيار .
وقد بحث هذا المعنى الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب بحثا وافيا .
قوله تعالى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها
هذا هو جواب القسم فيما تقدم ، فالواو قد حذفت منه اللام ; لطول ما بين المقسم به والمقسم عليه .
وقد نوه عنه الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - عند الكلام على قوله تعالى : إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [ 38 \ 64 ] ، من سورة " ص " ، وأنهم استدلوا لهذه الآية عليه .
والأصل : لقد أفلح ، فحذفت اللام لطول الفصل ، و " زكاها " بمعنى طهرها ، وأول ما يطهرها منه دنس الشرك ورجسه ، كما قال تعالى : إنما المشركون نجس [ 9 \ 28 ] ، وتطهيرها منه بالإيمان ثم من المعاصي بالتقوى ، كما في قوله تعالى : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 \ 32 ] ، ثم بعمل الطاعات قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 - 15 ] .
[ ص: 542 ] واختلف في مرجع الضمير في " زكاها " و " دساها " ، وهو يرجع إلى اختلافهم في : فألهمها فجورها وتقواها ، فهل يعود إلى الله تعالى ، كما في : ونفس وما سواها ، أم يعود على العبد .
ويمكن أن يستدل لكل قول ببعض النصوص . فمما يستدل به للقول الأول قوله تعالى : بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [ 4 \ 49 ] ، وقوله : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] ، وفي الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند هذه الآية : " اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها ; أنت خير من زكاها ، وأنت وليها ومولاها " .
ومما استدل به للقول الثاني فكقوله : قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى [ 87 \ 14 - 15 ] ، وقوله : ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير [ 35 \ 18 ] ، وقوله : فقل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى [ 79 \ 18 - 19 ] ، وقوله : وما يدريك لعله يزكى [ 80 \ 3 ] ، وكلها كما ترى محتملة ، والإشكال فيها كالإشكال فيما قبلها .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن الجمع بين تلك النصوص كالجمع في التي قبلها ، وأن ما يتزكى به العبد من إيمان وعمل في طاعة وترك لمعصية ، فإنه بفضل من الله ، كما في قوله تعالى المصرح بذلك : ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا [ 24 \ 21 ] .
وكل النصوص التي فيها عود الضمير ، أو إسناد التزكية إلى العبد ، فإنها بفضل من الله ورحمته ، كما تفضل عليه بالهدى والتوفيق للإيمان ، فهو الذي يتفضل عليه بالتوفيق إلى العمل الصالح ، وترك المعاصي ، كما في قولك : " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، وقوله : فلا تزكوا أنفسكم [ 53 \ 32 ] ، وقوله : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم [ 4 \ 49 ] ، إنما هو بمعنى المدح والثناء ، كما في قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ 49 \ 14 ] ، بل إن في قوله تعالى : بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا [ 4 \ 49 ] ، الجمع بين الأمرين ، القدري والشرعي : بل الله يزكي من يشاء [ ص: 543 ] بفضله ، ولا يظلمون فتيلا بعدله . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : كذبت ثمود بطغواها إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها فكذبوه فعقروها " ثمود " : اسم للقبيلة أسند إليها التكذيب ، أي : بنبي الله صالح ، و " أشقاها " هو عاقر الناقة أسند الانبعاث له وحده بين ما جاء بعده : فكذبوه فعقروها ، فأسند العقر لهم .
وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الجمع بين ذلك في سورة " الزخرف " ، ومضمونه أنهم متواطئون معه كما في قوله : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، فكانوا شركاء له في عقرها ، كما قال الشاعر :
والسامع الذم شريك لقائله ومطعم المأكول شريك للآكل
وفي قصة أبي طلحة في صيد الحمار الوحشي ، سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم محرمون للعمرة : " هل دله عليه منكم أحد ؟ قالوا : لا ، قال : هل عاونه عليه منكم أحد ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا إذا : " لأن مفهومه : لو عاونوا أو دلوا لكانوا شركاء في صيده ، فيحرم عليهم ; لقوله تعالى : لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم [ 5 \ 95 ] ، وبعدم اشتراكهم حل لهم ، فلو عاونوا أو شاركوا لحرم عليهم ، وهنا لما كانوا راضين ، ونادوه وتعاطى ، سواء عهودهم أو عطاؤهم أو غير ذلك فعقرها وحده ، كان هذا باسم الجميع ، فكانت العقوبة باسم الجميع ، ويؤخذ من هذا قتل الجماعة بالواحد ، وعقوبة الربيئة مع الجاني . والله تعالى أعلم .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ اللَّيْلِ .
قوله تعالى : والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى
يقسم الله تعالى بالليل والنهار وأثرهما على الكون ، على أنهما آيتان عظيمتان .
وتقدم الكلام عليهما في السورة قبلها عند قوله : والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها [ 91 \ 3 - 4 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - الكلام على هاتين الآيتين ، عند قوله تعالى : وجعلنا الليل والنهار آيتين [ 17 \ 12 ] ، في سورة " بني إسرائيل " ، وذكر كل النصوص في هذا المعنى . وأثر الليل والنهار في حياة الناس ، ومعرفة الحساب ونحوه .
قوله تعالى : وما خلق الذكر والأنثى
تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحث هذه المسألة ، وإيراد كل النصوص في عدة مواضع ، أشار إليها كلها في سورة " النجم " عند قوله تعالى : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 45 - 46 ] ، وقد قرئت بعدة قراءات منها : خلق الذكر والأنثى ، ومنها " والذكر والأنثى " .
وذكرها ابن كثير مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في صحيح البخاري ومسلم ، وعلى القراءة المشهورة .
وما خلق الذكر والأنثى ، اختلف في لفظة : " ما " فقيل : إنها مصدرية ، أي : وخلق الذكر والأنثى .
وقيل : بمعنى من ، أي : والذي خلق الذكر والأنثى . فعلى الأول يكون القسم [ ص: 545 ] بصفة من صفات الله - وهي صفة الخلق ، ويكون خص الذكر والأنثى ; لما فيهما من بديع صنع الله وقوة قدرته سبحانه على ما يأتي .
وعلى قراءة : " والذكر والأنثى " . يكون القسم بالمخلوق كالليل والنهار ، لما في الخلق من قدرة الخالق أيضا ، وعلى أنها بمعنى الذي يكون القسم بالخالق سبحانه ، وتكون ما هنا مثل ما في قوله : والسماء وما بناها [ 91 \ 5 ] ، وغاية ما فيه استعمالها وهي في الأصل لغير أولي العلم ، إلا أنها لوحظ فيها معنى الصفة ، وهي صفة الخلق أو على ما تستعمله العرب عند القرينة ، كقوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم [ 4 \ 22 ] ، وقوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] ، لما لوحظ فيه معنى الصفة وهو الاستمتاع ; ساغ استعمال ما بدلا عن من .
وفي اختصاص خلق الذكر والأنثى في هذا المقام لفت نظر إلى هذه الصفة ، لما فيها من إعجاز البشر عنها ، كما في الليل والنهار من الإعجاز للبشر : من أن يقدروا على شيء في خصوصه ، كما قدمنا في السورة قبلها .
وذلك : أن أصل التذكير والتأنيث أمر فوق إدراك وقوى البشر ، وهي كالآتي :
أولا : في الحيوانات الثديية ، وهي ذوات الرحم تحمل وتلد ، فإنها تنتج عن طريق اتصال الذكور بالإناث . وتذكير الجنين أو تأنيثه ليس لأبويه دخل فيه ، إنه من نطفة أمشاج ، أي : أخلاط من ماء الأب والأم ، وجعل هذا ذكرا وذاك أنثى ، فهو هبة من الله كما في قوله : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] .
وقد ثبت علميا أن سبب التذكير والتأنيث من جانب الرجل ، أي : أن ماء المرأة صالح لهذا وذاك ، وماء الرجل هو الذي به يكون التمييز ; لانقسام يقع فيه . فالمرأة لا تعدو أن تكون حرثا ، والرجل هو الزارع ، ونوع الزرع يكون عن طريقه ، كما أشارت إليه الآية الكريمة : نساؤكم حرث لكم [ 2 \ 223 ] ، والحرث لا يتصرف في الزرع ، وإنما التصرف عن طريق الحارث .
ويتم ذلك عن طريق مبدأ معلوم علميا ، وهو أن خلية التلقيح في الأنثى دائما وأبدا [ ص: 546 ] مكونة من ثمانية وأربعين جزءا ، وهي دائما وأبدا تنقسم إلى قسمين متساويين : أربعة وعشرين ، فيلتحم قسم منها مع قسم خلية الذكر ، وخلية الذكر سبعة وأربعون ، وإنما أبدا تنقسم أيضا عند التلقيح إلى قسمين ، ولكن أحدهما أربعة وعشرون ، والآخر ثلاثة وعشرون ، فإذا أراد الله تذكير الحمل سبق القسم الذي من ثلاثة وعشرين . فيندمج مع قسيم خلية الأنثى ، وهو أربعة وعشرون ، فيكون مجموعهما سبعة وأربعين ، فيكون الذكر بإذن الله .
وإذا أراد الله تأنيث الحمل سبق القسم الذي هو أربعة وعشرون من الرجل ، فيندمج مع قسيم خلية المرأة أربعة وعشرين ، فيكون من مجموعهما ثمانية وأربعون ، فتكون الأنثى بإذن الله ، وهكذا في جميع الحيوانات .
أما النباتات فإن بعض الأشجار تتميز فيه الذكور من الإناث ، كالنخل ، والتوت مثلا ، وبقية الأشجار تكون الشجرة الواحدة تحمل زهرة الذكورة وزهرة الأنوثة ، فتلقح الرياح بعضها من بعض .
وقد حدثني عدة أشخاص عن غريبتين في ذلك :
إحداهما : أن نخلة موجودة حتى الآن ، في بعض السنين فحلا يؤخذ منه ليؤبر النخيل ، وفي بعض السنين نخلة تطلع وتثمر .
وحدثني آخر في نفس المجلس : من أنه توجد عندهم شجرة نخل يكون أحد شقيها فحلا ; يؤخذ منه الطلع يلقح به النخل ، وشقها الآخر نخلة يتلقح من الشق الآخر لمجاورته .
كما حدثني ثالث : أن والده قطع بعض فحل النخل ; لكثرته في النخيل ، وبعد قطعه نبت في أصله ومن جذعه وجذوره نخلة تثمر . وكل ذلك على خلاف العادة ، ولكنه دال على قدرة الله تعالى ، وأنه خالق الذكر والأنثى .
أما عمل هذا الجهاز في الحيوانات ، بل وفي الحشرات الدقيقة وتكاثرها ، فهو فوق الحصر والحد .
وقد ذكروا في عالم الحشرات ، ما يلقح نفسه بنفسه ، باحتكاك بعض فخذية ببعض ، وكل ذلك مما لا يعلمه ولا يقدر على إيجاده إلا الله سبحانه وتعالى ، مما لو [ ص: 547 ] تأمله العاقل لوجد فيه كما أسلفنا القدرة الباهرة ، أعظم مما في الليل إذا يغشى وما في النهار إذا تجلى ، ولا سيما إذا صغر الكائن : كالبعوضة فما دونها مما لا يكاد يرى بالعين ، ومع ذلك فإن فيه الذكورة والأنوثة . سبحانك اللهم ما أعظم شأنك .
قوله تعالى : إن سعيكم لشتى
تقدم في السورة الأولى قوله تعالى : قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ 91 \ 9 - 10 ] ، وكلاهما بالسعي إليه والعمل من أجله ، وهنا يقول : " إن سعيكم " مهما كان " لشتى " ، أي : متباعد بعض عن بعض .
والشتات : التباعد والافتراق ، وشتى : جمع شتيت ، كمرضى ومريض ، وقتلى وقتيل ونحوه ، ومنه قول الشاعر :
قد يجمع الله الشتيتين بعد ما يظنان كل الظن ألا تلاقيا
وهذا جواب القسم ، وفي القسم ما يشعر بالارتباط به ، كبعد ما بين الليل والنهار ، وما بين الذكر والأنثى ، فهما مختلفان تماما ، وهكذا هما مفترقان في النتائج والوسائل ، كبعد ما بين فلاح من زكاها ، وخيبة من دساها المتقدم في السورة قبلها .
ثم فصل هذا الشتات في التفصيل الآتي : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى
وما أبعد ما بين العطاء ، والبخل ، والتصديق ، والتكذيب ، واليسرى ، والعسرى ، وقد أطلق : " أعطى " ; ليعم كل عطاء من ماله وجاهه وجهده حتى الكلمة الطيبة ، بل حتى طلاقة الوجه ، كما في الحديث : " ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق " . والحسنى : قيل المجازاة على الأعمال . وقيل : للخلف على الإنفاق . وقيل : لا إله إلا الله . وقيل : الجنة .
والذي يشهد له القرآن هو الأخير ; لقوله تعالى : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، فقالوا : الحسنى هي الجنة ، والزيادة النظر إلى وجهه الكريم ، وهذا [ ص: 548 ] المعنى يشمل كل المعاني ; لأنها أحسن خلف لكل ما ينفق العبد ، وخير وأحسن مجازاة على أي عمل مهما كان ، ولا يتوصل إليها إلا بلا إله إلا الله .
وقوله : فسنيسره لليسرى ، وقوله : فسنيسره للعسرى بعد ذكر " أعطى واتقى " في الأولى ، و " بخل واستغنى " في الثانية .
قيل : هو دلالة على أن فعل الطاعة ييسر إلى طاعة أخرى ، وفعل المعصية يدفع إلى معصية أخرى .
قال ابن كثير : مثل قوله تعالى : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] .
ثم قال : والآيات في هذا المعنى كثيرة ، دالة على أن الله - عز وجل - يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر .
والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة . وذكر عن أبي بكر عند أحمد ، وعن علي عند البخاري ، وعبد الله بن عمر عند أحمد ، وعدد كثير بروايات متعددة ، أشملها وأصحها حديث علي عند البخاري ، قال علي : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بقيع الغرقد في جنازة ، فقال : " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار " ، فقالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل ؟ فقال : اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له " ، ثم قرأ : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى إلى قوله للعسرى " فهي من الآيات التي لها تعلق ببحث القدر .
وتقدم مرارا بحث هذه المسألة . والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (595)
سُورَةُ الضُّحَى .
صـ 549 إلى صـ 559
تنبيه .
قال أبو حيان : جاء قوله : فسنيسره للعسرى على سبيل المقابلة ; لأن العسرى لا تيسير فيها . اهـ .
وهذا من حيث الأسلوب ممكن ، ولكن لا يبعد أن يكون معنى التيسير موجودا بالفعل ، إذ المشاهد أن من خذلهم الله - عياذا بالله - يوجد منهم إقبال وقبول وارتياح ، لما يكون أثقل وأشق ما يكون على غيرهم ، ويرون ما هم فيه سهلا ميسرا لا غضاضة [ ص: 549 ] عليهم فيه ، بل وقد يستمرئون الحرام ويستطعمونه .
كما ذكر لي شخص : أن لصا قد كف عن السرقة ; حياء من الناس ، وبعد أن كثر ماله وكبر سنه أعطى رجلا دراهم ; ليسرق له من زرع جاره ، فذهب الرجل ودار من جهة أخرى وأتاه بثمرة من زرعه هو ، أي : زرع اللص نفسه ، فلما أكلها تفلها ، وقال : ليس فيه طعمة المسروق ، فمن أين أتيت به ؟ قال : أتيت به من زرعك ، ألا تستحي من نفسك ، تسرق وعندك ما يغنيك . فخجل وكف .
وقد جاء عن عمر نقيض ذلك تماما ، وهو أنه لما طلب من غلامه أن يسقيه مما في شكوته من لبنه ، فلما طعمه استنكر طعمه ، فقال للغلام : من أين هذا ؟ فقال : مررت على إبل الصدقة فحلبوا لي منها ، وها هو ذا ، فوضع عمر إصبعه في فيه ، واستقاء ما شرب .
إنها حساسية الحرام استنكرها عمر ، وأحس بالحرام فاستقاءه ، وهذا وذاك بتيسير من الله تعالى ، وصدق - صلى الله عليه وسلم - : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " .
ونحن نشاهد في الأمور العادية أصحاب المهن والحرف كل واحد راض بعمله وميسر له ، وهكذا نظام الكون كله ، والذي يهم هنا أن كلا من الطاعة أو المعصية له أثره على ما بعده .
تنبيه .
قيل : إن هذه المقارنة بين : من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " ، و " من بخل واستغنى وكذب بالحسنى " ، واقعة بين أبي بكر - رضي الله عنه - وبين غيره من المشركين .
ومعلوم أن العبرة بعموم اللفظ فهي عامة في كل من " أعطى واتقى وصدق " ، أو " بخل واستغنى وكذب " . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وما يغني عنه ماله إذا تردى
رد على " من بخل واستغنى " ، و " ما " هنا يمكن أن تكون نافية ، أي : لا يغني عنه شيء ، كما في قوله : ما أغنى عني ماليه [ 69 \ 28 ] ، وقوله : يوم لا ينفع مال ولا بنون [ 26 \ 88 ] .
[ ص: 550 ] ويمكن أن تكون استفهامية ، وقوله : إذا تردى ، أي : في النار - عياذا بالله - أو تردى في أعماله ، فمآله إلى النار ; بسبب بخله في الدنيا ، كما يشهد له قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة الآية [ 3 \ 180 ] .
قوله تعالى : إن علينا للهدى
فيه للعلماء أوجه ، منها : إن طريق الهدى دال وموصل علينا بخلاف الضلال .
ومنها : التزام الله للخلق عليه لهم الهدى ، وهذا الوجه محل إشكال ; إذ إن بعض الخلق لم يهدهم الله .
وقد بحث هذا الأمر الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في دفع إيهام الاضطراب : من أن الجواب عليه من حيث إن الهدى عام وخاص . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وإن لنا للآخرة والأولى
أي : بكمال التصرف والأمر ، وقد بينه تعالى في سورة " الفاتحة " : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] ، أي : المتصرف في الدنيا مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] ، أي : المتصرف في الآخرة وحده : لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .
وهذا كدليل على تيسيره لعباده إلى ما يشاء في الدنيا ، ومجازاتهم بما شاء في الآخرة .
قوله تعالى : فأنذرتكم نارا تلظى
أي : تتلظى ، واللظى : اللهب الخالص ، وفي وصف النار هنا بتلظى مع أن لها صفات عديدة منها : السعير ، وسقر ، والجحيم ، والهاوية ، وغير ذلك .
وذكر هنا صنفا خاصا ، وهو من " كذب وتولى " [ 92 \ 16 ] ، كما تقدم في موضع آخر في وصفها أيضا بلظى في قوله تعالى : كلا إنها لظى نزاعة للشوى [ 70 \ 15 - 16 ] ، ثم بين أهلها بقوله : تدعوا من أدبر وتولى وجمع فأوعى [ 70 \ 17 ] .
[ ص: 551 ] وهو كما هو هنا : فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى [ 92 \ 14 - 16 ] ، وهو المعنى في قوله قبله : وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى [ 92 \ 8 - 9 ] ، مما يدل أن للنار عدة حالات أو مناطق أو منازل ، كل منزلة تختص بصنف من الناس ، فاختصت لظى بهذا الصنف ، واختصت سقر بمن لم يكن من المصلين ، وكانوا يخوضون مع الخائضين ، ونحو ذلك . ويشهد له قوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ 4 \ 145 ] ، كما أن الجنة منازل ودرجات ، حسب أعمال المؤمنين . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى
هذه الآية من مواضع الإيهام ، ولم يتعرض لها في دفع إيهام الاضطراب ، وهو أنها تنص وعلى سبيل الحصر ، أنه لا يصلى النار إلا الأشقى مع مجيء قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 71 ] ; مما يدل على ورود الجميع .
والجواب من وجهين : الأول كما قال الزمخشري : إن الآية بين حالي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين .
فقيل : الأشقى وجعل مختصا بالصلى ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقال الأتقى ، وجعل مختصا بالجنة ، وكأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل عنهما : هما أبو جهل ، أو أمية بن خلف المشركين ، وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حكاه أبو حيان عن الزمخشري .
والوجه الثاني : هو أن الصلى الدخول والشيء ، وأن يكون وقود النار على سبيل الخلود ، والورود والدخول المؤقت بزمن غير الصلى ; لقوله في آية الورود ، التي هي قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها [ 19 \ 71 ] ، ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا [ 19 \ 72 ] ، ويبقى الإشكال ، بين الذين اتقوا وبين الأتقى ، ويجاب عنه : بأن التقي يرد ، والأتقى لا يشعر بورودها ، كمن يمر عليها كالبرق الخاطف . والله تعالى أعلم .
ولولا التأكيد في آية الورود بالمجيء بحرف " من " و " إلا " ، وقوله : كان على ربك حتما مقضيا ، لولا هذه المذكورات لكان يمكن أن يقال : إنها مخصوصة بهذه [ ص: 552 ] الآية ، وأن الأتقى لا يردها ، إلا أن وجود تلك المذكورات يمنع من القول بالتخصيص . والله تعالى أعلم .
وفيه تقرير مصير القسمين المتقدمين ، " من أعطى واتقى وصدق " ، و " من بخل واستغنى وكذب " ، وأن صليها بسبب التكذيب والتولي والإعراض وهو عين الشقاء ، ويتجنبها الأتقى الذي صدق ، وكان نتيجة تصديقه أنه أعطى ماله يتزكى ، وجعل إتيان المال نتيجة التصديق أمرا بالغ الأهمية .
وذلك أن العبد لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض ; لأن الدنيا كلها معاوضة ، حتى الحيوان تعطيه علفا يعطيك ما يقابله من خدمة أو حليب . إلخ .
فالمؤمن المصدق بالحسنى يعطي ، وينتظر الجزاء الأوفى ، الحسنة بعشر أمثالها ; لأنه مؤمن أنه متعامل مع الله ، كما في قوله : من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا [ 2 \ 245 ] .
أما المكذب : فلم يؤمن بالجزاء آجلا ، فلا يخرج شيئا ; لأنه لم يجد عوضا معجلا ، ولا ينتظر ثوابا مؤجلا ، ولذا كان الذين تبوءوا الدار والإيمان ، يحبون من هاجر إليهم ويواسونهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، إيمانا بما عند الله ، بينما كان المنافقون لا ينفقون إلا كرها ولا يخرجون إلا الرديء ، الذي لم يكونوا ليأخذوه من غيرهم إلا ليغمضوا فيه ، وكل ذلك سببه التصديق بالحسنى أو التكذيب بها .
ولذا جاء في الحديث الصحيح : " والصدقة برهان " أي : على صحة الإيمان بما وعد الله المتقين ، من الخلف المضاعفة الحسنة .
وقوله : يؤتي ماله يتزكى ، أي : يتطهر ويستزيد ، إذ التزكية تأتي بمعنى النماء ، كقوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [ 9 \ 103 ] ، وهذا رد على قوله تعالى : قد أفلح من تزكى [ 87 \ 14 ] ، وعلى عموم : فأما من أعطى واتقى [ 92 \ 5 ] ، ولا يقال : إنها زكاة المال ; لأن الزكاة لم تشرع إلا بالمدينة ، والسورة مكية عند الجمهور ، وقيل : مدنية . والصحيح الأول .
تنبيه .
[ ص: 553 ] قد قيل أيضا : إن المراد بقوله : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، إلى آخر السورة . نازل في أبي بكر - رضي الله عنه - لما كان يعتق ضعفة المسلمين ، ومن يعذبون على إسلامهم في مكة ، فقيل له : لو اشتريت الأقوياء يساعدونك ويدافعون عنك . فأنزل الله الآيات إلى قوله : وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى [ 92 \ 19 - 20 ] ، وابتغاء وجه رب هو بعينه ، وصدق بالحسنى ، أي : لوجه الله يرجو الثواب من الله .
وكما تقدم ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإن صورة السبب قطعية الدخول . فهذه بشرى عظيمة للصديق - رضي الله عنه - : " ولسوف يرضى " في غاية من التأكيد من الله تعالى ، على وعده إياه - صلى الله عليه وسلم - وأرضاه .
وذكر ابن كثير : أن في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة : يا عبد الله هذا خير ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، ما على من يدعى منها ضرورة ، فهل يدعى منها كلها أحد ؟ " نعم ، وأرجو أن تكون منهم " . اهـ .
وإنا لنرجو الله كذلك فضلا منه تعالى .
تنبيه .
في قوله تعالى : ولسوف يرضى [ 92 \ 21 ] ، وذكر ابن كثير إجماع المفسرين أنها في أبي بكر - رضي الله عنه - أعلى منازل البشرى ; لأن هذا الوصف بعينه ، قيل للرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعا في السورة بعدها ، سورة " الضحى " : وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 4 - 5 ] ، فهو وعد مشترك للصديق وللرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أسند العطاء فيه لله تعالى بصفة الربوبية : ولسوف يعطيك ربك ، كما ذكر فيه العطاء ، مما يدل على غيره - صلى الله عليه وسلم - وهو معلوم بالضرورة من أنه - صلى الله عليه وسلم - له عطاءات لا يشاركه فيها أحد ، على ما سيأتي إن شاء الله .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الضُّحَى .
قوله تعالى : والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى
تقدم معنى الضحى في السورة المتقدمة .
وقيل : المراد به هنا النهار كله ، كما في قوله : أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون [ 7 \ 97 - 98 ] ، وقوله : والليل إذا سجى قيل : أقبل ، وقيل : شدة ظلامه ، وقيل : غطى ، وقيل : سكن .
واختار الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في إملائه معنى : سكن .
واختار ابن جرير أنه سكن بأهله ، وثبت بظلامه ، قال : كما يقال : بحر ساج ، إذا كان ساكنا ، ومنه قول الأعشى :
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم وبحرك ساج ما يواري الدعامصا
وقول الراجز :
يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج
وأنشدهما القرطبي ، وذكر قول جرير :
ولقد رميتك يوم رحن بأعين ينظرن من خلل الستور سواج
أقسم تعالى بالضحى والليل هنا فقط ; لمناسبتها للمقسم عليه ; لأنهما طرفا الزمن وظرف الحركة والسكون ، فإنه يقول له مؤانسا : " ما ودعك ربك وما قلى " ، لا في ليل ولا في نهار ، على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله .
وقوله : ما ودعك ربك ، قرئ بالتشديد من توديع المفارق . وقرئ : " ما [ ص: 555 ] ودعك " ، بالتخفيف من الودع ، أي : من الترك ، كما قال أبو الأسود :
ليت شعري عن خليل ما الذي نما له في الحب حتى ودعه
أي تركه ، وقول الآخر :
وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر
أي تركوهم فرائس السيوف .
قال أبو حيان : والتوديع مبالغة في الودع ; لأن من ودعك مفارقا ، فقد بالغ في تركك . اهـ .
والقراءة الأولى أشهر وأولى ; لأن استعمال ودع بمعنى ترك قليل .
قال القرطبي ، وقال المبرد : لا يكادون يقولون : ودع ولا وذر ; لضعف الواو إذا قدمت واستغنوا عنها بترك ، ويدل على قول المبرد سقوط الواو في المضارع ، فتقول في مضارع ودع يدع كيزن ويهب ويرث ، من وزن ووهب وورث ، وتقول في الأمر : دع وزن ، وهب ، أما ذر بمعنى اترك ، فلم يأت منه الماضي ، وجاء المضارع : يذرهم ، والأمر : ذرهم . فترجحت قراءة الجمهور بالتشديد من : " ودعك " من التوديع .
وقد ذكرنا هذا الترجيح ; لأن ودع بمعنى ترك فيها شدة وشبه جفوة وقطيعة ، وهذا لا يليق بمقام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عند ربه . أما الموادعة والوداع ، فقد يكون مع المودة والصلة ، كما يكون بين المحبين عند الافتراق ، فهو وإن وادعه بجسمه فإنه لم يوادعه بحبه وعطفه ، والسؤال عنه وهو ما يتناسب مع قوله تعالى : وما قلى .
تنبيه .
هنا : " ما ودعك " بصيغة الماضي ، وهو كذلك للمستقبل ، بدليل الواقع وبدليل : وللآخرة خير لك من الأولى [ 93 \ 4 ] ; لأنها تدل على مواصلة عناية الله به ، حتى يصل إلى الآخرة فيجدها خيرا له من الأولى ، فيكون ما بين ذلك كله في عناية ورعاية ربه .
وقد جاء في صلح الحديبية ، قال لعمر : " أنا عبد الله ورسوله " ، أي : تحت رحمته وفي رعايته .
[ ص: 556 ] وقوله : " وما قلى " ، حذف كاف الخطاب لثبوتها فيما معها ، فدلت عليها ، هكذا قال المفسرون .
وقال بعضهم : تركت لرأس الآية ، والذي يظهر من لطيف الخطاب ورقيق الإيناس ومداخل اللطف ، أن الموادعة تشعر بالوفاء والود ، فأبرزت فيها كاف الخطاب ، أي : لم تتأت موادعتك وأنت الحبيب ، والمصطفى المقرب .
أما : " قلى " : ففيها معنى البغض ، فلم يناسب إبرازها إمعانا في إبعاد قصده - صلى الله عليه وسلم - بشيء من هذا المعنى ، كما تقول لعزيز عليك : لقد أكرمتك ، وما أهنت ، لقد قربتك ، وما أبعدت ، كراهية أن تنطق بإهانته وكراهيته ، أو تصرح بها في حقه ، والقلى : يمد ويقصر هو البغض ، يمد إذا فتحت القاف ، ويقصر إذا كسرتها ، وهو واوي ويائي ، وذكر القرطبي ، قال : أنشد ثعلب :
أيام أم الغمر لا نقلاها ولو تشاء قبلت عيناها
وقال كثير عزة :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
فالأول قال : فقلاها من الواوي ، والثاني قال : مقلية من الياء ، وهما في اللسان شواهد .
وقد جاء في السيرة ما يشهد لهذا المعنى ، ويثبت دوام موالاته سبحانه لحبيبه ، وعنايته به وحفظه له بما كان بكاؤه به عمه ، وقد قال عمه في ذلك :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
وذكر ابن هشام في رعاية عمه له ، أنه كان إذا جن الليل وأرادوا أن يناموا ، تركه مع أولاده ينامون ، حتى إذا أخذ كل مضجعه ، عمد عمه إلى واحد من أبنائه ، فأقامه وأتى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ينام موضعه ، وذهب بولده ينام مكان محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حتى إذا كان هناك من يريد به سوءا فرأى مكانه في أول الليل ، ثم جاء من يريده بسوء وقع السوء بابنه ، وسلم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما فعل الصديق - رضي الله عنه - عند الخروج إلى الهجرة في طريقهما إلى الغار ، فكان - رضي الله عنه - تارة يمشي أمامه - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة يمشي وراءه ، فسأله - صلى الله عليه وسلم - عن [ ص: 557 ] ذلك ، فقال : " أذكر الرصيد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون وراءك ، فقال : " أتريد لو كان سوء يكون بك يا أبا بكر ؟ " قال : بلى ، فداك أبي وأمي يا رسول الله ، ثم قال : إن أهلك أهلك وحدي ، وإن تهلك تهلك معك الدعوة " ، فذاك عمه في جاهلية وليس على دينه - صلى الله عليه وسلم - وهذا أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - .
قوله تعالى : وللآخرة خير لك من الأولى
" خير " تأتي مصدرا كقوله : " إن ترك خيرا " [ 2 \ 180 ] أي : مالا كثيرا ، وتأتي أفعل تفضيل محذوفة الهمزة ، وهي هنا أفعل تفضيل بدليل ذكر المقابل ، وذكر حرف " من " ، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة ، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا ، ويوهم أن الآخرة خير له - صلى الله عليه وسلم - وحده من الأولى ، ولكن جاء النص كدليل ذكر المقابل ، وذكر حرف " من " ، مما يدل على أنه سبحانه أعطاه في الدنيا خيرات كثيرة ، ولكن ما يكون له في الآخرة فهو خير وأفضل مما أعطاه في الدنيا ، ويوهم أن الآخرة خير له - صلى الله عليه وسلم - وحده من الأولى ، ولكن جاء النص على أنها خير للأبرار جميعا ، وهو قوله تعالى : وما عند الله خير للأبرار [ 3 \ 198 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيان الخيرية للأبرار عند الله ، أي : يوم القيامة بما أعد لهم ، كما في قوله : إن الأبرار لفي نعيم [ 82 \ 13 ] ، وقوله : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] .
أما بيان الخيرية هنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيان الخير في الدنيا أولا ، ثم بيان الأفضل منه في الآخرة .
أما في الدنيا المدلول عليه بأفعل التفضيل ، أي : لدلالته على اشتراك الأمرين في الوصف ، وزيادة أحدهما على الآخر ، فقد أشار إليه في هذه السورة والتي بعدها ، ففي هذه السورة قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى [ 93 \ 6 ] ، أي : منذ ولادته ونشأته ، ولقد تعهده الله سبحانه من صغره فصانه عن دنس الشرك ، وطهره وشق صدره ونقاه ، وكان رغم يتمه سيد شباب قريش ، حيث قال عمه عند خطبته خديجة لزواجه بها ، فقال : " فتى لا يعادله فتى من قريش ، حلما وعقلا وخلقا ، إلا رجح عليه " .
وقوله : ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى [ 93 \ 7 - 8 ] .
على ما سيأتي بيانه كله ، فهي نعم يعددها تعالى عليه ، وهي من أعظم خيرات الدنيا [ ص: 558 ] من صغره إلى شبابه وكبره ، ثم اصطفائه بالرسالة ، ثم حفظه من الناس ، ثم نصره على الأعداء ، وإظهار دينه وإعلاء كلمته .
ومن الناحية المعنوية ما جاء في السورة بعدها : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 1 - 4 ] .
أما خيرية الآخرة على الأولى ، فعلى حد قوله : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] ، وليس بعد الرضى مطلب ، وفي الجملة : فإن الأولى دار عمل وتكليف وجهاد ، والآخرة دار جزاء وثواب وإكرام ، فهي لا شك أفضل من الأولى .
قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى
جاء مؤكدا باللام وسوف ، وقال بعض العلماء : يعطيه في الدنيا من إتمام الدين وإعلاء كلمة الله ، والنصر على الأعداء .
والجمهور : أنه في الآخرة ، وهذا وإن كان على سبيل الإجمال ، إلا أنه فصل في بعض المواضع ، فأعظمها ما أشار إليه قوله تعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ 17 \ 79 ] .
وجاء في السنة بيان المقام المحمود ، وهو الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون ، كما في حديث الشفاعة العظمى حين يتخلى كل نبي ، ويقول : " نفسي نفسي ، حتى يصلوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : أنا لها أنا لها " إلخ .
ومنها : الحوض المورود ، وما خصت به أمته غرا محجلين ، يردون عليه الحوض .
ومنها : الوسيلة ، وهي منزلة رفيعة عالية لا تنبغي إلا لعبد واحد ، كما في الحديث : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا علي وسلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد ، وأرجو أن أكون أنا هو " .
وإذا كانت لعبد واحد فمن يستقدم عليها ، وإذا رجا ربه أن تكون له طلب من الأمة طلبها له ، فهو مما يؤكد أنها له ، وإلا لما طلبها ولا ترجاها ، ولا أمر بطلبها له . وهو بلا شك أحق بها من جميع الخلق ، إذ الخلق أفضلهم الرسل ، وهو - صلى الله عليه وسلم - مقدم عليهم في الدنيا ، كما في الإسراء تقدم عليهم في الصلاة في بيت المقدس .
[ ص: 559 ] ومنها : الشفاعة في دخول الجنة ، كما في الحديث : " أنه - صلى الله عليه وسلم - أول من تفتح له الجنة ، وأن رضوان خازن الجنة يقول له : أمرت ألا أفتح لأحد قبلك " .
ومنها : الشفاعة المتعددة حتى لا يبقى أحد من أمته في النار ، كما في الحديث : " لا أرضى وأحد من أمتي في النار " أسأل الله أن يرزقنا شفاعته ، ويوردنا حوضه . آمين .
وشفاعته الخاصة في الخاص في عمه أبي طالب ، فيخفف عنه بها ما كان فيه .
ومنها : شهادتة على الرسل ، وشهادة أمته على الأمم وغير ذلك ، وهذه بلا شك عطايا من الله العزيز الحكيم لحبيبه وصفيه الكريم ، - صلوات الله وسلامه عليه - ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .
تنبيه .
اللام في وللآخرة وفي ولسوف للتأكيد وليست للقسم ، وهي في الأول دخلت على المبتدأ ، وفي الثانية المبتدأ محذوف تقديره : لأنت سوف يعطيك ربك فترضى . قاله أبو حيان وأبو السعود .
قوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى
تقدم بيان معنى اليتيم عند قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] .
والرسول - صلى الله عليه وسلم - مات أبوه ، وهو حمل له ستة أشهر ، وماتت أمه وهي عائدة من المدينة بالأبواء وعمره - صلى الله عليه وسلم - .
وقد قيل : إن يتمه ; لأنه لا يكون لأحد حق عليه ، نقله أبو حيان .
والذي يظهر أن يتمه راجع إلى قوله : ما ودعك ربك ، أي : ليتولى الله تعالى أمره من صغره ، وتقدم معنى إيواء الله له ، فكان يتمه لإبراز فضله ; لأن يتيم الأمس أصبح سيد الغد ، وكافل اليتامى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:43 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (596)
سُورَةُ الضُّحَى .
صـ 560 إلى صـ 570
قوله تعالى : ووجدك ضالا فهدى [ ص: 560 ] الضلال : يكون حسا ومعنى ، فالأول : كمن تاه في طريق يسلكه ، والثاني : كمن ترك الحق فلم يتبعه .
فقال قوم : المراد هنا هو الأول ، كأن قد ضل في شعب من شعاب مكة ، أو في طريقه إلى الشام . ونحو ذلك .
وقال آخرون : إنما هو عبارة عن عدم التعليم أولا ، ثم منحه من العلم مما لم يكن يعلم ، كقوله : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [ 42 \ 52 ] .
وتقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحث هذه المسألة في عدة مواضع :
أولا : في سورة " يوسف " عند قوله تعالى : إن أبانا لفي ضلال مبين [ 12 \ 8 ] ، وساق شواهد الضلال لغة هناك .
وثانيا : في سورة " الكهف " عند قوله تعالى : الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا [ 18 \ 104 ] .
وثالثا : في سورة " الشعراء " عند قوله تعالى : قال فعلتها إذا وأنا من الضالين [ 26 \ 20 ] .
وفي دفع إيهام الاضطراب أيضا ، وهذا كله يغني عن أي بحث آخر .
ومن الطريف ما ذكره أبو حيان عند هذه الآية ، حيث قال : ولقد رأيت في النوم ، أني أفكر في هذه الجملة ، فأقول على الفور : " ووجدك " : أي : وجد رهطك " ضالا " فهداه بك ، ثم أقول : على حذف مضاف ، نحو : " واسأل القرية " [ 12 \ 82 ] . اهـ .
وقد أورد النيسابوري هذا وجها في الآية .
وبهذه المناسبة أذكر منامين كنت رأيتهما ولم أرد ذكرهما حتى رأيت هذا لأبي حيان ، فاستأنست به لذكرهما ، وهما : الأول : عندما وصلت إلى سورة " ن " عند قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] ، ومن منهج الأضواء تفسير القرآن بالقرآن ، وهذا وصف مجمل ، وحديث عائشة : " كان خلقه القرآن " فأخذت في التفكير ، كيف أفصل هذا المعنى من القرآن ، وأبين حكمه وصفحه وصبره وكرمه وعطفه ورحمته [ ص: 561 ] ورأفته وجهاده وعبادته ، وكل ذلك مما جعلني أقف حائرا وأمكث عن الكتابة عدة أيام ، فرأيت الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - في النوم ، كأننا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وكأنه ليس في نشاطه العادي ، فسألته ماذا عندك اليوم ؟
فقال : عندي تفسير . فقلت : أتدرس اليوم ؟ قال : لا ، فقلت : وما هذا الذي بيدك ؟ - لدفتر في يده - ، فقال : مذكرة تفسير ، أي : التي كان سيفسرها - وهي مخطوطة - ، فقلت له : من أين في القرآن ؟ فقال : من أول " ن " إلى آخر القرآن ، فحرصت على أخذها لأكتب منها ، ولم أتجرأ على طلبها صراحة ، ولكن قلت له : إذا كنت لم تدرس اليوم فأعطنيها أبيضها وأجلدها لك ، وآتيك بها غدا ، فأعطانيها فانتبهت فرحا بذلك وبدأت في الكتابة .
والمرة الثانية في سورة " المطففين " ، لما كتبت على معنى التطفيف ، ثم فكرت في التوعد الشديد عليه مع ما يتأتى فيه من شيء طفيف ، حتى فكرت في أن له صلة بالربا ، إذا ما بيع جنس بجنسه ، فحصلت مغايرة في الكيل ووقع تفاضل ، ولكني لم أجد من قال به ، فرأيت فيما يرى النائم ، أني مع الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - ، ولكن لم يتحدث معي في شيء من التفسير .
وبعد أن راح عني ، فإذا بشخص لا أعرفه يقول وأنا أسمع دون أن يوجه الحديث إلي : إن في التطفيف ربا ، إذا بيع الحديد بحديد ، وكلمة أخرى في معناها نسيتها بعد أن انتبهت .
وقد ذكرت ذلك تأسيا بأبي حيان ، لما أجد فيه من إيناس ، والله أسأل أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، وأن يهدينا سواء السبيل ، وعلى ما جاء في الرؤيا من مبشرات . وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى
العائل : صاحب العيال ، وقيل : العائل الفقير ، على أنه من لازم العيال الحاجة ، ولكن ليس بلازم ، ومقابلة " عائلا " بأغنى ، تدل على أن معنى " عائلا " أي : فقيرا ، ولذا قال الشاعر :
فما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل وما تدري وإن ذمرت سقبا
لغيرك أم يكون لك الفصيل
[ ص: 562 ] وهذا مما يذكره الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - من تعداد النعم عليه ، وأنه لم يودعه وما قلاه ، لقد كان فقيرا من المال فأغناه الله بمال عمه .
وقد قال عمه في خطبة نكاحه بخديجة : وإن كان في المال قل فما أحببتم من الصداق فعلي ، ثم أغناه الله بمال خديجة ، حيث جعلت مالها تحت يده .
قال النيسابوري ما نصه : يروى أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل على خديجة وهو مغموم ، فقالت : ما لك ؟ فقال : " الزمان زمان قحط ، فإن أنا بذلت المال ينفد مالك ، فأستحيي منك ، وإن أنا لم أبذل أخاف الله " ، فدعت قريشا وفيهم الصديق ، قال الصديق : فأخرجت دنانير حتى وضعتها ، بلغت مبلغا لم يقع بصري على من كان جالسا قدامي ، ثم قالت : اشهدوا أن هذا المال ماله ، إن شاء فرقه ، وإن شاء أمسكه .
فهذه القصة وإن لم يذكر سندها ، فليس بغريب على خديجة - رضي الله عنها - أن تفعل ذلك له - صلى الله عليه وسلم - ، وقد فعلت ما هو أعظم من ذلك ، حين دخلت معه الشعب فتركت مالها ، واختارت مشاركته - صلى الله عليه وسلم - لما هو فيه من ضيق العيش ، حتى أكلوا ورق الشجر ، وأموالها طائلة في بيتها .
ثم كانت الهجرة وكانت مواساة الأنصار ، لقد قدم المدينة تاركا ماله ومال خديجة ، حتى إن الصديق ليدفع ثمن المربد لبناء المسجد ، وكان بعد ذلك فيء بني النضير ، وكان يقضي الهلال ، ثم الهلال ، ثم الهلال ، لا يوقد في بيته - صلى الله عليه وسلم - نار ، إنما هما الأسودان : التمر والماء .
ثم جاءت غنائم حنين ، فأعطى عطاء من لا يخشى الفقر ، ورجع بدون شيء ، وجاء مال البحرين فأخذ العباس ما يطيق حمله ، وأخيرا توفي - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة في آصع من شعير .
وقوله تعالى : ووجدك عائلا فأغنى ، يشير إلى هذا الموضع ; لأن " أغنى " تعبير بالفعل ، وهو يدل على التجدد والحدوث ، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - من حيث المال حالا فحالا ، والواقع أن غناه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل كل شيء ، هو غنى النفس والاستغناء عن الناس ، ويكفي أنه - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس .
وكان إذا لقيه جبريل ودارسه القرآن كالريح المرسلة ، فكان - صلى الله عليه وسلم - القدوة في [ ص: 563 ] الحالتين ، في حالي الفقر والغنى ، إن قل ماله صبر ، وإن كثر بذل وشكر .
استغن ما أغناك ربك بالغنى وإذا تصبك خصاصة فتجمل
ومما يدل على عظم عطاء الله له مما فاق كل عطاء . قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم [ 15 \ 87 ] ، ثم قال : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين [ 15 \ 88 ] .
وقد اختلفوا في المقارنة بين الفقير الصابر والغني الشاكر ، ولكن الله تعالى قد جمع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - كلا الأمرين ; ليرسم القدوة المثلى في الحالتين .
تنبيه .
في الآية إشارة إلى أن الإيواء والهدى والغنى من الله ; لإسنادها هنا لله تعالى .
ولكن في السياق لطيفة دقيقة ، وهي معرض التقرير ، يأتي بكاف الخطاب : ألم يجدك يتيما ، ألم يجدك ضالا ، ألم يجدك عائلا ، لتأكيد التقرير ، لم يسند اليتم ولا الإضلال ولا الفقر لله ، مع أن كله من الله ، فهو الذي أوقع عليه اليتم ، وهو سبحانه الذي منه كلما وجده عليه ، ذلك لما فيه من إيلام له ، فما يسنده لله ظاهرا ، ولما فيه من التقرير عليه أبرز ضمير الخطاب .
وفي تعداد النعم : فآوى ، فهدى ، فأغنى . أسند كله إلى ضمير المنعم ، ولم يبرز ضمير الخطاب .
قال المفسرون : لمراعاة رءوس الآي والفواصل ، ولكن الذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أنه لما كان فيه امتنان ، وأنها نعم مادية لم يبرز الضمير لئلا يثقل عليه المنة ، بينما أبرزه في : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك [ 94 \ 1 - 2 ] ، ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 4 ] ; لأنها نعم معنوية ، انفرد بها . صلى الله عليه وسلم . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث
مجيء الفاء هنا مشعر ، إما بتفريع وهذا ضعيف ، وإما بإفصاح عن تعدد ، وقد ذكر الجمل بتقدير مهما يكن من شيء .
[ ص: 564 ] وقد ساق تعالى هنا ثلاث مسائل : الأولى : معاملة الأيتام ، فقال : فأما اليتيم فلا تقهر ، أي : كما آواك الله فآوه ، وكما أكرمك فأكرمه .
وقالوا : قهر اليتيم أخذ ماله وظلمه .
وقيل : قرئ بالكاف : " تكهر " ، فقالوا : هو بمعنى القهر إلا أنه أشد .
وقيل : هو بمعنى عبوسة الوجه ، والمعنى أعم ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن ومن العجز والكسل ، ومن الجبن والبخل ، ومن غلبة الدين وقهر الرجال " فالقهر أعم من ذلك .
وبالنظر في نصوص القرآن العديدة في شأن اليتيم ، والتي زادت على العشرين موضعا ، فإنه يمكن تصنيفها إلى خمسة أبواب كلها تدور حول دفع المضار عنه ، وجلب المصالح له في ماله وفي نفسه ، فهذه أربعة ، وفي الحالة الزوجية ، وهي الخامسة . أما دفع المضار عنه في ماله ، ففي قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ، جاءت مرتين في سورة " الأنعام " والأخرى في سورة " الإسراء " [ 17 \ 34 ] ، وفي كل من السورتين ضمن الوصايا العشر المعروفة في سورة " الأنعام " ، بدأت بقوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا [ 6 \ 151 ] .
وذكر قتل الولد ، وقربان الفواحش ، وقتل النفس ، ثم مال اليتيم : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " .
ويلاحظ أن النهي منصب على مجرد الاقتراب من ماله إلا بالتي هي أحسن ، وقد بين تعالى التي هي أحسن بقوله : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ 4 \ 6 ] .
وقد نص الفقهاء على أن من ولي مال اليتيم واستحق أجرا ، فله الأقل من أحد أمرين : إما نفقته في نفسه ، وإما أجرته على عمله ، أي : إن كان العمل يستحق أجرة ألف ريال ، ونفقته يكفي لها خمسمائة أخذ نفقته فقط ، وإن كان العمل يكفيه أجرة مائة ريال ، ونفقته خمسمائة أخذ أجرته مائة فقط ; حفظا لماله .
ثم بعد النهي عن اقتراب مال اليتيم ذلك ، فقد تتطلع بعض النفوس إلى فوارق [ ص: 565 ] بسيطة من باب التحيل أو نحوه ، من استبدال شيء مكان شيء ، فيكون طريقا لاستبدال طيب بخبيث ، فجاء قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا [ 4 \ 2 ] .
والحوب : أعظم الذنب ، ففيه النهي عن استبدال طيب ماله بخبيث مال الولي أو غيره حسدا له على ماله ، كما نهى عن خلط ماله مع مال غيره كوسيلة لأكله مع مال الغير ، وهذا منع للتحيل ، وسد للذريعة ; حفظا لماله .
ثم يأتي الوعيد الشديد في صورة مفزعة في قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [ 4 \ 10 ] .
وقد اتفق العلماء : أن الآية شملت في النهي عن أكل أموال اليتامى كل ما فيه إتلاف أو تفويت ، سواء كان بأكل حقيقة ، أو باختلاس ، أو بإحراق ، أو إغراق ، وهو المعروف عند الأصوليين بالإلحاق بنفي الفارق ، إذ لا فرق في ضياع مال اليتيم عليه ، بين كونه بأكل أو إحراق بنار أو إغراق في ماء حتى الإهمال فيه ، فهو تفويت عليه وكل ذلك حفظا لماله .
وأخيرا ، فإذا تم الحفاظ على ماله لم يقربه إلا بالتي هي أحسن ، ولم يبدله بغيره أقل منه ، ولم يخلطه بماله ليأكله عليه ، ولم يعتد عليه بأي إتلاف كان محفوظا له ، إلى أن يذهب يتمه ويثبت رشده ، فيأتي قوله تعالى : وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا [ 4 \ 6 ] .
ثم أحاط دفع المال إليه بموجبات الحفظ بقوله في آخر الآية : فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم [ 4 \ 6 ] أي : حتى لا تكون مناكرة فيما بعد .
وفي الختام ينبه الله فيهم وازع مراقبة الله بقوله : وكفى بالله حسيبا [ 4 \ 6 ] وفيه إشعار بأن أمواله تدفع إليه بعد محاسبة دقيقة فيما له وعليه .
ومهما يكن من دقة الحساب ، فالله سيحاسب عنه ، وكفى بالله حسيبا ، وهذا كله في حفظ ماله .
أما جلب المصالح ، فإننا نجد فيها أولا جعله مع الوالدين والأقربين في عدة [ ص: 566 ] مواطن ، منها قوله تعالى : قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى [ 2 \ 215 ] .
ومنها قوله إيراده في أنواع البر من الإيمان بالله وإنفاق المال : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين [ 2 \ 177 ] إلى آخر الآية .
ومنها : ما هو أدخل في الموضوع حيث جعل له نصيبا في التركة في قوله : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه [ 4 \ 8 ] ، بصرف النظر عن مباحث الآية من جهات أخرى ، ومرة أخرى يجعل لهم نصيبا فيما هو أعلى منزلة في قوله تعالى : واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله [ 8 \ 41 ] .
وكذلك في سورة " الحشر " في قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل الآية [ 59 \ 7 ] .
فجعلهم الله مع ذي القربى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد جعله الله في عموم وصف الأبرار ، وسببا للوصول إلى أعلى درجات النعيم في قوله تعالى : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا [ 76 \ 5 ] .
وذكر أفعالهم التي منها : " أنهم يوفون بالنذر " [ 76 \ 7 ] ثم بعدها أنهم : " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " [ 76 \ 8 ] .
وجعل هذا الإطعام اجتياز العقبة في قوله : فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة الآية [ 90 \ 11 - 15 ] .
ولقد وجدنا ما هو أعظم من ذلك ، وهو أن يسوق الله الخضر وموسى - عليهما السلام - ليقيما جدارا ليتيمين على كنز لهما حتى يبلغا أشدهما ، في قوله تعالى : وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] .
[ ص: 567 ] هذا هو الجانب المالي من دفع المضرة عنه في حفظ ماله ، ومن جانب جلب النفع إليه عن طريق المال .
أما الجانب النفسي فكالآتي :
أولا : عدم مساءته في نفسه ، فمنها قوله تعالى : أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين [ 107 \ 1 - 3 ] .
ومنها قوله : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين [ 89 \ 17 - 18 ] ، فقدم إكرامه إشارة له .
ثانيا : في الإحسان إليه ، منه قوله تعالى : لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى [ 2 \ 83 ] فيحسن إليه كما يحسن لوالديه ولذي القربى .
ومنها سؤال وجوابه من الله تعالى : ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح [ 2 \ 220 ] ، أي : تعاملونهم كما تعاملون الإخوان ، وهذا أعلى درجات الإحسان والمعروف ; ولذا قال تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح .
وفي تقديم ذكر المفسد على المصلح : إشعار لشدة التحذير من الإفساد في معاملته ، ولأنه محل التحذير في موطن آخر جعلهم بمنزلة الأولاد في قوله : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [ 4 \ 9 ] .
أي : حتى في مخاطبتهم إياهم لأنهم بمنزلة أولادهم ، بل ربما كان لهم أولاد فيما بعد أيتاما من بعدهم ، فكما يخشون على أولادهم إذا صاروا أيتاما من بعدهم ، فليحسنوا معاملة الأيتام في أيديهم ، وهذه غاية درجات العناية والرعاية .
تلك هي نصوص القرآن في حسن معاملة اليتيم وعدم الإساءة إليه ، مما يفصل مجمل قوله : فأما اليتيم فلا تقهر [ 93 \ 9 ] .
لا بكلمة غير سديدة ، ولا بحرمانه من شيء يحتاجه ، ولا بإتلاف ماله ، ولا بالتحيل على أكله وإضاعته ، ولا بشيء بالكلية ، لا في نفسه ولا في ماله .
[ ص: 568 ] والأحاديث من السنة على ذلك عديدة بالغة مبلغها في حقه ، وكان - صلى الله عليه وسلم - أرحم الناس به وأشفقهم عليه ، حتى قال : " أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين " ، يشير إلى السبابة والوسطى وفرج بينهما . رواه البخاري ، وأبو داود ، والترمذي .
وفي رواية أبي هريرة عند مسلم ومالك : " كافل اليتيم له أو لغيره " أي : قريب له ، أو بعيد عنه .
وعند أحمد والطبراني مرفوعا : " من ضم يتيما من بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه ، وجبت له الجنة " قال المنذري : رواة أحمد محتج بهم إلا علي بن زيد .
وعند ابن ماجه ، عن أبي هريرة : أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم ، يحسن إليه . وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه " .
وجاء عند أبي داود ما هو أبعد من هذا وذلك ، حتى إن الأم لتعطل مصالحها من أجل أيتامها ، في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة " ، وأومأ بيده يزيد بن زريع - بفتح الزاي وإسكان الياء - بالوسطى والسبابة " امرأة آمت زوجها " - بألف ممدودة وميم مفتوحة وتاء - أصبحت أيما بوفاة زوجها ، ذات منصب وجمال حبست نفسها على يتاماها حتى بانوا أو ماتوا " .
وجعله الله دواء لقساوة القلب ، كما روى أحمد ، ورجاله رجال الصحيح : عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسوة قلبه ، فقال : " امسح رأس اليتيم ، وأطعم المسكين " .
وهنا يتجلى سر لطيف في مثالية التشريع الإسلامي ، حيث يخاطب الله تعالى أفضل الخلق وأرحمهم ، وأرأفهم بعباد الله ، الموصوف بقوله تعالى : بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] وبقوله : وإنك لعلى خلق عظيم [ 68 \ 4 ] ، ليكون مثالا مثاليا في أمة قست قلوبها وغلظت طباعها ، فلا يرحمون ضعيفا ، ولا يؤدون حقا إلا من قوة يدينون لمبدأ : من عز بز ، ومن غلب استلب ، يفاخرون بالظلم ويتهاجون بالأمانة ، كما قال شاعرهم :
قبيلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
ويقول حكيمهم :
[ ص: 569 ]
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لم يظلم الناس يظلم
قوم يئدون بناتهم ، ويحرمون من الميراث نساءهم ، وتأكلون التراث أكلا لما ، وتحبون المال حبا ، فقلب مقاييسهم ، وعدل مفاهيمهم ، فألان قلوبهم ورقق طباعهم ، فلانوا مع هذا الضعيف وحفظوا حقه .
وحقيقة هذا التشريع الإلهي الحكيم منذ أربعة عشر قرنا ، تأتي فوق كل ما تتطلع إليه آمال الحضارات الإنسانية كلها ، مما يحقق كمال التكامل الاجتماعي بأبهى معانيه ، المنوه عنه في الآية الكريمة وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا [ 4 \ 9 ] ، فجعل كافل اليتيم اليوم ، إنما يعمل حتى فيما بعد لو ترك ذرية ضعافا ، وعبر هنا عن الأيتام بلازمهم ، وهو الضعف إبرازا لحاجة اليتيم إلى الإحسان ، بسبب ضعفه فيكونون موضع خوفهم عليهم لضعفهم ، فليعاملوا الأيتام تحت أيديهم ، كما يحبون أن يعامل غيرهم أيتامهم من بعدهم .
وهكذا تضع الآية أمامنا تكافلا اجتماعيا في كفالة اليتيم ، بل إن اليتيم نفسه ، فإنه يتيم اليوم ورجل الغد ، فكما تحسن إليه يحسن هو إلى أيتامك من بعدك ، وكما تدين تدان ، فإن كان خيرا كان الخير بالخير والبادئ أكرم ، وإن شرا كان بمثله والبادئ أظلم .
ومع هذا الحق المتبادل ، فإن الإسلام يحث عليه ويعني به ، ورغب في الإحسان إليه وأجزل المثوبة عليه ، وحذر من الإساءة عليه ، وشدد العقوبة فيه .
وقد يكون فيما أوردناه إطالة ، ولكنه وفاء بحق اليتيم أولا ، وتأثر بكثرة ما يلاقيه اليتيم ثانيا .
تنبيه .
ليس من باب الإساءة إلى اليتيم تأديبه والحزم معه ، بل ذلك من مصلحته كما قيل :
قسا ليزدجروا ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم
وقوله : وأما السائل فلا تنهر ، قالوا : السائل : الفقير والمحتاج ، يسأل ما يسد حاجته وهو مقابل لقوله : ووجدك عائلا فأغنى أي : فكما أغناك الله وبدون سؤال [ ص: 570 ] فإذا أتاك سائل فلا تنهره ، ولو في رد الجواب بالتي هي أحسن .
ومعلوم : أن الجواب بلطف ، قد يقوم مقام العطاء في إجابة السائل ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يجد ما يعطيه للسائل يعده وعدا حسنا لحين ميسرة ; أخذا من قوله تعالى : وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا [ 17 \ 28 ] .
وقد أورد الشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بيتين عند هذه الآية في هذا المعنى ، هما قول الشاعر :
إن لم تكن ورق يوما أجود بها للسائلين فإني لين العود لا يعدم السائلون الخير من خلقي
إما نوالي وإما حسن مردود
فليسعد النطق إن لم يسعد المال .
وقيل : السائل المستفسر عن مسائل الدين والمسترشد ، وقالوا هذا مقابل قوله : ووجدك ضالا فهدى أي : لا تنهر مستغنيا ولا مسترشدا ، كقوله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ 80 \ 1 - 2 ] .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - رحيما شفيقا على الجاهل حتى يتعلم ، كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد حين صاح به الصحابة ، فقال لهم : " لا تزرموه " إلى أن قال الأعرابي : اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا أبدا " وكالآخر الذي جاء يضرب صدره وينتف شعره ، ويقول : " هلكت وأهلكت ، واقعت أهلي في رمضان ، حتى كان من أمره أن أعطاه فرقا من طعامه يكفر به عن ذنبه ، فقال : أعلى أفقر منا يا رسول الله ؟ فقال : قم فأطعمه أهلك " .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يقف للمرأة في الطريق يصغي إليها حتى يضيق من معه ، وهو يصبر لها ولم ينهرها ، بل يجيبها على أسئلتها .
وقد حث - صلى الله عليه وسلم - على إكرام طالب العلم ، وبين أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم ، وأن الحيتان في البحر لتستغفر له رضى بما يصنع .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:44 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (597)
سُورَةُ الشَّرْحِ .
صـ 571 إلى صـ 580
وقوله : وأما بنعمة ربك فحدث : النعمة كل ما أنعم الله به على العبد ، وهي كل ما ينعم به العبد من : مال ، وعافية ، وهداية ، ونصرة من النعومة واللين ، فقيل : المراد بها [ ص: 571 ] المذكورات والتحدث بها شكرها عمليا من إيواء اليتيم كما آواه الله ، وإعطاء السائل كما أغناه الله ، وتعليم المسترشد كما علمه الله ، وهذا من شكر النعمة ، أي : كما أنعم الله عليك ، فتنعم أنت على غيرك ; تأسيا بفعل الله معك .
وقيل : التحدث بنعمة الله هو التبليغ عن الله من آية وحديث ، والنعمة هنا عامة ; لتنكيرها وإضافتها ، كما في قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [ 16 \ 53 ] ، أي : كل نعمة ، ولكن الذي يظهر أنها في الوحي أظهر أو هو أولى بها ، أو هو أعظمها ; لقوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] فقال : " نعمتي " ، وهنا " نعمة ربك " . ولا يبعد عندي أن يكون - صلى الله عليه وسلم - إنما نحر مائة ناقة في حجة الوداع ، لما أنزل الله عليه هذه الآية ، ففعل شكرا لله على إتمام النعمة بإكمال الدين .
وقد قالوا في مناسبة هذه السورة بما قبلها : إن التي قبلها في الصديق : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى [ 92 \ 17 - 21 ] ، وهنا في الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 3 - 5 ] مع الفارق الكبير في العطاء والخطاب .
والواقع أن مناسبات السور القصار أظهر من مناسبات الآي في السورة الواحدة ، كما بين هاتين السورتين : " والليل " مع " والضحى " ، ثم ما بين : " والضحى " و " ألم نشرح " إنها تتمة النعم التي يعددها الله تعالى على رسوله . وهكذا على ما ستأتي الإشارة إليه في محله إن شاء الله تعالى .
أعلم علما ; بأن بعض العلماء لم يعتبر تلك المناسبات . ولكن ما كانت المناسبة فيه واضحة ، فلا ينبغي إغفاله ، وما كانت خفية لا ينبغي التكلف له .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الشَّرْحِ .
قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك
ذكر تعالى هنا ثلاث مسائل : شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر .
وهي وإن كانت مصدرة بالاستفهام ، فهو استفهام تقريري لتقرير الإثبات ، فقوله تعالى : ألم نشرح بمعنى شرحنا على المبدأ المعروف ، من أن نفي النفي إثبات . وذلك ; لأن همزة الاستفهام وهي فيها معنى النفي دخلت على لم وهي للنفي ، فترافعا فبقي الفعل مثبتا . قالوا : ومثله قوله تعالى : أليس الله بكاف عبده [ 39 \ 36 ] . وقوله : ألم نربك فينا وليدا [ 26 \ 18 ] .
وعليه قول الشاعر :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
فتقرر بذلك أنه تعالى يعدد عليه نعمه العظمى ، وقد ذكرنا سابقا ارتباط هذه السورة بالتي قبلها في تتمة نعم الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم .
وروى النيسابوري عن عطاء وعمر بن عبد العزيز : أنهما كانا يقولان : هذه السورة وسورة " الضحى " سورة واحدة ، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة ، وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم ، والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى : ألم نشرح لك صدرك كالعطف على قوله : ألم يجدك يتيما [ 93 \ 6 ] ، ورد هذا الادعاء - أي من كونهما سورة واحدة - وعلى كل فإن هذا إذا لم يجعلهما سورة واحدة فإنه يجعلهما مرتبطتين معا في المعنى ، كما في " الأنفال " و " التوبة " .
[ ص: 573 ] واختلف في معنى شرح الصدر ، إلا أنه لا منافاة فيما قالوا ، وكلها يكمل بعضها بعضا .
فقيل : هو شق الصدر سواء كان مرة أو أكثر ، وغسله وملؤه إيمانا وحكمة ، كما في رواية مالك بن صعصعة في ليلة الإسراء ، ورواية أبي هريرة في غيرها .
وفيه كما في رواية أحمد : أنه شق صدره ، وأخرج منه الغل والحسد ، في شيء كهيئة العلقة ، وأدخلت الرأفة والرحمة .
وقيل : شرح الصدر إنما هو توسيعه للمعرفة والإيمان ومعرفة الحق ، وجعل قلبه وعاء للحكمة .
وفي البخاري عن ابن عباس : " شرح الله صدره للإسلام " .
وعند أبي كثير : نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا ، كقوله : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] .
والذي يشهد له القرآن : أن الشرح هو الانشراح والارتياح . وهذه حالة نتيجة استقرار الإيمان والمعرفة والنور والحكمة . كما في قوله تعالى : أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه [ 39 \ 22 ] فقوله : " فهو على نور من ربه " : بيان لشرح الصدر للإسلام .
كما أن ضيق الصدر ، دليل على الضلال ، كما في نفس الآية : ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا الآية [ 6 \ 125 ] .
وفي حاشية الشيخ زادة علي البيضاوي ، قال : لم يشرح صدر أحد من العالمين ، كما شرح صدره - عليه السلام - حتى وسع علوم الأولين والآخرين ، فقال : " أوتيت جوامع الكلم " اهـ .
ومراده بعلوم الأولين والآخرين ، ما جاء في القرآن من أخبار الأمم الماضية مع رسلهم وأخبار المعاد ، وما بينه وبين ذلك مما علمه الله تعالى .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - : أن شرح الصدر الممتن به عليه - صلى الله عليه وسلم - أوسع وأعم [ ص: 574 ] من ذلك ، حتى إنه ليشمل صبره وصفحه وعفوه عن أعدائه ، ومقابلته الإساءة بالإحسان ، حتى إنه ليسع العدو ، كما يسع الصديق .
كقصة عودته من ثقيف : إذ آذوه سفهاؤهم ، حتى ضاق ملك الجبال بفعلهم ، وقال له جبريل : إن ملك الجبال معي ، إن أردت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل ، فينشرح صدره إلى ما هو أبعد من ذلك ، ولكأنهم لم يسيئوا إليه فيقول : " اللهم اهد قومي ; فإنهم لا يعلمون ، إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله " .
وتلك أعظم نعمة وأقوى عدة في تبليغ الدعوة وتحمل أعباء الرسالة ، ولذا توجه نبي الله موسى إلى ربه يطلبه إياها ، لما كلف الذهاب إلى الطاغية فرعون كما في قوله تعالى : اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري [ 20 \ 24 - 31 ] .
فذكر هنا من دواعي العون على أداء الرسالة أربعة عوامل : بدأها بشرح الصدر ، ثم تيسير الأمر ، وهذان عاملان ذاتيان ، ثم الوسيلة بينه وبين فرعون ، وهو اللسان في الإقناع : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ، ثم العامل المادي أخيرا في المؤازرة : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري ، فقدم شرح الصدر على هذا كله لأهميته ; لأنه به يقابل كل الصعاب ، ولذا قابل به ما جاء به السحرة من سحر عظيم ، وما قابلهم به فرعون من عنت أعظم .
وقد بين تعالى من دواعي انشراح الصدر وإنارته ، ما يكون من رفعة وحكمة وتيسير ، وقد يكون من هذا الباب مما يساعد عليه تلقي تلك التعاليم من الوحي ، كقوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ 7 \ 199 ] ، وكقوله : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين [ 3 \ 134 ] مما لا يتأتى إلا ممن شرح الله صدره . ومما يعين الملازمة عليه على انشراح الصدر ، وفعلا قد صبر على أذى المشركين بمكة ، ومخادعة المنافقين بالمدينة ، وتلقى كل ذلك بصدر رحب .
[ ص: 575 ] وفي هذا كما قدمنا توجيه لكل داعية إلى الله ، أن يكون رحب الصدر ، هادئ النفس ، متجملا بالصبر .
وقوله : ووضعنا عنك وزرك [ 24 \ 2 ] ، والوضع يكون للحط والتخفيف ، ويكون للحمل والتثقيل ، فإن عدي بعن كان للحط ، وإن عدي بعلى كان للحمل ، في قولهم : وضعت عنك ، ووضعت عليك ، والوزر لغة الثقل .
ومنه : حتى تضع الحرب أوزارها ، أي : ثقلها من سلاح ونحوه .
ومنه : الوزير المتحمل ثقل أميره وشغله ، وشرعا الذنب كما في الحديث : " ومن سن سنة سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " ، وقد يتعاوران في التعبير كقوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة [ 16 \ 25 ] ، وقوله مرة أخرى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] .
وقد أفرد لفظ الوزر هنا وأطلق ، ولم يبين ما هو وما نوعه ، فاختلف فيه اختلافا كثيرا .
فقيل : ما كان فيه من أمر الجاهلية ، وحفظه من مشاركته معهم ، فلم يلحقه شيء منه .
وقيل : ثقل تألمه مما كان عليه قومه ، ولم يستطع تغييره ، وشفقته - صلى الله عليه وسلم - بهم ، أي : كقوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] ، أي : أسفا عليهم .
وقال أبو حيان : هو كناية عن عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الذنوب ، وتطهيره من الأرجاس .
وقال ابن جرير : وغفرنا لك ما سلف من ذنوبك ، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها .
وقال ابن كثير : هو بمعنى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر .
فكلام أبي حيان : يدل على العصمة ، وكلام ابن جرير يدل على شيء في الجاهلية ، وكلام ابن كثير مجمل .
[ ص: 576 ] وفي هذا المجال مبحث عصمة الأنبياء عموما ، وهو مبحث أصولي يحققه كتب الأصول لسلامة الدعوة ، وقد تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى علينا وعليه - بحثه في سورة " طه " عند الكلام على قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وأورد كلام المعتزلة والشيعة والحشوية ، ومقياس ذلك ، عقلا وشرعا ، وفي سورة " ص " عند قوله تعالى : وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه [ 38 \ 24 ] ، ونبه عندها على أن كل ما يقال في داود - عليه السلام - حول هذا المعنى ، كله إسرائيليات لا تليق بمقام النبوة . اهـ .
أما في خصوصه - صلى الله عليه وسلم - فإنا نورد الآتي : إنه مهما يكن من شيء ، فإن عصمته - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر والصغائر بعد البعثة يجب القطع بها ; لنص القرآن الكريم في قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ; لوجوب التأسي به ، وامتناع أن يكون فيه شيء من ذلك قطعا .
أما قبل البعثة ، فالعصمة من الكبائر أيضا ، يجب الجزم بها ; لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان في مقام التهيؤ للنبوة من صغره ، وقد شق صدره في سن الرضاع ، وأخرج منه حظ الشيطان ، ثم إنه لو كان قد وقع منه شيء لأخذوه عليه حين عارضوه في دعوته ، ولم يذكر من ذلك ولا شيء فلم يبق إلا القول في الصغائر ، فهي دائرة بين الجواز والمنع ، فإن كانت جائزة ووقعت ، فلا تمس مقامه - صلى الله عليه وسلم - لوقوعها قبل البعثة والتكليف ، وأنها قد غفرت وحط عنه ثقلها ، فإن لم تقع ولم تكن جائزة في حقه ، فهذا المطلوب .
وقد ساق الألوسي - رحمه الله - في تفسيره : أن عمه أبا طالب ، قال لأخيه العباس يوما : " لقد ضممته إلي وما فارقته ليلا ولا نهارا ولا ائتمنت عليه أحدا " ، وذكر قصة بنيه ومنامه في وسط أولاده أول الليل ، ثم نقله إياه محل أحد أبنائه حفاظا عليه ، ثم قال : " ولم أر منه كذبة ، ولا ضحكا ، ولا جاهلية ، ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون " .
وذكرت كتب التفسير : أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد مرة في صغره أن يذهب لمحل عرس ليرى ما فيه ، فلما دنا منه أخذه النوم ولم يصح إلا على حر الشمس ، فصانه الله من رؤيه أو سماع شيء من ذلك .
ومنه قصة مشاركته في بناء الكعبة حين تعرى ومنع منه حالا ، وعلى المنع من وقوع شيء منه - صلى الله عليه وسلم - بقي الجواب على معنى الآية ، فيقال - والله تعالى أعلم - : إنه تكريم له - صلى الله عليه وسلم - كما [ ص: 577 ] جاء في أهل بدر قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لعل الله اطلع على أهل بدر ، فقال : افعلوا ما شئتم ; فقد غفرت لكم " مع أنهم لن يفعلوا محرما بذلك ، ولكنه تكريم لهم ورفع لمنزلتهم .
وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتوب ، ويستغفر ، ويقوم الليل حتى تورمت قدماه ، وقال : " أفلا أكون عبدا شكورا " .
فكان كل ذلك منه شكرا لله تعالى ، ورفعا لدرجاته - صلى الله عليه وسلم - .
وقد جاء : " نعم العبد صهيب ، لو لم يخف الله لم يعصه " ، وهو حسنة من حسناته - صلى الله عليه وسلم - .
أو أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعتد على نفسه بالتقصير ، ويعتبر ذنبا يستثقله ويستغفر منه ، كما كان إذا خرج من الخلاء قال : " غفرانك " .
ومعلوم أنه ليس من موجب للاستغفار ، إلا ما قيل شعوره بترك الذكر في تلك الحالة ، استوجب منه ذلك .
وقد استحسن العلماء قول الجنيد : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو أن المراد مثل ما جاء في القرآن من بعض اجتهاداته - صلى الله عليه وسلم - وفي سبيل الدعوة ، فيرد اجتهاده فيعظم عليه : كقصة ابن أم مكتوم ، وعوتب فيه : عبس وتولى أن جاءه الأعمى الآية [ 80 \ 1 - 2 ] ، ونظيرها ولو كان بعد نزول هذه السورة ، إلا أنه من باب واحد كقوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ 9 \ 43 ] ، وقصة أسارى بدر ، وقوله : ليس لك من الأمر شيء [ 3 \ 128 ] ، واجتهاده في إيمان عمه ، حتى قيل له : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] ونحو ذلك . فتحمل الآية عليه ، أو أن الوزر بمعناه اللغوي ، وهو ما كان يثقله من أعباء الدعوة ، وتبليغ الرسالة ، كما ذكر ابن كثير في سورة " الإسراء " عن الإمام أحمد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت ، وعرفت أن الناس مكذبي ، فقعدت معتزلا حزينا ، فمر بي أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه ، فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نعم " ، وقص عليه الإسراء " .
ففيه التصريح بأنه - صلى الله عليه وسلم - فظع ، والفظاعة : ثقل وحزن ، والحزن : ثقل . وتوقع تكذيبهم إياه أثقل على النفس من كل شيء . والله تعالى أعلم .
[ ص: 578 ] وقوله تعالى : الذي أنقض ظهرك ، أي : ثقله ، مشعر بأن للذنب ثقلا على المؤمن ينوء به ، ولا يخففه إلا التوبة وحطه عنده .
وقوله : ورفعنا لك ذكرك لم يبين هنا بم ولا كيف رفع له ذكره ، والرفع يكون حسيا ويكون معنويا ، فاختلف في المراد به أيضا .
فقيل : هو حسي في الأذان والإقامة ، وفي الخطب على المنابر وافتتاحيات الكلام في الأمور الهامة ، واستدلوا لذلك بالواقع فعلا ، واستشهدوا بقول حسان - رضي الله عنه - وهي أبيات في ديوانه من قصيدة دالية :
أغر عليه للنبوة خاتم من الله مشهود يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
ومن رفع الذكر معنى ، أي : من الرفعة ، ذكره - صلى الله عليه وسلم - في كتب الأنبياء قبله ، حتى عرف للأمم الماضية قبل مجيئه .
وقد نص القرآن أن الله جعل الوحي ذكرا له ولقومه ، في قوله تعالى : فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك [ 43 \ 43 - 44 ] ، ومعلوم أن ذكره قومه ذكر له ، كما قال الشاعر :
وكم أب قد علا بابن ذرى رتب كما علت برسول الله عدنان
فتبين أن رفع ذكره - صلى الله عليه وسلم - ، إنما هو عن طريق الوحي ، سواء كان بنصوص من توجيه الخطاب إليه بمثل : ياأيها الرسول [ 5 \ 41 ] ، ياأيها النبي [ 8 \ 64 ] ، ياأيها المدثر [ 74 \ 1 ] ، والتصريح باسمه في مقام الرسالة : محمد رسول الله [ 48 \ 29 ] ، أو كان في فروع التشريع ، كما تقدم في أذان ، وإقامة ، وتشهد ، وخطب ، وصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب النصب : التعب بعد الاجتهاد ، كما في قوله : وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة [ 88 \ 2 - 3 ] .
[ ص: 579 ] وقد يكون النصب للدنيا أو للآخرة ، ولم يبين المراد بالنصب في أي شيء ، فاختلف فيه ، ولكنها أقوال متقاربة .
فقيل : في الدعاء بعد الفراغ من الصلاة .
وقيل : في النافلة من الفريضة ، والذي يشهد له القرآن ، أنه توجيه عام للأخذ بحظ الآخرة بعد الفراغ من عمل الدنيا ، كما في مثل قوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ، وقوله : إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا [ 73 \ 6 ] ، أي لأنها وقت الفراغ من عمل النهار وفي سكون الليل ، وقوله : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ 110 \ 1 - 3 ] ، فيكون وقته كله مشغولا ، إما للدنيا وإما للدين .
وفي قوله فإذا فرغت فانصب ، حل لمشكلة الفراغ التي شغلت العالم حيث لم تترك للمسلم فراغا في وقته ; لأنه إما في عمل للدنيا ، وإما في عمل للآخرة .
وقد روي عن ابن عباس : " أنه مر على رجلين يتصارعان ، فقال لهما : ما بهذا أمرنا بعد فراغنا " .
وروي عن عمر أنه قال : " إني لأكره لأحدكم أن يكون خاليا سبهللا ، لا في عمل دنيا ولا دين " ولهذا لم يشك الصدر الأول فراغا في الوقت .
ومما يشير إلى وضع الصدر الأول ، ما رواه مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنه قال : قلت لعائشة - رضي الله عنها - وأنا يومئذ حديث السن : " أرأيت قول الله تعالى : إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما [ 2 \ 158 ] ، فما على الرجل شيء ألا يطوف بهما ؟ فقالت عائشة : كلا ; لو كان كما تقول لكانت : فلا جناح عليه ألا يطوف بهما .
فانظر رحمك الله وإياي ، فيم يفكر حديث السن ، وكيف يستشكل معاني القرآن ، فمثله لا يوجد عنده فراغ .
تنبيه .
[ ص: 580 ] ذكر الألوسي في قوله تعالى : فانصب قراءة شاذة بكسر الصاد ، وأخذها الشيعة على الفراغ من النبوة ، ونصب علي إماما ، وقال : ليس الأمر متعينا بعلي ; فالسني يمكن أن يقول : فانصب أبا بكر ، فإن احتج الشيعي بما كان في غدير خم ، احتج السني ; بأن وقته لم يكن وقت الفراغ من النبوة .
بلى إن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " كان بعده ، وفي قرب فراغه - صلى الله عليه وسلم - من النبوة ، إذ كان في مرضه الذي مات فيه .
فإن احتج الشيعي بالفراغ من حجة الوداع ، رده السني بأن الآية قبل ذلك ، انتهى .
وعلى كل إذا كان الشيعة يحتجون بها ، فيكفي لرد احتجاجهم أنها شاذة ، وتتبع الشواذ قريب من التأويل المسمى باللعب عند علماء التفسير ، وهو صرف اللفظ عن ظاهره ، لا لقرينة صارفة ولا علاقة رابطة .
ومن اللعب في التأويل في هذه الآية ، ما يفعله بعض العوام : رأيت رجلا عاميا عاديا ، قد لبس حلة كاملة من : عمامة ، وثوب صقيل ، وحزام جميل مما يسمونه نصبة ، أي : بدلة كاملة ، فقال له رجل : ما هذه النصبة يا فلان ؟ فقال له : لما فرغت من عملي نصبت ، كما قال تعالى : فإذا فرغت فانصب .
كما سمعت آخر يتوجع لقلة ما في يده ، ويقول لزميله : ألا تعرف لي شخصا أنصب عليه ، أي : آخذ قرضة منه ، فقلت له : ولم تنصب عليه ؟ والنصب كذب وحرام . فقال : إذا لم يكن عند الإنسان شيء ، ويده خالية فلا بأس ; لأن الله قال : فإذا فرغت فانصب ، وهذا وأمثاله مما يتجرأ عليه العامة لجهلهم ، أو أصحاب الأهواء لنحلهم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:45 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (598)
سُورَةُ التِّين
صـ 3 إلى صـ 12
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةُ التِّين
قوله تعالى : والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين .
التين هو الثمرة المعروفة التي لا عجم لها ولا قشرة ، والزيتون هو كذلك الثمرة التي منها الزيت ، وطور سينين هو جبل الطور الذي ناجى موسى عنده ربه ، والبلد الأمين هو مكة المكرمة ، والواو للقسم .
وقد اختلف في المراد بالمقسم به في الأول ، والثاني التين والزيتون ، واتفقوا عليه في الثالث والرابع على ما سيأتي .
أما التين والزيتون ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنهما الثمرتان المعروفتان " وهو قول عكرمة والحسن ومجاهد . كلهم يقول : التين : تينكم الذي تأكلون ، والزيتون : زيتونكم الذي تعصرون .
وعن كعب : التين : مسجد دمشق ، والزيتون بيت المقدس . وكذا عن قتادة . وأرادوا منابت التين والزيتون بقرينة الطور والبلد الأمين ، على أن منبت التين والزيتون لعيسى ، وطور سينين لموسى ، والبلد الأمين لمحمد صلى الله عليه وسلم .
ولكن حمل التين والزيتون على منابتهما لا دليل عليه ، فالأولى إبقاؤهما على أصلهما ، ويشهد لذلك الآتي :
أولا التين : قالوا : إنه أشبه ما يكون من الثمار بثمر الجنة ، إذ لا عجم له ولا قشر ، وجاء عنه في السنة : " أنه صلى الله عليه وسلم أهدي له طبق فيه تين ، فأكل منه ثم قال لأصحابه : فلو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه ; لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه ، فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس " ذكره النيسابوري ولم يذكر من خرجه .
وذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد ، قائلا : ويذكر عن أبي الدرداء " أهدي إلى [ ص: 4 ] النبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين " وساق النص المتقدم . ثم قال : وفي ثبوت هذا نظر .
وقد ذكر المفسرون وابن القيم وصاحب القاموس : للتين خواص ، وقالوا : إنها مما تجعله محلا للقسم به ، وجزم ابن القيم : أنه المراد في السورة .
ومما ذكروا من خواصه ، قالوا : إنه يجلو رمل الكلى والمثانة ويؤمن من السموم ، وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة ، ويغسل الكبد والطحال ، وينقي الخلط البلغمي من المعدة ، ويغذي البدن غذاء جيدا ، ويابسه يغذي وينفع العصب .
وقال جالينوس : وإذا أكل مع الجوز والسذاب ، قبل أخذ السم القاتل نفع ، وحفظ من الضر ، وينفع السعال المزمن ويدر البول ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح ، ولأكله على الريق منفعة عجيبة .
وقال ابن القيم : لما لم يكن بأرض الحجاز والمدينة ، لم يأت له ذكر في السنة ، ولكن قد أقسم الله به في كتابه ، لكثرة منافعه وفوائده .
والصحيح : أن المقسم به هو التين المعروف . ا هـ .
وكما قال ابن القيم : لم يذكر في السنة لعدم وجوده بالحجاز والمدينة ، فكذلك لم يأت ذكره في القرآن قط إلا في هذا الموضع ، ولم يكن من منابت الحجاز والمدينة لمنافاة جوه لجوها ، وهو وإن وجد أخيرا إلا أنه لا يجود فيها جودته في غيرها .
فترجح أن المراد بالتين هو هذا المأكول ، كما جاء عمن سمينا : ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن .
أما الزيتون ، فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في المقدمة ، أن من أنواع البيان إذا اختلف في المعنى المراد ، وكان مجيء أحد المعنيين أو المعاني المحتملة أكثر في القرآن ، فإنه يكون أولى بحمل اللفظ عليه .
وقد جاء ذكر الزيتون في القرآن عدة مرات مقصودا به تلك الشجرة المباركة ، فذكر في ضمن الأشجار خاصة في قوله تعالى من سورة الأنعام : وجنات من أعناب والزيتون والرمان إلى قوله : إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون [ 6 \ 99 ] ، وسماها بذاتها في قوله تعالى من سورة المؤمنين : وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين [ 23 \ 20 ] [ ص: 5 ] وذكرها مع النخل والزرع في عبس في قوله تعالى : فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا [ 80 \ 27 - 29 ] ، وذكر من أخص خصائص الأشجار ، في قوله في سورة النور في المثل العظيم المضروب : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور [ 24 \ 35 ] . فوصفها بالبركة ووصف زيتها بأنه يكاد يضيء ، ولو لم تمسسه نار ، واختيارها لهذا المثل العظيم يجعلها أهلا لهذا القسم العظيم هنا .
أما طور سينين : فأكثرهم على أنه جبل الطور ، الذي ناجى الله موسى عنده ، كما جاء في عدة مواطن ، وذكر الطور فيها للتكريم وللقسم ، فمن ذكره للتكريم قوله تعالى : وناديناه من جانب الطور الأيمن [ 19 \ 52 ] ، ومن ذكره للقسم به قوله تعالى : والطور وكتاب مسطور [ 52 \ 1 - 2 ] .
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور قوله ، وقد أقسم الله بالطور في قوله تعالى : والتين والزيتون وطور سينين [ 95 \ 2 ] . ا هـ .
أما البلد الأمين فهو مكة لقوله تعالى : ومن دخله كان آمنا ، فالأمين بمعنى الآمن ، أي : من الأعداء ، أن يحاربوا أهله أو يغزوهم ، كما قال تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ 29 \ 67 ] ، والأمين بمعنى آمن ، جاء في قول الشاعر :
ألم تعلمي يا اسم ويحك أنني حلفت يمينا لا أخون أميني
يريد : آمني .
قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .
وهذا هو المقسم عليه ، والتقويم التعديل كما في قوله : ولم يجعل له عوجا قيما [ 18 \ 1 - 2 ] ، وأحسن تقويم شامل لخلق الإنسان حسا ومعنى أي شكلا وصورة وإنسانية ، وكلها من آيات القدرة ودلالة البعث .
وروي عن علي رضي الله عنه :
دواؤك منك ولا تشعر وداؤك منك ولا تبصر
[ ص: 6 ] وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الكبير
وقد بين تعالى خلقه ابتداء من نطفة فعلقة إلى آخره في أكثر من موضع ، كما في قوله : ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى [ 75 \ 34 - 40 ] .
وكذلك في هذه السورة التنبيه على البعث بقوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 7 ] .
أما الجانب المعنوي فهو الجانب الإنساني ، وهو المتقدم في قوله : ونفس وما سواها على ما قدمنا هناك ، من أن النفس البشرية هي مناط التكليف ، وهو الجانب الذي به كان الإنسان إنسانا ، وبهما كان خلقه في أحسن تقويم ، ونال بذلك أعلى درجات التكريم : ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] .
والإنسان وإن كان لفظا مفردا إلا أنه للجنس بدلالة قوله : ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا [ 95 \ 5 - 6 ] ، وهذا مثل ما في سورة : والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر [ 103 \ 1 - 6 ] ، فباستثناء الجمع منه ، علم أن المراد به الجنس .
والتأكيد بالقسم المتقدم على خلق الإنسان في أحسن تقويم يشعر أن المخاطب منكر لذلك ، مع أن هذا أمر ملموس محسوس ، لا ينكره إنسان .
وقد أجاب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب على ذلك : بأن غير المنكر إذا ظهرت عليه علامات الإنكار ، عومل معاملة المنكر ، كقول الشاعر :
جاء شقيق عارضا رمحه وإن بني عمك فيهم رماح
وأمارات الإنكار على المخاطبين ، إنما هي عدم إيمانهم بالبعث ; لأن العاقل لو تأمل خلق الإنسان ، لعرف منه أن القادر على خلقه في هذه الصورة ، قادر على بعثه .
وهذه المسألة أفردها الشيخ في سورة الجاثية بتنبيه على قوله تعالى : وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون [ 45 \ 4 ] ، وتكرر هذا البحث في عدة مواضع ، وأصرح دلالة على هذا المعنى ما جاء في آخر يس : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] .
قوله تعالى : ثم رددناه أسفل سافلين
. قيل : رد إلى الكبر والهرم وضعف الجسم والعقل .
إن الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
كما في قوله تعالى : ومن نعمره ننكسه في الخلق [ 36 \ 68 ] .
وذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا القول ، وساق معه قوله : الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة [ 30 \ 54 ] ، وساق آية التين هذه : ثم رددناه أسفل سافلين ، وقال : على أحد التفسيرين ، وقوله : ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا [ 22 \ 5 ] ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس ، رواه ابن جرير .
وقيل : رد إلى النار بسبب كفره ، وهذا مروي عن مجاهد والحسن .
وقد رجح ابن جرير المعنى الأول ، وهو كما ترى ، ما يشهد له القرآن في النصوص التي قدمنا ، واستدل لهذا الوجه من نفس السورة . وذلك لأن الله تعالى قال في آخرها : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 7 ] ، أي : بعد هذه الحجج الواضحة ، وهي بدء خلق الإنسان وتطوره إلى أحسن أمره ، ثم رده إلى أحط درجات العجز أسفل سافلين ، وهذا هو المشاهد لهم ، يحتج به عليهم .
أما رده إلى النار فأمر لم يشهده ولم يؤمنوا به ، فلا يصلح أن يكون دليلا يقيمه عليهم ; لأن من شأن الدليل أن ينقل من المعلوم إلى المجهول ، والبعث هو موضع إنكارهم ، فلا يحتج عليهم لإثبات ما ينكرونه بما ينكرونه ، وهذا الذي ذهب إليه واضح .
ومما يشهد لهذا الوجه : أن حالة الإنسان هذه في نشأته من نطفة ، فعلقة ، فطفل ، فغلام ، فشيخ ، فهرم ، وعجز . جاء مثلها في النبات وكلاهما من دلائل البعث ، كما في قوله : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو إلى قوله : كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان [ 57 \ 20 ] [ ص: 8 ] وقوله : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب [ 39 \ 21 ] .
فكذلك الإنسان ; لأنه كالنبات سواء كما قال تعالى : والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا [ 71 \ 17 - 18 ] .
ويكون الاستثناء إلا الذين آمنوا فإنهم لا يصلون إلى حالة الخوف وأرذل العمر ; لأن المؤمن مهما طال عمره ، فهو في طاعة ، وفي ذكر الله فهو كامل العقل ، وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته ، لا يصاب بالخرف ولا الهذيان .
وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة الشيخ حسن الشاعر ، لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير ، وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن ، ويعلمهم القراءات العشر ، وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع وهو يضبط على الجميع .
وقد روى الشوكاني مثله ، عن ابن عباس أنه قال ذلك .
قوله تعالى : فلهم أجر غير ممنون .
أي : غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم .
وعلى الأول : فالأجر هو الثواب ، إما بدوام أعمالهم لكمال عقولهم ، وإما بأن الله يأمر الملائكة أن تكتب لهم من الأجر ما كانوا يعملونه في حال قوتهم من صيام وقيام ، وتصدق من كسبهم ونحو ذلك ، للأحاديث في حق المريض والمسافر ، فيظل ثواب أعمالهم مستمرا عليهم غير مقطوع .
وعلى الثاني : فيكون الأجر هو النعيم في الجنة يعطونه ولا يمن به عليهم ، ولا يقطع عنهم كما قال تعالى :أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا [ 13 \ 35 ] .
تنبيه
وهنا وجهة نظر من وجهين : وجه خاص وآخر عام .
[ ص: 9 ] أما الخاص : فإن كلمة رددناه ، فالرد يشعر إلى رد لأمر سابق ، والأمر السابق هو خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وأحسن تقويم شامل لشكله ومعناه ، أي جسمه وإنسانيته ، فرده إلى أسفل سافلين ، يكون بعدم الإيمان كالحيوان بل هو في تلك الحالة أسفل دركا من الحيوان ، وأشرس نفسا من الوحش ، فلا إيمان يحكمه ولا إنسانية تهذبه ، فيكون طاغية جبارا يعيث في الأرض فسادا ، وعليه يكون الاستثناء إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فبإيمانهم وعملهم الصالحات يترفعون عن السفالة ، ويرتفعون إلى الأعلى فلهم أجر غير ممنون .
والوجهة العامة وهي الشاملة لموضوع السورة من أولها ابتداء من التين والزيتون وما معه في القسم إلى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا الآية [ 95 \ 4 - 6 ] .
فإنه إن صح ما جاء في قصة آدم في قوله : فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة [ 20 \ 121 ] . روى المفسرون أن آدم لما بدت له سوأته ذهب إلى أشجار الجنة ليأخذ من الورق ليستر نفسه ، وكلما جاء شجرة زجرته ولم تعطه ، حتى مر بشجرة التين فأعطته ، فأخلفها الله الثمرة مرتين في السنة ، وكافأها بجعل ثمرتها باطنها كظاهرها لا قشر لها ولا عجم .
وقد روى الشوكاني في أنها شجرة التين التي أخذ منها الورق . فقال : وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : " لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالا من الظفر ، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه " .
قال : وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال : " كان لباس آدم وحواء كالظفر - وذكر الأثر - وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " قال : ينزعان ورق التين ، فيجعلانه على سوآتهما .
وبهذا النقل يكون ذكر التين هنا مع خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم رده أسفل سافلين إلا الذين آمنوا سر لطيف جدا ، وهو إشعار الإنسان الآن ، أن جنس الإنسان كله بالإنسان الأول أبي البشر ، وقد خلقه الله في أحسن حالة حسا ومعنى ، حتى رفعه إلى [ ص: 10 ] منزلة إسجاد الملائكة له وسكناه الجنة ، فهي أعلى منزلة التكريم ، وله فيها أنه لا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ فيها ولا يضحى ، وظل كذلك على ذلك إلى أن أغواه الشيطان ونسي عهد ربه إليه ، ووقع فيما وقع فيه وكان له ما كان ، فدلاهما بغرور وانتقلا من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، فنزل إلى الأرض يحرث ويزرع ويحصد ويطحن ويعجن ويخبز ، حتى يجد لقمة العيش ، فهذا خلق الإنسان في أحسن تقويم ورده أسفل سافلين .
وهذا شأن أهل الأرض جميعا ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون برجوعهم إلى الجنة كما رجع إليها آدم بالتوبة فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ 20 \ 122 ] .
وإن في ذكر البلد الأمين لترشيح لهذا المعنى ; لأن الله جعل الحرم لأهل مكة أمنا كصورة الآمن في الجنة ، فإن امتثلوا وأطاعوا نعموا بهذا الأمن ، وإن تمردوا وعصوا ، فيخرجون منها ويحرمون أمنها .
وهكذا تكون السورة ربطا بين الماضي والحاضر ، وانطلاقا من الحاضر إلى المستقبل ، فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين [ 95 \ 7 - 8 ] . فيما فعل بآدم وفيما يفعل بأولئك ، حيث أنعم عليهم بالأمن والعيش الرغد ، وإرسالك إليهم وفيما يفعل لمن آمن أو بمن يكفر ، اللهم بلى .
قوله تعالى : فما يكذبك بعد بالدين .
فالدين هو الجزاء كما في سورة الفاتحة : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] والخطاب قيل للرسول صلى الله عليه وسلم . وأن " ما " في قوله : " فما " هي بمعنى " من " أي ، فمن الذي يكذبك بعد هذا البيان ، بمجيء الجزاء والحساب ليلقى كل جزاء عمله .
قوله تعالى : أليس الله بأحكم الحاكمين .
السؤال كما تقدم في : ألم نشرح [ 94 \ 1 ] ، أي : للإثبات ، وهو سبحانه وتعالى بلا شك أحكم الحاكمين ، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال : " اللهم بلى " كما سيأتي .
وأحكم الحاكمين ، قيل : أفعل تفضيل من الحكم أي : أعدل الحاكمين ، كما في [ ص: 11 ] قوله تعالى : ولا يظلم ربك أحدا [ 18 \ 49 ] .
وقيل : من الحكمة ، أي : في الصنع والإتقان والخلق ، فيكون اللفظ مشتركا ، ولا يبعد أن يكون من المعنيين معا ، وإن كان هو في الحكم أظهر ; لأن الحكيم من الحكمة يجمع على الحكماء .
فعلى القول بالأمرين : يكون من استعمال المشترك في معنييه معا ، وهو هنا لا تعارض بل هما متلازمان ; لأن الحكيم لا بد أن يعدل ، والعادل لا بد أن يكون حكيما يضع الأمور في مواضعها .
وقد بين تعالى هذا المعنى في عدة مواطن كقوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار [ 38 \ 28 ] ، الجواب : لا ، وكقوله : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون [ 45 \ 21 ] ، وفي قوله ساء ما يحكمون بيان لعدم عدالتهم في الحكم ، وبعده عن الحكمة .
ومعلوم أن عدم التسوية بينهم في مماتهم أنه بالبعث والجزاء ، فهو سبحانه أحكم الحاكمين في صنعه وخلقه . خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وأعدل الحكام في حكمه لم يسو بين المحسن والمسيء .
وقد اتفق المفسرون على رواية الترمذي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا : " من قرأ والتين والزيتون ، فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين ، فليقل : بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين " .
ومثله عن جابر مرفوعا ، وعن ابن عباس قوله : " سبحانك اللهم ، فبلى " . والعلم عند الله تعالى .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْعَلَق
قوله تعالى : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .
في هذه الآيات الخمس تسع مسائل مرتبط بعضها ببعض ارتباط السبب بالمسبب ، والعام بالخاص ، والدليل بالمدلول عليه ، وكلها من منهج هذا الكتاب المبارك . وفي الواقع أنها كلها مسائل أساسية بالغة الأهمية عظيمة الدلالة .
وقد قال عنها ابن تيمية : إنها وأمثالها من السور التي فيها العجائب ، وذلك لما جاء فيها من التأسيس لافتتاحية تلك الرسالة العظيمة ، ولا تستطيع إيفاءها حقها عجزا وقصورا .
وقد كتب فيها شيخ الإسلام ابن تيمية بأسلوبه مائتين وعشرين صفحة متتالية ، وفصلا آخر في مباحث تتصل بها ، ولو أوردنا كل ما يسعنا مما تحتمله ، لكان خروجا عن موضوع الكتاب ، ولذا فإنا نقصر القول على ما يتصل بموضوعه ، إلا ما جرى القلم به مما لا يمكن تركه ، وبالله تعالى التوفيق .
أما المسائل التسع التي ذكرت هنا ، فإنا نوردها لنتقيد بها وهي :
أولا : الأمر بالقراءة ، يوجه لنبي أمي .
والثانية : كون القراءة هذه باسم الرب سبحانه مضافا للمخاطب صلى الله عليه وسلم باسم ربك .
الثالثة : وصف للرب الذي خلق بدلا من اسم الله ، واسم الذي يحيي ويميت أو غير ذلك .
الرابعة : خلق الإنسان بخصوصه ، بعد عموم خلق وإطلاقه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:46 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (599)
سُورَةُ الْعَلَق
صـ 13 إلى صـ 22
[ ص: 13 ] الخامسة : خلق الإنسان من علق ، ولم يذكر ما قبل العلقة من نطفة أو خلق آدم من تراب .
السادسة : إعادة الأمر بالقراءة مع " وربك الأكرم " بدلا من أي صفة أخرى ، وبدلا من الذي خلق المتقدم ذكره .
الثامنة : التعليم بالقلم .
التاسعة : تعليم الإنسان ما لم يعلم .
لما كانت هذه السورة هي أول سورة نزلت من القرآن ، وكانت تلك الآيات الخمس أول ما نزل منها على الصحيح ، فهي بحق افتتاحية الوحي ، فكانت موضع عناية المفسرين وغيرهم ، والكلام على ذلك مستفيض في كتب التفسير والحديث والسيرة ، فلا موجب لإيراده هنا . ولكن نورد الكلام على ما ذكرنا من موضوع الكتاب إن شاء الله .
أما المسألة الأولى : قوله تعالى : اقرأ ، فالقراءة لغة الإظهار ، والإبراز ، كما قيل في وصف الناقة : لم تقرأ جنينا ، أي لم تنتج .
وتقدم للشيخ بيان هذا المعنى لغة ، وتوجيه الأمر بالقراءة إلى نبي أمي لا تعارض فيه ; لأن القراءة تكون من مكتوب وتكون من متلو ، وهنا من متلو يتلوه عليه جبريل عليه السلام ، وهذا إبراز للمعجزة أكثر ; لأن الأمي بالأمس صار معلما اليوم . وقد أشار السياق إلى نوعي القراءة هذين ، حيث جمع القراءة مع التعليم بالقلم .
وفي قوله تعالى : اقرأ بدء للنبوة وإشعار بالرسالة ; لأنه يقرأ كلام غيره .
وقوله تعالى : باسم ربك ، تؤكد لهذا الإشعار ، أي : ليس من عندك ولا من عند جبريل الذي يقرئك .
وقد قدمنا الرد على كونه صلى الله عليه وسلم لم يكتب ولا يقرأ مكتوبا ، من أنه صيانة للرسالة ، كما أنه لم يكن يقول الشعر وما ينبغي له ، إذا لارتاب المبطلون .
كما قال تعالى : وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك الآية [ 29 \ 48 ] . وذلك عند قوله تعالى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته [ 62 \ 2 ] .
[ ص: 14 ] وهنا لم يبين ما يقرؤه ولكن مجيء سورة القدر بعدها بمثابة البيان لما يقرؤه وهي : إنا أنزلناه في ليلة القدر [ 97 \ 1 ] ، وجاء بيان ما أنزل في سورة الدخان : حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 4 \ 1 - 3 ] .
وللشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان لذلك عند قوله تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم [ 4 \ 113 ] ، فكأنه في قوة اقرأ ما يوحى إليك من ربك ، والمراد به هو القرآن بالإجماع .
المسألة الثانية : قوله : باسم ربك ، أي اقرأ باسم ربك منشئا ومبتدئا القراءة باسم ربك ، وقد تكلم المفسرون على الباء أهي صلة ، ويكون اقرأ اسم ربك ، أي قل باسم الله ، كما في أوائل السور .
وقيل : الباء بمعنى على ، أي على اسم ربك ، وعليه : فالمقروء محذوف .
والذي يظهر والله تعالى أعلم أن قوله : باسم ربك أي أن ما تقرؤه هو من ربك ، وتبلغه للناس باسم ربك ، وأنت مبلغ عن ربك على حد قوله : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .
وقوله : ما على الرسول إلا البلاغ [ 5 \ 99 ] ، أي : عن الله تعالى .
وكقوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] .
ونظير هذا في الأعراف الحاضرة خطاب الحكم ، أو ما يسمى خطاب العرش ، حينما يقول ملقيه باسم الملك ، أو باسم الأمة ، أو باسم الشعب ، على حسب نظام الدولة ، أي باسم السلطة التي منها مصدر التشريع والتوجيه السياسي .
وهنا باسم الله ، باسم ربك ، وصفة ربك هنا لها مدلول الربوبية الذي ينبه العبد إلى ما أولاه الله إياه من التربية والرعاية والعناية ، إذ الرب يفعل لعبده ما يصلحه ، ومن كمال إصلاحه أن يرسل إليه من يقرأ عليه وحيه بخبري الدنيا والآخرة ، وفي إضافته إلى المخاطب إيناس له .
المسألة الثالثة : وصف الرب بـ الذي خلق مع إطلاق الوصف ; وذلك لأن صفة الخلق هي أقرب الصفات إلى معنى الربوبية ، ولأنها أجمع الصفات للتعريف بالله [ ص: 15 ] تعالى لخلقه ، وهي الصفة التي يسلمون بها ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ 31 \ 25 ] .
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] .
ولأن كل مخلوق لا بد له من خالق : أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [ 52 \ 35 ] ، وقد أطلق صفة الخلق عن ذكر مخلوق ليعم ويشمل الوجود كله ، خالق كل شيء في قوله : ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء [ 6 \ 102 ] .
الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [ 39 \ 62 ] .
هو الله الخالق البارئ المصور [ 59 \ 24 ] .
وتلك المسائل الثلاث : هي الأصول في الرسالة وما بعدها دلالة عليها ، فالأمر بالقراءة تكليف لتحمل الوحي ، وباسم ربك بيان لجهة التكليف ، " والذي خلق " تدليل لتلك الجهة ، أي الرسالة والرسول والمرسل مع الدليل المجمل . ولا شك أن المرسل إليهم لم يؤمنوا ولا بواحدة منها ، فكان لا بد من إقامة الأدلة على ثبوتها بالتفصيل .
ولما كانت جهة المرسل هي الأساس وهي المصدر ، كان التدليل عليها أولا ، فجاء التفصيل في شأنها بما يسلمون به ويسلمونه في أنفسهم ، وهي المسألة الرابعة .
والخامسة : خلق الإنسان من علق ، وهذا تفصيل بعد إجمال ببيان للبعض من الكل فالإنسان بعض مما خلق ، وذكره من ذكر العام بعد الخاص أولا ، ومن إلزامهم بما يسلمون به ثم لانتقالهم مما يعلمون ويقرون به إلى ما لا يعلمون وينكرون .
وفي ذكر الإنسان بعد عموم الخلق تكريم له ، كذكر الروح بعد عموم الملائكة ، تنزل الملائكة والروح فيها ونحوه ، والإنسان هنا الجنس بدليل الجمع في علق جمع علقة ، ولأنه أوضح دلالة عنده ، ليستدل بنفسه من نفسه كما سيأتي .
وقوله : من علق ، وهو جمع علقة ، وهي القطعة من الدم ، كالعرق أو الخيط بيان على قدرته تعالى ، وذلك لأنهم يشاهدون ذلك أحيانا فيما تلقي به الرحم ، ويعلمون أنه مبدأ خلقة الإنسان .
[ ص: 16 ] فالقادر على إيجاد إنسان في أحسن تقويم من هذه العلقة ، قادر على جعلك قارئا وإن لم تكن تعلم القراءة من قبل ، كما أوجد الإنسان من تلك العلقة ولم يكن موجودا من قبل ، ولأن الذي يتعهد تلك العلقة حتى تكتمل إنسانا يتعهدها بالرسالة .
وقد يكون في اختيار الإنسان بالذات وبخصوصه لتفصيل مرحلة وجوده ، أن غيره من المخلوقات لم تعلم مبادئ خلقتها كعلمهم بالإنسان ، ولأن الإنسان قد مر ذكره في السورة قبلها : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم [ 95 \ 4 ] ، فبين أنه من هذه العلقة كان في أحسن تقويم ، ومن حسن تقويم إنزال الكتاب القيم .
وقال ابن تيمية : إن المقام هنا مقام دلالة على وجود الله ، فبدأ بما يعرفونه ويسلمون به لله ، ولم يبدأ من النطفة أو التراب ; لأن خلق آدم من تراب لم يشاهدوه ، ولأن النطفة ليست بلازم لها خلق الإنسان ، فقد تقذف في غير رحم كالمحتلم ، وقد تكون فيه ، ولا تكون مخلقة . ا هـ .
وهذا في ذاته وجيه ، ولكن لا يبعد أن يقال : إن السورة في مستهل الوحي وبدايته ، فهي كالذي يقول : إذا كنت بدأت بالوحي إليه ولم يكن من قبل ، ولم يوجد منه شيء بالنسبة إليك ، فليس هو بأكثر من إيجاد الإنسان من علقة ، بعد أن لم يكن شيئا .
وعليه يقال : لقد تركت مرحلة النطفة مقابل مرحلة من الوحي ، قد تركت أيضا وهي فترة الرؤيا الصالحة ، كما في الصحيحين : " أنه صلى الله عليه وسلم كان أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصالحة ، يراها فتأتي كفلق الصبح " فكان ذلك إرهاصا للنبوة وتمهيدا لها لمدة ستة أشهر ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له جزء من ست وأربعين جزءا من النبوة " وهي نسبة نصف السنة من ثلاث وعشرين مدة الوحي ، ولكن الرؤيا الصالحة قد يراها الرجل الصالح ، ومثل ذلك تماما فترة النطفة ، فقد تكون النطفة ولا يكون الإنسان ، كما تكون الرؤيا ولا تكون النبوة ، أما العلقة فلا تكون إلا في رحم وقرار مكين ، ومن ثم يأتي الإنسان مخلقا كاملا ، أو غير مخلق على ما يقدر له .
فلما كانت فترة النطفة ليست بلازمة لخلق الإنسان ، وكان مثلها فترة الرؤية ليست لازمة للنبوة ترك كل منها مقابل الآخر ، ويبدأ الدليل بما هو الواقع المسلم على أن الله تعالى هو الخالق ، والخالق للإنسان من علقة ، فكان فيه إقامة الدليل من ذاتية المستدل ، [ ص: 17 ] فالدليل هو خلق الإنسان ، والمستدل به هو الإنسان نفسه ، كما في قوله تعالى : وفي أنفسكم أفلا تبصرون [ 51 \ 21 ] ، فيستدل لنفسه من نفسه على قدرة خالقه سبحانه .
وإذا تم بهذا الاستدلال على قدرة الرب الخالق ، كان بعده إقامة الدليل على صحة النبوة ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فجاءت المسألة السادسة وهي إعادة القراءة في قوله : اقرأ وربك الأكرم ، إذ أقام الدليل على أنك مرسل من الله تبلغ عنه وتقرأ باسمه ، فاعلم أن تلك القراءة وهذا الوحي من ربك الأكرم ، والأكرم قالوا : هو الذي يعطي بدون مقابل ، ولا انتظار مقابل ، والواقع أن مجيء الوصف هنا بالأكرم بدلا من أي صفة أخرى ، لما في هذه الصفة من تلاؤم للسياق ، ما لا يناسب مكانها غيرها لعظم العطاء وجزيل المنة .
فأولا : رحمة الخليقة بهذه القراءة التي ربطت العباد بربهم . وكفى .
وثانيا : نعمة الخلق والإيجاد ، فهما نعمتان متكاملتان : الإيجاد من العدم بالخلق ، والإيجاد الثاني من الجهل إلى العلم ، ولا يكون هذا كله إلا من الرب الأكرم سبحانه .
ثم تأتي المسألة الثامنة : وهي من الدلالة على النبوة والرسالة ، وربك الأكرم الذي علم بالقلم ، سواء كان الوقف على : اقرأ ، وابتداء الكلام : وربك الأكرم الذي علم بالقلم .
أو الوقف على الأكرم وابتداء الكلام : الذي علم بالقلم ; لأن من يعلم الجاهل بالقلم ، يعلم غيره بدون القلم بجامع التعليم بعد الجهل . فالقادر على هذا قادر على ذلك .
والتاسعة : بيان لهذا الإجمال حيث لم يبين ما الذي علمه بالقلم . فقال : علم الإنسان ما لم يعلم ، وهذا مشاهد ملموس في أشخاصهم : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ 16 \ 78 ] .
فالله الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وكل ما تعلمه الإنسان فهو من الله تعلمونهن مما علمكم الله [ 5 \ 4 ] ، وهل الرسالة والنبوة إلا تعليم الرسول ما لم يكن يعلم ؟ وبهذا تم إقامة الدليل على صحة النبوة ، أي الرسالة والرسول والمرسل ، وهي أسس الدعوة والبعثة الجديدة .
وقد اشتهر عند الناس أنه نبئ بـ " اقرأ " وأرسل بـ " المدثر " ولكن في [ ص: 18 ] نفس هذه السورة معنى الرسالة ، لما قدمنا من أن القراءة باسم ربك ، إشعار بأنه مرسل من ربه إلى من يقرأ عليهم ، ففيها إثبات الرسالة من أول بدء الوحي .
تنبيه
في قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، مبحث التعليم ومورد سؤال ، وهو إذا كان تعالى تمدح بأنه علم بالقلم وأنه علم الإنسان ما لم يعلم ، فكان فيه الإشادة بشأن القلم ، حيث إن الله تعالى قد علم به ، وهذا أعلى مراتب الشرف مع أنه سبحانه قادر على التعليم بدون القلم ، ثم أورده في معرض التكريم في قوله : ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ 68 \ 1 - 2 ] ، وعظم المقسم عليه وهو نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي ، يدل على عظم المقسم به ، وهو القلم وما يسطرون به من كتابة الوحي وغيره .
وقد ذكر القلم في السنة أنواعا متفاوتة ، وكلها بالغة الأهمية .
منها : أولها وأعلاها :
القلم الذي كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة ، والوارد في الحديث : " أول ما خلق الله القلم ، قال له : اكتب " الحديث .
فعلى رواية الرفع ، يكون هو أول المخلوقات ثم جرى بالقدر كله ، وبما قدر وجوده كله .
ثانيها : القلم الذي يكتب مقادير العام في ليلة القدر من كل سنة ، المشار إليه بقوله : فيها يفرق كل أمر حكيم [ 44 \ 4 ] .
ثالثها : القلم الذي يكتب به الملك في الرحم ما يخص العبد من رزق وعمل .
رابعها : القلم الذي بأيدي الكرام الكاتبين المنوه عنه بقوله تعالى : ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ 50 \ 18 ] ، أي بالكتابة كما في قوله : كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون [ 82 \ 11 - 12 ] ، إذا قلنا إن الكتابة في ذلك تستلزم قلما ، كما هو الظاهر .
خامسها : القلم الذي بأيدي الناس يكتبون به ما يعلمهم الله ، ومن أهمها أقلام كتاب الوحي ، الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتابة سليمان لبلقيس .
[ ص: 19 ] وقوله تعالى : الذي علم بالقلم ، شامل لهذا كله ، إذا كان هذا كله شأن القلم وعظم أمره ، وعظيم المنة به على الأمة ، بلى وعلى الخليقة كلها .
وقد افتتحت الرسالة بالقراءة والكتابة ، فلماذا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعلن عن هذا الفضل كله للقلم ! لم يكن هو كاتبا به ، ولا من أهله بل هو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، كما في قوله : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ 62 \ 2 ] .
والجواب : أنا أشرنا أولا إلى ناحية منه ، وهي أنه أكمل للمعجزة ، حيث أصبح النبي الأمي معلما كما قال تعالى : يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة [ 3 \ 164 ] .
وثانيا : لم يكن هذا النبي الأمي مغفلا شأن القلم ، بل عنى به كل العناية ، وأولها وأعظهما أنه اتخذ كتابا للوحي يكتبون ما يوحى إليه بين يديه ، مع أنه يحفظه ويضبطه ، وتعهد الله له بحفظه وبضبطه في قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله [ 87 \ 6 - 7 ] ، حتى الذي ينساه يعوضه الله بخير منه أو مثله ، كما في قوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، ووعد الله تعالى بحفظه في قوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .
ومع ذلك ، فقد كان يأمر بكتابة هذا المحفوظ وكان له عدة كتاب ، وهذا غاية في العناية بالقلم .
وذكر ابن القيم من الكتاب الخلفاء الأربعة ، ومعهم تتمة سبعة عشر شخصا ، ثم لم يقتصر صلى الله عليه وسلم في عنايته بالقلم والتعليم به عند كتابة الوحي ، بل جعل التعليم به أعم ، كما جاء خبر عبد الله بن سعيد بن العاص : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة ، وكان كاتبا محسنا " ذكره صاحب الترتيبات الإدارية عن ابن عبد البر في الاستيعاب .
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال : " علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن " .
وقد كانت دعوته صلى الله عليه وسلم الملوك إلى الإسلام بالكتابة كما هو معلوم .
وأبعد من ذلك ، ما جاء في قصة أسارى بدر ، حيث كان يفادي بالمال من يقدر [ ص: 20 ] على الفداء ، ومن لم يقدر ، وكان يعرف الكتابة كانت مفاداته أن يعلم عشرة من الغلمان الكتابة ، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك .
وكان ممن تعلم : زيد بن ثابت وغيره .
فإذا كان المسلمون وهم في بادئ أمرهم وأحوج ما يكون إلى المال والسلاح ، بل واسترقاق الأسارى ، فيقدمون تعليم الغلمان الكتابة على ذلك كله ، ليدل على أمرين :
أولهما : شدة وزيادة العناية بالتعليم .
وثانيهما : جواز تعليم الكافر للمسلم ما لا تعلق له بالدين ، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية ، في الهندسة ، والطب ، والزراعة ، والقتال ، ونحو ذلك .
وقد كثر المتعلمون بسبب ذلك ، حتى كان عدد كتاب الوحي اثنين وأربعين رجلا ، ثم كان انتشار الكتابة مع الإسلام ، وجاء النص على الكتابة في توثيق الدين في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه الآية [ 2 \ 282 ] ، وهي أطول آية في كتاب الله تعالى رسمت فيها كتابة العدل الحديثة كلها .
وإذا كان هذا شأن القلم وتعلمه ، فقد وقع الكلام في تعليمه للنساء على أنهن شقائق الرجال في التكليف والعلم ، فهل كن كذلك في تعلم الكتابة أم لا ؟
مبحث تعليم النساء الكتابة
وقع الخلاف بسبب نصين في المسألة :
الأول : حديث الشفاء بنت عبد الله قالت : " دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة ، فقال لي : ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة ؟ " رواه المجد في المنتقى عن أحمد وأبي داود وقال بعده : وهو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة .
والثاني : حديث عائشة رواه الحاكم وصححه البيهقي مرفوعا : " لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة يعني النساء ، وعلموهن الغزل وسورة النور " قال الشوكاني في نيل الأوطار ، على حديث المنتقى وحديث عائشة : إن حديث الشفاء دليل على جواز تعليمهن ، وحديث النهي محمول على من يخشى من تعليمها الفساد ، أعني تعليم الكتابة والقراءة .
[ ص: 21 ] أما تعليم العلم فليس محل خلاف ، والواقع أن هذه المسألة واضحة المعالم ، إذا نظرت كالآتي :
أولا : لا شك أن العلم من حيث هو خير من الجهل ، والعلم قسمان : علم سماع وتلق ، وهذه سيرة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعائشة كانت القدوة الحسنة في ذلك في فقه الكتاب والسنة ، وكم استدركت على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، وهذا مشهور ومعلوم .
والثاني : علم تحصيل بالقراءة والكتابة ، وهذا يدور مع تحقق المصلحة من عدمها ، فمن رأى أن تعليمهن مفسدة منعه ، كما روي عن علي رضي الله عنه : أنه مر على رجل يعلم امرأة الكتابة فقال : لا تزد الشر شرا .
وروي عن بعض الحكماء : أنه رأى امرأة تتعلم الكتابة ، فقال : أفعى تسقى سما ، وأنشدوا الآتي :
ما للنساء وللكتا بة والعمالة والخطابه هذا لنا ولهن منا
أن يبتن على جنابه
ومثله ما قاله المنفلوطي :
يا قوم لم تخلق بنات الورى للدرس والطرس وقال وقيل
لنا علوم ولها غيرها فعلموها كيف نشر الغسيل
والثوب والإبرة في كفها طرس عليه كل خط جميل
وهذا نظر إلى تعليمهن وموقفهن من زاوية واحدة . كما قال الشاعر الآخر :
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
مع أننا وجدنا في تاريخ المرأة نسوة شاركن في القتال ، حتى عائشة رضي الله عنها كانت تسقي الماء ، وأم سلمة تداوي الجرحى ، إذ لا يؤخذ قول كل منهما على عمومه .
قال صاحب التراتيب الإدارية : أورد القلقشندي أن جماعة من النساء كن يكتبن ، ولم ير أن أحدا من السلف أنكر عليهن . ا هـ .
ومن المعلوم رواية كريمة لصحيح البخاري ، وهي من الرواية المعتبرة عن المحدثين ، فقد رأيت بنفسي وأنا مدرس بالأحساء نسخة لسنن أبي داود عند آل المبارك [ ص: 22 ] وعليها تعليق لأخت صلاح الدين الأيوبي ، وذكر صاحب التراتيب الإدارية قوله : وقد ثبت عن كثير من نساء أهل الصحراء الإفريقية خصوصا شنقيط : شنجط ، أي شنقيط ، وهي المعروفة الآن بموريتانيا ، وتيتبكتو ، وقبيلة كنت العجب ، حتى جاء أن الشيخ المختار الكنتي الشهير ، ختم مختصر خليل للرجال ، وختمته زوجته في جهة أخرى للنساء . ا هـ .
ومما يؤيد ما ذكره أننا ونحن في بعثة الجامعة الإسلامية لإفريقيا ، سمعنا ونحن في مدينة أطار وهي على مقربة من مدينة شنجيط المذكورة ، سمعنا من كبار أهلها أنه كان يوجد بها سابقا مائتا فتاة يحفظن المدونة كاملة .
وقد سمعت في الآونة الأخيرة ، أنه كانت توجد امرأة تدرس في المسجد النبوي ، الحديث ، والسيرة ، واللغة العربية وهي شنقيطية .
ويجب أن تكون النظرة لهذه المسألة على ضوء واقع الحياة اليوم وفي كل يوم ، وقد أصبح تعليم المرأة من متطلبات الحياة ، ولكن المشكلة تكمن في منهج تعليمها ، وكيفية تلقيها العلم .
فكان من اللازم أن يكون منهج تعليمها قاصرا على النواحي التي يحسن أن تعمل فيها كالتعليم والطب وكفى .
أما كيفية تعليمها ، فإن مشكلتها إنما جاءت من الاختلاط في مدرجات الجامعات ، وفصول الدراسة في الثانويات في فترة المراهقة ، وقلة المراقبة ، وفي هذا يكمن الخطر منها وعليها في آن واحد ، فإذا كان لا بد من تعليمها ، فلا بد أيضا من المنهج الذي يحقق الغاية منه ، ويضمن السلامة فيه ، والتوفيق من الله سبحانه .
أما ما يخشى عليها من الاتصال عن طريق الكتابة ، فقد وجد ما هو أقرب وأسرع منها لمن شاءت وهو الهاتف في البيوت ، فإنه في متناول المتعلمة والجاهلة . والمدار في ذلك كله على الحصانة التربوية والمتانة الدينية والقوة الأخلاقية .
وقد أوردت هذا المبحث استطرادا لبيان وجهة النظر في هذه المسألة ، اقتباسا من قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، وبالله التوفيق .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-09-17, 02:47 PM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (600)
سُورَةُ الْقَدْر
صـ 23 إلى صـ 32
مسألة
بيان أولية الكتابة عامة والعربية خاصة ، وأول من خط بالقلم على الأرض :
جاء في المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية المطبوع سنة 1304 هـ ما نصه : وإنما أصول الكتابة اثني عشر على ما قاله ابن خلكان ، وتبعه كثير من المؤلفين ، كالدميري في حياة الحيوان ، والحلبي في السيرة وغيرهما .
قال : إن جميع كتابات الأمم من سكان المشرق والمغرب اثنتي عشرة كتابة ، خمس منها ذهب من يعرفها وبطل استعمالها وهي : الحميرية ، والقبطية ، والبربرية ، والأندلسية ، واليونانية ، وثلاث منها فقد من يعرفها في بلاد الإسلام ومستعملة في بلادها ، وهي السريانية والفارسية والعبرانية والعربية . ا هـ . كلامه باختصار وفيه ما فيه .
قال : والحميرية : هي خط أهل اليمن قوم هود وهم عاد الأولى ، وهي عاد إرم ، وكانت كتابتهم تسمى المسند الحميري ، وكانت حروفها كلها منفصلة ، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم ، حتى جاءت دولة الإسلام ، وليس بجميع اليمن من يكتب ويقرأ .
وقال المقريزي في الخطط : القلم المسند ، هو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد . ا هـ .
والمعروف الآن أن الحروف المستعملة في الكتابة في العالم كله بصرف النظر عن اللغات المنطوق بها هي ثلاثة فقط ، الخط العربي بحروف ألف باء وبها لغات الشرق . والحروف اللاتينية وبها لغات أوروبا والحروف الصينية .
أما اللغات ، وهي فوق ألفي لغة " والأمهرية بحرف قريب من اللاتيني " .
أما أولية الكتابة العربية ، فقال صاحب المطالع النصرية : فقد اختلفت الروايات فيها ، كما قاله الحافظ السيوطي في الأوائل .
وكذا في المزهر في النوع الثاني والأربعين ، قال : إنه يرى أن آدم عليه السلام أول من كتب بالقلم ، وأن الكتابات كلها من وضعه ، كان قد كتبها في طين وطبخه ، يعني [ ص: 24 ] أحرقه ودفنه قبل موته بثلاثمائة سنة ، وبعد الطوفان وجد كل قوم كتابا فتعلموه ، وكانت اثني عشر كتابا ، فتعلموه بإلهام إلهي .
وقيل : إن أول من خط بالعربي إسماعيل عليه السلام . ا هـ .
وقد أطال السيوطي في المزهر الكلام في هذه المسألة ، نقلا عن ابن فارس الشدياقي .
وعن العسكري عن الأوائل في ذلك أقوال ، فقيل إسماعيل ، وقيل مرار بن مرة ، وهما من أهل الأنبار ، وفي ذلك يقول الشاعر :
كتبت أبا جاد وخطي مرامر وسورت سربالي ولست بكاتب
وقيل : أول من وضعه أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وصعفص ، وقرشت ، وكانوا ملوكا فسمي الهجاء بأسمائهم .
وذكر عن الحافظ أبي طاهر السلفي بسنده عن الشعبي قال : أول من كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس ، تعلم من أهل الحيرة ، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار .
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال : سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : تعلمنا من أهل الحيرة ، وسألنا أهل الحيرة : من أين تعلمتم الكتابة ؟ قالوا : من أهل الأنبار ، ثم قال ابن فارس : والذي نقوله : إن الخط توقيفي ، وذلك لظاهر قوله تعالى : الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم .
وقوله : ن والقلم وما يسطرون [ 68 \ 1 ] .
وإذا كان هذا فليس ببعيد ، أن يوقف الله آدم أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتابة ، فأما أن يكون شيئا مخترعا اخترعه من تلقاء نفسه ، فهذا شيء لا نعلم صحته إلا من خبر صحيح .
قال السيوطي : قلت يؤيد ما قاله من التوقيف ، ما أخرجه ابن شقة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : " أول كتاب أنزله الله من السماء أبا جاد " .
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام " . ا هـ .
[ ص: 25 ] وقد أطال النقول في ذلك مما يرجع إلى الأول ، وليس فيه نقل صحيح يقطع به .
وقد أوردنا هذه النبذة بخصوص كلام ابن فارس ، من أن تعليم الكتابة أمر توقيفي ، وما استدل به السيوطي من أول كتاب أنزله الله من السماء ، فإن في القرآن ما يشهد لإمكان ذلك ، وهو أن الله تعالى أنزل الصحف لموسى مكتوبة . ***
وفي الحديث : " إن الله كتب الألواح لموسى بيده ، وغرس جنة عدن بيده " .
وإذا كان موسى تلقى ألواحا مكتوبة ، فلا بد أن تكون الكتابة معلومة له قبل إنزالها ، وإلا لما عرفها .
أما المشهور في الأحرف التي نكتب بها الآن ، فكما قال السيوطي في المزهر ، ونقله عنه صاحب المطالع المصرية ما نصه :
المشهور عند أهل العلم ما رواه ابن الكلبي عن عوانة ، قال : أول من كتب بخطنا هذا . وهو الجزم مرامر بن مرة ، وأسلم بن سدرة ، وعامر بن حدرة . كما في القاموس . وهم من عرب طيئ تعلموه من كتاب الوحي لسيدنا هود عليه السلام ، ثم علموه أهل الأنبار ، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها ، فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل ، وكانت له صحبة بحرب بن أمية فتعلم حرب منه ، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان . فتعلم منه جماعة من أهل مكة .
فبهذا كثر من يكتب بمكة من قريش قبيل الإسلام .
ولذا قال رجل كندي من أهل دومة الجندل ، يمن على قريش بذلك :
لا تجحدوا نعماء بشر عليكم فقد كان ميمون النقيبة أزهرا
أتاكم بخط الجزم حتى حفظتمو من المال ما قد كان شتى مبعثرا
وأتقنتمو ما كان بالمال مهملا وطمأنتمو ما كان منه مبقرا
فأجريتم الأقلام عودا وبدأة وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا
وأغنيتم عن مسند إلى حميرا وما زبرت في الصحف أقلام حميرا
قال : وكذلك ذكر النووي في شرح مسلم نقل عن الفراء ، أنه قال : إنما كتبوا الربا في المصحف بالواو ; لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة ، ولغتهم الربوا ، فعلموهم صورة الخط على لغتهم . ا هـ .
[ ص: 26 ] تنبيه آخر
قوله تعالى : الذي علم بالقلم ، لا يمنع تعليمه تعالى بغير القلم ، كما في قصة الخضر مع موسى عليه السلام في قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما [ 18 \ 65 ] .
وكما في حديث : " نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها " الحديث .
وكما في حديث الرقية بالفاتحة لمن لدغته العقرب في قصة السرية المعروفة ، فلما سأله صلى الله عليه وسلم : " وما يدريك أنها رقية ؟ قال : شيء نفث في روعي " .
وحديث علي لما سئل " هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم ؟ قال : لا ، إلا فهما يؤتيه الله من شاء في كتابه . وما في هذه الصحيفة " .
وقوله : واتقوا الله ويعلمكم الله [ 2 \ 282 ] . نسأل الله علم ما لم نعلم ، والعمل بما نعلم . وبالله التوفيق .
قوله تعالى : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى . ظاهر هذه الآية أن الاستغناء موجب للطغيان عند الإنسان ، ولفظ الإنسان هنا عام ، ولكن وجدنا بعض الإنسان يستغنى ولا يطغى ، فيكون هذا من العام المخصوص ، ومخصصه إما من نفس الآية أو من خارج عنها ، ففي نفس الآية ما يفيده قوله تعالى : أن رآه ، أي : إن رأى الإنسان نفسه ، وقد يكون رأيا واهما ويكون الحقيقة خلاف ذلك ، ومع ذلك يطغى ، فلا يكون الاستغناء هو سبب الطغيان .
ولذا جاء في السنة ذم العائل المتكبر ; لأنه مع فقره يرى نفسه استغنى ، فهو معني في نفسه لا بسبب غناه .
أما من خارج الآية ، فقد دل على هذا المعنى قوله تعالى : فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى [ 79 \ 37 - 39 ] ، فإيثار الحياة الدنيا هو موجب الطغيان ، وكما في قوله : الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا الآية [ 104 \ 2 - 4 ] .
[ ص: 27 ] ومفهومه : أن من لم يؤثر الحياة الدنيا ، ولم يحسب أن ماله أخلده ، فلن يطغيه ماله ولا غناه ، كما جاء في قصة النفر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع من بني إسرائيل .
وقد نص القرآن على أوسع غنى في الدنيا في نبي الله سليمان ، آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، ومع هذا قال : إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي الآية [ 38 \ 32 ] .
وقصة الصحابي الموجودة في الموطأ : لما شغل ببستانه في الصلاة ، حين رأى الطائر لا يجد فرجة من الأغصان ، ينفذ منه ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : " يا رسول الله ، إني فتنت ببستاني في صلاتي ، فهو في سبيل الله " فعرفنا أن الغنى وحده ليس موجبا للطغيان ، ولكن إذا صحبه إيثار الحياة الدنيا على الآخرة ، وقد يكون طغيان النفس من لوازمها لو لم يكن غنى إن النفس لأمارة بالسوء [ 12 \ 53 ] . وأنه لا يقي منه إلا التهذيب بالدين كما قال تعالى : ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء الآية [ 42 \ 27 ] .
وقد ذكر عن فرعون تحقيق ذلك حين قال : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون [ 43 \ 51 ] ، وكذلك قال قارون : إنما أوتيته على علم عندي [ 28 \ 78 ] ، وقال ثالث الثلاثة من بني إسرائيل : " إنما ورثته كابرا عن كابر " بخلاف المسلم ، إلى آخره . فلا يزيده غناه إلا تواضعا وشكرا للنعمة ، كما قال نبي الله سليمان : قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم [ 27 \ 78 ] ، وقد نص في نفس السورة أنه شكر الله : فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين [ 27 \ 19 ] .
وفي العموم قوله : حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين [ 46 \ 15 ] .
وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب المال الوفير فلم يزدهم إلا قربا لله ، كعثمان بن عفان رضي الله عنه ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأمثالهم ، وفي الآية [ ص: 28 ] ربط لطيف بأول السورة ، إذا كان خلق الإنسان من علق ، وهي أحوج ما يكون إلى لطف الله وعنايته ورحمته في رحم أمه ، فإذا بها مضغة ثم عظام ، ثم تكسى لحما ، ثم تنشأ خلقا آخر ، ثم يأتي إلى الدنيا طفلا رضيعا لا يملك إلا البكاء ، فيجري الله له نهرين من لبن أمه ، ثم ينبت له الأسنان ، ويفتق له الأمعاء ، ثم يشب ويصير غلاما يافعا ، فإذا ما ابتلاه ربه بشيء من المال أو العافية ، فإذا هو ينسى كل ما تقدم ، وينسى حتى ربه ويطغى ويتجاوز حده حتى مع الله خالقه ورازقه ، كما رد عليه تعالى بقوله : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 77 - 79 ] .
ومما في الآية من لطف التعبير قوله تعالى : أن رآه استغنى ، أي أن الطغيان الذي وقع فيه عن وهم ، تراءى له أنه استغنى سواء بماله أو بقوته ; لأن حقيقة المال ولو كان جبالا ، ليس له منه إلا ما أكل ولبس وأنفق .
وهل يستطيع أن يأكل لقمة واحدة إلا بنعمة العافية ، فإذا مرض فماذا ينفعه ماله ، وإذا أكلها وهل يستفيد منها إلا بنعمة من الله عليه .
ومن هذه الآية أخذ بعض الناس ، أن الغني الشاكر أعظم من الفقير الصابر ; لأن الغنى موجب للطغيان .
وقد قال بعض الناس : الصبر على العافية ، أشد من الصبر على الحاجة .
قوله تعالى : لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة
. قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب : أسند الكذب إلى الناصية ، وفي مواضع أخرى أسنده إلى غير الناصية ، كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 \ 105 ] .
وذكر الجواب بأنه أطلق الناصية وأراد صاحبها على أسلوب لإطلاق البعض وإيراد الكل ، وذكر الشواهد عليه القرآن كقوله تعالى : تبت يدا أبي لهب وتب [ 111 \ 1 ] .
والذي ينبغي التنبيه عليه من جهة البلاغة : أن البعض الذي يطلق ويراد به الكل ، لا [ ص: 29 ] بد في هذا البعض من مزيد مزية للمعنى المساق فيه الكلام .
فمثلا هنا ذم الكذب وأخذ الكاذب بكذبه ، فجاء ذكر الناصية وهي مقدم شعر الرأس ; لأنها أشد نكارة على صاحبها ونكالا به ، إذ الصدق يرفع الرأس والكذب ينكسه ذلة وخزيا .
فكانت هي هنا أنسب من اليد أو غيرها ، بينما في أبي لهب تطاول بماله ، والغرض مذمة ماله وكسبه الذي تطاول به ، واليد هي جارحة الكسب وآلة التصرف في المال ، فكانت اليد أولى فيه من الناصية .
وهكذا كما يقولون : بث الأمير عيونه : يريدون جواسيس له ; لأن العين من الإنسان أهم ما فيه لمهمته تلك . ولم يقولوا : بث أرجله ولا رءوسا ولا أيد ، لأنها كلها ليست كالعين في ذلك .
ومن هذا القبيل قلوب يومئذ واجفة [ 79 \ 8 ] ، ياأيتها النفس المطمئنة [ 89 \ 27 ] .
لأن القلب هو مصدر الخوف والنفس هي محط الطمأنينة ، على أن النفس جزء من الإنسان ، وهكذا ، ومنه الآتي : واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] ، أطلق السجود وأراد الصلاة ; لأن السجود أخص صفاتها .
قوله تعالى : واسجد واقترب [ 96 \ 19 ] .
ربط بين السجود والاقتراب من الله كما قال : ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا [ 76 \ 26 ] وقوله في وصف أصحابه رضي الله عنهم : تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا [ 48 \ 29 ] ، فقوله : يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، في معنى يتقربون إليه يبين قوله : واسجد واقترب .
وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله ، حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر ، كما بين تعالى في قوله : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد " .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
سُورَةُ الْقَدْر
قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر .
الضمير في أنزلناه للقرآن قطعا .
وحكى الألوسي عليه الإجماع ، وقال : ما يفيد أن هناك قولا ضعيفا لا يعتبر من أنه لجبريل .
وما قاله عن الضعف لهذا القول ، يشهد له السياق ، وهو قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها [ 97 \ 4 ] .
والمشهور : أن الروح هنا هو جبريل عليه السلام ، فيكون الضمير في أنزلنا لغيره ، وجيء بضمير الغيبة ، تعظيما لشأن القرآن ، وإشعارا بعلو قدره .
وقد يقال : ذكر سورة القدر قبلها مشعرة به في قوله : اقرأ باسم ربك ، ثم جاءت : إنا أنزلناه ، أي القرآن المقروء ، والضمير المتصل في إنا ، ونا في إنا أنزلناه مستعمل للجمع وللتعظيم ، ومثلها نحن ، وقد اجتمعا في قوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر [ 15 \ 9 ] ، والمراد بهما هنا التعظيم قطعا لاستحالة التعدد أو إرادة معنى الجمع .
فقد صرح في موضع آخر باللفظ الصريح في قوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني [ 39 \ 23 ] ، والمراد به القرآن قطعا ، فدل على أن المراد بتلك الضمائر تعظيم الله تعالى .
وقد يشعر بذلك المعنى وبالاختصاص تقديم الضمير المتصل إنا ، وهذا المقام مقام تعظيم واختصاص لله تعالى سبحانه ، ومثله : إنا أعطيناك الكوثر [ 108 \ 1 ] ، وقوله : إنا أرسلنا نوحا [ 71 \ 1 ] ، إنا نحن نحيي ونميت [ 50 \ 43 ] ، وإنزال القرآن منة عظمى .
[ ص: 31 ] وقد دل على تعظيم المنة وتعظيم الله سبحانه في قوله : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته [ 38 \ 29 ] ، فقال : كتاب أنزلناه بضمير التعظيم ، ثم قال في وصف الكتاب : مبارك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه التنصيص على أنه للتعظيم عند الكلام على آية ص هذه : كتاب أنزلناه إليك مبارك .
والواقع أنه جاءت الضمائر بالنسبة إلى الله تعالى بصيغ الجمع للتعظيم وبصيغ الإفراد ، فمن صيغ الجمع ما تقدم ، ومن صيغ الإفراد قوله : إني جاعل في الأرض خليفة [ 2 \ 30 ] ، وقوله : إني خالق بشرا من طين [ 38 \ 71 ] ، وقوله : إني أعلم ما لا تعلمون [ 2 \ 30 ] .
ويلاحظ في صيغ الإفراد : أنها في مواضع التعظيم والإجلال ، كالأول في مقام خلق البشر من طين ، ولا يقدر عليه إلا الله .
والثاني : في مقام أنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، وهذا لا يكون إلا لله سبحانه ، فسواء جيء بضمير بصيغة الجمع أو الإفراد ، ففيها كلها تعظيم لله سبحانه وتعالى سواء بنصها وأصل الوضع أو بالقرينة في السياق . ثم اختلف في المنزل ليلة القدر ، هل هو الكل أو البعض ؟
فقيل : وهو رأي الجمهور أنه أوائل تلك السورة فقط أي : بداية الوحي بالقرآن ، وهو مروي عن ابن عباس ، قال : " ثم تتالى نزول الوحي ، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة " .
وقيل : المنزل في تلك الليلة ، هو جميع القرآن جملة واحدة ، وكله إلى سماء الدنيا ، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الوقائع .
وهذا الأخير هو رأي الجمهور كما قدمنا ، وقد اختاره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند الكلام على قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] ، وحكاه الألوسي وحكى عليه الإجماع .
وعن ابن حجر في فتح الباري ، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قول يجمع فيه بين القولين الأخيرين ، [ ص: 32 ] وهو أنه لا منافاة بين القولين ، ويمكن الجمع بينهما ، بأن يكون نزل جملة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، وبدء نزول أوله : اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] ، في ليلة القدر .
وقد أثير حول هذه المسألة جدال ونقاش كلامي حول كيفية نزول القرآن ، وأدخلوا فيها القول بخلق القرآن ، وأن جبريل نقله من اللوح المحفوظ ، وأن الله لم يتكلم به عند نزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم .
وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله عن ذلك ، وكتب جوابه وطبع ، فكان كافيا . وقد نقل فيه كلام ابن تيمية ، وبين أن الله تعالى تكلم به عند وحيه ، ورد على كل شبهة في ذلك .
والواقع أنه لا تعارض كما تقدم ، بين كونه في اللوح المحفوظ ونزوله إلى السماء الدنيا جملة ، ونزوله على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما ; لأن كونه في اللوح المحفوظ ، فإن اللوح فيه كل ما هو كائن وما سيكون إلى يوم القيامة ، ومن جملة ذلك القرآن الذي سينزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم .
ونزوله جملة إلى سماء الدنيا ، فهو بمثابة نقل جزء مما في اللوح وهو جملة القرآن ، فأصبح القرآن موجودا في كل من اللوح المحفوظ كغيره مما هو فيه ، وموجودا في سماء الدنيا ثم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجما .
ومعلوم أنه الآن هو أيضا موجود في اللوح المحفوظ ، لم يخل منه اللوح ، وقد يستدل لإنزاله جملة ثم تنزيله منجما بقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] ; لأن نزل بالتضعيف تدل على التكرار كقوله : تنزل الملائكة [ 97 \ 4 ] ، أي : في كل ليلة قدر .
وقد جاء أنزلناه ، فتدل على الجملة .
وقد بينت السنة تفصيل تنزيله مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله : كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك ، حتى إذا فزع عن قلوبهم . قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق ، وهو العلي الكبير " الحديث في صحيح البخاري .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:51 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (601)
سُورَةُ الْبَيِّنَة
صـ 33 إلى صـ 42
[ ص: 33 ] وفي أبي داود وغيره : " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان " .
وعلى هذا يكون القرآن موجودا في اللوح المحفوظ حينما جرى القلم بما هو كائن وما سيكون ، ثم جرى نقله إلى سماء الدنيا جملة في ليلة القدر ، ثم نزل منجما في عشرين سنة . وكلما أراد الله إنزال شيء منه تكلم سبحانه بما أراد أن ينزله ، فيسمعه جبريل عليه السلام عن الله تعالى . ولا منافاة بين تلك الحالات الثلاث . والله تعالى أعلم .
وقد قدمنا الكلام على صور كيفية نزول الوحي وتلقي الرسول صلى الله عليه وسلم للوحي .
وقيل : معنى أنزلناه في ليلة القدر أي : أنزلنا القرآن في شأن ليلة القدر تعظيما لها ، فلم تكن ظرفا على هذا الوجه .
والواقع : أن هذا القول وإن كان من حيث الأسلوب ممكنا إلا أن ما بعده يغني عنه ; لأن إعظام ليلة القدر وبيان منزلتها قد نزل فيها قرآن فعلا ، وهو ما بعدها مباشرة في قوله : وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر [ 97 \ 2 - 3 ] ، إلى آخر السورة .
وعليه ، فيكون أول السورة في شأن إنزال القرآن وبيان ظرف إنزاله ، وآخر السورة في ليلة القدر وبيان منزلتها .
وقد ذكرت ليلة القدر مبهمة ، ولكن جاء في القرآن ما بين الشهر التي هي فيه ، وهو شهر رمضان لقوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان بيان ذلك ، وأنها الليلة التي فيها يبرم كل أمر حكيم ، وليست ليلة النصف من شعبان كما يزعم بعض الناس .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان الحكمة من إنزاله مفرقا عند قوله تعالى : كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب [ 38 \ 29 ] .
قوله تعالى : ليلة القدر خير من ألف شهر .
القدر : الرفعة ، والقدر : بمعنى المقدار .
[ ص: 34 ] قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في مذكرة الإملاء ووجه تسميتها ليلة القدر فيه وجهان :
أحدهما : أن معنى القدر الشرف والرفعة ، كما تقول العرب : فلان ذو قدر ، أي : رفعة وشرف .
الوجه الثاني : أنها سميت ليلة القدر ; لأن الله تعالى يقدر فيها وقائع السنة ، ويدل لهذا التفسير الأخير قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا [ 44 \ 3 - 5 ] .
وهذا المعنى قد ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الدخان من الأضواء .
والواقع أن في السورة ما يدل للوجه الأول وهو القدر والرفعة ، وهو قوله : وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر .
فالتساؤل بهذا الأسلوب للتعظيم كقوله : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة [ 101 \ 1 - 3 ] ، وقوله : خير من ألف شهر ، فيه النص صراحة على علو قدرها ورفعتها ، إذ أنها تعدل في الزمن فوق ثلاث وثمانين سنة ، أي فوق متوسط أعمار هذه الأمة .
وأيضا كونها اختصت بإنزال القرآن فيها ، وبتنزل الملائكة والروح فيها ، وبكونها سلاما هي حتى مطلع الفجر ، لفيه الكفاية بما لم تختص وتشاركها فيه ليلة من ليالي السنة .
وعليه : فلا مانع من أن تكون سميت بليلة القدر ، لكونها محلا لتقدير الأمور في كل سنة ، وأنها بهذا وبغيره علا قدرها وعظم شأنها ، والله تعالى أعلم .
تذكير بنعمة كبرى : إذا كانت أعمال العبد تتضاعف في تلك الليلة ، حتى تكون خيرا من ألف شهر ، كما في هذا النص الكريم . فإذا صادفها العبد في المسجد النبوي يصلي ، وصلاة فيه بألف صلاة ، فكم تكون النعمة وعظم المنة ، من المنعم المتفضل سبحانه ، إنه لمما يعلي الهمة ويعظم الرغبة .
وقد اقتصرت على ذكر المسجد النبوي دون المسجد الحرام ، مع زيادة المضاعفة [ ص: 35 ] فيه ; لأن بعض المفسرين قال بمضاعفة السيئة فيه .
كذلك أي أن المعصية في ليلة القدر كالمعصية في ألف شهر ، والمسجد الحرام يحاسب فيه العبد على مجرد الإرادة ، فيكون الخطر أعظم ، وفي المدينة أسلم .
ولعل ما يؤيد ذلك أن ليالي القدر كلها ، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة ، وقد أثبتها أهل السنة كافة ، وادعت الشيعة نسخها ورفعها كلية ، وهذا لا يلتفت إليه لصحة النصوص شبه المتواترة .
تنبيه
لم يأت تحديد لتلك الليلة من أي رمضان تكون ، وقد أكثر العلماء في ذلك القول وإيراد النصوص .
فالأقوال منها على أعم ما يكون ، من أنها من عموم السنة ، وهذا لم يأت بجديد ، وهو عن ابن مسعود وإنما أراد الاجتهاد .
ومنها : أنها في عموم رمضان ، وهذا حسب عموم نص القرآن .
ومنها : أنها في العشر الأواخر منه ، وهذا أخص من الذي قبله .
ومنها : أنها في الوتر من العشر الأواخر ، وهذا أخص من الذي قبله .
ومنها : أنها في آحاد الوتر من العشر الأواخر .
فقيل : في إحدى وعشرين .
وقيل : ثلاث وعشرين .
وقيل : خمس وعشرين .
وقيل : سبع وعشرين .
وقيل : تسع وعشرين .
وقيل : آخر ليلة من رمضان على التعيين ، وفي كل من ذلك نصوص .
ولكن أشهرها وأكثرها وأصحها ، ما جاء أنها في سبع وعشرين ، وإحدى [ ص: 36 ] وعشرين ، ولا حاجة إلى سرد النصوص الواردة في كل ذلك ، فلم يبق كتاب من كتب التفسير إلا ذكرها ، ولا سيما ابن كثير والقرطبي .
تنبيه
إذا كانت كل النصوص التي وردت في الوتر من العشر الأواخر صحيحة ، فإنه لا يبعد أن تكون ليلة القدر دائرة بينها ، وليست بلازمة في ليلة منها ولا تخرج عنها ، فقد تكون في سنة هي ليلة إحدى وعشرين ، بينما في سنة أخرى ليلة خمس أو سبع وعشرين ، وفي أخرى ليلة ثلاث أو تسع وعشرين ، وهكذا . والله تعالى أعلم .
وقد حكى هذا الوجه ابن كثير عن مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ، وقال : وهو الأشبه ، والله تعالى أعلم .
وقد قيل : إنه صلى الله عليه وسلم قد أنسيها ، لتجتهد الأمة في الشهر كله أو في العشر كلها ، ومما يؤكد أنها في العشر الأواخر اعتكافه صلى الله عليه وسلم ، التماسا لليلة القدر .
وقد جاء في فضلها ما استفاضت به كتب الحديث والتفسير ، ويكفي فيها نص القرآن الكريم .
وفي هذه الليلة مباحث عديدة يطول تتبعها ، منها ما يذكر من أماراتها .
ومنها : محاولة البعض استخراجها من القرآن .
ومنها : علاقتها بحكم بني أمية ، وليس على شيء من ذلك نص يمكن التعويل عليه ، لذا لا حاجة إلى إيراده ، اللهم إلا ما جاء في بعض أمارات نهارها صبيحتها ، حيث جاء التنويه عن شيء منه في الحديث : " ورأيتني أسجد صبيحتها في ماء وطين " .
فذكروا من علامات يومها أن تطلع الشمس بيضاء ، وقالوا : لأن أنوار الملائكة عند صعودها ، تتلاقى مع أشعة الشمس فتحدث فيها بياض الضوء ، وهذا مروي عن أبي في صحيح مسلم .
ومنها : اعتدال هوائها وجوها ونحو ذلك ، ومما يمكن أن يكون له صلة بالسورة ذاتها ، ما حكاه ابن كثير أن بعض السلف ، أراد استخراجها من كتاب الله في نفس السورة ، فقال : إن كلمة " هي " في قوله : سلام هي [ 97 \ 5 ] ، تقع السابعة [ ص: 37 ] والعشرين من عد كلماتها ، فتكون ليلة سبع وعشرين .
وقيل أيضا : إن حروف كلمة ليلة القدر تسعة أحرف ، وقد تكررت ثلاث مرات ، فيكون مجموعها سبعة وعشرين حرفا ، فتكون ليلة سبع وعشرين .
ولعل أصوب ما يقال : هو ما قدمنا من أنها تتصل في ليالي الوتر من العشر الأواخر ، ولا تخرج عنها . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : تنزل الملائكة والروح فيها .
قيل : الروح هو جبريل ، كما في قوله : فنفخنا فيها من روحنا [ 21 \ 91 ] ، ويكون فيها أي في جماعة الملائكة ، أو معطوف على الملائكة من عطف الخاص على العام .
وقيل : إن الروح نوع من الملائكة مستقل ، ويكون فيها ظرف للنزول أي في تلك الليلة .
قوله تعالى : من كل أمر .
الأمر يكون واحد الأمور وواحد الأوامر ، والذي يظهر أنه شامل لهما معا ; لأن الأمر من الأمور لا يكون إلا بأمر من الأوامر : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] .
ويشهد له ما جاء في شأنها في سورة الدخان : فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا [ 44 \ 4 - 5 ] .
والذي يفرق من الأمر ، هو أحد الأمور . حيث يفصل بين الخير والشر والضر والنفع إلى آخره ، ثم قال : أمرا من عندنا ، كما أشار إليه السياق : لا إله إلا هو يحيي ويميت [ 44 \ 8 ] ، فكل أمر من الأمور يقتضي أمرا من الأوامر ، وهذا يمكن أن يكون من الألفاظ المشتركة المستعملة في معنييها ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 38 ] قوله تعالى : سلام هي حتى مطلع الفجر .
قيل : سلام هي أي أن الملائكة تسلم على كل مؤمن لقيته .
وقيل : سلام هي أي كل أمر فيها فهو سلام ، ولا يصاب أحد فيها بسوء ، وعلى كل فلا تعارض بين القولين ، فالأول جزء من الثاني ; لأن الثاني يجعلها ظرفا لكل خير ، وينفي عنها كل شر ، ومن الخير العظيم ، سلام الملائكة على المؤمنين .
لطيفة
كون إنزال القرآن هنا في الليل دون النهار ، مشعر بفضل اختصاص الليل .
وقد أشار القرآن والسنة إلى نظائره ، فمن القرآن قوله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا [ 17 \ 1 ] ، ومنه قوله : ومن الليل فتهجد به نافلة لك [ 17 \ 79 ] ، ومن الليل فسبحه وأدبار السجود [ 50 \ 40 ] ، إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا [ 73 \ 6 ] . وقوله : كانوا قليلا من الليل ما يهجعون [ 51 \ 17 ] .
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان ثلث الليل الآخر ينزل ربنا إلى سماء الدنيا " الحديث .
وهذا يدل على أن الليل أخص بالنفحات الإلهية ، وبتجليات الرب سبحانه لعباده ، وذلك لخلو القلب وانقطاع الشواغل وسكون الليل ، ورهبته أقوى على استحضار القلب وصفائه .
[ ص: 39 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْبَيِّنَة
قال الألوسي : وتسمى سورة القيامة ، وسورة البلد ، وسورة المنفكين ، وسورة البرية ، وسورة لم يكن .
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
ذكر هنا الذين كفروا ، ثم جاءت من ، وجاء بعدها أهل الكتاب والمشركين ، مما يشعر بأن وصف الكفر يشمل كلا من أهل الكتاب والمشركين ، كما يشعر مرة أخرى أن المشركين ليسوا من أهل الكتاب لوجود العطف ، وأن أهل الكتاب ليسوا من المشركين .
وهذا المبحث معروف عند المتكلمين وعلماء التفسير ، واتفقوا على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ، وأن المشركين هم عبدة الأوثان ، والكفر يجمع القسمين .
وأهل الكتاب مختص باليهود والنصارى ، ولكن الخلاف هل الشرك يجمعهما أيضا أم لا ؟
فبين الفريقين عموم وخصوص ، عموم في الكفر وخصوص في أهل الكتاب لليهود والنصارى ، وخصوص في المشركين لعبدة الأوثان .
ولكن جاءت آيات تدل على أن مسمى الشرك يشمل أهل الكتاب أيضا ، كما في قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون [ 9 \ 30 - 31 ] .
[ ص: 40 ] فجعل مقالة كل من اليهود والنصارى إشراكا .
وجاء عن عبد الله بن عمر منع نكاح الكتابية وقال : " وهل أكبر إشراكا من قولها : اتخذ الله ولدا [ 2 \ 116 ] ، فهو وإن كان مخالفا للجمهور في منع الزواج من الكتابيات ، إلا أنه اعتبرهن مشركات .
ولهذا الخلاف والاحتمال وقع النزاع في مسمى الشرك ، هل يشمل أهل الكتاب أم لا ؟ مع أننا وجدنا فرقا في الشرع في معاملة أهل الكتاب ومعاملة المشركين ، فأحل ذبائح أهل الكتاب ولم يحلها من المشركين ، وأحل نكاح الكتابيات ولم يحله من المشركات ، كما قال تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [ 2 \ 221 ] .
وقوله : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ 60 \ 10 ] .
وقال : لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن [ 60 \ 10 ] ، بين ما في حق الكتابيات قال : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن [ 5 \ 5 ] ، فكان بينهما مغايرة في الحكم .
وقد جمع والدنا الشيخ محمد الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه بين تلك النصوص في دفع إيهام الاضطراب عند قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله المتقدم ذكرها جمعا مفصلا مفاده أن الشرك الأكبر المخرج من الملة أنواع ، وأهل الكتاب متصفون ببعض دون بعض ، إلى آخر ما أورده رحمة الله تعالى علينا وعليه .
ولعل في نفس آية وقالت اليهود عزير ابن الله ، فيها إشارة إلى ما ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه من وجهين :
الأول : قوله تعالى : يضاهئون قول الذين كفروا أي يشابهونهم في مقالتهم ، وهذا القدر اتصف به المشركون من أنواع الشرك .
الثاني : تذييل الآية بصيغة المضارع عما يشركون بينما وصف عبدة الأوثان في سورة البينة بالاسم " والمشركين " .
[ ص: 41 ] ومعلوم أن صيغة الفعل تدل على التجدد والحدوث ، وصيغة الاسم تدل على الدوام والثبوت ، فمشركو مكة وغيرهم دائمون على الإشراك وعبادة الأصنام ، وأهل الكتاب يقع منهم حينا وحينا .
وقد أخذ بعض العلماء : أن الكفر ملة واحدة ، فورث الجميع من بعض ، ومنع الآخرون على أساس المغايرة والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
بقي المجوس وجاءت السنة أنهم يعاملون معاملة أهل الكتاب لحديث : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " .
وقوله تعالى : منفكين حتى تأتيهم البينة ، اختلف في " منفكين " اختلافا كثيرا عند جميع المفسرين ، حتى قال الفخر الرازي عند أول هذه السورة ما نصه : قال الواحدي في كتاب البسيط : هذه الآية من أصعب ما في القرآن العظيم نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء .
ثم إنه رحمه الله لم يلخص كيفية الإشكال فيها .
وأنا أقول وجه الإشكال : أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا ، لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه .
فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة ، التي هي الرسول ، ثم قال بعد ذلك وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية تناقض في الظاهر ، هذا منتهى الإشكال فيما أظن . ا هـ . حرفيا .
وقد سقت كلامه لبيان مدى الإشكال في الآيتين ، وهو مبني على أن منفكين بمعنى تاركين : وعليه جميع المفسرين .
والذي جاء عن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : أن منفكين أي : [ ص: 42 ] مرتدعين عن الكفر والضلال ، حتى تأتيهم البينة ، أي : أتتهم .
ولكن في منفكين ، وجه يرفع هذا الإشكال ، وهو أن تكون منفكين بمعنى متروكين لا بمعنى تاركين ، أي : لم يكونوا جميعا متروكين على ما هم عليه من الكفر والشرك حتى تأتيهم البينة على معنى قوله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى [ 75 \ 36 ] ، وقوله : الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون [ 29 \ 1 - 2 ] ، أي : لن يتركوا وقريب منه قوله تعالى : قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] .
وقد حكى أبو حيان قولا عن ابن عطية قوله : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أن يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم ، حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولا منذرا ، تقوم عليهم به الحجة ، ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ا هـ .
فقول ابن عطية يتفق مع ما ذكرناه ، ويزيل الإشكال الكبير عن المفسرين ، كما أسلفنا .
ولابن تيمية رحمه الله قول في ذلك نسوقه لشموله ، وهو ضمن كلامه على هذه السورة في المجموع مجلد 61 ص 594 قال :
وفي معنى قوله تعالى : لم يكن هؤلاء وهؤلاء منفكين .
ثلاثة أقوال ذكرها غير واحد من المفسرين .
هل المراد : لم يكونوا منفكين عن الكفر ؟
أو هل لم يكونوا مكذبين بمحمد حتى بعث ، فلم يكونوا منفكين من محمد والتصديق بنبوته حتى بعث .
أو المراد : أنهم لم يكونوا متروكين حتى يرسل إليهم رسول .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:52 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (602)
سُورَةُ الْبَيِّنَة
صـ 43 إلى صـ 52
وناقش تلك الأقوال وردها كلها ثم قال : فقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين ، أي : لم يكونوا متروكين باختيار أنفسهم يفعلون ما يهوونه [ ص: 43 ] لا حجر عليهم ، كما أن المنفك لا حجر عليه ، وهو لم يقل مف****ن ، بل قال : منفكين ، وهذا أحسن ، إلى أن قال : والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل .
والمعنى : أن الله لا يخليهم ولا يتركهم ، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا ، وهذا كقوله : أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، لا يؤمر ، ولا ينهى ، أي : أيظن أن هذا يكون ؟ هذا ما لا يكون البتة ، بل لا بد أن يؤمر وينهى .
وقريب من ذلك قوله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين [ 43 \ 3 - 5 ] . وهذا استفهام إنكار أي : لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر ، ونعرض عن إرسال الرسل .
تبين من ذلك كله أن الأصح في " منفكين " معنى " متروكين " وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي ، ويستقيم السياق ، ويتضح المعنى ، وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة .
أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها رسول من الله يتلو صحفا .
وفي هذا قيل : إن البينة هي نفس الرسول في شخصه ، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه ، كما في قوله : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ 61 \ 6 ] ، وقوله : يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [ 2 \ 146 ] .
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم .
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا ، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب ، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم ، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه : " كلا والله لن يخزيك الله ، والله إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر " إلى آخره .
وقول عمه أبي طالب : " والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة " إلخ . وقد لقبوه بالأمين .
[ ص: 44 ] وحادثة شق الصدر في رضاعه ، بل وقيل ذلك في قصة أبيه عبد الله ، لما تعرضت له المرأة تريده لنفسها ، فأبى . ولما تزوج ودخل بآمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم لقيها بعد ذلك ، فقالت له : لا حاجة لي بك ، فقال : وكيف كنت تتعرضين لي ؟ فقالت : رأيت نورا في وجهك ، فأحببت أن يكون لي ، فلما تزوجت وضعته في آمنة ولم أره فيك الآن ، فلا حاجة لي فيك .
فكلها دلائل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في شخصه بينة لهم ، ثم أكرمه الله بالرسالة ، فكان رسولا يتلو صحفا مطهرة ، من الأباطيل والزيغ وما لا يليق بالقرآن .
ومما استدل به لذلك قوله تعالى عنه : وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ 33 \ 49 ] فعليه يكون " رسول من الله " بدل من " البينة " مرفوع على البدلية ، أو أن البينة ما يأتيهم به الرسول مما يتلوه عليهم من الصحف المطهرة فيها كتب قيمة .
فالتشريع الذي فيها والإخبار الذي أعلنه تكون البينة . وعلى كل ، فإن البينة تصدق على الجميع ، كما تصدق على المجموع ، ولا ينفك أحدهما عن الآخر ، فلا رسول إلا برسالة تتلى ، ولا رسالة تتلى إلا برسول يتلوها .
وقد عرف لفظ البينة ، للإشارة إلى وجود علم عنها مسبق عليها .
فكأنه قيل : حتى تأتيهم البينة الموصوفة لهم في كتبهم ، ويشير إليها ما قدمنا في أخبار عيسى عليه السلام عنه ، وآخر سورة الفتح : ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه الآية [ 48 \ 29 ] .
قوله تعالى : فيها كتب .
جمع كتاب ، وقال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : كتب : بمعنى مكتوبات .
وقال ابن جرير : في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة . يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء .
وحكاه ابن كثير واقتصر عليه .
وقال القرطبي : إن الكتب بمعنى الأحكام ، مستدلا بمثل قوله تعالى : كتب عليكم الصيام [ 2 \ 183 ] وقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] .
[ ص: 45 ] وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ، فجعله كتبا ; لأنه يشتمل على أبواب من البيان .
وذكر الفخر الرازي : أنه يحتمل في كتب أي : الآيات المكتوبة في المصحف ، وهو قريب من قول الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه .
وقال الشوكاني : المراد : الآيات والأحكام المكتوبة فيها ، وهذه المعاني وإن كانت صحيحة ، إلا أن ظاهر اللفظ أدل على تضمن معنى كتب منه على معنى كتابة أحكام .
والذي يظهر أن مدلول " كتب " على ظاهرها ، وهو تضمن تلك الصحف المطهرة لكتب سابقة قيمة ، كما ينص عليه قوله تعالى : بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى [ 87 \ 16 - 17 ] ، ثم قال : إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى [ 87 \ 19 ] ، وكقوله في عموم الكتب الأولى : قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه [ 46 \ 30 ] ، وقوله : نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل [ 3 \ 3 - 4 ] .
ولذا قال : والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق [ 6 \ 114 ] ، أي : بما فيه من كتبهم القيمة المتقدم إنزالها ، كما في قوله : ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم [ 24 \ 34 ] .
وقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون [ 27 \ 76 ] .
وقال : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه [ 6 \ 92 ] ، ونحو ذلك من الآيات ، مما يدل على أن آي القرآن متضمنة كتبا قيمة مما أنزلت من قبل ، وقد جاء عمليا في آية الرحمن ، وقوله : وكتبنا عليهم فيها أي : في التوراة أن النفس بالنفس والعين بالعين ، فهذه من الكتب القيمة التي تضمنها القرآن الكريم ، كما قال : ولكم في القصاص حياة [ 2 \ 179 ] .
ولعل هذا بين وجه المعنى فيما رواه المفسرون عن الإمام أحمد ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب : " أمرت أن أقرأ عليك سورة البينة ، فقال : أوذكرت ثم ؟ " .
[ ص: 46 ] وبكى رضي الله عنه ; لأن فيها زيادة طمأنينة له على إيمانه بأنه آمن بكتاب تضمن الكتب القيمة المتقدمة ، والتي يعرفها عبد الله بن سلام أن الرجم في التوراة لما غطاها الآتي بها ، كما هو معروف في القصة . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
يلاحظ أن السورة في أولها عن الكفار عموما من أهل الكتاب والمشركين معا ، وهنا الحديث عن أهل الكتاب فقط ، وذلك مما يخصهم في هذا المقام دون المشركين ، وهو أنهم لأنهم أهل كتاب ، وعندهم علم به صلى الله عليه وسلم ، وبما سيأتي به ، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [ 2 \ 89 ] .
وكقوله صراحة : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم [ 42 \ 14 ] ، فلمعرفتهم به قبل مجيئه ، واختلافهم فيه بعد مجيئه ، وخصهم هنا بالذكر في قوله : وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة .
تنبيه
مما يدل على ما ذكرنا من معنى " كتب قيمة " ، أمران من كتاب الله :
الأول منها : اختصاص أهل الكتاب هنا بعدم عموم الحديث من الذين كفروا ، وما قدمنا من نصوص .
الثاني : أن القرآن لما ذكر الرسول يتلو على المشركين قال : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته [ 62 \ 2 ] ، فهذا نفس الأسلوب ، ولكن قال : " آياته " ; لأنهم لم يكن لهم علم بالكتب الأخرى ، فاقتصر على الآيات .
قوله تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء .
وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم .
ولكن هنا لم يبين موضع الأمر عليهم بعبادة الله مخلصين له الدين ، هل هو في كتبهم السابقة ، أم في هذا القرآن الذي يتلى عليهم في صحف مطهرة ؟
وقد بين القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل من كتبهم والقرآن الكريم ، [ ص: 47 ] فمما في كتبهم قوله تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله [ 16 \ 36 ] .
وقوله : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] .
فإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ، هو عين عبادة الله مخلصين له الدين .
ومما في القرآن قوله تعالى : يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين [ 2 \ 40 - 43 ] .
فقد نص على كامل المسألة هنا ، أن الكتب القيمة المنصوص عليها في الصحف المطهرة هي كتب أهل الكتاب ، لقوله تعالى : وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ، وأنهم أمروا في هذا القرآن بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التعليمات المذكورة نفسها ، وإقام الصلاة لا يكون إلا عبادة الله بإخلاص .
وهذه الأوامر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن لا تقتضي التفرق ، بل تستوجب الاجتماع والوحدة .
قوله تعالى : وذلك دين القيمة .
القيمة : فيعلة من القوامة ، وهي غاية الاستقامة .
وقد جاء بعد قوله : فيها كتب قيمة [ 98 \ 3 ] ، أي : مستقيمة بتعاليمها .
وقد نص تعالى على أن القرآن أقومها وأعدلها كما في قوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] ، وقال تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما [ 18 \ 1 - 2 ] ، فنفى عنه العوج ، وأثبت له الاستقامة .
وهذا غاية في القوامة كما قدمنا من قبل ، من أن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات ، لكنه ينحرف تارة يمينا وشمالا [ ص: 48 ] مع استقامته ، فهو مع الاستقامة لم يخل من العوج .
ولكن ما ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة ، هو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين ، مع استقامته في سطحه .
وهكذا هو القرآن ، فهو الصراط المستقيم ، ولذا قال تعالى : وذلك دين القيمة [ 98 \ 5 ] الملة القيمة ، قيمة في ذاتها ، وقيمة على غيرها : ومهيمنة عليه ، وكقوله : ذلك الدين القيم [ 12 \ 40 ] ، وقوله : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [ 6 \ 161 - 163 ] .
تنبيه
إن في هذه الآية ردا صريحا على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك ، حيث لم تسلم من لبس ، وهي دعوة وحدة الأديان ، ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق ، ومنه باطل .
أما الحق فهو وحدة الأصول ، كما قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة [ 98 \ 5 ] ، وأما الباطل فهو الإبهام ، بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع ، بأن فروع كل دين قد لا تتفق كلها مع فروع الدين الآخر ، فلم تتحد الصلاة في جميع الأديان ولا الصيام ، ونحو ذلك .
وقد أجمع المسلمون على أن العبرة بما في القرآن من تفصيل للفروع ، والسنة تكمل تفصيل ما أجمل .
وهنا النص الصريح بأن ذلك الذي جاء به القرآن هو دين القيمة ، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ، وهي أفعل تفضيل ، فلا يمكن أن يعادل ويساوي مع غيره أبدا مع نصوص القرآن ، بأن الله أخذ العهد على جميع الأنبياء لئن أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ، ولينصرنه وليتبعنه ، وأخذ عليهم العهد بذلك . وقد أخبر الرسل أممهم بذلك . فلم يبق مجال في هذا الوقت ولا غيره لدعوة الجاهلية بعنوان مجوف وحدة الأديان ، بل الدين الإسلامي وحده : إن الدين عند الله الإسلام [ 3 \ 19 ] ، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه [ 3 \ 85 ] [ ص: 49 ] وبالله تعالى التوفيق .
قوله تعالى : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية .
قرئت البرية بالهمزة وبالياء ، فقرأ بالهمز : نافع وابن ذكوان والباقون بالياء ، فاختلف في أخذها .
قال القرطبي : قال الفراء : إن أخذت البرية من البراءة بفتح الباء والراء : أي التراب . فأصله غير مهموز بقوله منه : براه الله يبروه بروا ، أي : خلقه ، وقيل : البرية من بريت القلم أي قدرته .
وقد تضمنت هذه الآية مسألتين : الأولى منهما : أن أولئك في نار جهنم خالدين فيها ، ومبحث خلود الكفار في النار ، تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وافيا .
والمسألة الثانية أنهم شر البرية ، والبرية أصلها البريئة ، قلبت الهمزة ياء تسهيلا ، وأدغمت الياء في الباء ، والبريئة الخليقة ، والله تعالى بارئ النسم ، هو الخالق البارئ المصور سبحانه .
ومن البرية الدواب والطيور ، وهنا النص على عمومه ، فأفهم أن أولئك شر من الحيوانات والدواب .
وقد جاء النص صريحا في هذا المعنى في قوله تعالى : إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون [ 8 \ 22 ] ، وقد بين أن المراد بهم الكفار في قوله : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقال عنهم : أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين [ 43 \ 40 ] ، فهم لصممهم وعماهم في ضلال مبين .
وقد ثبت أن الدواب ليست في ضلال مبين ; لأنها تعلم وتؤمن بوحدانية الله ، كما جاء في هدهد سليمان ، أنكر على بلقيس وقومها سجودهم للشمس والقمر من دون الله .
ونص مالك في الموطأ في فضل يوم الجمعة : " أنه وما من دابة إلا تصيخ بأذنها من [ ص: 50 ] فجر يوم الجمعة إلى طلوع الشمس خشية الساعة " ، وهذا كله ليس عند الكافر منه شيء ، ثم في الآخرة لما يجمع الله جميع الدواب ويقتص للعجماء من القرناء ، فيقول لها : كوني ترابا ، فيتمنى الكافر لو كان مثلها فلم يحصل له ، كما قال : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .
وذلك والله تعالى أعلم : أن الدواب لم تعمل خيرا فتبقى لتجازى عليه ، ولم تعمل شرا لتعاقب عليه فكانت لا لها ولا عليها إلا ما كان فيما بينها وبين بعضها ، فلما اقتص لها من بعضها انتهى أمرها ، فكانت نهايتها عودتها إلى منبتها وهو التراب . بخلاف الكافر فإن عليه حساب التكاليف وعقاب المخالفة فيعاقب بالخلود في النار ، فكان شر البرية .
قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية .
الحكم هنا بالعموم ، كالحكم هناك ، ولكنه هنا بالخيرية والتفضيل .
أما من حيث الجنس فلا إشكال ; لأن الإنسان أفضل الأجناس ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] .
وأما من حيث العموم ، فقال بعض العلماء فيها ما يدل على أن صالح المؤمنين أفضل من الملائكة .
ولعل مما يقوي هذا الاستدلال ، هو أن بعض أفراد جنس الإنسان أفضل من عموم أفراد جنس الملائكة ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا فضل بعض أفراد الجنس لا يمنع في البعض الآخر ، ولكن هل بعض أفراد الأمة بعده أفضل من عموم أو بعض أفراد الملائكة ؟ هذا هو محل الخلاف .
وللقرطبي مبحث في ذلك : مبناه على أصل المادة وورود النصوص من جهة أصل المادة إن كانت البرية مأخوذة من البري وهو التراب ، فلا تدخل الملائكة تحت هذا التفضيل وإلا فتدخل .
وأما من جهة النصوص ، فقال في سورة البقرة عند قوله : قال ياآدم أنبئهم بأسمائهم [ 2 \ 33 ] ، قال المسألة الثالثة : اختلف العلماء في هذا الباب أيهما أفضل ، الملائكة أو بنو آدم ؟ على قولين : فذهب قول إلى أن الرسل من البشر أفضل من الرسل من الملائكة ، والأولياء من البشر أفضل من الأولياء من الملائكة .
[ ص: 51 ] وذهب آخرون إلى أن الملأ الأعلى أفضل ، واحتج من فضل الملائكة بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .
وقوله : لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون [ 66 \ 6 ] . وقوله : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك [ 6 \ 50 ] .
وبما في البخاري يقول الله : " من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " وهذا نص على أن الملأ الأعلى خير من ملأ الأرض .
واحتج من فضل بني آدم بقوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية [ 98 \ 7 ] ، بالهمز من برأ الله الخلق ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " إن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم " أخرجه أبو داود .
وبأن الله يباهي بأهل عرفات الملائكة ، ولا يباهي إلا بالأفضل والله تعالى أعلم .
وقال بعض العلماء : ولا طريق إلى القطع بأن الملائكة خير منهم ; لأن طريق ذلك خبر الله ، وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع الأمة .
وليس هاهنا شيء من ذلك خلافا للقدرية والقاضي أبي بكر ، حيث قالوا : الملائكة أفضل . قال : وأما من قال من أصحابنا والشيعة : إن الأنبياء أفضل ; لأن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إلى آخره .
ثم رد هذا الاستدلال .
وقد سقنا هذا البحث لبيان الخلاف في هذه المسألة المشتمل عليها لفظ البرية ، وأعتقد أن المفاضلة جزئية لا كلية ، وذلك أن جنس البشر خلاف جنس الملائكة ، والملائكة فيهم النص بأنهم : عباد مكرمون [ 21 \ 26 ] ، والبشر فيهم النص ولقد كرمنا بني آدم [ 17 \ 70 ] ، والفرق بينهما كالفرق بين الاسم والفعل في الدلالة .
ففي الملائكة بالاسم : مكرمون ، وهو يدل على الدوام والثبوت ، وفي بني آدم كرمنا ، وهو يدل على التجدد والحدوث .
وهذا هو الواقع ، فالتكريم ثابت ولازم ودائم للملائكة بخلافه في بني آدم إذ فيهم [ ص: 52 ] وفيهم ، ولا يبعد أن يقال : إن التفضيل في الأعمال من حيث صدورها من بني آدم ومن الملائكة ، إذ الملائكة تصدر عنهم أعمال الخير جبلة أو بدون نوازع شر ، بخلاف بني آدم ، وإن أعمال الخير تصدر عنها بمجهود مزدوج ، حيث ركبت فيهم النفس اللوامة والأمارة بالسوء . ونحو ذلك من الجانب الحيواني .
وازدواجية المجهود ، هو أنه ينازع عوامل الشر حتى يتغلب عليها ، ويبذل الجهد في فعل الخير ، فهو يجاهد للتخليص من نوازع الشر ، ثم هو يجاهد للقيام بفعل الخير ، وهذا مجهود يقتضي التفضيل على المجهود من جانب واحد .
وقد جاء في السنة ما يشهد لذلك ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم لأصحابه في حق من يأتي بعدهم من أن العامل منهم له أجر خمسين ، فقالوا : خمسين منا أو منهم يا رسول الله قال : " بل خمسين منكم ، لأنكم تجدون أعوانا على الخير وهم لا يجدون " .
وحديث : " سبق درهم مائة ألف درهم " وبين صلى الله عليه وسلم ، أن الدرهم سبق الأضعاف المضاعفة ; لأنه ثاني اثنين فقط ، والمائة ألف جزء من مجموع كثير .
فالنفس التي تجود بنصف ما تملك ، ولا يتبقى لها إلا درهم ، خير بكثير ممن تنفق جزءا ضئيلا مما تملك ويتبقى لها المال الكثير ، فكانت عوامل التصدق ودوافعه مختلفة منزلة في النفس متضادة ; فالدرهم في ذاته وماهيته من جنس الدراهم الأخرى ، لم تتفاوت الماهية ولا الجنس ، ولكن تفاوتت الدوافع والعوامل لإنفاقه ، ولعل المفاضلة المقصودة تكون من هذا القبيل أولى . والله تعالى أعلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:53 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (603)
سُورَةُ الْعَادِيَات
صـ 53 إلى صـ 62
قوله تعالى : جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا .
فيه أربع مسائل ; ثلاثة مجملة جاء بيانها في القرآن . والرابعة مفصلة ولها شواهد .
وأما الثلاثة المجملة فأولها قوله : جزاؤهم عند ربهم ، إذ الجزاء في مقابل شيء يستوجبه ، وعند ربهم تشعر بأنه تفضل منه ، وإلا لقال : جزاؤهم على ربهم .
وقد بين ذلك صريح قوله تعالى : إن للمتقين مفازا حدائق وأعنابا وكواعب أترابا وكأسا دهاقا لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا جزاء من ربك عطاء حسابا [ 78 \ 31 - 36 ] ، فنص على أن هذا الجزاء كله من ربهم عطاء لهم من عنده .
[ ص: 53 ] الثانية والثالثة قوله : جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، فأجمل ما في الجنات ، ونص على أنها تجري من تحتها الأنهار ، مع إجمال تلك الأنهار ، وقد فصلت آية : عم يتساءلون [ 78 \ 1 ] ما أعد لهم في الجنة من حدائق وأعناب وكواعب وشراب وطمأنينة ، وعدم سماع اللغو إلى آخره . كما جاء تفصيل الأنهار في سورة القتال ، في قوله تعالى : مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم [ 47 \ 15 ] ، والخلود في هذا النعيم هو تمام النعيم .
قوله تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه .
يعتبر هذا الإخبار من حيث رضوان الله تعالى على العباد في الجنة ، من باب العام بعد الخاص .
وقد تقدم في سورة الليل في قوله تعالى : وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى إلى قوله ولسوف يرضى [ 92 \ 17 - 21 ] ، واتفقوا على أنها في الصديق رضي الله عنه كما تقدم ، وجاء في التي بعدها سورة والضحى قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] ، أي : للرسول صلى الله عليه وسلم .
وهنا في عموم : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، فهي عامة في جميع المؤمنين الذين هذه صفاتهم ، ثم قال : رضي الله عنهم ، وقد جاء ما يبين سبب رضوان الله تعالى عليهم وهو بسبب أعمالهم ، كما في قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [ 48 \ 1 ] فكانت المبايعة سببا للرضوان .
وفي هذه الآية الإخبار بأن الله رضي عنهم ورضوا عنه ، ولم يبين زمن هذا الرضوان أهو سابق في الدنيا أم حاصل في الجنة ، وقد جاءت آية تبين أنه سابق في الدنيا ، وهي قوله تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم [ 9 \ 100 ] ، فقوله تعالى : رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ثم يأتي بعدها : وأعد لهم جنات .
[ ص: 54 ] فهو في قوة الوعد في المستقبل ، فيكون الإخبار بالرضى مسبقا عليه .
وكذلك آية سورة الفتح في البيعة تحت الشجرة إذ فيها : لقد رضي الله عن المؤمنين [ 48 \ 18 ] ، وهو إخبار بصيغة الماضي ، وقد سميت " بيعة الرضوان " .
تنبيه
في هذا الأسلوب الكريم سؤال ، وهو أن العبد حقا في حاجة إلى أن يعلم رضوان الله تعالى عليه ; لأنه غاية أمانيه ، كما قال تعالى : ذلك الفوز العظيم .
أما الإخبار عن رضى العبد عن الله ، فهل من حق العبد أن يسأل عما إذا كان هو راضيا عن الله أم لا ؟ إنه ليس من حقه ذلك قطعا ، فيكون الإخبار عن ذلك بلازم الفائدة ، وهي أنهم في غاية من السعادة والرضى فيما هم فيه من النعيم إلى الحد الذي رضوا وتجاوز رضاهم حد النعيم إلى الرضى عن المنعم .
كما يشير إلى شيء من ذلك آخر آية النبأ : عطاء حسابا [ 78 \ 36 ] ، قالوا : إنهم يعطون حتى يقولوا : حسبنا حسبنا ، أي : كافينا .
قوله تعالى : ذلك لمن خشي ربه .
اسم الإشارة منصب على مجموع الجزاء المتقدم ، وقد تقدم أنه للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهنا يقول : إنه لمن خشي ربه ، مما يفيد أن تلك الأعمال تصدر منهم عن رغبة ورهبة . رغبة فيما عند الله ، ورهبة من الله ، ومثله قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] ، وقوله : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى .
[ 79 \ 40 - 41 ]
والواقع أن صفة الخوف من الله تعالى هي أجمع صفات الخير في الإنسان ; لأنها صفة للملائكة المقربين .
كما قال تعالى عنهم : يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون [ 16 \ 50 ] .
[ ص: 55 ] وقد عم الحكم في ذلك بقوله تعالى : إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير [ 67 \ 12 ] .
وفي هذه الآية السر الأعظم ، وهو كون الخشية في الغيبة عن الناس ، وهذا أعلى مراتب المراقبة لله ، والخشية أشد الخوف .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الزَّلْزَلَة
قوله تعالى : إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم
الزلزلة : الحركة الشديدة بسرعة ، ويدل لذلك فقه اللغة من وجهين :
الأول : تكرار الحروف ، أو ما يقال تكرار المقطع الواحد ، مثل صلصل وقلقل وزقزق ، فهذا التكرار يدل على الحركة .
والثاني : وزن فعل بالتضعيف كغلق وكسر وفتح ، فقد اجتمع في هذه الكلمة تكرار المقطع وتضعيف الوزن .
ولذا ، فإن الزلزال أشد ما شهد العالم من حركة ، وقد شوهدت حركات زلزال في أقل من ربع الثانية ، فدمر مدنا وحطم قصورا .
ولذا فقد جاء وصف هذا الزلزال بكونه شيئا عظيما في قوله تعالى : إن زلزلة الساعة شيء عظيم [ 22 \ 1 ] ، ويدل على هذه الشدة تكرار الكلمة في " زلزلت " وفي " زلزالها " ، كما تشعر به هذه الإضافة .
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، إيراد النصوص المبينة لذلك في أول سورة الحج كقوله تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، وقوله : إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا [ 56 \ 4 - 5 ] ، وقوله : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة [ 79 \ 6 - 7 ] ، وساق قوله : وأخرجت الأرض أثقالها [ 99 \ 2 ] .
واختلف في الأثقال ما هي على ثلاثة أقوال :
[ ص: 57 ] فقيل : موتاها . وقيل : كنوزها ، وقيل : التحدث بما عمل عليها الإنسان . ولعل الأول أرجح هذه الثلاثة ; لأن إخراج كنوزها سيكون قبل النفخة ، والتحدث بالأعمال منصوص عليه بذاته ، فليس هو الأثقال . ورجحوا القول الأول لقوله تعالى : ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا [ 77 \ 25 - 26 ] .
وقالوا : الإنس والجن ثقلان على ظهرها ، فهما ثقل عليها ، وفي بطنها فهم ثقل فيها ، ولذا سميا بالثقلين . قاله الفخر الرازي وابن جرير .
وروي عن ابن عباس : أنه موتاها .
وشبيه بذلك قوله : وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت [ 48 \ 3 - 4 ] ، ولا يبعد أن يكون الجميع إذا راعينا صيغة الجمع أثقالها ، ولم يقل ثقلها ، وإرادة الجمع مروية أيضا عن ابن عباس . ذكره الألوسي ، وابن جرير عنه وعن مجاهد .
وحكى الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه القولين في إملائه : أي موتاها ، وقيل : كنوزها .
وقوله تعالى : وقال الإنسان ما لها ، لفظ الإنسان هنا عام وظاهره أن كل إنسان يقول ذلك ، ولكن جاء ما يدل على أن الذي يقول ذلك هو الكافر . أما المؤمن فيقول : هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون ، وذلك في قوله : ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا ياويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون [ 36 \ 51 - 52 ] .
فالكافر يدعو بالويل والمؤمن يطمئن للوعد ، ومما يدل على أن الجواب من المؤمنين ، لا من الملائكة ، كما يقول بعض الناس ، ما جاء في آخر السياق قوله : فإذا هم جميع أي : كلا الفريقين لدينا محضرون .
وقوله : ما لها سؤال استيضاح وذهول من هول ما يشاهد .
وقوله : يومئذ تحدث أخبارها ، التحديث هنا صريح في الحديث وهو على حقيقته ; لأن في ذلك اليوم تتغير أوضاع كل شيء وتظهر حقائق كل شيء ، وكما أنطق الله الجلود ينطق الأرض ، فتحدث بأخبارها ، وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء [ 41 \ 21 ] [ ص: 58 ] وتقدم تفصيل ذلك عند أول سورة الحشر ; لأن الله أودع في الجمادات القدرة على الإدراك والنطق ، والمراد بإخبارها أنها تخبر عن أعمال كل إنسان عليها في حال حياته .
ومما يشهد لهذا المعنى حديث المؤذن " لا يسمع صوته حجر ولا مدر إلا وشهد له يوم القيامة " ، وذكر ابن جرير وجها آخر ، وهو أن إخبارها هو ما أخرجته من أثقالها بوحي الله لها ، والأول أظهر لأنه يثبت معنى جديدا . ويشهد له الحديث الصحيح .
قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه ، والآخر في صيغة " يعمل " .
أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم : من للعموم المسلم والكافر ، مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئا ، لقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وفي حق المسلم ، قد لا يرى كل ما عمل من شر ، لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] .
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده .
أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث ، وهو في صيغة " يعمل " ; لأنها صيغة مضارع ، وهي للحال والاستقبال .
والمقام في هذا السياق يومئذ يصدر الناس أشتاتا ، وهو يوم البعث ، وليس هناك مجال للعمل ، وكان مقتضى السياق أن يقال : فمن عمل مثقال ذرة خيرا يره . ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع ، والمقام ليس مقام عمل ، ولكن في السياق ما يدل على أن المراد " يعمل مثقال ذرة " أي من الصنفين ما كان من ذلك ; لقوله تعالى يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ، فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي عملوها من قبل ، فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات ، حيث كان السياق أولا من أول [ ص: 59 ] السورة في معرض الإخبار عن المستقبل : إذا زلزلت الأرض زلزالها ، وإذا أخرجت الأرض أثقالها ، وإذا قال الإنسان ما لها . في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها ، وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل كما في قوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، وقوله : ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] .
ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير ، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شرا يره في الآخرة ، ومثقال الذرة ، قيل : هي النملة الصغيرة ، لقول الشاعر :
من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الإتب منها لأثرا
والإتب : قال في القاموس : الإتب بالكسر ، والمئتبة كمكنسة برد يشق ، فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين ، وقيل : هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس ، وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما .
وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء الله .
ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها ; لأنه تعالى عمم العمل في قوله : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] ، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير ، وقد جاء النص صريحا بذلك في قوله تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين [ 10 \ 61 ] .
وهنا تنبيهان : الأول من ناحية الأصول ، وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال ، بل هي أولى وأحرى .
وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق ، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به ، وقد يكون مساويا له ، فمن الأول هذه الآية وقوله :فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما [ 17 \ 23 ] ، ومن المساوي قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا [ 4 \ 10 ] ، فإن إحراق ماله وإغراقه [ ص: 60 ] ملحق بأكله ، بنفي الفارق وهو مساو لأكله في عموم الإتلاف عليه ، وهو عند الشافعي ما يسمى القياس في معنى الأصل ، أي النص .
التنبيه الثاني في قوله تعالى : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك .
رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر ، والمسمى بعصر الذرة ، إذ قالوا : لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء ، وأنها لا تقبل التقسيم ، كما يقول المناطقة : إنها الجوهر الفرد ، الذي لا يقبل الانقسام .
وجاء العلم الحديث ففتت الذرة وجعل لها أجزاء . ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة ، على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب .
فمعلوم ذلك عند الله ومثبت في كتاب ما هو أصغر من الذرة ، ولا حد لهذا الأصغر بأي نسبة كانت ، فهو شامل لتفجير الذرة ولأجزائها مهما صغرت تلك الأجزاء .
سبحانك ما أعظم شأنك ، وأعظم كتابك ، وصدق الله إذ يقول : ما فرطنا في الكتاب من شيء [ 6 \ 38 ] .
[ ص: 61 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْعَادِيَات
قوله تعالى : والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا .
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه :
العاديات : جمع عادية ، والعاديات : المسرعات في مسيرها .
فمعنى العاديات : أقسم بالمسرعات في سيرها .
ثم قال : وأكثر العلماء على أن المراد به الخيل ، تعدو في الغزو ، والقصد تعظيم شأن الجهاد في سبيل الله .
وقال بعض العلماء : المراد بالعاديات : الإبل تعدو بالحجيج من عرفات إلى مزدلفة ومنى .
ومعنى قوله : ضبحا : أنها تضبح ضبحا ، فهو مفعول مطلق ، والضبح : صوت أجواف الخيل عند جريها .
وهذا يؤيد القول الأول الذي يقول هي الإبل ، ولا يختص الضبح بالخيل .
فالموريات قدحا : أي الخيل توري النار بحوافرها من الحجارة ، إذا سارت ليلا .
وكذلك الذي قال : العاديات : الإبل . قال : برفعها الحجارة فيضرب بعضها بعضا .
ويدل لهذا المعنى قول الشاعر :
تنفي يداها الحصا في كل هاجرة نفي الدراهم تنقاد الصياريف
[ ص: 62 ] فالمغيرات صبحا الخيل تغير على العدو وقت الصبح .
وعلى القول الثاني : فالإبل تغير بالحجاج صبحا من مزدلفة إلى منى يوم النحر .
فأثرن به نقعا : أي غبارا . قال به . أي : بالصبح أو به . أي بالعدو .
والمفهوم من العاديات : توسطن به جمعا ، أي دخلن في وسط جمع أي خلق كثير من الكفار .
ونظير هذا المعنى قول بشر بن أبي حازم :
فوسطن جمعهم وأفلت حاجب تحت العجاجة في الغبار الأقتم
وعلى القول الثاني الذي يقول : العاديات الإبل تحمل الحجيج .
فمعنى قوله : فوسطن به جمعا ، أي : صرن بسبب ذلك العدو وسط جمع . وهي المزدلفة ، وجمع اسم من أسماء المزدلفة .
ويدل لهذا المعنى قول صفية بنت عبد المطلب ، عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأم الزبير بن العوام رضي الله عنهما :
فلا والعاديات مغبرات جمع بأيديها إذا سطع الغبار
وهذا الذي ساقه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، قد جمع أقوال جميع المفسرين في هذه الآيات ، وقد سقته بحروفه لبيانه للمعنى كاملا .
ولكن مما قدمه رحمة الله تعالى علينا وعليه أن من أنواع البيان في الأضواء : أنه إذا اختلف علماء التفسير في معنى وفي الآية قرينة ترد أحد القولين أو تؤيد أحدهما فإنه يشير إليه .
وقد وجدت اختلاف المفسرين في هذه الآيات في نقطة أساسية من هذه الآيات مع اتفاقهم في الألفاظ ، ومعانيها والأسلوب وتراكيبه .
ونقطة الخلاف هي معنى الجمع الذي توسطن به ، أهو المزدلفة لأن من أسمائها جمعا كما في الحديث : " وقفت هاهنا وجمع كلها موقف " .
وهذا مروي عن علي رضي الله عنه ، في نقاش بينه وبين ابن عباس . ساقه ابن جرير .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:54 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (604)
سُورَةُ الْقَارِعَة
صـ 63 إلى صـ 72
[ ص: 63 ] أم بالجمع جمع الجيش في القتال على ما تقدم ، وهو قول ابن عباس وغيره . حكاه ابن جرير وغيره .
وقد وجدنا قرائن عديدة في الآية تمنع من إرادة المزدلفة بمعنى جمع ، وهي كالآتي : أولا وصف الخيل أو الإبل على حد سواء بالعاديات ، حتى حد الضبح ووري النار بالحوافر وبالحصا ، لأنها أوصاف تدل على الجري السريع .
ومعلوم أن الإفاضة من عرفات ثم من المزدلفة لا تحتمل هذا العدو ، وليس هو فيها بمحمود ; لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي : " السكينة السكينة " فلو وجد لما كان موضع تعظيم وتفخيم .
ثانيا : أن المشهور أن إثارة النقع من لوازم الحرب ، كما قاله بشار :
كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أي : لشدة الكر والفر .
ثالثا : قوله تعالى : فالمغيرات صبحا فأثرن به نقعا فوسطن به جمعا ، جاء مرتبا بالفاء ، وهي تدل على الترتيب والتعقيب .
وقد تقدم المغيرات صبحا ، وبعدها فوسطن به جمعا .
وجمع هي المزدلفة ، وإنما يؤتى إليها ليلا . فكيف يقرن صبحا ، ويتوسطن المزدلفة ليلا .
وعلى ما حكاه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أنهم يغيرون صبحا من المزدلفة إلى منى ، تكون تلك الإغارة صبحا بعد التوسط بجمع ، والسياق يؤخرها عن الإغارة ولم يقدمها عليها .
فتبين بذلك أن إرادة المزدلفة غير متأتية في هذا السياق .
ويبقى القول الآخر وهو الأصح . والله تعالى أعلم .
ولو رجعنا إلى نظرية ترابط السور لكان فيها ترجيحا لهذا المعنى ، وهو أنه في السورة السابقة ، ذكرت الزلزلة وصدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم .
[ ص: 64 ] وهنا حث على أفضل الأعمال التي تورث الحياة الأبدية والسعادة الدائمة في صورة مماثلة ، وهي عدوهم أشتاتا في سبيل الله لتحصيل ذاك العمل الذي يحبون رؤيته في ذلك الوقت ، وهو نصرة دين الله أو الشهادة في سبيل الله ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد .
هذا الجواب قال القرطبي : الكنود : الكفور الجحود لنعم الله ، وهو قول ابن عباس .
وقال الحسن : يذكر المصائب وينسى النعم ، أخذه الشاعر فنظمه :
أيا أيها الظالم في فعله والظلم مردود على من ظلم إلى متى أنت وحتى متى
تشكو المصيبات وتنسى النعم
وروى أبو أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الكنود هو الذي يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده " .
وروى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أبشركم بشراركم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : من نزل وحده ، ومنع رفده ، وجلد عبده " خرجهما الترمذي الحكيم في نوادر الأصول .
وروى ابن عباس أيضا أنه قال : " الكنود بلسان كندة وحضرموت : العاصي ، وبلسان ربيعة ومضر : الكفور ، وبلسان كنانة : البخيل السيئ الملكة " .
وقال مقاتل : وقال الشاعر :
كنود لنعماء الرجال ومن يكن كنودا لنعماء الرجال يبعد
أي : كفور .
ثم قيل : هو الذي يكفر اليسير ، ولا يشكر الكثير .
وقيل : الجاحد للحق .
وقيل : سميت كندة كندة ; لأنها جحدت أباها .
[ ص: 65 ] وقال إبراهيم بن هرمة الشاعر :
دع البخلاء إن شمخوا وصدوا وذكرى بخل ثمانية كنود
في نقول كثيرة وشواهد .
ومنها : الكنود الذي ينفق نعم الله في معصية الله .
وعن ذي النون : الهلوع والكنود : هو الذي إذا مسه الشر جزوعا ، وإذا مسه الخير منوعا .
وقيل : الحسود الحقود .
ثم قال القرطبي رحمه الله في آخر البحث :
قلت : هذه الأقوال كلها ترجع إلى معنى الكفران والجحود .
وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى الكنود بخصال مذمومة ، وأحوال غير محمودة ، فإن صح فهو أعلى ما يقال ، ولا يبقى لأحد معه مقال . ا هـ .
وهكذا كما قال : إن صح الأثر فلا قول لأحد ، ولكن كل هذه الصفات من باب اختلاف التنوع ، لأنها داخلة ضمن معنى الجحود للحق أو للنعم .
وقد استدل ذو النون المصري بالآية الكريمة ، وهي مفسرة للكنود على المعاني المتقدمة بأنه هو الهلوع إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا .
ومثلها قوله : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني [ 89 \ 15 - 16 ] .
وقد عقب عليه هناك بمثل ما عقب عليه هنا .
فهناك قال تعالى : كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما [ 89 \ 17 - 20 ] .
وهنا عقب عليه بقوله : وإنه لحب الخير لشديد ، والله تعالى أعلم .
وقوله : إن الإنسان عام في كل إنسان ، ومعلوم أن بعض الإنسان ليس كذلك ، [ ص: 66 ] كما قال تعالى : فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى [ 92 \ 5 ، 6 ] ، مما يدل على أنه من العام المخصوص .
وأن هذه الصفات من طبيعة الإنسان إلا ما هذبه الشرع ، كما قال تعالى : وأحضرت الأنفس الشح [ 4 \ 128 ] .
وقوله : ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ 59 \ 9 ] .
ونص الشيخ في إملائه أن المراد به الكافر .
قوله تعالى : وإنه على ذلك لشهيد .
اختلف في مرجع الضمير في : وإنه ، فقيل : راجع للإنسان ، ورجحه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، مستدلا بقوله تعالى بعده : وإنه لحب الخير لشديد .
وقيل : راجع إلى رب الإنسان .
واختار هذا القرطبي وقدمه .
وجميع المفسرين يذكرون الخلاف ، وقد عرفت الراجح منها ، وعليه ، فعلى أنه راجع لرب الإنسان فلا إشكال في الآية ، وعلى أنه راجع للإنسان ففيه إشكال أورده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب وأجاب عليه .
وهو أنه جاءت نصوص تدل على أنه ينكر ذلك ، وأنه كان يحب أنه يحسن صنعا ، ونحو ذلك .
ومن الجواب عليه : أن شهادته بلسان الحال .
وقد أورد بعض المفسرين شهادتهم بلسان المقال في قوله تعالى : ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر [ 9 \ 17 ] إلا أن هذه الشهادة بالكفر هي الشرك . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وإنه لحب الخير لشديد .
الخير عام ، كما تقدم في قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره .
ولكنه هنا خاص بالمال ، فهو من العام الذي أريد به الخاص من قصر العام على [ ص: 67 ] بعض أفراده ; لأن المال فرد من أفراد الخير ، كقوله تعالى : إن ترك خيرا [ 2 \ 180 ] ، أي : مالا ; لأن عمل الخير يصحبه معه ولا يتركه .
وفي معنى هذا وجهان : الأول وإنه لحب الخير أي بسبب حبه الخير لشديد بخيل ، شديد البخل .
كما قيل :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
أي : شديد البخل على هذه الرواية من هذا البيت .
والوجه الثاني : وإنه لشديد حب المال . قالهما ابن كثير .
وقال : كلاهما صحيح ، والواقع أن الثاني يتضمن الأول .
ويشهد للوجه الثاني ، قوله تعالى : وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المال حبا جما .
وقلنا : إن الثاني يتضمن الأول ; لأن من أحب المال حبا جما سيحمله حبه على البخل .
وفي هذا النص مذمة حب المال وهو جبلة في الإنسان ، إلا من هذبه الإسلام ، إلا أن الذم ينصب على شدة الحب التي تحمل صاحبها على ضياع الحقوق أو تعدي الحدود .
وهذه الآية وما قبلها نازلة في الكفار كما قدمنا كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه .
قوله تعالى : أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور .
البعثرة : الانتثار .
وقال الزمخشري : إن هذه الكلمة مأخوذة من أصلين : البعث والنثر .
فالبعث : خروجهم أحياء .
والنثر : الانتشار كنثر الحب ، فهي تدل على بعثهم منتشرين .
[ ص: 68 ] وقد نص تعالى على هذا المعنى في قوله : وإذا القبور بعثرت [ 82 \ 4 ] ، أي بعثر من فيها .
وقوله : يوم يخرجون من الأجداث سراعا [ 70 \ 43 ] .
وقوله : كأنهم جراد منتشر [ 54 \ 7 ] .
وقوله : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث [ 101 \ 4 ] . .
قوله تعالى : وحصل ما في الصدور .
قيل : حصل أي أبرز . قاله ابن عباس .
وقيل : ميز الخير من الشر .
والحاصل من كل شيء ما بقي .
قال لبيد :
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه إذا حصلت عند الإله الحصائل
والمراد بما في الصدور الأعمال ، وهذا كقوله : يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] .
ونص على الصدور هنا ، مع أن المراد القلوب ; لأنها هي مناط العمل ومعقد النية .
والعقيدة وصحة الأعمال كلها مدارها على النية ، كما في حديث : " إنما الأعمال بالنيات " وحديث : " ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله " الحديث .
وقال الفخر الرازي : خصص القلب بالذكر ; لأنه محل لأصول الأعمال .
ولذا ذكره في معرض الذم ، فإنه آثم قلبه [ 2 \ 283 ] ، وفي معرض المدح : وجلت قلوبهم [ 8 \ 2 ] .
ويشهد لما قاله قوله : إلا من أتى الله بقلب سليم [ 26 \ 89 ] .
وقوله : ثم قست قلوبكم [ 2 \ 74 ] .
[ ص: 69 ] وقال : ثم تلين جلودهم وقلوبهم [ 39 \ 23 ] .
وقوله : ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] ، ونحو ذلك .
ومما يدل على أن المراد بالصدور ما فيها هو القلب .
قوله : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور [ 22 \ 46 ] .
وقال الفخر الرازي : نص على الصدور ليشمل الخير والشر ; لأن القلب محل الإيمان .
والصدر محل الوسوسة لقوله تعالى : الذي يوسوس في صدور الناس [ 114 \ 5 ] .
وهذا وإن كان وجيها ، إلا أن محل الوسوسة أيضا هو القلب ، فيرجع إلى المعنى الأول والله أعلم .
قوله تعالى : إن ربهم بهم يومئذ لخبير .
ذكر الظرف هنا يشعر بقصر الوصف عليه مع أنه سبحانه خبير بهم في كل وقت في ذلك اليوم ، وقبل ذلك اليوم ، ولكنه في ذلك اليوم يظهر ما كان خفيا ، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى ، وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية .
ولكن ذكر الظرف هنا للتحذير مع الوصف بخبير ، أخص من عليم ، كما في قوله : قال نبأني العليم الخبير [ 66 \ 3 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْقَارِعَة
قوله تعالى : القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في أول سورة الواقعة ، وقال : كالطامة والصاخة ، والآزفة ، والقارعة . ا هـ . أي وكذلك الصاخة والساعة .
ومعلوم أن الشيء إذا عظم خطره كثرت أسماؤه .
أو كما روي عن الإمام علي : كثرة الأسماء تدل على عظم المسمى .
ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات ، فإن لكل اسم دلالة على معنى خاص به .
فالواقعة لصدق وقوعها ، والحاقة لتحقق وقوعها ، والطامة لأنها تطم وتعم بأحوالها ، والآزفة من قرب وقوعها " أزفت الآزفة " مثل " اقتربت الساعة " ، وهكذا هنا .
قالوا : القارعة : من قرع الصوت الشديد لشدة أهوالها .
وقيل : القارعة اسم للشدة .
قال القرطبي : تقول العرب : قرعتهم القارعة وفقرتهم الفاقرة ، إذا وقع بهم أمر فظيع .
قال ابن جرير :
وقارعة من الأيام لولا سبيلهم لزاحت عنك حينا
وقال تعالى : ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة [ 13 \ 31 ] ، وهي الشديدة من شدائد الدهر .
[ ص: 71 ] وقوله : وما أدراك ما القارعة ، تقدم قولهم : إن كل ما جاء " وما أدراك " أنه يدريه ، وما جاء " وما يدريك " لا يدريه .
وقد أدراه هنا بقوله : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 \ 4 - 5 ] ، وهذا حال من أحوالها .
وقد بين بعض الأحوال الأخرى في الواقعة بأنها خافضة رافعة [ 56 \ 3 ] ، وفي الطامة والصاخة : ينظر المرء ما قدمت يداه [ 78 \ 40 ] .
وقوله : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه [ 80 \ 34 - 35 ] .
وأيضا فإن كل حالة يذكر معها الحال الذي يناسبها ، فالقارعة من القرع وهو الضرب ، ناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث ، ويفكك ترابط الجبال إلى هباء العهن المنفوش .
قوله تعالى : يوم يكون الناس كالفراش المبثوث .
الفراش : جمع فراشة .
وقيل : هي التي تطير وتتهافت في النار .
وقيل : طير رقيق يقصد النار ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى يحترق .
وذكر الشيخ في إملائه قول جرير :
إن الفرزدق ما علمت وقومه مثل الفراش غشين نار المصطلى
وقال الفراء : هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ويركب بعضه بعضا من الهول .
ونقل القرطبي عن الفراء : أنه الهمج الطائر من بعوض وغيره .
ومنه الجراد . ويقال : هو أطيش من فراشة قال :
طويش من نفر أطياش أطيش من طائرة الفراش
وفي صحيح مسلم عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثلكم كمثل رجل [ ص: 72 ] أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها ، وهو يذبهن عنها . وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي " .
والمبثوث : المنتشر .
ومثله قوله : يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر [ 54 \ 7 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه في سورة " اقتربت الساعة " ، وسورة " ق والقرآن " ، وسورة " يس والقرآن الحكيم " . بما يغني عن إعادته هنا .
وقد قيل : إن وصفها بالفراش في أول حالها في الاضطراب والحيرة .
ووصفهم كالجراد في الكثرة ووحدة الاتجاه : مهطعين إلى الداعي [ 54 \ 8 ] .
قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش .
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الواقعة بيان أحوال الجبال يوم القيامة من بدئها بكثيب مهيل ، ثم كالعهن المنفوش ، ثم تسير كالسراب .
وأحال فيها على غيرها ، كقوله : تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب [ 27 \ 88 ] .
وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة " سأل سائل " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:55 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (605)
سُورَةُ التَّكَاثُر
صـ 73 إلى صـ 82
قوله تعالى : فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية .
في قوله : ثقلت موازينه دلالة على وقع الوزن لكل إنسان .
والموازين : يراد بها الموزون ، ويراد بها آلة الوزن ، كالمعايير ، وهما متلازمان .
وتقدم أن المعايير بالذرة وأقل منها .
وقد جاء نصوص على وضع الموازين وإقامتها بالعدل والقسط .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان ذلك عند قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] .
[ ص: 73 ] وقوله : فهو في عيشة راضية ، قالوا : بمعنى مرضية ، وراضية أصلها مرضية ، كما في قوله : وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية [ 88 \ 8 - 9 ] ، إسناد الرضى للعيشة ، على أنها هي فاعلة الرضى ; لأن كلمة العيشة جامعة لنعيم الجنة وأسباب النعيم ، راضية طائعة لينة لأصحاب الجنة ، فتفجر لهم الأنهار طواعية ، وتدنو الثمار طواعية ، كما في قوله : قطوفها دانية [ 69 \ 23 ] .
فالقول الأول : هو المعروف في البلاغة بإطلاق المحل وإرادة الحال ، كقوله تعالى : فليدع ناديه [ 96 \ 17 ] .
والنادي : مكان منتدى القوم ، أي ينادي بعضهم بعضا للاجتماع فيه .
والمراد : من يحل في هذا النادي ، ويكون هنا أطلق المحل وهو محل العيشة ، وأراد الحال فيها .
وعلى الثاني : فهو إسناد حقيقي من إسناد الرضى لمن وقع منه أو قام به . ومما هو جدير بالذكر أن حمله على الأسلوب البياني ليس متجها كالآية الأخرى ; لأن العيشة ليست محلا لغيرها بل هي حالة ، والمحل الحقيقي هو الجنة والعيشة حالة فيها ، وهي اسم لمعاني النعيم كما تقدم ، فيكون حمل الإسناد على الحقيقة أصح .
وقد جاءت الأحاديث : أن الجنة تحس بأهلها وتفرح بعمل الخير ، كما أنها تتزين وتبتهج في رمضان ، وأنها تناظرت مع النار . وكل يدلي بأهله وفرحه بهم ، حتى وعد الله كلا بملئها .
ونصوص تلقي الحور والولدان والملائكة في الجنة لأهل الجنة بالرضى والتحية معلومة .
وقوله : لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون [ 36 \ 57 ] ، أي : لا يتأخر عنهم شيء .
وقوله : وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] .
وقوله : فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] .
وقاصرات الطرف عن رضى بأهلهن . ومنه حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 72 ] ، أي على أزواجهن .
[ ص: 74 ] وقوله : ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا [ 76 \ 14 ] ، ونحو ذلك ، مما يشعر بأن نعيم الجنة بنفسه راض بأهل الجنة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قوله تعالى : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية .
وقع الخلاف في المراد من قوله : فأمه هاوية ، هل المراد بأمه مأواه وهي النار ، وأن هاوية من أسمائها ، أم المراد بأمه رأسه وأن هاوية من الهوي ، فيلقى في النار منكسا رأسه يهوي في النار .
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، ولا يبعد من يقول إنه لا تعارض بين القولين .
فتكون " أمه هاوية " ، وهي النار ويلقى فيها منكسا تهوي رأسه والعياذ بالله .
وحكى القرطبي على أن الأم بمعنى قول لبيد :
فالأرض معقلنا وكانت أمنا فيها مقابرنا وفيها نولد
وعلى معنى الهاوية البعيدة والداهية ، قول الشاعر :
يا عمرو لو نالتك رماحنا كنت كمن تهوي به الهاويه
والهاوية : مكان الهوي .
كما قيل :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة بعيدة مهوى القرط مياسة القد
أو طيبة النشر .
وفي الحديث : " إن أحدكم ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها في النار سبعين خريفا " .
نسأل الله السلام .
وقد فسر الهاوية بما بعدها : وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 10 - 11 ] .
[ ص: 75 ] وقد فسر الهاوية بأنها أسفل دركات النار . عياذا بالله .
وقد جاء قوله تعالى : كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة [ 104 \ 4 - 6 ] .
والنبذ : الطرح ، مما يرجح ما قلناه من إمكان إرادة المعنيين كون أمه هي الهاوية أي النار ، يهوي فيها على أم رأسه ، وذلك بالنبذ في الهاوية بعيدة المهوى ، وعادة الجسم إذا ألقي من شاهق بعيدا يسبقه إلى أسفل أثقله ، وأثقل جسم الإنسان رأسه . والله تعالى أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ التَّكَاثُر
قوله تعالى : ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر .
ألهاكم : أي : شغلكم ، ولهاه : تلهيه ، أي علله .
ومنه قول امرئ القيس :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم محول
أي : شغلتها .
والتكاثر : المكاثرة . ولم يذكر هنا في أي شيء كانت المكاثرة التي ألهتهم .
قال ابن القيم : ترك ذكره ، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء لا المتكاثر به ، وإما إرادة الإطلاق . ا هـ .
ويعني رحمه الله بالأول : ذم الهلع ، والنهم .
وبالثاني : ليعم كل ما هو صالح للتكاثر به ، مال وولد وجاه ، وبناء وغراس .
ولم أجد لأحد من المفسرين ذكر نظير لهذه الآية .
ولكنهم اتفقوا على ذكر سبب نزولها في الجملة ، من أن حيين تفاخرا بالآباء وأمجاد الأجداد ، فعددوا الأحياء ، ثم ذهبوا إلى المقابر ، وعدد كل منهما ما لهم من الموتى يفخرون بهم ، ويتكاثرون بتعدادهم .
وقيل : في قريش بين بني عبد مناف وبني سهم .
وقيل : في الأنصار .
وقيل : في اليهود وغيرهم ، مما يشعر بأن التكاثر كان في مفاخر الآباء .
[ ص: 77 ] وقال القرطبي : الآية تعم جميع ما ذكر وغيره .
وسياق حديث الصحيح : " لو أن لابن آدم واديا من ذهب ، لأحب أن يكون له واديان ، ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب " .
قال ثابت : عن أنس عن أبي : كنا نرى هذا من القرآن حتى نزلت : ألهاكم التكاثر .
وكأن القرطبي يشير بذلك إلى أن التكاثر بالمال أيضا .
وقد جاءت نصوص من كتاب الله تدل على أن التكاثر الذي ألهاهم ، والذي ذمهم الله بسببه أو حذرهم منه ، إنما هو في الجميع ، كما في قوله تعالى : اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما إلى قوله وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ 57 \ 20 ] .
ففيه التصريح : بأن التفاخر والتكاثر بينهم في الأموال والأولاد .
ثم جاءت نصوص أخرى في هذا المعنى كقوله : وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون [ 6 \ 32 ] .
وقوله : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] .
ولكون الحياة الدنيا بهذه المثابة ، جاء التحذير منها والنهي عن أن تلههم ، في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون [ 63 \ 9 ] .
وبين تعالى أن ما عند الله للمؤمنين خير من هذا كله في قوله : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين [ 62 \ 9 ] .
ومما يرجح أن التكاثر في الأموال والأولاد في نفس السورة ، ما جاء في آخرها من [ ص: 78 ] قوله : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم [ 102 \ 8 ] ، لمناسبتها لأول السورة .
كما هو ظاهر بشمول النعيم للمال شمولا أوليا .
وقوله : حتى زرتم المقابر .
أخذ منه من قال : إن تفاخرهم حملهم على الذهاب إلى المقابر ليتكاثروا بأمواتهم ، كما جاءت في أخبار أسباب النزول المتقدمة .
والصحيح في " زرتم المقابر " : يعني متم ; لأن الميت يأتي إلى القبر كالزائر لأن وجوده فيه مؤقتا .
وقد روي : أن أعرابيا سمع هذه الآية ، فقال : بعثوا ورب الكعبة ، فقيل له في ذلك ، فقال : لأن الزائر لا بد أن يرتحل .
تنبيه
قد بحث بعض العلماء مسألة زيارة القبور هنا لحديث : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، ألا فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " .
وقالوا : إن المنع كان عاما من أجل ذكر مآثر الآباء والموتى ، ثم بعد ذلك رخص في الزيارة ، واختلفوا فيمن رخص له . فقيل : للرجال دون النساء لعدم دخولهن في واو الجماعة في قوله : " فزوروها " .
وقيل : هو عام للرجال وللنساء ، واستدل كل فريق بأدلة يطول إيرادها .
ولكن على سبيل الإجمال لبيان الأرجح ، نورد نبذة من البحث .
فقال المانعون للنساء : إنهن على أصل المنع ، ولم تشملهن الرخصة ، ومجيء اللعن بالزيارة فيهن .
وقال المجيزون : إنهن يدخلن ضمنا في خطاب الرجال ، كدخولهن في مثل قوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، فإنهن يدخلن قطعا .
وقالوا : إن اللعن المنوه عنه جاء في الحديث بروايتين رواية : " لعن الله زائرات القبور " .
وجاء : " لعن الله زوارات القبور والمتخذات عليهن السرج " إلى آخره .
[ ص: 79 ] فعلى صيغة المبالغة : زوارات لا تشمل مطلق الزيارة ، وإنما تختص للمكثرات ; لأنهن بالإكثار لا يسلمن من عادات الجاهلية من تعداد مآثر الموتى المحظور في أصل الآية .
أما مجرد زيارة بدون إكثار ولا مكث ، فلا .
واستدلوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها لما ذكر لها صلى الله عليه وسلم ، السلام على أهل البقيع ، فقالت : " وماذا أقول يا رسول الله إن أنا زرت القبور ؟ قال : قولي : السلام عليكم آل دار قوم مؤمنين " الحديث .
فأقرها صلى الله عليه وسلم ، على أنها تزور القبور وعلمها ماذا تقول إن هي زارت .
وكذلك بقصة مروره على المرأة التي تبكي عند القبر فكلمها ، فقالت : إليك عني ، وهي لا تعلم من هو ، فلما ذهب عنها قيل لها : إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جاءت تعتذر فقال لها : " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " .
ولم يذكر لها المنع من زيارة القبور ، مع أنه رآها تبكي .
وهذه أدلة صريحة في السماح بالزيارة . ومن ناحية المعنى ، فإن النتيجة من الزيارة للرجال من في حاجة إليها كذلك ، وهي كون زيارة القبور تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة .
وليست هذه بخاصة في الرجال دون النساء ، بل قد يكن أحوج إليه من الرجال .
وعلى كل ، فإن الراجح من هذه النصوص والله تعالى أعلم ، هو الجواز لمن لم يكثرن ولا يتكلمن بما لا يليق ، مما كان سببا للمنع الأول ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه آخر
من لطائف القول في التفسير ، ما ذكره أبو حيان عن التكاثر في قوله : حتى زرتم المقابر ، ما نصه :
وقيل هذا تأنيب على الإكثار من زيارة ، تكثيرا بمن سلف وإشادة بذكره ، وكان [ ص: 80 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور ثم قال : " فزوروها " أمر إباحة للاتعاظ بها ، لا لمعنى المباهاة والتفاخر .
ثم قال : قال ابن عطية : كما يصنع الناس في ملازمتها وتسنيمها بالحجارة والرخام وتلوينها شرفا ، وبيان النواويس عليها ، أي الفوانيس ، وهي السرج .
ثم قال أبو حيان ، وابن عطية : لم ير إلا قبور أهل الأندلس ، فكيف لو رأى ما يتباهى به أهل مصر في مدافنهم بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى ، وباب النصر وغير ذلك . وما يضيع فيها من الأموال ، لتعجب من ذلك ولرأى ما لم يخطر ببال .
وأما التباهي بالزيارة : ففي هؤلاء المنتمين إلى الصوفية أقوام ليس لهم شغل إلا زيارة القبور : زرت قبر سيدي فلان بكذا ، وقبر فلان بكذا ، والشيخ فلان بكذا ، والشيخ فلان بكذا ، فيذكرون أقاليم طافوها على قدم التجريد .
وقد حفظوا حكايات عن أصحاب تلك القبور وأولئك المشايخ ، بحيث لو كتبت لجاءت أسفارا . وهم مع ذلك لا يعرفون فروض الوضوء ولا سننه .
وقد سخر لهم الملوك وعوام الناس في تحسين الظن بهم وبذل المال لهم ، وأما من شذ منهم لأنه يتكلم للعامة فيأتي بعجائب ، يقولون : هذا فتح من العلم اللدني على الخضر .
حتى إن من ينتمي إلى العلم ، لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ، ونقل كثيرا من حكاياتهم ، ومزج ذلك بيسير من العلم طلبا للمال والجاه وتقبيل اليد .
ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته . ا هـ . بحروفه .
وهذا الذي قاله رحمه الله من أعظم ما افتتن به المسلمون في دينهم ودنياهم معا .
أما في دينهم : فهو الغلو الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم ، صيانة للتوحيد من سؤال غير الله .
وأما في الدنيا فإن الكثير من هؤلاء يتركون مصالح دنياهم من زراعة أو تجارة أو صناعة ، ويطوف بتلك الأماكن تاركا ومضيعا من يكون السعي عليه أفضل من نوافل العبادات .
مما يلزم على طلبة العلم في كل مكان وزمان ، أن يرشدوا الجهلة منهم ، وأن يبينوا [ ص: 81 ] للناس عامة خطأ وجهل أولئك ، وأن الرحيل لتلك القبور ليس من سنة الرسول صلوات الله وسلامه عليه " ، ولا كان من عمل الخلفاء الراشدين ، ولا من عامة الصحابة ولا التابعين ، ولا من عمل أئمة المذاهب الأربعة رحمهم الله .
وإنما كان عمل الجميع زيارة ما جاورهم من المقابر للسلام عليهم والدعاء لهم ، والاتعاظ بحالهم ، والاستعداد لما صاروا إليه .
نسأل الله الهداية والتوفيق لاتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والاقتفاء بآثار سلف الأمة ، آمين .
قوله تعالى : كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون .
كلا : زجر عن التلهي والتكاثر المذكور ، و " سوف تعلمون " : أي حقيقة الأمر ، ومغبة هذا التلهي ، " ثم كلا سوف تعلمون " تكرار للتأكيد .
وقيل : إنه لا تكرار ، لما روي عن علي رضي الله عنه : أن الأولى في القبر ، والثانية يوم القيامة . وهو معقول .
واستدل به بعضهم على عذاب القبر .
ومعلوم صحة حديث القبر : " إنما القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار " .
والسؤال فيه معلوم ، ولكن أرادوا مأخذه من القرآن .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في الكلام على سورة غافر ، عند : وحاق بآل فرعون سوء العذاب [ 40 \ 45 ] ، إثبات عذاب القبر من القرآن .
وكذلك بيان معناه في آخر سورة الزخرف عند الكلام على قوله تعالى : فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون [ 43 \ 89 ] .
وهذا الزجر هنا والتحذير لهم ردا على ما كانوا عليه في التكاثر .
كما قال الشاعر :
ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر
[ ص: 82 ] وأصرح دليل لإثبات عذاب القبر من القرآن ، هو قوله تعالى : النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ; لأن الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة .
قوله تعالى : كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين .
لو : هنا شرطية ، جوابها محذوف باتفاق قدره ابن كثير أي لو علمتم حق العلم ، لما ألهاكم التكاثر عن طلب الآخرة ، حتى صرتم إلى المقابر ، وعلم اليقين : أجازأبو حيان إضافة الشيء لنفسه ، أي : لمغايرة الوصف ، إذ العلم هو اليقين ، ولكنه آكد منه .
وعن حسان قوله :
سرنا وساروا إلى بدر لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
و " لترون الجحيم " : جواب لقسم محذوف .
وقال : المراد برؤيتها عند أول البعث ، أو عند الورود ، أو عند ما يتكشف الحال في القبر .
" ثم لترونها عين اليقين " : قيل : هذا للكافر عند دخولها ، هذا حاصل كلام المفسرين .
ومعلوم أن هذا ليس لمجرد الإخبار برؤيتها ، ولكن وعيد شديد وتخويف بها ; لأن مجرد الرؤية معلوم : " وإن منكم إلا واردها " [ 19 \ 71 ] ، ولكن هذه الرؤية أخص ، كما في قوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، أي : أيقنوا بدليل قوله : ولم يجدوا عنها مصرفا [ 18 \ 53 ] .
وقد يبدو وجه في هذا المقام ، وهو أن الرؤية هنا للنار نوعان :
الرؤية الأولى : رؤية علم وتيقن ، في قوله : لو تعلمون علم اليقين ، علما تستيقنون به حقيقة يوم القيامة لأصبحتم بمثابة من يشاهد أهواله ويشهد بأحواله ، كما في حديث الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:56 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (606)
سُورَةُ الْعَصْر
صـ 83 إلى صـ 92
[ ص: 83 ] وقد وقع مثله في قصة الصديق لما أخبر نبأ الإسراء ، فقال : " صدق محمد ، فقالوا : تصدقه وأنت لم تسمع منه ؟ قال : إني لأصدقه على أكثر من ذلك " .
فلعلمه علم اليقين بصدقه صلى الله عليه وسلم فيما يخبر ، صدق بالإسراء كأنه يراه .
وتكون الرؤية الثانية رؤية عين ومشاهدة ، فهو عين اليقين .
وقد قدمنا مراتب العلم الثلاث : علم اليقين ، وعين اليقين ، وحق اليقين .
فالعلم : ما كان عن دلائل .
وعين اليقين : ما كان عن مشاهدة .
وحق اليقين : ما كان عن ملابسة ومخالطة ، كما يحصل العلم بالكعبة ، وجهتها فهو علم اليقين ، فإذا رآها فهو عين اليقين بوجودها . فإذا دخلها وكان في جوفها فهو حق اليقين بوجودها . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ثم لتسألن يومئذ عن النعيم .
أصل النعيم كل حال ناعمة من النعومة والليونة ، ضد الخشونة واليبوسة ، والشدائد ، كما يشير إليه قوله تعالى : وما بكم من نعمة فمن الله [ 16 \ 53 ] .
ثم قال : إذا مسكم الضر فإليه تجأرون [ 16 \ 53 ] ، فقابل النعمة بالضر .
ومثله قوله تعالى : ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني [ 11 \ 10 ] .
وعلى هذا فإن نعم الله عديدة ، كما قال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ 16 \ 18 ] .
وبهذا تعلم أن كل ما قاله المفسرون ، فهو من قبيل التمثيل لا الحصر ، كما قال تعالى : لا تحصوها .
وأصول هذه النعم أولها الإسلام : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] .
ويدخل فيها نعم التشريع والتخفيف ، عما كان على الأمم الماضية .
[ ص: 84 ] كما يدخل فيها نعمة الإخاء في الله : واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا [ 3 \ 103 ] ، وغير ذلك كثير .
وثانيها : الصحة ، وكمال الخلقة والعافية ، فمن كمال الخلقة الحواس ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ 90 \ 8 - 9 ] .
ثم قال : إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ 17 \ 36 ] .
وثالثها : المال في كسبه وإنفاقه سواء ، ففي كسبه من حله نعمة ، وفي إنفاقه في أوجهه نعمة .
هذه أصول النعم ، فماذا يسأل عنه ، منها جاءت السنة بأنه سيسأل عن كل ذلك جملة وتفصيلا .
أما عن الدين والمال والصحة ، ففي مجمل الحديث : " إذا كان يوم القيامة ، لا تزول قدم عبد حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيم أبلاه ، وعن علمه فيم عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ، وعن شبابه فيم أفناه " .
ولعظم هذه الآية وشمولها ، فإنها أصبحت من قبيل النصوص مضرب المثل ، فقد فصلت السنة جزئيات ما كانت تخطر ببال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أورد القرطبي ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر ، فقال : " ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة ؟ " قالا : الجوع يا رسول الله ! قال : " وأنا ، والذي نفسي بيدها لأخرجني الذي أخرجكما ، قوموا " فقاموا معه ، فأتى رجلا من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا ! وأهلا ! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أين فلان ؟ " قالت : ذهب يستعذب لنا من الماء أي يطلب ماء عذبا . إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، ثم قال : الحمد لله ، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني . قال : فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، فقال : كلوا من هذه ، وأخذ المدية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياك والحلوب ، فذبح لهم . فأكلوا من الشاة ، ومن ذلك العذق ، وشربوا ، [ ص: 85 ] فلما أن شبعوا ورووا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر : " والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم " وخرجه الترمذي .
وقال فيه : " هذا والذي نفسي بيده ، من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة ، ظل بارد ورطب طيب ، وماء بارد " وكنى الرجل الذي من الأنصار فقال : أبو الهيثم بن التيهان .
قال القرطبي : قلت : اسم هذا الرجل مالك بن التيهان ، ويكنى أبا الهيثم .
وقد ذكر ابن كثير هذه القصة من عدة طرق .
ومنها : عند أحمد أن عمر رضي الله عنه أخذ بالفرق وضرب به الأرض ، وقال : " إنا لمسئولون عن هذا يا رسول الله ؟ قال : نعم ، إلا من ثلاثة : خرقة لف الرجل بها عورته ، أو كسرة سد بها جوعته ، أو جحر يدخل فيه من الحر والقر " .
وقال سفيان بن عيينة : إن ما سد الجوع ، وستر العورة من خشن الطعام ، لا يسأل عنه المرء يوم القيامة ، وإنما يسأل عن النعيم ، والدليل عليه أن الله أسكن آدم الجنة فقال له : إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى [ 20 \ 119 ] .
فكانت هذه الأشياء الأربعة ما يسد به الجوع ، وما يدفع به العطش ، وما يسكن فيه من الحر ويستر به عورته ، لآدم عليه السلام بالإطلاق ، لا حساب عليه فيها لأنه لا بد له منها .
وذكر عن أحمد أيضا بسنده " أنهم كانوا جلوسا فطلع عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وعلى رأسه أثر ماء ، فقلنا :
يا رسول الله ، نراك طيب النفس ؟
قال : أجل ، قال : خاض الناس في ذكر الغنى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا بأس بالغنى لمن اتقى الله ، والصحة لمن اتقى الله خير من الغنى ، وطيب النفس من النعم " .
قال : ورواه ابن ماجه عن أبي هريرة .
وبهذا ، فقد ثبت من الكتاب والسنة ، أن النعيم الذي هو محل السؤال يوم القيامة [ ص: 86 ] عام في كل ما يتنعم به الإنسان في الدنيا ، حسا كان أو معنى .
حتى قالوا : النوم مع العافية ، وقالوا : إن السؤال عام للكافر والمسلم ، فهو للكافر توبيخ وتقريع وحساب ، وللمؤمن تقرير بحسب شكر النعمة وجحودها وكيفية تصريفها . والعلم عند الله تعالى .
وكل ذلك يراد منه الحث على شكر النعمة ، والإقرار للمنعم والقيام بحقه سبحانه فيها ، كما قال تعالى عن نبي الله : رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين [ 46 \ 15 ] .
اللهم أوزعنا شكر نعمتك ، واجعل ما أنعمت به علينا عونا لنا على طاعتك .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْعَصْر
قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر .
العصر : اسم للزمن كله أو جزء منه .
ولذا اختلف في المراد منه ، حيث لم يبين هنا .
فقيل : هو الدهر كله ، أقسم الله به لما فيه من العجائب ، أمة تذهب وأمة تأتي ، وقدر ينفذ ، وآية تظهر ، وهو هو لا يتغير ، ليل يعقبه نهار ، ونهار يطرده ليل ، فهو في نفسه عجب .
كما قيل :
موجود شبيه المعدوم ، ومتحرك يضاهي الساكن .
كما قيل :
وأرى الزمان سفينة تجري بنا نحو المنون ولا نرى حركاته
فهو في نفسه آية ، سواء في ماضيه لا يعلم متى كان ، أو في حاضره لا يعلم كيف ينقضي ، أو في مستقبله .
واستدل لهذا القول بما جاء موقوفا على علي رضي الله عنه ، ومرفوعا من قراءة شاذة : " والعصر ونوائب الدهر " . وحمل على التفسير إن لم يصح قرآنا ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس .
وعليه قول الشاعر :
سبيل الهوى وعر ، وبحر الهوى غمر ويوم الهوى شهر ، وشهر الهوى دهر
وقيل العصر : الليل والنهار .
[ ص: 88 ] قال حميد بن ثور :
ولم يلبث العصران يوم ليلة إذا طلبا أن يدركا ما يتمما
والعصران أيضا : الغداة والعشي .
كما قيل :
وأمطله العصرين حتى يملني ويرضى بنصف الدين والأنف راغم
والمطل : التسويف وتأخير الدين .
كما قيل :
قضى كل ذي دين فوفى غريمه وعزه ممطول معنى غريمها
وقيل : إن العشي ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ، وهو قول الحسن وقتادة .
ومنه قول الشاعر :
تروح بنا يا عمرو قد قصر العصر وفي الروحة الأولى الغنيمة والأجر
وعن قتادة أيضا : هو آخر ساعة من ساعات النهار ، لتعظيم اليمين فيه ، وللقسم بالفجر والضحى .
وقيل : هو صلاة العصر لكونها الوسطى .
وقيل : عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو زمن أمته ; لأنه يشبه عصر عمر الدنيا .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن أقرب هذه الأقوال كلها قولان : إما العموم بمعنى الدهر للقراءة الشاذة ، إذ أقل درجاتها التفسير ، ولأنه يشمل بعمومه بقية الأقوال .
وإما عصر الإنسان أي عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران لإشعار السياق ، ولأنه يخص العبد في نفسه موعظة وانتفاعا .
ويرجح هذا المعنى ما يكتنف هذه السورة من سور التكاثر قبلها ، والهمزة بعدها ، إذ الأولى تذم هذا التلهي والتكاثر بالمال والولد ، حتى زيارة المقابر بالموت ، ومحل ذلك هو حياة الإنسان .
[ ص: 89 ] وسورة الهمزة في نفس المعنى تقريبا ، في " الذي جمع مالا وعدده ، يحسب أن ماله أخلده " . [ 104 \ 2 - 3 ]
فجمع المال وتعداده في حياة الإنسان ، وحياته محدودة ، وليس مخلدا في الدنيا ، كما أن الإيمان وعمل الصالحات مرتبط بحياة الإنسان .
وعليه ، فإما أن يكون المراد بالعصر في هذه السورة العموم لشموله الجميع وللقراءة الشاذة ، وهذا أقواها .
وإما حياة الإنسان ، لأنه ألزم له في عمله ، وتكون كل الإطلاقات الأخرى من إطلاق الكل ، وإرادة البعض ، والله تعالى أعلم .
وقوله : إن الإنسان لفي خسر .
لفظ الإنسان وإن كان مفردا ، فإن أل فيه جعلته للجنس .
وقد بينه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب ، وتقدم التنبيه عليه مرارا ، فهو شامل للمسلم والكافر ، إلا من استثنى الله تعالى .
وقيل : خاص بالكافر ، والأول أرجح للعموم .
و " إن الإنسان لفي خسر " جواب القسم ، والخسر : قيل : هو الغبن ، وقيل : النقص ، وقيل : العقوبة ، وقيل : الهلكة ، والكل متقارب .
وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران ، النقص من رأس المال ، ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء ، بل أطلق ليعم ، وجاء بحرف الظرفية ، ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ، وهو محيط به من كل جهة .
ولو نظرنا إلى أمرين وهما المستثنى والسورة التي قبلها ، لاتضح هذا العموم ; لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور : عدم الإيمان وهو الكفر ، وعدم العمل الصالح وهو العمل الفاسد ، وعدم التواصي بالحق وهو انعدام التواصي كلية أو التواصي بالباطل ، وعدم التواصي بالصبر ، وهو إما انعدام التواصي كلية أو الهلع والجزع .
والسورة التي قبلها تلهي الإنسان بالتكاثر في المال والولد ، بغية الغنى والتكثر فيه ، وضده ضياع المال والولد وهو الخسران .
[ ص: 90 ] فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر ، وفي الإسلام وهو ترك العمل ، وإن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح والتلهي في الباطل وترك الحق ، وفي الهلع والفزع .
ومن ثم ترك الأمر والنهي بما فيه مصلحة العبد وفلاحه وصلاح دينه ودنياه ، وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه نجمله في الآتي :
أما الخسران بالكفر . فكما في قوله تعالى . لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين [ 39 \ 65 ] .
وقوله : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ، أي : لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء ، وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم ، وحظهم في الآخرة .
وأما الخسران بترك العمل ، فكما في قوله تعالى : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم [ 7 \ 9 ] ، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره [ 99 \ 7 ] .
ومثله : ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا [ 4 \ 119 ] ، لأنه سيكون من حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [ 58 \ 19 ] ، أي بطاعتهم إياه في معصية الله .
وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، والحق هو الإسلام بكامله ، وقد قال تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين [ 3 \ 85 ] .
وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع ، فكما قال تعالى : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .
تحقيق المناط في حقيقة خسران الإنسان
اتفقوا على أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره ; كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا ، فهي له كالسوق . فإن أعمله في خير ربح ، وإن أعمله في شر خسر .
[ ص: 91 ] ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة الآية [ 9 \ 111 ] .
وقوله : هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله الآية [ 61 \ 10 - 11 ] .
وفي الحديث عند مسلم : " الطهور شطر الإيمان " .
وفي آخره " كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " مما يؤكد أن رأس مال الإنسان عمره .
ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] .
وعلى هذا قالوا : إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى .
وهدى كل إنسان النجدين ، وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ومنزلة في النار .
فمن آمن وعمل صالحا كان مآله إلى منزلة الجنة ، وسلم من منزلة النار ، ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار ، وترك منزلته في الجنة .
كما جاء في حديث القبر : " أول ما يدخل في قبره إن كان مؤمنا يفتح له باب إلى النار ، ويقال له : ذاك مقعدك من النار لو لم تؤمن ثم يقفل عنه ، ويفتح له باب إلى الجنة ويقال له : هذا منزلك يوم تقوم الساعة ، فيقول : رب ، أقم الساعة " .
وإن كان كافرا كان على العكس تماما ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيأخذ كل منزلته فيها ، وتبقى منازل أهل النار في الجنة خالية فيتوارثها أهل الجنة ، وتبقى منازل أهل الجنة في النار خالية ، فتوزع على أهل النار ، وهنا يظهر الخسران المبين ; لأن من ترك منزلة في الجنة وذهب إلى منزلة في النار ، فهو بلا شك خاسر ، وإذا ترك منزلته في الجنة لغيره وأخذ هو بدلا عنها منزلة غيره في النار ، كان هو الخسران المبين ، عياذا بالله .
أما في غير الكافر وفي عموم المسلمين ، فإن الخسران في التفريط بحيث لو دخل [ ص: 92 ] الجنة ولم ينل أعلى الدرجات يحس بالخسران في الوقت الذي فرط فيه ، ولم ينافس فعل الخير ، لينال أعلى الدرجات .
فهذه السورة فعلا دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح ، ودرجات الجنة رفيعة ، ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد ، فإن أمامه مجال للكسب والربح ، نسأل الله التوفيق والفلاح .
وقد قالوا : لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزينا ، فإن كان مسيئا فعلى إساءته ، وإن كان محسنا فلتقصيره ، وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون [ 41 ] .
فالخوف من المستقبل أمامهم ، والحزن على الماضي خلفهم ، والله تعالى أعلم .
ويبين خطر هذه المسألة : أن الإنسان إذا كان في آخر عمره ، وشعر بأيامه المعدودة وساعاته المحدودة ، وأراد زيادة يوم فيها ، يتزود منها أو ساعة وجيزة يستدرك بعضا مما فاته ، لم يستطع لذلك سبيلا ، فيشعر بالأسى والحزن على الأيام والليالي والشهور والسنين التي ضاعت عليه في غير ما كسب ولا فائدة ، كان من الممكن أن تكون مربحة له ، وفي الحديث الصحيح : " نعمتان مغبون فيهما الإنسان : الصحة والفراغ " .
أي : أنهما يمضيان لا يستغلهما في أوجه الكسب المكتملة ، فيفوتان عليه بدون عوض يذكر ، ثم يندم ولات حين مندم .
كما قيل في ذلك :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدر دررا كما اشترى المسلم إذ تنصرا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:57 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (607)
سُورَةُ الْهُمَزَةِ
صـ 93 إلى صـ 102
تنبيه
في سورة التكاثر تقبيح التلهي بالتكاثر بالمال والولد ونحوه ، ثم الإشعار بأن سببه الجهل ; لأنهم لو كانوا يعلمون علم اليقين لما ألهاهم ذلك حتى باغتهم الموت .
وهنا إشعار أيضا بأن سبب هذا الخسران الذي يقع فيه الإنسان ، هو الجهل الذي [ ص: 93 ] يجر إلى الكفر والتمادي في الباطل ، ويساعد على هذا قسوة القلب ، وطول الأمل . كما قال تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون [ 57 \ 16 ] .
تنبيه آخر
إن الإنسان لفي خسر ، نص على الإنسان على ما تقدم وقد جاءت آية أخرى تدل على أن الجن كالإنس في قوله تعالى : أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين [ 46 \ 18 ] .
وتقدم بيان تكليف الجن بالدعوة واستجابتهم لها والدعوة إليها .
قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر .
هذا هو المستثنى من الإنسان المتقدم ، مما دل على العموم كما قدمنا ، والإيمان لغة التصديق وشرعا الاعتقاد الجازم بأركان الإيمان الستة ، في حديث جبريل عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وسلم لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان .
" وعملوا الصالحات " : العطف يقتضي المغايرة .
ولذا قال بعض الناس : إن الأعمال ليست داخلة في تعريف الإيمان ، ومقالاتهم معروفة .
والجمهور : أن الإيمان اعتقاد بالجنان ، ونطق باللسان ، وعمل بالجوارح .
فالعمل داخل فيه ويزيد وينقص ، وقد قدمنا : أن العمل شرط أقرب من أن يكون جزءا ، أي أن الإيمان يصدق بالاعتقاد ، ولا يتوقف وجوده على العمل ، ولكن العمل شرط في الانتفاع بالإيمان ، إذا تمكن العبد من العمل ، ومما يدل لكون الإيمان يصدق عليه حد الاعتقاد والنطق ، ولو لم يتمكن العبد من العمل ، قصة الصحابي الذي أسلم عند بدء المعركة ، وقاتل ، واستشهد ولم يصل لله ركعة ، فدخل الجنة .
والجمهور على أن مجرد الاعتقاد لا ينفع صاحبه ، كما كان يعتقد عم النبي صلى الله عليه وسلم صحة رسالته ، ولكنه لم يقل كلمة يحاج له صلى الله عليه وسلم بها ، وكذلك لو اعتقد ونطق بالشهادتين ، ولم يعمل كان مناقضا لقوله .
[ ص: 94 ] وقد قدمنا هذه المسألة مفصلة .
والصالحات : جمع صالحة ، وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه تعريفه وشروط كون العمل صالحا بأدلته من كونه موافقا لكتاب الله ، وعمله صاحبه خالصا لوجه الله وكونه صادرا من مؤمن بالله ، إلخ .
وقوله : وتواصوا بالحق .
يعتبر التواصي بالحق من الخاص بعد العام ; لأنه داخل في عمل الصالحات .
وقيل : إن التواصي أن يوصي بعضهم بعضا بالحق .
وقيل : الحق كل ما كان ضد الباطل ، فيشمل عمل الطاعات ، وترك المعاصي .
واعتبر هذا أساسا من أسس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بقرينة التواصي بالصبر ، أي على الأمر والنهي ، على ما سيأتي إن شاء الله .
وقيل : الحق هو القرآن ; لشموله كل أمر وكل نهي ، وكل خير ، ويشهد لذلك قوله تعالى في حق القرآن : وبالحق أنزلناه وبالحق نزل [ 17 \ 105 ] .
وقوله : إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين [ 39 \ 2 ] .
وقد جاءت آياته في القرآن تدل على أن الوصية بالحق تشمل الشريعة كلها ، أصولها وفروعها ، ماضيها وحاضرها ، من ذلك ما وصى الله به الأنبياء وعموما ، من نوح وإبراهيم ومن بعدهم في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] .
وإقامة الدين القيام بكليته ، وقد كانت هذه الوصية عمل الرسل لأممهم ومن بعدهم ، فنفذها إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى : ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون [ 2 \ 132 ] .
ومن بعد إبراهيم يعقوب كما قال تعالى : أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون [ 2 \ 133 ] .
[ ص: 95 ] فهذا تواصي الأمم بأصل الإيمان وعموم الشريعة ، وكذلك بالعبادة من صلاة وزكاة ، كما في قوله تعالى عن نبي الله عيسى عليه السلام : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي [ 19 \ 31 - 32 ] .
وكذلك الحالة الاجتماعية ماثلة في الوصية بالوالدين والأولاد ، لترابط الأسرة ، ففي الوالدين قوله تعالى : ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [ 31 \ 14 - 15 ] .
وفي الأبناء قال : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين [ 4 \ 11 ] .
وفي الحقوق العامة أوامر ونواهي ، عبادات ومعاملات ، جاءت آيات الوصايا العشر التي قال عنها ابن مسعود رضي الله عنه : " من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون [ 6 \ 151 - 153 ] .
تلك الوصايا الجامعة أبواب الخير الموصدة أبواب الشر والمذيلة بهذا التبيين والتعريف " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " .
ولو أردنا أن نربط بين هذا وبين التواصي بالحق وبينهما وبين فاتحة الكتاب ، لكانت النتيجة كالآتي في قوله : وتواصوا بالحق ، إحالة على تلك الوصايا ، وهي شاملة جامعة ومعنون لها بأنها صراط الله المستقيم .
[ ص: 96 ] فكأن قوله : وتواصوا بالحق ، مساويا لقوله : وتواصوا بالصراط المستقيم . واستقيموا عليه .
ثم في سورة الفاتحة : اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، وهذا صراط الله المستقيم فاتبعوه .
فكانت سورة العصر مشتملة على التواصي بالاستقامة على صراط الله المستقيم واتباعه ، ويأتي عقبها قوله : وتواصوا بالصبر [ 103 \ 3 ] ، بمثابة التثبيت على هذا الصراط المستقيم إذ الصبر لازم على عمل الطاعات ، كما هو لازم لترك المنكرات .
وتلك الوصايا العشر جمعت أمرا ونهيا فعلا وتركا ، وكذلك فيه الإشارة إلى ما يقوله دعاة الإسلام من أن العمل الصالح والدعوة إلى الحق والتواصي به ، فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وغالبا من يقوم به يتعرض لأذى الناس ، فلزمهم التواصي بالصبر ، كما قال لقمان لابنه يوصيه وجامعا في وصيته وصية سورة العصر إذ قال : يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور [ 31 \ 17 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتفصيل عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل [ 5 \ 105 ] ، في سورة المائدة .
فصارت هذه السورة بحق جامعة لأصول الرسالة .
كما روي عن الشافعي رحمه الله أنه قال : لو تأمل الناس هذه السورة لكفتهم .
قوله : وتواصوا بالحق ، جاء الحث على التواصي بالرحمة أيضا مع الصبر ، في قوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة [ 90 \ 17 ] .
وبهذه الوصايا الثلاث : بالتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة ، تكتمل مقومات المجتمع المتكامل قوامه الفضائل المثلى ، والقيم الفضلى .
لأن بالتواصي بالحق إقامة الحق ، والاستقامة على الطريق المستقيم .
[ ص: 97 ] وبالتواصي بالصبر ، يستطيعون مواصلة سيرهم على هذا الصراط ، ويتخطون كل عقبات تواجههم .
وبالتواصي بالمرحمة : يكونون مرتبطين كالجسد الواحد ، وتلك أعطيات لم يعطها إلا القرآن وأعطاها في هذه السورة الموجزة . وبالله التوفيق .
تنبيه
قال الفخر الرازي : إن الله تعالى لما أخبر عن هؤلاء بالنجاة من الخسران ، وفوزهم بالعمل الصالح والإيمان ، أخبر عنهم أنهم لم يكتفوا بما يتعلق بهم أنفسهم بل تعدوا إلى غيرهم ، فدعوهم إلى ما فازوا به على حد قوله صلى الله عليه وسلم : " حب لأخيك ما تحب لنفسك " ا هـ . ملخصا .
ويشهد لهذا قوله تعالى : إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة إلى قوله ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 - 35 ] .
فقد بين تعالى أن الناس أقسام ثلاثة إزاء دعوة الرسل .
قوم آمنوا وقالوا : ربنا الله ، واستقاموا على ذلك بالعمل الصالح .
وقوم ارتفعت همتهم إلى دعوة غيرهم وهم أحسن قولا بلا شك .
وقوم عادوا الدعاة وأساءوا إليهم .
ثم بين موقف الدعاة من أولئك المسيئين في غضون قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع ، أي : إساءة المسيئين بالتي هي أحسن ، فيصبحوا أولياء لك ، وبين أن هذه المنزلة وما يلقاها إلا الذين صبروا ، ثم بين أن من ارتفع إليها وسلك مسلكها إنه لذو حظ عظيم .
[ ص: 98 ] تنبيه
كنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قوله للدعاة عدوان : أحدهما من الإنس . والآخر من الشياطين .
وقد أرشدنا الله لكيفية التغلب عليهما واكتفاء شرهما .
أما عداوة الإنس فبمقابلة الإساءة بالإحسان ، فيصبح وليا حميما .
وأما عدو الجن فبالاستعاذة منه : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ 41 \ 36 ] .
نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق .
وقد أشرنا إلى أن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قدم مبحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ 5 \ 105 ] .
وذكر سورة العصر عندها ، وعقد مسائل متعددة في منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بما لا غنى عنه .
[ ص: 99 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْهُمَزَةِ
قوله تعالى : ويل لكل همزة لمزة .
اختلف في معنى كلمة " ويل " .
فقيل : هو واد في جهنم .
وقيل : هي كلمة عذاب وهلاك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ذكر هذين المعنيين في سورة الجاثية عند قوله تعالى : ويل لكل أفاك أثيم [ 45 \ 7 ] ، وبين أنها مصدر لا لفظ له من فعله ، وأن المسوغ للابتداء بها مع أنها نكرة كونها في معرض الدعاء عليهم بالهلاك .
وقد استظهر رحمه الله تعالى هذا المعنى .
ومما يشهد لما استظهره رحمه الله ، ما جاء في حق أصحاب الجنة التي أصبحت كالصريم ، أنهم قالوا عند رؤيتهم إياها : قالوا ياويلنا إنا كنا ظالمين [ 21 \ 14 ] ، فهي كلمة تقال عند نزول المصائب ، وعند التقبيح .
وقال الفخر الرازي : أصل الويل لفظة السخط والذم ، وأصلها وي لفلان ، ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام ، ويقال : ويح بالحاء للترحم ا هـ .
ومما يدل لقول الرازي أيضا قول قارون : ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر [ 28 \ 82 ] .
ومثله للتعجب في قوله : قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا [ 11 \ 72 ] .
وقوله : قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي [ 5 \ 31 ] .
[ ص: 100 ] فالظاهر : أنها كلمة تقال عند الشدة والهلكة ، أو شدة التعجب مما يشبه المستبعد .
والذي يشهد له القرآن : هو هذا المعنى ، وسبب الخلاف قد يرجع لمجيئها تارة مطلقة كقوله : ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، وهنا ويل لكل همزة لمزة .
ويجيء مع ذكر ما يتوعد به كقوله : فويل للذين كفروا من النار [ 38 \ 27 ] ، وقوله : فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم [ 43 \ 65 ] ، فذكر النار والعذاب الأليم .
وكذلك قوله : فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم [ 19 \ 37 ] ، فهي في هذا كله للوعيد الشديد ، مما ذكر معها من النار والعذاب الأليم ومشهد يوم عظيم ، وليست مقصودة بذاتها دون ما ذكر معها ، والعلم عند الله تعالى .
وقوله : همزة لمزة ، قيل : هما بمعنى واحد ، وهو الغيبة .
وأنشد ابن جرير قول زياد الأعجم :
تدلي بودي إذا لاقيتني كذبا وإن أغيب فأنت الهامز الهمزه
وعزا هذا لابن عباس ، وهو الذي يصيب الناس ويطعن فيهم .
وقد جاء في القرآن استعمال كل من الكلمتين مفردة عن الأخرى ، بما يدل على المغايرة .
ففي الهمزة قوله : ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم [ 68 \ 11 ] ، مما يدل على الكذب والنميمة .
وفي الهمزة قوله تعالى : ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب [ 49 \ 11 ] .
وقوله : ومنهم من يلمزك في الصدقات [ 9 \ 58 ] ، مما يدل على أنها أقرب للتنقص والعيب في الحضور لا في الغيبة ، فتغاير الهمز في المعنى ، وفي الصفة ، والجمع بينهما جمع بين القبيحين ، فكان مستحقا لهذا الوعيد الشديد بكلمة " ويل " .
وقد قيل : الهمز باليد : وقيل : باللسان في الحضرة ، والهمز في الغيبة .
[ ص: 101 ] وقيل : الهمز باليد ، واللمز باللسان ، والغمز بالعين ، وكلها معان متقاربة تشترك في تنقص الآخرين .
قوله تعالى : الذي جمع مالا وعدده
. هذا الوصف يشعر بأنه علة فيما قبله ، إذ الموصول هنا يدل من كل المتقدمة ، وليس العيب في جمع مالا بل في " عدده يحسب أن ماله أخلده " . وفي " عدده " عدة معان :
قيل : عده كل وقت وآخر ، تحفظا عليه .
وقيل : عدده كنزه .
وقيل : عدده أعده للحاجة .
وقرئ : " جمع وعدد " بالتشديد وبالتخفيف . والمراد به من لم يؤد حق الله فيه شحا وبخلا ، كما تقدم في سورة ألهاكم التكاثر .
قوله تعالى : يحسب أن ماله أخلده
. هذا الحسبان هو المذموم عليه ، والمنصب عليه الوعيد ; لأنه كفر بالبعث . كما قال صاحب الجنة في الكهف : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة [ 18 \ 35 - 36 ] .
قوله تعالى : كلا لينبذن في الحطمة . كلا : ردع وزجر له على حسبانه الباطل ، ولينبذن في جواب قسم محذوف دل عليه قوله : كلا .
وهذا يفسره ما تقدم في قوله : فأمه هاوية [ 101 \ 9 ] ، أي : ينبذ نبذا ، فيهوي على أم رأسه . عياذا بالله .
والحطمة : فعلة من الحطم ، وهو الكسر ، ثم الأكل الكثير .
وقد فسرت بما بعدها نار الله الموقدة [ 104 \ 6 ] ، وسميت حطمة لأنها تحطم كل ما ألقي فيها ، وتقول : هل من مزيد .
[ ص: 102 ] قوله تعالى : إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة .
قيل : مؤصدة في عمد . بأن العمد صارت وصدا للباب كالقفل ، والغلق له .
وقيل : في عمد : أنهم يدخلون في عمد كالقصبة ، مجوفة الداخل .
وقيل : في عمد : أي توضع أرجلهم في العمد على صورة القيد في الخشبة الممتدة ، يشد فيها عدد من الأشخاص في أرجلهم .
وكنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في ذلك : أن العمد بمعنى القصبة المجوفة تضيق عليهم ، كما في قوله : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا [ 25 \ 13 ] .
فيكون أرجح في هذا المعنى .
وقد نص عليه في إملائه رحمة الله تعالى علينا وعليه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:57 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (608)
سُورَةُ قُرَيْشٍ
صـ 103 إلى صـ 112
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْفِيل
قوله تعالى : وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل .
اختلف في معنى السجيل هنا .
فقال قوم : هو السجين ، أبدلت النون لاما ، والسجين النار .
وقيل : إن السجيل من السجل ، كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار ، كما أن سجينا لديوان أعمالهم واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال ، ومنه السجل الدلو المملوء ماء ، وهي حجارة مرسلة لقوله : وأرسل عليهم طيرا أبابيل .
وقوله : إن سجينا ، عن الديوان أعمالهم ، يعني قوله تعالى : كلا إن كتاب الفجار لفي سجين [ 83 \ 7 ] .
وقيل : معنى سجيل ستك وطين ، يعني بعض حجر وبعض طين .
وقيل : معناه الشديد .
وقيل : السجيل اسم لسماء الدنيا .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، ترجيح أنها من طين شديد القوة .
وهذا ما يشهد له القرآن لما في سورة الذاريات : قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين [ 51 \ 32 - 34 ] فنص على أنها من طين .
والحجارة من الطين : هي الآجر وهو الطين المطبوخ حتى يتحجر .
وجاء النص الآخر أنها من سجيل منضوض في قوله : فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود [ 11 \ 82 ] [ ص: 104 ]
وقيل فيها : كالحمصة والعدسة ، والضمير في عليهم راجع لأصحاب الفيل ، وقصتهم طويلة مشهورة .
تنبيه
قد أوردنا نصوص معنى سجيل ، وترجيح الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : أنها حجارة من طين شديد القوة تنبيها على ما قيل من استبعاد ذلك ، وردا على من صرف معناها إلى غير الحجارة المحسوسة .
أما من استبعدها ، فقد حكاه الفخر الرازي بقوله : واعلم أن من الناس من أنكر ذلك .
وقالوا : لو جوزنا أن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله ، لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خاليا عن الثقل ، وأن يكون في وزن التبنة ، وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات .
فإنه متى جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار ، ولا نراها ، وأن يحصل الإدراك في عين الضرير ، حتى يكون هو بالمشرق ، ويرى قطعة من الأرض بالأندلس ، وكل ذلك محال .
ثم قال : واعلم أن ذلك جائز في مذهبنا ، إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع .
وهذا القول يحكيه الفخر الرازي المتوفى سنة 606 ستمائة وست ، فنرى استبعادهم إياها مبني على تحكيم العقل ، وهذا باطل ; لأن خوارق العادات دائما فوق قانون العقل ، بل إن تصورات العقل نفسه منشؤها من تصوراتنا لما نشاهده .
وإذا حدث العقل بما لم يشهده أو يعلم كنه وجوده لاستبعده كما هو في واقعنا اليوم ، لو حدثت به العقول سابقا من نقل الحديث ، والصورة على الأثير ، وتوجيه الطائرات وأمثالها ، لما قوي على تصورها لأنها فوق نطاق محسوساته ومشاهداته .
وحتى نحن لو لم يسايرها من علم بما يحمله الأثير من تيار كهربائي ، وما له من دور فعال في ذلك لما أمكننا تصوره .
ثم من يمنع شيئا من ذلك على قدرته تعالى .
وقد أخبرنا أن تلك الجبال سيأتي يوم تكون فيه كالعهن المنفوش أخف من التبنة ، [ ص: 105 ] التي مثلوا بها ، بل ستكون أقل من ذلك ، كما قال تعالى : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] ، فظهر بطلان هذا القول الذي استبعدها لعدم إدراك العقل لها .
أما من يؤول هذا المعنى إلى معنى آخر ، فهو قريب من الأول من حيث المبدأ ، إلا أنه أثبت الأصل وفسره بما يتناسب والعقل .
وهو محكي عن الإمام محمد عبده وتلميذه السيد رشيد رضا ، إذ فسر الحجارة من سجيل ، بأنه وباء الجدري .
وبالتالي : فالطير الأبابيل : هي البعوض وما أشبهه .
وقد اعتذر له السيد قطب : بأن الدافع لذلك هو ما كان شائعا في عصره من موجات متضاربة ، موجة انحراف في التفكير نحو الإسلام واستغلال الإسرائيليات ، كمثال على ما يشبه الأباطيل في تشويه حقائق الإسلام عند غير المسلمين .
ومن ناحية أخرى طوفان علمي حديث ، من إنتاج العقل البشري فبدلا من أن تثبت حادثة كهذه صرفت إلى ما يألفه العقل من إيقاع ميكروب الجدري بجيش أبرهة حتى أهلكه ، لكي لا يتصادم في إثبات الحادثة على ما نص عليه القرآن بواقع العقلية العلمانية الحديثة .
هذا ملخص ما اعتذر به السيد قطب عن هذا القول .
ولكن من الناحية العلمية والنصوص القرآنية ، فقد تقدم : أن الحجارة التي من سجيل ، جاء النص على أنها ليست خاصة بهؤلاء القوم ، بل ألقيت على قوم لوط ، بعد أن جعل عاليها سافلها ، فما موقع الجدري منهم بعد إهلاكهم بإفكها المذكورة ؟
ثم جاء أيضا : أنها من طين ، فأين الطين من الجراثيم الجدرية ؟
ومن الناحية العلمية : من أين جيء بمكروب الجدري ؟ وأين كان قبل أن تأتي به الطير الأبابيل ؟
ومتى كان ميكروب الجدري أو غيره يميز بين قرشي وحبشي ؟
ومتى كان أي ميكروب يفتك بقوم وبسرعة ، فجعلهم كعصف مأكول ، مع أن : فجعلهم ، تشعر بالسرعة في إهلاكهم ، والعصف اليابس الذي تعصف به الريح لخفته .
[ ص: 106 ] ومتى كان وجود الجدري طفرة وفجاءة ، إنه يظهر في حالات فردية ، ثم ينتشر هذا من الناحية العلمية ، وإدراك العقل ، لما عرف من ميكروب الجدري .
ولكن ملابسات الحادثة تمنع من تصور ذلك عقلا لعدم انتشاره في جميع أفراد المنطقة ، ولعدم تأثيره فعلا بهذه الصورة ، ولعدم أيضا تصور مجيئه فجاءة ، فدل العقل نفسه على عدم صحة هذا القول .
ثم من ناحية أخرى إذا رددنا خوارق العادات لعدم تصور العقل لها ، فكيف نثبت مثل حنين الجذع ، ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك ، وتسبيح الحصى في كفه صلوات الله وسلامه عليه ؟
وقد شاهد العقل الصورة ، وهي خروج الناقة من الصخرة لقوم صالح ، بل إننا الآن بالحس والعقل نشاهد ما لا ندرك كنهه في وسائل الإعلام ، ونسمع الصوت من الجماد مسجلا على شريط بسيط جدا .
فهل ينفي الباقي ؟ بل كيف أثبت النصارى لعيسى ابن مريم عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص . وإحياء الموتى ، وعمل الطير من الطين ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله .
وكيف أثبت اليهود لموسى أمر العصا وشق البحر ؟ وأين العقل من ذلك كله ؟
الواقع أننا في كل زمان ومع كل قضية ، يجب أن نلتزم جانب الاعتدال ، لا هو جري وراء كل خبر ، ولو كان إسرائيليا ولا هو رد لكل نص ولو كان صريحا قرآنيا ، بل كما قال السيد قطب في ذلك :
يجب أن نستمد فكرنا من نصوص القرآن ، وأن ما يقرره نعتقده ونقول به .
وقد ناقشنا هاتين الفكرتين القديمة التي استبعدت ذلك كلية ، والحديثة التي أولتها .
ونضيف شيئا آخر في جانب الفكرة الثانية ، وهي لعل مما حدا بأصحابها إلى ذلك ما جاء عن قتادة قوله : إنه لم ير الجدري بأرض العرب مثل تلك السنة .
وقيل أيضا : لم ير شجر الحنظل ، إلا في ذلك التاريخ .
فيقال أيضا : إن العقل لا يستبعد هنا أن يكون إهلاك هذا الجيش الكبير بتلك [ ص: 107 ] الحجارة في مكان معسكره في بطن الوادي ، ووقوع الجثث مصابة بها ، لا يمنع أن تتعفن ثم يتولد منها مكروب الجدري ، ولا مانع من ذلك . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه آخر
قالوا : إن أصحاب هذا الجيش نصارى وهم أهل دين وكتاب ، وأهل مكة وثنيون لا دين لهم ، والكعبة ممتلئة بالأصنام ، فكيف أهلك الله النصارى أصحاب الدين ولم يسلطهم على الوثنيين ؟
وأجيب عن ذلك بعدة أجوبة .
منها : أن الجيش ظالم باغ ، والبغي مرتعه وخيم ، ولو كان المظلوم أقل من الظالم ، ويشهد لذلك الحديث " في نصرة المظلوم ، واستجابة دعوته ولو كان كافرا " .
ومنها : أن الوثنية اعتداء على حق الله في العبادة ، وغزو هذا الجيش اعتداء على حقوق العباد .
ومنها : أنه إرهاص لمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ ولد في هذا العام نفسه .
وكلها وإن كانت لها وجه من النظر ، إلا أنه يبدو لي وجه ، وهو أن الأصل في نشأة البيت وإقامته ، إنما هو الله رفع قواعده وأقام الصلاة في رحابه ، وكان طاهرا مطهرا للعاكفين فيه والركع السجود ، وإنما الوثنية طارئة عليه وإلى أمد قصير مداه ودنا منتهاه لدين جديد .
والمسيحية بنفسها تعلم ذلك وتنص عليه وتبشر به ، فكانت معتدية على الحقين معا ، حق الله في بيته ، والذي تعلم حرمته وما له ، وحق العباد الذين حوله .
وكانت لو سلطت عليه بمثابة المنتصر على مبدأ صحيح مع فسادها ، مبدأ صحة وسلامة بناء البيت ، ووضعه ، البيت الذي من خصائصه أن يكون مثابة للناس وأمنا .
فكيف لا يأمن هو نفسه من غزو الغزاة وطغيان الطغاة ، فصانه الله تعالى صيانة لمبدأ وجوده ، وحفاظا على أصل وضعه في الأرض ، ويكفي نسبته لله " بيت الله " .
وقد أدرك أبو طالب هذا المعنى بعينه إذ قال لأبرهة :
[ ص: 108 ] أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه . وأتى باب الكعبة فتعلق بها وقال :
لاهم إن العبد يمـ نع رحله فامنع حلالك لا يغلبن صليبهم
ومحالهم عددا يوالك إن يدخلوا البلد الحرا
م فأمر ما بدا لك
وقيل : إنه قال :
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا إنهم لن يقهروا قواكا
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ قُرَيْشٍ
قوله تعالى : لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف .
اختلف في اللام في " لإيلاف قريش " ، هل هي متعلقة بما قبلها ، وعلى أي معنى . أم متعلقة بما بعدها ، وعلى أي معنى .
فمن قال : متعلقة بما قبلها ، قال متعلقة بجعل في قوله : فجعلهم كعصف مأكول [ 105 \ 5 ] .
وتكون بمعنى لأجل إيلاف قريش يدوم لهم ويبقى تعظيم العرب إياهم ; لأنهم أهل حرم الله ، أو بمعنى إلى أي جعلنا العدو كعصف مأكول ، هزيمة له ونصرة لقريش نعمة عليهم ، إلى نعمة إيلافهم رحلة الشتاء والصيف .
ومن قال : متعلقة بما بعدها ، قال " لإيلاف قريش إيلافهم " الذي ألفوه أي بمثابة التقرير له ، ورتب عليه ، " فليعبدوا رب هذا البيت " . أي أثبته إليهم وحفظه لهم .
وهذا القول الأخير هو اختيار ابن جرير ، ورواه ابن عباس ، ورد جواز القول الأول ; لأنه يلزمه فصل السورتين عن بعض .
وقيل : إنها للتعجب ، أي اعجبوا لإيلاف قريش ، حكاه القرطبي عن الكسائي والأخفش ، والقول الأول لغيره .
وروي أيضا عن ابن عباس وغيره ، واستدلوا بقراءة السورتين معا في الصلاة في ركعة قرأ بهما عمر بن الخطاب ، وبأن السورتين في أبي بن كعب متصلتان ، ولا فصل بينهما .
وحكى القرطبي القولين ، ولم يرجح أحدهما ، ولا يبعد اعتبار الوجهين ، لأنه لا يعارض بعضها بعضا .
[ ص: 110 ] وما اعترض به ابن جرير بأنه يلزم عليه اتصال السورتين فليس بلازم ; لأنه إن أراد اتصالهما في المعنى ، فالقرآن كله متصلة سوره معنى .
ألا ترى إلى فاتحة الكتاب وفيها اهدنا الصراط المستقيم [ 1 \ 6 ] ، فجاءت سورة البقرة : ذلك الكتاب لا ريب فيه [ 2 \ 2 ] ، وبعدها ذكر أوصافهم وقال : أولئك على هدى من ربهم [ 2 \ 5 ] ، فأي ارتباط أقوى من هذا ، كأنه يقول : الهدى الذي تطلبونه في هذا الكتاب فهو هدى للمتقين ، وإن أراد اتصالا حسا بعدم البسملة ، فنظيرها سورة براءة مع الأنفال ، ولكن لا حاجة إلى ذلك ; لأن إجماع القراء على إثبات البسملة بينهما ، اللهم إلا مصحف أبي بن كعب ، وليس في هذين الوجهين وجه أرجح من وجه .
ولذا لم يرجح بينهما أحد من المفسرين ، سوى ابن جرير رحمه الله :
وصحة الوجهين أقوى وأعم في الامتنان وتعداد النعم .
والإيلاف : قيل من التأليف ، إذ كانوا في رحلتيهم يألفون الملوك في الشام واليمن ، أو كانوا هم في أنفسهم مؤلفين ومجمعين ، وهو امتنان عليهم بهذا التجمع والتألف ، ولو سلط عليهم لفرقهم وشتتهم ، وأنشدوا :
أبونا قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر
وقيل : من الإلف والتعود ، أي : ألفوا الرحلتين .
فللإبقاء لهم على ما ألفوه .
وقريش قال أبو حيان : علم على القبيلة .
وقيل : أصلها من النقرش ، وهو الاجتماع أو التكسب والجمع .
وقيل : من دابة البحر المسماة بالقرش وهي أخطر حيواناته ، وهو مروي عن ابن عباس في جوابه لمعاوية .
وأنشد قول الشاعر :
وقريش هي التي تسكن البحـ ـر بها سميت قريش قريشا
[ ص: 111 ] تأكل الرث والسمين ولا تترك فيها لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبي يكثر القتل فيهم والخموشا
وقوله تعالى : رحلة الشتاء والصيف ، هو تفسير " لإيلاف " سواء على ما كانوا يؤالفون بين الملوك في تلك الرحلات ، أو ما كانوا يألفونه فيهما .
قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت .
المراد بالبيت : البيت الحرام ، كما جاء في دعوة إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم .
وقوله تعالى : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
بمثابة التعليل لموجب أمرهم بالعبادة ; لأنه سبحانه الذي هيأ لهم هاتين الرحلتين اللتين كانتا سببا في تلك النعم عليهم ، فكان من واجبهم أن يشكروه على نعمه ويعبدوه وحده .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان هذا المعنى ، عند قوله تعالى : أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [ 29 \ 67 ] وساق النصوص بهذا المعنى بما أغنى عن إعادته .
تنبيه
في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ، ربط بين النعمة وموجبها ، كالربط بين السبب والمسبب .
ففيه بيان لموجب عبادة الله تعالى وحده ، وحقه في ذلك على عباده جميعا ، وليس خاصا بقريش .
وهذا الحق قرره أول لفظ في القرآن ، وأول نداء في المصحف ، فالأول قوله تعالى : الحمد لله رب العالمين [ 1 \ 2 ] ، كأنه يقول هو سبحانه مستحق للحمد ، لأنه رب العالمين ، أي خالقهم ورازقهم ، وراحمهم إلى آخره .
[ ص: 112 ] والثاني : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] .
ثم بين الموجب بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون [ 2 \ 21 ] .
ثم عدد عليهم نعمه بقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] .
فهذه النعم تعادل الإطعام من جوع ، والأمن من خوف ، في حق قريش ، ومن ذلك قوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر [ 108 \ 1 - 2 ] .
وقد بين تعالى أن الشكر يزيد النعم والكفر يذهبها ، إلا ما كان استدراجا ، فقال في شكر النعمة : لئن شكرتم لأزيدنكم [ 14 \ 7 ] .
وقال في الكفران وعواقبه : وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون [ 16 \ 112 ] .
وبهذه المناسبة إن على كل مسلم أفرادا وجماعات ، أن يقابلوا نعم الله بالشكر ، وأن يشكروها بالطاعة والعبادة لله ، وأن يحذروا كفران النعم .
تنبيه آخر
في الجمع بين إطعامهم من جوع وأمنهم من خوف ، نعمة عظمى لأن الإنسان لا ينعم ولا يسعد إلا بتحصيل النعمتين هاتين معا ، إذ لا عيش مع الجوع ، ولا أمن مع الخوف ، وتكمل النعمة باجتماعهما .
ولذا جاء الحديث : " من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه عنده قوت يومه ، فقد اجتمعت عنده الدنيا بحذافيرها " .
تنبيه آخر
إن في هذه السورة دليلا على أن دعوة الأنبياء مستجابة ; لأن الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام دعا لأهل الحرم بقوله : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات [ 14 \ 37 ] .
[ ص: 113 ] وقال : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك [ 2 \ 129 ] ، فأطعمهم الله من جوع وآمنهم من خوف ، وبعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:58 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (609)
سُورَةُ الْمَاعُون
صـ 113 إلى صـ 122
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْمَاعُون
قوله تعالى : أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين .
الذي يكذب بالدين ، فيه اسم الموصول مبهم بينه ما بعده ، وهو الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين .
وقد بين تعالى في آية أخرى ، أن الإيمان بيوم الدين يحمل صاحبه على إطعام اليتيم والمسكين في قوله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا [ 76 \ 8 ] .
ثم قال مبينا الدافع على إطعامهم إياهم : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا [ 76 \ 9 - 10 ] .
وهنا سؤال : وهو لم خص المكذبين بيوم الدين عمن يرتكب هذين الأمرين دع اليتيم ، وهو دفعه وزجره ، وعدم الحض على إطعام المسكين ، وبالتالي عدم إطعامه هو من عنده ؟
والجواب : أنهما نموذجان ، ومثالان فقط .
والأول منهما : مثال للفعل القبيح .
والثاني : مثال للترك المذموم .
ولأنهما عملان إن لم يكونا إسلاميين فهما إنسانيان قبل كل شيء .
وفي الآية الأخرى توجيه للجواب ، وهو أن المؤمن يخاف من الله يوما عبوسا ، وعبر بالعبوس في حق يوم القيامة ، لئلا يعبس هو في وجه اليتيم والمسكين لضعفهما .
ومن جانب آخر فإن كان التكذيب بيوم الدين يحمل على كل الموبقات ، إلا أنها [ ص: 115 ] قد تجد ما يمنع منها ، كالقتل والزنا والخمر لتعلق حق الآخرين ، وكذلك السرقة والنهب .
أما إيذاء اليتيم وضياع المسكين ، فليس هناك من يدفع عنه ، ولا يمنع إيذاء هؤلاء عنهما ، وليس لديهما الجزاء الذي ينتظره أولئك منهم على الإحسان إليهم .
وجبلت النفوس على ألا تبذل إلا بعوض ، ولا تكف إلا عن خوف ، فالخوف مأمون من جانبي اليتيم والمسكين ، والجزاء غير مأمول منهما ، فلم يبق دافع للإحسان إليهما ، ولا رادع عن الإساءة لهما إلا الإيمان بيوم الدين والجزاء ، فيحاسب الإنسان على مثقال الذرة من الخير .
وقيل : إن دع اليتيم : هو طرده عن حقه ، وعدم الحض على طعام المسكين : عدم إخراج الزكاة .
ولكن في الآية ما يمنع ذلك ; لأن الزكاة إنما يطالب بها المؤمن ، والسياق فيمن يكذب بيوم الدين فلا زكاة .
قوله تعالى : فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون .
اختلف في المصلين الذين توجه إليهم الوعيد بالويل هنا .
والجمهور : على أنهم الذين يسهون عن أدائها ، ويتساهلون في أمر المحافظة عليها .
وقيل : عن الخشوع فيها وتدبر معانيها .
ولكن الصحيح أنه الأول .
وقد جاء عن عطاء وعن ابن عباس أنهما قالا : الحمد لله الذي قال عن صلاتهم ، ولم يقل في صلاتهم ، كما أن السهو في الصلاة لم يسلم منه أحد ، حتى أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم من ركعتين في الظهر كما هو معلوم من حديث ذي اليدين ، وقال : " إني لا أنسى ، ولكني أنسى لأسن " فكيف ينسيه الله ليسن للناس أحكام السهو ، ويقع الناس في السهو بدون عمد منهم .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " [ ص: 116 ]
وقد عقد الفقهاء باب سجود السهو تصحيحا لذلك .
لذلك بقي من المراد بـ " الذين هم عن صلاتهم ساهون " .
قيل : نزلت في أشخاص بأعيانهم .
وقيل : في كل من أخر الصلاة عن أول وقتها ، أو عن وقتها كله ، إلى غير ذلك ، أو عن أدائها في المساجد وفي الجماعة .
وقيل : في المنافقين .
وفي السورة تفسير صريح لهؤلاء ، وهو قوله تعالى : الذين هم يراءون ويمنعون الماعون [ 107 \ 6 - 7 ] .
والمرائي في صلاته قد يكون منافقا ، وقد يكون غير منافق .
فالرياء أعم من جهة ، والنفاق أعم من جهة أخرى ، أي قد يرائي في عمل ما ، ويكون مؤمنا بالبعث والجزاء وبكل أركان الإيمان ، ولا يرائي في عمل آخر ، بل يكون مخلصا فيه كل الإخلاص .
والمنافق دائما ظاهره مخالف لباطنه في كل شيء ، لا في الصلاة فقط .
ولكن جاء النص : بأن المراءاة في الصلاة من أعمال المنافقين .
وجاء النص أيضا . بأن منع الماعون من طبيعة الإنسان إلا المصلين ، كما في قوله تعالى : إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين [ 70 \ 19 - 22 ] .
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان السهو عنها وإضاعتها عند قوله تعالى : فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا [ 19 \ 59 - 60 ] .
وبين في آخر المبحث تحت عنوان : مسألة في حكم تاركي الصلاة جحدا أو كسلا . وزاده بيانا ، عند قوله تعالى : والذين هم على صلاتهم يحافظون [ 70 \ 34 ] في دفع إيهام الاضطراب للجمع بين هذه الآية وآية ما سلككم في سقر [ 74 \ 42 ] .
[ ص: 117 ] وذكر قول الشاعر :
دع المساجد للعباد تسكنها
على ما سنذكره بعد ، ثم نبه قائلا : إذا كان الوعيد عمن يسهو عنها فكيف بمن يتركها ؟ ! ا هـ .
وقد تساءل بعض المفسرين عن موجب اقتران هذه الآية بالتي قبلها .
وأجابوا : بأن الكل من دوافع عدم الإيمان بالبعث ، ومن موجبات التكذيب بيوم الدين ، فهي مع ما قبلها في قوة ، فذلك الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ، وعن صلاتهم ساهون فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون .
فجمعهم مع الأول ، ونص على وعيده الشديد ، وبين وصفا لهم ، وهو أنهم يمنعون الماعون .
تنبيه
في هذه السورة ، وفي آية : والذين هم على صلواتهم يحافظون [ 23 \ 9 ] ، التي هي من صفات المؤمنين معادلة كبيرة .
إحداهما : في المنافقين تاركي الصلاة أو مضيعيها .
والأخرى في المؤمنين المحافظين عليها ، أي أن الصلاة هي المقياس والحد الفاصل .
وعليه قوله صلى الله عليه وسلم : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن ترك الصلاة فقد كفر " .
أما أثر الصلاة في الإسلام ، وعلى الفرد والجماعة ، فهي أعظم من أن تذكر .
وقد وجدنا بعض آثارها وهو المراءاة في العمل ، أي ازدواج الشخصية والانعزال في منع الماعون ، أي لا يمد يد العون ولو باليسير لمجتمعه الذي يعيش فيه ، وقد جاءت نصوص صريحة في مهمة الصلاة عاجله وآجله .
ففي العاجل قوله تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر [ 29 \ 45 ] ، ومن الفحشاء : دع اليتيم وعدم إطعام المسكين ، في الدرجة الأولى .
[ ص: 118 ] ومنها : كل رذيلة منكرة ، فهي إذن سياج للإنسان يصونه عن كل رذيلة . وهي عون على كل شديدة ، كما قال تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة [ 2 \ 45 ] فجعلها قرينة الصبر في التغلب على الصعاب ، وهي في الآخرة نور ، كما قال تعالى : يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم الآية [ 57 \ 12 ] ، مع قوله صلى الله عليه وسلم : " إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء " .
وقوله : ويمنعون الماعون ، قيل : في الماعون الزكاة لقلتها ، والماعون : القليل ، والماعون : المال في لغة قريش .
وقيل : هو ما يعين على أي عمل ، ومنه الدلو والفأس والإبرة والقدر ، ونحو ذلك .
وإذا كان السهو عن الصلاة يحمل على منع الماعون ، فإن من يمنع الماعون وهو الآلة أو الإناء يقضي به الحاجة ثم يرد ، كما هو بدون نقصان ، فلأن يمنع الصدقة أو الزكاة من باب أولى .
ومن هنا : لم يكن المنافق ليزكي ماله ولا يتصدق على محتاج ، بل ولا يقرض آخر قرضا حسنا . ولذا نجد تفشي الربا في المنافقين أشد وأكثر .
وهنا يأتي مبحثان : الأول منهما : حكم الرياء وما حده ؟
والثاني : حكم العارية .
أما الرياء : فقيل هو مشتق من الرؤية ، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد عليها ، وقد جاء في الحديث تسميته الشرك الخفي : " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفي ، قالوا : وما الشرك الخفي يا رسول الله ؟ قال : الرياء ، فإنه أخفى في نفوسكم من دبيب النمل " .
وجاء قوله تعالى : فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] .
وبيان الشرك فيه أنه يعمل العمل مما هو أصلا لله ، كالصلاة أو الصدقة أو الحج ، ولكنه يظهره لقصد أن يحمده الناس عليه .
[ ص: 119 ] فكأن هذا الجزء منه مشاركة مع الله ، حيث أصبح من عمله جزء لطلب الثناء من الناس عليه .
وقد جاء حديث أبي هريرة عند مسلم : يقول الله تعالى : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك معي غيري تركته وشركه " .
أما حكم الرياء في العمل ، ففي هذا النص دلالة على رد العمل على صاحبه ، وتركه له .
فقيل : إنه يكون لا له فيه ، ولا عليه منه .
فقيل : لا يخلو من ذم ، كما حذر الله تعالى منه بقوله : ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس [ 8 \ 47 ] .
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من راءى راءى الله به ، ومن سمع سمع الله به " رواه مسلم .
والتسميع : هو العمل ليسمع الناس به كما في حديث الوليمة " في اليوم الأول والثاني والثالث سمعة . ومن سمع سمع به " .
فالرياء مرجعه إلى الرؤية ، والتسميع مرجعه إلى السماع .
ومعلوم أنها نزلت في قريش يوم بدر ، وقد أحبط الله عملهم ، وردهم على أعقابهم .
وفي حديث أبي هريرة ، وقيل : إنه محبط للأعمال لمسمى الشرك لقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ 4 \ 48 ] .
وأجيب : بأنه يحبط العمل الذي هو فيه فقط ، فإن راءى في الصلاة أحبطها ولا يتعدى إلى الصوم ، وإن راءى في صلاة نافلة لا يتعدى إحباطها إلى صلاة فريضة ، وهكذا ، قد يبدأ عملا خالصا لله ، ثم يطرأ عليه شبح الرياء ، فهل يسلم له عمله أو يحبطه ما طرأ عليه من الرياء ؟
فقالوا : إن كان خاطرا ودفعه عنه فلا يضره ، وإن استرسل معه . فقد رجح أحمد [ ص: 120 ] وابن جرير عدم بطلان العمل نظرا لسلامة القصد ابتداء .
ودليلهم في ذلك : ما روى أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلا قال : يا رسول الله ، إن بني سلمة كلهم يقاتل ، فمنهم من يقاتل للدنيا ، ومنهم من يقاتل نجدة ، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله تعالى قال : " كلهم إذا كان أصل أمره أن تكون كلمة الله هي العليا " .
وذكر عن ابن جرير : أن هذا في العمل الذي يرتبط آخره بأوله ، كالصلاة والصيام .
أما ما كان مثل القراءة والعلم . فإنه يلزمه تجديد النية الخالصة لله ، أي لأن كل جزء من القراءة ، وكل جزء من طلب العلم مستقل بنفسه ، فلا يرتبط بما قبله .
وهناك مسألة : وهي أن العبد يعمل العمل لله خالصا ، ثم يطلع عليه بعض الناس ، فيحسنون الثناء عليه فيعجبه ذلك . فلا خلاف أنه ليس من الرياء في شيء لما جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه ، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يعمل من الخير يحمده الناس عليه ، فقال صلى الله عليه وسلم " عاجل بشرى المسلم " رواه مسلم .
وقد ذكر بعض العلماء : أن من كان يعمل عملا خفيا ، ثم حضر بعض الناس فتركه من أجلهم خشية الرياء ، أنه يدخل في الرياء ; لأنه يضعف في نفسه أن يخلص النية لله ، وفي هذا بعد ومشقة .
أما منع الماعون وإعطاؤه ، وهو العارية كما تقدم .
فإن مبحث العارية في ناحيتين : ما هي العارية ، والثاني : حكمها أواجب أم مباح ، وحكم ضمانها مضمونة أم لا ؟
أما تعريفها عند الفقهاء : هي إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال ، مع بقاء عينه .
وقولهم مع بقاء عينه : كالقدر والفأس والإبرة والمنخل ، ونحو ذلك ، بخلاف ما يكون إتلافه في استعماله ، كالشمع للإضاءة ، والزيت للدهن ، والكحل للاكتحال ، ونحو ذلك ، مما تنفد عينه باستعماله ، فلا يكون عارية ، ولكن يكون قرضا ، والقرض يكون معاوضته بمثله .
أما حكم العارية . فقيل : جائز .
[ ص: 121 ] وقيل : بل واجب .
وقيل : مستحب .
وحكى ابن قدامة الإجماع على استحبابها ، ودليل من قال بالوجوب بنص الآية : ويمنعون الماعون ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه في حق الإبل لما ذكر الزكاة " وأن حقها إعارة دلوها ، وإطراق فحلها ، ومنحه لبنها يوم ورودها " .
والواقع أن هذا الحديث ذكر فيه ما ليس بعارية قطعا ، مثل طرق الفحل ومنح اللبن ، مما يضعف الاستدلال به .
وقد ساق المجد في المنتقى برواية أحمد ولهم .
أما الوعيد في الآية فقالوا : هو منصب على الصفات الثلاث : السهو عن الصلاة ، والرياء في العمل ، ومنع الماعون جميعا ، ومن اتصف بواحدة فله قدره من الوعيد بحسبه .
وأقل ما يقال فيها ما جاء في قوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى [ 5 \ 2 ] ، والحديث الصحيح في حق الزكاة ، لما ذكر صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة والإبل والبقر والخيل ، وقال : " ولا ينسى حق الله في ظهرها " .
ثم سئل عن الحمر ، فقال : " لم أجد إلا الآية الشاذة الفاذة : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " [ 99 \ 7 ] .
وإعارة المتاع إباحة المنفعة وهي خير كثير .
والحديث الآخر : " لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس " .
ونقل الشوكاني عن الكشاف قولا : أنها تكون واجبة عند الاضطرار ، وقبيح في غير الضرورة مروءة . ا هـ .
والضرورة : مثل الدلو إذا وردت الماء ولا دلو معك ، وفي اضطرار إلى الماء .
وقياس الفقهاء : أنه لو تلف شيء بسبب ذلك لضمن المانع .
كما قالوا في الامتناع في بعض الصور : هل هو فعل أو ترك ؟ مثل من كان عنده [ ص: 122 ] خيط ، واحتيج إليه في خياطة جرح إنسان ، أو قطنة فمات ، فهل يعد ترك إعطاء الخيط مجرد ترك لا يؤاخذ عليه ، أو يعتبر فعلا لأنه تسبب عنه موت إنسان . ومثله منع الدلو ليروي أو يسقي إبله أو يشرب هو ؟
والصحيح عندهم : أن الترك في مثل هذه الحالة يؤاخذ عليه مؤاخذة الفعل ، كما قال صاحب مراقي السعود .
والترك فعل في صحيح المذهب
وهنا ما يشهد له الاستعمال العربي الصحيح ، كما قيل في بناء المسجد :
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
فسمي القعود عن العمل عملا مضللا ، فتحصل من هذا أن العارية مستحبة شرعا ومروءة وعرفا في حالة الاختيار ، وواجبة في حالة الاضطرار ، مع ملاحظة أن حالات الاستعارة أغلبها اضطرار ، إلا أن حالات الاضطرار تتفاوت ظروفها .
وقد امتدح الله الأنصار بأنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [ 59 \ 9 ] ، فالعارية من باب أولى ، لأنه ينتفع بها وترد لصاحبها .
وقد امتدح الشاعر القوم بعدم منعهم الماعون ، بقوله :
قوم على الإسلام ولما يمنعوا ماعونهم ويضيع التهليلا
وإن كان بعض الناس حمل الماعون هنا على الزكاة ، ولكن قول الشاعر : قوم على الإسلام ، يتضمن إخراجهم الزكاة ضمن إسلامهم ، فيكون الباقي امتداد حالهم في خصوص الماعون .
بقي مبحث ضمانها : تختلف الأقوال في ضمان العارية ، فبعضهم يعتبرها أمانة ، وعليه فلا تكون مضمونة وهذا مذهب الحنفية والمالكية ، إذا لم يحصل منه تعد .
وعند الشافعي وأحمد : أنها مضمونة ، إلا إذا كانت على الوجه المأذون فيه .
كما قالوا في السيف : يستعيره فينكسر في القتال فلا ضمان فيه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 05:59 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (610)
سُورَةُ الْكَافِرُونَ
صـ 123 إلى صـ 132
واستدل من قال بضمانها بالحديث العام : " على اليد ما أخذت ، حتى تؤديه " رواه [ ص: 123 ] المجد في المنتقى ، وقال : رواه الخمسة إلا النسائي .
وبحديث صفوان بن أمية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أذرعا قيل ثلاثين ، وقيل ثمانين ، وقيل مائة . فقال : أغصبا يا محمد ؟ قال : " بل عارية مضمونة ، فقال : فضاع بعضها ، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يضمنها له ، فقال : أنا اليوم في الإسلام أرغب " رواه أحمد وأبو داود .
ونص الفقهاء أن ضمانها بقيمتها يوم تلفت أو بمثلها ، إن كانت مثلية ، ويستدل له بما جاء في قصعة حفصة لما ضربتها عائشة فسقطت على الأرض فانكسرت ، وانتثر الطعام ، فأخذ صلى الله عليه وسلم قصعة عائشة وردها إلى حفصة ، وقال : " قصعة بقصعة ، وطعام بطعام " أي أن الضمان إما بالمثل إن كان مثليا ، أو بالقيمة إن كان مقوما .
وإذا كانت العارية مضمونة وحكمها الجواز ، فللمستعير طلب ردها متى شاء ، إلا إذا تعلقت بها مصلحة المستعير ، ولا يمكن ردها إلا بمضرة عليه .
قالوا : كمن أعار سفينة وتوسط بها المستعير عرض البحر ، فلا يملك المعير ردها لتعذر ذلك وسط البحر .
وقيل : له طلبها ، وتكون بالأجرة على المستعير ، والأول أرجح .
وكالذي أعار أرضا للزرع ، وقبل أن يستحصد الزرع يطلبها صاحبها ، وهكذا . والله تعالى أعلم .
حكم من جحد العارية
إن حديث المرأة المخزومية مشهور ، وهو أنها كانت تستعير المتاع وتجحده ، فاشتهرت بذلك ، ثم إنها سرقت فقطعت في السرقة ، لا في جحد المتاع المستعار ، وهذا هو الأصح . لأن السرقة لا تكون إلا على وجه التخفي ومن حرز .
والاستعارة خلاف ذلك ، وإنما تدخل في قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ 4 \ 58 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " .
[ ص: 124 ] وحديث " أد الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذي ، وقال : حديث حسن .
وهذا مجمل مباحث العارية ، وتفصيل فروعها في كتب الفقه أوجزنا منه ما يتعلق بمنع الماعون وعدم جواز منعه ، وما يتعلق ببذله ، وبالله تعالى التوفيق .
تنبيه
في هذه السورة بيان منهج علمي يلزم كل باحث ، وهو جمع أطراف النصوص ، وعدم الاقتصار على جزء منه ، وذلك في قوله تعالى : فويل للمصلين [ 107 \ 4 ] ، وهي آية مستقلة ، ولو أخذت وحدها لكانت وعيدا للمصلين .
كما قال الشاعر الماجن في قوله :
دع المساجد للعباد تسكنها وسر إلى خانة الخمار يسقينا ما قال ربك ويل للألى سكروا
وإنما قال ويل للمصلينا
ولذا لا بد من ضميمة ما بعدها للتفسير والبيان ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، ثم فسر هذا التفسير أيضا بقوله : الذين هم يراءون ويمنعون الماعون .
ومثل هذه الآية من الحديث ، ما جاء عند ابن ماجه ما نصه بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن ميسرة المسجد تعطلت : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : من عمر ميسرة المسجد كتب له كفلان من الأجر " .
هذا الحديث وإن كان في الزوائد ، قال عنه : في إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف ، إلا أنه نص فيما تمثل له لأن من اقتصر على جوابه صلى الله عليه وسلم اعتبر ميسرة المسجد أفضل ، ومن جمع طرفي الحديث عرف المقصود منه .
ويتفرع على هذا ما أخذه مالك رحمه الله في باب الشهادة : أن الشخص لا يحق له أن يشهد على مجرد قول سمعه ، إلا إذا استشهدوه عليه ، وقالوا : اشهد عليه ، أو إلا إذا سمع الحديث من أوله مخافة أن يكون في أوله ما هو مرتبط بآخره ، كما لو قال المتكلم للآخر : لي عندك فرس ، ولك عندي مائة درهم ، فيسمع قوله : لك عندي مائة درهم ، [ ص: 125 ] ولم يسمع ما قبلها ، فإذا شهد على ما سمع كان إضرارا بالمشهود عليه ، وهذه السورة تدل لهذا المأخذ ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 126 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْكَوْثَر
قوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر .
الكوثر فوعل من الكثرة ، وأعطيناك قرئ : أنطيناك ، بإبدال العين نونا ، وليست النون مبدلة عن العين ، كإبدال الألف من الواو أو العين في الأجوف ونحوه ، ولكن كلا منهما أصل بذاته ، وقراءة مستقلة . قاله أبو حيان .
واختلف في الكوثر .
فقيل : علم .
وقيل : وصف .
وعلى العلمية قالوا : إنه علم على نهر في الجنة ، وعلى الوصف قالوا : الخير الكثير .
ومما استدل به على العلمية ، ما جاء في السنة من الأحاديث الصحاح ، ذكرها ابن كثير وغيره .
وفي صحيح البخاري عن أنس قال : لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال : " أتيت نهرا حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفا . فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر " .
وبسنده أيضا عن عائشة رضي الله عنها " سئلت عن قوله تعالى : إنا أعطيناك الكوثر ، قالت : هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم ، شاطئاه عليهما در مجوف ، آنيته كعدد النجوم " .
وبسنده أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه .
قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه .
وذكر ابن كثير هذه الأحاديث وغيرها عن أحمد رحمه الله : ومنها بسند أحمد إلى [ ص: 127 ] أنس بن مالك قال : " أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة ، فرفع رأسه متبسما إما قال لهم ، وإما قالوا له : لم ضحكت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه نزلت علي آنفا سورة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، إنا أعطيناك الكوثر ، حتى ختمها ، فقال : هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة ، عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم ، فأقول : يا رب إنه من أمتي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " .
وذكر ابن كثير ما جاء في صفة الحوض ، وهذه النصوص على أن الكوثر نهر في الجنة ، أعطاه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم .
وفي الحديث الأخير عن الإمام أحمد قوله : " عليه خير كثير " يشعر بأن معنى الوصفية موجود .
ولذا قال بعض المفسرين : إنه الخير الكثير .
وممن قال ذلك ابن عباس ، كما تقدم في حديث البخاري عنه .
واستدلوا على المعنى ، بقول الشاعر الكميت :
وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن الفصائل
والذي تطمئن إليه النفس أن الكوثر ، هو الخير الكثير ، وأن الحوض أو النهر من جملة ذلك .
وقد أتت آيات تدل على إعطاء الله لرسوله الخير الكثير ، كما جاء في قوله تعالى : ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم [ 15 \ 87 ] .
وفي القريب سورة الضحى وفيها : ولسوف يعطيك ربك فترضى [ 93 \ 5 ] ، أعقبها بنعم جليلة من شرح الصدور ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، واليسر بعد العسر .
وبعدها في سورة التين جعل بلده الأمين ، وأعطى المؤمنين الذين يعملون الصالحات أجرا غير ممنون .
وبعدها سورة " اقرأ " امتن عليه القرآن ، وعلمه ما لم يكن يعلم .
[ ص: 128 ] وبعدها سورة القدر : أعطاه ليلة خيرا من ألف شهر .
وبعدها سورة البينة : جعل أمته خير البرية ، ومنحهم رضاه عنهم ، وأرضاهم عنه .
وبعدها سورة الزلزلة : حفظ لهم أعمالهم ، فلم يضيع عليهم مثقال الذرة من الخير .
وفي سورة العاديات : أكبر عمل الجهاد ، فأقسم بالعاديات في سبيل الله ، والنصر على الأعداء .
وفي سورة التكاثر : تربيتهم على نعمه ليشكروها ، فيزيدهم من فضله .
وفي سورة العصر : جعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، تؤمن بالله وتعمل الصالحات ، وتتواصى بالحق وتدعو إليه ، وتتواصى بالصبر ، وتصبر عليه .
وبعدها في سورة قريش : أكرم الله قومه ، فآمنهم وأعطاهم رحلتيهم .
وفي السورة التي قبلها مباشرة ، وهي سورة الماعون : يمكن عمل مقارنة تامة أولا .
وفي الجملة ، لئن كان المنافقون يمنعون الماعون ، فقد أعطيناك الخير الكثير ، ثانيا .
وعلى التفصيل ففي الأولى : وصف المنافقين والمكذبين بدع اليتيم ، وفي الضحى قد بين له حق اليتيم فأما اليتيم فلا تقهر [ 93 \ 9 ] ، فكان هو خير موكل ، وخير كافل ، ووصفهم هنا بأنهم لا يحضون على طعام المسكين .
وقد أوضح له في الضحى ، وأما السائل فلا تنهر ، فكان يؤثر السائل على نفسه ، وهؤلاء ساهون عن صلاتهم يراءون بأعمالهم .
وفي هذه السورة فصل لربك [ 108 \ 2 ] ، أداء الصلاة وخالصة لربه ، وإطعام المسكين بنحر الهدي والضحية والصدقة ، وكل ذلك خير كثير ، يضاف إليه ما جاءت به السنة ، كما في حديث : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة ، وحلت لي الغنائم ، ولم تكن تحل لأحد قبلي . وكان النبي يبعث لقومه خاصة ، فبعثت للناس كافة ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل " .
[ ص: 129 ] وقوله : " رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .
وفي قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين [ 2 \ 286 ] .
قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى قال : قد فعلت ، قد فعلت " .
وقوله تعالى : ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [ 17 \ 79 ] ، وهو المقام الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون .
إلى غير ذلك من النصوص ، بما يؤكد قول ابن عباس ، عند البخاري : إن الكوثر : الخير الكثير .
وأن النهر في الجنة من هذا الكوثر الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : فصل لربك وانحر .
في هذا مع ما قبله ربط بين النعم وشكرها ، وبين العبادات وموجبها ، فكما أعطاه الكوثر فليصل لربه سبحانه ولينحر له ، كما تقدم في سورة لإيلاف قريش ، في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 3 - 4 ] .
وهناك إنا أعطيناك الكوثر ، وهو أكثر من رحلتيهم وأمنهم ، فصل لربك مقابل فليعبدوا رب هذا البيت .
وقيل : إنه لما كان في السورة قبلها بيان حال المنافقين في السهو عن الصلاة والرياء في العمل ، جاء هنا بالقدوة الحسنة فصل لربك مخلصا له في عبادتك ، كما تقدم في السورة قبلها فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ 18 \ 110 ] .
وقوله تعالى في تعليم الأمة ، في خطاب شخصه صلى الله عليه وسلم لئن أشركت ليحبطن عملك [ 39 \ 65 ] ، مع عصمته صلى الله عليه وسلم من أقل من ذلك ، والصلاة عامة والفريضة أخصها .
[ ص: 130 ] وقيل : صلاة العيد ، والنحر : قيل فيه أقوال عديدة :
أولها : في نحر الهدي أو نحر الضحية : وهي مرتبطة بقول من حمل الصلاة على صلاة العيد ، وأن النحر بعد الصلاة كما في حديث البراء بن عازب " لما ضحى قبل أن يصلي ، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يحث على الضحية بعد الصلاة ، فقال : إني علمت اليوم يوم لحم فعجلت بضحيتي ، فقال له : شاتك شاة لحم ؟ فقال : إن عندنا لعناقا أحب إلينا من شاة ، أفتجزئ عني ؟ قال : اذبحها ، ولن تجزئ عن أحد غيرك " .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث الضحية وافيا عند قوله تعالى : فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير [ 22 \ 28 ] ، وقد ذكروا في معاني : وانحر : أي ضع يدك اليمنى على اليسرى على نحرك في الصلاة ، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه .
وأقوال أخرى ليس عليها نص .
والنحر : هو طعن الإبل في اللبة عند المنحر ملتقى الرقبة بالصدر .
وأصح الأقوال في الصلاة وفي النحر هو ما تقدم من عموم الصلاة وعموم النحر أو الذبح لما جاء في قوله تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين [ 6 \ 162 ] .
واتفق الفقهاء على أن النحر للإبل ، والذبح للغنم ، والبقر متردد فيه بين النحر والذبح ، وأجمعوا على أن ذلك هو الأفضل ، ولو عمم النحر في الجميع ، أو عمم الذبح في الجميع لكان جائزا ، ولكنه خلاف السنة .
وقالوا : إن الحكمة في تخصيص الإبل بالنحر ، هو طول العنق ، إذ لو ذبحت لكان مجرى الدم من القلب إلى محل الذبح بعيدا فلا يساعد على إخراج جميع الدم بيسر ، بخلاف النحر في المنحر ، فإنه يقرب المسافة ويساعد القلب على دفع الدم كله ، أما الغنم فالذبح مناسب لها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن شانئك هو الأبتر [ 3 ] . قال البخاري ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " شانئك " : عدوك ا هـ .
[ ص: 131 ] والأبتر : هو الأقطع الذي لا عقب له .
وأنشد أبو حيان ، قول الشاعر :
لئيم بدت في أنفه خنزوانة على قطع ذي القربى أجذ أباتر
وقال : " شانئك " : مبغضك .
وفي هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى : أن مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقطع .
فقيل : نزلت في العاص بن وائل .
قال لقريش : دعوه ، فإنه أبتر لا عقب له ، إذا مات استرحتم ، فأنزلها الله تعالى ردا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء مصداقها بالفعل في قوله تعالى : في غزوة بدر في قوله تعالى : ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين [ 8 \ 7 ] فقتل صناديد قريش ، وصدق الوعيد فيهم .
ومثله عموم قوله تعالى : فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين [ 6 \ 45 ] .
وجاء : تبت يدا أبي لهب وتب [ 111 \ 1 ] .
فهي في معناها أيضا .
وبقي ذكر رسول صلى الله عليه وسلم في عقبه من آل بيته ، وفي أمته كلها .
كما تقدم في قوله تعالى : ورفعنا لك ذكرك [ 94 \ 4 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْكَافِرُونَ
قوله تعالى : قل يا أيها الكافرون [ 1 ] . نداء للمشركين بمكة ، لما عرضوا عليه صلى الله عليه وسلم أن يترك دعوته ويملكوه عليهم أو يعطوه من المال ما يرضيه ونحوه فرفض ، فقالوا : تقبل منا ما نعرضه عليك : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فسكت عنهم فنزلت ، وقالوا له : إن يكن الخير معنا أصبته ، وإن يكن معك أصبناه .
وفي مجيء : قل ، مع أن مقول القول كان قد يكفي في البلاغ ، ولكن مجيئها لغاية فما هي ؟
قال الفخر الرازي : إما لأنهم عابوه صلى الله عليه وسلم في السورة التي قبلها بقولهم : إنه أبتر فجاء قوله : قل ، إشعارا بأن الله يرد عن رسوله بهذا الخطاب ، الذي ينادي عليهم في ناديهم بأثقل الأوصاف عليهم ، فقال له : قل ياأيها الكافرون .
أو أنه لما كان هذا الخطاب فيه مغايرة المألوف من تخاطبه معهم من أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة ، وكان فيه من التقريع لهم ومجابهتهم ، قال له : قل : إشعارا بأنه مبلغ عن الله ما أمر به ، وجاءت يا ، وهي لنداء البعيد ، لبعدهم في الكفر والعناد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:00 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (611)
سُورَةُ النصر
صـ 133 إلى صـ 142
قوله تعالى : لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد . قيل : تكرار في العبارات للتوكيد ، كتكرار ويل يومئذ للمكذبين [ 77 \ 15 ] ، وتكرار : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 13 ] .
ونظيره في الشعر أكثر من أن يحصر ، من ذلك ما أورده القرطبي رحمه الله :
[ ص: 133 ]
هلا سألت جموع كندة يوم ولو أين أينا
وقول الآخر :
يا علقمة يا علقمة يا علقمه خير تميم كلها وأكرمه
وقول الآخر :
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقول الآخر :
ألا يا سلمى ثم اسلمي ثمت اسلمي ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقد جاءت في أبيات لبعض تلاميذ الشيخ رحمه الله تعالى ، ضمن مساجلة له معه قال فيها :
تالله إنك قد ملأت مسامعي درا عليه قد انطوت أحشائي
زدني وزدني ثم زدني ولتكن منك الزيادة شافيا للداء
فكرر قوله : زدني ثلاث مرات
وقيل : ليس فيه تكرار ، على أن الجملة الأولى عن الماضي والثانية من المستقبل .
وقيل : الأولى عن العبادة ، والثانية عن المعبود .
وقيل غير ذلك ، على ما سيأتي إن شاء الله .
والسورة في الجملة نص على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعبد معبودهم ، ولا هم عابدون معبوده ، وقد فسره قوله تعالى : فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه الكلام على هذا المعنى ، عند آية يونس تلك ، وذكر هذه السورة هناك .
وقد ذكر أيضا في دفع إيهام الاضطراب جوابا على إشكال في السورة وهو قوله تعالى : لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، نفي لعبادة كل منهما معبود [ ص: 134 ] الآخر مطلقا ، مع أنه قد آمن بعضهم فيما بعد وعبد ما يعبده صلى الله عليه وسلم ، وأجاب عن ذلك بأحد أمرين : موجزهما أنها من جنس الكفار ، وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا إلى آخره ، أو أنها من العام المخصوص ، فتكون في خصوص من حقت عليهم كلمات ربك . ا هـ . ملخصا .
وقد ذكر أبو حيان وجها عن الزمخشري : أن ما يتعلق بالكفار خاص بالحاضر ; لأن ما إذا دخلت على اسم الفاعل تعينه للحاضر .
وناقشه أبو حيان ، بأن ذلك في مغالب لا على سبيل القطع .
والذي يظهر من سياق السورة قد يشهد لما ذهب إليه الزمخشري ، وهو أن السورة تتكلم عن الجانبين على سبيل المقابلة جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجهة الكفار في عدم عبادة كل منهما معبود الآخر .
ولكنها لم تساو في اللفظ بين الطرفين ، فمن جهة الرسول صلى الله عليه وسلم جاء في الجملة الأولى : لا أعبد ما تعبدون عبر عن كل منهما بالفعل المضارع الدال على الحال أي : لا أعبد الآن ما تعبدون الآن بالفعل . ثم قال : ولا أنتم عابدون ما أعبد فعبر عنهم بالاسمية وعنه هو بالفعلية ، أي : ولا أنتم متصفون بعبادة ما أعبد الآن .
وفي الجملة الثانية قال : ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد . فعبر عنه بأنه ليس متصفا بعبادة ما يعبدون ولا هم عابدون ما يعبد ، فكان وصفه هو صلى الله عليه وسلم في الجملتين بوصفين مختلفين بالجملة الفعلية تارة وبالجملة الاسمية تارة أخرى ، فكانت إحداهما لنفي الوصف الثابت ، والأخرى لنفي حدوثه فيما بعد .
أما هم فلم يوصفوا في الجملتين إلا بالجملة الاسمية الدالة على الوصف الثابت ، أي في الماضي إلى الحاضر ، ولم يكن فيما وصفوا به جملة فعلية من خصائصها التجدد والحدوث ، فلم يكن فيها ما يتعرض للمستقبل فلم يكن إشكال ، والله تعالى أعلم .
فإن قيل : إن الوصف باسم الفاعل يحتمل الحال والاستقبال ، فيبقى الإشكال محتملا .
قيل : ما ذكره الزمخشري من أن دخول ما عليه تعينه للحال ، يكفي في نفي هذا الاحتمال ، فإن قيل : قد ناقشه أبو حيان .
وقال : إنها أغلبية وليست قطعية .
[ ص: 135 ] قلنا : يكفي في ذلك حكم الأغلب ، وهو ما يصدقه الواقع ، إذ آمن بعضهم وعبد معبوده صلى الله عليه وسلم ، وما في قوله : ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، واقعة في الأولى على غير ذي علم ، وهي أصنامهم وهو استعمالها الأساسي .
وفي الثانية : في حق الله تعالى وهو استعمالها في غير استعمالها الأساسي ، فقيل : من أجل المقابلة ، وقد استعملت فيمن يعلم ، كقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 \ 3 ] ; لأنهن في معرض الاستمتاع بهن ، فللقرينة جاز ذلك .
وقيل : إنها مع ما قبلها مصدرية ، أي : ما مصدرية بمعنى عبادتكم الباطلة ، ولا تعبدون عباداتي الصحيحة .
وهذا المعنى قوي ، وإن تعارض مع ما ذكر من سبب النزول ، إلا أن له شاهدا من نفس السورة ويتضمن المعنى الأول ، ودليله من السورة قوله تعالى في آخر السورة : لكم دينكم ولي دين [ 109 \ 6 ] ، فأحالهم على عبادتهم ، ولم يحلهم على معبودهم .
قوله تعالى : لكم دينكم ولي دين .
هو نظير ما تقدم في سورة يونس أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون [ 10 \ 41 ] .
وكقوله : لنا أعمالنا ولكم أعمالكم [ 28 \ 55 ] .
وليس في هذا تقريرهم على دينهم الذي هم عليه ، ولكن من قبيل التهديد والوعيد كقوله : وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها [ 18 \ 29 ] .
وفي هذه السورة قوله : قل ياأيها الكافرون وصف يكفي بأن عبادتهم وديانتهم كفر .
وقد قال لهم الحق : لا أعبد ما تعبدون لأنها عبادة باطلة ، عبادة الكفار ، وبعد ذلك إن أبيتم إلا هي فلكم دينكم ولي دين .
[ ص: 136 ] تنبيه
في هذه السورة منهج إصلاحي ، وهو عدم قبول ولا صلاحية أنصاف الحلول ; لأن ما عرضوه عليه صلى الله عليه وسلم من المشاركة في العبادة ، يعتبر في مقياس المنطق حلا وسطا لاحتمال إصابة الحق في أحد الجانبين ، فجاء الرد حاسما وزاجرا وبشدة ; لأن فيه أي فيما عرضوه مساواة للباطل بالحق ، وفيه تعليق المشكلة ، وفيه تقرير الباطل ، إن هو وافقهم ولو لحظة .
وقد تعتبر هذه السورة مميزة وفاصلة بين الطرفين ، ونهاية المهادنة ، وبداية المجابهة .
وقد قالوا : إن ذلك بناء على ما أمره الله به في السورة قبلها : إنا أعطيناك الكوثر [ 108 \ 1 ] ، أي وإن كنت وصحبك قلة ، فإن معك الخير الكثير ، ولمجيء " قل " لما فيها من إشعار بأنك مبلغ عن الله ، وهو الذي ينصرك ، ولذا جاء بعدها حالا سورة النصر وبعد النصر : تب العدو .
وهذا في غاية الوضوح ، ولله الحمد .
[ ص: 137 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النصر
قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح .
فيه ذكر النصر والفتح ، مع أن كلا منهما مرتبط بالآخر : فمع كل نصر فتح ، ومع كل فتح نصر .
فهل هما متلازمان أم لا ؟
كما جاء النصر مضافا إلى الله تعالى ، والفتح مطلقا .
أولا : اتفقوا على نزول هذه السورة بعد فتح مكة .
ومعلوم : أنه سبق فتح مكة عدة فتوحات .
منها فتح خيبر ، ومنها صلح الحديبية ، سماه الله تعالى فتحا في قوله : فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا [ 48 \ 27 ] .
والنصر يكون في معارك القتال ويكون بالحجة والسلطان ، ويكون بكف العدو ، كما في الأحزاب . ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ 33 \ 25 ] .
وكما في اليهود قوله : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا [ 33 \ 26 - 27 ] .
فالنصر حق من الله : وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم [ 3 \ 126 ] .
وقد علم المسلمون ذلك ، كما جاء في قوله تعالى : مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله [ 2 \ 214 ] ، فهم يتطلعون إلى النصر .
[ ص: 138 ] ويأتيهم الجواب : ألا إن نصر الله قريب [ 2 \ 214 ] .
وجاء قوله صلى الله عليه وسلم : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " .
وقد قال تعالى لموسى وأخيه : لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] ، فهو نصر معية وتأييد ، فالنصر هنا عام .
وكذلك الفتح في الدين بانتشار الإسلام ، وأعظم الفتح فتحان : فتح الحديبية ، وفتح مكة .
إذ الأول تمهيد للثاني ، والثاني قضاء على دولة الشرك في الجزيرة ، ويدل لإرادة العموم في النصر والفتح .
قوله تعالى : ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فكأن الناس يأتون من كل جهة حتى من اليمن ، وهذا يدل على كمال الدعوة ونجاح الرسالة .
ويدل لهذا مجيء آية : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ 5 \ 3 ] ، وكان نزولها في حج تلك السنة .
ويلاحظ أن النصر هنا جاء بلفظ نصر الله ، وفي غير هذا جاء نصر الله ، وما النصر إلا من عند الله [ 8 \ 10 ] .
ومعلوم أن هذه الإضافة هنا لها دلالة تمام وكمال ، كما في بيت الله . مع أن المساجد كلها بيوت لله ، فهو مشعر بالنصر كل النصر ، أو بتمام النصر كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
والفتح ، هنا قيل : هو فتح مكة ، وقيل فتح المدائن وغيرها .
وتقدمت الإشارة إلى فتوحات عديدة قبل مكة .
وهناك فتوحات موعود بها بعد فتح مكة نص صلى الله عليه وسلم عليها منها في غزوة الأحزاب وهم يحفرون الخندق ، لما اعترضتهم كدية وأعجزتهم ، ودعي إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأخذ ماء وتمضمض ودعا ما شاء الله أن يدعو ثم ضرب ، فكانت كالكثيب .
[ ص: 139 ] وقد جاء فيها ابن كثير بعدة روايات وطرق مختلفة ، وكلها تذكر أنه صلى الله عليه وسلم ضرب ثلاث ضربات ، فأبرقت تحت كل ضربة برقة ، وكبر صلى الله عليه وسلم عند كل واحدة منها ، فسألوه فقال " في الأولى : أعطيت مفاتيح فارس " وذكر اليمن والشام ، وكلها روايات لا تخلو من نقاش ، ولكن لكثرتها يقوي بعضها بعضا .
وأقواها رواية النسائي بسنده قال : " لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، عرضت لهم صخرة حالت بينهم وبين الحفر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ المعول ووضع رداءه ناحية الخندق ، وقال : وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] ، فندر ثلث الحجر وسلمان الفارسي قائم ينظر ، فبرق مع ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم برقة ثم ضرب الثانية ، وقرأ ما قرأه أولا ، وبرقت أيضا . ثم الثالثة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تكسرت ، فأخذ رداءه صلى الله عليه وسلم وجلس ، فسأله سلمان لما رأى من البرقات الثلاث : فقال له : أرأيت ذلك ؟ قال : أي والذي بعثك بالحق يا رسول الله ، فأخبرهم أنه رفعت له في الأولى مدائن كسرى وما حولها ومدائن كثيرة حتى رآها بعينه ، فقالوا : ادع الله لنا أن يفتح علينا . فدعا لهم ، وفي الثانية : رفعت له مدائن قيصر وما حولها ، وفي الثالثة مدائن الحبشة ، وكلها يطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم فتفتح عليهم ، فدعا لهم إلا في الحبشة ، فقال صلى الله عليه وسلم : " دعوا الحبشة ما ودعوكم ، واتركوا الترك ما تركوكم " انتهى ملخصا .
وقد رواه كل من ابن كثير والنسائي مطولا ، فهذه الروايات وإن كانت تحتمل مقالا فقد جاء في الموطأ ما لا يحتمل مقالا ، ولا شك في صحته ، ولا في دلالته ، وهو ما رواه مالك عن هشام عن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير عن سفيان بن أبي زهير أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح الشام ، فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، ويفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون " .
فهذا نص صحيح صريح منه صلى الله عليه وسلم في حياته بفتح اليمن والشام والعراق ، وما فتحت كلها إلا من بعده صلى الله عليه وسلم إلا اليمن .
[ ص: 140 ] ويؤيد هذا القول ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، إذ قال : الله أكبر ، الله أكبر ، جاء نصر الله والفتح ، جاء أهل اليمن ، قيل : يا رسول الله ، وما أهل اليمن ؟ قال : قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان ، والفقه يمان ، والحكمة يمانية " رواه ابن كثير عنه .
وقد كان فتح مكة عام ثمان من الهجرة ، وجاءت الوفود في دين الله أفواجا عام تسع منها ، وجاء وفد اليمن وأرسل صلى الله عليه وسلم عماله إلى اليمن بعد فتح مكة ، وقدم عليه علي رضي الله عنه من اليمن في العام العاشر في موسم الحج ، ففتحت اليمن بعد فتح مكة في حياته صلى الله عليه وسلم .
وعليه : تكون فتوحات قد وقعت بعد فتح مكة ، يمكن أن يشملها هنا قوله تعالى : والفتح ، وليس مقصورا على فتح مكة كما قالوا .
وقد يؤخذ بدلالة الإيماء : الوعد بفتوحات شاملة ، لمناطق شاسعة من قوله تعالى : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق [ 22 \ 27 ] ; لأن الإتيان من كل فج عميق ، يدل على الإتيان إلى الحج من بعيد ، والإتيان إلى الحج يدل على الإسلام ، وبالتالي يدل على مجيء المسلمين من بعيد ، وهو محل الاستدلال والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا . تقدم الكلام على التسبيح ومتعلقه وتصريفه .
وهنا قرن التسبيح بحمد الله ، وفيه ارتباط لطيف بأول السورة وموضوعها ، إذ هي في الدلالة على كمال مهمة الرسالة بمجيء نصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ولدينه . ومجيء الفتح العام على المسلمين لبلاد الله بالفعل أو بالوعد الصادق كما تقدم ، وهي نعمة تستوجب الشكر ويستحق موليها الحمد .
فكان التسبيح مقترنا بالحمد في مقابل ذلك وقوله : بحمد ربك ، ليشعر أنه سبحانه المولي للنعم ، كما جاء في سورة الضحى في قوله تعالى : ما ودعك ربك وما قلى [ 93 \ 3 ] .
[ ص: 141 ] وقوله في سورة اقرأ : اقرأ باسم ربك [ 96 \ 1 ] ، وتكرارها اقرأ وربك الأكرم [ 96 \ 3 ] ; لأن صفة الربوبية مشعرة بالإنعام .
وقوله : واستغفره ، قال بعضهم : إن الاستغفار عن ذنب فما هو . وتقدم الكلام على عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند قوله تعالى : ووضعنا عنك وزرك [ 94 \ 2 ] .
ومما تجدر الإشارة إليه أن التوبة دعوة الرسل ، ولو بدأنا مع آدم عليه السلام مع قصته ففيها : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] ، ومعلوم موجب تلك التوبة .
ثم نوح عليه السلام يقول : رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات الآية [ 71 \ 28 ] .
وإبراهيم عليه السلام يقول : وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم [ 2 \ 128 ] .
وبناء عليه قال بعض العلماء : إن الاستغفار نفسه عبادة كالتسبيح ، فلا يلزم منه وجود ذنب .
وقيل : هو تعليم لأمته .
وقيل : رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم .
وقد جاء في السنة ، أنه صلى الله عليه وسلم قال : " توبوا إلى الله ، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة " ، فتكون أيضا من باب الاستكثار من الخير ، والإنابة إلى الله .
تنبيه
جاء في التفسير عند الجميع أنه صلى الله عليه وسلم منذ أن نزلت هذه السورة وهو لم يكن يدع قوله : " سبحانك اللهم وبحمدك " تقول عائشة رضي الله عنها : " يتأول القرآن " أي : يفسره ، ويعمل به .
ونقل أبو حيان عن الزمخشري أنه قال : والأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر [ ص: 142 ] بما هو قوام أمر الدين ، من الجمع بين الطاعة والاحتراز من المعصية ، وليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمته ، ولأن الاستغفار من التواضع وهضم النفس فهو عبادة في نفسه .
وفي هذا لفت نظر لأصحاب الأذكار والأوراد الذين يحرصون على دوام ذكر الله تعالى ، حيث هذا كان من أكثر ما يداوم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في أذكار الصباح والمساء دون الملازمة على ذكر اسم من أسماء الله تعالى وحده ، منفردا مما لم يرد به نص صحيح ولا صريح .
ولا شك أن الخير كل الخير في الاتباع لا في الابتداع ، وأي خير أعظم مما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في آخر حياته ، ويأمره به ، ويلازم هو عليه .
وقلنا في آخر حياته : لأنه صلى الله عليه وسلم توفي بعدها بمدة يسيرة .
وفي هذه الآية دلالة الإيماء ، كما قالوا : ودلالة الالتزام كما جاء عن ابن عباس في قصة عمر رضي الله عنه مع كبار المهاجرين والأنصار ، حينما كان يسمح له بالجلوس معهم ، ويرى في وجوههم ، وسألوه وقالوا : إن لنا أولادا في سنه ، فقال : إنه من حيث علمتم .
وفي يوم اجتمعوا عنده فدعاه عمر ، قال ابن عباس : فعلمت أنه ما دعاني إلا لأمر ، فسألهم عن قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح ، السورة .
فقالوا : إنها بشرى بالفتح وبالنصر ، فقال : ما تقول أنت يا ابن عباس ؟
قال : فقلت ، لا والله ، إنها نعت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين أظهرنا .
فقال عمر : وأنا لا أعرف فيها إلا كما قلت ، أي : أنه صلى الله عليه وسلم جاء لمهمة ، وقد تمت بمجيء النصر والفتح والدخول في الدين أفواجا .
وعليه يكون قد أدى الأمانة وبلغ الرسالة . فعليه أن يتأهب لملاقاة ربه ليلقى جزاء عمله ، وهو مأخذ في غاية الدقة ، وبيان لقول علي رضي الله عنه : أو فهم أعطاه الله من شاء في كتاب الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:01 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (612)
سُورَةُ الْإِخْلَاص
صـ 143 إلى صـ 152
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْمَسَد
قوله تعالى : تبت يدا أبي لهب وتب . التب : القطع .
ومن المادة : بت بتقديم الباء ، فهي تدور على معنى القطع ، كما يفيده فقه اللغة في دوران المادة على معنى واحد .
وقال : التب ، والتبب ، والتباب ، والتبيب ، والتتبيب : النقص والخسار ، إلى أن قال : وتبت يداه : ضلتا وخسرتا .
وقال الفخر الرازي : التبات : الهلاك ، ونظيره قوله تعالى : وما كيد فرعون إلا في تباب [ 40 \ 37 ] ، أي : في هلاك .
وذلك لأن أبا لهب أهلك نفسه بفساد اعتقاده وسوء فعاله ، كما جاء في السنة قول الأعرابي : هلكت وأهلكت : أي بوقاعه أهله في رمضان ، وجاء قوله تعالى : فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب [ 11 \ 101 ] .
فقالوا : غير خسران ، والخسران يؤدي إلى الهلاك ، والقطع .
كما جاء في معناه في قصة صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام . قوله تعالى : فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير تخسير [ 11 \ 63 ] ، فظهر من هذا كله أن معنى : تبت يدا أبي لهب ، دائر بين معنى القطع والهلاك والخسران .
أما قطعها فلم يقدر عليه قطع يديه قبل موته .
وأما الهلاك والخسران : فقد هلك بالغدة .
وأما الخسران : فما أشد خسرانه بعد هذا الحكم عليه من الله تعالى .
[ ص: 144 ] وإذا كان المعنى قد تعين بنص القرآن في الهلاك والخسران ، فما معنى إسناد التب لليدين ؟
الجواب : أن ذلك من باب إطلاق البعض وإرادة الكل كما تقدم في قوله تعالى : ناصية كاذبة [ 96 \ 16 ] ، مع أن الكاذب هو صاحبها .
وقد قدمنا هناك أن مثل هذا الأسلوب لا بد فيه من زيادة اختصاص للجزء المنطوق في المعنى المراد .
فلما كان الكذب يسود الوجه ويذل الناصية ، وعكسه الصدق يبيض الوجه ويعز الناصية ، أسند هناك الكذب إلى الناصية لزيادة اختصاصها بالكذب عن اليد مثلا .
ولما كان الهلاك والخسران غالبا بما تكسبه الجوارح ، واليد أشد اختصاصا في ذلك أسند إليها البت .
ومما يدل على أن المرد صاحب اليدين ، ما جاء بعدها ، قوله تعالى : وتب ، أي : أبو لهب نفسه .
وسواء كان قوله تعالى : تبت يدا أبي لهب ، على سبيل الإخبار أو الإنشاء ، فإنه محتمل من حيث اللفظ .
ولكن قوله تعالى بعده : وتب ، فهو إخبار ، فيكون الأول للإنشاء كقوله : قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] .
ثم جاء الثاني تصديقا له ، وجاءت قراءة ابن مسعود " وقد تب " .
قوله تعالى : ما أغنى عنه ماله وما كسب . سواء كانت ما استفهامية فهو استفهام إنكار ، أو كانت نافية فإنه نص على أن ماله لم يغن عنه شيئا .
وقوله : وما كسب .
فقيل : أي من المال الأول ما ورثه أو ما كسب من عمل جر عليه هذا الهلاك ، وهو عداؤه لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونظير هذه الآية المتقدمة : وما يغني عنه ماله إذا تردى [ 92 \ 11 ] .
[ ص: 145 ] وتقدم الكلام عليه هناك .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى ما أغنى عنه ماله وما كسب ، عند قوله تعالى : من ورائهم جهنم ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ولهم عذاب عظيم [ 45 \ 10 ] .
وساق كل النصوص في هذا المعنى بتمامها .
تنبيه
في هذه الآية سؤالان هما :
أولا : لقد كان صلى الله عليه وسلم مع قومه في مكة ملاطفا حليما ، فكيف جابه عمه بهذا الدعاء : تبت يدا أبي لهب ؟ والجواب : أنه كان يلاطفهم ما دام يطمع في إسلامهم ، فلما يئس من ذلك ، كان هذا الدعاء في محله ، كما وقع من إبراهيم عليه السلام ، كان يلاطف أباه : ياأبت لا تعبد الشيطان [ 19 \ 44 ] . ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا [ 19 \ 43 ] ، فلما يئس منه تبرأ منه كما قال تعالى : فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] .
والسؤال الثاني : وهو مجيء قوله تعالى : وتب ، بعد قوله : تبت يدا أبي لهب ، مع أنها كافية سواء كانت إنشاء للدعاء عليه أو إخبارا بوقوع ذلك منه .
والجواب ، والله تعالى أعلم : أن الأول لما كان محتملا الخبر ، وقد يمحو الله ما يشاء ويثبت ، أو إنشاء وقد لا ينفذ كقوله : قتل الإنسان ما أكفره [ 80 \ 17 ] ، أو يحمل على الذم فقط ، والتقبيح فجاء " وتب " لبيان أنه واقع به لا محالة ، وأنه ممن حقت عليهم كلمات ربك لييأس صلى الله عليه وسلم ، والمسلمون من إسلامه . وتنقطع الملاطفة معه ، والله تعالى أعلم .
وقد وقع ما أخبر الله به ، فهو من إعجاز القرآن أن وقع ما أخبر به كما أخبر ولم يتخلف .
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا [ 6 \ 115 ] ، وقوله : كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون [ 10 \ 33 ] .
[ ص: 146 ] نسأل الله العافية ، إنه سميع مجيب .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْإِخْلَاص
قوله تعالى : قل هو الله أحد . الأحد : قال القرطبي : أي : الواحد الوتر ، الذي لا شبيه له ولا نظير ، ولا صاحبة ، ولا ولد ، ولا شريك . ا هـ .
ومعلوم أن كل هذه المعاني صحيحة في حقه تعالى .
وأصل أحد : وحد ، قلبت الواو همزة .
ومنه قول النابعة :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد
وقال الفخر الرازي في أحد وجهان :
أحدهما : أنه بمعنى واحد .
قال الخليل : يجوز أن يقال : أحد اثنان ثلاثة ، ثم ذكر أصلها وحد ، وقلبت الواو همزة للتخفيف .
والثاني : أن الواحد والأحد ليسا اسمين مترادفين .
قال الأزهري : لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى ، لا يقال : رجل أحد ولا درهم أحد ، كما يقال : رجل واحد أي فرد به ، بل أحد صفة من صفات الله تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء .
ثم قال : ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوها :
أحدها : أن الواحد يدخل في الأحد ، والأحد لا يدخل فيه .
وثانيها : أنك لو قلت : فلان لا يقاومه واحد ، جاز أن يقال : لكنه يقاومه اثنان بخلاف الأحد .
[ ص: 148 ] فإنك لو قلت : فلان لا يقاومه أحد ، لا يجوز أن يقال : لكنه يقاومه اثنان .
وثالثها : أن الواحد يستعمل في الإثبات ، والأحد يستعمل في النفي .
تقول في الإثبات رأيت رجلا واحدا .
وتقول في النفي : ما رأيت أحدا ، فيفيد العموم .
أما ما نقله عن الخليل ، وقد حكاه صاحب القاموس فقال : ورجل واحد وأحد ، أي : خلافا لما قاله الأزهري .
وأما قوله : إن أحدا تستعمل في النفي فقد جاء استعمالها في الإثبات أيضا .
كقوله : أو جاء أحد منكم من الغائط [ 4 \ 43 ] .
فتكون أغلبية في استعمالها ودلالتها في العموم واضحة .
وقال في معجم مقاييس اللغة في باب الهمزة والحاء وما بعدها : أحد ، إنها فرع والأصل الواو وحد .
وقد ذكر في الواو وفي مادة وحد . قال : الواو والحاء والدال أصل واحد يدل على الانفراد من ذلك الوحدة بفتح الواو وهو واحد قبيلته ، إذا لم يكن فيهم مثله قال :
يا واحد العرب الذي ما في الأنام له نظير
وقيل : إن هذا البيت لبشار يمدح عقبة بن مسلم ، أو لابن المولى يزيد بن حاتم ، نقلا عن الأغاني .
فيكون بهذا ثبت أن الأصل بالواو والهمزة فرع عنه .
وتقدم أن دلالتها على العموم أوضح أي أحد .
وقد دلت الآية الكريمة ، على أن الله سبحانه وتعالى أحد ، أي في ذاته وصفاته لا شبيه ولا شريك ، ولا نظير ولا ند له ، سبحانه وتعالى .
وقد فسره ضمنا قوله : ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 4 ] .
[ ص: 149 ] وقوله : ليس كمثله شيء ، أما المعنى العام فإن القرآن كله ، والرسالة المحمدية كلها ، بل وجميع الرسالات : إنما جاءت لتقرير هذا المعنى ، بأن الله سبحانه واحد أحد . بل كل ما في الوجود شاهد على ذلك .
كما قيل :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
أما نصوص القرآن على ذلك فهي أكثر من أن تحصى ; لأنها بمعنى لا إله إلا الله .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، إشارة إلى ذلك في أول الصافات وفي غيرها ، وفي البقرة وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم [ 2 \ 163 ] .
وفي التوبة : وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو [ 9 \ 31 ] ، فجاء مقرونا بلا إله إلا الله .
وفي ص قوله : قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار [ 38 \ 65 ] .
وكما قدمنا أن الرسالة كلها جاءت لتقرير هذا المعنى ، كما في قوله : هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد [ 14 \ 52 ] ، سبحانه جل جلاله وتقدست أسماؤه ، وتنزهت صفاته ، فهو واحد أحد في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله .
وقد جاء القرآن بتقرير هذا المعنى عقلا كما قرره نقلا ، وذلك في قوله تعالى : قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا [ 17 \ 42 - 43 ] .
وقوله : لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا [ 21 \ 22 ] .
فدل على عدم فسادهما بعدم تعددهما ، وجمع العقل والنقل في قوله : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون [ 23 \ 91 ] .
[ ص: 150 ] قوله تعالى : الله الصمد .
قال بعض المفسرين : يفسره ما بعده لم يلد ولم يولد [ 112 \ 3 ] .
وقال ابن كثير ، وهذا معنى حسن .
وقال بعض العلماء : هو المتناهي في السؤدد ، وفي الكمال من كل شيء .
وقيل : من يصمد الخلائق إليه في حاجاتهم ، ولا يحتاج هو إلى أحد .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، معنى الصمد في سورة الأنعام عند قوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم [ 6 \ 14 ] فذكر شواهد هذه الأقوال كلها .
وبإمعان النظر في مبدأ يفسره ما بعده ، يتضح أن السورة كلها تفسير لأولها قل هو الله أحد لأن الأحدية هي تفرده سبحانه بصفات الجلال والكمال كلها ، ولأن المولود ليس بأحد ، لأنه جزء من والده .
والوالد ليس بأحد ; لأن جزءا منه في ولده .
وكذلك من يكون له كفء ، فليس بأحد لوجود الكفء ، وهكذا السورة كلها لتقرير قل هو الله أحد .
قوله تعالى : لم يلد ولم يولد .
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، بيان شواهده عند قوله تعالى : الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك الآية [ 25 \ 2 ] من سورة الإسراء .
تنبيه
ففي اتخاذ الولد لا يستلزم نفي الولادة ; لأن اتخاذ الولد قد يكون بدون ولادة كالتبني أو غيره ، كما في قصة يوسف في قوله تعالى عن عزيز مصر : أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا [ 12 \ 21 ] .
ففي هذه السورة نفي أخص ، فلزم التنبيه عليه في هذه السورة الكريمة وهي سورة [ ص: 151 ] الإخلاص . والتي تعدل ثلث القرآن لاختصاصها بحق الله تعالى في ذاته وصفاته من الوحدانية والصمدية ، ونفي الولادة والولد ، ونفي الكفء ، وكلها صفات انفراد لله سبحانه .
وقد جاء فيها النص الصريح بعدم الولادة ، وأنه سبحانه وتعالى لم يلد ولم يولد ، فهي أخص من تلك ، وهذا من المسلمات عند المسلمين جميعا بدون شك ولا نزاع ولم يؤثر فيها أي خلاف .
ولكن غير المسلمين لم يسلموا بذلك ، فاليهود قالوا : عزير ابن الله ، والنصارى قالوا : المسيح ابن الله ، والمشركون قالوا : الملائكة بنات الله .
فاتفقوا على ادعاء الولد لله ، ولم يدع أحد أنه سبحانه مولود .
وقد جاءت النصوص الصريحة في نفي الولد عن الله سبحانه وتعالى ، إلا أن مجرد النص الذي لم يؤمن به الخصم لا يكفي لإقناعه ، وفي هذه السورة وهي المختصة بصفات الله ، لم يأت التنويه فيها عن المانع من اتخاذ الله للولد ، ومن كونه سبحانه لم يولد .
ولما كان بيان المانع أو الموجب من منهج هذا الكتاب ، إذا كان يوجد للحكم موجب أو مانع ولم تتقدم الإشارة إلى ذلك ، فيما تقدم من كلام الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مع أنه رحمه الله ، قد تكلم على آيات الأسماء والصفات جملة وتفصيلا ، بما يكفي ويشفي .
ولكن جاء في القرآن الكريم ذكر ادعاء الولد لله ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
وجاء الرد من الله تعالى مع بيان المانع مفصلا مع الإشعار بالدليل العقلي ، ولذا لزم التنويه عليه ، وذلك في قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [ 2 \ 116 - 117 ] .
فهذا نص صريح فيما قالوه : اتخذ الله ولدا .
[ ص: 152 ] ونص صريح في تنزيه الله سبحانه وتسبيحه عما قالوا .
ثم جاء حرف الإضراب عن قولهم : بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون ، ففيه بيان المانع عقلا من اتخاذ الولد بما يلزم الخصم ، وذلك أن غاية اتخاذ الولد أن يكون بارا بوالده ، وأن ينتفع الوالد بولده . كما في قوله تعالى : المال والبنون زينة الحياة الدنيا [ 18 \ 46 ] ، أو يكون الولد وارثا لأبيه كما في قوله تعالى عن نبي الله تعالى زكريا عليه السلام : فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب الآية [ 19 \ 5 - 6 ] .
والله سبحانه وتعالى حي باق يرث ولا يورث كما قال تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك الآية [ 55 \ 26 - 27 ] .
وقوله : ولله ميراث السماوات والأرض [ 3 \ 180 ] .
فإذا كان لله سبحانه وتعالى كل ما في السماوات والأرض في قنوت وامتثال طوعا أو كرها ، كما قال تعالى : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 92 - 93 ] .
فهو سبحانه وتعالى ليس في حاجة إلى الولد لغناه عنه .
ثم بين سبحانه قدرته على الإيجاد والإبداع في قوله تعالى : بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون [ 2 \ 117 ] .
وهذا واضح في نفي الولد عنه سبحانه وتعالى .
وقد تمدح سبحانه في قوله : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [ 17 \ 111 ] .
أما أنه لم يولد . فلم يدع أحد عليه ذلك ; لأنه ممتنع عقلا ، بدليل الممانعة المعروف وهو كالآتي :
لو توقف وجوده سبحانه على أن يولد لكان في وجوده محتاجا إلى من يوجده ، ثم يكون من يلده في حاجة إلى والد ، وهكذا يأتي الدور والتسلسل وهذا باطل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:02 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (613)
سُورَةُ الْفَلَق
صـ 153 إلى صـ 162
[ ص: 153 ] وكذلك فإن الحاجة إلى الولد بنفيها معنى الصمدية المتقدم ذكره ، ولو كان له والد لكان الوالد أسبق وأحق ، تعالى الله عن ذلك .
وقد يقال : من جانب الممانعة العقلية لو افترض على حد قوله : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 43 \ 81 ] .
فنقول على هذا الافتراض : لو كان له ولد فما مبدأ وجود هذا الولد وما مصيره ؟ فإن كان حادثا فمتى حدوثه ؟ وإن كان قديما تعدد القدم ، وهذا ممنوع .
ثم إن كان باقيا تعدد البقاء ، وإن كان منتهيا فمتى انتهاؤه ؟
وإذا كان مآله إلى الانتهاء فما الحاجة إلى إيجاده مع عدم الحاجة إليه ، فانتفى اتخاذ الولد عقلا ونقلا ، كما انتفت الولادة كذلك عقلا ونقلا .
وقد أورد بعض المفسرين سؤالا في هذه الآية ، وهو لماذا قدم نفي الولد على نفي الولادة ؟ مع أن الأصل في المشاهد أن يولد ثم يلد ؟
وأجاب بأنه من تقديم الأهم لأنه رد على النصارى في قولهم : عيسى ابن الله ، وعلى اليهود في قولهم : عزير ابن الله ، وعلى قول المشركين : الملائكة بنات الله ، ولأنه لم يدع أحد أنه سبحانه مولود لأحد ، فكانت دعواهم الولد لله فرية عظمى . ا هـ .
كما قال تعالى : كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا [ 18 \ 5 ] .
وقوله : وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا [ 19 \ 88 - 91 ] .
فلشناعة هذه الفرية قدم ذكرها ، ثم الرد على عدم إمكانها بقوله : وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [ 19 \ 92 - 93 ] .
وقد قدمنا دليل المنع عقلا ونقلا .
[ ص: 154 ] وهنا سؤال أيضا ، وهو إذا كان ادعاء الولد قد وقع ، وجاء الرد عليه : فإن ادعاء الولادة لم يقع ، فلماذا ذكر نفيه مع عدم ادعائه ؟
والجواب والله تعالى أعلم : أن من جوز الولادة له وأن يكون له ولد ، فقد يجوز الولادة عليه ، وأن يكون مولودا فجاء نفيها تتمة للنفي والتنزيه ، كما في حديث البحر ، كان السؤال عن الوضوء من مائه فقط ، فجاء الجواب عن مائه وميتته ; لأن ما احتمل السؤال في مائه يحتمل الاشتباه في ميتته . والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ولم يكن له كفوا أحد . قالوا : كفؤا وكفوا وكفاء ، بمعنى واحد ، وهو المثل .
وقد تعددت أقوال المفسرين في معنى الآية ، وكلها تدور على معنى نفي المماثلة .
فعن كعب وعطاء : لم يكن له مثل ولا عديل .
وروى ابن جرير عن ابن عباس : أنه بمعنى ليس كمثله شيء .
وعن مجاهد : أي لا صاحبة له .
وقد جاء نفي الكفء والمثل والند والعدل ، فالكفء في هذه السورة والمثل في قوله : ليس كمثله شيء ، وقوله : فلا تضربوا لله الأمثال [ 16 \ 74 ] .
والند في قوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 22 ] .
والعدل في قوله : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ 6 \ 1 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه عند آية الأنعام بيان لذلك ، أي يساوونه بغيره من العدل بكسر أوله ، وهو أحد شقي حمل البعير على أحد التفسيرين ، والآخر من العدول عنه إلى غيره .
وفي هذه السورة مبحثان يوردهما المفسرون . أحدهما : أسباب نزولها ، والآخر : ما جاء في فضلها ، ولم يكن من موضوع هذا الكتاب تتبع ذلك ، إلا ما كان له دوافع تتعلق بالمعنى .
[ ص: 155 ] أما ما جاء في فضلها ، فقد قال أبو حيان في تفسيره : لقد أكثر المفسرون إيراد الآثار في ذلك ، وليس هذا محلها ، وهو كما قال ، فقد أوردها ابن كثير والفخر الرازي والقرطبي وابن حجر في الإصابة في ترجمة معاذ بن جبل وغيرهم ، وليس هذا محل إيرادها ، اللهم إلا ما جاء في الصحيح : أن تلاوتها تعدل ثلث القرآن لتعلق موضوعها بالتوحيد .
أما المبحث الآخر وهو سبب نزولها ، فقيل فيه . إن المشركين طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن ينسب لهم ربه ، فنزلت .
وقوله فيها : لم يلد ولم يولد ، رد على إثبات النسب له سبحانه وتعالى .
وقد جاء مثل هذا المعنى حينما سأل فرعون موسى عن ربه ، فقال له : وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] .
فجاء جوابه : قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون [ 26 \ 24 - 27 ] .
وكنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أن موجب قول فرعون عن موسى " لمجنون " ; لأنه سأله بما في قوله : قال فرعون وما رب العالمين ، وما يسأل بها عن شرح الماهية فكان مقتضى السؤال بها أن يبين ماهية الرب سبحانه وتعالى ، من أي شيء هو ، كما يقال في جواب : ما الإنسان ؟ إنه حيوان ناطق .
ولكن موسى عليه السلام أعرض عن سؤال فرعون لجهله عن حقيقة الله تعالى أو لتجاهله ، كما في قوله تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم [ 27 \ 14 ] ، وأجابه عما يخصه ويلزمه الاعتراف به من أنه سبحانه رب السماوات والأرض وما بينهما ، لا ربوبية فرعون الكاذبة .
ومثل ذلك في القرآن ، لما سألوا عن الأهلة ، ما بالها تبدو صغيرة ، ثم تكبر ؟ فهو سؤال عن حقيقة تغيرها ، فترك القرآن جوابهم على سؤالهم وأجابهم بما يلزمهم وينفعهم .
وكذلك جواب الخليل عليه السلام للنمروذ حينما حاجه في ربه : إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت [ 2 \ 258 ] .
[ ص: 156 ] فذكره سبحانه بصفاته ، وفي هذه السورة لما سألوا عن حقيقة الله ونسبه جاء الجواب بصفاته ; لأن ما يسألون عنه إنما يكون في المخلوقات لا في الخالق سبحانه ، وفي الممكن لا في الواجب الوجود لذاته ، سبحان من لا يدرك كنهه غيره ، وصدق الله العظيم في قوله : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 \ 11 ] ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] .
[ ص: 157 ] المعوذتان سورة الفلق وسورة الناس
يذكر المفسرون عن ابن مسعود أنه كان يراهما معوذتين من غير القرآن ، ولكن أبي بن كعب قال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له : قل أعوذ برب الفلق [ 113 \ 1 ] فقلتها وقال قل أعوذ برب الناس [ 114 \ 1 ] فقلتها فنحن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره ابن كثير عن الإمام أحمد . وذكر نحوه عن البخاري ثم قال : ثم قد رجع عن قوله إلى قول الجماعة ، فإن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوهما في المصاحف الأئمة ، ونفذوها إلى سائر الآفاق . وروي عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة وساق عدة طرق في إثبات أنهما قرآن ، مما ينفي أي خلاف بعد ذلك في إثباتهما . وقد اعتذر القرطبي عن ابن مسعود ، بأنه لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنهما قرآن وسمعهما فظنهما أنهما دعاء من الأدعية ، كقوله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " . ولما بلغه إثباتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الجمهور . ومن الجدير بالذكر التنويه عن ارتباطهما بسورة الإخلاص قبلهما . وهو أنه سبحانه لما ذكر أنه سبحانه وتعالى الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، والصمد من معانيه الذي تصمد الخلائق إليه في حاجاتهم ، جاء في هاتين السورتين توجيه العباد إلى من يستعيذون ويلوذون به ، وهو الله الصمد سبحانه ، فهو وحده الذي يعيذهم ويحفظهم وهو الذي يلجئون إليه سبحانه . وقل أعوذ برب الفلق : تعادل الاستعاذة بالخالق مما خلق ; لأن كل منغلق عن غيره ، إلا الله الواحد الذي لم يلد ولم يولد . الثانية بعدها : قل أعوذ برب الناس ، إله الناس . وسيأتي إن شاء الله تعالى تنبيه على ما يعطيه السياق من ختم المصحف الشريف بهاتين السورتين الكريمتين ، والمقارنة بينهما لبيان عظم منزلتهما . كما أن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، قد أحال على سورة الناس لإتمام مبحث إفراد الله تعالى بالعبادة ، كما سنوضحه كله إن شاء الله في محله ، وبالله تعالى التوفيق .
[ ص: 157 ] الْمُعَوِّذَتَا نِ سُورَةُ الْفَلَقِ وَسُورَةُ النَّاس
يذكر المفسرون عن ابن مسعود أنه كان يراهما معوذتين من غير القرآن ، ولكن أبي بن كعب قال : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل عليه السلام قال له : قل أعوذ برب الفلق [ 113 \ 1 ] فقلتها وقال قل أعوذ برب الناس [ 114 \ 1 ] فقلتها فنحن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره ابن كثير عن الإمام أحمد . وذكر نحوه عن البخاري ثم قال : ثم قد رجع عن قوله إلى قول الجماعة ، فإن الصحابة رضي الله عنهم أثبتوهما في المصاحف الأئمة ، ونفذوها إلى سائر الآفاق . وروي عن الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة وساق عدة طرق في إثبات أنهما قرآن ، مما ينفي أي خلاف بعد ذلك في إثباتهما . وقد اعتذر القرطبي عن ابن مسعود ، بأنه لم يسمعهما من النبي صلى الله عليه وسلم ، على أنهما قرآن وسمعهما فظنهما أنهما دعاء من الأدعية ، كقوله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق " . ولما بلغه إثباتهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الجمهور . ومن الجدير بالذكر التنويه عن ارتباطهما بسورة الإخلاص قبلهما . وهو أنه سبحانه لما ذكر أنه سبحانه وتعالى الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، والصمد من معانيه الذي تصمد الخلائق إليه في حاجاتهم ، جاء في هاتين السورتين توجيه العباد إلى من يستعيذون ويلوذون به ، وهو الله الصمد سبحانه ، فهو وحده الذي يعيذهم ويحفظهم وهو الذي يلجئون إليه سبحانه . وقل أعوذ برب الفلق : تعادل الاستعاذة بالخالق مما خلق ; لأن كل منغلق عن غيره ، إلا الله الواحد الذي لم يلد ولم يولد . الثانية بعدها : قل أعوذ برب الناس ، إله الناس . وسيأتي إن شاء الله تعالى تنبيه على ما يعطيه السياق من ختم المصحف الشريف بهاتين السورتين الكريمتين ، والمقارنة بينهما لبيان عظم منزلتهما . كما أن الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، قد أحال على سورة الناس لإتمام مبحث إفراد الله تعالى بالعبادة ، كما سنوضحه كله إن شاء الله في محله ، وبالله تعالى التوفيق .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْفَلَق
قيل : إنه لما صرح تعالى بخالص التوحيد في سورة الإخلاص ، وهي معركة الإيمان والشرك ، ومثار الخلاف والخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه ، أمر صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من شرور الخلق فلا يضروه . إلخ .
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى : قل أعوذ برب الفلق
. قال أبو حيان وغيره : الفلق فعل بمعنى مفعول أي مفلوق ، واختلف في المراد بذلك .
فقيل : إنه الصبح يتفلق عنه الليل .
وقيل : الحس والنوى .
وقيل : هو جب في جهنم .
وقال بعض المفسرين : كل ما فلقه الله عن غيره ، كالليل عن الصبح ، والحب والنوى عن النبت ، والأرض عن النبات ، والجبال عن العون ، والأرحام عن الأولاد ، والسحاب عن المطر .
وقال ابن جرير : إن الله أطلق ولم يقيد ، فتطلق كذلك كما أطلق .
والذي يظهر أن كل الأقوال ما عدا القول بأنه جب في جهنم من قبيل اختلاف التنوع ، وأنها كلها محتملة ، قال ابن جرير على الإطلاق .
أما القول بأنه جب في جهنم ، فلم يثبت فيه نص ، وليست فيه أية مشاهدة يحال عليها للدلالة على قدرة الله تعالى ، كما في الأشياء الأخرى المشاهدة .
[ ص: 159 ] والذي يشهد له القرآن هو الأول ، كما جاء النص الصريح في الصبح والحب والنوى ، كقوله تعالى : إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم [ 6 \ 95 - 96 ] .
وكلها آيات دالة على قدرة الله ، وجاء في حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي ، وأنه صلى الله عليه وسلم ما كان يرى رؤيا ، إلا جاءت كفلق الصبح .
والفلق : بمعنى الصبح معروف في كلام العرب .
وعليه قول الشاعر :
يا ليلة لم أنمها بت مرتقبا أرعى النجوم إلى أن قدر الفلق
وقول الآخر مثله وفيه : إلى أن نور الفلق بدل قدر ، والواقع أنه في قوة الإقسام برب الكون كله يتفلق بعضه عن بعض .
قوله تعالى : من شر ما خلق . وهذا عام وهو على عمومه ، حتى قال الحسن : إن إبليس وجهنم مما خلق .
وللمعتزلة في هذه الآية كلام حول خلق أفعال العباد ، وأن الله لا يخلق الشر ، وقالوا : كيف يخلقه ويقدره ، ثم يأمر بالاستعاذة به سبحانه مما خلقه وقدره ؟
وأجيب من أهل السنة : بأنه لا مانع من ذلك ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " وأعوذ بك منك " .
وقد قال تعالى : الله خالق كل شيء [ 13 \ 16 ] .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، ئيمناقشة هذه المسألة في مناظرة الإسفراييني مع الجبائي في القدر .
ومعلوم أن المخلوق لا يتأتى منه شيء قط إلا بمشيئة الخالق ، وما تشاءون إلا أن يشاء الله .
قوله تعالى : ومن شر غاسق إذا وقب .
[ ص: 160 ] الغاسق : قيل الليل ، لقوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل [ 17 \ 78 ] .
ووقب : أي دخل .
وعليه قول الشاعر :
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقول الآخر :
يا طيف هند قد أبقيت لي أرقا إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا
قال القرطبي : وهذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم .
وقيل : الغاسق : القمر إذا كان في آخر الشهر ، لحديث عائشة عند الترمذي " أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لها : تعوذي من هذا فإنه الغاسق إذا وقب " . أي القمر .
وقائل هذا القول يقول : إنه أنسب لما يجيء بعده من السحر ، لأنه أكثر ما يكون عندهم في آخر الشهر .
ونقل القرطبي عن ثعلب ، عن ابن الأعرابي ، أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر ، أي سقوطه وغيوبته .
وأنشد قول الشاعر :
أراحني الله من أشياء أكرهها منها العجوز ومنها الكلب والقمر
هذا يبوح وهذا يستضاء به وهذه ضمرز قوامة السحر
والضمرز : الناقة المسنة ، والمرأة الغليظة .
والصحيح الأول : الذي هو الليل بشهادة القرآن .
والثاني : تابع له ; لأن القمر في ظهوره واختفائه مرتبط بالليل ، فهو بعض ما يكون في الليل ، وفي الليل تنتشر الشياطين وأهل الفساد ، من الإنسان والحيوان ويقل فيه المغيث إلا الله .
[ ص: 161 ] وفي الحديث : " أطفئوا السرج فإن الفويسقة تضرم على الناس بيوتهم ليلا " . أي : الفأرة .
قوله تعالى : ومن شر النفاثات في العقد
. المراد به السحرة قطعا ، سواء كان النفث من النساء كما هو ظاهر اللفظ ، أو من الرجال على معنى الجماعات ، أو النفوس الشريرة فتشمل النوعين .
وأجمع المفسرون : أنها نزلت في لبيد بن الأعصم ، لما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه جبريل عليه السلام وأخبره .
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث السحر وأقسامه وأحكامه وكل ما يتعلق به ، عند الكلام على قوله تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى [ 20 \ 69 ] ، من سورة طه ، ما عدا مسألة واحدة ، وهي حكم ما لو قتل أو أتلف شيئا بسحره ، فما يكون حكمه ، ونوردها موجزة .
مسألة
ذكر ابن قدامة في المغني رحمه الله النوع السادس من أنواع القتل : أن يقتله بسحر يقتل غالبا فيلزمه القود ، وإن كان مما لا يقتل غالبا ، ففيه الدية ا هـ .
وذكر النووي في المنهاج شرح مغني المحتاج للشافعية : التنبيه على أنه يقتل كذلك .
وذكر مثله ابن حجر في الفتح : أن الساحر يقتل إذا قتل بسحره .
تنبيه
يقع تأثير السحر على الحيوان كما يقع على الإنسان .
قال أبو حيان : أخبرني من رأى في بعض الصحراء عند بعضهم خيطا أحمر ، قد عقدت فيه عقد على فصلان ، أي جمع فصيل ، فمنعت من رضاع أمهاتها بذلك ، فكان إذا حل عقدة جرى ذلك الفصيل إلى أمه في الحين فرضع . ا هـ .
كما يقع الحسد أيضا على الحيوان ، بل وعلى الجماد أي عين العائن تؤثر في [ ص: 162 ] الحيوان والجماد والنبات ، كما تؤثر في الإنسان على ما سيأتي إن شاء الله .
قوله تعالى : ومن شر حاسد إذا حسد .
اقتران الحسد بالسحر هنا ، يشير إلى وجود علاقة بين كل من السحر والحسد ، وأقل ما يكون هو التأثير الخفي الذي يكون من الساحر بالسحر ، ومن الحاسد بالحسد مع الاشتراك في عموم الضرر ، فكلاهما إيقاع ضرر في خفاء ، وكلاهما منهي عنه .
وقد أوضح فضيلة الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، أنواع السحر وأحكامه وأورد فيه كلاما وافيا .
وقد ظهر بما قدمنا : أن الحسد له علاقة بالسحر نوعا ما ، فلزم إيضاحه وبيان أمره بقدر المستطاع ، إن شاء الله .
أولا : تعريفه : قالوا : إن الحسد هو تمني زوال نعمة الغير ، أو عدم حصول النعمة للغير شحا عليه بها .
وقد قيدت الاستعاذة من شر الحاسد إذا حسد ، أي عند إيقاعه الحسد بالفعل ، ولم يقيدها من شر الساحر إذا سحر .
وذلك والله تعالى أعلم : أن النفث في العقد هو عين السحر ، فتكون الاستعاذة واقعة موقعها عند سحره الواقع منه بنفثه الحاصل منه في العقد .
أما الحاسد فلم يستعذ منه إلا عند إيقاعه الحسد بالفعل ، أي : عند توجهه إلى المحسود ; لأنه قبل توجهه إلى المحسود بالحسد لا يتأتى منه شر ، فلا محل للاستعاذة منه .
أما حقيقة الحسد : فيتعذر تعريفه منطقيا .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه أنه قال في السحر : لا يمكن تعريفه لخفائه .
ومعلوم أن الحسد أشد خفاء ; لأنه عمل نفسي وأثر قلبي ، وقد قيل فيه : إنه كإشعاع غير مرئي ، ينتقل من قلب الحاسد إلى المحسود ، عند تحرقه بقلبه على المحسود ، وقد شبه حسد الحاسد بالنار في قولهم :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:02 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (614)
سُورَةُ النَّاس
صـ 163 إلى صـ 174
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله كالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله
وقد أنكر بعض الفلاسفة وقوع الحسد ، حيث إنه غير مشاهد وهم محجوجون بكل موجود غير مشاهد ، كالنفس والروح والعقل .
وقد شوهدت اليوم أشعة إكس وهي غير مرئية ، ولكنها تنفذ إلى داخل الجسم من إنسان وحيوان ، بل وخشب ونحوه . ولا يردها إلا مادة الرصاص لكثافة معدنه ، فتصور داخل جسم الإنسان من عظام وأمعاء وغيرها ، فلا معنى لرد شيء لعدم رؤيته .
تنبيه
قد أطلق الحسد هنا ولم يبين المحسود عليه ، ما هو مع أنه كما تقدم زوال النعمة عن الغير .
وقد نبه القرآن الكريم على أعظم النعمة التي حسد عليها المسلمون عامة ، والرسول صلى الله عليه وسلم خاصة ، وهي نعمة الإسلام ونعمة الوحي وتحصيل الغنائم .
فأهل الكتاب حسدوا المسلمين على الإسلام في قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] .
والمشركون حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي إليه ، كما في قوله تعالى : أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله [ 4 \ 54 ] .
والناس هنا عام أريد به الخصوص ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ، كما في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم [ 3 \ 173 ] .
فالناس الأولى عام أريد به خصوص رجل واحد ، وهو نعيم بن مسعود الأشجعي .
ومما جاء فيه الحسد عن نعمة متوقعة . قوله تعالى : سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا [ 48 \ 15 ] .
[ ص: 164 ] فتبين بنص القرآن أن الحسد يكون في نعمة موجودة ، ويكون في نعمة متوقع وجودها .
تنبيه آخر
توجد العين كما يوجد الحسد ، ولم أجد من فرق بينهما مع وجود الفرق .
وقد جاء في الصحيح : " إن العين لحق " .
كما جاء في السنن : " لو أن شيئا يسبق القدر لسبقته العين " .
ويقال في الحسد : حاسد ، وفي العين : عائن ، ويشتركان في الأثر ، ويختلفان في الوسيلة والمنطلق .
فالحاسد : قد يحسد ما لم يره ، ويحسد في الأمر المتوقع قبل وقوعه ، ومصدره تحرق القلب واستكثار النعمة على المحسود ، وبتمني زوالها عنه أو عدم حصولها له وهو غاية في حطة النفس .
والعائن : لا يعين إلا ما يراه والموجود بالفعل ، ومصدره انقداح نظرة العين ، وقد يعين ما يكره أن يصاب بأذى منه كولده وماله .
وقد يطلق عليه أيضا الحسد ، وقد يطلق الحسد ويراد به الغبطة ، وهو تمني ما يراه عند الآخرين من غير زواله عنهم .
وعليه الحديث : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الخير ، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها بين الناس " .
وقال القرطبي : روي مرفوعا " المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد " .
وقال : الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء ، وأول ذنب عصي به في الأرض ، فحسد إبليس آدم وحسد قابيل هابيل ا هـ .
تحذير
كنت سمعت من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه قوله : إن أول معصية وقعت هي الحسد ، وجر شؤمها إلى غيرها ، وذلك لما حسد إبليس أبانا آدم على ما آتاه الله من [ ص: 165 ] الكرامات من خلقه بيديه ، وأمر الملائكة بالسجود له ، فحمله الحسد على التكبر ، ومنعه التكبر من امتثال الأمر بالسجود ، فكانت النتيجة طرده ، عياذا بالله .
أسباب الحسد
وبتأمل القصة ، يظهر أن الحامل على الحسد أصله أمران :
الأول : ازدراء المحسود .
والثاني : إعجاب الحاسد بنفسه ، كما قال إبليس معللا لامتناعه من السجود : أنا خير منه [ 7 \ 12 ] .
ثم فصل معنى الخيرية المزعومة بقوله : خلقتني من نار وخلقته من طين [ 7 \ 12 ] ، ويلحق بذلك جميع الأسباب .
وقد ذكروا منها التعزز في نفسه ، ولا يريد لأحد أن يرتفع عليه ، والتعجب بأن يعجب بنفسه ، ولا يرى أحدا أولى منه ، والخوف من فوات المقاصد عند شخص إذا رآه سيستغني عنه ، وحب الرئاسة ممن لا يريد لأحد أن يتقدم عليه في أي فن أو مجال .
وذكرها الرازي نقلا عن الغزالي .
ومن هنا لا نرى معجبا بنفسه قط ، إلا ويزدري الآخرين ويحسدهم على أدنى نعمة أنعمها الله عليهم . عافانا الله من ذلك .
تنبيه
إذا كان أول معصية وقعت هي حسد إبليس لأبينا آدم على ما أنعم الله به عليه ، وجاء حسد المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي ، وحسدأهل الكتاب للمسلمين على نعمة الإسلام ، وجاءت هذه السورة في أواخر القرآن ، فكأنها جاءت في أعقاب القرآن لتذكر المسلمين بعظم نعمته عليهم وشدة حسدهم عليه ، ليحذروا أعداءهم الذين يكيدون لهم في دينهم ، من كل من الجنة والناس ، على ما سيأتي في السورة بعدها والأخيرة ، إن شاء الله .
[ ص: 166 ] مسألة في حكم من قتل أو كسر أو أتلف شيئا بالعين
تقدم بيان ذلك في حق السحر ، أما في حق العين ، فقد قال ابن حجر في فتح الباري في كتاب الطب ما نصه : وقد اختلف في جريان القصاص بذلك ، يعني بالعين .
فقال القرطبي : لو أتلف العائن شيئا ضمنه لو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه ، بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر عند من لا يقتله كفرا . ا هـ .
ولم يتعرض الشافعية للقصاص في ذلك بل منعوه ، وقالوا : إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا .
وقال النووي في الروضة : ولا دية فيه ولا كفارة ، لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الأحوال ، مما لا انضباط له ، كيف ولم يقع منه فعل أصلا ، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة .
وأيضا ، فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص ، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة ، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين . ا هـ .
ولا يعكر على ذلك إلا الحكم بقتل الساحر ، فإنه في معناه ، والفرق بينهما عسير .
ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم : أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس ، وأنه يلزمه بيته ، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به ، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر رضي الله عنه بمنعه من مخالطة الناس ، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة .
قال النووي : وهذا القول صحيح متعين ، لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه . ا هـ . من فتح الباري .
وبتأمل قول القرطبي والنووي بدقة لا يوجد بينهما خلاف في الأصل ، إذ القرطبي يقيد كلامه بما يتكرر منه بحيث يصير عادة له .
والنووي يقول : إنه لا يقتل غالبا ، وعليه فلو ثبت أنه يقتل غالبا وتكرر ذلك منه ، [ ص: 167 ] فإنه يتفق مع كلام القرطبي تماما في أن من أتلف بعينه وكان معتادا منه ذلك فهو ضامن ، وهذا معقول المعنى ، والله تعالى أعلم .
وعند الحنابلة في كشاف القناع ما نصه : والمعيان الذي يقتل بعينه .
قال ابن نصر الله في حواشي الفروع : ينبغي أن يلحق بالساحر الذي يقتل بسحره غالبا ، فإذا كانت عينه يستطيع القتل بها ويفعله باختياره وجب به القصاص ا هـ .
مسألة : بيان ما تعالج به العين
لما كان الحسد أضر ما يكون على الإنسان ، والإصابة بالعين حق لا شك فيها وجاء فيها : " لو أن شيئا يسبق القدر لسبقته العين " .
وحديث : " إن العين لحق " فقد فصلت السنة كيفية اتقائها قبل وقوعها ، والعلاج منها إذا وقعت .
وذلك فيما رواه مالك في الموطأ وغيره من الصحاح ، في حديث سهل بن حنيف ، وبوب البخاري في صحيحه باب رقية العين ، وذكر حديث عائشة أنها قالت : " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم ، أو أمر أن يسترقى من العين " .
وعقد مالك في الموطأ بابا بعنوان الوضوء من العين ، وبابا آخر بعده بعنوان الرقية من العين ، وساق حديث سهل بتمامه وفيه بيان كيفية اتقائها وعلاجها ، ولذا نكتفي بإيراده لشموله .
قال : عن محمد بن أبي أسامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول : اغتسل أبي سهل بن حنيف بالحرار فنزع جبة كانت عليه ، وعامر بن ربيعة ينظر ، قال : وكان سهل رجلا أبيض حسن الجلد ، قال : فقال له عامر بن ربيعة : ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء ، قال : فوعك سهل مكانه واشتد وعكه ، فأتي رسول الله فأخبروه أن سهلا وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله ، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " علام يقتل أحدكم أخاه ، ألا بركت ؟ إن العين حق ، توضأ له ، فتوضأ له عامر ، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس " .
[ ص: 168 ] وساق مرة أخرى وفيه ، فقال صلى الله عليه وسلم " هل تتهمون له أحدا ؟ قالوا : نتهم عامر بن ربيعة ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرا فتغيظ عليه ، وقال : علام يقتل أحدكم أخاه ، ألا بركت ، اغتسل له ، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه ، وداخل إزاره في قدح ثم صب عليه فراح سهل مع الناس ، ليس به بأس " .
فهذه القصة تثبت قطعا وقوع العين ، وهذا أمر مجمع عليه من أهل السنة وسلف الأمة ، كما أنها ترشد إلى أن من برك ، أي قال : تبارك الله .
وفي بعض الروايات لغير مالك : هلا كبرت ، أي يقول : الله أكبر ثلاثا ، فإن ذلك يرد عين العائن .
كما جاء في السنة " أن الدعاء يرد البلاء " فإذا لم تدفع عند صدورها وأصابت ، فإن العلاج منها كما جاء هنا " توضأ له " ، واللفظ الآخر : " اغتسل له " .
وقد فصل المراد بالغسل له : أنه غسل الوجه واليدين أي : الكفين فقط ، والمرفقين والركبتين والقدمين وطرف الإزار الداخلي ، ويكون ذلك في إناء لا يسقط الماء على الأرض ، ويفرغ هذا الماء على المصاب من الخلف ويكفأ الإناء خلفه .
وقد ذكرها مفصلة القاضي الباجي في شرح الموطأ فقال : وروي عن يحيى بن يحيى عن ابن نافع في معنى الوضوء الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
يغسل الذي يتهم بالرجل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه ورجليه وداخلة إزاره ، وقال : ولا يغسل ما بين اليد والمرفق ، أي : لا يغسل الساعد من اليد .
وروي عن الزهري أنه قال : الغسل الذي أدركنا علماءنا يصفونه : أي يؤتى العائن بقدح فيه ماء ، فيمسك مرتفعا من الأرض فيدخل فيه كفه فيمضمض ، ثم يمجه في القدح ، ثم يغسل وجهه في القدح صبة واحدة ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على كفه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ظهر كفه اليسرى صبة واحدة ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على مرفقه الأيمن ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على قدمه اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على قدمه الأيسر ، ثم يدخل يده اليسرى فيصب بها على ركبته اليمنى ، ثم يدخل يده اليمنى فيصب بها على ركبته اليسرى ، كل ذلك في قدح ثم يدخل داخلة إزاره في القدح ولا يوضع القدح [ ص: 169 ] في الأرض ، فيصب على رأس المعين من خلفه صبة واحدة ، وقيل : يغتفل ويصب عليه ، أي : في حالة غفلته ، ثم يكفأ القدح على ظهر الأرض وراءه .
وأما داخلة إزاره : فهو الطرف المتدلي الذي يفضي من مأزره إلى جلده مكانه ، إنما يمر بالطرف الأيمن على الأيسر ، حتى يشده بذلك الطرف المتدلي الذي يكون من داخل . ا هـ .
ومما يرشد إليه هذا الحديث تغيظه صلى الله عليه وسلم على عامر بن ربيعة .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " علام يقتل أحدكم أخاه " مما يبين شناعة هذا العمل ، وأنه قد يقتل .
ومما ينبغي مراعاته من كل من الطرفين من ابتلي بالعين ، فليبارك عند رؤيته ما يعجبه لئلا يصيب أحدا بعينه ، ولئلا تسبقه عينه .
وكذلك من اتهم أحدا بالعين ، فليكبر ثلاثا عند تخوفه منه . فإن الله يدفع العين بذلك . والحمد لله .
وقد ذكروا للحسد دواء كذلك ، أي يداوي به الحاسد نفسه ليستريح من عناء الحسد المتوقد في قلبه المنغص عليه عيشه الجالب عليه حزنه ، وهو على سبيل الإجمال في أمرين . العلم ثم العمل .
والمراد بالعلم هو أن يعلم يقينا أن النعمة التي يراها على المحسود ، إنما هي عطاء من الله بقدر سابق وقضاء لازم ، وأن حسده إياه عليها لا يغير من ذلك شيئا ، ويعلم أن ضرر الحسد يعود على الحاسد وحده في دينه لعدم رضائه بقدر الله وقسمته لعباده ; لأنه في حسده كالمعترض على قوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا [ 43 \ 32 ] ، وفي دنياه لأنه يورث السقام والأحزان والكآبة ونفرة الناس منه ومقتهم إياه ، ومن وراء هذا وذاك العقاب في الآخرة .
أما العمل فهو مجاهدة نفسه ضد نوازع الحسد ، كما تقدمت الإشارة إليه في الأسباب ، فإذا رأى ذا نعمة فازدرته عينه ، فليحاول أن يقدره ويخدمه .
وإن راودته نفسه بالإعجاب بنفسه ، ردها إلى التواضع وإظهار العجز والافتقار .
وإن سولت له نفسه تمني زوال النعمة عن غيره ، صرف ذلك إلى تمني مثلها لنفسه . وفضل الله عظيم .
[ ص: 170 ] وإن دعاه الحسد إلى الإساءة إلى المحسود ، سعى إلى الإحسان إليه ، وهكذا فيسلم من شدة الحسد ، ويسلم غيره من شره .
وكما في الأثر : " المؤمن يغبط ، والمنافق يحسد " .
نسأل الله العافية والمعافاة .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ النَّاس
قوله تعالى : قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس .
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه ، الإحالة على هذه السورة عند كلامه على قوله تعالى : ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير [ 11 \ 2 ] ، في سورة هود ، فقال على تلك الآية : فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها هي أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به في عبادته شيء .
وساق الآيات المماثلة لها ثم قال : وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة ، وسنتقصى الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة الناس ، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى ا هـ .
وإن في هذه الإحالة منه رحمة الله تعالى علينا وعليه لتنبيها على المعاني التي اشتملتها هذه السورة الكريمة ، وتوجيها لمراعاة تلك الخاتمة .
كما أن في تلك الإحالة تحميل مسئولية الاستقصاء حيث لم يكتف بما قدمه في سورة الفاتحة ، ولا فيما قدمه في سورة هود ، وجعل الاستقصاء في هذه السورة ، ومعنى الاستقصاء : الاستيعاب إلى أقصى حد .
وما أظن أحدا يستطيع استقصاء ما يريده غيره ، ولا سيما ما كان يريده الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه وما يستطيعه هو .
ولكن على ما قدمنا في البداية : أنه جهد المقل ووسع الطاقة . فنستعين الله ونستهديه مسترشدين بما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورتي الفاتحة وهود ، ثم نورد وجهة نظر في السورتين معا الفلق والناس ، ثم منهما وفي نسق المصحف الشريف ، آمل من الله تعالى وراج توفيقه ومعونته .
[ ص: 172 ] أما الإحالة فالذي يظهر أن موجبها هو أنه في هذه السورة الكريمة اجتمعت ثلاث صفات لله تعالى من صفات العظمة والكمال : " رب الناس " ، ملك الناس ، إله الناس " ، ولكأنها لأول وهلة تشير إلى الرب الملك هو الإله الحق الذي يستحق أن يعبد وحده .
ولعله ما يرشد إليه مضمون سورة الإخلاص قبلها : هو الله أحد ، الله الصمد ، وهذا هو منطق العقل والقول الحق ; لأن مقتضى الملك يستلزم العبودية ، والعبودية تستلزم التأليه والتوحيد في الألوهية ; لأن العبد المملوك تجب عليه الطاعة والسمع لمالكه بمجرد الملك ، وإن كان مالكه عبدا مثله ، فكيف بالعبد المملوك لربه وإلهه ، وكيف بالمالك الإله الواحد الأحد الفرد الصمد ؟
وقد جاءت تلك الصفات الثلاث : الرب الملك الإله ، في أول افتتاحية أول المصحف : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين [ 1 \ 2 - 4 ] ، والقراءة الأخرى : " ملك يوم الدين " [ 1 \ 4 ] .
وفي أول سورة البقرة أول نداء يوجه للناس بعبادة الله تعالى وحده ، لأنه ربهم مع بيان الموجبات لذلك في قوله تعالى : ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] .
ثم بين الموجب لذلك بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم [ 2 \ 21 ] .
وقوله : الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 22 ] .
وهذا كله من آثار الربوبية واستحقاقه تعالى على خلقه العبادة ، ثم بين موجب إفراده وحده بذلك بقوله : فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 22 ] .
أي : كما أنه لا ند له في الخلق ولا في الرزق ولا في شيء مما ذكر ، فلا تجعلوا لله أندادا أيضا في عبادة ، وأنتم تعلمون حقيقة ذلك .
وعبادته تعالى وحده ونفي الأنداد ، هو ما قال عنه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : معنى لا إله إلا الله نفيا وإثباتا .
فالإثبات في قوله تعالى : واعبدوا الله [ 5 \ 72 ] .
[ ص: 173 ] والنفي في قوله : فلا تجعلوا لله أندادا .
وكون الربوبية تستوجب العبادة ، جاء صريحا في قوله تعالى : فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف [ 106 \ 3 - 4 ] .
فالموصول وصلته في معنى التعليل لموجب العبادة ، وسيأتي لذلك زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى في نهاية السورة .
وقد جاء هنا لفظ : رب الناس ، بإضافة الرب إلى الناس ، بما يشعر بالاختصاص ، مع أنه سبحانه رب العالمين ورب كل شيء ، كما في أول الفاتحة : الحمد لله رب العالمين .
وفي قوله : قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء [ 6 \ 164 ] .
فالإضافة هنا إلى بعض أفراد العام .
وقد أضيف إلى بعض أفراد أخرى كالسماوات والأرض وغيرها من بعض كل شيء ، كقوله : قل من رب السماوات والأرض قل الله [ 13 \ 16 ] .
وقوله : رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ 73 \ 9 ] .
وإلى البيت فليعبدوا رب هذا البيت [ 106 \ 3 ] .
وإلى البلد الحرام إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة [ 27 \ 91 ] .
وإلى العرش : رب العرش الكريم [ 23 \ 116 ] .
وإلى الرسول : اتبع ما أوحي إليك من ربك [ 6 \ 106 ] .
وقوله : وربك فكبر [ 47 \ 3 ] ، إلى غير ذلك .
ولكن يلاحظ أنه مع كل إضافة من ذلك ما يفيد العموم ، وأنه مع إضافته لفرد من أفراد العموم ، فهو رب العالمين ، ورب كل شيء ، ففي إضافته إلى السماوات والأرض جاء معها قل الله .
وفي الإضافة إلى المشرق والمغرب جاء لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا [ 73 \ 9 ] .
[ ص: 174 ] وفي الإضافة إلى البيت جاء : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف .
وفي الإضافة إلى البلدة جاء الذي حرمها [ 27 \ 91 ] ، وهو الله تعالى .
وفي الإضافة إلى العرش جاء قوله تعالى : فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش [ 23 \ 116 ] .
وفي الإضافة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم جاء قوله : ما ودعك ربك [ 93 \ 3 ] ، وغير ذلك من الإضافة إلى أي فرد من أفراد العموم يأتي معها ما يفيد العموم ، وأن الله رب العالمين .
وهنا رب الناس جاء معها : ملك الناس إله الناس ، ليفيد العموم أيضا ; لأن إطلاق الرب قد يشارك فيه السيد المطاع ، كما في قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله [ 9 \ 31 ] .
وقول يوسف لصاحبه في السجن اذكرني عند ربك [ 12 \ 42 ] ، أي : الملك على أظهر الأقوال ، وقوله : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الآية [ 12 \ 50 ] .
فجاء بالملك والإله للدلالة على العموم ، في معنى رب الناس ، فهو سبحانه رب العالمين ورب كل شيء ، ولكن إضافته هنا إلى خصوص الناس إشعار بمزيد اختصاص ، ورعاية الرب سبحانه لعبده الذي دعاه إليه ليستعيذ به من عدوه ، كما أن فيه تقوية رجاء العبد في ربه بأنه سبحانه بربوبيته سيحمي عبده لعبوديته ويعيذه مما استعاذ به منه .
ويقوي هذا الاختصاص إضافة الرب للرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أطواره منذ البدأين : بدء الخلقة وبدء الوحي ، في قوله : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق [ 96 \ 1 - 2 ] ، ثم في نشأته ما ودعك ربك وما قلى إلى قوله ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى ووجدك عائلا فأغنى [ 93 \ 3 - 8 ] .
وجعل الرغبة إليه في السورة بعدها وإلى ربك فارغب [ 94 \ 8 ] ، تعداد النعم عليه من شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، ثم في المنتهى قوله : إن إلى ربك الرجعى [ 96 \ 8 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:03 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (615)
سُورَةُ النَّاس
صـ 175 إلى صـ 188
[ ص: 175 ] قوله تعالى : ملك الناس ، في مجيء ملك الناس بعد رب الناس ، تدرج في التنبيه على تلك المعاني العظام ، وانتقال بالعباد من مبدأ الإيمان بالرب لما شاهدوه من آثار الربوبية في الخلق والرزق ، وجميع تلك الكائنات ، كما تقدم في أول نداء وجه إليهم : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم [ 2 \ 21 - 22 ] .
كل هذه الآثار التي لمسوها وأقروا بموجبها ، بأن الذي أوجدها هو ربهم ، ومن ثم ينتقلون إلى الدرجة الثانية ، وهي أن ربه الذي هذه أفعاله هو ملكه وهو المتصرف في تلك العوالم ، وملك لأمره وجميع شئونه ، وملك لأمر الدنيا والآخرة جميعا .
فإذا وصل بإقراره إلى هذا الإدراك ، أقر له ضرورة بالألوهية وهي المرتبة النهاية
" إله الناس " أي : مألوههم ومعبودهم وهو ما خلقهم إليه ، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] .
وفي إضافة الملك إلى الناس من إشعار الاختصاص ، مع أنه سبحانه ملك كل شيء ، فيه ما في إضافة الرب للناس المتقدم بحثه ، فهو سبحانه مالك الملك كما في قوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء [ 3 \ 26 ] .
وقوله تعالى : له الملك وله الحمد [ 64 \ 1 ] .
وقوله : له ملك السماوات والأرض [ 2 \ 107 ] ، وقوله : الملك القدوس [ 59 \ 23 ] .
فهو سبحانه وتعالى المتفرد بالملك لا شريك له في ملكه ، كما قال تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك [ 17 \ 111 ] فبدأ بالحمد أولا .
ومثله قوله : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء [ 36 \ 83 ] ، بدأ بتسبيح نفسه وتنزيهه لعموم الملك ومطلق التصرف ونفي الشريك ; لأن ملكه ملك تصرف وتدبير مع الكمال في الحمد والتقديس .
[ ص: 176 ] وكقوله : تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير [ 67 \ 1 ] .
وبهذه النصوص يعلم كمال ملكه تعالى ، ونقص ملك ما سواه من ملوك الدنيا ، ونعلم أن ملكهم بتمليك الله تعالى إياهم كما في قوله تعالى : والله يؤتي ملكه من يشاء [ 3 \ 26 ] .
وقوله : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء [ 3 \ 26 ] .
ومن المعلوم أن ملوك الدنيا ملكهم ملك سياسة ورعاية ، لا ملك تملك وتصرف ، وكما في قوله تعالى : وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم [ 2 \ 247 ] .
والجدير بالتنبيه عليه بهذه المناسبة أن " بريطانيا " تحترم نظام الملكية إلى هذا الوقت الحاضر ، بدافع من هذا المعتقد ، وأنه لا ملك إلا بتمليك الله إياه ، وأن ملوك الدنيا باصطفاء من الله .
والآية تشير إلى ما نحن بصدد بيانه ، من أن ملوك الدنيا لا يملكون أمر الرعية لأن طالوت ملكا ، وليس مالكا لأموالهم .
بينما ملك الله تعالى ملك خلق وإيجاد وتصرف ، كما في قوله تعالى : لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير [ 42 \ 49 - 50 ] .
وعليم قدير هنا من خصائصه سبحانه وتعالى ، فيتصرف في ملكه بعلم وعن قدرة كاملين سبحانه ، له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير [ 57 \ 2 ] .
وتظهر حقيقة ذلك إذا جاء اليوم الحق ، فيتلاشى كل ملك قل أو كثر ، ويذل كل ملك كبر أو صغر ، ولم يبق إلا ملكه تعالى يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار [ 40 \ 16 ] .
[ ص: 177 ] وفي سورة الفاتحة : مالك يوم الدين [ 1 \ 4 ] .
والقراءة الأخرى : " ملك يوم الدين " [ 1 \ 4 ] .
في القراءتين معا إشعار بالفرق بين ملك الله وملك العباد ، كالفرق بين الملك المطلق والملك النسبي ، إذ الملك النسبي لا يملك ، والملك المطلق ، فهو الملك القدوس ، والذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجع الخلائق كلهم .
ومن كانت هذه صفاته ، فهو المستحق لأن يعبد وحده سبحانه ، ولا يشرك معه أحد ، وهذا هو شعار العبد في الركن الخامس من أركان الإسلام ، حين يهل بالتلبية : إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .
قوله تعالى : إله الناس
. هذه هي المرتبة الثالثة في كمال العبودية ، وإفراد الله تعالى بالألوهية .
وهذا هو محل الإحالة ، التي عناها الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فيما يظهر ، لأن العبد إذا أقر بأن الله ربه وخالقه ، ومنعم عليه أوجده من العدم ، ورباه بالنعم ، لا رب له سواه ، ثم تدرج بعلمه ويقينه إلى الإقرار بأن ربه هو مليكه والمتصرف في أمره وحده ، وأنه لا يملك هو نفسه مع الله شيئا ، ولا يملك له أحد من الله شيئا .
وأن كل تصرفات العالم كله بأمره فلا يصل إليه خير إلا بإذنه ، ولا يصرف عنه ضرر إلا بأمره .
وعرف في يقين : أنه عبد مملوك لمن بيده ملكوت السماوات والأرض ، توصل بعلمه هذا أن من كانت هذه صفاته ، كان هو وحده المستحق لإفراده بالعبادة وبالألوهية ، لا إله إلا هو .
فيكون في خاتمة المصحف الشريف انتزاع الإقرار من العبد لله سبحانه بطريق الإلزام ، بالمعنى الذي أرسل الله به رسله ، وأنزل من أجله كتبه ، وهو أن يعبد الله وحده ، وهو ما صرح الشيخ به في الإحالة السابقة .
وإذا كان الشيخ رحمه الله ، قد نبه على مراعاة خاتمة المصحف ، فإنا لو رجعنا إلى أول المصحف وآخره لوجدنا ربطا بديعا ، إذ تلك الصفات الثلاث في سورة الناس [ ص: 178 ] موجودة في سورة الفاتحة ، فاتفقت الخاتمة مع الفاتحة في هذا المعنى العظيم ، إذ في الفاتحة الحمد لله رب العالمين ، وملك يوم الدين ، فجاءت صفة الربوبية والملك والألوهية في لفظ الجلالة .
وتكون الخاتمة الشريفة من باب عود على بدء ، وأن القرآن كله فيما بين ذلك شرح وبيان لتقدير هذا المعنى الكبير .
وسيأتي لذلك زيادة إيضاح في النهاية ، إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : من شر الوسواس الخناس
. كلاهما صيغة مبالغة من الوسوسة والخنس ، بسكون النون .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان معنى الوسوسة والوسواس لغة وشرعا ، أي المراد عند كلامه على قوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد الآية [ 20 \ 120 ] .
وبين مشتقاتهما وأصل اشتقاقهما ، وهو يدور على أن الوسوسة : الحديث الخفي . والخنس : التأخر ، كما تكلم على ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، حيث اجتمع المعنيان المتنافيان .
لأن الوسواس : كثير الوسوسة ، ليضل بها الناس . والخناس : كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس .
والجواب أن لكل مقام مقالا ، فهو يوسوس عند غفلة العبد عن ذكر ربه ، خانس عند ذكر العبد ربه تعالى ، كما دل عليه قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين [ 43 \ 36 ] ، إلى آخره . ا هـ .
قوله تعالى : الذي يوسوس في صدور الناس
. اختلف في الظرف هنا ، هل هو ظرف للوسواس حينما يوسوس ، فيكون موجودا في الصدور ، ويوسوس للقلب ، أو هو ظرف للوسوسة . ويكون المراد بالصدور القلوب ; لكونها حالة في الصدور من باب إطلاق المحل وإرادة الحال على ما هو جار في الأساليب البلاغية .
[ ص: 179 ] وعلى حد قوله تعالى : فليدع ناديه [ 96 \ 17 ] ، أطلق النادي ، وأراد من يحل فيه من القوم .
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بحث تعدية الوسوسة تارة بإلى وتارة باللام ، ففي سورة الأعراف : فوسوس لهما الشيطان [ 7 \ 20 ] ، وفي طه : فوسوس إليه الشيطان [ 20 \ 120 ] .
وحاصل ما ذكره في الجمع بينهما أحد أمرين : إما أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ، وذكر شواهده ، وإما أن يكون وسوس ، أي : لأجله ووسوس إليه أي أنهى إليه الوسوسة ، ولكن هنا قال : في صدور الناس ، ولم يقل : إلى صدور الناس ، فهل هو من باب نيابة حروف الجر بعضها عن بعض أيضا ؟ أم هي ظرف محض ؟
والظاهر أنها ظرف ، ولكن هل من الظرف للوسواس ، أو ظرف للوسوسة نفسها ؟
وبالنظر إلى كلام المفسرين ، فإن كلام ابن جرير يحتمل اعتبار المعنيين بدون تعيين .
وأما القرطبي ، والألوسي ، فصرحا بما ظهر لهما ووصلا إليه .
فقال القرطبي ، قال مقاتل : إن الشيطان في صورة خنزير يجري من مجرى الدم في العروق ، سلطه الله على ذلك وذكر الحديث : " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه " .
وقال : إن أبا ثعلبة الخشني قال : سألت ربي أن يريني الشيطان ، ومكانه من ابن آدم ، فرأيته يداه في يديه ، ورجلاه في رجليه ، ومشاعيه في جسده ، غير أن له خطما كخطم الكلب ؟ فإذا ذكر الله خنس ، وإذا سكت عن ذكر الله أخذ بقلبه .
أما الألوسي فقد صرح بالتقسيم الذي أوردناه ، فقال : الذي يوسوس في صدور الناس . قيل : أريد قلوبهم مجازا .
وقال بعضهم : إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز ، فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ، ولا مانع عقلا من دخوله في جوف إنسان . وساق الحديث أيضا : " إن الشيطان يجري " إلى آخره .
[ ص: 180 ] ومراده بالمجاز ما قدمنا من إطلاق المحل وإرادة الحال .
وذكر ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد أن الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، وإذا ذكر الله خنس .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن الصدر ظرف للوسواس ، وأنه يوقع الوسوسة في القلب . على ما قاله ابن عباس ومجاهد رحمهم الله .
وفي لفظ الناس هنا المضاف إليه الصدور : اختلاف في المراد منه ، فقيل : الإنس الظاهر الاستعمال .
وقيل : الثقلان : الإنس والجن .
وإن إطلاق الناس على الجنس مسموع ، كما حكاه القرطبي . قال عن بعض العرب : إنه كان يحدث فجاء قوم من الجن فوقفوا ، فقيل : من أنتم : فقالوا : ناس من الجن ، وهذا معنى قول الفراء .
واستدل صاحب هذا القول بطريق القياس باستعمال لفظي رجال ونفر في قوله تعالى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن [ 72 \ 6 ] ، وقوله : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن .
وعليه يكون الوسواس المستعاذ منه يوسوس في صدور الجن والإنس .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الوجه : ولكنه رده وضعفه ; لأن لفظ الناس أظهر وأشهر في الإنس ، وهو المعروف في استعمال القرآن ، ولأنه على هذا يكون قسم الشيء قسما منه ; لأنه يجعل الناس قسيم الجن ، ويجعل الجن نوعا من الناس ا هـ . ملخصا .
وعلى كل فإن منهج الأضواء أن ما كان محتملا ، وكان أكثر استعمالات القرآن لأحد الاحتمالين ، فإن كثرة استعماله إياه تكون مرجحا ، وجميع استعمالات القرآن للفظ الناس إنما هو في خصوص الإنس فقط ، ولم تستعمل ولا مرة واحدة في حق الجن مع مراعاة استعمالها في هذه السورة وحدها خمس مرات ، حتى سميت سورة الناس .
[ ص: 181 ] أما القياس على لفظتي رجل ونفر ، فقد رده شيخ الإسلام ابن تيمية أيضا بأنهما وردا مقيدين " رجال من الجن " ، " نفرا من الجن " .
أما على الإطلاق فلم يردا ، وهكذا لفظ الناس فلا مانع من استعماله مقيدا ناس من الجن . أما على الإطلاق فلا .
وعليه فحيث ورد لفظ الناس هنا مطلقا فلا يصح حمله على الجن والإنس معا ، بل يكون خاصا بالإنس فقط ، ويكون في صدور الناس أي : في صدور الإنس .
وقد ذكر أبو السعود معنى آخر في لفظ الناس : وهو أن الناسي عن النسيان ، حذفت الياء تخفيفا لأن الوسواس لا يوسوس إلا في حين النسيان والغفلة .
وعليه يكون حذف الياء كحذفها من " الداع " في قوله : يوم يدعو الداعي [ 54 \ 6 ] ونحوه .
ولكن يبقى على هذا القول بيان من المراد بالناسي ، أهو من الإنس أم من الجن ، فلم يخرج عن الاحتمالين السابقين ، مع أن هذا القول من لوازم معنى الوسواس الخناس .
ويرد على هذا القول جمع الصدور وإفراد الناس ، والجمع لا يضاف إلا إلى جمع ، أي جمع الصدور ، لأن الفرد ليس له جمع من الصدور ، فيقابل الجمع بجمع ، أو يكتفي بالمفرد بمفرد .
وقد جاء في إضافة الجمع إلى المثنى في قوله : فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] .
قال أبو حيان : وحسنه أن المثنى جمع في المعنى ، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالا من المثنى ، والتثنية دون الجمع .
كما قال الشاعر :
فتخالسا نفسيهما بنوافذ كنوافذ العبط التي لا ترفع
[ ص: 182 ] وهذا كان القياس وذلك أن المعبر عن المثنى بالمثنى ، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع بأن التثنية جمع في المعنى والإفراد ، لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر .
كقوله :
حمامة بطن الواديين ترنمي
يريد بطني ، وغلط ابن مالك في التسهيل إذ قال : ونختار الإفراد على لفظ التثنية ، فتراه غلط ابن مالك في اختياره جواز إضافة الجمع إلى المفرد ، كما أنه قال : ولا يجوز ذلك إلا في الشعر ، وأنه مع المثنى لكراهية اجتماع التثنيتين ، فظهر بطلان قول أبي السعود .
أما الراجح في الوجهين في معنى الناس المتقدم ذكرهما . فهو الوجه الأول ، وهو أنهم الإنس ، وأن قوله تعالى : من الجنة والناس [ 114 \ 6 ] ، بيان لمن يقوم بالوسوسة ، أي : بيان للوسواس الخناس وأنه من كل من وسواس الجنة ووسواس الناس .
ويظهر ذلك من أمور : منها : أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولأمته تبعا له فهو في حق الناس أظهر .
ومنها : أننا لو جعلنا الناس الأولى عامة لمن يوسوس إليه كان من الجنة والناس مصدر الوسوسة ، فيكون من وسواس الناس من يوسوس في صدور الجن . وهذا بعيد .
ومنها : أنه لو كان لفظ الناس يشمل الجن والإنس ، لما احتيج إلى هذا التقسيم " الجنة والناس " ، واكتفى في الثانية بما اكتفى به في الأولى ، وكان يكون الذي يوسوس في صدور الناس من الناس ، ولكن جاء بيان محل الوسوسة " صدور الناس " ، ثم جاء مصدر الوسوسة " الجنة والناس " ، والله تعالى أعلم .
تنبيه
ذكر أبو حيان في آخر تفسيره مقارنة لطيفة بين سورتي المعوذتين ، فقال : ولما كانت مضرة الدين ، وهي آفة الوسوسة أعظم من مضرة الدنيا وإن عظمت ، جاء البناء في الاستعاذة منها بصفات ثلاث : الرب ، والملك ، والإله ، وإن اتحد المطلوب .
[ ص: 183 ] وفي الاستعاذة من ثلاث : الغاسق ، والنفاثات ، والحاسد ، بصفة واحدة وهي الرب ، وإن تكثر الذي يستعاذ منه .
وهذه الأخرى لفتة كريمة ، طالما كنت تطلعت إليها في وجهتي نظر ، إحداهما : بين السورتين ، والأخرى بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف ، سيأتي إيرادهما إن شاء الله .
إلا أنه على وجهة نظر أبي حيان ، وهي أنه تعالى في سورة الفلق جاء في الاستعاذة بصفة واحدة وهي " برب الفلق " .
وفي سورة الناس جاء في الاستعاذة بثلاث صفات ، مع أن المستعاذ منه في الأولى ثلاثة أمور ، والمستعاذ منه في الثانية أمر واحد ، فلخطر الأمر الواحد جاءت الصفات الثلاث .
ويقال أيضا من جهة أخرى : إن المستعاذ منه في السورة الأولى أمور تأتي من خارج الإنسان ، وتأتيه اعتداء عليه من غيره ، وقد تكون شرورا ظاهرة ، ومثل ذلك قد يمكن التحرز منه أو اتقاؤه قبل وقوعه ، وتجنبه إذا علم به . بينما الشر الواحد في الثانية يأتيه من داخليته وقد تكون هواجس النفس وما لا يقدر على دفعه ، إذ الشيطان يرانا ولا نراه ، كما في قوله : إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم [ 7 \ 27 ] .
وقد يثير عليه خلجات نفسه ونوازع فكره ، فلا يجد له خلاصا إلا بالاستعاذة واللجوء إلى رب الناس ملك الناس إله الناس .
أما الوجهتان اللتان نوهنا عنهما ، فالأولى بين السورتين وهي مما أورده أبو حيان : إذ في سورة الفلق قال : قل أعوذ برب الفلق [ 113 \ 1 ] ، ورب الفلق تعادل قوله : رب العالمين لأنه ما من موجود في هذا الكون إلا وهو مفلوق عن غيره .
ففي الزرع : فالق الحب والنوى [ 6 \ 95 ] .
وفي الزمن فالق الإصباح [ 6 \ 96 ] .
[ ص: 184 ] وفي الحيوانات : الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء [ 4 \ 1 ] .
وفي الجمادات يشير إليه قوله تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم [ 21 \ 30 - 31 ] .
فرب الفلق تعادل رب العالمين ، فقابلها في الاستعاذة بعموم المستعاذ منه ، من شر ما خلق .
ثم جاء ذكر الخاص بعد العام للاهتمام به ، وهو " من شر غاسق إذا وقب " ، و " النفاثات في العقد " ، " وحاسد إذا حسد " .
فالمستعاذ به صفة واحدة ، والمستعاذ منه عموم ما خلق جملة وتفصيلا ، بينما في السورة الثانية جاء بالمستعاذ به ثلاث صفات هي صفات العظمة لله تعالى : الرب والملك والإله .
فقابل المستعاذ منه وهو شيء واحد فقط ، وهو الوسواس الخناس ، وهذا يدل على شدة خطورة المستعاذ منه .
وهو كذلك ; لأننا لو نظرنا في واقع الأمر لوجدنا مبعث كل فتنة ومنطلق كل شر عاجلا أو آجلا ، لوجدناه بسبب الوسواس الخناس . وهو مرتبط بتاريخ وجود الإنسان .
وأول جناية وقعت على الإنسان الأول ، إنما هي من هذا الوسواس الخناس ، وذلك أن الله تعالى لما كرمآدم ، فخلقه بيده وأسجد الملائكة له وأسكنه الجنة هو وزوجه لا يجوع فيها ولا يعرى ، ولا يظمأ فيها ولا يضحى ، يأكلان منها رغدا حيث ما شاءا ، إلا من الشجرة الممنوعة ، فوسوس إليهما الشيطان حتى أكلا منها ودلاهما بغرور ، حتى أهبطوا منها جميعا بعضهم لبعض عدو .
وبعد سكناهما الأرض أتى ابنيهما قابيل وهابيل فلاحقهما أيضا بالوسوسة ، حتى طوعت نفس أحدهما قتل أخيه فأصبح من النادمين .
وهكذا بسائر الإنسان في حياته بالوسوسة حتى يربكه في الدنيا ، ويهلكه في [ ص: 185 ] الآخرة ، ولقد اتخذ من المرأة جسرا لكل ما يريد . وها هو يعيد الكرة في نزع اللباس عن أبوينا في الجنة ، فينتزعه عنهما في ظل بيت الله الحرام في طوافهم قبل البعثة ولا يزال يغويه ، وعن طريق المرأة في كل زمان ومكان ليخرجه عن الاستقامة كما أخرج أبويه من الجنة .
ولا يزال يجلب على الإنسان بخيله ورجله بارا بقسمه بين يدي الله بعزته ليغوينهم أجمعين .
وإن أخطر أبواب الفساد في المجتمعات لهي عن المال أو الدم أو العرض ، كما في الحديث في حجة الوداع : " ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا " إلى آخره .
وهل وجدت جناية على واحد منها إلا من تأثير الوسواس الخناس ؟ اللهم لا .
وهكذا في الآخرة .
وقد بين تعالى الموقف جليا في مقالة الشيطان البليغة الصريحة : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل الآية [ 14 \ 22 ] .
ولقد علم عدو المسلمين أن أخطر سلاح على الإنسان هو الشك ولا طريق إليه إلا بالوسوسة ، فأخذ عن إبليس مهمته وراح يوسوس للمسلمين في دينهم وفي دنياهم ، ويشككهم في قدرتهم على الحياة الكريمة مستقلين عنه ، ويشككهم في قدرتهم على التقدم والاستقلال الحقيقي ، بل وفي استطاعتهم على الإبداع والاختراع ، ليظلوا في فلكه ودائرة نفوذه ، فيبقى المسلمون يدورون في حلقة مفرغة ، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى .
والمتشكك في نتيجة عمل لا يقدم عليه أبدا ، بل ما يبنيه اليوم يهدمه غدا ، وقد أعلن عن هذه النتيجة الخطيرة رئيس مؤتمر المستشرقين في الشرق الأوسط ، منذ أكثر من ثلاثين عاما ، حينما انعقد المؤتمر في ( بيروت ) لعرض نتائج أعمالهم ودراسة أساليب تبشيرهم .
[ ص: 186 ] فتشكى المؤتمرون من أن لهم زهاء أربعين سنة من عملهم المتواصل ، لم يستطيعوا أن ينصروا مسلما واحدا ، فقال رئيس المؤتمر : إذا لم نستطع أن ننصر مسلما ، ولكن استطعنا أن نوجد ذبذبة في الرأي ، فقد نجحنا في عملنا .
وهكذا منهج العدو ، تشكيك في قضايا الإسلام ليوجد ذبذبة في عقيدة المسلمين ، فعن طريق الميراث تارة ، وعن طريق تعدد الزوجات أخرى ، وعن دوافع القتال ، وعن استرقاق الرقيق ، وعن وعن .
حتى وجد من أبناء المسلمين من يتخطى حدود الشك إلى التصديق ، وأخذ يدعو إلى ما يدعو إليه العدو ، وما ذاك كله إلا حصاد ونتائج الوسواس الخناس .
فلا غرو إذا أن تجمع الصفات الجليلة الثلاث : برب الناس 30 ملك الناس 30 إله الناس .
هذه وجهة النظر الأولى بين سورتي الفلق والناس .
أما الوجهة الثانية وهي بين سورة الناس ونسق المصحف الشريف ، بقوله تعالى : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم [ 1 \ 2 - 7 ] .
وفي هذه البداية الكريمة بث الطمأنينة في القلب المعبر عنها بالحمد ، عنوان الرضى والسعادة والإقرار لله بالربوبية ، ثم الإيمان بالبعث والإقرار لله بملك يوم الدين ، ثم الالتزام بالعبادة لله وحده والالتجاء إليه مستعينا به ، مستهديا الصراط المستقيم ، سائلا صحبة الذين أنعم عليهم .
ثم يأتي بعدها مباشرة في أول سورة البقرة : ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين [ 2 \ 2 ] أي : إن الهدى الذي تنشده إلى الصراط المستقيم ، فهو في هذا الكتاب لا ريب فيه ، ثم بين المتقين الذين أنعم الله عليهم بقوله : الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون [ 2 \ 3 - 4 ] .
ومرة أخرى للتأكيد : أولئك لا سواهم على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون [ 2 \ 5 ] .
[ ص: 187 ] ثم تترسل السورة في تقسيم الناس إلى الأقسام الثلاثة : مؤمنين ، وكافرين ، ومذبذبين بين بين ، وهم المنافقون .
ثم يأتي النداء الصريح وهو أول نداء في المصحف لعموم الناس ياأيها الناس اعبدوا ربكم [ 2 \ 21 ] ، ويقيم البراهين على استحقاقه للعبادة وعلى إمكان البعث بقوله : الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون [ 2 \ 21 - 22 ] .
وبعد تقرير الأصل وهي العقيدة ، تمضي السورة في ذكر فروع الإسلام ، فتشتمل على أركان الإسلام كلها وعلى كثير من مسائل المعاملات والجهاد ، وقل باب من أبواب الفقه إلا وله ذكر في هذه السورة ، ويأتي ما بعدها مبينا لما أجمل فيها أو لما يذكر ضمنها .
وهكذا حتى ينتهي القرآن بكمال الشريعة وتمام الدين .
ولما جاء في وصف المتقين المهتدين في أول المصحف ، أنهم يؤمنون بالغيب ومنه الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب - أمور الغيب تستلزم اليقين - لترتب الجزاء عليه ثوابا أو عقابا .
والثواب والعقاب هما نتيجة الفعل والترك .
والفعل والترك : هما مناط التكليف ، لأن الإنسان يمتثل الأمر رجاء الثواب ، ويكف عن متعلق النهي مخافة العقاب .
فلكأن نسق المصحف الشريف يشير إلى ضرورة ما يجب الانتباه إليه من أن القرآن بدأ بالحمد ثناء على الله بما أنعم على الإنسان بإنزاله ، وإرسال الرسول صاحبه به ، ثم نقله من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة ، وهو الأعظم قدرا وخطرا ، ثم رسم له الطريق الذي سلكه المهتدون أهل الإنعام والرضى ، ثم أوقفه عليه ليسلك سبيلهم .
وهكذا إلى أن جاء به بعد كمال البيان والإرشاد والهداية ، جاء به إلى نهاية هذا الصراط المستقيم ، فاستوقفه ليقول له إذا اطمأننت لهذا الدين ، وآمنت بالله رب [ ص: 188 ] العالمين ، واعتقدت مجيء يوم الدين ، وعرفت طريق المهتدين ورأيت أقسام الناس الثلاث مؤمنين وكافرين ومنافقين ، ونهاية كل منهم ، فالزم هذا الكتاب ، وسر على هذا الصراط ورافق أهل الإنعام ، وجانب المغضوب عليهم والضالين ، واحذر من مسلك المنافقين المتشككين ، وحاذر كل الحذر من موجب ذلك كله ، وهو الوسواس الخناس ، أن يشككك في متعلقات الإيمان ، أو في استواء طريقك واستقامته أو في عصمة كتابك وكماله ، وكن على يقين مما أنت عليه ، ولا تنس خطره على أبويك من قبل ، إذ هما في الجنة دار السلام ولم يسلما منه ، ودلاهما بغرور فحاذر منه ولذ بي كلما ألم بك أو مسك طائف منه ، وكن كسلفك الصالح إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ 8 \ 201 ] .
وقد علمت عداوته لك من بعد ، وعداوته ناشئة عن الحسد .
ولكأن ارتباط السورتين ليشير إلى منشأ تلك العداوة وارتباطها بهذا التحذير ، إذ في الأولى : ومن شر حاسد إذا حسد ، فحسد الشيطان آدم على إكرام الله إياه كما أسلفنا .
والعدو الحاسد لا يرضيه إلا زوال النعمة عن المحسود ، ولئن كانت توبة آدم هي سبيل نجاته ، كما في قوله تعالى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه [ 2 \ 37 ] .
فنجاتك أيضا في كلمات تستعيذ بها من عدوك : برب الناس ملك الناس إله الناس ; لأن الرب هو الذي يرحم عباده ، وملك الناس هو الذي يحميهم ويحفظهم ويحرسهم . وإله الناس الذي يتألهون إليه ويتضرعون ويلوذون به سبحانه .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:04 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (616)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 189 إلى صـ 203
تنبيه
إذا كان هذا كله خطر الوسواس الخناس من الجنة والناس ، وهما عدو مشترك ومتربص حاقد حاسد ، فما طريق النجاة منه ؟
الذي يظهر ، والله تعالى أعلم : أن طريق النجاة تعتمد على أمرين :
الأول : يؤخذ من عمومات الكتاب والسنة .
[ ص: 189 ] والثاني : سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه .
أما الأول فهو : إذا كانت مهمة الوسوسة التشكيك والذبذبة والتردد ، فإن عمومات التكليف تلزم المسلم بالعزم واليقين والمضي دون تردد كما في قوله : فإذا عزمت فتوكل على الله [ 3 \ 159 ] ، وامتدح بعض الرسل بالعزم وأمر بالاقتداء بهم : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل [ 46 \ 35 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " .
والقاعدة الفقهية " اليقين لا يرفع بشك " .
والحديث : " يأتي الشيطان لأحدكم وهو في الصلاة فينفخ في مقعدته ، فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث ، فلا ينصرف حتى يسمع صوتا ، أو يجد ريحا " .
ومن هنا كانت التكاليف كلها على اليقين ، فالعقائد لا بد فيها من اليقين .
والفروع في العبادات لا بد فيها من النية " إنما الأعمال بالنيات " .
والشرط في النية الجزم واليقين ، فلو نوى الصلاة على أنه إن حضر فلان تركها ، لا تنعقد نيته ، ولو نوى صوما أنه إن شاء أفطر ، لا ينعقد صومه .
ونص مالك في الموطأ : أنه إن نوى ليوم الشك في ليلته الصوم غدا ، على أنه إن صح من رمضان فهو لرمضان ، وإلا فهو نافلة ، لا ينعقد صومه لا فرضا ولا نفلا حتى لو جاء رمضان لا يعتبر له منه ، وعليه قضاؤه لعدم الجزم بالنية .
والحج : لو نواه لزمه ولزمه المضي فيه ، ولا يملك الخروج منه باختياره .
وهكذا المعاملات في جميع العقود مبناها على الجزم حتى في المزح واللعب ، يؤاخذ في البعض كالنكاح والطلاق والعتاق .
فمن هذا كله كانت دوافع العزيمة مستقاة من التكاليف ، مما يقضي على نوازع الشك والتردد ، ولم يبق في قلب المؤمن مجال لشك ولا محل لوسوسة .
وقد كان الشيطان يفر من طريق عمر رضي الله عنه .
[ ص: 190 ] أما الذي كنت سمعته من الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه فقوله : لقد علمنا الله كيفية اتقاء العدو من الإنس ومن الجن .
أما العدو من الإنس ففي قوله تعالى : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم [ 41 \ 34 ] .
فدل على أن مقابلة إساءة العدو بالإحسان إليه تذهب عداوته ، وتكسب صداقته ، كما قال تعالى : ادفع بالتي هي أحسن السيئة .
وأما عدو الجن ففي قوله تعالى : وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم [ 41 \ 36 ] .
وهو ما يدل عليه ما تقدم من الآثار من أن الشيطان يخنس إذا سمع ذكر الله .
وعلى قوله رحمه الله : فإن شيطان الجن يندفع بالاستعاذة منه بالله ، ويكفيه ذلك ; لأن كيد الشيطان كان ضعيفا .
أما شيطان الإنس فهو في حاجة إلى مصانعة ومدافعة والصبر عليه ، كما يرشد إليه قوله تعالى : وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم [ 41 \ 35 ] .
رزقنا الله تعالى وجميع المسلمين حظا عظيما في الدنيا والآخرة ، إنه المسئول ، وخير مأمول .
روى ابن كثير حديث أبي سعيد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يتعوذ من أعين الجن والإنس ، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما " رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن صحيح .
وروي عن عبد الله الأسلمي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال : " قل " : فلم أدر ما أقول . ثم قال لي : " قل " . فقلت : هو الله أحد ، ثم قال لي : قل . قلت : أعوذ برب الفلق من شر ما خلق حتى فرغت منها ، ثم قال لي قل . قلت : أعوذ برب الناس حتى فرغت منها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هكذا فتعوذ ; وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط " .
[ ص: 191 ] والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على أفضل خلقه وأكرمهم عليه ، من اصطفاه لرسالته وشرفنا ببعثته ، وختم به رسله وكرمنا به وهدانا لاتباعه ، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعلينا معهم أجمعين ، إنه سميع مجيب .
بيان الناسخ والمنسوخ من آي الذكر الحكيم
كتبها فضيلة الوالد الشيخ الأمين رحمه الله على أبيات للسيوطي في الإتقان ونقلتها عن خطه وقرأتها عليه
نص الأبيات من الإتقان :
قد أكثر الناس من المنسوخ من عدد وأدخلوا فيه أباليس تنحصر وهاك تحرير آي لا مزيد لها
عشرين حررها الحذاق والكبر ( آي التوجه 1 ) حيث المرء كان ( وأن
يوصى لأهليه 2 ) عند الموت مختصر ( وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث 3 )
( وفدية لمطيق 4 ) الصوم مشتهر ( وحق تقواه 5 ) فيما صح من أثر
( وفي الحرام قتال 6 ) للأولى كفروا ( والاعتداد بحول مع وصيتها 7 )
( وأن يدان حديث النفس والفكر 8 ) ( والحلف 9 ) ( والحبس للزاني 10 ) ( وترك أولى
كفر 11 ) ( وإشهادهم 12 ) ( والصبر 13 ) ( والنفر 14 ) ( ومنع عقد لزان أو لزانية 15 )
( وما على المصطفى في العقد محتظر 16 ) ( ودفع مهر لمن جاءت 17 ) ( وآية نجـ
ـواه 18 ) ( كذلك قيام الليل 19 ) مستطر [ ص: 196 ] ( وزيد آية الاستئذان من ملكت 20 )
( وآية القسمة 21 ) الفضلى لمن حضروا
شرحها الشيخ رحمه الله بقوله :
1 - قوله : " آي التوجه " ، يشير إلى أن قوله تعالى : فأينما تولوا فثم وجه الله منسوخة على رأي ابن عباس بقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام .
2 - وقوله : " وأن يوصى لأهليه " : أشار به إلى أن آية كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية . منسوخة ، قيل بآية المواريث ، وقيل بحديث : " لا وصية لوارث " ، وقيل : بالإجماع . حكاه ابن العربي .
3 - وقوله : " وحرمة الأكل بعد النوم مع رفث " يشير إلى أن آية : كتب عليكم الصيام المتضمنة حرمة الأكل والجماع بعد النوم كما في صوم من قبلنا منسوخة بآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .
4 - وقوله : " وفدية لمطيق " يشير إلى أن آية وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين منسوخة بآية فمن شهد منكم الشهر فليصمه ، وقيل محكمة و " لا " مقدرة ، يعني : وعلى الذين لا يطيقونه .
5 - وقوله : " وحق تقواه " يشير إلى أن قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته منسوخ بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم وقيل محكمة .
6 - وقوله : " وفي الحرام قتال " يشير إلى قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه وقوله : ولا الشهر الحرام منسوخان بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة الآية . أخرجه ابن جرير عن عطاء بن ميسرة .
7 - وقوله : " والاعتداد بحول مع وصيتها " يعني أن قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم الآية ، منسوخ بقوله : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا .
[ ص: 197 ] 8 - قوله : " وأن يدان حديث النفس والفكر " ، يشير إلى قوله تعالى : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، منسوخ بقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
9 - قوله : " والحلف " أي المحالفة ، يشير إلى قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم منسوخة بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله الآية .
10 - وقوله : " والحبس للزاني " يشير إلى أن قوله تعالى : فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت منسوخ بقوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .
11 - قوله : " وترك أولى كفر " يشير إلى قوله تعالى : فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ بقوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله .
12 - وقوله : " وإشهادهم " يشير إلى قوله تعالى : أو آخران من غيركم منسوخ بقوله تعالى : وأشهدوا ذوي عدل منكم .
13 - وقوله : " والصبر " يشير به إلى قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، الآية . منسوخ بما بعده وهو قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين .
14 - قوله " والنفر " يشير إلى أن قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا منسوخ بقوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى أو ليس على الأعمى حرج الآية ، أو قوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية .
15 - قوله : " ومنع عقد لزان أو لزانية " يشير إلى قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك الآية ، منسوخ بقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم .
16 - وقوله : " وما على المصطفى في العقد محتظر " يشير إلى قوله تعالى : لا يحل لك النساء من بعد . . . الآية . منسوخ بقوله تعالى : إنا أحللنا لك أزواجك الآية .
[ ص: 198 ] 17 - قوله : " ودفع مهر لمن جاءت " يشير إلى أن قوله تعالى : فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا منسوخ ، قيل بآيات السيف ، وقيل : بآيات الغنيمة .
18 - وقوله " وآية نجواه " يشير إلى أن قوله تعالى : فقدموا بين يدي نجواكم صدقة منسوخ بقوله تعالى : فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم وبقوله فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم .
19 - وقوله : " كذلك قيام الليل " يشير إلى أن قوله : ياأيها المزمل قم الليل منسوخ بقوله تعالى : علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، وبقوله تعالى : فاقرءوا ما تيسر منه .
وهذا الناسخ أيضا منسوخ بالصلوات الخمس .
20 - قوله : " وزيد آية الاستئذان من ملكت " . آية الاستئذان ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والأصح فيها عدم النسخ ، لكن تساهل الناس بالعمل بها .
21 - " وآية القسمة " وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه والصحيح فيها أيضا عدم النسخ .
ومثال نسخ الناسخ آخر سورة المزمل ، فإنه منسوخ بفرض الصلوات الخمس .
وقوله انفروا خفافا وثقالا فإنه ناسخ لآية الكف ، منسوخ بآية العذر .
تمت بحول الله رسالة فضيلة الشيخ محمد الأمين المختصرة في بيان أبيات السيوطي الرمزية تقريبا في هذا الفن . وهي على إيجازها واختصارها كافية شافية للطالب الدارس أملاها علي فضيلته في ذي الحجة سنة 1373 هـ .
أما المدرس والباحث المدقق والمناقش للأقوال فإن هناك المطولات لتتمة البحث لبيان إثبات النسخ على منكريه ، وبيان حكمة النسخ وبيان أقسامه ، وقوة الناسخ من كتاب أو سنة ، ومراتبه من شدة إلى ضعف والعكس . إلى غير ذلك .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
قوله تعالى : الم ذلك الكتاب .
أشار الله تعالى إلى القرءان في هذه الآية إشارة البعيد ، وقد أشار له في آيات أخر إشارة القريب كقوله : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 71 9 ] ، وكقوله : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل الآية [ 27 76 ] .
وكقوله : وهذا كتاب أنزلناه مبارك [ 6 92 ] .
وكقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن [ 12 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وللجمع بين هذه الآيات أوجه :
الوجه الأول : ما حرره بعض علماء البلاغة من أن وجه الإشارة إليه بإشارة الحاضر القريب ، أن هذا القرءان قريب حاضر في الأسماع والألسنة والقلوب ، ووجه الإشارة إليه بإشارة البعيد هو بعد مكانته ومنزلته من مشابهة كلام الخلق ، وعما يزعمه الكفار من أنه سحر أو شعر أو كهانة أو أساطير الأولين .
الوجه الثاني : هو ما اختاره ابن جرير الطبري في تفسيره من أن ذلك إشارة إلى ما تضمنه قوله : الم ، وأنه أشار إليه إشارة البعيد لأن الكلام المشار إليه منقض ، ومعناه في الحقيقة القريب لقرب انقضائه ، وضرب له مثلا بالرجل يحدث الرجل فيقول له مرة : والله إن ذلك لكما قلت ، ومرة يقول : والله إن هذا لكما قلت ، فإشارة البعيد نظرا إلى أن الكلام مضى وانقضى ، وإشارة القريب نظرا إلى قرب انقضائه .
الوجه الثالث : أن العرب ربما أشارت إلى القريب إشارة البعيد ، فتكون الآية على [ ص: 200 ] أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ونظيره قول خفاف بن ندبة السلمي ، لما قتل مالك بن حرملة الفزاري :
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا أقول له والرمح يأطر متنه
تأمل خفافا إنني أنا ذلكا
يعني أنا هذا ، وهذا القول الأخير حكاه البخاري عن عمر بن المثنى أبي عبيدة ، قاله ابن كثير ، وعلى كل حال فعامة المفسرين على أن ذلك الكتاب بمعنى هذا الكتاب .
قوله تعالى : لا ريب فيه .
هذه نكرة في سياق النفي ركبت مع " لا " ، فبنيت على الفتح .
والنكرة إذا كانت كذلك فهي نص في العموم ، كما تقرر في علم الأصول و " لا " هذه التي هي نص في العموم هي المعروفة عند النحويين : " لا " التي لنفي الجنس ، أما " لا " العاملة عمل ليس فهي ظاهرة في العموم لا نص فيه ، وعليه فالآية نص في نفي كل فرد من أفراد الريب عن هذا القرءان العظيم ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجود الريب فيه لبعض من الناس ، كالكفار الشاكين كقوله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا [ 2 ] .
وكقوله : وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 45 ] .
وكقوله : بل هم في شك يلعبون [ 44 \ 9 ] .
ووجه الجمع في ذلك أن القرءان بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه ، وريب الكفار فيه إنما هو لعمى بصائرهم ، كما بينه بقوله تعالى : أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى [ 13 \ 19 ] ، فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه من قبل عماه ، ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها :
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
وأجاب بعض العلماء : بأن قوله : لا ريب فيه خبر أريد به الإنشاء ، أي : لا ترتابوا فيه ، وعليه فلا إشكال .
قوله تعالى : هدى للمتقين .
خصص في هذه الآية هدى هذا الكتاب بالمتقين ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن هداه عام لجميع الناس ، وهي قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس الآية [ 2 \ 185 ] . ووجه الجمع بينهما أن الهدى يستعمل في القرءان استعمالين : أحدهما عام ، والثاني خاص ، أما الهدى العام فمعناه إبانة طريق الحق وإيضاح المحجة ، سواء سلكها المبين له أم لا ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم [ 41 \ 17 ] ، أي بينا لهم طريق الحق على لسان نبينا صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، مع أنهم لم يسلكوها بدليل قوله عز وجل : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
ومنه أيضا قوله تعالى : إنا هديناه السبيل [ 76 \ 3 ] ، أي بينا له طريق الخير والشر ، بدليل قوله : إما شاكرا وإما كفورا [ 76 \ 3 ] .
وأما الهدى الخاص فهو تفضل الله بالتوفيق على العبد ، ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله الآية [ 6 ] .
وقوله : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن الهدى الخاص بالمتقين هو الهدى الخاص ، وهو التفضل بالتوفيق عليهم ، والهدى العام للناس هو الهدى العام ، وهو إبانة الطريق وإيضاح المحجة ، وبهذا يرتفع الإشكال أيضا بين قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت [ 28 \ 56 ] ، مع قوله : وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] ، لأن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو الهدى الخاص ، لأن التوفيق بيد الله وحده : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا [ 5 \ 41 ] .
والهدى المثبت له هو الهدى العام الذي هو إبانة الطريق ، وقد بينها صلى الله عليه وسلم حتى تركها محجة بيضاء ليلها كنهارها : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] .
قوله تعالى : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون .
[ ص: 202 ] هذه الآية تدل بظاهرها على عدم إيمان الكفار ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الكفار يؤمن بالله ورسوله كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف الآية [ 8 \ 38 ] ، وكقوله : كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم [ 4 \ 94 ] ، وكقوله : ومن هؤلاء من يؤمن به [ 29 \ 47 ] .
ووجه الجمع ظاهر ، وهو أن الآية من العام المخصوص ، لأنها في خصوص الأشقياء الذين سبقت لهم في علم الله الشقاوة المشار إليهم بقوله : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] ، ويدل لهذا التخصيص قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم الآية [ 2 \ 7 ] .
وأجاب البعض بأن المعنى لا يؤمنون ، ما دام الطبع على قلوبهم وأسماعهم والغشاوة على أبصارهم ، فإن أزال الله عنهم ذلك بفضله آمنوا .
قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم مجبورون لأن من ختم على قلبه وجعلت الغشاوة على بصره سلبت منه القدرة على الإيمان ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن كفرهم واقع بمشيئتهم وإرادتهم ، كقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
وكقوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة [ 2 \ 175 ] .
وكقوله : فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر الآية [ 18 \ 29 ] ، وكقوله ذلك بما قدمت أيديكم الآية [ 3 \ 182 ] .
وكقوله : لبئس ما قدمت لهم أنفسهم الآية [ 5 \ 80 ] .
والجواب أن الختم والطبع والغشاوة المجعولة على أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم ، كل ذلك عقاب من الله لهم على مبادرتهم للكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ومشيئتهم ، فعاقبهم الله بعدم التوفيق جزاء وفاقا ، كما بينه تعالى بقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] .
[ ص: 203 ] وقوله : ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] .
وبقوله : ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [ 6 \ 110 ] .
وقوله : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .
وقوله : في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] .
وقوله : بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية .
أفرد في هذه الآية الضمير في قوله : استوقد وفي ما حوله ، وجمع الضمير في قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ 2 \ 17 ] ، مع أن مرجع كل هذه الضمائر شيء واحد وهو لفظة " الذي " من قوله : مثلهم كمثل الذي .
والجواب عن هذا أن لفظة : " الذي " مفرد ومعناها عام لكل ما تشمله صلتها وقد تقرر في علم الأصول أن الأسماء الموصولة كلها من صيغ العموم ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن إفراد الضمير باعتبار لفظة : " الذي " وجمعه باعتبار معناها ، ولهذا المعنى جرى على ألسنة العلماء أن : " الذي " تأتي بمعنى الذين ، ومن أمثلة ذلك في القرءان هذه الآية الكريمة ، فقوله : كمثل الذي استوقد أي كمثل الذي استوقدوا بدليل قوله : ذهب الله بنورهم وتركهم الآية [ 2 \ 17 ] .
وقوله : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون الآية [ 39 \ 33 ] . وقوله : لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس [ 2 \ 264 ] ، أي كالذين ينفقون بدليل قوله : لا يقدرون على شيء مما كسبوا [ 2 \ 264 ] .
وقوله : وخضتم كالذي خاضوا [ 9 ] ، بناء على الصحيح ، من أن : " الذي " فيها موصولة لا مصدرية ، ونظير هذا من كلام العرب قول الراجز :
يا رب عبس لا تبارك في أحد في قائم منهم ولا في من قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:05 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (617)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 204 إلى صـ 216
[ ص: 204 ] وقول الشاعر وهو أشهب بن رميلة ، وأنشده سيبويه لإطلاق الذي وإرادة الذين :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وزعم ابن الأنباري أن لفظة الذي في بيت أشهب جمع ألذ بالسكون ، وأن " الذي " في الآية مفرد أريد به الجمع ، وكلام سيبويه يرد عليه ، وقول عديل بن الفرخ العجلي :
وبت أساقي القوم إخوتي الذي غوايتهم غيي ورشدهم رشدي
وقال بعضهم : المستوقد واحد لجماعة معه ، ولا يخفى ضعفه .
قوله تعالى : صم بكم عمي فهم لا يرجعون الآية .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن المنافقين لا يسمعون ، ولا يتكلمون ، ولا يبصرون ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] .
وكقوله : وإن يقولوا تسمع لقولهم الآية [ 63 \ 4 ] ، أي لفصاحتهم وحلاوة ألسنتهم .
وقوله فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] ، إلى غير ذلك من الآيات ، ووجه الجمع ظاهر ، وهو أنهم بكم عن النطق بالحق ، وإن تكلموا بغيره ، صم عن سماع الحق وإن سمعوا غيره ، عمي عن رؤية الحق وإن رأوا غيره ، وقد بين تعالى هذا الجمع بقوله : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة الآية [ 46 \ 26 ] ، لأن ما لا يغني شيئا فهو كالمعدوم ، والعرب ربما أطلقت الصمم على السماع الذي لا أثر له ، ومنه قول قعنب بن أم صاحب :
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقول الشاعر :
أصم عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وقول الآخر :
فأصممت عمرا وأعميته عن الجود والفخر يوم الفخار
[ ص: 205 ] وكذلك الكلام الذي لا فائدة فيه فهو كالعدم .
قال هبيرة بن أبي وهب المخزومي :
وإن كلام المرء في غير كنهه لكالنبل تهوي ليس فيها نصالها
قوله تعالى : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة الآية .
هذه الآية تدل على أن هذه النار كانت معروفة عندهم ؛ بدليل أل العهدية ، وقد قال تعالى في سورة " التحريم " : قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة [ 66 \ 6 ] .
فتنكير النار هنا يدل على أنها لم تكن معروفة عندهم بهذه الصفات ووجه الجمع أنهم لم يكونوا يعلمون أن من صفاتها كون الناس والحجارة وقودا لها فنزلت آية " التحريم " فعرفوا منها ذلك من صفات النار ، ثم لما كانت معروفة عندهم نزلت آية " البقرة " ، فعرفت فيها النار بأل العهدية لأنها معهودة عندهم في آية " التحريم " .
ذكر هذا الجمع البيضاوي والخطيب في تفسيريهما ، وزعما أن آية " التحريم " نزلت بمكة ، وظاهر القرءان يدل على هذا الجمع لأن تعريف النار هنا بأل العهدية يدل على عهد سابق ، والموصول وصلته دليل على العهد وعدم قصد الجنس ، ولا ينافي ذلك أن سورة " التحريم " مدنية ، وأن الظاهر نزولها بعد " البقرة " .
كما روي عن ابن عباس لجواز كون الآية مكية في سورة مدنية كالعكس .
قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية .
هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء بدليل لفظة : " ثم " التي هي للترتيب والانفصال ، وكذلك آية " حم السجدة " ، تدل أيضا على خلق الأرض قبل خلق السماء لأنه قال فيها : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين [ 41 \ 9 ] ، إلى أن قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] . مع أن آية " النازعات " تدل على أن دحو الأرض بعد خلق السماء ، لأنه قال فيها : أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها [ 75 \ 27 ] . [ ص: 206 ] ثم قال : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] .
اعلم أولا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية " السجدة " وآية " النازعات " ، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولا قبل السماء غير مدحوة ، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعا في يومين ثم دحا الأرض بعد ذلك وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك ، فأصل خلق الأرض قبل خلق السماء ودحوها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك بعد خلق السماء ، ويدل لهذا أنه قال : والأرض بعد ذلك دحاها ولم يقل خلقها ، ثم فسر دحوه إياها بقوله : أخرج منها مآءها ومرعاها الآية [ 79 \ 31 ] . وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه ، مفهوم من ظاهر القرءان العظيم ، إلا أنه يرد عليه إشكال من آية " البقرة " هذه ، وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء ، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء .
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 21 \ 129 ] . وقد مكثت زمنا طويلا أفكر في حل هذا الإشكال ، حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرءان العظيم ، وإيضاحه أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين ، كل منهما تدل عليه آية من القرءان :
الأول : أن المراد بخلق ما في الأرض جميعا قبل خلق السماء : الخلق اللغوي الذي هو التقدير لا الخلق بالفعل الذي هو الإبراز من العدم إلى الوجود ، والعرب تسمي التقدير خلقا ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ض القوم يخلق ثم لا يفري
والدليل على أن المراد بهذا الخلق التقدير ، أنه تعالى نص على ذلك في سورة " فصلت " حيث قال : وقدر فيها أقواتها [ 41 \ 11 ] ، ثم قال : ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية [ 41 \ 11 ] .
الوجه الثاني : أنه لما خلق الأرض غير مدحوة ، وهي أصل لكل ما فيها كان كل ما فيها كأنه خلق بالفعل لوجود أصله فعلا ، والدليل من القرءان على أن وجود الأصل يمكن به إطلاق الخلق على الفرع ، وإن لم يكن موجودا بالفعل .
[ ص: 207 ] قوله تعالى : ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة [ 7 \ 11 ] .
قوله : خلقناكم ثم صورناكم بخلقنا وتصويرنا لأبيكم آدم الذي هو أصلكم .
وجمع بعض العلماء بأن معنى قوله : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 ] ، أي مع ذلك ، فلفظة " بعد " بمعنى مع ، ونظيره قوله تعالى : عتل بعد ذلك زنيم [ 68 \ 13 ] .
وعليه فلا إشكال في الآية ، ويستأنس لهذا القول بالقراءة الشاذة ، وبها قرأ مجاهد : " والأرض مع ذلك دحاها " ، وجمع بعضهم بأوجه ضعيفة لأنها مبنية على أن خلق السماء قبل الأرض ، وهو خلاف التحقيق منها أن " ثم " بمعنى الواو ، ومنها أنها للترتيب الذكري كقوله تعالى : ثم كان من الذين آمنوا الآية [ 90 \ 17 ] .
قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات الآية .
أفرد هنا تعالى لفظ " السماء " ، ورد عليه الضمير بصيغة الجمع ، في قوله : " فسواهن " ، وللجمع بين ضمير الجمع ومفسره المفرد وجهان :
الأول : أن المراد بالسماء جنسها الصادق بسبع سماوات ، وعليه فأل جنسية .
الثاني : أنه لا خلاف بين أهل اللسان العربي في وقوع إطلاق المفرد وإرادة الجمع مع تعريف المفرد وتنكيره وإضافته ، وهو كثير في القرءان العظيم وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرآن واللفظ معرف ، قوله تعالى : وتؤمنون بالكتاب كله [ 3 \ 119 ] ، أي بالكتب كلها بدليل قوله تعالى : كل آمن بالله وملائكته وكتبه [ 2 \ 285 ] ، وقوله وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب [ 42 \ 15 ] ، قوله تعالى : سيهزم الجمع ويولون الدبر ، [ 54 \ 45 ] ، يعني الأدبار ، كما هو ظاهر ، وقوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة [ 25 ] ، يعني الغرف ، بدليل قوله تعالى : لهم غرف من فوقها غرف مبنية [ 39 \ 20 ] وقوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون ، [ 34 \ 37 ] ، وقوله تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا ، [ 89 \ 22 ] ، أي الملائكة ، بدليل قوله تعالى : هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ، [ 2 \ 210 ] ، وقوله تعالى : أو الطفل الذين لم يظهروا ، الآية [ 24 \ 31 ] ، يعني الأطفال الذين لم يظهروا ، وقوله تعالى : هم العدو فاحذرهم [ ص: 208 ] الآية [ 63 \ 4 ] ، يعني الأعداء .
ومن أمثلته واللفظ منكر ، قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] يعني وأنهار ، بدليل قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] ، وقوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما [ 25 ] ، يعني أئمة ، وقوله تعالى : مستكبرين به سامرا تهجرون يعني سامرين ، وقوله : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] ، يعني أطفالا ، وقوله : لا نفرق بين أحد منهم [ 2 \ 136 ] ، أي بينهم ، وقوله تعالى : وحسن أولئك رفيقا [ 4 ] أي رفقاء ، وقوله : وإن كنتم جنبا فاطهروا [ 5 \ 6 ] ، أي جنبين أو أجنابا ، وقوله : والملائكة بعد ذلك ظهير [ 66 \ 4 ] ، أي مظاهرون لدلالة السياق فيها كلها على الجمع . واستدل سيبويه لهذا بقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا [ 4 \ 4 ] أي أنفسا .
ومن أمثلته واللفظ مضاف قوله تعالى : إن هؤلاء ضيفي [ 15 \ 68 ] الآية ، يعني أضيافي ، وقوله : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] ، أي أوامره .
وأنشد سيبويه لإطلاق المفرد وإرادة الجمع قول الشاعر ، وهو علقمة بن عبدة التميمي :
بها جيف الحسرى فأما عظامها فبيض وأما جلدها فصليب
يعني وأما جلودها فصليبة .
وأنشد له أيضا قول الآخر :
كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص
يعني في بعض بطونكم .
ومن شواهده قول عقيل بن علفة المري :
وكان بنو فزارة شر عم وكنت لهم كشر بني الأخينا
يعني شر أعمام ، وقول العباس بن مرداس السلمي :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم وقد سلمت من الإحن الصدور
[ ص: 209 ] يعني إنا إخوانكم ، وقول الآخر :
يا عاذلاتي لا تردن ملامة إن العواذل ليس لي بأمير
يعني لسن لي بأمراء .
وهذا في النعت بالمصدر مطرد كقول زهير :
متى يشتجر قوم يقل سرواتهم هم بيننا هم رضى وهم عدل
ولأجل مراعاة هذا لم يجمع في القرءان السمع والطرف والضيف لأن أصلها مصادر كقوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم [ 2 \ 7 ] ، وقوله : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ، [ 14 \ 43 ] ، وقوله تعالى : ينظرون من طرف خفي [ 42 \ 45 ] ، وقوله : إن هؤلاء ضيفي [ 15 \ 68 ] .
قوله تعالى : ياآدم اسكن أنت وزوجك الجنة الآية .
يتوهم معارضته مع قوله : حيث شئتما [ 2 \ 35 ] .
والجواب : أن قوله : " اسكن " أمر بالسكنى لا بالسكون الذي هو ضد الحركة ، فالأمر باتخاذ الجنة مسكنا لا ينافي التحرك فيها وأكلهما من حيث شاءا .
قوله تعالى : ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا الآية .
جاء في هذه الآية بصيغة خطاب الجمع في قوله : " ولا تكونوا " و " لا تشتروا " .
وقد أفرد لفظة " كافر " ، ولم يقل ولا تكونوا أول كافرين . ووجه الجمع بين الإفراد والجمع في شيء واحد ، أن معنى : " ولا تكونوا أول كافر " أي أول فريق كافر ، فاللفظ مفرد والمعنى جمع ، فيجوز مراعاة كل منها ، وقد جمع اللغتين قول الشاعر :
فإذا هم طعموا فألأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع
وقيل : هو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع ، كقول ابن علفة :
وكان بنو فزارة شر عم
. . . . . . . . كما تقدم قريبا .
قوله تعالى : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم . [ ص: 210 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أن الظن يكفي في أمور المعاد ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 10 \ 36 ] وكقوله : إن هم إلا يظنون [ 2 \ 78 ] ووجه الجمع أن الظن بمعنى اليقين والعرب تطلق الظن بمعنى اليقين ومعنى الشك ، وإتيان الظن بمعنى اليقين كثير في القرءان وفي كلام العرب . فمن أمثلته في القرءان هذه الآية ، وقوله تعالى قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة . . . . . . الآية [ 2 \ 249 ] ، وقوله تعالى : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، أي أيقنوا ، وقوله تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه [ 69 \ 20 ] ، أي أيقنت .
ونظيره من كلام العرب قول عميرة بن طارق :
بأن تغتروا قومي وأقعد فيكم وأجعل مني الظن غيبا مرجما
أي أجعل مني اليقين غيبا .
وقول دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج سراتهم في الفارسي المسرد
فقوله : ظنوا أي أيقنوا .
قوله تعالى لبني إسرائيل : وأني فضلتكم على العالمين .
لا يعارض قوله تعالى في تفضيل هذه الأمة : كنتم خير أمة أخرجت للناس الآية [ 3 \ 110 ] ، لأن المراد بالعالمين عالمو زمانهم بدليل الآيات والأحاديث المصرحة بأن هذه الأمة أفضل منهم ، كحديث معاوية بن حيدة القشيري في المسانيد والسنن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله .
ألا ترى أن الله جعل المقتصد منهم هو أعلاهم منزلة حيث قال : منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون [ 5 \ 66 ] ، وجعل في هذه الأمة درجة أعلى من درجة المقتصدة وهي درجة السابق بالخيرات ، حيث قال تعالى : ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات الآية [ 35 ] .
[ ص: 211 ] قوله تعالى : وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم الآية .
ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أن استحياء النساء من جملة العذاب الذي كان يسومهم فرعون ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن الإناث هبة من هبات الله لمن أعطاهن له ، وهي قوله تعالى : يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور [ 42 \ 49 ] ، فبقاء بعض الأولاد على هذا خير من موتهم كلهم ، كما قال الهذيل :
حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا خراش وبعض الشر أهون من بعض
والجواب عن هذا ، أن الإناث وإن كن هبة من الله لمن أعطاهن له ، فبقاؤهن تحت يد العدو يفعل بهن ما يشاء من الفاحشة والعار ، ويستخدمهن في الأعمال الشاقة نوع من العذاب ، وموتهن راحة من هذا العذاب ، وقد كان العرب يتمنون موت الإناث خوفا من مثل هذا .
قال بعض شعراء العرب في ابنة له تسمى مودة :
مودة تهوى عمر شيخ يسره لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده ولا ختن يرجى أود من القبر
وقال الآخر :
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا والموت أكرم نزال على الحرم
وقال بعض راجزيهم :
إني وإن سيق إلي المهر عبد وألفان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقال بعض الأدباء : وفي القرءان الإشارة إلى أن الإنسان يسوءه إهانة ذريته الضعاف بعد موته في قوله تعالى : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم [ 4 \ 9 ] .
[ ص: 212 ] قوله تعالى : وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله أكرم بني إسرائيل بنوعين من أنواع الطعام ، وهما المن والسلوى ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنهم لم يكن عندهم إلا طعام واحد ، وهي قوله تعالى : وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد [ 2 \ 61 ] ، وللجمع بينهما أوجه :
الأول : أن المن وهو الترنجبين على قول الأكثرين من جنس الشراب ، والطعام الواحد هو السلوى ، وهو على قول الأكثرين السمانى أو طائر يشبهه .
الوجه الثاني : أن المجعول على المائدة الواحدة تسميه العرب طعاما واحدا وإن اختلفت أنواعه ، ومنه قولهم : أكلنا طعام فلان ، وإن كان أنواعا مختلفة . والذي يظهر أن هذا الوجه أصح من الأول لأن تفسير المن بخصوص الترنجبين يرده الحديث المتفق عليه : الكمأة من المن . . . الحديث
الثالث : أنهم سموه طعاما واحدا لأنه لا يتغير ولا يتبدل كل يوم ، فهو مأكل واحد وهو ظاهر .
قوله تعالى : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون .
هذه الآية تدل على أنهم قتلوا بعض الرسل ، ونظيرها قوله تعالى : قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم الآية [ 3 \ 183 ] .
وقوله : كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون [ 5 \ 70 ] .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن الرسل غالبون منصورون كقوله : كتب الله لأغلبن أنا ورسلي [ 58 \ 21 ] ، وكقوله : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ 37 \ 171 - 173 ] ، وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم [ 14 \ 13 - 14 ] ، وبين تعالى أن هذا النصر في دار الدنيا أيضا كما في هذه الآية الأخيرة ، وكما في [ ص: 213 ] قوله : إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا الآية [ 40 \ 51 ] .
والذي يظهر في الجواب من هذا أن الرسل قسمان : قسم أمروا بالقتال في سبيل الله ، وقسم أمروا بالصبر والكف عن الناس ، فالذين أمروا بالقتال وعدهم الله بالنصر والغلبة في الآيات المذكورة ، والذين أمروا بالكف والصبر هم الذين قتلوا ليزيد الله رفع درجاتهم العلية بقتلهم مظلومين ، وهذا الجمع مفهوم من الآيات لأن النصر والغلبة فيه الدلالة بالالتزام على جهاد ومقاتلة ، ولا يرد على هذا الجمع قوله تعالى : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير الآية [ 3 \ 146 ] .
وأما على قراءة " قاتل " بصيغة الماضي من فاعل فالأمر واضح ، وأما على قراءة " قتل " بالبناء للمفعول فنائب الفاعل قوله : " ربيون " لا ضمير " نبي " وتطرق الاحتمال يرد الاستدلال ، وأما على القول بأن غلبة الرسل ونصرتهم بالحجة والبرهان ، فلا إشكال في الآية ، والله أعلم .
قوله تعالى : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه الآية .
الاستفهام في هذه الآية إنكاري ومعناه النفي ، فالمعنى : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف هذا ، كقوله تعالى : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا الآية [ 6 \ 144 ] .
وقوله : فمن أظلم ممن كذب على الله [ 39 ] ، وقوله : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه . . . . . . الآية [ 18 \ 57 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وللجمع بين هذه الآيات أوجه :
منها تخصيص كل موضع بمعنى صلته ، أي لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وإذا تخصصت بصلاتها زال الإشكال .
ومنها أن التخصيص بالنسبة إلى السبق ، أي لما لم يسبقهم أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكا طريقهم ، وهذا يؤول معناه إلى ما قبله ، لأن المراد السبق إلى المانعية والافترائية مثلا .
[ ص: 214 ] ومنها ، وادعى أبو حيان أنه الصواب ، هو ما حاصله أن نفي التفضيل لا يستلزم نفي المساواة ، فلم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية ، فيصير المعنى : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، ومن افترى على الله كذبا ، ومن كذب بآيات الله ، ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية ، ولا يدل على أن أحدهم أظلم من الآخر ، كما إذا قلت : لا أحد أفقه من فلان وفلان مثلا . ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان .
وما ذكره بعض المتأخرين من أن الاستفهام في قوله : " " ومن أظلم " المقصود منه التهويل والتفظيع من غير قصد إثبات الأظلمية للمذكور حقيقة ولا نفيها عن غيره ، كما ذكره عنه صاحب الإتقان ، يظهر ضعفه لأنه خلاف ظاهر القرءان .
قوله تعالى : ولله المشرق والمغرب . . . . . الآية .
أفرد في هذه الآية المشرق والمغرب وثناهما في سورة " الرحمن " في قوله : رب المشرقين ورب المغربين [ 55 \ 17 ] ، وجمعهما في سورة " سأل سائل " في قوله : فلا أقسم برب المشارق والمغارب [ 70 \ 40 ] ، وجمع المشارق في سورة " الصافات " في قوله : رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق [ 37 \ 5 ] .
والجواب أن قوله هنا : ولله المشرق والمغرب المراد به جنس المشرق والمغرب ، فهو صادق بكل مشرق من مشارق الشمس التي هي ثلاثمائة وستون ، وكل مغرب من مغاربها التي هي كذلك ، كما روي عن ابن عباس وغيره .
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية ما نصه :
وإنما معنى ذلك : " ولله المشرق " الذي تشرق منه الشمس كل يوم " والمغرب " الذي تغرب فيه كل يوم ، فتأويله إذا كان ذلك معناه : والله ما بين قطري المشرق وقطري المغرب إذا كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحلول الذي بعده وكذلك غروبها ، انتهى منه بلفظه .
وقوله : رب المشرقين ورب المغربين يعني مشرق الشتاء ومشرق الصيف ومغربهما ، كما عليه الجمهور ، وقيل : مشرق الشمس والقمر ومغربهما ، وقوله : برب المشارق والمغارب : [ ص: 215 ] أي مشارق الشمس ومغاربها كما تقدم ، وقيل مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون .
عبر في هذه الآية بـ : " ما " الموصولة الدالة على غير العقلاء ، ثم عبر في قوله : " قانتون " بصيغة الجمع المذكر الخاص بالعقلاء .
ووجه الجمع أن ما في السماوات والأرض من الخلق منه العاقل وغير العاقل ، فغلب في الاسم الموصول غير العاقل ، وغلب في صيغة الجمع العاقل ، والنكتة في ذلك أنه قال : بل له ما في السماوات والأرض ، وجميع الخلائق بالنسبة لملك الله إياهم سواء عاقلهم وغيره ، فالعاقل في ضعفه وعجزه بالنسبة إلى ملك الله كغير العاقل ، ولما ذكر القنوت ، وهو الطاعة وكان أظهر في العقلاء من غيرهم ، عبر بما يدل على العقلاء تغليبا لهم .
قوله تعالى : قد بينا الآيات لقوم يوقنون [ 2 \ 118 ] .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن البيان خاص بالموقنين .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن البيان عام لجميع الناس كقوله تعالى كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون [ 2 \ 187 ] ، وكقوله : هذا بيان للناس [ 3 \ 138 ] ، ووجه الجمع أن البيان عام لجميع الخلق ، إلا أنه لما كان الانتفاع به خاصا بالمتقين ، خص في هذه الآية بهم لأن ما لا نفع فيه كالعدم ، ونظيرها قوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] وقوله : إنما تنذر من اتبع الذكر الآية [ 36 \ 11 ] ، مع أنه منذر للأسود والأحمر ، وإنما خص الإنذار بمن يخشى ومن يتبع الذكر لأنه المنتفع به .
قوله تعالى : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه الآية .
قوله تعالى في هذه الآية : " إلا لنعلم " يوهم أنه لم يكن عالما بمن يتبع الرسول [ ص: 216 ] ممن ينقلب على عقبيه ، مع أنه تعالى عالم بكل شيء قبل وقوعه ، فهو يعلم ما سيعمله الخلق ، كما دلت عليه آيات كثيرة كقوله : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم [ 53 ] ، وقوله تعالى : ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون [ 23 \ 63 ] : والجواب عن هذا أن معنى قوله تعالى : " إلا لنعلم " أي علما يترتب عليه الثواب والعقاب ، فلا ينافي كونه عالما به قبل وقوعه ، وقد أشار تعالى إلى أنه لا يستفيد بالاختبار علما جديدا لأنه عالم بما سيكون حيث قال تعالى : وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور [ 3 \ 154 ] . فقوله : والله عليم بذات الصدور بعد قوله : " ليبتلي " : دليل على أنه لا يفيده الاختبار علما لم يكن يعلمه سبحانه وتعالى عن ذلك ، بل هو تعالى عالم بكل ما سيعمله خلقه وعالم بكل شيء قبل وقوعه ، كما لا خلاف فيه بين المسلمين : لا يعزب عنه مثقال ذرة الآية [ 34 \ 3 ] .
قوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات ، وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم إنك ميت وإنهم ميتون [ 39 ] .
والجواب عن هذا ، أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية فتورث أموالهم وتنكح نساؤهم بإجماع المسلمين ، وهذه الموتة هي التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم .
وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم : " بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع عليك الله موتتين ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها " ، وقال : " من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات " ، واستدل على ذلك بالقرآن ، ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما الحياة التي أثبتها الله للشهداء في القرءان ، وحياته صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا .
ما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله : ولكن لا تشعرون [ 2 \ 154 ] ، وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي [ ص: 217 ] إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:06 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (618)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 217 إلى صـ 229
وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ، وأن الله وكل ملائكة يبلغونه سلام أمته ، فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم ، مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء ، فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ولا يعلمها الخلق .
كما قال في جنس ذلك : ولكن لا تشعرون ولو كانت كالحياة التي يعرفها أهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات ، ولما جاز دفنه ولا نصب خليفة غيره ، ولا قتل عثمان ولا اختلف أصحابه ولا جرى على عائشة ما جرى ، ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده كالعول ، وميراث الجد والإخوة ، ونحو ذلك .
وإذا صرح القرءان بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى : بل أحياء ، وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله : ولكن لا تشعرون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده ، وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة ، عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا ، ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم ، فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات مع أنه يدرك الرؤيا ، ويعقل المعاني ، والله تعالى أعلم .
قال ابن القيم في كتاب الروح ما نصه : ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طري مطرا ، وقد سأله الصحابة : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ولو لم يكن جسده في ضريحه ، لما أجاب بهذا الجواب .
وقد صح عنه أن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام .
وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال : هكذا نبعث ، هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء .
وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة ، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه ، وتعلق به بحيث [ ص: 218 ] يصلي في قبره ويرد سلام من يسلم عليه ، وهي في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان . انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم بلفظه . وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا ، قال تعالى : بل أحياء ولكن لا تشعرون والعلم عند الله .
قوله تعالى : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الكفار لا عقول لهم أصلا ، لأن قوله : " شيئا " نكرة في سياق النفي ، فهي تدل على العموم ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الكفار لهم عقول يعقلون بها في الدنيا كقوله تعالى : وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين [ 29 38 ] .
والجواب أنهم يعقلون أمور الدنيا دون أمور الآخرة ، كما بينه تعالى بقوله : وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون [ 30 6 - 7 ] .
قوله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن جميع أنواع الدم حرام ، ومثلها قوله تعالى في سورة " النحل " : إنما حرم عليكم الميتة والدم الآية [ 16 115 ] .
وقد ذكر في آية أخرى ما يدل على أن الدم لا يحرم إلا إذا كان مسفوحا ، وهي قوله تعالى في سورة " الأنعام " : إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا الآية [ 6 \ 145 ] .
والجواب أن هذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيد ، والجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد حمل المطلق على المقيد لا سيما مع اتحاد الحكم والسبب ، كما هنا ، وسواء عندهم تأخر المطلق عن المقيد كما هنا أو تقدم ، وإنما قلنا هنا إن المطلق متأخر عن المقيد ، لأن القيد في سورة " الأنعام " ، وهي نزلت قبل " النحل " مع أنهما مكيتان إلا آيات معروفة ، والدليل على أن " الأنعام " قبل " النحل " ، قوله تعالى في " النحل " : وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك الآية [ 16 \ 118 ] ، والمراد به ما قص [ ص: 219 ] عليه في " الأنعام " بقوله : وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية [ 6 146 ] .
وأما كون " الأنعام " نزلت قبل " البقرة " و " المائدة " فواضح ، لأن " الأنعام " مكية بالإجماع إلا آيات منها ، و " البقرة " مدنية بالإجماع و " المائدة " من آخر ما نزل من القرآن ولم ينسخ منها شيء لتأخرها .
وعلى هذا فالدم إذا كان غير مسفوح كالحمرة التي تظهر في القدر من أثر تقطيع اللحم فهو ليس بحرام لحمل المطلق على المقيد ، وعلى هذا كثير من العلماء ، وما ذكرنا من عدم النسخ في " المائدة " ، قال به جماعة وهو على القول بأن قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم الآية [ 5 42 ] .
وقوله : أو آخران من غيركم [ 5 106 ] غير منسوخين صحيح ، وعلى القول بنسخهما لا يصح على الإطلاق ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الله لا يكلم الكفار يوم القيامة ، لأن قوله تعالى : ولا يكلمهم فعل في سياق النفي ، وقد تقرر في علم الأصول أن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم ، وسواء كان الفعل متعديا أو لازما على التحقيق ، خلافا للغزالي القائل بعمومه في المتعدي دون اللازم ، وخلاف الإمام أبي حنيفة رحمه الله في ذلك خلاف في حال لا في حقيقة لأنه يقول : إن الفعل في سياق النفي ليس صيغة للعموم ، ولكنه يدل عليه بالالتزام ، أي لأنه يدل على نفي الحقيقة ونفيها يلزمه نفي جميع الأفراد .
فقوله : لا أكلت مثلا ينفي حقيقة أكل فيلزمه نفي جميع أفراده ، وإيضاح عموم الفعل في سياق النفي أن الفعل ينحل عن مصدر وزمن عند النحويين ، وعن مصدر وزمن ونسبة عند بعض البلاغيين ، فالمصدر داخل في معناه إجماعا ، فالنفي داخل على الفعل ينفي المصدر الكامن في الفعل فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي .
ومن العجيب أن أبا حنيفة رحمه الله يوافق الجمهور على أن الفعل في سياق النفي إن أكد بمصدر نحو لا شربت شربا مثلا أفاد العموم ، مع أنه لا يوافق على إفادة النكرة في سياق النفي للعموم .
[ ص: 220 ] وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله يكلم الكفار يوم القيامة كقوله تعالى : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون قال اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 107 - 108 ] .
والجواب عن هذا بأمرين :
الأول : وهو الحق ، أن الكلام الذي نفى الله أنه يكلمهم به هو الكلام الذي فيه خير ، وأما التوبيخ والتقريع والإهانة ، فكلام الله لهم به من جنس عذابه لهم ، ولم يقصد بالنفي في قوله : " ولا يكلمهم " .
الثاني : أنه لا يكلمهم أصلا وإنما تكلمهم الملائكة بإذنه وأمره .
قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن القصاص أمر حتم لا بد منه ، بدليل قوله تعالى : " كتب عليكم " لأن معناه فرض وحتم عليكم ، مع أنه تعالى ذكر أيضا أن القصاص ليس بمتعين ، لأن ولي الدم بالخيار ، في قوله تعالى : فمن عفي له من أخيه شيء الآية [ 2 \ 178 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أن فرض القصاص وإلزامه فيما إذا لم يعف أولياء الدم أو بعضهم ، كما يشير إليه قوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل الآية [ 17 \ 33 ] .
قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية .
هذه الآية تعارض آيات المواريث بضميمة بيان النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن المقصود منها إبطال الوصية للوارثين منهم ، وذلك قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث .
والجواب ظاهر ، وهو أن آية الوصية هذه منسوخة بآيات المواريث ، والحديث المذكور بيان للناسخ ، وذهب بعض العلماء إلى أنها محكمة لا منسوخة ، وانتصر لهذا القول ابن حزم غاية الانتصار ؟ وعلى القول بأنها محكمة فهي من العام المخصوص ، فالوالدان والأقربون الذين لا يرثون لا وصية لهم ، بدليل آيات المواريث والحديث ، وأما [ ص: 221 ] الوالدان اللذان لا ميراث لهما كالرقيقين ، والأقارب الذين لا يرثون فتجب لهم الوصية على هذا القول ، ولكن مذهب الجمهور خلافه .
وحكى العبادي في الآيات البينات الإجماع على أنها منسوخة ، مع أن جماعة من العلماء قالوا بعدم النسخ .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق أن النسخ واقع فيها يقينا في البعض ، لأن الوصية للوالدين الوارثين والأقارب الوارثين رفع حكمها بعد تقرره إجماعا ، وذلك نسخ في البعض لا تخصيص ، لأن التخصيص قصر العام على بعض أفراده الدليل ، أما رفع حكم معين بعد تقرره فهو نسخ لا تخصيص كما هو ظاهر ، وقد تقرر في علم الأصول أن تخصيص بعض العمل بالعام نسخ ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :
وإن أتى ما خص بعد العمل نسخ والغير مخصصا جلى
والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن القادر على صوم رمضان مخير بين الصوم والإطعام ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على تعيين وجوب الصوم ، وهي قوله تعالى : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 185 ] .
والجواب عن هذا بأمرين :
أحدهما : وهو الحق ، أن قوله : وعلى الذين يطيقونه فدية منسوخ بقوله : فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 185 ] .
الثاني : أن معنى " يطيقونه " لا يطيقونه بتقدير لا النافية ، وعليه فتكون الآية محكمة ، ويكون وجوب الإطعام على العاجز عن الصوم كالهرم والزمن ، واستدل لهذا القول بقراءة بعض الصحابة " يطوقونه " بفتح الياء وتشديد الطاء والواو المفتوحتين بمعنى يتكلفونه مع عجزهم عنه ، وعلى هذا القول فيجب على الهرم ونحوه الفدية وهو اختيار البخاري ، مستدلا بفعل أنس بن مالك رضي الله عنه .
قوله تعالى : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا الآية .
[ ص: 222 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم ، وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا قاتلوا أم لا ، كقوله تعالى : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 193 ] .
وقوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد [ 9 5 ] .
وكقوله تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 6 ] .
والجواب عن هذا بأمور :
الأول : وهو أحسنها وأقربها ، أن المراد بقوله : " الذين يقاتلونكم " تهييج المسلمين وتحريضهم على قتال الكفار ، فكأنه يقول لهم : هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم ، ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة [ 9 36 ] ، وخير ما يفسر به القرآن القرآن .
الوجه الثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا ، وإيضاح ذلك أن من حكمة الله البالغة في التشريع ، أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجا لتخف صعوبته بالتدريج ، فالخمر مثلا لما كان تركها شاقا على النفوس التي اعتادتها ، ذكر أولا بعض معائبها بقوله : قل فيهما إثم كبير [ 2 219 ] .
ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت ، كما دل عليه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى الآية [ 2 43 ] .
ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرمها تحريما باتا بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون [ 5 90 ] .
وكذلك الصوم لما كان شاقا على النفوس شرعه أولا على سبيل التخيير بينه وبين الإطعام ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله : وأن تصوموا خير لكم [ 2 184 ] ، ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابا حتما بقوله تعالى فمن شهد منكم الشهر فليصمه الآية [ 2 185 ] .
[ ص: 223 ] وكذلك القتال على هذا القول شاق على النفوس ، أذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا الآية [ 22 39 ] .
ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم .
ثم استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابا عاما بقوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم الآية .
الوجه الثالث : وهو اختيار ابن جرير ، ويظهر لي أنه الصواب ، أن الآية محكمة وأن معناها : قاتلوا الذين يقاتلونكم ، أي من شأنهم أن يقاتلوكم .
أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء والذراري والشيوخ الفانية والرهبان وأصحاب الصوامع ، ومن ألقى إليكم السلم فلا تعتدوا بقتالهم لأنهم لا يقاتلونكم ، ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتل الصبي ، وأصحاب الصوامع ، والمرأة والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه .
وأما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة ، وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، وابن عباس والحسن البصري .
قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم الآية .
هذه الآية تدل على طلب الانتقام ، وقد أذن الله في الانتقام في آيات كثيرة كقوله تعالى : ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس الآية [ 42 41 ] .
وكقوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 148 ] .
وكقوله ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله الآية [ 22 \ 60 ] .
وقوله : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون [ 42 39 ] .
وقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ 42 40 ] .
[ ص: 224 ] وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام ، كقوله : فاصفح الصفح الجميل [ 15 85 ] .
وقوله : والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس [ 3 134 ] .
وكقوله : ادفع بالتي هي أحسن [ 41 34 ] .
وقوله : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 43 ] .
وقوله : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين [ 7 199 ] .
وكقوله : وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما [ 25 63 ] .
والجواب عن هذا بأمرين :
أحدهما : أن الله بين مشروعية الانتقام ، ثم أرشد إلى أفضلية العفو ، ويدل لهذا قوله تعالى : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [ 16 126 ] ، وقوله : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم [ 4 \ 148 ] ، فأذن في الانتقام بقوله : " إلا من ظلم " .
ثم أرشد إلى العفو بقوله : إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا [ 4 149 ] .
الوجه الثاني : أن الانتقام له موضع يحسن فيه ، والعفو له موضع كذلك ، وإيضاحه أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله ، ألا ترى أن من غصبت منه جاريته مثلا إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور تنتهك به حرمات الله ، فالانتقام في مثل هذا واجب ، وعليه يحمل الأمر في قوله : فاعتدوا الآية .
أي كما إذا بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب ، بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه المسلمين بكلام قبيح ونحو ذلك ، فعفوه أحسن وأفضل ، وقد قال أبو الطيب المتنبي :
إذا قيل حلم فللحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل
[ ص: 225 ] قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الردة لا تحبط العمل إلا بقيد الموت على الكفر ، بدليل قوله : فيمت وهو كافر .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الردة تحبط العمل مطلقا ، ولو رجع إلى الإسلام فكل ما عمل قبل الردة أحبطته الردة ، كقوله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله الآية [ 5 5 ] .
وقوله : لئن أشركت ليحبطن عملك الآية [ 39 \ 65 ] .
وقوله : ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون [ 6 \ 88 ] .
والجواب عن هذا أن هذه من مسائل تعارض المطلق والمقيد ، فيحمل المطلق على المقيد ، فتقيد الآيات المطلقة بالموت على الكفر وهذا مقتضى الأصول ، وعليه الإمام الشافعي ومن وافقه ، وخالف مالك في هذه المسألة وقدم آيات الإطلاق ، وقول الشافعي في هذه المسألة أجرى على الأصول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على تحريم نكاح كل كافرة ، ويدل لذلك أيضا قوله تعالى : ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ 60 \ 10 ] ، وقد جاءت آية أخرى تدل على جواز نكاح بعض الكافرات وهن الحرائر والكتابيات وهي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب [ 5 \ 5 ] .
والجواب أن هذه الآية الكريمة تخصص قوله : ولا تنكحوا المشركات أي ما لم يكن كتابيات بدليل قوله : والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب وحكى ابن جرير الإجماع على هذا .
وأما ما روي عن عمر من إنكاره على طلحة تزويج يهودية وعلى حذيفة تزويج [ ص: 226 ] نصرانية ، فإنه إنما كره نكاح الكتابيات لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، قاله ابن جرير .
قوله تعالى . والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن كل مطلقة تعتد بالأقراء ، وقد جاء في آيات أخر أن بعض المطلقات يعتد بغير الأقراء ، كالعجائز والصغائر المنصوص عليها بقوله : واللائي يئسن من المحيض - إلى قوله - واللائي لم يحضن [ 65 4 ] وكالحوامل المنصوص عليها بقوله : وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ 65 4 ] ، مع أنه جاء في آية أخرى أن بعض المطلقات لا عدة عليهن أصلا ، وهن المطلقات قبل الدخول ، وهي قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها الآية [ 33 \ 49 ] .
والجواب عن هذا ظاهر وهو أن آية : " والمطلقات " عامة ، وهذه الآيات المذكورة أخص منها فهي مخصصة لها ، فهي إذا من العام المخصوص .
قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا .
هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج [ 2 240 ] ، والجواب ظاهر وهو أن الأولى ناسخة لهذه ، وإن كانت قبلها في المصحف لأنها متأخرة عنها في النزول ، وليس في القرآن آية هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لآية بعدها فيه إلا في موضعين : أحدهما هذا الموضع ، الثاني آية : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك [ 33 50 ] ، هي الأولى في المصحف وهي ناسخة لقوله : لا يحل لك النساء من بعد الآية [ 33 52 ] ، لأنها وإن تقدمت في المصحف فهي متأخرة في النزول ، وهذا على القول بالنسخ ويأتي إن شاء الله تحرير المقام في سورة " الأحزاب " .
قوله تعالى : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
هذه الآية تدل بظاهرها على أنه لا يكره أحد على الدخول في الدين ، ونظيرها قوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين [ 10 99 ] .
[ ص: 227 ] وقوله تعالى : فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ [ 42 48 ] ، وقد جاء في آيات كثيرة ما يدل على إكراه الكفار على الدخول في الإسلام بالسيف كقوله تعالى : تقاتلونهم أو يسلمون [ 48 16 ] ، وقوله : وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة [ 2 193 ] ، أي شرك .
ويدل لهذا التفسير الحديث الصحيح : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله الحديث ، والجواب عن هذا بأمرين :
الأول : وهو الأصح ، أن هذه الآية في خصوص أهل الكتاب ، والمعنى أنهم قبل نزول قتالهم لا يكرهون على الدين مطلقا وبعد نزول قتالهم لا يكرهون عليه إذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
والدليل على خصوصها بهم ما رواه أبو داود وابن أبي حاتم والنسائي وابن حبان وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده ، فلما أجليت بنو النضير ، كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله : لا إكراه في الدين .
المقلاة : التي لا يعيش لها ولد ، وفي المثل : أحر من دمع المقلاة .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال نزلت : لا إكراه في الدين في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له : الحصين ، كان له ابنان نصرانيان وكان هو مسلما ، فقال للنبي : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ؟ فأنزل الله الآية .
وروى ابن جرير أن سعيد بن جبير سأله أبو بشر عن هذه الآية ، فقال : نزلت في الأنصار ، فقال : خاصة ؟ قال : خاصة .
وأخرج ابن جرير عن قتادة بإسنادين في قوله : لا إكراه في الدين قال : أكره عليه هذا الحي من العرب لأنهم كانوا أمة أمية ليس لهم كتاب يعرفونه ، فلم يقبل منهم غير الإسلام ، ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج ولم يفتنوا عن دينهم فيخلى سبيلهم .
وأخرج ابن جرير أيضا عن الضحاك في قوله : لا إكراه في الدين أو قال : أمر [ ص: 228 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان فلم يقبل منهم إلا : لا إله إلا الله أو السيف ، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل منهم الجزية ، فقال : لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا في قوله : لا إكراه في الدين قال : وذلك لما دخل الناس في الإسلام وأعطى أهل الكتاب الجزية ، فهذه النقول تدل على خصوصها بأهل الكتاب المعطين الجزية ومن في حكمهم ، ولا يرد على هذا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لأن التخصيص فيها عرف بالنقل عن علماء التفسير لا بمطلق خصوص السبب ، ومما يدل للخصوص أنه ثبت في الصحيح : عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل .
الأمر الثاني : أنها منسوخة بآيات القتال كقوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية [ 9 5 ] ، ومعلوم أن سورة " البقرة " من أول ما نزل بالمدينة ، وسورة " براءة " من آخر ما نزل بها ، والقول بالنسخ مروي عن ابن مسعود وزيد بن أسلم ، وعلى كل حال فآيات السيف نزلت بعد نزول السورة التي فيها : " لا إكراه " الآية ، والمتأخر أولى من المتقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الوسوسة وخواطر القلوب يؤاخذ بها الإنسان مع أنه لا قدرة له على دفعها ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الإنسان لا يكلف إلا بما يطيق كقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 286 ] ، وقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] .
والجواب أن آية : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه منسوخة بقوله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
[ ص: 229 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
قوله تعالى : هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من القرآن محكما ومنه متشابها .
وقد جاءت آية أخرى تدل على أن كله محكم وآية تدل على أن كله متشابه ، أما التي تدل على إحكامه كله فهي قوله تعالى : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 \ 1 ] ، وأما التي تدل على أن كله متشابه فهي قوله تعالى : كتابا متشابها مثاني [ 39 \ 23 ] ، ووجه الجمع بين هذه الآيات أن معنى كونه كله محكما ، أنه في غاية الإحكام أي الإتقان في ألفاظه ومعانيه وإعجازه ، أخباره صدق وأحكامه عدل ، لا تعتريه وصمة ولا عيب ، لا في الألفاظ ولا في المعاني .
ومعنى كونه متشابها ، أن آياته يشبه بعضها بعضا في الحسن والصدق ، والإعجاز والسلامة من جميع العيوب ، ومعنى كون بعضه محكما وبعضه متشابها ، أن المحكم منه هو واضح المعنى لكل الناس كقوله : ولا تقربوا الزنا [ 17 ] ، ولا تجعل مع الله إلها آخر [ 17 \ 39 ] .
والمتشابه هو ما خفي علمه على غير الراسخين في العلم ، بناء على أن الواو في قوله تعالى : والراسخون في العلم [ 3 \ 7 ] ، عاطفة أو هو ما استأثر الله بعلمه ، كمعاني الحروف المقطعة في أوائل السور بناء على أن الواو في قوله تعالى : والراسخون في العلم استئنافية لا عاطفة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:07 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (619)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 230 إلى صـ 242
قوله تعالى : لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الآية .
[ ص: 230 ] هذه الآية الكريمة توهم أن اتخاذ الكفار أولياء ، إذا لم يكن من دون المؤمنين ، لا بأس به بدليل قوله :من دون المؤمنين .
وقد جاءت آيات أخر تدل على منع اتخاذهم أولياء مطلقا كقوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا [ 4 \ 89 ] ، وكقوله : لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء الآية [ 5 \ 57 ] .
والجواب عن هذا أن قوله : " من دون المؤمنين " لا مفهوم له .
وقد تقرر في علم الأصول أن دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة له موانع تمنع اعتباره ، منها كون تخصيص المنطوق بالذكر لأجل موافقته للواقع ، كما في هذه الآية لأنها نزلت في قوم والوا اليهود دون المؤمنين ، فنزلت ناهية عن الصورة الواقعة من غير قصد التخصيص بها ، بل موالاة الكفار حرام مطلقا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الآية .
هذه الآية تدل على أن زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس عنده شك في قدرة الله على أن يرزقه الولد على ما كان منه من كبر السن ، وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك وهي قوله تعالى : قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر الآية [ 3 \ 40 ] .
والجواب عن هذا بأمور :
الأول : ما أخرجه ابن جرير عن عكرمة والسدي من أن زكريا لما نادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب : أن الله يبشرك بيحيى ، قال له الشيطان ليس هذا نداء الملائكة ، وإنما هو نداء الشيطان فداخل زكريا الشك في أن النداء من الشيطان ، فقال عند ذلك الشك الناشئ عن وسوسة الشيطان قبل أن يتيقن أنه من الله : أنى يكون لي غلام ولذا طلب الآية من الله على ذلك بقوله : رب اجعل لي آية الآية [ 3 \ 41 ] .
الثاني : أن استفهامه استفهام استعلام واستخبار ، لأنه لا يدري هل الله يأتيه بالولد من زوجه العجوز أم يأمره بأن يتزوج شابة أو يردهما شابين .
[ ص: 231 ] الثالث : أنه استفهام استعظام وتعجب من كمال قدرة الله تعالى ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير الآية .
هذه الآية يوهم ظاهرها أن بعض المخلوقين ربما خلق بعضهم ، ونظيرها قوله تعالى : وتخلقون إفكا الآية [ 29 \ 17 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الله هو خالق كل شيء ، كقوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر [ 54 \ 49 ] ، وقوله : الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل [ 39 \ 62 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب ظاهر ، وهو أن معنى خلق عيسى كهيئة الطير من الطين هو : أخذه شيئا من الطين وجعله إياه على هيئة - أي صورة - الطير وليس المراد الخلق الحقيقي لأن الله متفرد به جل وعلا ، وقوله : وتخلقون إفكا : معناه تكذبون ، فلا منافاة بين الآيات كما هو ظاهر .
قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي الآية .
هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها وفاة عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على خلاف ذلك كقوله : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم [ 4 \ 157 ] ، وقوله : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته الآية [ 4 \ 159 ] .
على ما فسرها به ابن عباس في إحدى الروايتين وأبو مالك والحسن وقتادة وابن . . . . . . وأبو هريرة ، ودلت على صدقه الأحاديث المتواترة ، واختاره ابن جرير وجزم ابن كثير ، بأنه الحق من أن قوله : " قبل موته " أي موت عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن قوله تعالى : " متوفيك " لا يدل على تعيين الوقت ، ولا يدل على كونه قد مضى وهو متوفيه قطعا يوما ما ، ولكن لا دليل على أن ذلك اليوم قد مضى ، وأما [ ص: 232 ] عطفه : " ورافعك " إلى قوله : " متوفيك " ، فلا دليل فيه لإطباق جمهور أهل اللسان العربي على أن الواو لا تقتضي الترتيب ولا الجمع ، وإنما تقتضي مطلق التشريك .
وقد ادعى السيرافي والسهيلي إجماع النحاة على ذلك ، وعزاه الأكثر للمحققين وهو الحق . خلافا لما قاله قطرب والفراء وثعلب وأبو عمر والزاهد وهشام والشافعي من أنها تفيد الترتيب لكثرة استعمالها فيه .
وقد أنكر السيرافي ثبوت هذا القول عن الفراء وقال : لم أجده في كتابه .
وقال ولي الدين : أنكر أصحابنا نسبة هذا القول إلى الشافعي ، حكاه عنه صاحب الضياء اللامع .
وقوله صلى الله عليه وسلم : ابدأ بما بدأ الله به يعني الصفا لا دليل فيه على اقتضائها الترتيب ، وبيان ذلك هو ما قاله الفهري كما ذكر عنه صاحب الضياء اللامع وهو أنها كما أنها لا تقتضي الترتيب ولا المعية فكذلك لا تقتضي المنع منهما ، فقد يكون العطف بها مع قصد الاهتمام بالأول كقوله إن الصفا والمروة من شعائر الله الآية [ 2 158 ] . بدليل الحديث المتقدم ، وقد يكون المعطوف بها مرتبا كقول حسان :
هجوت محمدا وأجبت عنه
على رواية الواو وقد يراد بها المعية كقوله : فأنجيناه وأصحاب السفينة [ 29 \ 15 ] ، وقوله : وجمع الشمس والقمر [ 75 \ 9 ] ، ولكن لا تحمل على الترتيب ولا على المعية إلا بدليل منفصل .
الوجه الثاني : أن معنى " متوفيك " أي : منيمك " ورافعك إلي " ، أي : في تلك النومة .
وقد جاء في القرآن إطلاق الوفاة على النوم في قوله وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار [ 6 \ 60 ] ، وقوله : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها [ 39 \ 42 ] .
وعزا ابن كثير هذا القول للأكثرين ، واستدل بالآيتين المذكورتين وقوله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا . . . . . الحديث .
[ ص: 233 ] الوجه الثالث : إن " متوفيك " اسم فاعل توفاه إذا قبضه وحازه إليه ، ومنه قولهم : توفى فلان دينه ، إذا قبضه إليه ، فيكون معنى " متوفيك " على هذا قابضك منهم إلي حيا .
وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وأما الجمع بأنه توفاه ساعات أو أياما ، ثم أحياه ، فالظاهر أنه من الإسرائيليات ، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تصديقها وتكذيبها .
قوله تعالى : ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين الآية .
هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن تدل على أن إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لم يكن مشركا يوما ما ، لأن نفي الكون الماضي في قوله : وما كان من المشركين يدل على استغراق النفي لجميع الزمن الماضي كما دل عليه قوله تعالى : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل الآية [ 21 \ 15 ] .
وقد جاء في موضع آخر ما يوهم خلاف ذلك وهو قوله : فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال ياقوم إني بريء مما تشركون الآية [ 6 - 78 ] .
ومن ظن ربوبية غير الله فهو مشرك بالله كما دل عليه قوله تعالى عن الكفار وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون [ 10 \ 66 ] .
والجواب عن هذا من وجهين : أحدهما أنه مناظر لا ناظر ومقصوده التسليم الجدلي أي : هذا ربي على زعمكم الباطل ، والمناظر قد يسلم المقدمة الباطلة تسليما جدليا ليفحم بذلك خصمه .
فلو قال لهم إبراهيم في أول الأمر : الكوكب مخلوق لا يمكن أن يكون ربا ، لقالوا له ، كذبت ، بل الكوكب رب ومما يدل لكونه مناظرا لا ناظرا :
قوله تعالى : وحاجه قومه [ 6 \ 80 ] .
وهذا الوجه هو الأظهر ، وما استدل به ابن جرير على أنه غير مناظر من قوله تعالى :
[ ص: 234 ] لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين [ 6 \ 77 ] .
لا دليل فيه على التحقيق لأن الرسل يقولون مثل ذلك تواضعا وإظهارا لالتجائهم إلى الله ، كقول إبراهيم : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام [ 14 \ 35 ] ، وقوله هو وإسماعيل : ربنا واجعلنا مسلمين لك الآية [ 2 \ 128 ] .
الوجه الثاني : أن الكلام على حذف همزة الاستفهام أي : أهذا ربي ؟ وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز ، وهو قياسي عند الأخفش مع أم ودونها ذكر الجواب أم لا ، فمن أمثلته دون أم ودون ذكر الجواب قول الكميت :
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب
يعني أو ذو الشيب يلعب ؟ وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :
رفوني وقالوا يا خويلد لم ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
يعني أهم هم ، كما هو الصحيح ، وجزم به الألوسي في تفسيره ، وذكره ابن جرير عن جماعة ويدل له قوله : وأنكرت الوجوه .
ومن أمثلته دون أم مع ذكر الجواب ، قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب
يعني أتحبها على القول الصحيح وهو مع أم كثير جدا ، ومن أمثلته قول الأسود بن يعفر التميمي وأنشده سيبويه لذلك :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يعني أشعيث بن سهم ؟ وقول ابن أبي ربيعة المخزومي :
بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبع رميت الجمر أم بثمان
يعني أبسبع ، وقول الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
[ ص: 235 ] يعني أكذبتك عينك ؟ كما نص سيبويه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا وإن خالف الخليل زاعما أن كذبتك صيغة خبرية ، وأن أم بمعنى بل ، ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي ، يسمى بالرجوع عند البلاغيين .
وقول الخنساء :
قذى بعينيك أم بالعين عوار أم خلت إذ أقفرت من أهلها الدار
تعني أقذى بعينيك ؟ وقول أحيحة بن الجلاح الأنصاري :
وما تدري وإن ذمرت سقبا لغيرك أم يكون لك الفصيل
يعني ألغيرك ؟ وقول امرئ القيس :
تروح من الحي أم تبتكر وماذا عليك بأن تنتظر
يعني أتروح ؟ .
وعلى هذا القول فقرينة الاستفهام المحذوف علو مقام إبراهيم عن ظن ربوبية غير الله وشهادة القرآن له بالبراءة من ذلك ، والآية على هذا القول تشبه قراءة ابن محيصن : ( سواء عليهم أنذرتهم ) [ 2 \ 6 ] ونظيرها على هذا القول قوله تعالى : أفإن مت فهم الخالدون [ 21 ] يعني أفهم الخالدون ؟ .
وقوله تعالى : وتلك نعمة تمنها [ 26 22 ] ، على أحد القولين ، وقوله : فلا اقتحم العقبة [ 90 \ 11 ] ، على أحد القولين .
وما ذكره بعض العلماء غير هذين الوجهين فهو راجع إليهما كالقول بإضمار القول ، أي يقول الكفار هذا ربي ، فإنه راجع إلى الوجه الأول .
وأما ما ذكره ابن إسحاق واختاره ابن جرير الطبري ونقله عن ابن عباس من أن إبراهيم كان ناظرا يظن ربوبية الكوكب فهو ظاهر الضعف ، لأن نصوص القرآن ترده كقوله : ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين [ 3 \ 67 ] . وقوله تعالى : ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين [ 16 \ 123 ] ، وقوله : ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل [ 21 \ 51 ] .
[ ص: 236 ] وقد بين المحقق ابن كثير في تفسيره رد ما ذكره ابن جرير بهذه النصوص القرآنية وأمثالها ، والأحاديث الدالة على مقتضاها كقوله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث .
قوله تعالى : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن المرتدين بعد إيمانهم المزدادين كفرا لا يقبل الله توبتهم إذا تابوا لأنه عبر بلن الدالة على نفي الفعل في المستقبل مع أنه جاءت آيات أخر دالة على أن الله يقبل توبة كل تائب قبل حضور الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] ، وقوله : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده [ 42 \ 25 ] ، وقوله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل [ 6 \ 158 ] .
فإنه يدل بمفهومه على أن التوبة قبل إتيان بعض الآيات مقبولة من كل تائب ، وصرح تعالى بدخول المرتدين في قبول التوبة قبل هذه الآية مباشرة في قوله تعالى : كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق - إلى قوله - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم [ 3 \ 86 - 89 ] .
فالاستثناء في قوله تعالى إلا الذين تابوا راجع إلى المرتدين بعد الإيمان المستحقين للعذاب واللعنة إن لم يتوبوا ويدل له أيضا قوله تعالى : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر الآية [ 2 \ 217 ] .
لأن مفهومه أنه تاب قبل الموت قبلت توبته مطلقا ، والجواب من أربعة أوجه :
الأول : وهو اختيار ابن جرير ونقله عن رفيع أبي العالية أن المعنى : إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بما أصابوا من الذنوب في كفرهم لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم حتى يتوبوا من كفرهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : وأولئك هم الضالون لأنه يدل على أن توبتهم مع بقائهما على ارتكاب الضلال وعدم قبولها حينئذ ظاهر .
[ ص: 237 ] الثاني : وهو أقربها عندي ، أن قوله تعالى : لن تقبل توبتهم يعني إذ تابوا عند حضور الموت ، ويدل لهذا الوجه أمران :
الأول : أنه تعالى بين في مواضع أخر أن الكافر الذي لا تقبل توبته هو الذي يصر على الكفر حتى يحضره الموت فيتوب في ذلك الوقت ، كقوله تعالى : وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار [ 4 18 ] .
فجعل التائب عند حضور الموت والميت على كفره سواء .
وقوله تعالى : فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا الآية [ 40 \ 85 ] .
وقوله في فرعون : آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين [ 10 \ 91 ] .
فالإطلاق الذي في هذه الآية يقيد بقيد تأخير التوبة إلى حضور الموت لوجوب حمل المطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول .
والثاني : أنه تعالى أشار إلى ذلك بقوله : ثم ازدادوا كفرا فإنه يدل على عدم توبتهم في وقت نفعها ونقل ابن جرير هذا الوجه الثاني الذي هو التقييد بحضور الموت عن الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي .
الثالث : أن معنى لن تقبل توبتهم أي إيمانهم الأول ، لبطلانه بالردة بعده ، ونقل خرجه ابن جرير هذا القول عن ابن جريح ولا يخفى ضعف هذا القول وبعده عن ظاهر القرآن .
الرابع : أن المراد بقوله : لن تقبل توبتهم أنهم لم يوفقوا للتوبة النصوح حتى تقبل منهم ، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 137 ] .
فإن قوله تعالى : ولا ليهديهم سبيلا ، يدل على أن عدم غفرانه لهم لعدم توفيقهم للتوبة والهدى .
كقوله : إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] .
[ ص: 238 ] وكقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون الآية [ 10 \ 96 ] .
ونظير الآية على هذا القول قوله تعالى : فما تنفعهم شفاعة الشافعين [ 74 \ 48 ] ، أي لا شفاعة لهم أصلا حتى تنفعهم ، وقوله تعالى : ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به الآية [ 23 \ 117 ] .
لأن الإله الآخر لا يمكن وجوده أصلا ، حتى يقوم عليه برهان أو لا يقوم عليه .
قال مقيده عفا الله عنه : مثل هذا الوجه الأخير هو المعروف عند النظار ، بقولهم السالبة لا تقضي بوجود الموضوع ، وإيضاحه أن القضية السالبة عندهم صادقة في صورتين ، لأن المقصود منها عدم اتصاف الموضوع بالمحمول وعدم اتصافه به يتحقق في صورتين :
الأولى : أن يكون الموضوع موجودا إلا أن المحمول منتف عنه ، كقولك : ليس الإنسان بحجر ، فالإنسان موجود والحجرية منتفية عنه .
والثانية : أن يكون الموضوع من أصله معدوما لأنه إذا عدم تحقق عدم اتصافه بالمحمول الموجودي ، لأن العدم لا يتصف بالوجود كقولك : لا نظير لله يستحق العبادة ، فإن الموضوع الذي هو النظير ليس مستحيلا من أصله ، وإذا تحقق عدمه تحقق انتفاء اتصافه باستحقاق العبادة ضرورة وهذا النوع من أساليب اللغة العربية ، ومن شواهده قول امرئ القيس :
على لاحب لا يهتدي بمناره إذا سافه العود النباطي جرجرا
لأن المعنى على لاحب لا منار له أصلا حتى يهتدى به .
وقول الآخر :
لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الضب بها ينجحر
لأنه يصف فلاة بأنها ليس فيها أرانب ولا ضباب حتى تفزع أهوالها الأرنب ، أو ينجحر فيها الضب أي يدخل الجحر أو يتخذه ، وقد أوضحت مسألة أن السالبة لا تقتضي وجود الموضوع في أرجوزتي في المنطق في مبحث انحراف السور ، وأوضحت فيها أيضا في مبحث التحصيل والعدول أن من الموجبات ما لا يقتضي وجود الموضوع نحو : بحر من زئبق ممكن ، والمستحيل معدوم فإنها موجبتان وموضوع كل منهما معدوم ، وحررنا [ ص: 239 ] هناك التفصيل فيما يقتضي وجود الموضوع وما لا يقتضيه ، وهذا الذي قررنا من أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولو بعد تكرر الردة ثلاث مرات أو أكثر ، لا منافاة بينه وبين ما قاله جماعة من العلماء الأربعة وغيرهم ، وهو مروي عن علي وابن عباس : من أن المرتد إذا تكرر منه ذلك يقتل ولا تقبل توبته ، واستدل بعضهم على ذلك بهذه الآية ، لأن هذا الخلاف في تحقيق المناط مع اتفاقهما على أصل المناط ، وإيضاحه أن المناط مكان النوط وهو التعليق ، ومنه قول حسان رضي الله عنه :
وأنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والمراد به مكان تعليق الحكم ، وهو العلة فالمناط والعلة مترادفان اصطلاحا إلا أنه غلب التعبير بلفظ المناط في المسلك الخامس من مسالك العلة ، الذي هو المناسبة والإحالة فإنه يسمى تخريج المناط وكذلك في المسلك التاسع الذي هو تنقيح المناط ، فتخريج المناط هو استخراج العلة بمسلك المناسبة والإحالة ، وتنقيح المناط هو تصفية العلة وتهذيبها حتى لا يخرج شيء صالح لها ولا يدخل شيء غير صالح لها ، كما هو معلوم في محله ، وأما تحقيق المناط وهو الغرض هنا فهو أن يكون مناط الحكم متفقا عليه بين الخصمين .
إلا أن أحدهما يقول هو موجود في هذا الفرع .
والثاني : يقول : لا ومثاله الاختلاف في قطع النباش ، فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يوافق الجمهور على أن السرقة هي مناط القطع ، ولكنه يقول لم يتحقق المناط في النباش لأنه غير سارق ، بل هو آخذ مال عارض للضياع كالملتقط من غير حرز ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن مراد القائلين أنه لا تقبل توبته ، أن أفعاله دالة على خبث نيته وفساد عقيدته وأنه ليس تائبا في الباطل توبة نصوحا فهم موافقون على التوبة النصوح مناط القبول كما ذكرنا ، ولكن يقولون أفعال هذا الخبيث دلت على عدم تحقيق المناط .
ومن هنا اختلف العلماء في توبة الزنديق أعني المستسر بالكفر ، فمن قائل لا تقبل توبته ومن قائل تقبل ومن مفرق بين إتيانه تائبا قبل الاطلاع عليه وبين الاطلاع على نفاقه قبل التوبة ، كما هو معروف في فروع مذاهب الأئمة الأربعة لأن الذين يقولون يقتل ولا تقبل توبته يرون أن نفاقه الباطل دليل على أن توبته تقية لا حقيقة واستدلوا بقوله تعالى : إلا الذين تابوا وأصلحوا [ 2 160 ] .
[ ص: 240 ] فقالوا : الإصلاح شرط والزنديق لا يطلع على إصلاحه ، لأن الفساد إنما أتى مما أسره فإذا اطلع عليه وأظهر الإقلاع لم يزل في الباطن على ما كان عليه ، والذي يظهر أن أدلة القائلين بقبول توبته مطلقا أظهر وأقوى ، كقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه : هلا شققت عن قلبه ، وقوله للذي ساره في قتل رجل قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى . قال : أولئك الذين نهيت عن قتلهم ، وقوله لخالد لما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة : إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس وهذه الأحاديث في الصحيح ويدلك لذلك أيضا إجماعهم على أن أحكام الدنيا على الظاهر ، والله يتولى السرائر .
وقد نص تعالى على أن الأيمان الكاذبة جنة للمنافقين في الأحكام الدنيوية بقوله : اتخذوا أيمانهم جنة [ 58 \ 16 ] ، وقوله : سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس [ 9 \ 95 ] . وقوله : ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم الآية [ 9 \ 56 ] . إلى غير ذلك من الآيات .
وما استدل به بعضهم من قتل ابن مسعود لابن النواحة صاحب مسيلمة فيجاب عنه بأنه قتله لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا لمسيلمة : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك فقتله ابن مسعود تحقيقا لقوله صلى الله عليه وسلم .
فقد روي أنه قتله لذلك فإن قيل هذه الآية الدالة على عدم قبول توبتهم أخص من غيرها لأن فيها القيد بالردة وازدياد الكفر ، فالذي تكررت منه الردة أخص من مطلق المرتد ، والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص لأن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص .
فالجواب أن القرآن دل على قبول توبة من تكرر منه الكفر ، إذا أخلص في الإنابة إلى الله ، ووجه دلالة القرآن على ذلك أنه تعالى قال : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا [ 4 \ 37 ] .
ثم بين أن المنافقين داخلون فيهم بقوله تعالى : بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الآية [ 4 \ 138 ] .
ودلالة الاقتران وإن ضعفها الأصوليون فقد صححتها جماعة من المحققين ، ولا سيما إذا اعتضدت بالأدلة القرينة عليها كما هنا لقوله تعالى : [ ص: 241 ] لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما فيه الدلالة الواضحة على دخولهم في المراد بالآية ، بل كونها في خصوصهم قال به جماعة من العلماء ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الله تعالى نص على أن من أخلص التوبة من المنافقين تاب الله عليه بقوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما [ 4 145 - 147 ] .
وقد كان مخشي بن حمير رضي الله عنه من المنافقين الذين أنزل الله فيهم قوله تعالى : ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [ 9 \ 65 - 66 ] .
فتاب إلى الله بإخلاص ، فتاب الله عليه وأنزل الله فيه : إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة الآية [ 9 \ 66 ] ، فتحصل أن القائلين بعدم قبول توبة من تكررت منه الردة ، يعنون الأحكام الدنيوية ولا يخالفون في أنه إذا أخلص التوبة إلى الله قبلها منه ، لأن اختلافهم في تحقيق المناط كما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته الآية .
هذه الآية تدل على التشديد البالغ في تقوى الله تعالى ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، والجواب بأمرين :
الأول : أن آية : فاتقوا الله ما استطعتم ، ناسخة لقوله : اتقوا الله حق تقاته وذهب إلى هذا القول سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم ، قاله ابن كثير .
الثاني : أنها مبينة للمقصود بها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الأنصار ما كان بينهم وبين النار إلا أن يموتوا مع أنهم [ ص: 242 ] كانوا أهل فترة ، والله تعالى يقول : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 15 ] .
ويقول : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل الآية [ 4 \ 165 ] ، وقد بين تعالى هذه الحجة بقوله في سورة " طه " : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى [ 20 134 ] . والآيات بمثل هذا كثيرة .
والذي يظهر في الجواب ، والله تعالى أعلم ، أنه برسالة محمد صلى الله عليه وسلم لم يبق عذر لأحد ، فكل من لم يؤمن به فليس بينه وبين النار إلا أن يموت .
كما بينه تعالى بقوله : ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده الآية [ 11 \ 17 ] ، وما أجاب به بعضهم من أن عندهم بقية من إنذار الرسل الماضين ، تلزمهم بها الحجة فهو جواب باطل ، لأن نصوص القرآن مصرحة بأنهم لم يأتهم نذير كقوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 6 ] .
وقوله : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك الآية [ 32 \ 3 ] .
وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك [ 28 \ 46 ] .
وقوله : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير الآية [ 5 19 ] .
وقوله تعالى . وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 34 44 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2024-11-23, 06:08 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (620)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 243 إلى صـ 256
قوله تعالى : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة .
وصف الله المؤمنين في هذه الآية بكونهم أذلة حال نصره لهم ببدر ، وقد جاء في آية أخرى وصفه تعالى لهم بأن لهم العزة وهي قوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ 63 \ 8 ] ، ولا يخفى ما بين العزة والذلة من التنافي والتضاد .
والجواب ظاهر ، وهو أن معنى وصفهم بالذلة هو قلة عددهم وعددهم يوم بدر ، [ ص: 243 ] وقوله تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين نزل في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق ، وذلك بعد أن قويت شوكة المسلمين وكثر عددهم وعددهم مع أن العزة والذلة يمكن الجمع بينهما باعتبار آخر ، وهو أن الذلة باعتبار حال المسلمين من قلة العدد والعدد ، والعزة باعتبار نصر الله وتأييده كما يشير إلى هذا قوله تعالى : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره [ 8 \ 26 ] .
وقوله : ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة [ 3 \ 123 ] ، فإن زمان الحال هو زمان عاملها ، فزمان النصر هو زمان كونهم أذلة ، فظهر أن وصف الذلة باعتبار ، ووصف النصر والعزة باعتبار آخر ، فانفكت الجهة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة .
هذه الآية تدل على أن المدد من الملائكة يوم بدر من ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف ، وقد ذكر تعالى في سورة " الأنفال " أن هذا المدد ألف بقوله : إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة [ 8 9 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : أنه وعدهم بألف أولا ثم صارت ثلاثة آلاف ثم صارت خمسة ، كما في هذه الآية .
الوجه الثاني : أن آية " الأنفال " لم تقتصر على الألف بل أشارت إلى الزيادة المذكورة في " آل عمران " ولا سيما في قراءة نافع : " بألف من الملائكة مردفين " [ 8 \ 9 ] ، بفتح الدال على صيغة المفعول لأن معنى " مردفين " متبوعين بغيرهم ، وهذا هو الحق .
وأما على من قال : إن المدد المذكور في " آل عمران " في يوم أحد ، والمذكور [ ص: 344 ] في " الأنفال " في يوم بدر ، فلا إشكال على قوله ، إلا في أن غزوة أحد لم يأت فيها مدد من الملائكة .
والجواب : أن إتيان المدد فيها على القول به مشروط بالصبر والتقوى في قوله : بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم الآية [ 3 \ 125 ] ، ولما لم يصبروا ويتقوا لم يأت المدد ، وهذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم ، قاله ابن كثير .
قوله تعالى : فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم الآية .
قوله تعالى : فأثابكم غما بغم أي غما على غم يعني حزنا على حزن أو أثابكم غما بسبب غمكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيان أمره ، والمناسب لهذا الغم بحسب ما يسبق الذهن أن يقول لكي تحزنوا . أما قوله : " لكيلا تحزنوا " فهو مشكل لأن الغم سبب للحزن لا لعدمه .
والجواب عن هذا من أوجه :
الأول : أن قوله : " لكيلا تحزنوا " متعلق بقوله تعالى : ولقد عفا عنكم [ 3 \ 152 ] ، وعليه فالمعنى أنه تعالى عفا عنكم لتكون حلاوة عفوه تزيل عنكم ما نالكم من غم القتل والجراح ، وفوت الغنيمة والظفر والجزع من إشاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتله المشركون .
الوجه الثاني : أن معنى الآية ، أنه تعالى غمكم هذا الغم لكي تتمرنوا على نوائب الدهر ، فلا يحصل لكم الحزن في المستقبل ، لأن من اعتاد الحوادث لا تؤثر عليه .
الوجه الثالث : أن " لا " وصلة وسيأتي الكلام على زيادتها بشواهده العربية إن شاء الله تعالى في الجمع بين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] ، وقوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء
قوله تعالى : فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن العدل بين الزوجات ممكن ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنه غير ممكن وهو قوله تعالى : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية [ 4 \ 129 ] .
والجواب عن هذا : أن العدل بينهن الذي ذكر الله أنه ممكن هو العدل في توفية الحقوق الشرعية . والعدل الذي ذكر أنه غير ممكن هو المساواة في المحبة والميل الطبيعي ، لأن هذا انفعال لا فعل فليس تحت قدرة البشر ، والمقصود أن من كان أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات فليتق الله وليعدل في الحقوق الشرعية ، كما يدل عليه قوله : فلا تميلوا كل الميل الآية [ 4 \ 129 ] .
وهذا الجمع روي معناه عن ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم نقله عنهم ابن كثير في تفسير قوله : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء الآية .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة أن آية : ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء نزلت في عائشة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يميل إليها بالطبع أكثر من غيرها .
وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك ، يعني القلب ، انتهى من ابن كثير .
قوله تعالى : واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت الآية .
[ ص: 246 ] هذه الآية تدل على أن الزانية لا تجلد بل تحبس إلى الموت أو إلى جعل الله لها سبيلا .
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أنها لا تحبس بل تجلد مائة إن كانت بكرا ، وجاء في آية منسوخة التلاوة باقية الحكم أنها إن كانت محصنة ترجم .
والجواب ظاهر ، وهو أن حبس الزواني في البيوت منسوخ بالجلد والرجم ، أو أنه كانت له غاية ينتهى إليها هي جعل الله لهن السبيل ، فجعل الله السبيل بالحد ، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الحديث .
قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين الآية .
هذه الآية تدل بعمومها على منع الجمع بين كل أختين سواء كانتا بعقد أم بملك يمين ، وقد جاءت آية تدل بعمومها على جواز جمع الأختين بملك اليمين وهي قوله تعالى في سورة " قد أفلح " وسورة " سأل سائل " : والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [ 23 \ 5 - 6 ] .
فقوله : وأن تجمعوا بين الأختين اسم مثنى محلى بأل والمحلى بها من صيغ العموم كما تقرر خرجه في علم الأصول ، وقوله : أو ما ملكت أيمانهم اسم موصول وهو أيضا من صيغ العموم ، كما تقرر في علم الأصول أيضا .
فبين هاتين الآيتين عموم وخصوص من وجه يتعارضان بحسب ما يظهر في صورة هي جمع الأختين بملك اليمين ، فيدل عموم وأن تجمعوا بين الأختين على التحريم ، وعموم : أو ما ملكت أيمانهم على الإباحة ، كما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه : أحلتهما آية وحرمتهما أخرى .
وحاصل تحرير الجواب عن هاتين الآيتين أنهما لا بد أن يخصص عموم إحداهما بعموم الأخرى ، فيلزم الترجيح بين العمومين ، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر لوجوب العمل بالراجح إجماعا ، وعليه فعموم : وأن تجمعوا بين الأختين ، أرجح من عموم : أو ما ملكت أيمانهم من خمسة أوجه :
الأول : أن عموم : وأن تجمعوا بين الأختين نص في محل المدرك المقصود [ ص: 247 ] بالذات لأن السورة سورة " النساء " وهي التي بين الله فيها من تحل منهن ومن تحرم ، وآية أو ما ملكت أيمانهم لم تذكر من أجل تحريم النساء ولا تحليلهن ، بل ذكر الله صفات المتقين ، فذكر من جملتها حفظ الفرج ، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية ، وقد تقرر في الأصول أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها لا من مظانها .
الثاني : أن آية : أو ما ملكت أيمانهم ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين لأن الأخت من الراضع لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم : وأخواتكم من الرضاعة [ 4 23 ] ، وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعا للإجماع على أن عموم : أو ما ملكت أيمانهم يخصصه ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية [ 4 22 ] .
والأصح عن الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص مع العام الذي لم يدخله التخصيص هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص ووجهه ظاهر .
الثالث : أن عموم : وأن تجمعوا بين الأختين غير وارد في معرض مدح ولا ذم ، وعموم أو ما ملكت أيمانهم وارد في معرض مدح المتقين .
والعام الوارد في معرض المدح أو الذم اختلفت العلماء في اعتبار عمومه ، فأكثر العلماء على أن عمومه معتبر كقوله : إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم [ 82 \ 13 - 14 ] ، فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح ، وكل فاجر مع أنه للذم .
وخالف في ذلك بعض العلماء منهم الإمام الشافعي رحمه الله قائلا : إن العام الوارد في معرض المدح أو الذم لا عموم له ، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم .
ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله [ 9 ] ، في الحلي المباح لأن الآية سيقت للذم فلا تعم عنده الحلي المباح ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه عند بعض العلماء .
الرابع : أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين فالأصل في الفروج التحريم ، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة .
[ ص: 248 ] الخامس : أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله في سورة " المائدة " ، والعلم عند الله تعالى .
فهذه الأوجه الخمسة التي بينا يرد بها استدلال داود الظاهري بهذه الآية الكريمة على جمع الأختين في الوطء بملك اليمين ولكنه يحتج بآية أخرى وهي قوله تعالى : إلا ما ملكت أيمانكم [ 4 \ 24 ] ، فإنه يقول : الاستثناء راجع أيضا إلى قوله : وأن تجمعوا بين الأختين فيكون المعنى على قوله : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما ملكت أيمانكم ، فإنه لا يحرم فيه الجمع بين الأختين .
ورجوع الاستثناء لكل ما قبله من المتعاطفات جملا كانت أو مفردات هو الجاري على أصول مالك والشافعي وأحمد ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود [ الرجز ] :
وكل ما يكون فيه العطف من قبل الاستثناء فكلا يقف
دون دليل العقل أو ذي السمع .
خلافا لأبي حنيفة القائل برجوع الاستثناء للجملة الأخيرة فقط ، ولذلك لا يرى قبول شهادة القاذف ولو تاب وأصلح لأن قوله تعالى : إلا الذين تابوا [ 24 \ 5 ] ، يرجع عنده لقوله تعالى : وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، فقط أي إلا الذين تابوا ، فقد زال فسقهم بالتوبة ولا يقول برجوعه لقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة إلا الذين تابوا فاقبلوا شهادتهم ، بل يقول : لا تقبلوها لهم مطلقا لاختصاص الاستثناء بالأخيرة عنده .
ولم يخالف أبو حنيفة أصله في قوله برجوع الاستثناء في قوله تعالى : إلا من تاب وآمن وعمل صالحا [ 25 \ 70 ] ، لجميع الجمل قبله أعني قوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون [ 25 \ 68 ] ، لأن جميع هذه الجمل معناها في الجملة الأخيرة وهي قوله تعالى : ومن يفعل ذلك يلق أثاما [ 25 \ 68 ] ، لأن الإشارة في قوله : " ذلك " شاملة لكل من الشرك والقتل والزنى ، فبرجوعه للأخيرة رجع للكل ، فظهر أن أبا حنيفة لم يخالف فيها أصله .
[ ص: 249 ] ولأجل هذا الأصل المقرر في الأصول لو قال رجل : هذه الدار حبس على الفقراء والمساكين وبني زهرة وبني تميم إلا الفاسق منهم ، فإنه يخرج فاسق الكل عند المالكية والشافعية والحنابلة خلافا للحنفية القائلين يخرج فاسق الأخيرة فقط .
وعلى هذا ، فاحتجاج داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة .
قال مقيده عفا الله عنه : التحقيق في هذه المسألة هو ما حققه بعض المتأخرين كابن الحاجب من المالكية والغزالي من الشافعية والآمدي من الحنابلة من أن الحكم في الاستثناء الآتي بعد متعاطفات هو الوقف ، وأن لا يحكم برجوعه إلى الجميع ولا إلى الأخيرة ، وإنما قلنا إن هذا هو التحقيق ، لأن الله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية [ 4 \ 59 ] .
وإذا رددنا هذا النزاع إلى الله وجدنا القرآن دالا على قول هؤلاء ، الذي ذكرنا أنه هو التحقيق في آيات كثيرة منها قوله تعالى : فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا [ 4 \ 92 ] ، فالاستثناء راجع للدية فهي تسقط بتصدق مستحقها بها ولا يرجع لتحرير الرقبة قولا واحدا لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ ، ومنها قوله تعالى : فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ 24 4 - 5 ] .
فالاستثناء لا يرجع لقوله : فاجلدوهم ثمانين جلدة لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف .
ومنها أيضا قوله تعالى : فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق [ 4 \ 89 - 95 ] .
فالاستثناء في قوله : إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق لا يرجع قولا واحدا إلى الجملة الأخيرة التي هي أقرب الجمل إليه ، أعني قوله تعالى : ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إذ لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار ، ولو وصلوا إلى قوم [ ص: 250 ] بينكم وبينهم ميثاق ، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله : فخذوهم واقتلوهم والمعنى فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فليس لكم أخذهم بأسر ولا قتلهم لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم وقتلهم ، كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذه الآية نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي وفي بني جذيمة بن عامر .
وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الجمل إليه في القرآن العظيم الذي هو في الطرف الأعلى من الإعجاز ، تبين أنه ليس نصا في الرجوع إلى غيرها .
ومنها أيضا قوله تعالى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا [ 4 \ 83 ] .
فالاستثناء ليس راجعا للجملة الأخيرة التي يليها أعني : ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان لأنه لولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان كلا ولم ينج من ذلك قليل ولا كثير حتى يخرج بالاستثناء .
واختلف العلماء في مرجع هذا الاستثناء فقيل راجع لقوله : أذاعوا به [ 4 \ 83 ] . وقيل راجع لقوله : لعلمه الذين يستنبطونه منهم [ 4 \ 83 ] ، وإذا لم يرجع للجملة التي تليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها ، وقيل إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها فلا يكون نصا في رجوعه لغيرها وقيل إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليها .
وعليه فالمعنى : ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد لاتبعتم الشيطان في ملة آبائكم من الكفر وعبادة الأوثان إلا قليلا . كمن كان على ملة إبراهيم كورقة بن نوفل وزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وأضرابهم ، وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله : لاتبعتم الشيطان إلا قليلا أن معناه لاتبعتم الشيطان كلا . قال : والعرب تطلق القلة وتريد بها العدم . واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب [ المتقارب ] :
أشم ندي كثير النوادي قليل المثالب والقادحه
يعني لا مثلبة فيه ولا قادحة .
[ ص: 251 ] قال مقيده عفا الله عنه : إطلاق القلة وإرادة العدم كثيرة في كلام العرب ومنه قول الشاعر :
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة قليل بها الأصوات إلا بغامها
يعني أنه لا صوت في تلك الفلاة غير بغام راحلته ، وقول الآخر :
فما بأس لو ردت علينا تحية قليلا لدى من يعرف الحق عابها
يعني لا عاب فيها عند من يعرف الحق ، وعلى هذين القولين الأخيرين فلا شاهد في الآية . وبهذا التحقيق الذي حررنا يرد استدلال داود الظاهري بهذه الآية الأخيرة أيضا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب .
هذه الآية تدل على أن الإماء إذا زنين جلدن خمسين جلدة وقد جاءت آية أخرى تدل بعمومها على أن كل زانية تجلد مائة جلدة ، وهي قوله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ 24 \ 2 ] ، والجواب ظاهر ، وهو أن هذه الآية مخصصة لآية " النور " ، لأنه لا يتعارض عام وخاص .
قوله تعالى : يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، ونظيرها قوله تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ 6 ] .
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك هي قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الآية [ 5 \ 48 ] ، ووجه الجمع بين ذلك مختلف فيه اختلافا مبينا على الاختلاف في حكم هذه المسألة .
فجمهور العلماء على أن شرع من قبلنا إن ثبت بشرعنا فهو شرع لنا ما لم يدل دليل من شرعنا على نسخه ، لأنه ما ذكر لنا في شرعنا إلا لأجل الاعتبار والعمل ، وعلى هذا القول فوجه الجمع بين الآيتين أن معنى قوله : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أن شرائع الرسل ربما ينسخ في بعضها حكم كان في غيرها أو يزاد في بعضها حكم لم يكن في غيرها .
[ ص: 252 ] فالشرعة إذن إما بزيادة أحكام لم تكن مشروعة قبل وإما بنسخ شيء كان مشروعا قبل ، فتكون الآية لا دليل فيها على أن ما ثبت بشرعنا أنه كان شرعا لمن قبلنا ، ولم ينسخ أنه ليس من شرعنا لأن زيادة ما لم يكن قبل أو نسخ ما كان من قبل كلاهما ليس من محل النزاع .
وأما على قول الشافعي ومن وافقه : أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا إلا بنص من شرعنا أنه مشروع لنا .
فوجه الجمع أن المراد بسنن من قبلنا وبالهدى في قوله : أولئك الذين هدى الله أصول الدين التي هي التوحيد لا الفروع العلمية بدليل قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الآية .
ولكن هذا الجمع الذي ذهبت إليه الشافعية يرد عليه ما رواه البخاري في صحيحه في تفسير سورة " ص " عن مجاهد أنه سأل ابن عباس : من أين أخذت السجدة في " ص " فقال ابن عباس : ومن ذريته داود [ 6 \ 84 ] ، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعلوم أن سجود التلاوة من الفروع لا من الأصول ، وقد بين ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سجدها اقتداء بداود ، وقد بينت هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتي ، فلذلك اختصرتها هنا .
قوله تعالى : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم الآية .
هذه الآية تدل على إرث الحلفاء من حلفائهم ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله [ 8 75 ] .
والجواب أن هذه الآية ناسخة لقوله : والذين عقدت أيمانكم الآية . ونسخها لها هو الحق خلافا لأبي حنيفة ومن وافقه في القول بإرث الحلفاء اليوم إن لم يكن له وارث .
وقد أجاب بعضهم بأن معنى : فآتوهم نصيبهم ، أي من الموالاة والنصرة ، وعليه فلا تعارض بينهما ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا .
[ ص: 253 ] هذه الآية تدل على أن الكفار لا يكتمون من خبرهم شيئا يوم القيامة ، وقد جاءت آيات أخرى تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله تعالى : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] .
وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 ] .
ووجه الجمع في ذلك هو ما بينه ابن عباس رضي الله عنهما لما سئل عن قوله : والله ربنا ما كنا مشركين مع قوله : ولا يكتمون الله حديثا ، وهو أن ألسنتهم تقول : والله ربنا ما كنا مشركين فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون .
فكتم الحق باعتبار اللسان وعدمه باعتبار الأيدي والأرجل ، وهذا الجمع يشير إليه قوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 65 ] .
وأجاب بعض العلماء بتعدد الأماكن فيكتمون في وقت ولا يكتمون في وقت آخر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله .
لا تعارض بينه وبين قوله تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك [ 4 79 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أن معنى قوله : وإن تصبهم حسنة أي مطر وخصب وأرزاق وعافية يقولوا هذا أكرمنا الله به ، وإن تصبهم سيئة أي جدب وقحط وفقر وأمراض ، يقولوا هذه من عندك أي من شؤمك يا محمد وشؤم ما جئت به . قل لهم : كل ذلك من الله .
ومعلوم أن الله هو الذي يأتي بالمطر والرزق والعافية ، كما أنه يأتي بالجدب والقحط والفقر والأمراض والبلايا ، ونظير هذه الآية قول الله في فرعون وقومه مع [ ص: 254 ] موسى : وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه [ 7 131 ] .
وقوله تعالى في قوم صالح مع صالح : قالوا اطيرنا بك وبمن معك الآية [ 27 \ 47 ] ، وقول أصحاب القرية للرسل الذين أرسلوا إليهم : قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم الآية [ 36 \ 18 ] .
وأما قوله : ما أصابك من حسنة فمن الله أي لأنه هو المتفضل بكل نعمة وما أصابك من سيئة فمن نفسك أي من قبلك ومن قبل عملك أنت إذ لا تصيب الإنسان سيئة إلا بما كسبت يداه ، كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [ 42 ] .
وسيأتي إن شاء الله تحرير المقام في قضية أفعال العباد بما يرفع الإشكال في سورة " الشمس " في الكلام على قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها [ 91 \ 8 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قيد في هذه الآية الرقبة المعتقة في كفارة القتل خطأ بالإيمان ، وأطلق الرقبة التي في كفارة الظهار واليمين عن قيد الإيمان ، حيث قال في كل منهما : فتحرير رقبة ولم يقل : مؤمنة .
وهذه المسألة من مسائل تعارض المطلق والمقيد وحاصل تحرير المقام فيها أن المطلق والمقيد لهما أربع حالات :
الأولى : أنه يتفق حكمهما وسببهما كآية الدم التي تقدم الكلام عليها ، فجمهور العلماء يحملون المطلق على المقيد في هذه الحالة التي هي اتحاد السبب والحكم معا ، وهو أسلوب من أساليب اللغة العربية لأنهم يثبتون ثم يحذفون اتكالا على المثبت ، كقول الشاعر وهو قيس بن الخطيم :
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف
فحذف راضون لدلالة راض عليها ، ونظيره أيضا قول ضابئ بن الحارث البرجمي :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقيارا بها لغريب
[ ص: 255 ]
رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن أجل الطوي رماني
وقال بعض العلماء : إن حمل المطلق على المقيد بالقياس ، وقيل بالعقل وهو أضعفها ، والله تعالى أعلم .
الحالة الثانية : أن يتحد الحكم ويختلف السبب ، كما في هذه الآية فإن الحكم متحد وهو عتق رقبة ، والسبب مختلف وهو قتل خطأ وظهار مثلا ، ومثل هذا المطلق يحمل على المقيد عند الشافعية والحنابلة وكثير من المالكية ، ولذا أوجبوا الإيمان في كفارة الظهار حملا للمطلق على المقيد خلافا لأبي حنيفة ، ويدل لحمل هذا المطلق على المقيد ، قوله صلى الله عليه وسلم في قصة معاوية بن الحكم السلمي : أعتقها فإنها مؤمنة ولم يستفصله عنها هل هي كفارة أو لا ، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال ، قال في مراقي السعود :
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في الأقوال
الحالة الثالثة : عكس هذه ، وهي الاتحاد في السبب مع الاختلاف في الحكم ، فقيل : يحمل فيها المطلق على المقيد ، وقيل : لا ، وهو أكثر العلماء ، ومثاله صوم الظهار وإطعامه فسببهما واحد وهو الظهار ، وحكمهما مختلف لأن هذا صوم وهذا إطعام ، وأحدهما مقيد بالتتابع وهو الصوم ، والثاني مطلق عن قيد التتابع وهو الإطعام ، فلا يحمل هذا المطلق على هذا المقيد .
والقائلون بحمل المطلق على المقيد في هذه الحالة مثلوا له بإطعام الظهار ، فإنه لم يقيد بكونه قبل أن يتماسا ، مع أن عتقه وصومه قيدا بقوله : من قبل أن يتماسا [ 58 \ 3 ] ، فيحمل هذا المطلق على المقيد فيجب كون الإطعام قبل المسيس .
ومثل له اللخمي بالإطعام في كفارة اليمين حيث قيد بقوله : من أوسط ما تطعمون أهليكم [ 5 \ 89 ] .
وأطلق الكسوة عن القيد بذلك حيث قال : أو كسوتهم [ 5 \ 89 ] ، فيحمل المطلق على المقيد فيشترط في الكسوة أن تكون من أوسط ما تكسون أهليكم .
الحالة الرابعة : أن يختلفا في الحكم والسبب معا ولا حمل فيها إجماعا وهو واضح ، وهذا فيما إذا كان المقيد واحدا .
[ ص: 256 ] أما إذا ورد مقيدان بقيدين مختلفين فلا يمكن حمل المطلق على كليهما لتنافي قيديهما ، ولكنه ينظر فيهما ، فإن كان أحدهما أقرب للمطلق من الآخر حمل المطلق على الأقرب له منهما عند جماعة من العلماء فيقيد بقيده ، وإن لم يكن أحدهما أقرب له فلا يقيد بقيد واحد منهما ، ويبقى على إطلاقه لاستحالة الترجيح بلا مرجح .
مثال كون أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم كفارة اليمين ، فإنه مطلق عن قيد التتابع والتفريق ، مع أن صوم الظهار مقيد بالتتابع ، وصوم التمتع مقيد بالتفريق ، واليمين أقرب إلى الظهار من التمتع لأن كلا من اليمين والظهار صوم كفارة بخلاف صوم التمتع ، فيقيد صوم كفارة اليمين بالتتابع عند من يقول بذلك ، ولا يقيد بالتفريق الذي في صوم التمتع .
وقراءة ابن مسعود : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " لم تثبت لإجماع الصحابة على عدم كتب " متتابعات " في المصحف ، ومثال كونهما ليس أحدهما أقرب للمطلق من الآخر صوم قضاء رمضان ، فإن الله قال فيه : فعدة من أيام أخر [ 2 \ 84 ] ، ولم يقيده بتتابع ولا تفريق مع أنه قيد صوم الظهار بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق ، وليس أحدهما أقرب إلى قضاء رمضان من الآخر ، فلا يقيد بقيد واحد منهما ، بل يبقى على الاختيار إن شاء تابعه وإن شاء فرقه ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:30 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (621)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 257 إلى صـ 270
قوله تعالى : ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما الآية .
هذه الآية تدل على أن القاتل عمدا لا توبة له وأنه مخلد في النار ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 116 ] .
وقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق - إلى قوله - إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات الآية [ 25 70 ] .
وقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا [ 39 \ 53 ] .
[ ص: 257 ] وقوله : وإني لغفار لمن تاب وآمن الآية [ 25 82 ] .
وللجمع بين ذلك أوجه منها أن قوله : فجزاؤه جهنم خالدا فيها أي إذا كان مستحلا لقتل المؤمن عمدا لأن مستحل ذلك كافر .
قاله عكرمة وغيره ويدل له ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن جبير وابن جرير عن ابن جريج من أنها نزلت في مقيس بن صبابة ، فإنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه قتيلا في بني النجار ولم يعرف قاتله ، فأمر له النبي صلى الله عليه وسلم بالدية فأعطتها له الأنصار مائة من الإبل ، وقد أرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من قريش من بني فهر ، فعمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله وارتد عن الإسلام ، وركب جملا من الدية ، وساق معه البقية ، ولحق بمكة مرتدا ، وهو يقول في شعر له :
قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضجعت موسدا
وكنت إلى الأوثان أول راجع
ومقيس هذا هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : لا أؤمنه في حل ولا حرم وقتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح ، فالقاتل الذي هو كمقيس بن صبابة المستحل للقتل المرتد عن الإسلام ، لا إشكال في خلوده في النار .
وعلى هذا فالآية مختصة بما يماثل سبب نزولها بدليل النصوص المصرحة بأن جميع المؤمنين لا يخلد أحد منهم في النار .
الوجه الثاني : أن المعنى : " فجزاؤه " أن جوزي مع إمكان ألا يجازى إذا تاب أو كان له عمل صالح يرجح بعمله السيئ ، وهذا قول أبي هريرة وأبي مجلز وأبي صالح وجماعة من السلف .
الوجه الثالث : أن الآية للتغليظ في الزجر ذكر هذا الوجه الخطيب والألوسي في تفسيريهما ، وعزاه الألوسي لبعض المحققين واستدلا عليه بقوله تعالى : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] ، على القول بأن معناه ومن لم يحج .
وبقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيحين للمقداد حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد [ ص: 258 ] أن قطع يده في الحرب : لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال .
وهذا الوجه من قبيل كفر دون كفر ، وخلود دون خلود ، فالظاهر أن المراد به عند القائل به أن معنى الخلود المكث الطويل ، والعرب ربما تطلق اسم الخلود على المكث ومنه قول لبيد :
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا صما خوالد ما يبين كلامها
إلا أن الصحيح في معنى الآية الوجه الثاني والأول ، وعلى التغليظ في الزجر ، حمل بعض العلماء كلام ابن عباس أن هذه الآية ناسخة لكل ما سواها ، والعلم عند الله تعالى .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر أن القاتل عمدا مؤمن عاص له توبة ، كما عليه جمهور علماء الأمة ، وهو صريح قوله تعالى : إلا من تاب وآمن الآية وادعاء تخصيصها بالكفار لا دليل عليه ، ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .
وقوله تعالى : إن الله يغفر الذنوب جميعا .
وقد توافرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان .
وصرح تعالى بأن القاتل أخو المقتول في قوله : فمن عفي له من أخيه شيء الآية [ 2 \ 178 ] ، وليس أخو المؤمن إلا المؤمن ، وقد قال تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا [ 49 9 ] فسماهم مؤمنين مع أن بعضهم يقتل بعضا .
ومما يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين في قصة الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، لأن هذه الأمة أولى بالتخفيف من بني إسرائيل ، لأن الله رفع عنها الآصار والأغلال التي كانت عليهم .
[ ص: 259 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المائدة
قوله تعالى : اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل بعمومها على إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا ولو سموا عليها غير الله أو سكتوا ولم يسموا الله ولا غيره لأن الكل داخل في طعامهم .
وقد قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن حيان : أن المراد بطعامهم ذبائحهم .
كما نقله عنهم ابن كثير ونقله البخاري عن ابن عباس ، ودخول ذبائحهم في طعامهم أجمع عليه المسلمون مع أنه جاءت آيات أخر تدل على أن ما سمي عليه غير الله لا يجوز أكله ، وعلى أن ما لم يذكر اسم الله عليه لا يجوز أكله أيضا .
أما التي دلت على منع أكل ما ذكر عليه اسم غير الله ، فكقوله تعالى : وما أهل به لغير الله [ 2 \ 173 ] في سورة " البقرة " .
وقوله : وما أهل لغير الله به [ 5 3 ] في المائدة ، والنحل [ 16 \ 15 ] .
وقوله في " الأنعام " : أو فسقا أهل لغير الله به [ 6 145 ] .
والمراد بالإهلال رفع الصوت باسم غير الله عند الذبح .
وأما التي دلت على منع أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ، فكقوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه الآية [ 6 121 ] .
وقوله تعالى : فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه [ 6 \ 118 - 119 ] ، فإنه يفهم منه عدم الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه .
[ ص: 260 ] والجواب عن مثل هذا مشتمل على مبحثين :
المبحث الأول : في وجه الجمع بين عموم آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب مع عموم الآيات المحرمة لما أهل به لغير الله فيما إذا سمى الكتابي على ذبيحته غير الله ، بأن أهل بها للصليب أو عيسى أو نحو ذلك .
المبحث الثاني : في وجه الجمع بين آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب أيضا مع قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما إذا لم يسم الكتابي الله ولا غيره على ذبيحته .
أما المبحث الأول فحاصله أن بين قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وبين قوله : وما أهل لغير الله به عموما وخصوصا من وجه ، تنفرد آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب في الخبز والجبن من طعامهم مثلا ، وتنفرد آية : وما أهل لغير الله به في ذبح الوثني لوثنه ويجتمعان في ذبيحة الكتابي التي أهل بها لغير الله ، كالصليب أو عيسى فعموم قوله : وما أهل لغير الله به يقتضي تحريمها ، وعموم قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب يقتضي حليتها .
وقد تقرر في علم الأصول أن الأعمين من وجه يتعارضان في الصورة التي يجتمعان فيها ، فيجب الترجيح بينهما ، والراجح منهما يقدم ويخصص به عموم الآخر .
كما قدمنا في سورة " النساء " في الجمع بين قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ 4 \ 23 ] ، مع قوله تعالى : أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] ، وكما أشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
وإن يك العموم من وجه ظهر فالحكم بالترجيح حتما معتبر
فإذا حققت ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في هذين العمومين أيهما أرجح ، فالجمهور على ترجيح الآيات المحرمة وهو مذهب الشافعي ورواية عن مالك ورواه إسماعيل بن سعيد عن الإمام أحمد .
كما ذكره صاحب المغني وهو قول ابن عمر وربيعة ، كما نقله عنهما البغوي في تفسيره وذكره النووي في شرح المهذب عن علي وعائشة ورجح بعضهم عموم آية [ ص: 261 ] التحليل ، بأن الله أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون . كما احتج به الشعبي وعطاء على إباحة ما أهلوا به لغير الله .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم ، أن عموم آيات المنع أرجح وأحق بالاعتبار من طرق متعددة . منها قوله صلى الله عليه وسلم : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك . وقوله صلى الله عليه وسلم : والإثم ما حاك في النفس الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم : فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه .
ومنها أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح كما تقرر في الأصول ، وينبني على ذلك أن النهي إذا تعارض مع الإباحة كما هنا ، فالنهي أولى بالتقديم والاعتبار ، لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام .
بل صرح جماهير من الأصوليين بأن النص الدال على الإباحة في المرتبة الثالثة من النص الدال على نهي التحريم لأن نهي التحريم مقدم على الأمر الدال على الوجوب لما ذكرنا من تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، والدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة للاحتياط في البراءة من عهدة الطلب .
وقد أشار إلى هذا صاحب مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار المدلول بقوله :
وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة إلخ . . .
فإن معنى قوله : " والآمر بعد النواهي " ، أن ما دل على الأمر بعدما دل على النهي ، فالدال على النهي هو المقدم وقوله : " ثم هذا الآخر على إباحة " ، يعني أن النص الدال على الأمر مقدم على الإباحة كما ذكرنا فتحصل أن الأول النهي فالأمر فالإباحة ، فظهر تقديم النهي عما أهل به لغير الله على إباحة طعام أهل الكتاب .
واعلم أن العلماء اختلفوا فيما حرم على أهل الكتاب كشحم الجوف من البقر والغنم المحرم على اليهود ، هل يباح للمسلم مما ذبحه اليهودي ؟ فالجمهور على إباحة ذلك للمسلم لأن الذكاة لا تتجزأ ، وكرهه مالك ومنعه بعض أصحابه كابن القاسم وأشهب ، واحتج عليهم الجمهور بحجج لا ينهض الاحتجاج بها عليهم فيما يظهر ، وإيضاح ذلك أن أصحاب مالك احتجوا بقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم قالوا : [ ص: 262 ] المحرم عليهم ليس من طعامهم حتى يدخل فيما أحلته الآية .
فاحتج عليهم الجمهور بما ثبت في صحيح البخاري من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مغفل رضي الله عنه على أخذه جرابا من شحم اليهود يوم خيبر .
وبما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة أي ودك متغير الريح ، وبقصة الشاة المسمومة التي سمتها اليهودية له صلى الله عليه وسلم ونهش من ذراعها ومات منها بشر بن البراء بن معرور ، وهي مشهورة صحيحة قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم عزم على أكلها هو ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أو لا .
وقد تقرر في الأصول أن ترك الاستفصال بمنزلة العموم في الأقوال ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
ونزلن ترك الاستفصال منزلة العموم في المقال
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذه الأدلة ليس فيها حجة على أصحاب مالك .
أما حديث عبد الله بن مغفل وحديث أنس رضي الله عنهما فليس في واحد منهما النص على خصوص الشحم المحرم عليهم ، ومطلق الشحم ليس حراما عليهم بدليل قوله تعالى : إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم [ 6 146 ] ، فما في الحديثين أعم من محل النزاع والدليل على الأعم ليس دليلا على الأخص لأن وجود الأعم لا يقتضي وجود الأخص بإجماع العقلاء .
ومثل رد هذا الاحتجاج بما ذكرنا هو القادح في الدليل المعروف عند الأصوليين بالقول بالموجب ، وأشار له صاحب مراقي السعود بقوله :
والقول بالموجب قدحه جلا وهو تسليم الدليل مسجلا
من مانع أن الدليل استلزما لما من الصور فيه اختصما
أما القول بالموجب عند البيانيين فهو من أقسام البديع المعنوي وهو ضربان معروفان في علم البلاغة ، وقصدنا هنا القول بالموجب بالاصطلاح الأصولي لا البياني ، وأما [ ص: 263 ] تركه صلى الله عليه وسلم الاستفصال في شاة اليهودية فلا يخفى أنه لا دليل فيه ، لأنه صلى الله عليه وسلم ينظر بعينه ولا يخفى عليه شحم الجوف ولا شحم الحوايا ولا الشحم المختلط بعظم ، كما هو ضروري فلا حاجة إلى السؤال عن محسوس حاضر .
وأجرى الأقوال على الأصول في مثل الشحم المذكور الكراهة التنزيهية لعدم دليل جازم على الحل أو التحريم ، لأن ما يعتقد الشخص أنه حرام عليه ليس من طعامه ، والذكاة لا يظهر تجزؤها فحكم المسألة مشتبه ومن ترك الشبهات استبرأ لدينه وعرضه .
وأما المبحث الثاني وهو الجمع بين قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم مع قوله : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما إذا لم يذكر الكتابي على ذبيحته اسم الله ولا اسم غيره .
فحاصله أن في قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وجهين من التفسير :
أحدهما : وإليه ذهب الشافعي ، وذكر ابن كثير في تفسيره لها أنه قوي ، أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه هو ما أهل به لغير الله ، وعلى هذا التفسير ، فمبحث هذه الآية هو المبحث الأول بعينه لا شيء آخر .
الوجه الثاني : أنها على ظاهرها ، وعليه فبين الآيتين أيضا عموم وخصوص من وجه تنفرد آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب فيما ذبحه الكتابي وذكر عليه اسم الله فهو حلال بلا نزاع .
وتنفرد آية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه فيما ذبحه وثني أو مسلم لم يذكر اسم الله عليه ، فما ذبحه الوثني حرام بلا نزاع ، وما ذبحه المسلم من غير تسمية يأتي حكمه إن شاء الله ، ويجتمعان فيما ذبحه كتابي ولم يسم الله عليه فيعارضان فيه .
فيدل عموم : وطعام الذين أوتوا الكتاب على الإباحة ، ويدل عموم : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه على التحريم ، فيصار إلى الترجيح كما قدمنا .
واختلف في هذين العمومين أيضا أيهما أرجح ، فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم : وطعام الذين أوتوا الكتاب الآية .
وقال بعضهم بترجيح عموم : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .
[ ص: 264 ] قال النووي في شرح المهذب : ذبيحة أهل الكتاب حلال سواء ذكروا اسم الله عليها أم لا ، لظاهر القرآن العزيز ، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور .
وحكاه ابن المنذر عن علي واللخمي وحماد بن سليمان وأبي حنيفة وأحمد وإسحاق وغيرهم ، فإن ذبحوا على صنم أو غيره لم يحل ، انتهى محل الغرض منه بلفظه .
وحكى النووي القول الآخر عن علي أيضا وأبي ثور وعائشة وابن عمر .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم ، أن لعموم كل من الآيتين مرجحا ، وأن مرجح آية التحليل أقوى وأحق بالاعتبار أما آية التحليل فيرجح عمومها بأمرين :
الأول : أنها أقل تخصيصا ، وآية التحريم أكثر تخصيصا ، لأن الشافعي ومن وافقه خصصوها بما ذبح لغير الله ، وخصصها الجمهور بما تركت فيه التسمية عمدا قائلين إن تركها نسيانا لا أثر له وآية التحليل ليس فيها من التخصيص غير صورة النزاع إلا تخصيص واحد ، وهو ما قدمنا من أنها مخصوصة بما لم يذكر عليه اسم غير الله على القول الصحيح .
وقد تقرر في الأصول أن الأقل تخصيصا مقدم على الأكثر تخصيصا ، كما أن ما لم يدخله التخصيص أصلا مقدم على ما دخله ، وعلى هذا جمهور الأصوليين . وخالف فيه السبكي والصفي الهندي ، وبين صاحب نشر البنود في شرح مراقي السعود في مبحث الترجيح باعتبار حال المروي في شرح قوله :
تقديم ما خص على ما لم يخص وعكسه كل أتى عليه نص
أن الأقل تخصصا مقدم على الأكثر تخصيصا ، وأن ما لم يدخله التخصيص مقدم على ما دخله عند جماهير الأصوليين ، وأنه لم يخالف فيه إلا السبكي وصفي الدين الهندي .
والثاني : ما نقله ابن جرير ونقله عنه ابن كثير عن عكرمة والحسن البصري ومكحول أن آية : وطعام الذين أوتوا الكتاب ناسخة لآية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه .
[ ص: 265 ] وقال ابن جرير وابن كثير : إن مرادهم بالنسخ التخصيص ، ولكنا قدمنا أن التخصيص بعد العمل بالعام نسخ لأن التخصيص بيان والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت العمل .
ويدل لهذا أن آية : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه من سورة " الأنعام " وهي مكية بالإجماع وآية : وطعام الذين أوتوا الكتاب من " المائدة " وهي من آخر ما نزل من القرآن بالمدينة ، وأما آية التحريم فيرجح عمومها بما قدمنا من مرجحات قوله تعالى : وما أهل لغير الله به لأن كلتاهما دلت على نهي يظهر تعارضه مع إباحة ، وحاصل هذه المسألة أن ذبيحة الكتابي لها خمس حالات لا سادسة لها :
الأولى : أن يعلم أنه سمى الله عليها ، وفي هذه تؤكل بلا نزاع ، ولا عبرة بخلاف الشيعة في ذلك ، لأنهم لا يعتد بهم في الإجماع .
الثانية : أن يعلم أنه أهل بها لغير الله ففيها خلاف ، وقد قدمنا أن التحقيق أنها لا تؤكل لقوله تعالى : وما أهل لغير الله به .
الثالثة : أن يعلم أنه جمع بين اسم الله واسم غيره ، وظاهر النصوص أنها لا تؤكل أيضا لدخولها فيما أهل لغير الله به .
الرابعة : أن يعلم أنه سكت ولم يسم الله ولا غيره ، فالجمهور على الإباحة وهو الحق ، والبعض على التحريم كما تقدم .
الخامسة : أن يجهل الأمر لكونه ذبح حالة انفراده فتؤكل على ما عليه جمهور العلماء ، وهو الحق إن لم يعرف الكتابي بأكل الميتة كالذي يسل عنق الدجاجة بيده ، فإن عرف بأكل الميتة لم يؤكل ما غاب عليه عند بعض العلماء ، وهو مذهب مالك ، ويجوز أكله عند البعض ، بل قال ابن العربي المالكي : إذا عايناه يسل عنق الدجاجة بيده ، قلنا الأكل منها لأنها مع طعامه ، والله أباح لنا طعامه . واستبعده ابن عبد السلام .
قال مقيده عفا الله عنه : هو جدير بالاستبعاد ، فكما أن نساءهم يجوز نكاحهن ولا تجوز مجامعتهن في الحيض ، فكذلك طعامهم يجوز لنا من غير إباحة الميتة ، لأن غاية الأمر أن ذكاة الكتابي تحل مذكاة كذكاة المسلم .
[ ص: 266 ] وما وعدنا به من ذكر حكم ما ذبحه المسلم ولم يسم عليه . فحاصله أن فيه ثلاثة أقوال :
أرجحها : وهو مذهب الجمهور : أنه إن ترك التسمية عمدا لم تؤكل لعموم قوله تعالى : ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإن تركها نسيانا أكلت لأنه لو تذكر لسمى الله .
قال ابن جرير من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول الحجة وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير : إن ابن جرير يعني بذلك ما رواه البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم : المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله .
ثم قال ابن كثير : إن رفع الحديث خطأ أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزري ، والصواب وقفه على ابن عباس .
كما رواه بذلك سعيد بن منصور وعبد الله بن الزبير الحميدي .
ومما استدل به البعض على أكل ذبيحة الناسي للتسمية دلالة الكتاب والسنة والإجماع على العذر بالنسيان .
ومما استدل به البعض لذلك حديث رواه الحافظ أبو أحمد بن عدي عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اسم الله على كل مسلم ذكر ابن كثير هذا الحديث وضعفه بأن في إسناده مروان بن سالم أبا عبد الله الشامي وهو ضعيف .
القول الثاني : أن ذبيحة المسلم تؤكل ولو ترك التسمية عمدا ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله كما تقدم ، لأنه يرى أنه ما لم يذكر اسم الله عليه يراد به ما أهل به لغير الله لا شيء آخر ، وقد ادعى بعضهم انعقاد الإجماع قبل الشافعي على أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل ، ولذلك قال أبو يوسف وغيره : لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفته الإجماع . واستغرب ابن كثير حكاية الإجماع على ذلك قائلا : إن الخلاف فيه قبل الشافعي معروف .
[ ص: 267 ] القول الثالث : أن المسلم إذا لم يسم على ذبيحته لا تؤكل مطلقا تركها عمدا أو نسيانا . وهو مذهب داود الظاهري .
وقال ابن كثير : ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين أنهما كرها متروك التسمية نسيانا والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيرا .
ثم ذكر ابن كثير أن ابن جرير لا يعتبر مخالفة الواحد أو الاثنين للجمهور فيعده إجماعا مع مخالفة الواحد أو الاثنين ، ولذلك حكى الإجماع على أكل متروك التسمية نسيانا مع أنه نقل خلاف ذلك عن الشعبي وابن سيرين .
مسائل مهمة تتعلق بهذه المباحث
المسألة الأولى : اعلم أن كثيرا من العلماء من المالكية والشافعية وغيرهم يفرقون بين ما ذبحه أهل الكتاب لصنم ، وبين ما ذبحوه لعيسى أو جبريل ، أو لكنائسهم ، قائلين : إن الأول مما أهل به لغير الله دون الثاني عندهم كراهة تنزيه ، مستدلين بقوله تعالى : وما ذبح على النصب [ 5 3 ] .
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذا الفرق باطل بشهادة القرآن لأن الذبيح على وجه القربة عبادة بالإجماع ، وقد قال تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 ] .
وقال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله الآية [ 6 162 ] .
فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله فقد جعله شريكا مع الله في هذه العبادة التي هي الذبح ، سواء كان نبيا أو ملكا أو بناء أو شجرا أو حجرا أو غير ذلك ، لا فرق في ذلك بين صالح وطالح ، كما نص عليه تعالى بقوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا [ 3 \ 80 ] .
ثم بين أن فاعل ذلك كافر بقوله تعالى : أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون [ 3 \ 80 ] .
وقال تعالى : ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله الآية [ 3 \ 79 ] .
[ ص: 268 ] وقال تعالى : قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله الآية [ 3 64 ] ، فإن قيل : قد رخص في أكل ما ذبحوه لكنائسهم أبو الدرداء وأبو أمامة الباهلي والعرباض بن سارية والقاسم بن مخيمرة وحمزة بن حبيب وأبو سلمة الخولاني وعمر بن الأسود ومكحول والليث بن سعد وغيرهم .
فالجواب : أن هذا قول جماعة من العلماء من الصحابة ومن بعدهم ، وقد خالفهم فيه غيرهم . وممن خالفهم أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها والإمام الشافعي رحمه الله ، والله تعالى يقول : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية [ 4 59 ] ، فنرد هذا النزاع إلى الله فنجده حرم ما أهل به لغير الله .
وقوله : لغير الله ، يدخل فيه الملك والنبي ، كما يدخل فيه الصنم والنصب والشيطان وقد وافقونا في منع ما ذبحوه باسم الصنم ، وقد دل الدليل على أنه لا فرق في ذلك بين النبي والملك ، وبين الصنم والنصب ، فلزمهم القول بالمنع .
وأما استدلالهم بقوله : وما ذبح على النصب فلا دليل فيه لأن قوله تعالى : وما ذبح على النصب ليس بمخصص لقوله : وما أهل لغير الله به ، لأنه ذكر فيه بعض ما دل عليه عموم وما أهل لغير الله به .
وقد تقرر في علم الأصول أن ذكر بعض أفراد الحكم العام بحكم العام ، لا يخصص على الصحيح وهو مذهب الجمهور خلافا لأبي ثور محتجا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة ، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام ، فإذا حققت ذلك فاعلم أن ذكر البعض لا يخصص العام سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] أو ذكر كل واحد منهما على حدة ، كحديث الترمذي وغيره : أيما إهاب دبغ فقد طهر من حديث مسلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة فقال : هلا أخذتم إهابها الحديث .
فذكر الصلاة الوسطى الأول لا يدل على عدم المحافظة على غيرها من الصلوات ، [ ص: 269 ] وذكر إهاب الشاة في الأخير لا يدل على عدم الانتفاع بإهاب غير الشاة ، لأن ذكر البعض لا يخصص العام .
وكذلك رجوع ضمير البعض لا يخصص أيضا على الصحيح كقوله تعالى : وبعولتهن أحق بردهن في ذلك [ 2 228 ] ، فإن الضمير راجع إلى قوله : والمطلقات يتربصن [ 2 \ 228 ] ، وهو لخصوص الرجعيات من المطلقات مع أن تربص ثلاثة قروء عام للمطلقات من رجعيات وبوائن ، وإلى هذا أشار في مراقي السعود مبينا معه أيضا أن سبب الواقعة لا يخصصها وأن مذهب الراوي لا يخصص مرويه على الصحيح فيهما أيضا بقوله :
ودع ضمير البعض والأسبابا
وذكر ما وافقه من مفرد ومذهب الراوي على المعتمد
وروي عن الشافعي وأكثر الحنفية التخصيص بضمير البعض ، وعليه فتربص البوائن ثلاثة قروء مأخوذ من دليل آخر .
أما عدم التخصيص بذكر البعض فلم يخالف فيه إلا أبو ثور ، وتقدم رد مذهبه .
ولو سلمنا أن الآية معارضة بقوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فإنا نجد النبي صلى الله عليه وسلم أمر بترك مثل هذا الذي تعارضت فيه النصوص بقوله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك .
المسألة الثانية : اختلف العلماء في ذكاة نصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهراء وجذام ولخم وعاملة ونحوهم ، فالجمهور على أن ذبائحهم لا تؤكل ، قاله ابن كثير وهو مذهب الشافعي ونقله النووي في شرح المهذب عن علي وعطاء وسعيد بن جبير .
ونقل النووي أيضا إباحة ذكاتهم عن ابن عباس والنخعي والشعبي وعطاء الخراساني والزهري والحكم وحماد وأبي حنيفة وإسحاق بن راهويه وأبي ثور ، وصحح هذا القول ابن قدامة في المغني محتجا بعموم قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم .
وحجة القول الأول ما روي عن عمر رضي الله عنه قال : ما نصارى العرب بأهل كتاب لا تحل لنا ذبائحهم .
[ ص: 270 ] وما روي عن علي رضي الله عنه : لا تحل ذبائح نصارى بني تغلب لأنهم دخلوا في النصرانية بعد التبديل ، ولا يعلم هل دخلوا في دين من بدل منهم أو في دين من لم يبدل فصاروا كالمجوس لما أشكل أمرهم في الكتاب لم تؤكل ذبائحهم ، ذكر هذا صاحب المهذب وسكت عليه النووي في الشرح قائلا : إنه حجة الشافعية في منع ذبائحهم ، ويفهم منه عدم إباحة كل ذكاة اليهود والنصارى اليوم لتبديلهم لا سيما فيمن عرفوا منهم بأكل الميتة كالنصارى .
المسألة الثالثة : ذبائح المجوس لا تحل للمسلمين ؟ قال النووي في شرح المهذب : هي حرام عندنا ، وقال به جمهور العلماء ، ونقله ابن المنذر عن أكثر العلماء ، قال : وممن قال به سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والنخعي وعبيد الله بن يزيد ومرة الهمداني ومالك والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق .
وقال ابن كثير في تفسيره قوله : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم .
وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه ، يعني في هذه المسألة وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، ولكن لم يثبت بهذا اللفظ .
وإنما الذي في صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، ولو سلم صحة هذا الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم فدل بمفهومه مفهوم المخالفة على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه واعترض عليه في الحاشية الشيخ السيد محمد رشيد رضا بما نصه فيه : إن هذا مفهوم لقب وهو ليس بحجة .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:31 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (622)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 271 إلى صـ 284
قال مقيده عفا الله عنه : الصواب مع الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى ، واعتراض الشيخ عليه سهو منه ، لأن مفهوم قوله : الذين أوتوا الكتاب مفهوم علة لا مفهوم [ ص: 271 ] لقب ، كما ظنه الشيخ لأن مفهوم اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما علق فيه الحكم باسم جامد سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع ، وضابطه أنه هو الذي ذكر ليمكن الإسناد إليه فقط لاشتماله على صفة تقتضي تخصيصه بالذكر دون غيره .
أما تعليق هذا الحكم الذي هو إباحة طعامهم بالوصف بإيتاء الكتاب فهو تعليق الحكم بعلته لأن الوصف بإيتاء الكتاب صالح لأن يكون مناط الحكم بحلية طعامهم .
وقد دل المسلك الثالث من مسالك العلة المعروف بالإيماء والتنبيه على أن مناط حلية طعامهم هو إيتاؤهم الكتاب ، وذلك بعينه هو المناط لحلية نكاح نسائهم ، لأن ترتيب الحكم بحلية طعامهم ونسائهم على إيتائهم الكتاب لو لم يكن لأنه علته لما كان في التخصيص بإيتاء الكتاب فائدة ، ومعلوم أن ترتيب الحكم على وصف لو لم يكن علته لكان حشوا من غير فائدة يفهم منه أنه علته بمسلك الإيماء والتنبيه .
قال في مراقي السعود في تعداد صور الإيماء :
كما إذا سمع وصفا فحكم وذكره في الحكم وصفا قد ألم
إن لم يكن علته لم يفد ومنعه مما يفيت استفد
ترتيبه الحكم عليه واتضح
إلخ .
ومحل الشاهد منه قوله : " استفد ترتيبه الحكم عليه " ، وقوله : " وذكره في الحكم وصفا إن لم يكن علته لم يفد " .
ومما يوضح ما ذكرنا أن قوله : الذين أوتوا الكتاب موصول وصلته جملة فعلية ، وقد تقرر عند علماء النحو في المذهب الصحيح المشهور أن الصفة الصريحة كاسم الفاعل واسم المفعول الواقعة صلة أل بمثابة الفعل مع الموصول ، ولذا عمل وصف المقترن بأل الموصولة في الماضي لأنه بمنزلة الفعل ، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وإن يكن صلة أل ففي المضي وغيره إعماله قد ارتضي
فإذا حققت ذلك علمت أن الذين أوتوا الكتاب بمثابة ما لو قلت وطعام المؤتين الكتاب بصيغة اسم المفعول ولم يقل أحد أن مفهوم اسم المفعول مفهوم لقب لاشتماله على أمر هو المصدر يصلح أن يكون المتصف به مقصودا للمتكلم دون غيره ، كما ذكروا في مفهوم الصفة .
[ ص: 272 ] فظهر أن إيتاء الكتاب صفة خاصة بهم دون غيرهم ، وهي العلة في إباحة طعامهم ونكاح نسائهم ، فادعاء أنها مفهوم لقب سهو ظاهر .
وظهر من التحقيق أن المفهوم في قوله : الذين أوتوا الكتاب مفهوم علة ومفهوم العلة قسم من أقسام مفهوم الصفة ، فالصفة أعم من العلة وإيضاحه كما بينه القرافي أن الصفة قد تكون مكملة للعلة لا علة تامة كوجوب الزكاة في السائمة فإن علته ليست السوم فقط ، ولو كان كذلك لوجبت في الوحوش لأنها سائمة ولكن العلة ملك ما يحصل به الغنى وهي مع السوم أتم منها مع العلف وهذا عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة .
وظهر أن ما قاله الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هو الصواب .
وقد تقرر في علم الأصول أن المفهوم بنوعيه من مخصصات العموم ، أما تخصيص العام بمفهوم الموافقة بقسميه فلا خلاف فيه .
وممن حكى الإجماع عليه : الآمدي والسبكي في شرح المختصر ، ودليل جوازه أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
ومثاله تخصيص حديث : لي الواجد يحل عرضه وعقوبته أي يحل العرض بقوله مطلني والعقوبة بالحبس فإنه مخصص بمفهوم الموافقة الذي هو الفحوى في قوله : فلا تقل لهما أف [ 17 23 ] ، لأن فحواه تحريم أذاهما فلا يحبس الوالد بدين الولد .
وأما تخصيصه بمفهوم المخالفة ففيه خلاف ، والأرجح منه هو ما مشى عليه الحافظ ابن كثير تغمده الله برحمته الواسعة وهو التخصيص به .
والدليل عليه ما قدمنا من أن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
وقيل : لا يجوز التخصيص به ، ونقله الباجي عن أكثر المالكية .
وحجة هذا القول أن دلالة العام على ما دل عليه المفهوم بالمنطوق وهو مقدم على المفهوم ، ويجاب بأن المقدم عليه منطوق خاص لا ما هو من إفراد العام ، فالمفهوم مقدم عليه لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
واعتمد التخصيص به صاحب مراقي السعود في قوله في مبحث الخاص في الكلام على المخصصات المنفصلة : [ ص: 273 ]
واعتبر الإجماع جل الناس وقسمي المفهوم كالقياس
ومثال التخصيص بمفهوم المخالفة تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم : في أربعين شاة شاة الذي يشمل عمومه السائمة والمعلوفة بمفهوم قوله : في الغنم السائمة زكاة عند من لا يرى الزكاة في المعلوفة ، وهم أكثر لأنه يفهم منه أن غير السائمة لا زكاة فيها ، فيخصص بذلك عموم : في أربعين شاة شاة والعلم عند الله تعالى .
المسألة الرابعة : ما صاده الكتابي بالجوارح والسلاح حلال للمسلم ، لأن العقر ذكاة الصيد وعلى هذا القول الأئمة الثلاثة ، وبه قال عطاء والليث والأوزاعي وابن المنذر وداود وجمهور العلماء ، كما نقله عنهم النووي في شرح المهذب .
وحجة الجمهور واضحة وهي قوله تعالى : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وخالف مالك وابن القاسم ففرقا بين ذبح الكتابي وصيده مستدلين بقوله تعالى : تناله أيديكم ورماحكم [ 5 \ 94 ] ، لأنه خص الصيد بأيدي المسلمين ورماحهم دون غير المسلمين .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله أعلم ، أن هذا الاحتجاج لا ينهض على الجمهور ، وأن الصواب مع الجمهور .
وقد وافق الجمهور من المالكية أشهب وابن هارون وابن يونس والباجي واللخمي ، ولمالك في الموازنة كراهته ، قال ابن بشير : ويمكن حمل المدونة على الكراهة .
المسألة الخامسة : ذبائح أهل الكتاب في دار الحرب كذبائحهم في دار الإسلام ، قال النووي : وهذا لا خلاف فيه ، ونقل ابن المنذر الإجماع عليه .
قوله تعالى : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذ تحاكم إليه أهل الكتاب مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله الآية [ 5 \ 49 ] .
والجواب : أن قوله تعالى : وأن احكم بينهم ناسخ لقوله : أو أعرض عنهم وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم [ ص: 274 ] وعطاء الخراساني وغير واحد ، قاله ابن كثير .
وقيل : معنى وأن احكم أي إذا حكمت بينهم ، فاحكم بما أنزل الله لا باتباع الهوى ، وعليه فالأولى محكمة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أو آخران من غيركم الآية .
هذه الآية تدل على قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 105 ] .
وقوله : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ 24 \ 4 ] ، أي فالكافرون أحرى برد شهادتهم .
وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 2 ] .
وقوله : واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء الآية [ 2 282 ] .
والجواب عن هذا على قول من لا يقبل شهادة الكافرين على الإيصاء في السفر أنه يقول : إن قوله أو آخران من غيركم ، منسوخ بآيات اشتراط العدالة ، والذي يقول بقبول شهادتهما يقول هي محكمة مخصصة لعموم غيرها ، وهذا الخلاف معروف ووجه الجواب على كلا القولين ظاهر .
وأما على قول من قال : إن معنى قوله : ذوا عدل منكم [ 5 \ 95 ] ، أي من قبيلة الموصي ، وقوله : أو آخران من غيركم أي من غير قبيلة الموصي من سائر المسلمين ، فلا إشكال في الآية .
ولكن جمهور العلماء على أن قوله : من غيركم أي من غير المسلمين ، وأن قوله : منكم أي من المسلمين . وعليه فالجواب ما تقدم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب
[ ص: 275 ] هذه الآية يفهم منها أن الرسل لا يشهدون يوم القيامة ، على أممهم .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أنهم يشهدون على أممهم كقوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ 4 \ 41 ] .
وقوله تعالى : ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء [ 16 \ 89 ] .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو اختيار ابن جرير ، وقال فيه ابن كثير : لا شك أنه حسن ، أن المعنى : لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا ، فلا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن عرفنا من أجابنا فإنما نعرف الظواهر ولا علم لنا بالبواطن ، وأنت المطلع على السرائر وما تخفي الضمائر فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم .
الثاني : وبه قال مجاهد والسدي والحسن البصري ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره أنهم قالوا : لا علم لنا لما اعتراهم من شدة هول يوم القيامة ، ثم زال ذلك عنهم فشهدوا على أممهم .
والثالث : وهو أضعفها ، أن معنى قوله : ماذا أجبتم ، ماذا عملوا بعدكم ؟ وما أحدثوا بعدكم ؟ قالوا لا علم لنا . ذكر ابن كثير وغيره هذا القول ، ولا يخفى بعده عن ظاهر القرآن .
قوله تعالى : قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين .
هذه الآية الكريمة تدل على أن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة .
وقد جاء في بعض الآيات ما يوهم خلاف ذلك كقوله : إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار [ 4 \ 145 ] ، وقوله : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [ 40 \ 46 ] .
والجواب : أن آية : أدخلوا آل فرعون وآية : إن المنافقين لا منافاة بينهما ، لأن كلا من آل فرعون والمنافقين في أسفل دركات النار في أشد العذاب ، وليس [ ص: 276 ] في الآيتين ما يدل على أن بعضهم أشد عذابا من الآخر .
وأما قوله : فإني أعذبه الآية ، فيجاب عنه من وجهين :
الأول : وهو ما قاله ابن كثير : أن المراد بـ : العالمين عالمو زمانهم وعليه فلا إشكال ، ونظيره قوله تعالى : وأني فضلتكم على العالمين [ 2 \ 147 ] ، كما تقدم .
الثاني : ما قاله البعض من أن المراد به العذاب الدنيوي الذي هو - مسخهم خنازير ، ولكن يدل لأنه عذاب الآخرة ما رواه ابن جرير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال : " أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون " .
وهذا الإشكال في أصحاب المائدة لا يتوجه إلا على القول بنزول المائدة ، وأن بعضهم كفر بعد نزولها ، أما على قول الحسن ومجاهد أنهم خافوا من الوعيد فقالوا : لا حاجة لنا في نزولها فلم تنزل فلا إشكال .
ولكن ظاهر قوله تعالى : إني منزلها [ 5 \ 15 ] يخالف ذلك ، وعلى القول بنزولها لا يتوجه الإشكال إلا إذا ثبت كفر بعضهم كما لا يخفى .
[ ص: 277 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
قوله تعالى : ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله مولى الكافرين ونظيرها قوله تعالى : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 10 ] .
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم [ 47 \ 11 ] .
والجواب عن هذا أن معنى كونه مولى الكافرين أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء ، ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين ، أي ولاية المحبة والتوفيق والنصر ، والعلم عند الله تعالى .
وأما على قول من قال : إن الضمير في قوله : ردوا وقوله : مولاهم عائد إلى الملائكة فلا إشكال في الآية أصلا ، ولكن الأول أظهر .
قوله تعالى : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون
هذه الآية الكريمة يفهم منها أنه لا إثم على من جالس الخائضين في آيات الله بالاستهزاء والتكذيب .
وقد جاءت آية تدل على أن من جالسهم كان مثلهم في الإثم ، وهي قوله تعالى : وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها - إلى قوله - إنكم إذا مثلهم [ 4 \ 140 ] ، اعلم أولا أن في معنى قوله : وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء [ 6 ] ، وجهين للعلماء :
[ ص: 278 ] الأول : أن المعنى وما على الذين يتقون مجالسة الكفار عند خوضهم في آيات الله من حساب الكفار من شيء ، وعلى هذا الوجه فلا إشكال في الآية أصلا .
الوجه الثاني : أن معنى الآية : وما على الذين يتقون ما يقع من الكفار من الخوض في آيات الله في مجالستهم لهم من شيء .
وعلى هذا القول فهذا الترخيص في مجالسة الكفار للمتقين من المؤمنين كان في أول الإسلام للضرورة ، ثم نسخ بقوله تعالى : إنكم إذا مثلهم .
وممن قال بالنسخ فيه مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير ، فظهر أن لا إشكال على كلا القولين .
ومعنى قوله تعالى : ولكن ذكرى لعلهم يتقون [ 6 ] ، على الوجه الأول أنهم إذا اجتنبوا مجالسهم سلموا من الإثم ، ولكن الأمر باتقاء مجالستهم عند الخوض في الآيات لا يسقط وجوب تذكيرهم ووعظهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر لعلهم يتقون الله بسبب ذلك .
وعلى الوجه الثاني فالمعنى أن الترخيص في المجالسة لا يسقط التذكير لعلهم يتقون الخوض في آيات الله بالباطل إذا وقعت منكم الذكرى لهم ، وأما جعل الضمير للمتقين فلا يخفى بعده ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها .
يتوهم منه الجاهل أن إنذاره صلى الله عليه وسلم مخصوص بأم القرى وما يقرب منها دون الأقطار النائية عنها لقوله تعالى : ومن حولها ونظيره قوله تعالى في سورة " الشورى " وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه [ 42 \ 7 ] .
وقد جاءت آيات أخر تصرح بعموم إنذاره صلى الله عليه وسلم لجميع الناس كقوله تعالى : تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا [ 25 ] ، وقوله تعالى : وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ 6 \ 19 ] ، وقوله : [ ص: 279 ] قل ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ 7 \ 158 ] ، وقوله : وما أرسلناك إلا كافة للناس الآية [ 34 28 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أن المراد بقوله : ومن حولها شامل لجميع الأرض كما رواه ابن جرير وغيره عن ابن عباس .
الوجه الثاني : أنا لو سلمنا تسليما جدليا أن قوله : ومن حولها لا يتناول إلا القريب من مكة المكرمة حرمها الله كجزيرة العرب مثلا ، فإن الآيات الأخر نصت على العموم كقوله : ليكون للعالمين نذيرا .
وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يخصصه عند عامة العلماء ولم يخالف فيه إلا أبو ثور ، وقد قدمنا ذلك واضحا بأدلته في سورة " المائدة " .
فالآية على هذا القول كقوله : وأنذر عشيرتك الأقربين [ 26 \ 214 ] ، فإنه لا يدل على عدم إنذار غيرهم ، كما هو واضح ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه .
وقوله أيضا : والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه [ 6 141 ] ، أثبت في هاتين الآيتين التشابه للزيتون والرمان ونفاه عنهما .
والجواب ما قاله قتادة رحمه الله من أن المعنى متشابها ورقها مختلفا طعمها ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : لا تدركه الأبصار الآية .
هذه الآية الكريمة توهم أن الله تعالى لا يرى بالأبصار ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه يرى بالأبصار ، كقوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة [ 75 \ 22 - 23 ] ، وكقوله : للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ 10 \ 26 ] ، فالحسنى : الجنة ، والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم .
وكذلك قوله : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد [ 50 \ 35 ] ، على أحد القولين ، وكقوله تعالى في الكفار : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون [ ص: 280 ] [ 83 \ 15 ] ، يفهم من دليل خطابه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن المعنى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا فلا ينافي الرؤية في الآخرة .
الثاني : أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين له في الآخرة ، وهذا قريب في المعنى من الأول .
الثالث : وهو الحق ، أن المنفي في هذه الآية الإدراك المشعر بالإحاطة بالكنه ، أما مطلق الرؤية فلا تدل الآية على نفيه بل هو ثابت بهذه الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة واتفاق أهل السنة والجماعة على ذلك .
وحاصل هذا الجواب : أن الإدراك أخص من مطلق الرؤية لأن الإدراك المراد به الإحاطة ، والعرب تقول : رأيت الشيء وما أدركته ، فمعنى : لا تدركه الأبصار لا تحيط به ، كما أنه تعالى يعلمه الخلق ولا يحيطون به علما .
وقد اتفق العقلاء على أن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ، فانتفاء الإدراك لا يلزم منه انتفاء مطلق الرؤية ، مع أن الله تعالى لا يدرك كنهه على الحقيقة أحد من الخلق .
والدليل على صحة هذا الوجه ما أخرجه الشيخان من حديث أبي موسى مرفوعا : حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .
فالحديث صريح في عدم الرؤية في الدنيا ، ويفهم منه عدم إمكان الإحاطة مطلقا .
والحاصل : أن رؤيته تعالى بالأبصار جائزة عقلا في الدنيا والآخرة لأن كل موجود يجوز أن يرى عقلا ، ويدل لجوازها عقلا قول موسى : رب أرني أنظر إليك [ 7 \ 143 ] ، لأنه لا يجهل الجائز في حق الله تعالى عقلا .
وأما في الشرع فهي جائزة وواقعة في الآخرة ممتنعة في الدنيا ومن أصرح الأدلة في ذلك ما رواه مسلم وابن خزيمة مرفوعا : إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا والأحاديث برؤية المؤمنين له يوم القيامة متواترة ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأعرض عن المشركين الآية .
[ ص: 281 ] لا يعارض آيات السيف لأنها ناسخة له .
قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية .
هذه الآية الكريمة يفهم منها كون عذاب أهل النار غير باق بقاء لا انقطاع له أبدا ونظيرها قوله تعالى : فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [ 11 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : لابثين فيها أحقابا [ 78 23 ] .
وقد جاءت آيات تدل على أن عذابهم لا انقطاع له كقوله : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] .
والجواب عن هذا من أوجه :
أحدها : أن قوله تعالى : إلا ما شاء الله معناه إلا من شاء الله عدم خلوده فيها من أهل الكبائر من الموحدين .
وقد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن بعض أهل النار يخرجون منها وهم أهل الكبائر من الموحدين ، ونقل ابن جرير هذا القول عن قتادة والضحاك وأبي سنان وخالد بن معدان ، واختاره ابن جرير ، وغاية " ما " في هذا القول إطلاق " ما " وإرادة من ونظيره في القرآن : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ 4 3 ]
الثاني : أن المدة التي استثناها الله هي المدة التي بين بعثهم من قبورهم واستقرارهم في مصيرهم قاله ابن جرير أيضا .
الوجه الثالث : أن قوله : إلا ما شاء الله فيه إجمال وقد جاءت الآيات والأحاديث الصحيحة مصرحة بأنهم خالدون فيها أبدا ، وظاهرها أنه خلود لا انقطاع له ، والظهور من المرجحات فالظاهر مقدم على المجمل ، كما تقرر في الأصول .
ومنها أن " إلا " في سورة " هود " بمعنى : سوى ما شاء الله من الزيادة على مدة دوام السماوات والأرض .
وقال بعض العلماء : إن الاستثناء على ظاهره وأنه يأتي على النار زمان ليس فيها أحد .
[ ص: 282 ] وقال ابن مسعود : ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعدما يلبثون أحقابا .
وعن ابن عباس : أنها تأكلهم بأمر الله .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله أعلم ، أن هذه النار التي لا يبقى فيها أحد يتعين حملها على الطبقة التي كان فيها عصاة المسلمين ، كما جزم به البغوي في تفسيره ، لأنه يحصل به الجمع بين الأدلة ، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما .
وقد أطبق العلماء على وجوب الجمع إذا أمكن ، أما ما يقوله كثير من العلماء من الصحابة ، ومن بعدهم من أن النار تفنى وينقطع العذاب عن أهلها ، فالآيات القرآنية تقتضي عدم صحته ، وإيضاحه أن المقام لا يخلو من إحدى خمس حالات بالتقسيم الصحيح ، وغيرها راجع إليها .
الأولى : أن يقال بفناء النار ، وأن استراحتهم من العذاب بسبب فنائها .
الثانية : أن يقال إنهم ماتوا وهي باقية .
الثالثة : أن يقال إنهم أخرجوا منها وهي باقية .
الرابعة : أن يقال إنهم باقون فيها إلا أن العذاب يخف عليهم .
وذهاب العذاب رأسا واستحالته لذا لم نذكرهما من الأقسام ، لأنا نقيم البرهان على نفي تخفيف العذاب ، ونفي تخفيفه يلزمه نفي ذهابه واستحالته لذا فاكتفينا به لدلالة نفيه على نفيهما ، وكل هذه الأقسام الأربعة يدل القرآن على بطلانه .
أما فناؤها فقد نص تعالى على عدمه بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا [ 17 \ 97 ] .
وقد قال تعالى : إلا ما شاء ربك [ 11 \ 107 ] ، في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار وبين عدم الانقطاع في خلود أهل الجنة بقوله : عطاء غير مجذوذ [ 11 \ 108 ] ، وبقوله : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد [ 38 \ 54 ] ، وقوله : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] .
[ ص: 283 ] وبين عدم الانقطاع في خلود أهل النار بقوله : كلما خبت زدناهم سعيرا .
فمن يقول إن للنار خبوة ليس بعدها زيادة سعير ، رد عليه بهذه الآية الكريمة ، ومعلوم أن كلما تقتضي التكرار بتكرار الفعل الذي بعدها ، ونظيرها قوله تعالى : كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها الآية [ 4 56 ] .
وأما موتهم فقد نص تعالى على عدمه بقوله : لا يقضى عليهم فيموتوا [ 35 \ 36 ] ، وقوله : لا يموت فيها ولا يحيا [ 20 ] ، وقوله : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت [ 14 \ 17 ] ، وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الموت يجاء به يوم القيامة في صورة كبش أملج فيذبح ، وإذا ذبح الموت حصل اليقين بأنه لا موت ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت .
وأما إخراجهم منها فنص تعالى على عدمه بقوله : وما هم بخارجين من النار [ 2 \ 167 ] ، وبقوله : كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها [ 32 20 ] ، وبقوله : وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] .
وأما تخفيف العذاب عنهم فنص تعالى على عدمه بقوله : ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور [ 35 \ 13 ] ، وقوله : فلن نزيدكم إلا عذابا [ 78 ] ، وقوله : لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون [ 43 ] ، وقوله : إن عذابها كان غراما [ 25 \ 65 ] ، وقوله : فسوف يكون لزاما [ 25 \ 77 ] ، وقوله تعالى : فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون [ 16 \ 85 ] .
وقوله : ولهم عذاب مقيم [ 5 \ 37 ] ، ولا يخفى أن قوله : ولا يخفف عنهم من عذابها وقوله : لا يفتر عنهم كلاهما فعل في سياق النفي ، فحرف النفي بنفي المصدر الكامن في الفعل فهو في معنى لا تخفيف للعذاب عنهم ، ولا تفتير له ، والقول بفنائها يلزمه تخفيف العذاب وتفتيره المنفيان في هذه الآيات بل يلزمه ذهابهما رأسا ، كما أنه يلزمه نفي ملازمة العذاب المنصوص عليها بقوله : فسوف يكون لزاما وقوله : إن عذابها كان غراما وإقامته المنصوص عليها بقوله : ولهم عذاب مقيم .
[ ص: 284 ] فظاهر هذه الآيات عدم فناء النار المصرح به في قوله : كلما خبت زدناهم سعيرا وما احتج به بعض العلماء من أنه لو فرض أن الله أخبر بعدم فنائها أن ذلك لا يمنع فناءها لأنه وعيد ، وإخلاف الوعيد من الحسن لا من القبيح ، وأن الله تعالى ذكر أنه لا يخلف وعده ولم يذكر أنه لا يخلف وعيده ، وأن الشاعر قال :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
فالظاهر عدم صحته لأمرين :
الأول : أنه يلزمه جواز ألا يدخل النار كافر ، لأن الخبر بذلك وعيد ، وإخلافه على هذا القول لا بأس به .
الثاني : أنه تعالى صرح بحق وعيده على من كذب رسله حيث قال : كل كذب الرسل فحق وعيد [ 50 \ 14 ] .
وقد تقرر في مسلك النص من مسالك العلة أن الفاء من حروف التعليل كقولهم : سها فسجد ، أي سجد لعلة سهوه ، وسرق فقطعت يده أي لعلة سرقته ، فقوله : كل كذب الرسل فحق وعيد أي وجب وقوع الوعيد عليهم لعلة تكذيب الرسل ، ونظيرها قوله تعالى : إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب [ 38 \ 14 ] .
ومن الأدلة الصريحة في ذلك تصريحه تعالى بأن قوله لا يبدل فيما أوعد به أهل النار حيث قال \ 47 لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد [ 50 \ 28 - 29 ] .
ويستأنس لذلك بظاهر قوله تعالى : واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده - إلى قوله - إن وعد الله حق [ 31 \ 33 ] ، وقوله : إن عذاب ربك لواقع [ 52 \ 7 ] ، فالظاهر أن الوعيد الذي يجوز إخلافه وعيد عصاة المؤمنين لأن الله بين ذلك بقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ 4 \ 48 ] .
فإذا تبين بهذه النصوص بطلان جميع هذه الأقسام تعين القسم الخامس الذي هو خلودهم فيها أبدا بلا انقطاع ولا تخفيف بالتقسيم والسبر الصحيح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:32 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (623)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 285 إلى صـ 298
ولا غرابة في ذلك لأنه خبثهم الطبيعي دائم لا يزول ، فكان جزاؤهم دائما لا يزول [ ص: 285 ] والدليل على أن خبثهم لا يزول قوله تعالى : ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم الآية [ 8 \ 23 ] .
فقوله : خيرا نكرة في سياق الشرط فهي تعم ، فلو كان فيهم خير ما في وقت ما لعلمه الله ، وقوله تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه [ 6 28 ] ، وعودهم بعد معاينة العذاب ، لا يستغرب بعده عودهم بعد مباشرة العذاب لأن رؤية العذاب عيانا كالوقوع فيه لا سيما وقد قال تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] ، وقال : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 38 ] .
وعذاب الكفار للإهانة والانتقام لا للتطهير والتمحيص ، كما أشار له تعالى بقوله ولا يزكيهم [ 2 \ 174 ] ، وبقوله : ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء الآية .
هذا الكلام الذي قالوه بالنظر إلى ذاته كلام صدق لا شك فيه لأن الله لو شاء لم يشركوا به شيئا ، ولم يحرموا شيئا مما لم يحرمه كالبحائر والسوائب .
وقد قال تعالى : ولو شاء الله ما أشركوا [ 6 \ 107 ] وقال : ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها [ 32 \ 13 ] ، وقال : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى [ 6 \ 35 ] ، وإذا كان هذا الكلام الذي قاله الكفار حقا فما وجه تكذيبه تعالى لهم بقوله : كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون [ 6 \ 148 ] ، ونظير هذا الإشكال بعينه في سورة " الزخرف " في قوله تعالى : وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] .
والجواب أن هذا الكلام الذي قاله الكفار كلام حق أريد به باطل فتكذيب الله لهم واقع على باطلهم الذي قصدوه بهذا الكلام الحق وإيضاحه : أن مرادهم أنهم لما كان كفرهم وعصيانهم بمشيئة الله وأنه لو شاء لمنعهم من ذلك فعدم منعه لهم دليل على رضاه بفعلهم فكذبهم الله في ذلك مبينا أنه لا يرضى بكفرهم كما نص عليه بقوله : ولا يرضى لعباده الكفر [ ص: 286 ] [ 39 \ 7 ] ، فالكفار زعموا أن الإرادة الكونية يلزمها الرضا ، وهو زعم باطل بل الله يريد بإرادته الكونية ما لا يرضاه بدليل قوله : ختم الله على قلوبهم [ 2 \ 7 ] ، مع قوله : ولا يرضى لعباده الكفر والذي يلازم الرضى حقا إنما هو الإرادة الشرعية ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآية .
هذه الآية تدل على أن هذا الذي يتلوه عليهم حرمه ربهم عليهم ، فيوهم أن معنى قوله : ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا [ 6 \ 151 ] ، أن الإحسان بالوالدين وعدم الشرك حرام ، والواقع خلاف ذلك ، كما هو ضروري .
وفي هذه الآية الكريمة كلام كثير للعلماء ، وبحوث ومناقشات كثيرة لا تتسع هذه العجالة لاستيعابها ، منها أنها صلة كما يأتي ، ومنها أنها بمعنى أبينه لكم لئلا تشركوا .
ومن أطاع الشيطان مستحلا فهو مشرك بدليل قوله : وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 121 ] .
ومنها أن الكلام تم عند قوله : حرم ربكم وأن قوله : عليكم ألا تشركوا : اسم فعل يتعلق بما بعده على أن معموله منها غير ذلك ، وأقرب تلك الوجوه عندنا هو ما دل عليه القرآن لأن خير ما يفسر به القرآن القرآن ، وذلك هو أن قوله تعالى : أتل ما حرم ربكم عليكم ، مضمن معنى ما وصاكم ربكم به تركا وفعلا ، وإنما قلنا إن القرآن دل على هذا لأن الله رفع هذا الإشكال وبين مراده بقوله : ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون [ 6 \ 151 ] ، فيكون المعنى : وصاكم ألا تشركوا ، ونظيره من كلام العرب قول الراجز :
حج وأوصى بسليمى عبدا أن لا ترى ولا تكلم أحدا
ومن أقرب الوجوه بعد هذا وجهان :
الأول : أن المعنى : يبينه لكم لئلا تشركوا .
والثاني : أن " أن " من قوله : ألا تشركوا مفسرة للتحريم ، والقدح فيه بأن قوله : وأن هذا صراطي مستقيما [ 6 \ 153 ] ، معطوف عليه ، وعطفه عليه ينافي [ ص: 287 ] التفسير مدفوع بعدم تعيين العطف لاحتمال حذف حرف الجر فيكون المعنى : ولأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه كما ذهب إليه بعضهم ، ولكن القول الأول هو الصحيح إن شاء الله تعالى ، وعليه فلا إشكال في الآية أصلا .
[ ص: 288 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعراف
قوله تعالى : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الله يسأل جميع الناس يوم القيامة ، ونظيرها قوله تعالى : فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 \ 92 - 93 ] ، وقوله : وقفوهم إنهم مسئولون [ 37 \ 24 ] ، وقوله : ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان [ 55 \ 39 ] ، وكقوله : ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون [ 28 \ 78 ] .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أوجهها لدلالة القرآن عليه هو أن السؤال قسمان :
سؤال توبيخ وتقريع وأداته غالبا : لم ، وسؤال استخبار واستعلام وأداته غالبا : هل ، فالمثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع ، والمنفي هو سؤال الاستخبار والاستعلام ، وجه دلالة القرآن على هذا أن سؤاله لهم المنصوص في كله توبيخ وتقريع كقوله : وقفوهم إنهم مسئولون ما لكم لا تناصرون [ 37 24 - 25 ] ، وقوله : أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون [ 52 \ 15 ] ، ألم يأتكم رسل منكم [ 39 \ 71 ] ، وكقوله : ألم يأتكم نذير [ 67 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وسؤال الله للرسل : ماذا أجبتم [ 5 \ 109 ] لتوبيخ الذين كذبوهم كسؤال الموءودة : بأي ذنب قتلت [ 81 \ 9 ] لتوبيخ قاتلها .
[ ص: 289 ] الوجه الثاني : أن في القيامة مواقف متعددة ، ففي بعضها يسألون ، وفي بعضها لا يسألون .
الوجه الثالث : هو ما ذكره الحليمي من أن إثبات السؤال محمول على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل وعدم السؤال محمول على ما يستلزمه الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه ، ويدل لهذا قوله تعالى : فيقول ماذا أجبتم المرسلين [ 28 \ 65 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك .
في هذه الآية إشكال بين قوله : منعك مع لا النافية لأن المناسب في الظاهر لقوله : منعك بحسب ما يسبق إلى ذهن السامع لا ما في نفس الأمر ، هو حذف لا فيقول : ما منعك أن تسجد دون ألا تسجد ، وأجيب عن هذا بأجوبة : من أقربها هو ما اختاره ابن جرير في تفسيره ، وهو أن بالكلام حذفا دل المقام عليه .
وعليه فالمعنى : ما منعك من السجود ، فأحوجك ألا تسجد إذ أمرتك ، وهذا الذي اختاره ابن جرير ، قال ابن كثير : إنه حسن قوي .
ومن أجوبتهم أن " لا " صلة ويدل قوله تعالى في سورة " ص " ما منعك أن تسجد لما خلقت الآية [ 38 ] ، وقد وعدنا فيما مضى أنا إن شاء الله نبين القول بزيادة " لا " مع شواهده العربية في الجمع بين قوله : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] ، وبين قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
قوله تعالى : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء .
هذه الآية الكريمة يتوهم خلاف ما دلت عليه من ظاهر آية أخرى ، وهي قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها الآية [ 17 \ 16 ] .
والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أظهرها أن معنى قوله : أمرنا مترفيها أي بطاعة الله وتصديق الرسل ففسقوا ، أي بتكذيب الرسل ومعصية الله تعالى ، فلا إشكال في الآية أصلا .
[ ص: 290 ] الثاني : أن الأمر في قوله : أمرنا مترفيها أمر كوني قدري لا أمر شرعي ، أي قدرنا عليهم الفسق بمشيئتنا ، والأمر الكوني القدري كقوله تعالى : كونوا قردة خاسئين [ 2 65 ] ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، والأمر في قوله : قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أمر شرعي ديني فظهر أن الأمر المنفي غير الأمر المثبت .
الوجه الثالث : أن معنى : أمرنا مترفيها : أي كثرناهم حتى بطروا النعمة ففسقوا ، ويدل لهذا المعنى الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد مرفوعا من حديث سويد بن هبيرة رضي الله عنه : خير مال امرئ مهرة مأمورة أو سكة مأبورة فقوله : " مأمورة " أي كثيرة النسل ، وهي محل الشاهد .
قوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم الآية .
وأمثالها من الآيات كقوله : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] ، وقوله : وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] ، وقوله : وقيل اليوم ننساكم الآية [ 45 34 ] ، لا يعارض قوله تعالى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقوله : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] ؛ لأن معنى : فاليوم ننساهم ونحوه ، أي نتركهم في العذاب محرومين من كل خير ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى . فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين الآية .
هذه الآية تدل على شبه العصا بالثعبان وهو لا يطلق إلا على الكبير من الحيات ، وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : فلما رآها تهتز كأنها جان الآية [ 27 \ 10 ] ، لأن الجان هو الحية الصغيرة .
والجواب عن هذا أنه شبهها بالثعبان في عظم خلقتها ، وبالجان في اهتزازها وخفتها وسرعة حركتها ، فهي جامعة بين العظم ، وخفة الحركة على خلاف العادة .
[ ص: 291 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنفال
قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية .
هذه الآية تدل على أن وجل القلوب عند سماع ذكر الله من علامات المؤمنين .
وقد جاء في آية أخرى ما يدل على خلاف ذلك وهي قوله : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] .
فالمنافاة بين الطمأنينة ووجل القلوب ظاهرة .
والجواب عن هذا أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد ، والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا الآية [ 13 \ 8 ] .
وقوله تعالى : والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون [ 23 \ 60 ] .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد ، قوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] ، وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ ص: 292 ] الآية [ 3 \ 31 ] . وقوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] .
والظاهر أن وجه الجمع ، والله تعالى أعلم ، أن آيات الإطلاق مبينة أنه صلى الله عليه وسلم لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : إذا دعاكم ، متوفر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .
والحاصل أن آية : إذا دعاكم لما يحييكم ، مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك صلوات الله وسلامه عليه .
قوله تعالى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون هذه الآية الكريمة تدل على أن لكفار مكة أمانين يدفع الله عنهم العذاب بسببهما :
أحدهما : كونه صلى الله عليه وسلم فيهم لأن الله لم يهلك أمة ونبيهم فيهم .
والثاني : استغفارهم الله وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام [ 8 ] ، يدل على خلاف ذلك .
والجواب من أربعة أوجه :
الأول : وهو اختيار ابن جرير نقله عن قتادة والسدي ، وابن زيد أن الأمانين منتفيان ، فالنبي صلى الله عليه وسلم خرج من بين أظهرهم مهاجرا واستغفارهم معدوم لإصرارهم على الكفر .
فجملة الحال أريد بها أن العذاب لا ينزل بهم في حالة استغفارهم لو استغفروا ولا في حالة وجود نبيهم فيهم ، لكنه خرج من بين أظهرهم ، ولم يستغفروا لكفرهم .
ومعلوم أن الحال قيد لعاملها وصف لصاحبها ، فالاستغفار مثلا قيد في نفي العذاب ، لكنهم لم يأتوا بالقيد ، فتقرير المعنى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا ، وبعد انتفاء الأمرين عذبهم بالقتل والأسر ، يوم بدر كما يشير [ ص: 293 ] إليه قوله تعالى : ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر [ 32 \ 21 ] .
الوجه الثاني : أن المراد بقوله : " يستغفرون " استغفار المؤمنين المستضعفين بمكة ، وعليه فالمعنى أنه بعد خروجه صلى الله عليه وسلم كان استغفار المؤمنين سببا لرفع العذاب الدنيوي عن الكفار المستعجلين للعذاب بقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء الآية [ 8 ] .
وعلى هذا القول فقد أسند الاستغفار إلى مجموع أهل مكة الصادق بخصوص المؤمنين منهم ، ونظير الآية عليه قوله تعالى : فعقروا الناقة [ 7 \ 77 ] ، ومع أن العاقر واحد منهم بدليل قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر [ 54 \ 29 ] ، وقوله تعالى : ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا [ 71 \ 15 - 16 ] ، أي جعل القمر في مجموعهن الصادق بخصوص السماء التي فيها القمر ، لأنه لم يجعل في كل سماء قمرا ، وقوله تعالى : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ 6 \ 130 ] ، أي من مجموعكم الصادق بخصوص الإنس على الأصح ، إذ ليس من الجن رسل .
وأما تمثيل كثير من العلماء لإطلاق المجموع مرادا بعضه بقوله تعالى : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان [ 55 \ 22 ] ، زاعمين أن معنى قوله : " منهما " أي من مجموعهما الصادق بخصوص البحر الملح ، لأن العذب لا يخرج منه لؤلؤ ولا مرجان ، فهو قول باطل بنص القرآن العظيم .
فقد صرح تعالى باستخراج اللؤلؤ والمرجان من البحرين كليهما حيث قال : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها [ 35 \ 12 ] .
فقوله تعالى : ومن كل ، نص صريح في إرادة العذب والملح معا ، وقوله : حلية تلبسونها هي اللؤلؤ والمرجان .
وعلى هذا القول فالعذاب الدنيوي يدفعه الله عنهم باستغفار المؤمنين الكائنين بين أظهرهم ، وقوله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] . أي بعد خروج المؤمنين الذين كان استغفارهم سببا لدفع العذاب الدنيوي ، فبعد خروجهم عذب الله أهل [ ص: 294 ] مكة في الدنيا بأن سلط عليهم رسوله صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة ، ويدل لكونه تعالى يدفع العذاب الدنيوي عن الكفار بسبب وجود المسلمين بين أظهرهم ما وقع في صلح الحديبية كما بينه تعالى بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما [ 48 \ 25 ] .
فقوله : لو تزيلوا أي لو تزيل الكفار من المسلمين لعذبنا الكفار بتسليط المسلمين عليهم ، ولكنا رفعنا عن الكفار هذا العذاب الدنيوي لعدم تميزهم من المؤمنين ، كما بينه بقوله : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات الآية .
ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس والضحاك وأبي مالك وابن أبزى ، وحاصل هذا القول أن كفار مكة لما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة الآية [ 8 ] . أنزل الله قوله : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، ثم لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم بقيت طائفة من المسلمين بمكة يستغفرون الله ويعبدونه ، فأنزل الله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ، فلما خرجت بقية المسلمين من مكة أنزل الله تعالى : وما لهم ألا يعذبهم الله [ 8 ] ، أي : أي شيء ثبت لهم يدفع عنهم الله ، وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون من بين أظهرهم ، فالآية على هذا كقوله : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم [ 9 \ 14 ] .
الوجه الثالث : أن المراد بقوله : وهم يستغفرون كفار مكة ، وعليه فوجه الجميع أن الله تعالى يرد عنهم العذاب الدنيوي بسبب استغفارهم ، أما عذاب الآخرة فهو واقع بهم لا محالة فقوله : وما كان الله ليعذبهم ، أي في الدنيا في حالة استغفارهم ، وقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله أي في الآخرة ، وقد كانوا كفارا في الدنيا . ونقل ابن جرير هذا القول عن ابن عباس .
وعلى هذا القول فعمل الكافر ينفعه في الدنيا ، كما فسر به جماعة قوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، أي أثابه من عمله الطيب في الدنيا ، وهو صريح قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية [ 11 15 ] ، وقوله تعالى أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 9 ] ، [ ص: 295 ] وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ونحو ذلك من الآيات يدل على بطلان عمل الكافر من أصله ، كما أوضحه تعالى بقوله : حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ 2 \ 217 ] ، فجعل كلتا الدارين ظرفا لبطلان أعمالهم واضمحلالها ، وسيأتي إن شاء الله تحقيق هذا المقام في سورة " هود " .
الوجه الرابع : أن معنى قوله : وهم يستغفرون أي يسلمون ، أي : وما كان الله معذبهم ، وقد سبق في علمه أن منهم من يسلم ويستغفر الله من كفره ، وعلى هذا القول فقوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ، في الذين سبقت لهم الشقاوة كأبي جهل وأصحابه الذين عذبوا بالقتل يوم بدر .
ونقل ابن جرير معنى هذا القول عن عكرمة ومجاهد ، وأما ما رواه ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري من أن قوله : وما لهم ألا يعذبهم الله ناسخ لقوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فبطلانه ظاهر ، لأن قوله تعالى : وما كان الله معذبهم الآية ، خبر من الله بعدم تعذيبه لهم في حالة استغفارهم ، والخبر لا يجوز نسخه شرعا بإجماع المسلمين ، وأظهر هذه الأقوال الأولان .
منها قوله تعالى : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 65 ] .
ظاهر هذه الآية أن الواحد من المسلمين يجب عليه مصابرة عشرة من الكفار ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك بقوله : فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين الآية [ 8 \ 66 ] .
والجواب عن هذا ، أن الأول منسوخ بالثاني ، كما دل عليه قوله تعالى : الآن خفف الله عنكم الآية [ 8 \ 66 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يهاجر لا ولاية بينه وبين المؤمنين حتى يهاجر ، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى [ ص: 296 ] والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] . فإنها تدل على ثبوت الولاية بين المؤمنين وظاهرها العموم .
والجواب من وجهين :
الأول : أن الولاية المنفية في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء هي ولاية الميراث ، أي ما لكم شيء من ميراثهم حتى يهاجروا لأن المهاجرين والأنصار كانوا يتوارثون بالمؤاخاة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فمن مات من المهاجرين ورثه أخوه الأنصاري دون أخيه المؤمن ، الذي لم يهاجر ، حتى نسخ ذلك بقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض الآية [ 8 ] .
وهذا مروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، كما نقله عنهم أبو حيان وابن جرير ، والولاية في قوله : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ، ولاية النصر والمؤازرة والتعاون والتعاضد ، لأن المسلمين كالبنيان يشد بعضه بعضا ، وكالجسد الواحد إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .
وهذه الولاية لم تقصد بالنفي في قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء بدليل تصريحه تعالى بذلك في قوله بعده يليه : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر الآية [ 8 ] ، فأثبت ولاية النصر بينهم بعد قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يدل على أن الولاية المنفية غير ولاية النصر ، فظهر أن الولاية المنفية غير المثبتة ، فارتفع الإشكال .
الثاني : هو ما اقتصر عليه ابن كثير مستدلا عليه بحديث أخرجه الإمام أحمد ومسلم أن معنى قوله : ما لكم من ولايتهم من شيء يعني لا نصيب لكم في المغانم ولا في خمسها إلا فيما حضرتم فيه القتال ، وعليه فلا إشكال في الآية ، ولا مانع من تناول الآية للجميع ، فيكون المراد بها نفي الميراث بينهم ، ونفي القسم لهم في الغنائم والخمس .
[ ص: 297 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة براءة
قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .
اعلم أولا أن المراد بهذه الأشهر الحرم أشهر المهلة المنصوص عليها بقوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ 9 ] ، لا الأشهر الحرم التي هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب على الصحيح ، وهو قول ابن عباس في رواية العوفي عنه .
وبه قال مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واستظهر هذا القول ابن كثير لدلالة سياق القرآن عليه ، ولأقوال هؤلاء العلماء خلافا لابن جرير .
وعليه فالآية تدل بعمومها على قتال الكفار في الأشهر الحرم المعروفة بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم القتال فيها وهي قوله تعالى إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم [ 9 \ 36 ] .
والجواب أن تحريم الأشهر الحرم منسوخ بعموم آيات السيف ومن يقول بعدم النسخ يقول : هو مخصص لها ، والظاهر أن الصحيح كونها منسوخة ، كما يدل عليه فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حصار ثقيف في الشهر الحرام ، الذي هو ذو القعدة ، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجأوا إلى الطائف ، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام وهذا القول هو المشهور عند العلماء وعليه فقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ناسخ لقوله منها أربعة حرم وقوله : لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام [ 5 ] ، وقوله : الشهر الحرام بالشهر الحرام الآية [ 2 \ 194 ] .
[ ص: 298 ] والمنسوخ من هذه ومن قوله : أربعة حرم ، هو تحريم الشهر في الأولى والأشهر في الثانية فقط دون ما تضمنتاه من الخبر ، لأن الخبر لا يجوز نسخه شرعا .
قوله تعالى : وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله - إلى قوله - سبحانه عما يشركون .
هذه الآية فيها التنصيص الصريح على أن كفار أهل الكتاب مشركون بدليل قوله فيهم : سبحانه عما يشركون بعد أن بين وجوه شركهم ، بجعلهم الأولاد لله واتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ 4 \ 48 ] ، لإجماع العلماء أن كفار أهل الكتاب داخلون فيها .
وقد جاءت آيات أخر تدل بظاهرها على أن أهل الكتاب ليسوا من المشركين كقوله تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين الآية [ 98 ] ، وقوله : إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم الآية [ 98 \ 6 ] وقوله : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم الآية [ 2 \ 105 ] ، والعطف يقتضي المغايرة .
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن وجه الجمع أن الشرك الأكبر المقتضي للخروج من الملة أنواع ، وأهل الكتاب متصفون ببعضها وغير متصفين ببعض آخر منها ، أما البعض الذي هم غير متصفين به فهو ما اتصف به كفار مكة من عبادة الأوثان صريحا ، ولذا عطفهم عليهم لاتصاف كفار مكة بما لم يصف به أهل الكتاب من عبادة الأوثان ، وهذه المغايرة هي التي سوغت العطف ، فلا ينافي أن يكون أهل الكتاب مشركين بنوع آخر من أنواع الشرك الأكبر ، وهو طاعة الشيطان والأحبار والرهبان ، فإن مطيع الشيطان إذا كان يعتقد أن ذلك صواب فهو عابد الشيطان مشرك بعبادة الشيطان الشرك الأكبر المخلد في النار ، كما بينته النصوص القرآنية كقوله : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا [ 4 \ 117 ] ، فقوله : وإن يدعون إلا شيطانا . . . صح . . . معناه وما يعبدون إلا شيطانا لأن عبادتهم للشيطان طاعتهم له فيما حرمه الله عليهم ، وقوله تعالى : ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان الآية [ 36 \ 60 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:33 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (624)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 299 إلى صـ 312
وقوله تعالى عن خليله إبراهيم : ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا [ ص: 299 ] [ 19 \ 44 ] ، وقوله تعالى : بل كانوا يعبدون الجن الآية [ 34 \ 41 ] .
وقوله تعالى : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم الآية [ 6 137 ] ، فكل هذا الكفر بشرك الطاعة في معصية الله تعالى ، ولما أوحى الشيطان إلى كفار مكة أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الشاة تصبح ميتة من قتلها وأنه إذا قال صلى الله عليه وسلم الله قتلها أن يقولوا : ما قتلتموه بأيديكم حلال وما قتله الله حرام فأنتم إذا أحسن من الله ، أنزل الله في ذلك قوله تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [ 6 \ 121 ] ، فأقسم تعالى في هذه الآية على أن من أطاع الشيطان في معصية الله أنه مشرك بالله ، ولما سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا [ 9 \ 31 ] ، كيف اتخذوهم أربابا ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : ألم يحلوا لهم ما حرم الله ويحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم ؟ ، قال : بلى ، قال : بذلك اتخذوهم أربابا ، فبان أن أهل الكتاب مشركون من هذا الوجه الشرك الأكبر ، وإن كانوا كفار مكة في صريح عبادة الأوثان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : انفروا خفافا وثقالا الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على لزوم الخروج للجهاد في سبيل الله على كل حال ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج الآية [ 9 \ 19 ] ، وقوله تعالى : وما كان المؤمنون لينفروا كافة [ 9 \ 122 ] .
والجواب أن آية : انفروا خفافا وثقالا منسوخة بآيات العذر المذكورة ، وهذا الموضع من أمثلة ما نسخ فيه الناسخ لأن قوله : انفروا خفافا وثقالا ناسخ لآيات الإعراض عن المشركين وهو منسوخ بآيات العذر ، كما ذكرنا آنفا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 300 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يونس
قوله تعالى : ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يرجون شفاعة أصنامهم يوم القيامة وقد جاء في آيات أخر ما يدل على إنكارهم لأصل يوم القيامة كقوله تعالى : وما نحن بمبعوثين [ 6 \ 29 ] ، وقوله : وما نحن بمنشرين [ 44 \ 35 ] ، وقوله : من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب أنهم يرجون شفاعتها في الدنيا لإصلاح معاشهم وفي الآخرة على تقدير وجودها لأنهم شاكون فيها ، نص على هذا ابن كثير في سورة " الأنعام " في تفسير قوله : وما نرى معكم شفعاءكم الآية [ 6 \ 94 ] ، ويدل له قوله تعالى عن الكافر : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى [ 41 \ 50 ] ، وقوله : ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 \ 36 ] ، لأن إن الشرطية تدل على الشك في حصول الشرط ، ويدل له قوله : وما أظن الساعة قائمة [ 18 \ 36 ] ، في الآيتين المذكورتين .
قوله تعالى : ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .
نص الله تعالى في هذه الآية ، على أن هذا دعاء موسى ولم يذكر معه أحدا ثم قال : قد أجيبت دعوتكما فاستقيما .
والجواب : أن موسى لما دعا أمن هارون على دعائه والمؤمن أحد الداعين ، وهذا الجمع مروي عن أبي العالية وأبي صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس ، قاله ابن كثير ، وبهذه الآية استدل بعض العلماء على أن قراءة الإمام تكفي المأموم إذا أمن له على قراءته ، لأن تأمينه بمنزلة قراءته .
[ ص: 301 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة هود
قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الكافر يجازى بحسناته كالصدقة وصلة الرحم وقرى الضيف والتنفيس عن المكروب في الدنيا دون الآخرة ، لأنه تعالى قال : نوف إليهم أعمالهم فيها يعني الحياة الدنيا ؛ ثم نص على بطلانها في الآخرة بقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها الآية [ 11 \ 16 ] .
ونظير هذه الآية قوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها الآية [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا الآية [ 46 \ 20 ] .
وعلى ما قاله ابن زيد وقوله : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] ، على أحد القولين ، وقوله : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون [ 8 \ 33 ] ، على أحد الأقوال الماضية في سورة " الأنفال " وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الكافر يجازى بحسناته في الدنيا مع أنه جاءت آيات أخر تدل على بطلان عمل الكافر واضمحلاله من أصله ، وفي بعضها التصريح ببطلانه في الدنيا مع الآخرة في كفر الردة وفي غيره .
أما الآيات الدالة على بطلانه من أصله فكقوله : أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [ 14 \ 18 ] ، وكقوله : أعمالهم كسراب الآية [ 24 \ 39 ] ، وقوله : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] .
وأما الآيات الدالة على بطلانه في الدنيا مع الآخرة فكقوله في كفر المرتد : ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة [ ص: 302 ] [ 2 \ 217 ] ، وكقوله في كفر غير المرتد : إن الذين يكفرون بآيات الله - إلى قوله أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين [ 3 \ 22 ] ، وبين الله تعالى في آيات أخر أن الإنعام عليهم في الدنيا ليس للإكرام بل للاستدراج والإهلاك .
كقوله تعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين [ 7 \ 182 - 183 ] ، وكقوله تعالى : ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين [ 3 \ 178 ] وكقوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ 6 \ 44 ] ، وقوله تعالى : أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون [ 23 - 56 ] ، وقوله : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا [ 19 ] ، وقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة - إلى قوله - والآخرة عند ربك للمتقين [ 43 33 - 35 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب من أربعة أوجه :
الأول : ويظهر لي صوابه لدلالة ظاهر القرآن عليه ، أن من الكفار من يثيبه الله بعمله في الدنيا كما دلت عليه آيات وصح به الحديث ، ومنهم من لا يثيبه في الدنيا كما دلت عليه آيات أخر ، وهذا مشاهد فيهم في الدنيا .
فمنهم من هو في عيش رغد ، ومنهم من هو في بؤس وضيق .
ووجه دلالة القرآن على هذا أنه تعالى أشار إليه بالتخصيص بالمشيئة في قوله :
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد [ 17 \ 18 ] .
فهي مخصصة لعموم قوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم [ 11 \ 15 ] ، وعموم قوله تعالى : ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها [ 42 \ 20 ] .
وممن صرح بأنها مخصصة لهما الحافظ ابن حجر في فتح الباري في كتاب الرقاق في الكلام على قول البخاري : " باب المكثرون هم المقلون " ، وقوله تعالى : [ ص: 303 ] من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها الآيتين .
ويدل لهذا التخصيص قوله في بعض الكفار : خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين [ 22 \ 11 ] .
وجمهور العلماء على حمل العام على الخاص والمطلق على المقيد ، كما تقرر في الأصول .
الثاني : وهو وجيه أيضا ، أن الكافر يثاب عن عمله بالصحة وسعة الرزق والأولاد ونحو ذلك كما صرح به تعالى في قوله : نوف إليهم أعمالهم فيها يعني الدنيا ، وأكد ذلك بقوله : وهم فيها لا يبخسون وبظاهرها المتبادر منها كما ذكرنا .
فسرها ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك كما نقله عنهم ابن جرير ، وعلى هذا فبطلان أعمالهم في الدنيا بمعنى أنها لم يعتد بها شرعا في عصمة دم ولا ميراث ولا نكاح ولا غير ذلك ، ولا تفتح لها أبواب السماء ، ولا تصعد إلى الله تعالى بدليل قوله : إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ 35 \ 10 ] ، ولا تدخر لهم في الأعمال النافعة ولا تكون في كتاب الأبرار في عليين ، وكفى بهذا بطلانا .
أما مطلق النفع الدنيوي بها فهو عند الله كلا شيء ، فلا ينافي بطلانها بدليل قوله : وما الحياة الدنيا إلا متاع [ 3 \ 185 ] .
وقوله : وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون [ 29 \ 64 ] .
وقوله : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة - إلى قوله - للمتقين [ 43 33 - 35 ] ، والآيات في مثل هذا كثيرة .
ومما يوضح هذا المعنى حديث : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء .
ذكر ابن كثير هذا الحديث في تفسير قوله تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة الآيات .
[ ص: 304 ] ثم قال : أسنده البغوي من رواية زكريا بن منظور عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره .
ورواه الطبراني من طريق زمعة بن صالح عن أبي حازم عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم : لو عدلت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما أعطى كافرا منها شيئا .
قال مقيده عفا الله عنه : لا يخفى أن مراد الحافظ ابن كثير رحمه الله بما ذكرناه عنه أن كلتا الطريقتين ضعيفة إلا أن كل واحدة منهما تعتضد بالأخرى فيصلح المجموع للاحتجاج كما تقرر في علم الحديث من أن الطرق الضعيفة المعتبر بها يشد بعضها بعضا فتصلح للاحتجاج .
لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا
لأن زكريا بن منظور بن ثعلبة القرظي وزمعة بن صالح الجندي كلاهما ضعيف ، وإنما روى مسلم عن زمعة مقرونا بغيره لا مستقلا بالرواية كما بينه الحافظ ابن حجر في التقريب .
الثالث : أن معنى نوف إليهم أعمالهم أي نعطيهم الغرض الذي عملوا من أجله في الدنيا ، كالذي قاتل ليقال جريء ، والذي قرأ ليقال قارئ ، والذي تصدق ليقال جواد ، فقد قيل لهم ذلك ، وهو المراد بتوفيتهم أعمالهم على هذا الوجه .
ويدل له الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعا في المجاهد والقارئ والمتصدق أنه يقال لكل واحد منهم : إنما عملت ليقال ، فقد قيل ، أخرجه الترمذي مطولا وأصله عند مسلم كما قاله ابن حجر ورواه أيضا ابن جرير ، وقد استشهد معاوية رضي الله عنه لصحة حديث أبي هريرة هذا بقوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم فيها وهو تفسير منه رضي الله عنه لهذه الآية بما يدل لهذا الوجه الثالث .
الرابع : أن المراد بالآية المنافقون الذين يخرجون للجهاد لا يريدون وجه الله ، وإنما يريدون الغنائم فإنهم يقسم لهم فيها في الدنيا ولا حظ لهم من جهادهم في الآخرة ، والقسم لهم منها هو توفيتهم أعمالهم على هذا القول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق الآية .
[ ص: 305 ] هذه الآية الكريمة تدل على أن هذا الابن من أهل نوح عليه السلام ، وقد ذكر تعالى ما يدل على خلاف ذلك حيث قال : يانوح إنه ليس من أهلك [ 11 \ 46 ] .
والجواب أن معنى قوله : ليس من أهلك أي الموعود بنجاتهم في قوله : إنا منجوك وأهلك [ 29 \ 33 ] ، لأنه كافر لا مؤمن .
وقول نوح : إن ابني من أهلي يظنه مسلما من جملة المسلمين الناجين كما يشير إليه قوله تعالى : فلا تسألني ما ليس لك به علم [ 11 \ 46 ] ، وقد شهد الله أنه ابنه حيث قال : ونادى نوح ابنه [ 11 \ 42 ] ، إلا أنه أخبره بأن هذا الابن عمل غير صالح لكفره ، فليس من الأهل الموعود بنجاتهم وإن كان من جملة الأهل نسبا .
قوله تعالى : ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام .
هذه الآية الكريمة تدل على أن إبراهيم رد السلام على الملائكة ، وقد جاء في سورة " الحجر " ما يوهم أنهم لما سلموا عليه أجابهم بأنه وجل منهم من غير رد السلام وذلك قوله تعالى : فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون [ 15 \ 52 ] .
والجواب ظاهر وهو أن إبراهيم أجابهم بكلا الأمرين : رد السلام ، والإخبار بوجله منهم ، فذكر أحدهما في " هود " والآخر في " الحجر " ، ويدل لذلك ذكره تعالى ما يدل عليهما معا في سورة " الذاريات " في قوله : فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون [ 51 \ 25 ] ، لأن قوله : منكرون يدل على وجله منهم ، ويوضح ذلك قوله تعالى : فأوجس منهم خيفة [ 51 \ 28 ] ، في " هود " و " الذاريات " ، مع أن في كل منهما قال : " " سلام " .
قوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض الآية .
تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات التي يظن تعارضها معه كقوله تعالى : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] ، في سورة " الأنعام " ، وسيأتي له إن شاء الله زيادة إيضاح في سورة " النبأ " .
قوله تعالى : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم .
اختلف العلماء في المشار إليه بقوله : " ذلك " فقيل : إلا من رحم ربك ، [ ص: 306 ] وللرحمة " خلقهم " ، والتحقيق أن المشار إليه هو اختلافهم إلى شقي وسعيد المذكور في قوله : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك الاختلاف خلقهم فخلق فريقا للجنة وفريقا للسعير ، كما نص عليه بقوله تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس الآية [ 7 \ 179 ] ، وأخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن مسعود رضي الله عنه : ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات : فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ، وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها : يا عائشة ! إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا ، وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم .
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء .
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : كل ميسر لما خلق له .
وإذا تقرر أن قوله تعالى : ولذلك خلقهم معناه أنه خلقهم لسعادة بعض وشقاوة بعض ، كما قال : ولقد ذرأنا لجهنم الآية وقال : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن [ 64 \ 2 ] فلا يخفى ظهور التعارض بين هذه الآيات مع قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ 51 \ 56 ] .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : ونقله ابن جرير عن زيد بن أسلم وسفيان أن معنى الآية : إلا ليعبدون أي يعبدني السعداء منهم ويعصيني الأشقياء ، فالحكمة المقصودة من إيجاد الخلق التي هي عبادة الله حاصلة بفعل السعداء منهم ، كما أشار له قوله تعالى : فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين [ 6 \ 89 ] .
وغاية ما يلزم على هذا القول أنه أطلق المجموع وأراد بعضهم ، وقد بينا أمثال ذلك من الآيات التي أطلق فيها المجموع مرادا بعضه في سورة " الأنفال " .
[ ص: 307 ] الوجه الثاني : هو ما رواه ابن جرير عن ابن عباس واختاره ابن جرير أن معنى قوله : إلا ليعبدون أي إلا ليقروا إلي بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه جبرا عليه .
الوجه الثالث : ويظهر لي أنه هو الحق ، لدلالة القرآن عليه ، أن الإرادة في قوله : ولذلك خلقهم إرادة كونية قدرية ، والإرادة في قوله : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون إرادة شرعية دينية ، فبين في قوله : ولذلك خلقهم وقوله : ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس أنه أراد بإرادته الكونية القدرية صيرورة قوم إلى السعادة ، وآخرين إلى الشقاوة .
وبين بقوله : إلا ليعبدون أنه يريد العبادة بإرادته الشرعية الدينية من الجن والإنس ، فيوفق من شاء بإرادته الكونية فيعبده ويخذل من شاء فيمتنع من العبادة .
ووجه دلالة القرآن على هذا أنه تعالى بينه بقوله : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله [ 4 \ 64 ] ، فعمم الإرادة الشرعية بقوله : إلا ليطاع وبين التخصيص في الطاعة بالإرادة الكونية ، بقوله : بإذن الله فالدعوة عامة والتوفيق خاص .
وتحقيق النسبة بين الإرادة الكونية والقدرية والإرادة الشرعية الدينية أنه بالنسبة إلى وجود المراد وعدم وجوده ، فالإرادة الكونية أعم مطلقا ، لأن كل مراد شرعا يتحقق وجوده في الخارج إذا أريد كونا وقدرا ، كإيمان أبي بكر ، وليس يوجد ما لم يرد كونا وقدرا ولو أريد شرعا كإيمان أبي لهب ، فكل مراد شرعي حصل فبالإرادة الكونية وليس كل مراد كوني حصل مرادا في الشرع .
وأما بالنسبة إلى تعلق الإرادتين بعبادة الإنس والجن لله تعالى ، فالإرادة الشرعية أعم مطلقا والإرادة الكونية أخص مطلقا ، لأن كل فرد من أفراد الجن والإنس أراد الله منه العبادة شرعا ولم يردها من كلهم كونا وقدرا ، فتعم الإرادة الشرعية عبادة جميع الثقلين ، وتختص الإرادة الكونية بعبادة السعداء منهم كما قدمنا من أن الدعوة عامة والتوفيق خاص ، كما بينه تعالى بقوله : والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم [ 10 \ 25 ] ، فصرح بأنه يدعو الكل ويهدي من شاء منهم .
وليست بالنسبة بين الإرادة الشرعية والقدرية العموم والخصوص من وجه بل هي [ ص: 308 ] العموم والخصوص المطلق ، كما بينا إلا أن إحداهما أعم مطلقا من الأخرى باعتبار ، والثانية أعم مطلقا باعتبار آخر ، كما بينا ، والعلم عند الله تعالى .
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف
قوله تعالى : وجاء بكم من البدو الآية .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن بعض الأنبياء ربما بعث من البادية ، وقد جاء في موضع آخر ما يدل على خلاف ذلك وهو قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى [ 12 \ 109 ] .
وأجيب عن هذا بأجوبة : منها أن يعقوب نبئ من الحضر ، ثم انتقل بعد ذلك إلى البادية .
ومنها أن المراد بالبدو نزول موضع اسمه بدا ، هو المذكور في قول جميل أو كثير :
وأنت الذي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما حللت بهذا مرة ثم مرة
بهذا فطاب الواديان كلاهما
وهذا القول مروي عن ابن عباس ، ولا يخفى بعد هذا القول كما نبه عليه الألوسي في تفسيره .
ومنها أن البدو الذي جاءوا منه مستند للحضر ، فهو في حكمه ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 310 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعد
قوله تعالى : إنما أنت منذر ولكل قوم هاد .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن لكل قوم هاديا ، وقد جاء في آيات أخر ما يدل على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد ، سواء فسرنا الهدى بمعناه الخاص أو بمعناه العام ، فمن الآيات الدالة على أن بعض الناس لم يكن لهم هاد بالمعنى الخاص ، قوله تعالى : وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك [ 6 \ 116 ] ، فهؤلاء المضلون لم يهدهم هاد الهدى الخاص ، الذي هو التوفيق ، لما يرضي الله ، ونظيرها قوله تعالى : ولكن أكثر الناس لا يؤمنون [ 11 \ 17 ] ، وقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين [ 12 \ 103 ] ، وقوله : إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين [ 26 \ 8 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على أن بعض الأقوام لم يكن لهم هاد بالمعنى العام ، الذي هو إبانة الطريق ، قوله تعالى : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، بناء على التحقيق من أن " ما " نافية لا موصولة وقوله تعالى : ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل الآية [ 5 \ 19 ] .
فالذين ماتوا في هذا الفترة ، لم يكن لهم هاد بالمعنى الأعم أيضا .
والجواب عن هذا من أربعة أوجه :
الأول : أن معنى قوله : ولكل قوم هاد أي داع يدعوهم ويرشدهم إما إلى خير كالأنبياء ، وإما إلى شر كالشياطين ، أي وأنت يا رسول الله منذر هاد إلى كل خير ، وهذا القول مروي عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وقد جاء في القرآن استعمال الهدى في الإرشاد إلى الشر أيضا كقوله تعالى : كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير [ ص: 311 ] [ 22 \ 4 ] ، وقوله تعالى : فاهدوهم إلى صراط الجحيم [ 37 \ 23 ] ، وقوله تعالى : ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم [ 4 \ 168 ] ، كما جاء في القرآن أيضا إطلاق الإمام على الداعي إلى الشر في قوله : وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار الآية [ 28 \ 41 ] .
الثاني : أن معنى الآية ، أنت يا محمد - صلى الله عليه وسلم - منذر ، وأنا هادي كل قوم ، ويروى هذا عن ابن عباس من طريق العوفي وعن محمد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد ، قاله ابن كثير .
وعلى هذا القول فقوله : ولكل قوم هاد يعني به نفسه جل وعلا ، ونظيره في القرآن قوله تعالى : ولا ينبئك مثل خبير [ 35 \ 14 ] ، يعني نفسه ، كما قاله قتادة ، ونظيره من كلام العرب قول قتادة بن سلمة الحنفي :
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني نفسه .
وسيأتي تحرير هذا المبحث إن شاء الله في سورة " القارعة " ، وتحرير المعنى على هذا القول : أنت يا محمد منذر وأنا هادي كل قوم سبقت لهم السعادة والهدى في علمي ، لدلالة آيات كثيرة على أنه تعالى هدى قوما وأضل آخرين ، على وفق ما سبق به العلم الأزلي ، كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل [ 16 \ 37 ] .
الثالث : أن معنى ولكل قوم هاد أي قائد ، والقائد الإمام ، والإمام العمل ، قاله أبو العالية ، كما نقله عنه ابن كثير .
وعلى هذا القول فالمعنى : ولكل قوم عمل يهديهم إلى ما هم صائرون إليه من خير وشر ، ويدل لمعنى هذا الوجه قوله تعالى : " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " [ 10 \ 30 ] ، على قراءة من قرأها بتائين بمعنى تتبع كل نفس ما أسلفت من خير وشر .
وأما على القول بأن معنى : " تتلو " ، تقرأ في كتاب عملها ما قدمت من خير وشر [ ص: 312 ] فلا دليل في الآية . ويدل له أيضا حديث : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت الحديث .
الرابع : وبه قال مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد : إن المراد بالقوم الأمة والمراد بالهادي النبي ، فيكون معنى قوله : ولكل قوم هاد أي ولكل أمة نبي ، كقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير [ 35 \ 24 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول [ 10 \ 47 ] .
وكثيرا ما يطلق في القرآن اسم القوم على الأمة ، كقوله : ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه [ 11 \ 25 ] ، وقوله : وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم [ 7 \ 65 ] ، وقوله : وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم [ 7 \ 73 ] ، ونحو ذلك .
وعلى هذا القول فالمراد بالقوم في قوله : ولكل قوم هاد أعم من مطلق ما يصدق عليه اسم القوم لغة ، ومما يوضح ذلك حديث معاوية بن حيدة القشيري رضي الله عنه في السنن والمسانيد : أنتم توفون سبعين أمة الحديث .
ومعلوم أن ما يطلق عليه اسم القوم لغة أكثر من سبعين بأضعاف ، وحاصل هذا الوجه الرابع أن الآية كقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ، وقوله : ولكل أمة رسول ، وهذا لا إشكال فيه لحصر الأمم في سبعين ، كما بين في الحديث ، فآباء القوم الذين لم ينذروا مثلا المذكورون في قوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] ، ليسوا أمة مستقلة حتى يرد الإشكال في عدم إنذارهم ، مع قوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير بل هم بعض أمة ، وقوله تعالى : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير لا يشكل عليه قوله تعالى : ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا [ 25 \ 51 ] ، لأن المعنى أرسلنا إلى جميع القرى ، بل إلى الأسود والأحمر رسولا واحدا ، هو محمد صلى الله عليه وسلم ، مع أنا لو شئنا أرسلنا إلى كل قرية بانفرادها رسولا ، ولكن لم نفعل ذلك ليكون الإرسال إلى الناس كلهم فيه الإظهار لفضله صلى الله عليه وسلم على غيره من الرسل ، بإعطائه ما لم يعطه أحد قبله من الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام .
كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح من أن عموم رسالته إلى الأسود والأحمر ، مما خصه الله به دون غيره من الرسل .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:34 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (625)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 313 إلى صـ 326
[ ص: 313 ] وأقرب الأوجه المذكورة عندنا ، هو ما يدل عليه القرآن العظيم وهو الوجه الرابع ، وهو أن معنى الآية : ولكل قوم هاد ، أي لكل أمة نبي ، فلست يا نبي الله بدعا من الرسل .
ووجه دلالة القرآن على هذا كثرة إتيان مثله في الآيات ، كقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله : ولكل أمة رسول وقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وعليه فالحكمة في الإخبار بأن لكل أمة نبيا أن المشركين عجبوا من إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما بينه تعالى بقوله : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس [ 10 \ 2 ] ، وقوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم [ 50 \ 2 ] ، وقوله : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا فأخبرهم أن إنذاره لهم ليس بعجب ولا غريب لأن لكل أمة منذرا ، فالآية كقوله : قل ما كنت بدعا من الرسل [ 46 \ 9 ] ، وقوله : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده [ 4 \ 163 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك الآية .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على إيمان أهل الكتاب ، لأن الفرح بما أنزل على النبي دليل الإيمان .
ونظيرها قوله تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته [ 2 \ 121 ] ، وقوله : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله الآية [ 17 \ 107 ] .
وقد جاءت آيات تدل على خلاف ذلك كقوله : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين - إلى أن قال - إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم [ 98 \ 1 - 6 ] ، وبين في موضع آخر أن الكافرين من أهل الكتاب أكثر ، وهو قوله : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون [ 3 \ 110 ] .
والجواب أن الآية من العام المخصوص ، فهي في خصوص المؤمنين من أهل الكتاب ، كعبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود وكالثمانين الذين أسلموا من النصارى [ ص: 314 ] المشهورين ، كما قاله الماوردي وغيره ، وهو ظاهر ، ويدل عليه التبعيض في قوله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية [ 3 \ 199 ] .
[ ص: 315 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيم
قوله تعالى : ويأتيه الموت من كل مكان الآية .
يفهم من ظاهره موت الكافر في النار ، وقوله : وما هو بميت [ 14 \ 17 ] ، يصرح بنفي ذلك .
والجواب أن معنى : ويأتيه الموت أي أسبابه المقتضية له عادة ، إلا أن الله يمسك روحه في بدنه مع وجود ما يقتضي موته عادة ، وأوضح هذا المعنى بعض المتأخرين ممن لا حجة في قوله بقوله :
لقد قتلتك بالهجاء فلم تمت إن الكلاب طويلة الأعمار
قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض الآية .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بتبديل الأرض يوم القيامة ، وقد جاء في آية أخرى ما يتوهم منه أنها تبقى ولا تتغير ، وهي قوله تعالى : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 7 - 8 ] ، فإنه تعالى في هذه الآية صرح بأنه جعل ما على الأرض زينة لها لابتلاء الخلق ، ثم بين أنه يجعل ما على الأرض صعيدا جرزا ، ولم يذكر أنه يغير نفس الأرض ، فيتوهم منه أن التغيير حاصل في ما عليها دون نفسها .
والجواب هو أن حكمة ذكر ما عليها دونها ، لأن ما على الأرض من الزينة والزخارف ومتاع الدنيا ، هو سبب الفتنة والطغيان ، ومعصية الله تعالى .
فالإخبار عنه بأنه فان زائل فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر ، عن الافتتان به ، ولهذه الحكمة خص بالذكر ، فلا ينافي تبديل الأرض المصرح به في الآية الأخرى ، كما هو [ ص: 316 ] ظاهر ، مع أن مفهوم قوله : ما عليها مفهوم لقب لأن الموصول الذي هو واقع على جميع الأجناس الكائنة على الأرض زينة لها ، ومفهوم اللقب لا يعتبر عند الجمهور ، وإذا كان لا اعتبار به لم تظهر منافاة أصلا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 317 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجر
قوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون .
ظاهر هذه الآية أن آدم خلق من صلصال ، أي طين يابس .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : من طين لازب [ 37 \ 11 ] وكقوله : كمثل آدم خلقه من تراب [ 3 \ 59 ] .
والجواب أنه ذكر أطوار ذلك التراب ، فذكر طوره الأول بقوله : من تراب ، ثم بل فصار طينا لازبا ، ثم خمر فصار حمأ مسنونا ، ثم يبس فصار صلصالا كالفخار .
وهذا واضح ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 318 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النحل
قوله تعالى : ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن هؤلاء الضالين يحملون أوزارهم كاملة ، ويحملون أيضا من أوزار الأتباع الذين أضلوهم .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه لا يحمل أحد وزر غيره ، كقوله تعالى : وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى [ 35 \ 18 ] ، وقوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 6 \ 164 ] .
والجواب أن هؤلاء الضالين ما حملوا إلا أوزار أنفسهم ، لأنهم تحملوا وزر الضلال ووزر الإضلال .
فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ، ووزر من عمل بها ، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ، لأن تشريعه لها لغيره ذنب من ذنوبه فأخذ به .
وبهذا يزول الإشكال أيضا في قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم الآية [ 29 \ 13 ] .
قوله تعالى : ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا .
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن السكر المتخذ من ثمرات النخيل والأعناب لا بأس به ، لأن الله امتن به على عباده في سورة الامتنان التي هي سورة " النحل " .
وقد حرم الله تعالى الخمر بقوله : رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون الآية [ 5 \ 90 ] ، لأنه وصفها بأنها رجس ، وأنها من عمل الشيطان وأمر [ ص: 319 ] باجتنابها ورتب عليه رجاء الفلاح ، ويفهم منه أن من لم يجتنبها لم يفلح ، وهو كذلك ، وقد بين صلى الله عليه وسلم أن كل ما خامر العقل فهو خمر ، وأن كل مسكر حرام ، وأن ما أسكر كثيره فقليله حرام .
والجواب ظاهر ، وهو أن آية تحريم الخمر ناسخة لقوله : تتخذون منه سكرا الآية ، ونسخها له هو التحقيق خلافا لما يزعمه كثير من الأصوليين أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها الأولى ، لأن إباحتها الأولى إباحة عقلية وهي المعروفة عند الأصوليين بالبراءة الأصولية ، وتسمى استصحاب العدم الأصلي .
والإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا ، ولو كان رفعها نسخا لكان كل تكليف في الشرع ناسخا للبراءة الأصلية من التكليف به وإلى كون الإباحة العقلية ليست من الأحكام الشرعية ، أشار في مراقي السعود بقوله :
وما من الإباحة العقلية قد أخذت فليست الشرعية
كما أشار إلى أن تحريم الخمر ليس نسخا لإباحتها ، لأنها إباحة عقلية ، وليست من الأحكام الشرعية حتى يكون رفعها نسخا بقوله :
أباحها في أول الإسلام براءة ليست من الأحكام
وإنما قلنا : إن التحقيق هو كون تحريم الخمر ناسخا لإباحتها ، لأن قوله تتخذون منه سكرا يدل على إباحة الخمر شرعا ، فرفع هذه الإباحة المدلول عليها بالقرآن رفع حكم شرعي فهو نسخ بلا شك ولا يمكن أن تكون إباحتها عقلية إلا قبل نزول هذه الآية كما هو ظاهر .
ومعلوم عند العلماء أن الخمر نزلت في شأنها أربع آيات من كتاب الله :
الأولى : هذه الآية الدالة على إباحتها .
الثانية : الآية التي ذكر فيها بعض معائبها ، وأن فيها منافع وصرحت بأن إثمها أكبر من نفعها ، وهي قوله تعالى : قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ 2 \ 219 ] ، فشربها بعد نزولها قوم للمنافع المذكورة وتركها آخرون للإثم الذي هو أكبر من المنافع .
[ ص: 320 ] الثالثة : الآية التي دلت على تحريمها في أوقات الصلاة دون غيرها ، وهي قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون الآية [ 4 \ 43 ] .
الرابعة : الآية التي حرمتها تحريما باتا مطلقا وهي قوله تعالى ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر - إلى قوله - فهل أنتم منتهون [ 5 \ 90 - 91 ] ، والعلم عند الله تعالى .
وأما على قول من زعم أن السكر الطعم ، كما اختاره ابن جرير وأبو عبيدة أو أنه الخل ، فلا إشكال في الآية .
قوله تعالى : إنما سلطانه على الذين يتولونه الآية .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الشيطان له سلطان على أوليائه ، ونظيرها الاستثناء في قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] .
وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على نفي سلطانه عليهم ، كقوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين وما كان له عليهم من سلطان الآية [ 34 \ 20 - 21 ] .
وقوله تعالى حاكيا عنه مقررا له : وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان الآية [ 14 \ 22 ] .
والجواب هو أن السلطان الذي أثبته له عليهم غير السلطان الذي نفاه ، وذلك من وجهين :
الأول : أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه ، والسلطان المنفي هو سلطان الحجة فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان ، وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن .
الثاني : أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداء البتة ، ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه ، فلم يتسلط عليهم بقوة لأن الله يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا [ ص: 321 ] الآية [ 4 \ 76 ] ، وإنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم ، ذكر هذا الجواب بوجهيه ابن القيم .
قوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن معية الله خاصة بالمتقين المحسنين .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على عمومها وهي قوله : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم [ 58 \ 7 ] .
وقوله : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 \ 4 ] .
وقوله : فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] .
وقوله : وما تكون في شأن الآية [ 10 \ 61 ] .
والجواب أن لله معية خاصة ومعية عامة ، فالمعية الخاصة بالنصر والتوفيق والإعانة ، وهذه لخصوص المتقين المحسنين ، كقوله تعالى : إن الله مع الذين اتقوا الآية [ 16 \ 128 ] .
وقوله : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم الآية [ 8 \ 12 ] .
وقوله : إنني معكما أسمع وأرى [ 20 \ 46 ] .
وقوله : لا تحزن إن الله معنا [ 9 \ 40 ] .
ومعية عامة بالإحاطة والعلم ، لأنه تعالى أعظم وأكبر من كل شيء ، محيط بكل شيء ، فجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى ، وسيأتي له زيادة إيضاح في سورة " الحديد " إن شاء الله ، وهي عامة لكل الخلائق ، كما دلت عليه الآيات المتقدمة .
[ ص: 322 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة بني إسرائيل
قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى ينذره على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام .
ونظيرها قوله تعالى : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
وقوله تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية [ 20 \ 134 ] .
وقوله : ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون [ 6 \ 131 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ويؤيده تصريحه تعالى بأن كل أفواج أهل النار جاءتهم الرسل في دار الدنيا في قوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا الآية [ 67 \ 8 - 9 ] .
ومعلوم أن " كلما " صيغة عموم ونظيرها قوله تعالى : وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا - إلى قوله - قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] .
فقوله : وسيق الذين كفروا يعم كل كافر لما تقرر في الأصول ، من أن الموصولات من صيغ العموم لعمومها كلما تشمله صلاتها ، كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
[ ص: 323 ]
صيغة كل أو الجميع وقد تلا الذي التي الفروع
ومعنى قوله : " وقد تلا الذي إلخ . . . " أن الذي والتي وفروعها صيغ عموم ككل وجميع .
ونظيره أيضا قوله تعالى : وهم يصطرخون فيها - إلى قوله - وجاءكم النذير [ 35 \ 37 ] ، فإنه عام أيضا لأن أول الكلام : والذين كفروا لهم نار جهنم [ 35 \ 36 ] .
وأمثال هذا كثيرة في القرآن مع إنه جاء في بعض الآيات ما يفهم منه أن أهل الفترة في النار ، كقوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ، [ 9 \ 113 ] فإن عمومها يدل على دخول من لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك عموم قوله تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما [ 4 \ 18 ] .
وقوله تعالى : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين [ 2 \ 161 ] .
وقوله : إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا الآية [ 3 \ 91 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
اعلم أولا أن من لم يأته نذير في دار الدنيا وكان كافرا حتى مات ، اختلف العلماء فيه ، هل هو من أهل النار لكفره ، أو هو معذور لأنه لم يأته نذير ؟ كما أشار له في مراقي السعود بقوله :
ذو فترة بالفرع لا يراع وفي الأصول بينهم نزاع
وسنذكر إن شاء الله جواب أهل كل واحد من القولين ، ونذكر ما يقتضي الدليل رجحانه ، فنقول وبالله نستعين :
قد قال قوم : إن الكافر في النار ، ولو مات في زمن الفترة ، وممن جزم بهذا القول النووي في شرح مسلم لدلالة الأحاديث على تعذيب بعض أهل الفترة .
[ ص: 324 ] وحكى القرافي في شرح التفيح الإجماع على أن موتى أهل الجاهلية في النار لكفرهم ، كما حكاه عنه صاحب نشر البنود .
وأجاب أهل هذا القول عن آية : وما كنا معذبين وأمثالها من ثلاثة أوجه :
الأول : أن التعذيب المنفي في قوله : وما كنا معذبين وأمثالها هو التعذيب الدنيوي ، فلا ينافي ثبوت التعذيب في الآخرة .
وذكر الشوكاني في تفسيره : أن اختصاص هذا التعذيب المنفي بالدنيا دون الآخرة ، ذهب إليه الجمهور واستظهر هو خلافه ، ورد التخصيص بعذاب الدنيا بأنه خلاف الظاهر من الآيات ، وبأن الآيات المتقدمة الدالة على اعتراف أهل النار جميعا ، بأن الرسل أنذروهم في دار الدنيا صريح في نفيه .
الثاني : أن محل العذر بالفترة المنصوص في قوله : وما كنا معذبين الآية ، وأمثالها في غير الواضح الذي لا يلتبس على عاقل .
أما الواضح الذي لا يخفى على من عنده عقل كعبادة الأوثان فلا يعذر فيه أحد ، لأن جميع الكفار يقرون بأن الله هو ربهم وهو خالقهم ورازقهم ، ويتحققون أن الأوثان لا تقدر على جلب نفع ولا على دفع ضر ، لكنهم غالطوا أنفسهم ، فزعموا أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وأنها شفعاؤهم عند الله ، مع أن العقل يقطع بنفي ذلك .
الثالث : أن عندهم بقية إنذار مما جاءت به الرسل الذين أرسلوا قبله صلى الله عليه وسلم تقوم عليهم بها الحجة ، ومال إليه بعض الميل ابن قاسم في الآيات البينات .
وقد قدمنا في سورة " آل عمران " أن هذا القول يرده القرءان في آيات كثيرة مصرحة بنفي أصل النذير عنهم ، كقوله : لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم [ 36 \ 6 ] .
وقوله : أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك .
وقوله : وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك [ 28 \ 46 ] .
[ ص: 325 ] وقوله : وما آتيناهم من كتب يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير [ 34 \ 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأجاب القائلون : بأن أهل الفترة معذورون عن مثل قوله : ما كان للنبي - إلى قوله - من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] .
من الآيات المتقدمة بأنهم لا يتبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم ولا يحكم لهم بالنار ولو ماتوا كفارا إلا بعد إنذارهم وامتناعهم من الإيمان ، كأبي طالب ، وحملوا الآيات المذكورة على هذا المعنى .
واعترض هذا الجواب بما ثبت في الصحيح من دخول بعض أهل الفترة النار ، كحديث : إن أبي وأباك في النار الثابت في صحيح مسلم وأمثاله من الأحاديث ، واعترض هذا الاعتراض بأن الأحاديث وإن صحت فهي أخبار آحاد ، يقدم عليها القاطع كقوله : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا .
واعترض هذا الاعتراض أيضا بأنه لا يتعارض عام وخاص ، فما أخرجه حديث صحيح خرج من العموم ، وما لم يخرجه نص صحيح بقي داخلا في العموم .
واعترض هذا الاعتراض أيضا بأن هذا التخصيص يبطل علة العام لأن الله تعالى تمدح بكمال الإنصاف وصرح بأنه لا يعذب حتى يقطع حجة المعذب بإنذار الرسل في دار الدنيا ، وبين أن ذلك الإنصاف التام علة لعدم التعذيب ، فلو عذب إنسانا واحدا من غير إنذار لاختلت تلك الحكمة ، ولثبتت لذلك المعذب الحجة التي بعث الله الرسل لقطعها ، كما صرح به في قوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] .
وهذه الحجة بينهما في سورة " طه " بقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله [ 20 \ 134 ] .
وأشار لها في سورة " القصص " بقوله : ولولا أن تصيبهم مصيبة - إلى قوله - ونكون من المؤمنين [ 28 \ 47 ] .
وهذا الاعتراض الأخير يجري على الخلاف في النقض هل هو قادح في العلة أو [ ص: 326 ] تخصيص لها ؟ وهو اختلاف كثير معروف في الأصول عقده في مراقي السعود بقوله في تعداد القوادح في الدليل :
منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض رعاة العلم
والأكثرون عندهم لا يقدح بل هو تخصيص وذا مصحح
وقد روي عن مالك تخصيص إن يك الاستنباط لا التنصيص
وعكس هذا قد رآه البعض ومنتقى ذي الاختصار النقض
إن لم يكن منصوصه بظاهر وليس فيما استنبطت بضائر
إن جاء لفقد الشرط أو لما منع والوفق في مثل العرايا قد وقع
والمحققون من أهل الأصول على أن عدم تأثير العلة ، إن كان لوجود مانع من التأثير أو انتفاء شرط التأثير ، فوجودها من تخلف الحكم لا ينقضها ، ولا يقدح فيها ، وخروج بعض أفراد الحكم حينئذ تخصيص للعلة لا نقض لها ، كالقتل عمدا عدوانا ، فإنه علة القصاص إجماعا ، ولا يقدح في هذه العلة تخلف الحكم عنها في قتل الوالد لولده ، لأن تأثيرها منع منه مانع هو الأبوة ، وأما إن كان عدم تأثيرها لا لوجود مانع أو انتفاء شرط فإنه يكون نقضا لها وقدحا فيها ، ولكن يرد على هذا التحقيق ما ذكره بعض العلماء من أن قوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ، [ 8 \ 13 ] ، علة منصوصة لقوله : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم الآية [ 59 \ 3 ] .
مع أن هذه العلة قد توجد ولا يوجد ما عذب به بنو النضير من جلاء أو تعذيب دنيوي ، وهو يؤيد كون النقض تخصيصا مطلقا لا قدحا .
ويجاب عن هذا بأن بعض المحققين من الأصوليين قال : إن التحقيق المذكور محله في العلة المستنبطة دون المنصوصة وهذه منصوصة ، كما قدمنا ذلك في أبيات مراقي السعود في قوله :
. . . . . . وليس فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد الشرط أو لما منع . . . . .
هذا ملخص كلام العلماء وحججهم في المسألة ، والذي يظهر رجحانه بالدليل هو الجمع بين الأدلة لأن الجمع واجب إذا أمكن بلا خلاف ، كما أشار له في المراقي بقوله :
[ ص: 327 ]
والجمع واجب إذا ما أمكنا
إلخ .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:35 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (626)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 327 إلى صـ 340
ووجه الجمع بين هذه الأدلة هو عذرهم بالفترة وامتحانهم يوم القيامة بالأمر باقتحام نار فمن اقتحمها دخل الجنة ، وهو الذي كان يصدق الرسل لو جاءته في الدنيا ، ومن امتنع عذب بالنار ، وهو الذي كان يكذب الرسل لو جاءته في الدنيا ، لأن الله يعلم ما كانوا عاملين لو جاءتهم الرسل .
وبهذا الجمع تتفق الأدلة فيكون أهل الفترة معذورين ، وقوم منهم من أهل النار بعد الامتحان ، وقوم منهم من أهل الجنة بعده أيضا ، ويحمل كل واحد من القولين على بعض منهم علم الله مصيرهم ، وأعلم به نبيه صلى الله عليه وسلم فيزول التعارض .
والدليل على هذا الجمع ورود الأخبار به عنه صلى الله عليه وسلم ، قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا بعد أن ساق الأحاديث الدالة على عذرهم وامتحانهم يوم القيامة رادا على ابن عبد البر تضعيف أحاديث عذرهم وامتحانهم ما نصه :
والجواب عما قال : إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح ، كما نص على ذلك كثير من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة علم هذا النمط ، أفادت الحجة عند الناظر فيها ، انتهى محل الغرض بلفظه .
ثم قال : إن هذا قال به جماعة من محققي العلماء والحفاظ والنقاد وما احتج به البعض لرد هذه الأحاديث من أن الآخرة دار جزاء لا دار عمل وابتلاء ، فهو مردود من وجهين :
الأول : أن ذلك لا ترد به النصوص الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم ، ولو سلمنا عموم من قال : من أن الآخرة ليست دار عمل ، لكانت الأحاديث المذكورة مخصصة لذلك العموم .
الثاني : أنا لا نسلم انتفاء الامتحان في عرصات المحشر ، بل نقول : دل القاطع عليه لأن الله تعالى صرح في سورة " القلم " بأنهم يدعون إلى السجود في قوله جل وعلا : يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود الآية [ 68 \ 42 ] .
ومعلوم أن أمرهم بالسجود تكليف في عرصات المحشر ، وثبت في الصحيح أن [ ص: 328 ] المؤمنين يسجدون يوم القيامة وأن المنافق لا يستطيع ذلك ، ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة ، طبقا واحدا كلما أراد السجود خر قفاه .
وفي الصحيحين في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها ، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه ويتكرر ذلك مرارا ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك ثم يأذن له في دخول الجنة ، ومعلوم أن تلك العهود والمواثيق تكليف في عرصات المحشر ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .
هذه الآية يظهر تعارضها مع قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين [ 18 \ 55 ] ووجه الجمع أن الحصر في آية " الإسراء " ، حصر في المانع العادي .
والحصر في آية " الكهف " في المانع الحقيقي ، وإيضاحه هو ما ذكره ابن عبد السلام من أن معنى آية " الكهف " : وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن الله أراد أن يأتيهم سنة الأولين من أنواع الهلاك في الدنيا أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ، فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ، ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي مراده ، فهذا حصر في المانع الحقيقي ، لأن الله هو المانع في الحقيقة .
ومعنى آية : سبحان الذي أسرى [ 17 \ 1 ] ، أنه ما منع الناس من الإيمان إلا استغرابهم أن الله يبعث رسولا من البشر ، واستغرابهم لذلك ليس مانعا حقيقيا بل عاديا يجوز تخلفه فيوجد الإيمان معه بخلاف الأول فهو حقيقي لا يمكن تخلفه ، ولا وجود الإيمان معه ، ذكر هذا الجمع صاحب الإتقان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما .
هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن الكفار يبعثون يوم القيامة عميا وبكما وصما .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا [ 19 \ 38 ] [ ص: 329 ] وكقوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها [ 18 \ 53 ] ، وكقوله : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا [ 32 \ 12 ] . والجواب عن هذا من أوجه :
الوجه الأول : هو ما استظهره أبو حيان من كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع .
الوجه الثاني : أنهم لا يرون شيئا يسرهم ، ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة ، كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه ، وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، وروي أيضا عن الحسن كما ذكره الألوسي في تفسيره ، فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به ، كما تقدم نظيره .
الوجه الثالث : أن الله إذا قال لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 \ 108 ] ، وقع بهم ذاك العمى والصم والبكم من شدة الكرب واليأس من الفرج ، قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 \ 85 ] وعلى هذا القول تكون الأحوال الثلاثة مقدرة .
[ ص: 330 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهف
قوله تعالى : إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن المكره على الكفر لا يفلح أبدا .
وقد جاءت آية أخرى تدل على أن المكره على الكفر معذور إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان ، وهي قوله تعالى : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا [ 16 : 106 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : أن رفع المؤاخذة مع الإكراه من خصائص هذه الأمة فهو داخل في قوله تعالى : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ 7 \ 157 ] ، ويدل لهذا قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه فهو يدل بمفهومه على خصوصه بأمته صلى الله عليه وسلم .
وليس مفهوم لقب لأن مناط التخصيص هو اتصافه بالأفضلية على من قبله من الرسل ، واتصاف أمته بها على من قبلها من الأمم ، والحديث وإن أعله أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديما وحديثا بالقبول ، ومن أصرح الأدلة في أن من قبلنا ليس لهم عذر بالإكراه حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه لصنم ، مع أنه قربه ليتخلص من شر عبدة الصنم ، وصاحبه الذي امتنع من ذلك قتلوه فعلم أنه لو لم يفعل لقتلوه كما قتلوا صاحبه ، ولا إكراه أكبر من خوف القتل ، ومع هذا دخل النار ولم ينفعه الإكراه ، وظواهر الآيات تدل على ذلك ، فقوله : ولن تفلحوا إذا أبدا . ظاهر في عدم فلاحهم مع الإكراه ، لأن قوله : يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ، صريح في [ ص: 331 ] الإكراه ، وقوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 : 286 ] مع أنه تعالى قال : " قد فعلت " ، كما ثبت في صحيح مسلم ، يدل بظاهره على أن التكليف بذلك كان معهودا قبل ، وقوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [ 20 \ 115 ] مع قوله : وعصى آدم ربه [ 20 \ 121 ] ، فأسند إليه النسيان والعصيان معا ، يدل على ذلك أيضا ، وعلى القول بأن المراد بالنسيان الترك ، فلا دليل في الآية .
وقوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، مع قوله : كما حملته على الذين من قبلنا [ 2 \ 286 ] ، ويستأنس لهذا بما ذكره البغوي في تفسيره عن الكلبي من أن المؤاخذة بالنسيان كانت من الإصر على من قبلنا ، وكان عقابها يعجل لهم في الدنيا فيحرم عليهم بعض الطيبات ، وقال بعض العلماء : إن الإكراه عذر لمن قبلنا ، وعليه فالجواب هو :
الوجه الثاني : أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه ، كما يفهم من مفهوم قوله تعالى : وقلبه مطمئن بالإيمان [ 16 \ 106 ] وإلى هذا الوجه جنح صاحب روح المعاني ، والأول أظهر عندي وأوضح ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : فأردت أن أعيبها .
هذه الآية تدل على أن عيبها يكون سببا لترك الملك الغاصب لها ، ولذلك خرقها الخضر ، وعموم قوله : وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] يقتضي أخذ الملك للمعيبة والصحيحة معا .
والجواب أن في الكلام حذف الصفة ، وتقديره كل سفينة صالحة صحيحة ، وحذف النعت إذا دل المقام عليه جائز ، كما أشار له ابن مالك في الخلاصة بقوله :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل
ومن شواهد حذف الصفة قول الشاعر :
ورب أسيلة الخدين بكر مهفهفة لها فرع وجيد
أي لها فرع فاحم وجيد طويل .
[ ص: 332 ] وقول عبيد بن الأبرص الأسيدي :
من قوله قول ومن فعله فعل ومن نائله نائل
يعني من قوله قول فصل ، وفعله فعل جميل ، ونائله نائل جزل .
[ ص: 333 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة مريم
قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها .
هذه الآية الكريمة تدل على أن كل الناس لا بد لهم من ورود النار ، وأكد ذلك بقوله : كان على ربك حتما مقضيا [ 19 \ 71 ] ، وقد جاء في آية أخرى ما يدل على أن بعض الناس مبعد عنها لا يسمع لها حسا ، وهي قوله تعالى : أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها الآية [ 21 \ 101 - 102 ] .
والجواب هو ما ذكره الألوسي وغيره من أن معنى قوله : " مبعدون " أي عن عذاب النار وألمها ، وقيل : المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها ، ويدل للوجه الأول ما أخرجه الإمام أحمد والحكيم الترمذي وابن المنذر والحاكم وصححه ، وجماعة عن أبي سمية قال : اختلفنا هاهنا في الورود فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون : يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنه فذكرت ذلك له ، فقال وأهوى بإصبعيه إلى أذنيه : صمتا ، إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السلام حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا .
وروى جماعة عن ابن مسعود : أن ورود النار هو المرور عليها ، لأن الناس تمر على الصراط ، وهو جسر منصوب على متن جهنم .
وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن : الورود المرور عليها من غير دخول ، وروي ذلك أيضا عن قتادة ، قاله الألوسي .
واستدل القائلون بأن الورود نفس الدخول كابن عباس بقوله تعالى : فأوردهم النار [ 11 \ 98 ] ، [ ص: 334 ] وقوله : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها [ 21 \ 99 ] ، وقوله : حصب جهنم أنتم لها واردون [ 21 \ 98 ] ، فالورود في ذلك كله بمعنى الدخول ، واستدل القائلون بأن الورود القرب منها من غير دخول ، بقوله تعالى : ولما ورد ماء مدين [ 28 \ 23 ] .
وقول زهير :
فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم
[ ص: 335 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة طه
قوله تعالى : إن الساعة آتية أكاد أخفيها .
هذه الآية الكريمة يتوهم منها أنه جل وعلا لم يخفها بالفعل ولكنه قارب أن يخفيها لأن كاد فعل مقاربة .
وقد جاء في آيات أخر التصريح بأنه أخفاها كقوله تعالى : وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو [ 6 \ 59 ] .
وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المراد بمفاتح الغيب الخمس المذكورة في قوله تعالى : إن الله عنده علم الساعة الآية [ 31 ] .
وكقوله : قل إنما علمها عند ربي [ 7 \ 187 ] وقوله : فيم أنت من ذكراها [ 79 \ 43 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب من سبعة أوجه :
الأول : وهو الراجح ، أن معنى الآية : أكاد أخفيها من نفسي ، أي لو كان ذلك يمكن ، وهذا على عادة العرب ، لأن القرءان نزل بلغتهم ، والواحد منهم إذا أراد المبالغة في كتمان أمر قال : كتمته من نفسي ، أي لا أبوح لأحد ، ومنه قول الشاعر :
أيام تصحبني هند وأخبرها ما كدت أكتمه عني من الخبر
ونظير هذا من المبالغة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله : رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه وهذا القول مروي عن أكثر المفسرين ، وممن قال به ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح كما نقله عنهم ابن جرير وجعفر الصادق ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ويؤيد هذا القول أن في مصحف أبي : " أكاد أخفيها من نفسي " ، [ ص: 336 ] كما نقله الألوسي وغيره .
وروى ابن خالويه أنها في مصحف أبي كذلك بزيادة : " فكيف أظهركم عليها " ، وفي بعض القراءات بزيادة : " فكيف أظهرها لكم " وفي مصحف عبد الله بن مسعود بزيادة : " فكيف يعلمها مخلوق " كما نقله الألوسي وغيره .
الوجه الثاني : أن معنى الآية أكاد أخفيها أي أخفي الأخبار بأنها آتية ، والمعنى أقرب أن أترك الإخبار عن إتيانها من أصله لشدة إخفائي لتعيين وقت إتيانها .
الوجه الثالث : أن الهمزة في قوله : أخفيها ، هي همزة السلب لأن العرب كثيرا ما تجعل الهمزة أداة لسلب الفعل ، كقولهم : شكا إلي فلان فأشكيته أي أزلت شكايته ، وقولهم : عقل البعير فأعقلته ، أي أزلت عقاله .
وعلى هذا فالمعنى : أكاد أخفيها أي أزيل خفاءها بأن أظهرها لقرب وقتها ، كما قال تعالى : اقتربت الساعة الآية [ 54 ] ، وهذا القول مروي عن أبي علي ، كما نقله عنه الألوسي في تفسيره ، ونقله النيسابوري في تفسيره عن أبي الفتح الموصلي .
ومنه قول امرئ القيس بن عابس الكندي :
فإن تدفنوا الداء لا نخفه وإن تبعثوا الحرب لا نقعد
على رواية ضم النون من : لا نخفه ، وقد نقل ابن جرير في تفسير هذه الآية عن معمر بن المثنى أنه قال : أنشدنيه أبو الخطاب عن أهله في بلده بضم النون من : لا نخفه ، ومعناه : لا نظهره .
أما على الرواية المشهورة بفتح النون من : لا نخفه ، فلا شاهد في البيت إلا على قراءة من قرأ : " أكاد أخفيها " بفتح الهمزة وممن قرأ بذلك أبو الدرداء وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وحميد ، وروي مثل ذلك عن ابن كثير وعاصم ، وإطلاق خفاه يخفيه بفتح الياء بمعنى أظهره إطلاق مشهور صحيح ، إلا أن القراءة به لا تخلو من شذوذ .
ومنه البيت المذكور على رواية فتح النون وقول كعب بن زهير أو غيره :
دأب شهرين ثم شهرا دميكا بأريكين يخفيان غميرا
أي يظهرانه . وقول امرئ القيس :
[ ص: 337 ]
خفاهن من إنفاقهن كأنما خفاهن ودق من عشي مجلب
الوجه الرابع : أن خبر كاد محذوف ، والمعنى على هذا القول أن الساعة آتية أكاد أظهرها ، فحذف الخبر ثم ابتدأ الكلام بقوله : أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى [ 20 \ 15 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب قول ضابئ بن الحارث البرجمي :
هممت ولم أفعل وكدت وليتني تركت على عثمان تبكي حلائله
يعني : وكدت أفعل .
الوجه الخامس : أن كاد تأتي بمعنى أراد ، وعليه فمعنى : أكاد أخفيها أريد أن أخفيها ، وإلى هذا القول ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم كما نقله عنهم الألوسي وغيره .
قال ابن جني في المحتسب ، ومن مجيء كاد بمعنى أراد ، قول الشاعر :
كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
كما نقله الألوسي ، وقال بعض العلماء : إن من مجيء كاد بمعنى أراد قوله تعالى كذلك كدنا ليوسف [ 12 ] ، أي أردنا له كما ذكره النيسابوري وغيره .
ومنه قول العرب لا أفعل كذا ولا أكاد أي لا أريد كما نقله بعضهم .
الوجه السادس : أن كاد من الله تدل على الوجوب ، كما دلت عليه عسى في كلامه تعالى نحو : قل عسى أن يكون قريبا [ 17 \ 51 ] ، أي هو قريب .
وعلى هذا فمعنى : أكاد أخفيها أنا أخفيها .
الوجه السابع : أن كاد صلة ، وعليه فالمعنى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى الآية ، واستدل قائل هذا القول بقول زيد الخيل :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما يتنفس قرنه ، قالوا : ومن هذا القبيل قوله تعالى : لم يكد يراها [ 24 \ 40 ] ، أي لم يرها ، وقول ذي الرمة :
[ ص: 338 ]
إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح
أي لم يبرح على قول هذا القائل .
قالوا : ومن هذا المعنى قول أبي النجم :
وإن أتاك نعي فاندبن أبا قد كاد يطلع الأعداء والخطبا
أي قد اطلع الأعداء .
وقد قدمنا أن أرجح الأقوال الأول ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي .
لا يخفى أنه من سؤل موسى الذي قال له ربه إنه آتاه إياه بقوله : قال قد أوتيت سؤلك ياموسى [ 20 \ 36 ] ، وذلك صريح في حل العقدة من لسانه ، وقد جاء في بعض الآيات ما يدل على بقاء شيء من الذي كان بلسانه كقوله تعالى عن فرعون : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 \ 52 ] .
وقوله تعالى عن موسى : وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي الآية [ 28 ] .
والجواب أن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، لم يسأل زوال ما كان بلسانه بالكلية ، وإنما سأل زوال القدر المانع من أن يفقهوا قوله ، كما يدل عليه قوله : يفقهوا قولي .
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : واحلل عقدة من لساني ، ما نصه : وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه ، وهو قدر الحاجة ، ولو سأل الجميع لزال ، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت بقية ، قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين [ 43 52 ] ، أي يفصح بالكلام .
وقال الحسن البصري : واحلل عقدة من لساني ، قال : حل عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي .
[ ص: 339 ] وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون ردءا له ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من لسانه .
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن عمر بن عثمان ، حدثنا بقية عن أرطأة بن المنذر ، حدثني بعض أصحاب محمد بن كعب عنه ، قال : أتاه ذو قرابة له فقال له : ما بك بأس ، لولا أنك تلحن في كلامك ، ولست تعرب في قراءتك ، فقال القرظي : يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك ؟ قال نعم ، قال : فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحل عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل قوله ، ولم يزد عليها ، انتهى كلام ابن كثير بلفظه .
وقد نقل فيه عن الحسن البصري وابن عباس ومحمد بن كعب القرظي ما ذكرنا من الجواب ، ويمكن أن يجاب أيضا بأن فرعون كذب عليه في قوله : هو أفصح مني لسانا [ 28 ] ، يدل على اشتراكه مع هارون في الفصاحة ، فكلاهما فصيح ، إلا أن هارون أفصح ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فقولا إنا رسولا ربك الآية .
يدل على أنهما رسولان وهما موسى وهارون ، وقوله تعالى : فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 16 ] ، يوهم كون الرسول واحدا .
والجواب من وجهين :
الأول : أن معنى قوله : إنا رسول رب العالمين أي كل واحد منا رسول رب العالمين ، كقول البرجمي : [ الطويل ]
فإني وقيارا بها لغريب
وإنما ساغ هذا لظهور المراد من سياق الكلام .
الوجه الثاني : أن أصل الرسول مصدر كالقبول والولوع ، فاستعمل في الاسم فجاز جمعه ، وتثنيته نظرا إلى كونه بمعنى الوصف وساغ إفراده مع إرادة المثنى أو الجمع نظرا إلى أن الأصل من كونه مصدرا ، ومن إطلاق الرسول على غير المفرد ، قول الشاعر :
[ ص: 340 ]
ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر
يعني وخير الرسل ، وإطلاق الرسول مرادا به المصدر كثير ، ومنه قوله :
لقد كذب الواشون ما فهت عندهم بقول ولا أرسلتهم برسول
يعني برسالة .
قوله تعالى : قال فمن ربكما يا موسى .
قوله تعالى : قال فمن ربكما يقتضي أن المخاطب اثنان ، وقوله : ياموسى : يقتضي أن المخاطب واحد ، والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن فرعون أراد خطاب موسى وحده ، والمخاطب إن اشترك معه في الكلام غير مخاطب غلب المخاطب على غيره ، كما لو خاطبت رجلا اشترك معه آخر في شأن والثاني غائب فإنك تقول للحاضر منهما : ما بالكما فعلتما كذا والمخاطب واحد ، وهذا ظاهر .
الوجه الثاني : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء ، لكونه الأصل في الرسالة .
الثالث : أنه خاطبهما معا وخص موسى بالنداء لمطابقة رءوس الآي مع ظهور المراد ، ونظير الآية قوله تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى [ 20 \ 117 ] ، ويجاب عنه بأن المرأة تبع لزوجها ، وبأن شقاء الكد والعمل يتولاه الرجال أكثر من النساء ، وبأن الخطاب لآدم وحده ، والمرأة ذكرت فيما خوطب به آدم بدليل قوله : إن هذا عدو لك ولزوجك [ 20 \ 117 ] فهي ذكرت فيما خوطب به آدم والمخاطب هو وحده ، ولذا قال : " فتشقى " لأن الخطاب لم يتوجه إليها هي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي .
ظاهر هذه الآية أن آدم ناس للعهد بالنهي عن أكل الشجرة ، لأن الشيطان قاسمه بالله أنه له ناصح حتى دلاه بغرور وأنساه العهد ، وعليه فهو معذور لا عاص .
[ ص: 341 ] وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : هو ما قدمنا من عدم العذر بالنسيان لغير هذه الأمة .
الثاني : أن نسي بمعنى ترك ، والعرب ربما أطلقت النسيان بمعنى الترك ومنه قوله تعالى : فاليوم ننساهم الآية [ 7 \ 51 ] ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:36 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (627)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 341 إلى صـ 354
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنبياء
قوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون .
هذه الآية تدل على أن جميع المعبودات مع عابديها في النار .
وقد أشارت آيات أخر إلى أن بعض المعبودين كعيسى والملائكة ليسوا من أهل النار ، كقوله تعالى : ولما ضرب ابن مريم مثلا [ 43 \ 57 ] وقوله تعالى : ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون [ 43 \ 40 ] وقوله : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب الآية [ 17 : 57 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أن هذه الآية لم تتناول الملائكة ولا عيسى لتعبيره بـ : " ما " الدالة على غير العاقل .
وقد أشار تعالى إلى هذا الجواب بقوله : ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون [ 43 \ 58 ] لأنهم لو أنصفوا لما ادعوا دخول العقلاء في لفظ لا يتناولهم لغة .
الثاني : أن الملائكة وعيسى نص الله على إخراجهم من هذا دفعا للتوهم ولهذه الحجة الباطلة بقوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون الآية [ 21 \ 101 ] ، ، وقوله تعالى : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] .
عبر في هذه الآية الكريمة بلفظ : " إنما " وهي تدل على الحصر عند الجمهور ، [ ص: 343 ] وعليه فهي تدل على حصر الوحي في توحيد الألوهية .
وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه أوصى إليه غير ذلك كقوله : قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن الآية [ 72 ] ، وقوله : تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك [ 11 \ 49 ] ، وقوله : نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك الآية [ 12 \ 3 ] .
والجواب أن حصر الوحي في توحيد الألوهية حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع ، لأن شرائع كل الأنبياء داخلة في ضمن لا إله إلا الله ، لأن معناها خلع كل الأنداد سوى الله في جميع أنواع العبادات ، وإفراد الله بجميع أنواع العبادات ، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية .
[ ص: 344 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحج
قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن قتال الكفار مأذون فيه لا واجب ، وقد جاءت آيات تدل على وجوبه كقوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية [ 9 \ 5 ] .
وقوله : وقاتلوا المشركين كافة الآية [ 9 \ 36 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب ظاهر ، وهو أنه أذن فيه أولا من غير إيجاب ، ثم أوجب بعد ذلك كما تقدم في سورة " البقرة " ، ويدل لهذا ما قاله ابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره من أن آية : أذن للذين يقاتلون هي أول آية نزلت في الجهاد ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .
ظاهر هذه الآية أن الأبصار لا تعمى ، وقد جاءت آيات أخر تدل على عمى الأبصار كقوله : أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وكقوله : ليس على الأعمى حرج [ 24 \ 61 ] .
والجواب أن التمييز بين الحق والباطل ، وبين الضار والنافع ، وبين القبيح والحسن ، لما كان كله بالبصائر لا بالأبصار ، صار العمى الحقيقي هو عمى البصائر لا عمى الأبصار ، ألا ترى أن صحة العينين لا تفيد مع عدم العقل كما هو ضروري ، وقوله : فأصمهم وأعمى أبصارهم يعني بصائرهم أو أعمى أبصارهم عن الحق وإن رأت غيره .
[ ص: 345 ] قوله تعالى : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن مقدار اليوم عند الله ألف سنة ، وكذلك قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون [ 32 \ 5 ] .
وقد جاءت آية أخرى تدل على خلاف ذلك ، هي قوله تعالى في سورة " سأل سائل " : تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة الآية [ 70 \ 4 ] .
اعلم أولا أن أبا عبيدة روى عن إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عن ابن أبي مليكة أنه حضر كلا من ابن عباس وسعيد بن المسيب سئل عن هذه الآيات فلم يدر ما يقول فيها ، ويقول : لا أدري .
وللجمع بينهما وجهان :
الأول : هو ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس ، من أن يوم الألف في سورة " الحج " هو أحد الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، ويوم الألف في سورة " السجدة " ، هو مقدار سير الأمر وعروجه إليه تعالى ، ويوم الخمسين ألفا هو يوم القيامة .
الوجه الثاني : أن المراد بجميعها يوم القيامة ، وأن الاختلاف باعتبار حال المؤمن والكافر ، ويدل لهذا قوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، ذكر هذين الوجهين صاحب الإتقان ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن كل رسول وكل نبي يلقي الشيطان في أمنيته ، أي تلاوته إذا تلا .
ومنه قول الشاعر في عثمان رضي الله عنه :
تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
[ ص: 346 ] وقول الآخر :
تمنى كتاب الله آخر ليلة تمني داود الزبور على رسل
ومعنى تمنى في البيتين قرأ وتلا ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس أنه قال : إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ، إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه .
وقال بعض العلماء : إذا تمنى أحب شيئا وأراده ، فكل نبي يتمنى إيمان أمته ، والشيطان يلقي عليهم الوساوس والشبه ، ليصدهم عن سبيل الله ، وعلى أن تمنى بمعنى قرأ وتلا ، كما عليه الجمهور ، فمعنى إلقاء الشيطان في تلاوته ، إلقاؤه الشبه والوساوس فيما يتلوه النبي ليصد الناس عن الإيمان به ، أو إلقاؤه في المتلو ما ليس منه ليظن الكفار أنه منه .
وهذه الآية لا تعارض بينها وبين الآية المصرحة بأن الشيطان لا سلطان له على عباد الله المؤمنين المتوكلين ، ومعلوم أن خيارهم الأنبياء كقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون [ 16 \ 99 - 100 ] ، وقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين [ 15 \ 42 ] ، وقوله : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ 38 \ 82 - 83 ] . وقوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي [ 14 22 ] .
ووجه كون الآيات لا تعارض بينها ، أن سلطان الشيطان المنفي عن المؤمنين المتوكلين في معناه وجهان للعلماء :
الأول : أن معنى السلطان الحجة الواضحة ، وعليه فلا إشكال ، إذ لا حجة مع الشيطان البتة ، كما اعترف به فيما ذكر الله عنه في قوله : وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي .
الثاني : أن معناه أنه لا تسلط له عليهم بإيقاعهم في ذنب يهلكون به ولا يتوبون منه ، فلا ينافي هذا ما وقع من آدم وحواء وغيرهما ، فإنه ذنب مغفور لوقوع التوبة منه ، فإلقاء الشيطان في أمنية النبي سواء فسرناها بالقراءة أو التمني لإيمان أمته ، لا يتضمن [ ص: 347 ] سلطانا للشيطان على النبي ، بل من جنس الوسوسة وإلقاء الشبه لصد الناس عن الحق كقوله : وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل الآية [ 27 \ 24 ] .
فإن قيل : ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة " النجم ، بمكة ، فلما بلغ : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى [ 53 \ 19 - 20 ] ، ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترجى ، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد معه المشركون والمسلمون ، وقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، وشاع في الناس أن أهل مكة أسلموا بسبب سجودهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى رجع المهاجرون من الحبشة ، ظنا منهم أن قومهم أسلموا ، فوجدوهم على كفرهم .
وعلى هذا الذي ذكره كثير من المفسرين ، فسلطان الشيطان بلغ إلى حد أدخل به في القرآن ، على لسان النبي صلى الله عليه وسلم الكفر البواح ، حسبما يقتضيه ظاهر القصة المزعومة .
فالجواب أن قصة الغرانيق مع استحالتها شرعا لم تثبت من طريق صالح للاحتجاج ، وصرح بعدم ثبوتها خلق كثير من العلماء ، كما بيناه بيانا شافيا في رحلتنا .
والمفسرون يروون هذه القصة عن ابن عباس من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومعلوم أن الكلبي متروك .
وقد بين البزار أنها لا تعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله .
وقد اعترف الحافظ ابن حجر مع انتصاره لثبوت هذه القصة ، بأن طرقها كلها ، إما منقطعة أو ضعيفة ، إلا طريق سعيد بن جبير .
وإذا علمت ذلك فاعلم أن طريق سعيد بن جبير لم يروها بها أحد متصلة إلا أمية بن خالد ، وهو وإن كان ثقة فقد شك في وصلها ، فقد أخرج البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب ، ثم ساق حديث القصة المذكورة ، وقال : البزار لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية بن خالد ، وهو ثقة مشهور .
وقال البزار : وإنما يروى من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والكلبي [ ص: 348 ] متروك ، فتحصل أن قصة الغرانيق لم ترد متصلة إلا من هذا الطريق الذي شك راويه في الوصل ، وما كان كذلك فضعفه ظاهر .
ولذا قال الحافظ ابن كثير في تفسيره إنه لم يرها مسندة من وجه صحيح . وقال العلامة الشوكاني في هذه القصة : ولم يصح شيء من هذا ولا ثبت بوجه من الوجوه ومع عدم صحته بل بطلانه ، فقد دفعه المحققون بكتاب الله كقوله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل الآية [ 69 \ 44 ] ، وقوله : وما ينطق عن الهوى [ 53 3 ] ، وقوله : ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم الآية [ 17 ] .
فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون ، ثم ذكر الشوكاني عن البزار أنها لا تروى بإسناد متصل ، وعن البيهقي أنه قال : هي غير ثابتة من جهة النقل .
وذكر عن إمام الأئمة ابن خزيمة أن هذه القصة من وضع الزنادقة ، وأبطلها عياض وابن العربي المالكيين والفخر الرازي وجماعات كثيرة .
ومن أصرح الأدلة القرآنية في بطلانها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بعد ذلك في سورة " النجم " قوله تعالى : إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان [ 53 \ 23 ] ، فلو فرضنا أنه قال تلك الغرانيق العلا ، ثم أبطل ذلك بقوله : إن هي إلا أسماء سميتموها فكيف يفرح المشركون بعد هذا الإبطال والذم التام لأصنامهم ، بأنها أسماء بلا مسميات ، وهذا هو الأخير .
وقراءته صلى الله عليه وسلم سورة " النجم " بمكة وسجود المشركين ثابت في الصحيح ، ولم يذكر فيه شيء من قصة الغرانيق ، وعلى القول ببطلانها فلا إشكال .
وأما على القول بثبوت القصة ، كما هو رأي الحافظ ابن حجر ، فإنه قال في فتح الباري : إن هذه القصة ثبتت بثلاثة أسانيد ، كلها على شرط الصحيح ، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض لأن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها ، دل ذلك على أن لها أصلا .
فللعلماء عن ذلك أجوبة كثيرة ، من أحسنها وأقربها ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة ترتيلا تتخلله سكتات فلما قرأ : ومناة الثالثة الأخرى ، قال الشيطان لعنه الله محاكيا [ ص: 349 ] لصوته صلى الله عليه وسلم : تلك الغرانيق العلا إلخ . . . فظن المشركون أن الصوت صوته صلى الله عليه وسلم ، وهو بريء من ذلك براءة الشمس من اللمس .
وقد بينا هذه المسألة بيانا شافيا في رحلتنا ، فلذلك اختصرناها هنا ، فظهر أنه لا تعارض بين الآيات ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 350 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة قد أفلح المؤمنون
قوله تعالى : قال رب ارجعون .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من رجوع الضمير إلى الرب ، والضمير بصيغة الجمع والرب جل وعلا واحد .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أظهرها ، أن الواو لتعظيم المخاطب ، وهو الله تعني كما في قول الشاعر :
ألا فارحموني يا إله محمد فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل
وقول الآخر :
وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
الوجه الثاني : أن قوله : " رب " استغاثة به تعالى ، وقوله : " ارجعون " خطاب للملائكة ، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير عن ابن جريج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة : إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى دار الدنيا ؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ؟ فيقول : بل قدموني إلى الله ، وأما الكفار فيقولون له : نرجعك ، فيقول : رب ارجعون .
الوجه الثالث : وهو قول المازني ، أنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب ارجعني ارجعني . ولا يخلو هذا القول عندي من بعد ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون .
هذه الآية الكريمة تدل على أنهم لا أنساب بينهم يومئذ ، وأنهم لا يتساءلون يوم [ ص: 351 ] القيامة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على ثبوت الأنساب بينهم ، كقوله : يوم يفر المرء من أخيه الآية [ 80 ] ، وآيات أخرى تدل على أنهم يتساءلون كقوله تعالى : وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون [ 37 \ 27 ] .
والجواب عن الأول : أن المراد بنفي الأنساب انقطاع فوائدها وآثارها التي كانت مترتبة عليها في الدنيا ، من العواطف والنفع والصلات والتفاخر بالآباء لا نفي حقيقتها .
والجواب عن الثاني من ثلاثة أوجه :
الأول : أن نفي السؤال بعد النفخة الأولى ، وقبل الثانية وإثباته بعدهما معا .
الثاني : أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط ، وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
الثالث : أن السؤال المنفي سؤال خاص ، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض فيما بينهم من الحقوق لقنوطهم من الإعطاء ، ولو كان المسؤول أبا أو ابنا أو أما أو زوجة ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة أيضا صاحب الإتقان .
قوله تعالى : قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يزعمون يوم القيامة أنهم ما لبثوا إلا يوما أو بعض يوم ، وقد جاءت آيات أخر يفهم منها خلاف ذلك ، كقوله تعالى : يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا [ 20 ] ، وقوله تعالى : ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة [ 30 ] .
والجواب عن هذا بما دل عليه القرءان ، وذلك أن بعضهم يقول : لبثنا يوما أو بعض يوم [ 18 \ 19 ] . وبعضهم يقول : لبثنا ساعة . وبعضهم يقول : لبثنا عشرا .
ووجه دلالة القرءان على هذا أنه بين أن أقواهم إدراكا وأرجحهم عقلا وأمثلهم طريقة ، هو من يقول : إن مدة لبثهم يوم ، وذلك قوله تعالى : إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما [ 20 \ 104 ] ، فدل ذلك على اختلاف أقوالهم في مدة لبثهم ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 352 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النور
قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين هذه الآية الكريمة تدل على تحريم نكاح الزواني والزناة على الأعفاء والعفائف ، ويدل لذلك قوله : محصنات غير مسافحات الآية [ 4 \ 25 ] ، وقوله : محصنين غير مسافحين الآية [ 4 \ 24 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل بعمومها على خلاف ذلك كقوله تعالى : وأنكحوا الأيامى منكم الآية [ 24 ] ، وقوله : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] .
والجواب عن هذا مختلف فيه ، اختلافا مبنيا على الاختلاف في حكم تزوج العفيف للزانية أو العفيفة للزاني ، فمن يقول هو حرام ، يقول : هذه الآية مخصصة لعموم : وأنكحوا الأيامى منكم وعموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم .
والذين يقولون بعدم المنع ، وهم الأكثر ، أجابوا بأجوبة :
منها أنها منسوخة بقوله : وأنكحوا الأيامى منكم واقتصر صاحب الإتقان على النسخ ، وممن قال بالنسخ : سعيد بن المسيب والشافعي .
ومنها أن النكاح في هذه الآية الوطء ، وعليه فالمراد بالآية أن الزاني لا يطاوعه على فعله ويشاركه في مراده إلا زانية مثله ، أو مشركة لا ترى حرمة الزنا .
ومنها أن هذا خاص ، لأنه كان في نسوة بغايا كان الرجل يتزوج إحداهن على أن تنفق عليه مما كسبته من الزنا ، لأن ذلك هو سبب نزول الآية ، فزعم بعضهم أنها مختصة بذلك السبب بدليل قوله : وأحل لكم الآية ، وقوله : وأنكحوا الأيامى الآية ، وهذا أضعفها ، والله تعالى أعلم .
[ ص: 353 ] قوله تعالى : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات .
هذه الآية الكريمة نزلت في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما رميت به ، وذلك يؤيد ما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن معناها : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء ، أي فلو كانت عائشة رضي الله عنها غير طيبة لما جعلها الله زوجة لأطيب الطيبين صلوات الله عليه وسلامه .
وعلى هذا فالآية الكريمة يظهر تعارضها مع قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط - إلى قوله - مع الداخلين [ 66 \ 10 ] .
وقوله أيضا : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون الآية [ 66 \ 11 ] .
إذ الآية الأولى دلت على خبث الزوجتين الكافرتين مع أن زوجيهما من أطيب الطيبين ، وهما نوح ولوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام ، والآية الثانية دلت على طيب امرأة فرعون مع خبث زوجها .
والجواب أن في معنى الآية وجهين للعلماء :
الأول : وبه قال ابن عباس وروي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك ، كما نقله عنهم ابن كثير واختاره ابن جرير : أن معناها الخبيثات من القول ، للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول ، والطيبات من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول ، أي فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام خبيث هم أولى به ، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ، ولذا قال تعالى : أولئك مبرءون مما يقولون [ 24 \ 26 ] ، وعلى هذا الوجه فلا تعارض أصلا بين الآيات .
الوجه الثاني : هو ما قدمنا عن عبد الرحمن بن زيد ، وعليه فالإشكال ظاهر بين الآيات ، والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه أن قوله الخبيثات للخبيثين إلى آخره على هذا القول من العام المخصوص ، بدليل امرأة نوح وامرأة فرعون .
[ ص: 354 ] وعليه فالغالب تقييض كل من الطيبات والطيبين والخبيثات والخبيثين لجنسه وشكله الملائم له في الخبث أو الطيب ، مع أنه تعالى ربما قيض خبيثة لطيب كامرأة نوح ولوط ، أو طيبة لخبيث كامرأة فرعون لحكمة بالغة ، كما دل عليه قوله : ضرب الله مثلا للذين كفروا وقوله : وضرب الله مثلا للذين آمنوا مع قوله : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون [ 29 \ 43 ] .
فدل ذلك على أن تقييض الخبيثة للطيب أو الطيبة للخبيث فيه حكمة لا يعقلها إلا العلماء ، وهي في تقييض الخبيثة للطيب أن يبين للناس أن القرابة من الصالحين لا تنفع الإنسان ، وإنما ينفعه عمله ، ألا ترى أن أعظم ما يدافع عنه الإنسان زوجته ، وأكرم الخلق على الله رسله ، فدخول امرأة نوح وامرأة لوط النار ، كما قال تعالى : فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين [ 66 \ 10 ] فيه أكبر واعظ وأعظم زاجر عن الاغترار بالقرابة من الصالحين والأعلام ، بأن الإنسان إنما ينفعه عمله : ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به الآية [ 4 \ 123 ] .
كما أن دخول امرأة فرعون الجنة يعلم منه أن الإنسان إذا دعته الضرورة لمخالطة الكفار من غير اختياره ، وأحسن عمله وصبر على القيام بدينه أنه يدخل الجنة ولا يضره خبث الذين يخالطهم ويعاشرهم ، فالخبيث خبيث وإن خالط الصالحين ، كامرأة نوح ولوط ، والطيب طيب وإن خالط الأشرار كامرأة فرعون ، ولكن مخالطة الأشرار لا تجوز اختيارا ، كما دلت عليه أدلة أخر .
قوله تعالى : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن فيه من أن الضمير في قوله : " جاءه " يدل على شيء موجود واقع عليه المجيء ، لأن وقوع المجيء على العدم لا يعقل ، ومعلوم أن الصفة الإضافية لا تتقوم إلا بين متضائفين ، فلا تدرك إلا بإدراكهما ، فلا يعقل وقوع المجيء بالفعل إلا بإدراك فاعل وقع منه المجيء ، وقوله تعالى : لم يجده شيئا يدل على عدم وجود شيء يقع عليه المجيء في قوله تعالى : " جاءه " .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:37 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (628)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 355 إلى صـ 368
والجواب عن هذا من وجهين ، ذكرهما ابن جرير في تفسير هذه الآية ، قال : فإن قائل : وكيف قيل : حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، فإن لم يكن السراب شيئا ، فعلام [ ص: 355 ] دخلت الهاء في قوله : حتى إذا جاءه ؟ .
قيل : إنه شيء يرى من بعيد كالضباب الذي يرى كثيفا من بعيد ، والهباء فإذا قرب منه دق وصار كالهواء ، وقد يحتمل أن يكون معناه : حتى إذا جاء موضع السراب لم يجد السراب شيئا ، فاكتفى بذكر السراب عن ذكر موضعه ، انتهى منه بلفظه .
والوجه الأول أظهر عندي وعنده بدليل قوله ، وقد يحتمل أن يكون معناه . . . إلخ .
قوله تعالى : فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم .
هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء ، وقوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم الآية [ 9 \ 43 ] يوهم خلاف ذلك .
والجواب ظاهر ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم له الإذن لمن شاء من أصحابه الذين كانوا معه على أمر جامع ، كصلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك ، كما بينه تعالى بقوله : وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم [ 24 \ 62 ] .
وأما الإذن في خصوص التخلف عن الجهاد ، فهو الذي بين الله لرسوله أن الأولى فيه ألا يبادر بالإذن حتى يتبين له الصادق في عذره من الكاذب ، وذلك في قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين [ 9 : 43 ] .
فظهر أن لا منافاة بين الآيات ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 356 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفرقان
قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا .
هذه الآية الكريمة تدل على انقضاء الحساب في نصف نهار ، لأن المقيل للقيلولة أو مكانها ، وهي الاستراحة نصف النهار في الحر .
وممن قال بانقضاء الحساب في نصف نهار : ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وابن جبير لدلالة هذه الآية على ذلك ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره .
وفي تفسير الجلالين ما نصه : وأخذ من ذلك انقضاء الحساب في نصف نهار ، كما ورد في حديث ، انتهى منه ، مع أنه تعالى ذكر أن مقدار يوم القيامة خمسون ألف سنة في قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة [ 70 \ 4 ] .
والظاهر في الجواب : أن يوم القيامة يطول على الكفار ويقصر على المؤمنين ، ويشير لهذا قوله تعالى بعد هذا بقليل : الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا [ 25 \ 26 ] فتخصيصه عسر ذلك اليوم بالكافرين يدل على أن المؤمنين ليسوا كذلك ، وقوله تعالى : فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير [ 74 \ 9 - 10 ] ، يدل بمفهومه أيضا على أنه يسير على المؤمنين غير عسير .
كما دل عليه قوله تعالى : مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر [ 54 \ 8 ] ، وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وأنهم يتقلبون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وذلك قوله : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ونقله عنه ابن كثير في تفسيره ، ومن المعلوم أن السرور يقصر به الزمن ، والكروب والهموم سبب لطوله ، كما قال أبو سفيان بن الحارث يرثي النبي صلى الله عليه وسلم [ الوافر ] :
[ ص: 357 ]
أرقت فبات ليلي لا يزول وليل أخي المصيبة فيه طول
وقال الآخر :
فقصارهن مع الهموم طويلة وطوالهن مع السرور قصار
ولقد أجاد من قال :
ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما في الطول والطول طوبى لي لو اعتدلا
يجود بالطول ليلي كلما بخلت بالطول ليلى وإن جادت به بخلا
ومثل هذا كثير في كلام العرب جدا ، وأما على قول من فسر المقيل بأنه المأوى والمنزل ، كقتادة رحمه الله فلا تعارض بين الآيتين أصلا ، لأن المعنى على هذا القول : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مأوى ومنزلا ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أنهم يجزون غرفة واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : لهم غرف من فوقها غرف مبنية ، [ 39 \ 20 ] ، وكقوله : وهم في الغرفات آمنون [ 34 \ 37 ] .
والجواب أن الغرفة هنا بمعنى الغرف ، كما تقدم مستوفى بشواهده في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن ، الآية [ 2 \ 29 ] .
وقيل : إن المراد بالغرفة ، الدرجة العليا في الجنة ، وعليه فلا إشكال وقيل : الغرفة الجنة ، سميت غرفة لارتفاعها .
[ ص: 358 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء
قوله تعالى : كذبت قوم نوح المرسلين .
هذه الآية تدل على أن قوم نوح كذبوا جماعة من المرسلين بدليل صيغة الجمع في قوله : " المرسلين " ثم بين ذلك بما يدل على خلاف ذلك وأنهم إنما كذبوا رسولا واحدا وهو نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، بقوله : إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون - إلى قوله - قال رب إن قومي كذبون [ 26 \ 106 - 117 ] .
والجواب عن هذا ، أن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، لما كانت دعوتهم واحدة وهي لا إله إلا الله ، صار مكذب واحد منهم مكذبا لجميعهم ، كما يدل لذلك قوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا الآية [ 16 \ 36 ] ، وقد بين تعالى أن مكذب بعضهم مكذب للجميع بقوله : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا [ 4 \ 150 - 151 ] .
ويأتي مثل هذا الإشكال ، والجواب في قوله : كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود إلى آخره [ 26 \ 123 - 124 ] ، وقوله : كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح [ 26 \ 141 - 142 ] .
وكذلك في قصة لوط وشعيب ، على الجميع وعلى نبينا الصلاة والسلام .
[ ص: 359 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النمل
قوله تعالى إخبارا عن بلقيس : وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون .
يدل على تعدد رسلها إلى سليمان وقوله : فلما جاء سليمان [ 27 \ 36 ] ، بإفراد فاعل جاء ، وقوله تعالى إخبارا عن سليمان أنه قال : ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود الآية [ 27 \ 37 ] ، يدل على أن الرسول واحد .
والظاهر في الجواب ، هو ما ذكره غير واحد من أن الرسل جماعة ، وعليهم رئيس منهم ، فالجمع نظرا إلى الكل والإفراد نظرا إلى الرئيس ، لأن من معه تبع له ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا .
هذه الآية يدل ظاهرها على أن الحشر خاص بهؤلاء الأفواج المكذبة ، وقوله بعد هذا بقليل : وكل أتوه داخرين [ 27 \ 87 ] ، يدل على أن الحشر عام ، كما صرحت به الآيات القرآنية عن كثرة .
والجواب عن هذا ، هو ما بينه الألوسي في تفسيره من أن قوله : وكل أتوه داخرين يراد به الحشر العام وقوله : ويوم نحشر من كل أمة فوجا أي بعد الحشر العام يجمع الله المكذبين للرسل من كل أمة لأجل التوبيخ المنصوص عليه بقوله : أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون [ 27 \ 84 ] ، فالمراد بالفوج من كل أمة الفوج المكذب للرسل يحشر للتوبيخ حشرا خاصا ، فلا ينافي حشر الكل لفصل القضاء ، وهذا الوجه أحسن من تخصيص الفوج بالرؤساء كما ذهب إليه بعضهم .
قوله تعالى : وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب .
[ ص: 360 ] هذه الآية تدل بظاهرها على أن الجبال يظنها الرائي ساكنة وهي تسير ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الجبال راسية ، والراسي هو الثابت في محل ، كقوله تعالى : والجبال أرساها [ 79 ] ، وقوله : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [ 16 \ 15 ] .
وقوله : والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي [ 15 \ 19 ] ، وقوله : وجعلنا فيها رواسي شامخات [ 77 \ 27 ] .
ووجه الجمع ظاهر وهو أن قوله : " أرساها " ونحوه ، يعني في الدنيا ، وقوله . وهي تمر مر السحاب يعني في الآخرة ، بدليل قوله : ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات [ 27 \ 87 ] ثم عطف على ذلك قوله : وترى الجبال الآية .
ومما يدل على ذلك النصوص القرآنية على أن سير الجبال في يوم القيامة ، كقوله تعالى : ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة [ 18 \ 47 ] ، وقوله : وسيرت الجبال فكانت سرابا [ 78 \ 20 ] .
[ ص: 361 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القصص
قوله تعالى : وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه الآية .
الخطاب في قوله : " ولك " يدل على أن المخاطب واحد ، وفي قوله : " لا تقتلوه " يدل على أنه جماعة .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن صيغة الجمع للتعظيم .
الثاني : أنها تعني فرعون وأعوانه الذين هموا معه بقتل موسى ، فأفردت الضمير في قولها : " لك " ، لأن كونه : " قرة عين " في زعمها يختص بفرعون دونهم وجمعته في قولها : " لا تقتلوه " ، لأنهم شركاء معه في الهم بقتله .
الثالث : أنها لما استعطفت فرعون على موسى التفتت إلى المأمورين بقتل الصبيان قائلة لهم : لا تقتلوه . معللة ذلك بقولها : عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا .
قوله تعالى : قال لأهله امكثوا الآية .
أهله زوجته بدليل قوله : وسار بأهله [ 28 \ 29 ] ، لأن المعروف أنه سار من عند شعيب بزوجته ابنة شعيب أو غير شعيب على القول بذلك ، وقوله : " امكثوا " : خطاب جماعة الذكور ، فما وجه خطاب المرأة بخطاب جماعة الذكور .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الإنسان يخاطب المرأة بخطاب الجماعة ، تعظيما لها ، ونظيره قول الشاعر :
[ ص: 362 ]
فإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
الثاني : أن معها خادما ، والعرب ربما خاطبت الاثنين خطاب الجماعة .
الثالث : أنه كان له مع زوجته ولدان له اسم الأكبر منهما : جيرشوم واسم الأصغر اليعازر .
والجواب الأول ظاهر ، والثاني والثالث محتملان لأنهما من الإسرائيليات ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت .
قد قدمنا أن وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ 42 \ 52 ] أن الهدى المنفي عنه صلى الله عليه وسلم هو منح التوفيق والهدى المثبت له هو إبانة الطريق .
[ ص: 363 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العنكبوت
قوله تعالى : وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء الآية .
لا يعارضه قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم [ 29 \ 13 ] ، كما تقدم بيانه مستوفى في سورة " النحل " ، فأثقالهم أوزار ضلالهم ، والأثقال التي معها أوزار إضلالهم ولا ينقص ذلك شيئا من أوزار أتباعهم الضالين .
قوله تعالى : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب .
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبوة والكتاب في خصوص ذرية إبراهيم ، وقد ذكر في سورة " الحديد " ما يدل على اشتراك نوح معه في ذلك في قوله : ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب [ 57 \ 26 ] .
والجواب أن وجه الاقتصار على إبراهيم أن جميع الرسل بعده من ذريته وذكر نوح معه لأمرين :
أحدهما : أن كل من كان من ذرية إبراهيم فهو من ذرية نوح .
والثاني : أن بعض الأنبياء من ذرية نوح ولم يكن من ذرية إبراهيم : كهود وصالح ولوط ويونس على خلاف فيه ، ولا ينافي ذلك الاقتصار على إبراهيم ، لأن المراد من كان بعد إبراهيم لا من كان قبله أو في عصره ، كلوط عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام .
[ ص: 364 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الروم
قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا الآية .
هذا خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال تعالى بعده : منيبين إليه واتقوه [ 30 \ 31 ] ، فقوله : منيبين إليه حال من ضمير الفاعل المستتر في قوله : فأقم وجهك الواقع على النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقرير المعنى فأقم وجهك يا نبي الله صلى الله عليه وسلم في حال كونكم منيبين إليه ، وقد تقرر عند علماء العربية أن الحال إن لم تكن سببية لا بد أن تكون مطابقة لصاحبها إفرادا وتثنية وجمعا وتذكيرا وتأنيثا ، فما وجه الجمع بين هذه الحال وصاحبها ؟ فالحال جمع وصاحبها مفرد ، والجواب أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يعم حكمه جميع الأمة ، فالأمة تدخل تحت خطابه صلى الله عليه وسلم ، فتكون الحالة من الجميع الداخل تحت خطابه صلى الله عليه وسلم .
ونظير هذه الآية في دخول الأمة تحت الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم ، قوله تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء [ 65 ] . فقوله : طلقتم النساء بعد ياأيها النبي دليل على دخول الأمة تحت لفظ " النبي " . وقوله : ياأيها النبي لم تحرم [ 66 ] ، ثم قال : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] وقوله : ياأيها النبي اتق الله [ 33 \ 1 ] ، ثم قال : إن الله كان بما تعملون خبيرا [ 33 \ 2 ] .
وقوله : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها [ 33 \ 37 ] ، ثم قال : لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ 33 \ 37 ] .
وقوله : وما تكون في شأن [ 10 \ 61 ] ، ثم قال : ولا تعملون من عمل [ 10 \ 61 ] .
ودخول الأمة في الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم هو مذهب الجمهور وعليه مالك وأبو حنيفة وأحمد رحمهم الله تعالى ، خلافا للشافعي رحمه الله .
[ ص: 365 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة لقمان
قوله تعالى : وصاحبهما في الدنيا معروفا .
هذه الآية الكريمة تدل على الأمر ببر الوالدين الكافرين ، وقد جاءت آية أخرى يفهم منها خلاف ذلك وهي قوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله [ 58 \ 22 ] .
ثم نص على دخول الآباء في هذا بقوله : ولو كانوا آباءهم [ 58 \ 22 ] ، والذي يظهر لي والله تعالى أعلم ، أنه لا معارضة بين الآيتين .
ووجه الجمع بينهما أن المصاحبة بالمعروف أعم من الموادة ، لأن الإنسان يمكنه إسداء المعروف لمن يوده ومن لا يوده ، والنهي عن الأخص لا يستلزم النهي عن الأعم ، فكأن الله حذر من المودة المشعرة بالمحبة والموالاة بالباطن لجميع الكفار يدخل في ذلك الآباء وغيرهم ، وأمر الإنسان بأن لا يفعل لوالديه إلا المعروف وفعل المعروف لا يستلزم المودة لأن المودة من أفعال القلوب لا من أفعال الجوارح .
ومما يدل لذلك إذنه صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر الصديق أن تصل أمها وهي كافرة ، وقال بعض العلماء : إن قصتها سبب لنزول قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين الآية [ 60 \ 8 ] .
قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن يوم القيامة لا ينفع فيه والد ولده ، وقد جاءت آية أخرى تدل على رفع درجات الأولاد بسبب صلاح آبائهم حتى يكونوا في درجة الآباء مع أن عملهم - أي الأولاد - لم يبلغهم تلك الدرجة إقرارا لعيون الآباء بوجود الأبناء معهم في منازلهم من الجنة وذلك نفع لهم ، وهي قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء الآية [ 52 \ 21 ] .
[ ص: 366 ] ووجه الجمع أشير إليه بالقيد الذي في هذه الآية وهو قوله تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان وعين فيها النفع بأن إلحاقهم بهم في درجاتهم يقيد الإيمان ، فهي أخص من الآية الأخرى والأخص لا يعارض الأعم ، وعلى قول من فسر الآية بأن معنى قوله : لا يجزي والد عن ولده لا يقضي عنه حقا لزمه ولا يدفع عنه عذابا حق عليه ، فلا إشكال في الآية .
وسيأتي لهذا زيادة إيضاح في سورة " النجم " في الكلام على : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى الآية [ 53 \ 39 ] ، إن شاء الله تعالى .
[ ص: 367 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة السجدة
قوله تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم الآية .
أسند في هذه الآية الكريمة التوفي إلى ملك واحد وأسنده في آيات أخر إلى جماعة الملائكة كقوله : إن الذين توفاهم الملائكة الآية [ 8 \ 50 ] .
وقوله : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم الآية [ 6 \ 93 ] .
وأسنده في آية أخرى إلى نفسه جل وعلا وهي قوله تعالى . الله يتوفى الأنفس حين موتها الآية [ 39 \ 42 ] .
والجواب عن هذا ظاهر ، وهو أن إسناده التوفي إلى نفسه ، لأن ملك الموت لا يقدر أن يقبض روح أحد إلا بإذنه ومشيئته تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] ، وأسنده لملك الموت لأنه هو المأمور بقبض الأرواح ، وأسنده للملائكة لأن ملك الموت له أعوان من الملائكة تحت رئاسته ، يفعلون بأمره وينزعون الروح إلى الحلقوم ، فيأخذها ملك الموت ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 368 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحزاب
قوله تعالى : ياأيها النبي .
لا منافاة بينه وبين قوله في آخر الآية : إن الله كان بما تعملون خبيرا [ 33 \ 2 ] ، بصيغة الجمع لدخول الأمة تحت الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قدوتهم كما تقدم بيانه مستوفى في سورة " الروم " .
قوله تعالى : ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه .
هذه الآية الكريمة تدل بفحوى خطابها أنه لم يجعل لامرأة من قلبين في جوفها .
وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها خلاف ذلك وهي قوله تعالى في حفصة وعائشة : إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما الآية [ 66 \ 4 ] ، فقد جمع القلوب لهاتين المرأتين .
والجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما : أن المثنى إذا أضيف إليه شيئان هما جزآه ، جاز في ذلك المضاف الذي هو شيئان الجمع والتثنية والإفراد ، وأفصحها الجمع فالإفراد فالتثنية على الأصح سواء كانت الإضافة لفظا أو معنى .
فاللفظ مثاله : شويت رءوس الكبشين أو رأسهما أو رأسيهما .
والمعنى : قطعت الكبشين رأسهما أو رأسيهما .
والمعنى : قطعت الكبشين رءوسا وقطعت منها الرءوس ، فإن فرق المثنى فالمختار الإفراد نحو : على لسان داود وعيسى ابن مريم [ 5 \ 78 ] ، وإن كان الاثنان المضافان منفصلين عن المثنى المضاف إليه ، أي كانا غير جزأيه ، فالقياس الجمع وفاقا للفراء ، وفي الحديث : ما أخرجكما من بيوتكما إذ أويتما إلى مضاجعكما و : هذه فلانة وفلانة يسألانك عن إنفاقهما على أزواجهما ألهما فيه أجر ، و : لقي عليا وحمزة فضرباه بأسيافهما .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:38 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (629)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 369 إلى صـ 382
[ ص: 369 ] واعلم أن الضمائر الراجعة إلى هذا المضاف ، يجوز فيهما الجمع نظرا إلى اللفظ ، والتثنية نظرا إلى المعنى فمن الأول قوله :
خليلي لا تهلك نفوسكما أسا فإن لها فيما دهيت به أسا
ومن الثاني قوله :
قلوبكما يغشاهما الأمن عادة إذا منكما الأبطال يغشاهم الذعر
الثاني : هو ما ذهب إليه مالك بن أنس رحمه الله تعالى : من أن أقل الجمع اثنان ، ونظيره قوله تعالى : فإن كان له إخوة [ 4 \ 11 ] أي أخوان فصاعدا .
قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم .
هذه الآية الكريمة تدل بدلالة الالتزام على أنه صلى الله عليه وسلم أب لهم ، لأن أمومة أزواجه لهم تستلزم أبوته صلى الله عليه وسلم لهم .
وهذا المدلول عليه بدلالة الالتزام مصرح به في قراءة أبي بن كعب رضي الله عنه لأنه يقرؤها : " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " . وهذه القراءة مروية أيضا عن ابن عباس .
وقد جاءت آية أخرى تصرح بخلاف هذا المدلول عليه بدلالة الالتزام والقراءة الشاذة ، وهي قوله تعالى : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم الآية [ 33 \ 40 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أن الأبوة المثبتة دينية والأبوة المنفية طينية ، وبهذا يرتفع الإشكال في قوله : وأزواجه أمهاتهم مع قوله : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب [ 33 \ 53 ] ، إذ يقال كيف يلزم الإنسان أن يسأل أمه من وراء حجاب .
والجواب ما ذكرناه الآن فهن أمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام ، لا في الخلوة بهن ولا في حرمة بناتهن ونحو ذلك ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الآية .
يظهر تعارضه مع قوله : لا يحل لك النساء من بعد الآية [ 33 \ 52 ] .
والجواب أن قوله : لا يحل لك النساء ، منسوخ بقوله : إنا أحللنا لك أزواجك وقد قدمنا في سورة " البقرة " أنه أحد الموضعين اللذين في المصحف ناسخهما [ ص: 370 ] قبل منسوخهما ، لتقدمه في ترتيب المصحف ، مع تأخره في النزول على القول بذلك .
وقيل الآية الناسخة لها هي قوله تعالى : ترجي من تشاء منهن الآية [ 33 \ 51 ] .
وقال بعض العلماء هي محكمة ، وعليه فالمعنى لا يحل لك النساء من بعد ، أي من بعد النساء التي أحلهن الله لك في قوله : إنا أحللنا لك أزواجك الآية .
فتكون آية : لا يحل لك النساء محرمة ما لم يدخل في آية : إنا أحللنا لك أزواجك كالكتابيات والمشركات والبدويات على القول بذلك فيهن ، وبنات العم والعمات ، وبنات الخال والخالات ، اللاتي لم يهاجرن معه على القول بذلك فيهن أيضا .
والقول بعدم النسخ قال به أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه ، وعكرمة والضحاك في رواية ، وأبو رزين في رواية عنه وأبو صالح والحسن وقتادة في رواية ، والسدي وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن كثير وغيره ، واختار عدم النسخ ابن جرير وأبو حيان .
والذي يظهر لنا أن القول بالنسخ أرجح ، وليس المرجح لذلك عندنا أنه قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم منهم : علي وابن عباس وأنس وغيرهم ، ولكن المرجح له عندنا أنه قول أعلم الناس بالمسألة ، أعني أزواجه صلى الله عليه وسلم لأن حلية غيرهن من الضرات وعدمها ، لا يوجد من هو أشد اهتماما بها منهن ، فهن صواحبات القصة .
وقد تقرر في علم الأصول ، أن صاحب القصة يقدم على غيره ، ولذلك قدم العلماء رواية ميمونة وأبي رافع أنه صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال ، على رواية ابن عباس المتفق عليها ، أنه تزوجها محرما ، لأن ميمونة صاحبة القصة وأبا رافع سفير فيها .
فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن ممن قال بالنسخ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ، قالت : ما مات صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء ، وأم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم .
أما عائشة فقد روى عنها ذلك الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي في سننيهما ، والحاكم وصححه ، وأبو داود في ناسخه ، وابن المنذر وغيرهم .
[ ص: 371 ] وأما أم سلمة فقد رواه عنها ابن أبي حاتم كما نقله عنه ابن كثير وغيره ، ويشهد لذلك ما رواه جماعة عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة وجويرية رضي الله عنهما بعد نزول : لا يحل لك النساء .
قال الألوسي في تفسيره : إن ذلك أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 372 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سبأ
قوله تعالى : وهل نجازي إلا الكفور .
هذه الآية الكريمة على كلتا القراءتين ، قراءة ضم الياء مع فتح الزاي مبنيا للمفعول ، مع رفع " الكفور " على أنه نائب الفاعل ، وقراءة " نجازي " بضم النون وكسر الزاي مبنيا للفاعل مع نصب " الكفور " ، على أنه مفعول به تدل على خصوص الجزاء بالمبالغين في الكفر .
وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الجزاء كقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة الآية [ 99 \ 7 ] .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن المعنى ما نجازي هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران .
الثاني : أن ما يفعل بغير الكافر من الجزاء ليس عقابا في الحقيقة ، لأنه تطهير وتمحيص .
الثالث : أنه لا يجازى بجميع الأعمال مع المناقشة التامة إلا الكافر ، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : من نوقش الحساب فقد هلك وأنه لما سألته عائشة رضي الله عنها عن قوله تعالى : فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا [ 84 \ 8 - 9 ] ، قال لها ذلك الغرض ، وبين لها أن من نوقش الحساب ، لا بد أن يهلك .
قوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يسأل أمته أجرا على تبليغ ما جاءهم به من خير الدنيا والآخرة ، ونظيرها قوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] ، وقوله تعالى : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ ص: 373 ] [ 52 \ 40 ] في سورة " الطور " و " القلم " [ 68 \ 46 ] . وقوله تعالى : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] ، وقوله : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 \ 90 ] .
وعدم طلب الأجرة على التبليغ هو شأن الرسل كلهم عليهم صلوات الله وسلامه كما قال تعالى : اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا [ 36 \ 20 - 21 ] ، وقال تعالى في سورة " الشعراء " : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 ] ، في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام .
وقال في سورة " هود " عن نوح : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا الآية [ 11 \ 29 ] .
وقال فيها أيضا عن هود : ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني الآية [ 11 \ 51 ] . وقد جاء في آية أخرى ما يوهم خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ 42 \ 23 ] .
اعلم أولا أن في قوله تعالى : إلا المودة في القربى أربعة أقوال :
الأول : رواه الشعبي وغيره عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وقتادة وعكرمة وأبو مالك والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم ، كما نقله عنهم ابن جرير وغيره أن معنى الآية : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى أي إلا أن تودوني في قرابتي التي بيني وبينكم فتكفوا عني أذاكم وتمنعوني من أذى الناس ، كما تمنعون كل من بينكم وبينه مثل قرابتي منكم .
وكان صلى الله عليه وسلم له في كل بطن من قريش رحم ، فهذا الذي سألهم ليس بأجر على التبليغ ، لأنه مبذول لكل أحد لأن كل أحد يوده أهل قرابته وينتصرون له من أذى الناس ، وقد فعل له ذلك أبو طالب ، ولم يكن أجرا على التبليغ ، لأنه لم يؤمن وإذا كان لا يسأل أجرا إلا هذا الذي ليس بأجر ، تحقق أنه لا يسأل أجرا كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
[ ص: 374 ] ومثل هذا يسميه البلاغيون تأكيد المدح ، بما يشبه الذم ، وهذا القول هو الصحيح في الآية ، واختاره ابن جرير وعليه فلا إشكال .
الثاني : أن معنى الآية إلا المودة في القربى ، أي لا تؤذوا قرابتي وعترتي واحفظوني فيهم . ويروى هذا القول عن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وعلي بن الحسين وعليه فلا إشكال أيضا ، لأن الموادة بين المسلمين واجبة فيما بينهم ، وأحرى قرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض [ 9 \ 71 ] .
وفي الحديث : مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم كالجسد الواحد ، إذا أصيب منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وقال صلى الله عليه وسلم : لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، والأحاديث في مثل هذا كثيرة جدا . وإذا كان نفس الدين يوجب هذا بين المسلمين تبين أنه غير عوض عن التبليغ .
وقال بعض العلماء : الاستثناء منقطع على كلا القولين ، وعليه فلا إشكال .
فمعناه على القول الأول : لا أسألكم عليه أجرا ، لكن أذكركم قرابتي فيكم .
وعلى الثاني : لكن أذكركم الله في قرابتي فاحفظوني فيهم .
القول الثالث : وبه قال الحسن : إلا المودة في القربى ، أي إلا تتوادوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وعليه فلا إشكال ، لأن التقرب إلى الله ليس أجرا على التبليغ .
القول الرابع : إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تتوددوا إلى قراباتكم وتصلوا أرحامكم ، ذكر ابن جرير هذا القول عن عبد الله بن قاسم .
وعليه أيضا فلا إشكال ، لأن صلة الإنسان رحمه ليست أجرا على التبليغ ، فقد علمت الصحيح في تفسير الآية ، وظهر لك رفع الإشكال على جميع الأقوال .
وأما القول بأن قوله تعالى : إلا المودة في القربى ، منسوخ بقوله تعالى : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] ، فهو ضعيف ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 375 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فاطر
قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب .
الضمير في قوله : " عمره " يظهر رجوعه إلى المعمر ، فيشكل معنى الآية ، لأن المعمر والمنقوص من عمره ضدان ، فيظهر تنافي الضمير ومفسره .
والجواب أن المراد بالمعمر هنا جنس المعمر الذي هو مطلق الشخص ، فيصدق بالذي لم ينقص من عمره ، وبالذي نقص من عمره ، فصار المعنى : لا يزاد في عمر شخص ولا ينقص من عمر شخص إلا في كتاب .
وهذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندي درهم ونصفه ، أي نصف درهم آخر .
قال ابن كثير في تفسيره : الضمير عائد على الجنس لا على العين ، لأن طويل العمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره ، وإنما عاد الضمير على الجنس ، انتهى منه .
قوله تعالى : ومكر السيئ .
يدل على أن المكر هنا شيء غير السيئ أضيف إلى السيئ للزوم المغايرة بين المضاف والمضاف إليه .
وقوله تعالى : ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 \ 43 ] ، يدل على أن المراد بالمنكر هنا هو السيئ بعينه لا شيء آخر ، فالتنافي بين التركيب الإضافي والتركيب التقييدي ظاهر .
والذي يظهر والله تعالى أعلم أن التحقيق جواز إضافة الشيء إلى نفسه إذا اختلفت الألفاظ ، لأن المغايرة بين الألفاظ ربما كفت في المغايرة بين المضاف والمضاف إليه ، كما جزم به ابن جرير في تفسيره في غير هذا الموضع .
ويشير إليه ابن مالك في الخلاصة بقوله :
[ ص: 376 ]
وإن يكونا مفردين فأضف حتما وإلا أتبع الذي ردف
وأما قوله :
ولا يضاف اسم لما به اتحد معنى وأول موهما إذا ورد
فالذي يظهر فيه بعد البحث أنه لا حاجة إلى تأويله مع كثرته في القرءان واللغة العربية ، فالظاهر أنه أسلوب من أساليب العربية بدليل كثرة وروده ، كقوله هنا ومكر السيئ والمكر هو السيئ بدليل قوله : ولا يحيق المكر السيئ الآية ، وكقوله : والدار الآخرة [ 7 \ 169 ] ، والدار هي الآخرة ، وكقوله : شهر رمضان [ 2 \ 185 ] ، والشهر هو رمضان على التحقيق ، وكقوله : من حبل الوريد [ 50 \ 16 ] ، والحبل هو الوريد .
ونظيره من كلام العرب قول عنترة في معلقته :
ومشك سابغة هتكت فروجها بالسيف عن حامي الحقيقة معلم
فأصل المشك بالكسر السير الذي تشد به الدرع ، ولكن عنترة هنا أراد به نفس الدرع وأضافه إليها ، كما هو واضح من كلامه ، لأن الحكم بهتك الفروج واقع على الدرع لا على السير الذي تشد به ، كما جزم به بعض المحققين وهو ظاهر خلافا لظاهر كلام صاحب تاج العروس ، فإنه أورد بيت عنترة شاهدا لأن المشك السير الذي تشد به الدرع ، بل المشك في بيت عنترة هذا على التحقيق هو السابغة وأضيف إليها على ما ذكرنا ، وقول امرئ القيس :
كبكر المقاناة البياض بصفرة غذاها نمير الماء غير المحلل
فالبكر هي المقاناة على التحقيق ، وأما على ما ذهب إليه ابن مالك فالجواب تأويل المضاف بأن المراد به مسمى المضاف إليه .
[ ص: 377 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يس
قوله تعالى : إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن الآية .
ظاهرها خصوص الإنذار بالمنتفعين به ، ونظيرها قوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها [ 79 \ 45 ] .
وقد جاءت آيات أخر تدل على عموم الإنذار كقوله : وتنذر به قوما لدا [ 19 97 ] ، وقوله : ليكون للعالمين نذيرا [ 25 ] ، وقوله : فأنذرتكم نارا تلظى [ 92 14 ] .
وقد قدمنا وجه الجمع بأن الإنذار في الحقيقة عام ، وإنما خص في بعض الآيات بالمؤمنين لبيان أنهم هم المنتفعون به دون غيرهم ، كما قال تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] .
وبين أن الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى إيمان الأشقياء بقوله : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [ 2 \ 6 ] .
[ ص: 378 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصافات
قوله تعالى : فنبذناه بالعراء وهو سقيم .
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بنبذ يونس بالعراء ، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك وهي قوله : لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء الآية [ 68 \ 49 ] .
والجواب أن الامتناع المدلول عليه بحرف الامتناع الذي هو : " لولا " منصب على الجملة الحالية لا على جواب " لولا " .
وتقرير المعنى : لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء في حال كونه مذموما لكنه تداركته نعمة ربه ، فنبذ بالعراء غير مذموم ، فهذه الحال عمدة لا فضلة ، أو أن المراد بالفضلة ما ليس ركنا في الإسناد ، وإن توقفت صحة المعنى عليه ، ونظيرها قوله تعالى : وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين [ 44 38 ] ، وقوله : وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا الآية [ 38 27 ] ، لأن النفي فيهما منصب على الحال لا على ما قبلهما .
[ ص: 379 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ص
قوله تعالى : وهل أتاك نبأ الخصم الآية .
هذه الآية تدل بظاهرها على أن الخصم مفرد ، ولكن الضمائر بعده تدل على خلاف ذلك .
والجواب أن الخصم في الأصل مصدر خصمه ، والعرب إذا نعتت بالمصدر أفردته وذكرته .
وعليه فالخصم يراد به الجماعة والواحد والاثنان ، ويجوز جمعه وتثنيته لتناسي أصله الذي هو المصدر وتنزيله منزلة الوصف .
[ ص: 380 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزمر
قوله تعالى : والذي جاء بالصدق .
ظاهر في الإفراد .
وقوله : أولئك هم المتقون [ 39 \ 33 ] ، يدل على خلاف ذلك ، وقد قدمنا وجه الجمع محررا بشواهده في سورة " البقرة " في الكلام على قوله تعالى : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا الآية [ 2 \ 17 ] .
قوله تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أمرين :
الأول : أن المسرفين ليس لهم أن يقنطوا من رحمة الله ، مع أنه جاءت آية تدل على خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : وأن المسرفين هم أصحاب النار [ 40 43 ] .
والجواب أن الإسراف يكون بالكفر ويكون بارتكاب المعاصي دون الكفر ، فآية وأن المسرفين هم أصحاب النار في الإسراف الذي هو كفر .
وآية : قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم في الإسراف بالمعاصي دون الكفر ، ويجاب أيضا بأنه آية : وأن المسرفين هم أصحاب النار فيما إذا لم يتوبوا ، وأن قوله : قل ياعبادي الذين أسرفوا فيما إذا تابوا .
والأمر الثاني : أنها دلت على غفران جميع الذنوب مع أنه دلت آيات أخر على أن من الذنوب ما لا يغفر ، وهو الشرك بالله تعالى .
والجواب أن آية : إن الله لا يغفر أن يشرك به [ 4 \ 48 ] ، مخصصة لهذه ، وقال بعض العلماء : هذه مقيدة بالتوبة بدليل قوله تعالى : وأنيبوا إلى ربكم [ ص: 381 ] [ 39 54 ] ، فإنه عطف على قوله لا تقنطوا [ 39 53 ] ، وعليه فلا إشكال ، وهو اختيار ابن كثير .
[ ص: 382 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة غافر
قوله تعالى : ويستغفرون للذين آمنوا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن استغفار الملائكة لأهل الأرض خاص بالمؤمنين منهم ، وقد جاءت آية أخرى يدل ظاهرها على خلاف ذلك وهي قوله تعالى : ويستغفرون لمن في الأرض الآية [ 42 \ 5 ] .
والجواب أن آية " غافر " مخصصة لآية " الشورى " ، والمعنى : ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين لوجوب تخصيص العام بالخاص .
وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن في هذه الآية من توهم المنافاة بين الشرط والجزاء في البعض ، لأن المناسب لاشتراط الصدق هو أن يصيبهم جميع الذي يعدهم لا بعضه ، مع أنه تعالى لم يقل : وإن يك صادقا يصبكم كل الذي يعدكم ، وأجيب عن هذا بأجوبة من أقربها عندي : أن المراد بالبعض الذي يصيبهم هو البعض العاجل الذي هو عذاب الدنيا ، لأنهم أشد خوفا من العذاب العاجل ، ولأنهم أقرب إلى التصديق بعذاب الدنيا منهم بعذاب الآخرة .
ومنها أن المعنى إن يك صادقا فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم ، وعلى هذا فالنكتة المبالغة في التحذير ، لأنه إذا حذرهم من إصابة البعض ، أفاد أنه مهلك مخوف ، فما بال الكل وفيه إظهار لكمال الإنصاف وعدم التعصب ، ولذا قدم احتمال كونه كاذبا .
ومنها أن لفظة البعض يراد بها الكل ، وعليه فمعنى بعض الذي يعدكم : كل الذي يعدكم ، ومن شواهد هذا في اللغة العربية قول الشاعر :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:39 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (630)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 383 إلى صـ 396
يعني : ترى فيها خللا .
وقول القطامي :
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجل الزلل
يعني : قد يدرك المتأني حاجته .
وأما استدلال أبي عبيدة لهذا ، بقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يعتلق بعض النفوس حمامها
فغلط منه ، لأن مراد لبيد ببعض النفوس نفسه ، كما بينته في رحلتي في الكلام على قوله : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية [ 13 31 ] .
[ ص: 384 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصلت
قوله تعالى : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض - إلى قوله - ثم استوى إلى السماء .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها [ 79 30 ] في الكلام على قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 2 29 ] .
قوله تعالى : فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من منافاة هذه الحال وصاحبها ، لأنها جمع مذكر عاقل وصاحبها ضمير تثنية لغير عاقل ، ولو طابقت صاحبها في التثنية حسب ما يسبق إلى الذهن ، لقال : أتينا طائعتين .
والجواب عن هذا من وجهين :
أحدهما وهو الأظهر عندي ، أن جمعه للسماوات والأرض ، لأن السماوات سبع والأرضين كذلك ، بدليل قوله : ومن الأرض مثلهن [ 65 \ 12 ] ، فالتثنية لفظية تحتها أربعة عشر فردا .
وأما إتيان الجمع على صيغة جمع العقلاء ، فلأن العادة في اللغة العربية أنه إذا وصف غير العاقل بصفة تختص بالعاقل أجري عليه حكمه ، ومنه قوله تعالى : إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين [ 12 4 ] ، لما كان السجود في الظاهر من خواص العقلاء أجرى حكمهم على الشمس والقمر والكواكب لوصفها به ، ونظيره قوله تعالى : قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون [ 26 \ 71 - 73 ] .
[ ص: 385 ] فأجرى على الأصنام حكم العقلاء لتنزيل الكفار لها منزلتهم ، ومن هذا المعنى قول قيس بن الملوح :
أسرب القطا هل من يعير جناحه . . . . .
البيت .
فإنه لما طلب الإعارة من القطا ، وهي من خواص العقلاء أجرى على القطا اللفظ المختص بالعقلاء لذلك ووجه تذكير الجمع أن السماوات والأرض تأنيثها غير حقيقي .
الوجه الثاني : أن المعنى : قالتا أتينا بمن فينا طائعين فيكون فيه تغليب العاقل على غيره ، والأول أظهر عندي ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 386 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشورى
قوله تعالى : وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الكفار يوم القيامة ينظرون بعيون خفية ضعيفة النظر ، وقد جاءت آية أخرى يتوهم منها خلاف ذلك ، وهي قوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] .
والجواب هو ما ذكره صاحب الإتقان ، من أن المراد بحدة البصر : العلم وقوة المعرفة ، قال قطرب : " فبصرك " أي علمك ، ومعرفتك بها قوية من قولهم : بصر بكذا أي علم ، وليس المراد رؤية العين ، قال الفارسي : ويدل على ذلك قوله : فكشفنا عنك غطاءك .
وقاله بعض العلماء : فبصرك اليوم حديد أي تدرك به ما عميت عنه في دار الدنيا ، ويدل لهذا قوله تعالى : ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا الآية [ 32 \ 12 ] ، وقوله : ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها الآية [ 18 \ 53 ] ، وقوله : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] .
ودلالة القرءان على هذا الوجه الأخير ظاهرة ، فلعله هو الأرجح ، وإن اقتصر صاحب الإتقان على الأول .
[ ص: 387 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزخرف
قوله تعالى : قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم .
كلامهم هذا حق ، لأن كفرهم بمشيئة الله الكونية ، وقد صرح الله بأنهم كاذبون حيث قال : ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون [ 43 \ 20 ] .
وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة الأنعام " في الكلام على قوله : سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا [ 6 \ 148 ] .
قوله تعالى : وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله .
هذا العطف مع التنكير في هذه الآية يتوهم الجاهل منه تعدد الآلهة ، مع أن الآيات القرآنية مصرحة بأنه واحد كقوله : فاعلم أنه لا إله إلا الله [ 47 \ 19 ] ، وقوله : وما من إله إلا إله واحد الآية [ 5 ] .
والجواب أن معنى الآية ، أنه تعالى هو معبود أهل السماوات والأرض ، فقوله : وهو الذي في السماء إله أي معبود وحده في السماء ، كما أنه المعبود بالحق في الأرض ، سبحانه وتعالى .
[ ص: 388 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الدخان
قوله تعالى : ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنك أنت العزيز الكريم .
هذه الآية الكريمة يتوهم من ظاهرها ثبوت العزة والكرم لأهل النار ، مع أن الآيات القرآنية مصرحة بخلاف ذلك كقوله : سيدخلون جهنم داخرين [ 40 \ 60 ] ، أي صاغرين أذلاء وكقوله : ولهم عذاب مهين [ 3 178 ] ، وكقوله هنا : خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم [ 44 \ 47 ] .
والجواب أنها نزلت في أبي جهل لما قال : أيوعدني محمد صلى الله عليه وسلم وليس بين جبليها أعز ولا أكرم مني ، فلما عذبه الله بكفره قال له : ذق إنك أنت العزيز الكريم : في زعمك الكاذب ، بل أنت المهان الخسيس الحقير ، فهذا التقريع نوع من أنواع العذاب .
[ ص: 389 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجاثية
قوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا .
لا يعارض قوله تعالى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، ولا قوله : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] .
وقد قدمنا الجواب واضحا في سورة " الأعراف " .
[ ص: 390 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأحقاف
قوله تعالى : قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم مصير أمره ، وقد جاءت آية أخرى تدل أنه عالم بأن مصيره إلى الخير ، وهي قوله تعالى : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر [ 48 وما تأخر تنصيص على حسن العاقبة والخاتمة .
والجواب ظاهر ، وهو أن الله تعالى علمه ذلك بعد أن كان لا يعلمه ويستأنس له بقوله تعالى : وعلمك ما لم تكن تعلم الآية [ 4 \ 113 ] ، وقوله : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا الآية [ 42 \ 52 ] ، وقوله : ووجدك ضالا فهدى [ 93 7 ] وقوله : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 86 ] .
وهذا الجواب ، هو معنى قول ابن عباس ، وهو مراد عكرمة والحسن وقتادة بأنها منسوخة بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم الآية [ 48 ] .
ويدل له أن " الأحقاف " مكية ، وسورة " الفتح " نزلت عام ست في رجوعه صلى الله عليه وسلم من الحديبية .
وأجاب بعض العلماء : بأن المراد ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من الحوادث والوقائع ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .
هذه الآية يفهم من ظاهرها أن جزاء المطيع من الجن غفران ذنوبه وإجارته من عذاب أليم ، لا دخوله الجنة .
[ ص: 391 ] وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بظاهر هذه الآية فقالوا : إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة ، مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة وهي قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان [ 55 \ 46 ] ، لأنه تعالى بين شموله للجن والإنس بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 \ 47 ] ، ويستأنس لهذا بقوله تعالى : لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان [ 55 \ 56 ] ، لأنه يشير إلى أن في الجنة جنا يطمثون النساء كالإنس .
والجواب عن هذا ، أن آية " الأحقاف " نص فيها على الغفران والإجارة من العذاب ، ولم يتعرض فيها لدخول الجنة بنفي ولا إثبات ، وآية " الرحمن " نص فيها على دخولهم الجنة لأنه تعالى قال فيها : ولمن خاف مقام ربه .
وقد تقرر في الأصول أن الموصولات من صيغ العموم ، فقوله : " لمن خاف " يعم كل خائف مقام ربه ، ثم صرح بشمول ذلك للجن والإنس معا بقوله : فبأي آلاء ربكما تكذبان ، فبين أن الوعد بالجنتين لمن خاف مقام ربه من آلائه ، أي نعمه على الإنس والجن ، فلا تعارض بين الآيتين لأن إحداهما بينت ما لم تتعرض له الأخرى ، ولو سلمنا أن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم يفهم منه عدم دخولهم الجنة ، فإنه إنما يدل عليه بالمفهوم .
وقوله : ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان ، يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق ، والمنطوق مقدم على المفهوم ، كما تقرر في الأصول .
ولا يخفى أنا إذا أردنا تحقيق هذا المفهوم المدعى ، وجدناه معدوما من أصله للإجماع على أن قسمة المفهوم ثنائية ، إما أن يكون مفهوم موافقة أو مخالفة ولا ثالث ، ولا يدخل هذا المفهوم المدعى في شيء من أقسام المفهومين ، أما عدم دخوله في مفهوم الموافقة بقسميه فواضح ، وأما عدم دخوله في شيء من أنواع مفهوم المخالفة ، فلأن عدم دخوله في مفهوم الحصر أو العلة أو الغاية أو العدد أو الصفة أو الظرف واضح .
فلم يبق من أنواع مفهوم المخالفة يتوهم دخوله فيه إلا مفهوم الشرط أو اللقب ، وليس داخلا في واحد منهما فظهر عدم دخوله فيه أصلا .
أما وجه توهم دخوله في مفهوم الشرط فلأن قوله : يغفر لكم من ذنوبكم ، فعل [ ص: 392 ] مضارع مجزوم بكونه جزاء الطلب ، وجمهور علماء العربية على أن الفعل إذا كان كذلك فهو مجزوم بشرط مقدر لا بالجملة قبله كما قيل به .
وعلى الصحيح الذي هو مذهب الجمهور ، فتقرير المعنى : أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، إن تفعلوا ذلك يغفر لكم ، فيتوهم في الآية ، مفهوم هذا الشرط المقدر .
والجواب عن هذا ، أن مفهوم الشرط عند القائل به ، إنما هو في فعل الشرط لا في جزائه ، وهو معتبر هنا في فعل الشرط على عادته فمفهوم إن تجيبوا داعي الله وتؤمنوا به يغفر لكم أنهم إن لم يجيبوا داعي الله ولم يؤمنوا به لم يغفر لهم ، وهو كذلك . أما جزاء الشرط فلا مفهوم له لاحتمال أن تترتب على الشرط الواحد مشروطات كثيرة فيذكر بعضها جزاء له فلا يدل على نفي غيره . كما لو قلت لشخص مثلا : إن تسرق يجب عليك غرم ما سرقت ، فهذا الكلام حق ولا يدل على نفي غير الغرم كالقطع لأن قطع اليد مرتب أيضا على السرقة كالغرم . فكذلك الغفران والإجارة من العذاب ، ودخول الجنة كلها مرتبة على إجابة داعي الله والإيمان به ، فذكر في الآية بعضها وسكت فيها عن بعض ، ثم بين في موضع آخر ، وهذا لا إشكال فيه .
وأما وجه توهم دخوله في مفهوم اللقب ، فلأن اللقب في اصطلاح الأصوليين هو ما لم يمكن انتظام الكلام العربي دونه ، أغنى المسند إليه سواء كان لقبا أو كنية أو اسما أو اسم جنس أو غير ذلك ، وقد أوضحنا اللقب غاية في " المائدة " .
والجواب عن عدم دخوله في مفهوم اللقب ، أن الغفران والإجارة من العذاب المدعى بالفرض أنهما لقبان لجنس مصدريهما ، وأن تخصيصهما بالذكر يدل على نفي غيرهما في الآية ، مسندان لا مسند إليهما ، بدليل أن المصدر فيهما كامن في الفعل ولا يسند إلى الفعل إجماعا ما لم يرد مجرد لفظه على سبيل الحكاية .
ومفهوم اللقب عند القائل به إنما هو فيما إذا كان اللقب مسندا إليه ، لأن تخصيصه بالذكر عند القائل به يدل على اختصاص الحكم به دون غيره ، وإلا لما كان للتخصيص بالذكر فائدة ، كما عللوا به مفهوم الصفة .
وأجيب من جهة الجمهور بأن اللقب ذكر ليمكن الحكم لا لتخصيصه بالحكم ، إذ لا [ ص: 393 ] يمكن الإسناد بدون مسند إليه ، ومما يوضح ذلك أن مفهوم الصفة الذي حمل عليه اللقب عند القائل به ، إنما هو في المسند إليه لا في المسند ، لأن المسند إليه هو الذي تراعى أفراده وصفاتها فيقصد بعضها بالذكر دون بعض ، فيختص الحكم بالمذكور .
أما المسند فإنه لا يراعى فيه شيء من الأفراد ولا الأوصاف أصلا ، وإنما يراعى فيه مجرد الماهية التي هي الحقيقة الذهنية .
فلو حكمت مثلا على الإنسان بأنه حيوان ، فإنه المسند إليه الذي هو الإنسان في هذا المثال يقصد به جميع أفراده ، لأن كل فرد منها حيوان ، بخلاف المسند الذي هو الحيوان في هذا المثال فلا يقصد به إلا مطلق ماهيته وحقيقته الذهنية من غير مراعاة الأفراد ، لأنه لو روعيت أفراده لاستلزم الحكم على الإنسان بأنه فرد آخر من أفراد الحيوان كالفرس مثلا .
والحكم بالمباين على المباين باطل ، إذا كان إيجابيا باتفاق العقلاء وعامة النظار ، على أن موضوع القضية إذا كانت غير طبيعية يراعى فيه ما يصدق عليه عنوانها من الإفراد باعتبار الوجود الخارجي إن كانت خارجية ، أو الذهني أن كانت حقيقية .
وأما المحمول من حيث هو ، فلا تراعى فيه الأفراد البتة ، وإنما يراعى فيه مطلق الماهية .
ولو سلمنا تسليما جدليا أن مثل هذه الآية يدخل في مفهوم اللقب ، فجماهير العلماء على أن مفهوم اللقب لا عبرة به وربما كان اعتباره كفرا كما لو اعتبر معتبر مفهوم اللقب في قوله تعالى : محمد رسول الله [ 48 \ 29 ] ، فقال : يفهم من مفهوم لقبه أن غير محمد يخيل ولم يكن رسول الله ، فهذا كفر بإجماع المسلمين .
فالتحقيق أن اعتبار مفهوم اللقب لا دليل عليه شرعا ولا لغة ، ولا عقلا سواء كان اسم جنس أو اسم عين أو اسم جمع ، أو غير ذلك .
فقولك : جاء زيد ، لا يفهم منه عدم مجيء عمرو . وقولك : رأيت أسدا ، لا يفهم منه عدم رؤيتك غير الأسد .
والقول بالفرق بين اسم الجنس فيعتبر ، واسم العين فلا يعتبر ، لا يظهر ، فلا عبرة بقول الصيرفي وأبي بكر الدقاق وغيرهما من الشافعية ، ولا بقول ابن خويز منداد وابن [ ص: 394 ] القصار من المالكية ، ولا بقول بعض الحنابلة باعتبار مفهوم اللقب لأنه لا دليل على اعتباره عند القائل به إلا أنه يقول : لو لم يكن اللقب مختصا بالحكم لما كان لتخصيصه بالذكر فائدة ، كما علل به مفهوم الصفة .
لأن الجمهور يقولون : ذكر اللقب ليسند إليه وهو واضح لا إشكال فيه ، وأشار صاحب مراقي السعود إلى تعريف اللقب بالاصطلاح الأصولي وأنه أضعف المفاهيم بقوله :
أضعفها اللقب وهو ما أبى من دونه نظم الكلام العربي
وحاصل فقه المسألة ، أن الجن مكلفون على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الكتاب والسنة وإجماع المسلمين ، وأن كافرهم في النار بإجماع المسلمين وهو صريح قوله تعالى : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
وقوله تعالى : فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون [ 26 \ 94 - 95 ] .
وقوله تعالى : قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار [ 7 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وأن مؤمنيهم اختلف في دخولهم الجنة ، ومنشأ الخلاف الاختلاف في فهم الآيتين المذكورتين ، والظاهر دخولهم الجنة كما بينا ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 395 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القتال
قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى . هذه الآية الكريمة تدل على تعدد الأنهار مع تعدد أنواعها .
وقد جاءت آية أخرى يوهم ظاهرها أنه نهر واحد ، وهي قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] ، وقد تقدم الجمع واضحا في سورة " البقرة " في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن الآية [ 2 29 ] .
وبينا أن قوله : " ونهر " : يعني وأنهار .
[ ص: 396 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفتح
قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من تنافي هذه العلة ومعلولها ، لأن فتح الله لنبيه لا يظهر كونه علة لغفرانه له .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : وهو اختيار ابن جرير لدلالة الكتاب والسنة عليه أن المعنى إن فتح الله لنبيه يدل بدلالة الالتزام على شكر النبي لنعمة الفتح ، فيغفر الله له ما تقدم وما تأخر بسبب شكره بأنواع العبادة على تلك النعمة ، فكأن شكر النبي لازم لنعمة الفتح ، والغفران مرتب على ذلك اللازم .
أما دلالة الكتاب على هذا ففي قوله تعالى : إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ 110 - 3 ] .
فصرح في هذه السورة الكريمة بأن تسبيحه بحمد ربه واستغفاره لربه شكرا على نعمة الفتح سبب لغفران ذنوبه ، لأنه رتب تسبيحه بحمده واستغفاره بالفاء على مجيء الفتح والنصر ترتيب المعلول على علته ، ثم بين أن ذلك الشكر سبب الغفران بقوله : إنه كان توابا .
وأما دلالة السنة ففي قوله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض أصحابه لا تجهد نفسك بالعمل ، فإن الله غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر : أفلا أكون عبدا شكورا .
فبين صلى الله عليه وسلم أن اجتهاده في العمل لشكر تلك النعمة وترتب الغفران على الاجتهاد في العمل لا خفاء به .
[ ص: 397 ] الوجه الثاني : أن قوله : إنا فتحنا يفهم منه بدلالة الالتزام الجهاد في سبيل الله ، لأنه السبب الأعظم في الفتح ، والجهاد سبب لغفران الذنوب ، فيكون المعنى : ليغفر لك الله بسبب جهادك المفهوم من ذكر الفتح ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:40 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (631)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 397 إلى صـ 410
[ ص: 398 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحجرات
قوله تعالى : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى .
هذه الآية الكريمة تدل على أن خلق الناس ابتداؤه من ذكر وأنثى .
وقد دلت آيات أخر على خلقهم من غير ذلك كقوله تعالى : هو الذي خلقكم من تراب [ 40 \ 67 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .
والجواب واضح ، وهو أن التراب هو الطور الأول ، وقد قال تعالى : وقد خلقكم أطوارا [ 71 \ 14 ] .
وقد بين الله أطوار خلق الإنسان من مبدئه إلى منتهاه بقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين [ 23 \ 12 - 13 ] ، إلى آخره .
[ ص: 399 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة ق
قوله تعالى : فذكر بالقرآن من يخاف وعيد .
هذه الآية تدل على خصوص التذكير بالقرآن بمن يخاف وعيد الله .
وقد جاءت آيات أخر تدل على عمومه كقوله تعالى : فذكر إنما أنت مذكر [ 88 \ 21 ] ، وقوله تعالى : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] .
والجواب أن التذكير بالقرآن عام ، إلا أنه لما كان المنتفع به هو من يخاف وعيد الله ، صار كأنه مختص به ، كما أشار إليه قوله تعالى : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] ، كما تقدم نظيره مرارا .
[ ص: 400 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الذاريات
قوله تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين .
لا يخفى ما بين هذا النعت ومنعوته من التنافي في الظاهر ، لأن النعت صيغة جمع والمنعوت لفظ مفرد .
والجواب أن لفظة الضيف تطلق على الواحد والجمع ، لأن أصلها مصدر ضاف ، فنقلت من المصدرية إلى الاسمية ، كما تقدم في سورة " البقرة " .
[ ص: 401 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطور
قوله تعالى : كل امرئ بما كسب رهين .
هذه الآية تقتضي عموم رهن كل إنسان بعمله ، ولو كان من أصحاب اليمين ، نظرا للشمول المدلول عليه بلفظة : " كل " ، وقد جاءت آية أخرى تدل على عدم شمولها لأصحاب اليمين ، وهي قوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين [ 74 \ 38 - 39 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أن آية " الطور " هذه تخصصها آية " المدثر " .
[ ص: 402 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النجم
قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجتهد في شيء ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ربما اجتهد في بعض الأمور ، كما دل عليه قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم [ 9 43 ] .
وقوله تعالى : ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض الآية [ 8 \ 67 ] .
والجواب عن هذا من وجهين :
الأول : هو الذي اقتصر عليه ابن جرير ، وصدر به ابن الحاجب في مختصره الأصولي أن معنى قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى أي في كل ما يبلغه عن الله ، إن هو أي كل ما يبلغه عن الله إلا وحي من الله ، لأنه لا يقول على الله شيئا إلا وحي منه ، فالآية رد على الكفار حيث قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرءان ، كما قال ابن الحاجب .
الوجه الثاني : أنه إن اجتهد ، فإنه إنما يجتهد بوحي من الله يأذن له به في ذلك الاجتهاد ، وعليه فاجتهاده بوحي فلا منافاة .
ويدل لهذا الوجه أن اجتهاده في الإذن للمتخلفين عن غزوة تبوك ، أذن الله له فيه حيث قال : فأذن لمن شئت منهم [ 24 62 ] ، فلما أذن للمنافقين عاتبه بقوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين [ 9 43 ] .
فالاجتهاد في الحقيقة إنما هو الإذن قبل التبين لا في مطلق الإذن للنص عليه .
ومسألة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وعدمه من مسائل الخلاف المشهورة عند علماء الأصول ، [ ص: 403 ] وسبب اختلافهم هو تعارض الآيات في ظاهر الأمر .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر أن التحقيق في هذه المسألة أنه صلى الله عليه وسلم ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوصه ، كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك قبل أن يتبين صادقهم من كاذبهم ، وكأسره لأسارى بدر ، وكأمره بترك تأبير النخل ، وكقوله : لو استقبلت من أمري ما استدبرت الحديث ، إلى غير ذلك .
وأن معنى قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى لا إشكال فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بشيء من أجل الهوى ولا يتكلم بالهوى .
وقوله تعالى : إن هو إلا وحي يوحى يعني أن كل ما يبلغه عن الله فهو وحي من الله لا بهوى ولا بكذب ولا افتراء ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .
هذه الآية الكريمة تدل على أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره .
وقد جاءت آية أخرى تدل على أن بعض الناس ربما انتفع بعمل غيره وهي قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان الآية [ 52 \ 21 ] ، فرفع درجات الأولاد سواء قلنا : إنهم الكبار أو الصغار نفع حاصل لهم ، وإنما حصل لهم بعمل آبائهم لا بعمل أنفسهم .
اعلم أولا أن ما روي عن ابن عباس من أن هذا كان شرعا لمن قبلنا ، فنسخ في شرعنا غير صحيح ، بل آية : وأن ليس للإنسان محكمة ، كما أن القول بأن المراد بالإنسان خصوص الكافر غير صحيح أيضا .
والجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الآية إنما دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه ، ولم تدل على نفي انتفاعه بسعي غيره ، لأنه لم يقل وأن لن ينتفع الإنسان إلا بما سعى ، وإنما قال : وأن ليس للإنسان . وبين الأمرين فرق ظاهر ، لأن سعي الغير ملك لساعيه ، إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير ، وإن شاء أبقاه لنفسه .
وقد أجمع العلماء على انتفاع الميت بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه ونحو ذلك ، مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه .
[ ص: 404 ] الثاني : أن إيمان الذرية هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم ، إذ لو كانوا كفارا لما حصل لهم ذلك ، فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين ، كما وقع في الصلاة في الجماعة ، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا ، وتلك المضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته في الجماعة ، وهذا الوجه يشير إليه قوله تعالى : واتبعتهم ذريتهم بإيمان .
الثالث : أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نص قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولكنه من سعي الآباء فهو سعي للآباء أقر الله عيونهم بسببه ، بأن رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا في الجنة برؤيتهم ، فالآية تصدق الأخرى ولا تنافيها ، لأن المقصود بالرفع إكراه الآباء لا الأولاد ، فانتفاع الأولاد تبع ، فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله عليهم بما ليس لهم ، كما تفضل بذلك على الولدان والحور العين والخلق الذين ينشؤهم للجنة ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 405 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمر
قوله تعالى : فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر .
يدل على أن عاقر الناقة واحد ، وقد جاءت آيات أخر تدل على كونه غير واحد ، كقوله : فعقروا الناقة الآية [ 7 \ 77 ] ، وقوله : فكذبوه فعقروها [ 91 \ 14 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أنهم تمالئوا كلهم على عقرها فانبعث أشقاهم لمباشرة الفعل ، فأسند العقر إليهم لأنه برضاهم وممالأتهم .
الوجه الثاني : هو ما قدمنا في سورة " الأنفال " من إسناد الفعل إلى المجموع مرادا به بعضه ، وذكرنا في " الأنفال " نظائره في القرءان العظيم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] .
[ ص: 406 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرحمن
قوله تعالى : يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن إرسال شواظ النار الذي هو لهبها ، والنحاس الذي هو دخانها ، أو النحاس المذاب ، وعدم الانتصار ليس في شيء منه إنعام على الثقلين . وقوله لهم : فبأي آلاء ربكما تكذبان [ 55 36 ] ، يفهم منه أن إرسال الشواظ والنحاس وعدم الانتصار من آلاء الله ، أي نعمه على الجن والإنس .
والجواب من وجهين :
الأول : أن تكرير : فبأي آلاء ربكما تكذبان ، للتوكيد ، ولم يكرره متواليا لأن تكريره بعد كل آية أحسن من تكريره متواليا ، وإذا كان للتوكيد فلا إشكال لأن المذكور منه بعد ما ليس من الآلاء مؤكد للمذكور بعد ما هو من الآلاء .
الوجه الثاني : أن فبأي آلاء ربكما تكذبان لم تذكر إلا بعد ذكر نعمة أو موعظة أو إنذار وتخويف ، وكلها من آلاء الله التي لا يكذب بها إلا كافر جاحد ، أما في ذكر النعمة فواضح .
وأما في الموعظة ، فلأن الوعظ تلين له القلوب فتخشع وتنيب ، فالسبب الموصل إلى ذلك من أعظم النعم ، فظهر أن الوعظ من أكبر الآلاء .
وأما في الإنذار والتخويف كهذه الآية ، ففيه أيضا أعظم نعمة على العبد ، لأن إنذاره في دار الدنيا من أهوال يوم القيامة ، من أعظم نعم الله عليه .
ألا ترى أنه لو كان أمام إنسان مسافر مهلكة كبرى وهو مشرف على الوقوع فيها من غير أن يعلم بها ، فجاءه إنسان فأخبره بها وحذره من الوقوع فيها ، أن هذا يكون يدا له عنده وإحسانا يجازيه عليه جزاء أكبر الإنعام .
[ ص: 407 ] وهذا الوجه الأخير هو مقتضى الأصول ، لأنه قد تقرر في علم الأصول أن النص إذا احتمل التوكيد والتأسيس فالأصل حمله على التأسيس لا على التوكيد ، لأن في التأسيس زيادة معنى ليست في التوكيد .
وعلى هذا القول فتكرير : فبأي آلاء ربكما تكذبان إنما هو باعتبار أنواع النعم المذكور قبلها من إنعام أو موعظة أو إنذار .
وقد عرفت أن كلها من آلاء الله ، فالمذكورة بعد نعمه كالمذكورة بعد قوله : وله الجواري المنشآت الآية [ 55 \ 24 ] .
وبعد قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الآية [ 55 \ 22 ] ، لأن السفن واللؤلؤ والمرجان من آلاء الله كما هو ضروري ، والمذكورة بعد موعظة كالمذكورة بعد قوله : فإذا انشقت السماء الآية [ 55 37 ] ، والمذكورة بعد إنذار أو تخويف ، كالمذكورة بعد قوله : يرسل عليكما شواظ الآية ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون [ 15 92 - 93 ] .
وقوله : فلنسألن الذين أرسل إليهم الآية [ 7 \ 6 ] في سورة " الأعراف " .
[ ص: 408 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعة
قوله تعالى : فلا أقسم بمواقع النجوم .
يقتضي أنه لم يقسم بهذا القسم ، وقوله تعالى : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم [ 56 ] ، يدل على خلاف ذلك .
والجواب على وجهين :
الأول : أن " لا " النافية يتعلق نفيها بكلام الكفار ، فمعناها إذا ليس الأمر كما يزعمه الكفار المكذبون للرسول ، وعليه فقوله : " أقسم " إثبات مؤتنف .
الثاني : أن لفظة " لا " صلة ، وقد وعدنا ببيان ذلك بشواهده في الجمع بين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] ، مع قوله تعالى : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
[ ص: 409 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحديد
قوله تعالى : ثم استوى على العرش .
يدل على أنه تعالى مستو على عرشه عال على جميع خلقه ، وقوله تعالى : وهو معكم أين ما كنتم [ 57 ] ، يوهم خلاف ذلك .
والجواب أنه تعالى مستو على عرشه كما قال بلا كيف ولا تشبيه ، استواء لائقا بكماله وجلاله ، وجميع الخلائق في يده أصغر من حبة خردل ، فهو مع جميعهم بالإحاطة الكاملة والعلم التام ، ونفوذ القدرة سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، فلا منافاة بين علوه على عرشه ومعيته لجميع الخلائق .
ألا ترى ولله المثل الأعلى أن أحدنا لو جعل في يده حبة من خردل أنه ليس داخلا في شيء من أجزاء تلك الحبة مع أنه محيط بجميع أجزائها ومع جميع أجزائها ، والسماوات والأرض ومن فيهما في يده تعالى أصغر من حبة خردل في يد أحدنا ، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى علوا كبيرا ، فهو أقرب إلى الواحد منا من عنق راحلته بل من حبل وريده ، مع أنه مستو على عرشه لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه ، جل وعلا .
[ ص: 410 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلة
قوله تعالى : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا .
لا يخفى أن ترتيبه تعالى الكفارة بالعتق على الظهار والعود معا يفهم منه أن الكفارة لا تلزم إلا بالظهار والعود معا .
وقوله : من قبل أن يتماسا ، صريح في أن التكفير يلزم كونه قبل العود إلى المسيس .
اعلم أولا أن ما رجحه ابن حزم من قول داود وحكاه ابن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام ، وقال به شعبة من أن معنى ثم يعودون لما قالوا هو عودهم إلى لفظ الظهار ، فيكررونه مرة أخرى قول باطل ، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل المرأة التي نزلت فيها آية الظهار ، هل كرر زوجها صيغة الظهار أم لا ، وترك الاستفصال ينزل منزلة العموم في الأقوال كما تقدم مرارا .
والتحقيق ، أن الكفارة ومنع الجماع قبلها لا يشترط فيهما تكرير صيغة الظهار وما زعمه البعض أيضا من أن الكلام فيه تقديم وتأخير ، وتقديره : والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ، ثم يعودون لما قالوا سالمين من الإثم بسبب الكفارة غير صحيح أيضا ، لما تقرر في الأصول من وجوب الحمل على بقاء الترتيب إلا لدليل ، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود :
كذلك ترتيب لإيجاب العمل بما له الرجحان مما يحتمل
وسنذكر إن شاء الله الجواب عن هذا الإشكال على مذاهب الأئمة الأربعة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين ، فنقول وبالله نستعين :
معنى العود عند مالك فيه قولان ؟ تؤولت المدونة على كل واحد منهما وكلاهما مرجح .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:41 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (632)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 411 إلى صـ 424
[ ص: 411 ] الأول : أنه العزم على الجماع فقط .
الثاني : أنه العزم على الجماع وإمساك الزوجة معا ، وعلى كلا القولين فلا إشكال في الآية لأن المعنى حينئذ : والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعزمون على الجماع ، أو عليه مع الإمساك فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فلا منافاة بين العزم على الجماع أو عليه مع الإمساك ، وبين الإعتاق قبل المسيس .
وغاية ما يلزم على هذا القول حذف الإرادة وهو واقع في القرءان ، كقوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة [ 5 \ 6 ] ، أي أردتم القيام إليها .
وقوله : فإذا قرأت القرآن [ 16 \ 98 ] ، أي أردت قراءته فاستعذ بالله الآية [ 16 98 ] .
ومعنى العود عند الشافعي أن يمسكها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق ، وعليه فلا إشكال في الآية أيضا ، لأن إمساكه إياها الزمن المذكور لا ينافي التكفير قبل المسيس كما هو واضح .
ومعنى العود عند أحمد هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه ، أما العزم فقد بينا أنه لا إشكال في الآية على القول به .
وأما على القول بأنه الجماع ، فالجواب أنه إن ظاهر وجامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ولا يلزم من هذا جواز الجماع الأول قبل التكفير لأن الآية على هذا القول ، إنما بينت حكم ما إذا وقع الجماع قبل التكفير وأنه وجوب التكفير قبل مسيس آخر .
أما الإقدام على المسيس الأول فحرمته معلومة من عموم قوله : من قبل أن يتماسا .
ومعنى العود عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هو العزم على الوطء وعليه فلا إشكال كما تقدم .
وما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عن مالك من أنه حكى عنه أن العود الجماع ، فهو خلاف المعروف من مذهبه .
[ ص: 412 ] وكذلك ما حكاه عن أبي حنيفة من أن العود هو العود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية فهو خلاف المقرر في فروع الحنفية من أنه العزم على الوطء كما ذكرنا ، وغالب ما قيل في معنى العود راجع إلى ما ذكرنا من أقوال الأئمة رحمهم الله .
وقال بعض العلماء ؟ المراد بالعود الرجوع إلى الاستمتاع بغير الجماع ، والمراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا خصوص الجماع .
وعليه فلا إشكال ، ولكن لا يخفى عدم ظهور هذا القول ، والتحقيق عدم جواز الاستمتاع وطء أو غيره قبل التكفير لعموم قوله : من قبل أن يتماسا .
وأجاز بعضهم الاستمتاع بغير الوطء قائلا : إن المراد بالمسيس في قوله : من قبل أن يتماسا نفس الجماع لا مقدماته .
وممن قال بذلك الحسن البصري والثوري .
وروي عن الشافعي أحد القولين ، وقال بعض العلماء : اللام في قوله : لما قالوا بمعنى في ، أي يعودون فيما قالوا بمعنى يرجعون عنه كقوله صلى الله عليه وسلم الواهب العائد في هبته الحديث ، وقيل : اللام بمعنى عن ، أي يعودون عما قالوا ، أي يرجعون عنه وهو قريب مما قبله .
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر والله تعالى أعلم أن العود له مبدأ ومنتهى ، فمبدؤه العزم على الوطء ومنتهاه الوطء بالفعل ، فمن عزم على الوطء فقد عاد بالنية فتلزمه الكفارة لإباحة الوطء ، ومن وطئ بالفعل تحتم في حقه اللزوم وخالف بالإقدام على الوطء قبل التكفير ، ويدلك لهذا أنه صلى الله عليه وسلم لما قال : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه فبين أن العزم على الفعل عمل يؤاخذ به الإنسان .
فإن قيل : ظاهر الآية المتبادر منها يوافق قول الظاهرية الذي قدمنا بطلانه لأن الظاهر المتبادر من قوله : لما قالوا أنه صيغة الظهار فيكون العود لها تكريرها مرة أخرى .
فالجواب أن المعنى " لما قالوا " أنه حرام عليهم وهو الجماع ، ويدل لذلك وجود نظيره في القرآن في قوله تعالى : ونرثه ما يقول [ 19 80 ] ، أي ما يقول إنه يؤتاه [ ص: 413 ] من مال وولد في قوله : لأوتين مالا وولدا [ 19 \ 77 ] ، وما ذكرنا من أن من جامع قبل التكفير يلزمه الكف عن المسيس مرة أخرى حتى يكفر ، هو التحقيق خلافا لمن قال : تسقط الكفارة بالجماع قبل المسيس .
كما روي عن الزهري وسعيد بن جبير وأبي يوسف ولمن قال : تلزم به كفارتان .
كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن مهدي ولمن قال : تلزم به ثلاث كفارات ، كما رواه سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة .
هذه الآية تدل على طلب تقديم الصدقة أمام المناجاة .
وقوله تعالى : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم الآية [ 58 13 ] ، يدل على خلاف ذلك .
والجواب ظاهر ، وهو أن الأخير ناسخ للأول ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 414 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه .
تقدم وجه الجمع بين الإطلاق الذي في هذه الآية ، والتقييد الذي في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ 8 \ 24 ] . وقوله تعالى : ولا يعصينك في معروف [ 60 \ 12 ] ، في سورة " الأنفال " .
سورة الممتحنة
قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الكافر إذا لم يقاتل المؤمن في الدين ولم يخرجه من داره لا يحرم بره ، والإقساط إليه ، وقد جاءت آية أخرى تدل على منع موالاة الكفار وموادتهم مطلقا . كقوله تعالى : ومن يتولهم منكم فإنه منهم [ 5 \ 51 ] .
وقوله تعالى : ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون [ 60 \ 9 ] .
وقوله تعالى : لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر الآية [ 58 \ 22 ] .
والجواب هو أن من يقول بنسخ هذه الآية فلا إشكال فيها على قوله ، وعلى القول بأنها محكمة فوجه الجمع مفهوم منها لأن الكافر الذي لم ينه عن بره والإقساط إليه مشروط فيه عدم القتال في الدين ، وعدم إخراج المؤمنين من ديارهم ، والكافر المنهي عن ذلك فيه هو المقاتل في الدين المخرج للمؤمنين من ديارهم المظاهر للعدو على إخراجهم ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 415 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الصف
قوله تعالى : والله لا يهدي القوم الفاسقين .
هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الخارج عن طاعة الله لا يهديه الله .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا الآية [ 8 \ 38 ] .
وقوله تعالى : كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم [ 4 \ 94 ] .
والجواب أن الآية من العام المخصوص ، فهي في خصوص الأشقياء الذين أزاغ الله قلوبهم عن الهدى لشقاوتهم الأزلية .
وقيل : المعنى لا يهديهم ما داموا على فسقهم ، فإن تابوا منه هداهم .
سورة الجمعة
قوله تعالى : والله لا يهدي القوم الظالمين .
فيه الإشكال ، والجواب مثل ما ذكرنا آنفا في قوله تعالى : والله لا يهدي القوم الظالمين [ 5 108 ] .
قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها الآية .
لا يخفى أن أصل مرجع الضمير هو الحد الدائر بين التجارة واللهو لدلالة لفظة " أو " على ذلك ، ولكن هذا الضمير راجع إلى التجارة وحدها دون اللهو ، فبينه وبين مفسره بعض منافاة في الجملة .
[ ص: 416 ] والجواب أن التجارة أهم من اللهو وأقوى سببا في الانفضاض عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم انفضوا عنه من أجل العير ، واللهو كان من أجل قدومها ، مع أن اللغة العربية يجوز فيها رجوع الضمير لأحد المذكورين قبله .
أما في العطف بأو فواضح ، لأن الضمير في الحقيقة راجع إلى الحد الدائر الذي هو واحد لا بعينه ، كقوله تعالى : ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا الآية [ 4 112 ] .
وأما الواو فهو فيها كثير .
ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى : واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها الآية [ 2 45 ] .
وقوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها " الآية [ 9 34 ] .
وقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه الآية [ 8 20 ] .
ونظيره من كلام العرب قول نابغة ذبيان :
وقد أراني ونعما لاهيين بها والدهر والعيش لم يهمم بإمرار
[ ص: 417 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المنافقون
قوله تعالى : إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله الآية .
هذا الذي شهدوا عليه حق لأن رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيها ، وقد كذبهم الله بقوله : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون [ 63 ] . مع أن قوله : والله يعلم إنك لرسوله [ 63 ] ، كأنه تصديق لهم .
والجواب أن تكذيبه تعالى لهم منصب على إسنادهم الشهادة إلى أنفسهم في قولهم : " نشهد " ، وهم في باطن الأمر لا يشهدون برسالته ، بل يعتقدون عدمها ، أو يشكون فيه ، كما يدل للأول قوله تعالى عنهم : أنؤمن كما آمن السفهاء - إلى قوله - ولكن لا يعلمون [ 2 13 ] .
ويدل للثاني قوله تعالى : وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون [ 9 \ 45 ] .
قوله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم الآية .
ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لا يغفر للمنافقين مطلقا ، وقد جاءت آية توهم الطمع في غفرانه لهم إذا استغفر لهم رسوله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبعين مرة وهي قوله تعالى : إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم [ 9 80 ] .
والجواب أن هذه الآية هي الأخيرة بينت أنه لا يغفر لهم على كل حال لأنهم كفار في الباطن .
[ ص: 418 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابن
قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم . تقدم رفع الإشكال بينه وبين قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ 3 \ 102 ] ، في سورة " آل عمران " .
سورة الطلاق
قوله تعالى : يا أيها النبي الآية .
ظاهر في خصوص الخطاب به صلى الله عليه وسلم ، وقوله : إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن الآية [ 65 1 ] ، يقتضي خلاف ذلك .
والجواب هو ما تقدم محررا في سورة " الروم " من أن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم حكمه عام لجميع الأمة .
قوله تعالى : ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا .
إفرد الضمير في هذه الآية في قوله : " يؤمن " وقوله : " يعمل " وقوله : " يدخله " وقوله : " له " . وجمع في قوله : " خالدين " .
والجواب : أن الإفراد باعتبار لفظ : " من " والجمع باعتبار معناها وهو كثير في القرءان العظيم . وفي هذه الآية الكريمة رد على من زعم أن مراعاة المعنى لا تجوز بعدها مراعاة اللفظ لأنه في هذه الآية راعى المعنى في قوله : " خالدين " ثم راعى اللفظ في قوله : قد أحسن الله له رزقا .
[ ص: 419 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التحريم
قوله تعالى : ياأيها النبي .
مع قوله : قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ 66 \ 2 ] ، يجري فيه من الإشكال .
والجواب ما تقدم في سورة " الطلاق " .
قوله تعالى : وكانت من القانتين .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من أن المرأة ليست من الرجال ، وهو تعالى لم يقل من القانتات .
الجواب هو إطباق أهل اللسان العربي على تغليب الذكر على الأنثى في الجمع ، فلما أراد أن يبين أن مريم من عباد الله القانتين وكان منهم ذكور وإناث غلب الذكور كما هو الواجب في اللغة العربية ، ونظيره قوله تعالى : إنك كنت من الخاطئين [ 12 \ 29 ] ، وقوله : إنها كانت من قوم كافرين [ 27 \ 43 ] .
[ ص: 420 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الملك
قوله تعالى : وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .
ظاهر هذه الآية الكريمة يدل على أنهم ما كانوا يسمعون في الدنيا ولا يعقلون ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا [ 46 \ 26 ] .
وقوله : فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين [ 29 \ 38 ] .
وقد قدمنا الجواب عن هذا محررا في الكلام على قوله : صم بكم [ 2 \ 18 ] ، وعلى قوله : أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا الآية [ 2 \ 170 ] .
سورة القلم
قوله تعالى : لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء الآية .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله : فنبذناه بالعراء الآية [ 37 \ 145 ] .
[ ص: 421 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحاقة
قوله تعالى : إني ظننت أني ملاق حسابيه .
تقدم رفع الإشكال بينه وبين الآيات الدالة على أن الظن لا يكفي ، كقوله : إن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 10 \ 36 ] ، في الكلام على قوله : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ 2 \ 46 ] في سورة " البقرة " .
قوله تعالى : ولا طعام إلا من غسلين .
ظاهر هذا الحصر أنه لا طعام لأهل النار إلا الغسلين ، وهو ما يسيل من صديد أهل النار على أصح التفسيرات ، لأنه فعلين من الغسل لأن الصديد كأنه غسالة قروح أهل النار ، أعاذنا الله والمسلمين منها .
وقد جاءت آية أخرى تدل على حصر طعامهم في غير الغسلين وهي قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع [ 88 \ 6 ] ، وهو الشبرق اليابس على أصح التفسيرات ، ويدل لهذا قول أبي ذؤيب :
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وصار ضريعا بان عنه النحائص
وللعلماء عن هذا أجوبة كثيرة أحسنها عندي اثنان منها :
الأول : أن العذاب ألوان ، والمعذبون طبقات ، فمنهم من لا طعام له إلا من غسلين ، ومنهم من لا طعام له إلا من ضريع ، ومنهم من لا طعام له إلا الزقوم ، ويدل لهذا قوله تعالى : لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم [ 15 \ 44 ] .
الثاني : أن المعنى في جميع الآيات أنهم لا طعام لهم أصلا لأن الضريع لا يصدق عليه اسم الطعام ولا تأكله البهائم فأحرى الآدميون .
[ ص: 422 ] وكذلك الغسلين ليس من الطعام ، فمن طعامه الضريع لا طعام له ، ومن طعامه الغسلين كذلك . ومنه قولهم : فلان لا ظل له إلا الشمس ، ولا دابة إلا دابة ثوبان يعنون القمل ، ومرادهم لا ظل له أصلا ولا دابة له أصلا ، وعليه فلا إشكال ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 423 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة سأل سائل
قوله تعالى : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله : في يوم كان مقداره ألف سنة [ 32 \ 5 ] .
وقوله : وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون [ 22 \ 47 ] ، في سورة " الحج " .
وقوله : أو ما ملكت أيمانهم [ 23 \ 6 ] ، تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين [ 4 \ 23 ] في سورة " النساء " . [ ص: 424 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة نوح
قوله تعالى : إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا .
هذه الآية الكريمة تدل على أن نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عالم بما يصير إليه الأولاد من الفجور والكفر قبل ولادتهم ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله ، كقوله : قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله [ 27 \ 65 ] .
وكقول نوح نفسه فيما ذكره الله عنه في سورة " هود " : ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب الآية [ 11 \ 31 ] .
والجواب عن هذا ظاهر ، وهو أنه علم بوحي من الله أن قومه لا يؤمن منهم أحد إلا من آمن ، كما بينه بقوله تعالى : وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن الآية [ 11 \ 36 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:42 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (633)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 425 إلى صـ 438
[ ص: 425 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الجن
قوله تعالى : وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا .
لا يعارض قوله : إن الله يحب المقسطين [ 5 \ 42 ] .
لأن القاسط هو الجائر ، والمقسط هو العادل ، فهما ضدان .
قوله تعالى : ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا الآية .
أفرد الضمير في قوله : " له " وجمع قوله : " خالدين " .
والجواب هو ما تقدم من أن الإفراد باعتبار لفظ : " من " والجمع باعتبار معناها ، وهو ظاهر .[ ص: 426 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المزمل
قوله تعالى : ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا .
وقوله : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل - إلى قوله - وطائفة من الذين معك الآية [ 73 \ 20 ] ، يدل على وجوب قيام الليل على الأمة ، لأن أمر القدوة أمر لأتباعه .
وقوله : وطائفة من الذين معك دليل على عدم الخصوص به صلى الله عليه وسلم .
وقد ذكر الله ما يدل على خلاف ذلك في قوله : فاقرءوا ما تيسر من القرآن [ 73 20 ] ، وقوله : فاقرءوا ما تيسر منه [ 73 20 ] ، والجواب ظاهر ، وهو أن الأخير ناسخ للأول ثم نسخ الأخير أيضا بالصلوات الخمس .
قوله تعالى : وكانت الجبال كثيبا مهيلا .
لا يعارض قوله : وتكون الجبال كالعهن المنفوش [ 101 5 ] ، لأن قوله : وكانت الجبال كثيبا مهيلا تشبيه بليغ ، والجبال بعد طحنها المنصوص عليه بقوله : وبست الجبال بسا [ 56 \ 15 ] تشبه الرمل المتهايل وتشبه أيضا الصوف المنفوش .
[ ص: 427 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المدثر
قوله تعالى : كل نفس بما كسبت رهينة الآية .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : كل امرئ بما كسب رهين الآية [ 52 \ 21 ] .سورة القيامة
قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة .
لا يعارض إقسامه به في قوله : واليوم الموعود [ 85 ] ، والجواب من وجهين :
أحدهما : أن " لا " نافية لكلام الكفار .
الثاني : أنها صلة كما تقدم ، وسيأتي له زيادة إيضاح إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ 6 103 ] .[ ص: 428 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإنسان
قوله تعالى : وحلوا أساور من فضة .
لا يعارضه قوله تعالى : يحلون فيها من أساور من ذهب الآية [ 18 \ 31 ] .
ووجه الجمع ظاهر وهو أنهما جنتان أوانيهما وجميع ما فيهما من فضة ، وأخريان أوانيهما وجميع ما فيهما من ذهب ، والعلم عند الله تعالى .سورة المرسلات
قوله تعالى : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون .
هذه الآية الكريمة تدل على أن أهل النار لا ينطقون ولا يعتذرون .
وقد جاءت آيات تدل على أنهم ينطقون ويعتذرون ، كقوله تعالى : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله : فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 ] ، وقوله : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون [ 26 \ 97 - 99 ] ، وقوله : ربنا هؤلاء أضلونا [ 7 \ 38 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب عن هذا من أوجه :
الأول : أن القيامة مواطن ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون .
الثاني : أنهم لا ينطقون بما لهم فيه فائدة وما لا فائدة فيه كالعدم .
الثالث : أنهم بعد أن يقول الله لهم : اخسئوا فيها ولا تكلمون [ 23 108 ] .
[ ص: 429 ] ينقطع نطقهم ولم يبق إلا الزفير والشهيق .
قال تعالى : ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون [ 27 85 ] ، وهذا الوجه الثالث راجع للوجه الأول .[ ص: 430 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النبأ
قوله تعالى : لابثين فيها أحقابا .
تقدم وجه الجمع بينه هو والآيات المشابهة له كقوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك [ 11 107 ] ، مع الآيات المقتضية لدوام عذاب أهل النار بلا انقطاع كقوله : خالدين فيها أبدا [ 4 \ 57 ] ، في سورة " الأنعام " في الكلام على قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله الآية [ 6 \ 128 ] ، فقد بينا هناك أن العذاب لا ينقطع عنهم وبينا وجه الاستثناء بالمشيئة ، وأما وجه الجمع بين الأحقاب المذكورة هنا مع الدوام الأبدي الذي قدمنا الآيات الدالة عليه فمن ثلاثة أوجه :
الأول : وهو الذي مال إليه ابن جرير وهو الأظهر عندي لدلالة ظاهر القرءان عليه هو أن قوله : لابثين فيها أحقابا متعلق بما بعده ، أي : لابثين فيها أحقابا في حال كونهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا [ 79 23 - 25 ] ، فإذا انقضت تلك الأحقاب عذبوا بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق . ويدل لهذا تصريحه تعالى بأنهم يعذبون بأنواع أخر من أنواع العذاب غير الحميم والغساق في قوله : هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج [ 38 \ 57 - 58 ] .
وغاية ما يلزم على هذا القول تداخل الحال وهو جائز حتى عند من منع ترادف الحال كابن عصفور ومن وافقه ، وإيضاحه أن جملة : لا يذوقون : حال من ضمير اسم الفاعل المستكن ، ونعني باسم الفاعل قوله : لابثين الذي هو حال ، ونظيره من إتيان جملة فعل مضارع منفي بلا حالا في القرءان قوله تعالى : والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا [ 16 \ 78 ] ، أي في حال كونكم لا تعلمون .
الثاني : أن هذه الأحقاب لا تنقضي أبدا ، رواه ابن جرير عن قتادة والربيع بن أنس [ ص: 431 ] وقال : إنه أصح من جعل الآية في عصاة المسلمين ، كما ذهب إليه خالد بن معدان .
الثالث : أنا لو سلمنا دلالة قوله : " أحقابا " على التناهي والانقضاء ، فإن ذلك إنما فهم من مفهوم الظرف والتأبيد مصرح به منطوقا والمنطوق مقدم على المفهوم ، كما تقرر في الأصول ، وقول خالد بن معدان : إن هذه الآية في عصاة المسلمين ، يرده ظاهر القرءان لأن الله قال : وكذبوا بآياتنا كذابا [ 78 \ 28 ] ، وهؤلاء الكفار .
[ ص: 432 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النازعات
قوله تعالى : والأرض بعد ذلك دحاها .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله : قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين - إلى قوله - ثم استوى إلى السماء [ 41 \ 9 - 11 ] ، في سورة " البقرة " في الكلام على قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء الآية [ 2 \ 29 ] .
قوله تعالى : إنما أنت منذر من يخشاها .
تقدم وجه الجمع بينه وبين الآيات الدالة على عموم الإنذار كقوله : ليكون للعالمين نذيرا [ 25 ] ، في سورة " يس " وغيرها .[ ص: 433 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة عبس
قوله تعالى : أن جاءه الأعمى .
عبر الله تعالى عن هذا الصحابي الجليل الذي هو عبد الله ابن أم مكتوم بلقب يكرهه الناس مع أنه قال : ولا تنابزوا بالألقاب [ 49 \ 11 ] .
والجواب هو ما نبه عليه بعض العلماء ، من أن السر في التعبير عنه بلفظ : " الأعمى " للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان يرى ما هو مشتغل به مع صناديد الكفار ، لما قطع كلامه .[ ص: 434 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكوير
قوله تعالى : إنه لقول رسول كريم .
ظاهر هذه الآية يتوهم منه الجاهل أن القرءان كلام جبريل مع أن الآيات القرآنية مصرحة بكثرة بأنه كلام الله كقوله : فأجره حتى يسمع كلام الله وكقوله : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير [ 11 ] .
والجواب واضح من نفس الآية لأن الإيهام الحاصل من قوله : إنه لقول يدفعه ذكر الرسول ، لأنه يدل على أن الكلام لغيره لكنه أرسل بتبليغه فمعنى قوله : لقول رسول أي تبليغه عمن أرسله من غير زيادة ولا نقص .
[ ص: 435 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانفطار
قوله تعالى : علمت نفس ما قدمت وأخرت .
هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن الذي يعلم يوم القيامة ما قدم وما أخر نفس واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على أن كل نفس تعلم ما قدمت وأخرت كقوله : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [ 10 ] ، وقوله : وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا [ 17 \ 13 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب أن المراد بقوله : " نفس " ، كل نفس ، والنكرة وإن كانت لا تعم إلا في سياق النفي أو الشرط أو الامتنان كما تقرر في الأصول ، فإن التحقيق أنها ربما أفادت العموم بقرينة السياق من غير نفي أو شرط أو امتنان ، كقوله : علمت نفس [ 81 \ 14 ] ، في " التكوير " و " الانفطار " وقوله : أن تبسل نفس ، وقوله : أن تقول نفس ياحسرتا والعلم عند الله تعالى .[ ص: 436 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التطفيف
قوله تعالى : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون .
يفهم منه أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن ربهم يوم القيامة ، وقد قدمنا وجه الجمع بين هذا المفهوم ، وبين قوله تعالى : لا تدركه الأبصار [ 6 ] .سورة الانشقاق
قوله تعالى : وأما من أوتي كتابه وراء ظهره الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن من لم يعط كتابه بيمينه ، أنه يعطاه وراء ظهره ، وقد جاءت آية يفهم منها أنه يؤتاه بشماله ، وهي قوله تعالى : وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني الآية [ 69 \ 25 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أنه لا منافاة بين أخذه بشماله ، وإيتائه وراء ظهره ، لأن الكافر تغل يمناه إلى عنقه ، وتجعل يسراه وراء ظهره ، فيأخذ بها كتابه .
[ ص: 437 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البروج
قوله تعالى : واليوم الموعود .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : لا أقسم بيوم القيامة .
قوله تعالى : هل أتاك حديث الجنود فرعون وثمود .
لا يخفى ما يسبق إلى الذهن من توهم المنافاة بين لفظة : " الجنود " ، مع لفظة " فرعون " ، لأن فرعون ليس جندا ، وإنما هو رجل بعينه .
والجواب ظاهر ، وهو أن المراد بفرعون هو وقومه فاكتفى بذكره لأنهم تبع له ، وتحت طاعته .
سورة الطارق
قوله تعالى : فمهل الكافرين أمهلهم رويدا .
هذا الإمهال المذكور هنا ينافيه قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم الآية [ 9 \ 5 ] .
والجواب أن الإمهال منسوخ بآيات السيف ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 438 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعلى
قوله تعالى : سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله الآية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ينسى من القرءان ما شاء الله أن ينساه ، وقد جاءت آيات كثيرة تدل على حفظ القرءان من الضياع كقوله تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه [ 75 \ 16 - 17 ] ، وقوله : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ 15 \ 9 ] .
والجواب أن القرءان وإن كان محفوظا من الضياع فإن بعضه ينسخ بعضا ، وإنساء الله نبيه بعض القرءان في حكم النسخ ، فإذا أنساه آية فكأنه نسخها ، ولا بد أن يأتي بخير منها أو مثلها ، كما صرح به تعالى في قوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] .
وقوله تعالى : وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] .
وأشار هنا لعلمه بحكمة النسخ بقوله : إنه يعلم الجهر وما يخفى [ 87 \ 7 ] .
وقوله تعالى : فذكر إن نفعت الذكرى .
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن التذكير ، لا يطلب إلا عند مظنة نفعه ، بدليل أن الشرطية .
وقد جاءت آيات كثيرة تدل على الأمر بالتذكير مطلقا ، كقوله : فذكر إنما أنت مذكر [ 88 \ 21 ] وقوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر [ 54 \ 17 ] .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:43 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (634)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 439 إلى صـ 452
وأجيب عن هذا بأجوبة كثيرة :
[ ص: 439 ] منها أن في الكلام حذفا أي : إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، كقوله : سرابيل تقيكم الحر [ 16 \ 81 ] ، أي والبرد ، وهو قول الفراء والنحاس والجرجاني وغيرهم .
ومنها أنها بمعنى : إذ ، وإتيان : " إن " بمعنى : إذ مذهب الكوفيين خلافا للبصريين .
وجعل منه الكوفيون قوله تعالى : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 112 ] .
وقوله تعالى : وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ 3 \ 139 ] ، وقوله تعالى : وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين [ 5 \ 23 ] ، وقوله : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين [ 48 \ 27 ] .
وقوله صلى الله عليه وسلم : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون .
وقول الفرزدق :
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا جهارا ولم تغضب لقتل ابن حازم
وأجاب البصريون عن آيات إن كنتم مؤمنين ، بأن فيها معنى الشرط ، جيء به للتهييج ، وعن آية إن شاء الله ، والحديث بأنهما تعليم للعباد كيف يتكلمون ، إذا أخبروا عن المستقبل ، وعن البيت بجوابين :
أحدهما : أنه من إقامة السبب مقام المسبب ، والأصل : أتغضب إن افتخر مفتخر بحز أذني قتيبة ، إذ الافتخار بذلك يكون سببا للغضب ، ومسببا عن الحز .
الثاني : تغضب إن تبين في المستقبل ، أن أذني قتيبة حزتا .
ومنها أن معنى إن نفعت الذكرى الإرشاد إلى التذكير بالأهم ، أي ذكر بالمهم الذي فيه النفع دون ما لا نفع فيه ، فيكون المعنى ذكر الكفار مثلا بالأصول التي هي التوحيد ، لا بالفروع ، لأنها لا تنفع دون الأصول ، وذكر المؤمن التارك لفرض مثلا بذلك الفرض المتروك لا بالعقائد ونحو ذلك لأنه أنفع .
ومنها أن " إن " ، بمعنى : قد وهو قول قطرب .
[ ص: 440 ] ومنها أنها صيغة شرط أريد بها ذم الكفار واستبعاد تذكرهم ، كما قال الشاعر :
لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي
ومنها غير ذلك .
والذي يظهر لمقيد هذه الحروف عفا الله عنه ، هو بقاء الآية الكريمة على ظاهرها ، وأنه صلى الله عليه وسلم بعد أن يكرر لذكري تكريرا تقوم به حجة الله على خلقه مأمور بالتذكير عند ظن الفائدة ، أما إذا علم الفائدة فلا يؤمر بشيء هو عالم أنه لا فائدة فيه ، لأن العاقل لا يسعى إلى ما لا فائدة فيه .
وقد قال الشاعر :
لما نافع يسعى اللبيب فلا تكن لشيء بعيد نفعه الدهر ساعيا
وهذا ظاهر ولكن الخفاء في تحقيق المناط ، وإيضاحه أن يقال : بأي وجه يتيقن عدم إفادة الذكرى ، حتى يباح تركها .
وبيان ذلك أنه تارة يعلمه بإعلام الله به ، كما وقع في أبي لهب ، حيث قال تعالى فيه : سيصلى نارا ذات لهب وامرأته الآية [ 111 \ 3 - 4 ] .
فأبو لهب هذا وامرأته لا تنفع فيهما الذكرى ، لأن القرءان نزل بأنهما من أهل النار بعد تكرار التذكير لهما تكرارا تقوم عليهما به الحجة ، فلا يلزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد علمه بذلك أن يذكرهما بشيء ، لقوله تعالى في هذه الآية : فذكر إن نفعت الذكرى .
وتارة يعلم ذلك بقرينة الحال ، بحيث يبلغ على أكمل وجه ، ويأتي بالمعجزات الواضحة ، فيعلم أن بعض الأشخاص عالم بصحة نبوته ، وأنه مصر على الكفر عنادا ولجاجا ، فمثل هذا لا يجب تكرير الذكرى له دائما ، بعد أن تكرر عليه تكريرا تلزمه به الحجة .
وحاصل إيضاح هذا الجواب أن الذكرى تشتمل على ثلاث حكم :
الأولى : خروج فاعلها من عهدة الأمر بها .
الثانية : رجاء النفع لمن يوعظ بها ، وبين الله تعالى هاتين الحكمتين بقوله تعالى : [ ص: 441 ] قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون [ 7 \ 164 ] ، وبين الأولى منهما بقوله تعالى : فتول عنهم فما أنت بملوم [ 51 \ 54 ] ، وقوله تعالى : إن عليك إلا البلاغ [ 42 \ 48 ] ، ونحوها من الآيات . وبين الثانية بقوله : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [ 51 ] .
الثالثة : إقامة الحجة على الخلق ، وبينها تعالى بقوله : رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] وبقوله : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا الآية [ 20 \ 134 ] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا كرر الذكرى حصلت الحكمة الأولى والثالثة ، فإن كان في الثانية طمع استمر على التذكير وإلا لم يكلف بالدوام ، والعلم عند الله تعالى .
وإنما اخترنا بقاء الآية على ظاهرها مع أن أكثر المفسرين على صرفها عن ظاهرها المتبادر منها ، وأن معناها : فذكر مطلقا إن نفعت الذكرى ، وإن لم تنفع ، لأننا نرى أنه لا يجوز صرف كتاب الله عن ظواهره المتبادرة منه ؟ إلا لدليل يجب الرجوع له ، وإلى بقاء هذه الآية على ظاهرها .
جنح ابن كثير حيث قال في تفسيرها : أي ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هنا يؤخذ الأدب في نشر العلم ، فلا يضعه في غير أهله ، كما قال علي رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم ، إلا كان فتنة لبعضهم ، وقال : حدث الله الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله .
تنبيه
هذا الإشكال الذي في هذه الآية ، إنما هو على قول من يقول باعتبار دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة ، وأما على قول من لا يعتبر مفهوم المخالفة شرطا كان أو غيره ، كأبي حنيفة ؟ فلا إشكال في الآية ، وكذلك لا إشكال فيها على قول من لا يعتبر مفهوم الشرط كالباقلاني ، فتكون الآية نصت على الأمر بالتذكير عند مظنة النفع ، وسكتت عن حكمه عند عدم مظنة النفع فيطلب من دليل آخر ، فلا تعارض الآية الآيات الدالة على التذكير مطلقا .
[ ص: 442 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الغاشية
قوله تعالى : ليس لهم طعام إلا من ضريع .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : ولا طعام إلا من غسلين [ 69 \ 36 ] ، وقوله تعالى : فيها عين جارية الآية [ 88 \ 12 ] .
ظاهر هذه الآية أن الجنة فيها عين واحدة ، وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك كقوله : إن المتقين في جنات وعيون [ 15 \ 45 ] .
والجواب هو ما تقدم في الجمع بين قوله : إن المتقين في جنات ونهر [ 54 \ 54 ] ، مع قوله : فيها أنهار من ماء غير آسن الآية [ 47 \ 15 ] .
فالمراد بالعين العيون ، كما تقدم نظيره في سورة " البقرة " وغيرها .
[ ص: 443 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفجر
قوله تعالى : وجاء ربك والملك صفا صفا .
يوهم أنه ملك واحد ، وقوله " صفا صفا " : يقتضي أنه غير ملك واحد بل صفوف من جماعات الملائكة .
والجواب أن قوله تعالى : " والملك " ، معناه : والملائكة ، ونظيره قوله تعالى : والملك على أرجائها [ 69 \ 17 ] ، وتقدم بيانه بشواهده العربية في سورة " البقرة " ، في الكلام على قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء فسواهن الآية [ 2 \ 29 ] .سورة البلد
قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد .
هذه الآية الكريمة يتبادر من ظاهرها أنه تعالى أخبر بأنه لا يقسم بهذا البلد الذي هو مكة المكرمة ، مع أنه تعالى أقسم به في قوله : وهذا البلد الأمين [ 95 \ 3 ] .
الأول : وعليه الجمهور ، أن " لا " هنا صلة على عادة العرب ، فإنها ربما لفظت " لا " من غير قصد معناها الأصلي ، بل لمجرد تقوية الكلام وتوكيده كقوله : " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني [ 20 \ 92 - 93 ] ، يعني أن تتبعني ، وقوله : ما منعك ألا تسجد [ 7 \ 12 ] ، أي أن تسجد على أحد القولين .
ويدل له قوله في سورة " ص " : ما منعك أن تسجد لما خلقت الآية [ 38 ] ، وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب [ 57 \ 29 ] ، أي ليعلم أهل الكتاب ، وقوله : فلا وربك لا يؤمنون [ 4 \ 65 ] ، أي فوربك ، وقوله : ولا تستوي الحسنة ولا السيئة [ ص: 444 ] [ 21 ] ، أي والسيئة وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون [ 21 \ 95 ] على أحد القولين .
وقوله : وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون [ 6 \ 109 ] ، على أحد القولين ، وقوله : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا [ 6 \ 151 ] ، على أحد الأقوال الماضية .
وكقول أبي النجم :
فما ألوم البيض ألا تسخرا لما رأين الشمط القفندرا
يعني أن تسخر ، وكقول الشاعر :
وتلحينني في اللهو أن لا أحبه وللهو داع دائب غير غافل
يعني أن أحبه و : لا ، زائدة .
وقول الآخر :
أبى جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله
يعني أبى جوده البخل ، و " لا " ، زائدة على خلاف في زيادتها في هذا البيت الأخير ، ولا سيما على رواية " البخل " بالجر لأن : لا ، عليها مضاف بمعنى لفظة لا ، فليست زائدة على رواية الجر .
وقول امرئ القيس :
فلا وأبيك ابنة العامري لا يدعي القوم أنى أفر
يعني وأبيك .
وأنشد الفراء لزيادة " لا " في الكلام الذي فيه معنى الجحد قول الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله دينهم والأطيبان أبو بكر ولا عمر
يعني وعمر ، و : لا ، صلة .
وأنشد الجوهري لزيادتها قول العجاج :
[ ص: 445 ]
في بئر لا حور سرى وما شعر بإفكه حتى رأى الصبح جشر
فالحور الهلكة يعني في بئر هلكة ، و " لا " صلة ، قاله أبو عبيدة وغيره .
وأنشد الأصمعي لزيادتها قول ساعدة الهذلي :
أفعنك لا برق كأن وميضه غاب تسنمه ضرام مثقب
ويروى أفمنك ، وتشيمه بدل أفعنك ، وتسنمه .
يعني أعنك برق و " لا " ، صلة .
ومن شواهد زيادتها قول الشاعر :
تذكرت ليلى فاعترتني صبابة وكاد صميم القلب لا يقطع
يعني كاد يتقطع .
وأما استدلال أبي عبيدة لزيادتها بقول الشماخ :
أعائش ما لقومك لا أراهم يضيعون الهجان مع المضيع
فغلط منه لأن : لا ، في بيت الشماخ هذا نافية لا زائدة ومقصوده أنها تنهاه عن حفظ ماله مع أن أهلها يحفظون مالهم ، أي لا أرى قومك يضيعون مالهم ، وأنت تعاتبينني في حفظ مالي .
وما ذكره الفراء من أن لفظة : لا ، لا تكون صلة إلا في الكلام الذي فيه معنى الجحد ، فهو أغلبني لا يصح على الإطلاق ، بدليل بعض الأمثلة المتقدمة التي لا جحد فيها ، كهذه الآية على القول بأن " لا " فيها صلة ، وكبيت ساعدة الهذلي .
وما ذكره الزمخشري من زيادة " لا " في أول الكلام دون غيره فلا دليل عليه .
الوجه الثاني : أن " لا نفي لكلام المشركين المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله : " أقسم " إثبات مستأنف ، وهذا القول وإن قال به كثير من العلماء فليس بوجيه عندي لقوله تعالى في سورة " القيامة " : ولا أقسم بالنفس اللوامة [ 75 ] ، لأن قوله تعالى : [ ص: 446 ] ولا أقسم بالنفس اللوامة يدلا على أنه لم يرد الإثبات المؤتنف بعد النفي بقوله : " أقسم " ، والله تعالى أعلم .
الوجه الثالث : أنها حرف نفي أيضا ، ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به ، فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية ، والمراد أنه لا يعظم بالقسم بل هو نفسه عظيم أقسم به أولا .
وهذا القول ذكره صاحب الكشاف وصاحب روح المعاني ، ولا يخلو عندي من بعد .
الوجه الرابع : أن اللام لام الابتداء أشبعت فتحتها ، والعرب ربما أشبعت الفتحة بألف والكسرة بياء والضمة بواو .
فمثاله في الفتحة قول عبد يغوث بن وقاص الحارثي :
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا
فالأصل كأن لم تر ، ولكن الفتحة أشبعت .
وقول الراجز :
إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضاها ولا تملقي
فالأصل ترضها ، لأن الفعل مجزوم بلا الناهية .
وقول عنترة في معلقته :
ينباع من ذفرى غضوب جسرة زيافة مثل الفنـيق المكدم
فالأصل ينبع يعني أن العرق ينبع من عظم الذفرى من ناقته ، فأشبع الفتحة فصار ينباع على الصحيح .
وقول الراجز :
قلت وقد خرت على الكلكال يا ناقتي ما جلت من مجالي
فقوله : " الكلكال " ، يعني الكلكل ، وليس إشباع الفتحة في هذه الشواهد من ضرورة [ ص: 447 ] الشعر ، لتصريح علماء العربية بأن إشباع الحركة بحرف يناسبها أسلوب من أساليب اللغة العربية ، ولأنه مسموع في النثر كقولهم : كلكال ، وخاتام ، وداناق ، يعنون : كلكلا وخاتما ودانقا .
ومثله في إشباع الضمة بالواو ، وقولهم : برقوع ومعلوق ، يعنون : برقعا ومعلقا .
ومثال إشباع الكسرة بالياء قول قيس بن زهير :
ألم يأتيك والأنباء تنمي بما لاقت لبون بني زياد
فالأصل يأتك لمكان الجازم ، وأنشد له الفراء :
لا عهد لي بنيضال أصبحت كالشن البال
ومنه قول امرئ القيس :
كأني بفتخاء الجناحين لقوة على عجل مني أطأطئ شيمالي
ويروى : " صيود من العقبان طأطأن شيمالي " .
ويروى " دفوف من العقبان " . إلخ .
ويروى " شملال " بدل شيمال " ، وعليه فلا شاهد في البيت ، إلا أن رواية الياء مشهورة . ومثال إشباع الضمة بالواو قول الشاعر :
هجوت زبان ثم جئت معتذرا من هجو زبان لم تهج ولم تدع
وقول الآخر :
الله أعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى إخواننا صور
وإنني حيثما يثني الهوى بصري من حيثما سلكوا أدنو فأنظور
يعني فأنظر ، وقول الراجز :
لو أن عمرا هم أن يرقودا فانهض فشد المئزر المعقودا
يعني " يرقد " ، ويدل لهذا الوجه قراءة قنبل : " لأقسم بهذا البلد " بلام الابتداء ، وهو مروي عن البزي والحسن ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 448 ] قوله تعالى : أو مسكينا ذا متربة .
يدل ظاهره على أن المسكين لاصق بالتراب ليس عنده شيء ، فهو أشد فقرا من مطلق الفقير ، كما ذهب إليهمالك وكثير من العلماء .
وقوله تعالى : أما السفينة فكانت لمساكين يعملون الآية [ 18 \ 79 ] ، يدل على خلاف ذلك لأنه سماهم مساكين مع أن لهم سفينة عاملة للإيجار .
والجواب عن هذا محتاج إليه عن كلا القولين .
أما على قول من قال إن المسكين من عنده ما لا يكفيه كالشافعي ، فالذي يظهر لي أن الجواب أنه يقول : المسكين عند الإطلاق ينصرف إلى من عنده شيء لا يكفيه ، فإذا قيد بما يقتضي أنه لا شيء عنده ، فذلك يعلم من القيد الزائد لا من مطلق لفظ المسكين .
وعليه ، فالله في هذه الآية قيد المسكين بكونه : ذا متربة ، فلو لم يقيده لانصرف إلى من عنده ما لا يكفيه ، فمدلول اللفظ حالة الإطلاق لا يعارض بمدلوله حالة التقييد .
وأما على قول من قال : بأن المسكين أحوج من مطلق الفقير ، وأنه لا شيء عنده فيجاب عن آية الكهف بأجوبة : منها أن المراد بقوله : " مساكين " ؛ أنهم قوم ضعاف لا يقدرون على مدافعة الظلمة ، ويزعمون أنهم عشرة ، خمسة منهم زمنى .
ومنها أن السفينة لم تكن ملكا لهم ، بل كانوا أجراء فيها أو أنها عارية واللام للاختصاص .
ومنها أن اسم المساكين أطلق عليهم ترحما لضعفهم .
والذي يظهر لمقيده عفا الله عنه : أن هذه الأجوبة لا دليل على شيء منها ، فليس فيها حجة يجب الرجوع إليها ، وما احتج به بعضهم - من قراءة علي رضي الله عنه " لمساكين " ، بتشديد السين جمع تصحيح لمساك بمعنى الملاح أو دابة المسوك التي هي الجلود ، فلا يخفى سقوطه لضعف هذه القراءة وشذوذها . والذي يتبادر إلى ذهن المنصف أن مجموع الآيتين دل على أن لفظ المسكين مشكك لتفاوت أفراده فيصدق بمن عنده ما لا يكفيه بدليل آية " الكهف " ، ومن هو لاصق بالتراب لا شيء عنده بدليل آية " البلد " ، [ ص: 449 ] كاشتراك الشمس والسراج في النور مع تفاوتهما ، واشتراك الثلج والعاج في البياض مع تفاوتهما .
والمشكك إذا أطلق ولم يقيد بوصف الأشدية انصرف إلى مطلقه ، هذا ما ظهر ، والعلم عند الله تعالى .
والفقير أيضا قد تطلقه العرب على من عنده بعض المال ، كقول مالك ، ومن شواهده قول راعي نمير :
أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد
فسماه فقيرا مع أن عنده حلوبة قدر عياله .[ ص: 450 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشمس
قوله تعالى : فألهمها فجورها وتقواها .
يدل على أن الله هو الذي يجعل الفجور والتقوى في القلب ، وقد جاءت آيات تدل على أن فجور العبد وتقواه باختياره ومشيئته كقوله تعالى : فاستحبوا العمى على الهدى [ 41 \ 17 ] .
وقوله تعالى : اشتروا الضلالة بالهدى [ 2 \ 16 ] ، ونحو ذلك ، وهذه المسألة هي التي ضل فيها القدرية والجبرية .
أما القدرية فضلوا بالتفريط حيث زعموا أن العبد يخلق عمل نفسه استقلالا من غير تأثير لقدرة الله فيه .
وأما الجبرية فضلوا بالإفراط حيث زعموا أن العبد لا عمل له أصلا حتى يؤاخذ به .
وأما أهل السنة والجماعة فلم يفرطوا ولم يفرطوا ، فأثبتوا للعبد أفعالا اختيارية ، ومن الضروري عند جميع العقلاء أن الحركة الاتعاشية ليست كالحركة الاختيارية ، وأثبتوا أن الله خالق كل شيء فهو خالق العبد وخالق قدرته وإرادته ، وتأثير قدرة العبد لا يكون إلا بمشيئة الله تعالى .
فالعبد وجميع أفعاله بمشيئة الله تعالى ؛ مع أن العبد يفعل اختيارا بالقدرة والإرادة اللتين خلقهما الله فيه فعلا اختياريا يثاب عليه ويعاقب .
ولو فرضنا أن جبريا ناظر سنيا فقال الجبري : حجتي لربي أن أقول إني لست مستقلا بعمل ، وإني لا بد أن تنفذ في مشيئته وإرادته على وفق العلم الأزلي ، فأنا مجبور ، فكيف يعاقبني على أمر لا قدرة لي أن أحيد عنه ؟ فإن السني يقول له : كل الأسباب التي أعطاها للمهتدين أعطاها لك ، جعل لك سمعا تسمع به ، وبصرا تبصر به ، وعقلا تعقل به ، [ ص: 451 ] وأرسل لك رسولا ، وجعل لك اختيارا وقدرة ، ولم يبق بعد ذلك إلا التوفيق وهو ملكه المحض ، إن أعطاه ففضل ، وإن منعه فعدل .
كما أشار له تعالى بقوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين [ 6 \ 149 ] ، يعني أن ملكه للتوفيق حجة بالغة على الخلق ، فمن أعطيه ففضل ، ومن منعه فعدل .
ولما تناظر أبو إسحاق الاسفرائيني مع عبد الجبار المعتزلي ، قال عبد الجبار : سبحان من تنزه عن الفحشاء ، وقصده أن المعاصي كالسرقة والزنى بمشيئة العبد دون مشيئة الله ، لأن الله أعلى وأجل من أن يشاء القبائح في زعمهم .
فقال أبو إسحاق : كلمة حق أريد بها باطل ، ثم قال : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء .
فقال عبد الجبار : أتراه يخلقه ويعاقبني عليه ؟
فقال أبو إسحاق : أتراك تفعله جبرا عليه ؟ أأنت الرب وهو العبد ؟
فقال عبد الجبار : أرأيت إن دعاني إلى الهدى وقضى علي بالردى أتراه أحسن إلي أم أساء ؟
فقال أبو إسحاق : إن كان الذي منعك منه ملكا لك فقد أساء ، وإن كان له فإن أعطاك ففضل ، وإن منعك فعدل . فبهت عبد الجبار ، وقال الحاضرون : والله ما لهذا جواب .
وجاء أعرابي إلى عمرو بن عبيد وقال له : ادع الله لي أن يرد علي حمارة سرقت مني ، فقال : اللهم إن حمارته سرقت ولم ترد سرقتها فارددها عليه ، فقال له الأعرابي : يا هذا كف عني دعائك الخبيث ، إن كانت سرقت ولم يرد سرقتها فقد يريد ردها ولا ترد .
وقد رفع الله إشكال هذه المسألة بقوله تعالى : وما تشاءون إلا أن يشاء الله [ 76 ] ، فأثبت للعبد مشيئة ، وصرح بأنه لا مشيئة للعبد إلا بمشيئة الله جل وعلا ، فكل شيء صادر عن قدرته ومشيئته جل وعلا .
وقوله : قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين .
[ ص: 452 ] وأما على قول من فسر الآية الكريمة بأن معنى : فألهمها فجورها وتقواها أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر ، فلا إشكال في الآية : وبهذا المعنى فسرها جماعة من العلماء ، والعلم عند الله تعالى .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:44 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (635)
بيان الناسخ والمنسوخ
صـ 453 إلى صـ 467
[ ص: 453 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الليل
قوله تعالى : إن علينا للهدى .
يدل على أن الله التزم على نفسه الهدى للخلق مع أنه جاءت آيات كثيرة تدل على عدم هداه لبعض الناس كقوله : والله لا يهدي القوم الفاسقين [ 5 \ 108 ] .
وقوله : والله لا يهدي القوم الظالمين [ 2 \ 258 ] .
وقوله : كيف يهدي الله قوما كفروا الآية [ 3 \ 86 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب هو ما تقدم من أن الهدى يستعمل في القرءان خاصا وعاما ، فالمثبت العام والمنفي الخاص ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم .
وأما على قول من قال : إن معنى الآية أن الطريق الذي يدل علينا وعلى طاعتنا هو الهدى لا الضلال ، وقول من قال : إن معنى الآية أن من سلك طريق الهدى وصل إلى الله ، فلا إشكال في الآية أصلا .
[ ص: 454 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الضحى
قوله تعالى : ووجدك ضالا فهدى .
هذه الآية الكريمة يوهم ظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ضالا قبل الوحي ، مع أن قوله تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها [ 30 ] ، يدل على أنه صلى الله عليه وسلم فطر على هذا الدين الحنيف ، ومعلوم أنه لم يهوده أبواه ولم ينصراه ولم يمجساه ، بل لم يزل باقيا على الفطرة حتى بعثه الله رسولا ، ويدل لذلك ما ثبت من أن أول نزول الوحي كان وهو يتعبد في غار حراء ، فذلك التعبد قبل نزول الوحي دليل على البقاء على الفطرة .
والجواب أن معنى قوله : ضالا فهدى أي غافلا عما تعلمه الآن من الشرائع وأسرار علوم الدين التي لا تعلم بالفطرة ولا بالعقل ، وإنما تعلم بالوحي ، فهداك إلى ذلك بما أوحى إليك ، فمعنى الضلال على هذا القول الذهاب عن العلم .
ومنه بهذا المعنى قوله تعالى : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى [ 2 282 ] .
وقوله : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] ، وقوله : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] ، وقول الشاعر :
وتظن سلمى أنني أبغي بها بدلا أراها في الضلال تهيم
ويدل لهذا قوله تعالى : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان [ 42 \ 52 ] ، لأن المراد بالإيمان شرائع دين الإسلام .
وقوله : وإن كنت من قبله لمن الغافلين [ 12 \ 3 ] ، وقوله : وعلمك ما لم تكن تعلم [ ص: 455 ] [ 4 \ 113 ] ، وقوله وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك [ 28 \ 86 ] .
وقيل المراد بقوله : " ضالا " ، ذهابه وهو صغير في شعاب مكة ، وقيل : ذهابه في سفره إلى الشام ، والقول الأول هو الصحيح ، والله تعالى أعلم ، ونسبة العلم إلى الله أسلم .
[ ص: 456 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التين
قوله تعالى : وهذا البلد الأمين .
تقدم وجه الجمع بينه وبين قوله تعالى : لا أقسم بهذا البلد [ 90 ] .
قوله تعالى : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .
هذه الآية الكريمة توهم أن الإنسان ينكر أن ربه خلقه ، لما تقرر في فن المعاني من أن خالي الذهن من المتردد ، والإنكار لا يؤكد له الكلام ، ويسمى ذلك ابتدائيا ، والمتردد يحسن التوكيد له بمؤكد واحد ، ويسمى طلبيا ، والمنكر يجب التوكيد له بحسب إنكاره ، ويسمى إنكاريا .
والله تعالى في هذه الآية أكد إخباره بأنه خلق الإنسان في أحسن تقويم ، بأربعة أقسام ، وباللام ، وبقد ، فهي ستة تأكيدات ، وهذا التوكيد يوهم أن الإنسان منكر ، لأن ربه خلقه ، وقد جاءت آيات أخرى صريحة في أن الكفار يقرون بأن الله هو خالقهم ، وهي قوله : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : هو ما حرره علماء البلاغة من أن المقر ، إذا ظهرت عليه أمارة الإنكار ، جعل كالمنكر ، فأكد له الخبر ، كقول حجل بن نضلة :
جاء شقيق عارضا رمحه أن بني عمك فيهم رماح
فشقيق لا ينكر أن في بني عمه رماحا ، ولكن مجيئه عارضا رمحه ، أي جاعلا عرضه جهتهم من غير التفات إمارة ، أنه يعتقد أن لا رمح فيهم ، فأكد له الخبر ، فإذا حققت ذلك ، فاعلم أن الكفار لما أنكروا البعث ، ظهرت عليهم أمارة إنكار الإيجاد [ ص: 457 ] الأول ، لأن من أقر بالأول لزمه الإقرار بالثاني ، لأن الإعادة أيسر من البدء ، فأكد لهم الإيجاد الأول .
ويوضح هذا أن الله بين أنه المقصود بقوله : فما يكذبك بعد بالدين [ 95 \ 7 ] ، أي ما يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالبعث والجزاء ، بعد علمك أن الله أوجدك أولا ، فمن أوجدك أولا قادر على أن يوجدك ثانيا ، كما قال تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة الآية [ 36 \ 79 ] ، وقال : كما بدأنا أول خلق نعيده الآية [ 21 \ 104 ] ، وقال : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ 30 \ 27 ] وقال : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] .
والآيات بمثل هذا كثيرة ، ولذا ذكر تعالى أن من أنكر البعث ، فقد نسي إيجاده الأول ، بقوله : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم [ 36 \ 78 ] ، وبقوله : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [ 19 \ 66 - 67 ] .
وقال البعض : معنى : فما يكذبك ، فمن يقدر على تكذيبك يا نبي الله بالثواب والعقاب بعدما تبين له أنا خلقنا الإنسان على ما وصفنا ، وهو في دلالته على ما ذكرنا كالأول ، فظهرت النكتة في جعل الابتدائي كالإنكاري .
الوجه الثاني : أن القسم شامل لقوله : ثم رددناه أسفل سافلين [ 95 \ 5 ] ، أي إلى النار ، وهم لا يصدقون بالنار بدليل قوله تعالى : هذه النار التي كنتم بها تكذبون [ 52 \ 14 ] .
وهذا الوجه في معنى قوله : أسفل سافلين أصح من القول بأن معناه الهرم ، والرد إلى أرذل العمر لكون قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون [ 95 \ 6 ] أظهر في الأول من الثاني ، وإذا كان القسم شاملا للإنكاري ، فلا إشكالا لأن التوكيد منصب على ذلك الإنكاري ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 458 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العلق
قوله تعالى : ناصية كاذبة خاطئة الآية .
أسند الكذب في هذه الآية الكريمة إلى ناصية هذا الكافر ، وهي مقدم شعر رأسه ، مع أنه أسنده في آيات كثيرة إلى غير الناصية كقوله : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون [ 16 \ 105 ] .
والجواب ظاهر ، وهو أنه هنا أطلق الناصية ، وأراد صاحبها على عادة العرب في إطلاق البعض وإرادة الكل ، وهو كثير في كلام العرب ، وفي القرءان ، فمن أمثلته في القرءان هذه الآية الكريمة ، وقوله تعالى : تبت يدا أبي لهب [ 111 ] ، يعني أبا لهب ، وقوله : ذلك بما قدمت أيديكم [ 3 \ 182 ] يعني بما قدمتم . ومن ذلك تسمية العرب الرقيب عينا ، وقوله : " خاطئة " ، ، لا يعارضه قوله تعالى : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به [ 33 \ 5 ] ، لأن الخاطئ هو فاعل الخطيئة أو الخطء بكسر الخاء ، وكلاهما الذنب ، كما بينه قوله تعالى : مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا [ 71 \ 25 ] . وقوله : إن قتلهم كان خطئا كبيرا [ 17 \ 31 ] .
فالخاطئ المذنب عمدا ، والمخطئ من صدر منه الفعل من غير قصد ، فهو معذور .
[ ص: 459 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القدر
قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة القدر .
لا تعارض بينه وبين قوله تعالى : إنا أنزلناه في ليلة مباركة [ 44 \ 3 ] ، لأن الليلة المباركة هي ليلة القدر ، وهي من رمضان بنص قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن [ 2 \ 185 ] ، فما يزعمه كثير من العلماء من أن الليلة المباركة ليلة النصف من شعبان ، ترده هذه النصوص القرآنية .
والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 460 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الزلزلة
قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
هذه الآية الكريمة تقتضي أن كل إنسان كافرا كان أو مسلما يجازى بالقليل من الخير والشر .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف هذا العموم ، أما ما فعله الكافر من الخير ، فالآيات تصرح بإحباطه ، كقوله : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون [ 11 \ 16 ] ، وقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا [ 25 \ 23 ] ، وكقوله : أعمالهم كرماد الآية [ 14 \ 18 ] وقوله : أعمالهم كسراب بقيعة الآية [ 24 \ 39 ] إلى غير ذلك من الآيات .
وأما ما عمله المسلم من الشر ، فقد صرحت الآيات بعدم لزوم مؤاخذته به ، لاحتمال المغفرة أو لوعد الله بها . كقوله : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، [ 4 \ 48 ] وقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم [ 4 \ 31 ] إلى غير ذلك من الآيات .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن الآية من العام المخصوص ، والمعنى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، إن لم يحبطه الكفر بدليل آيات إحباط الكفر عمل الكفار : ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ، إن لم يغفره الله له بدليل آيات احتمال الغفران والوعد به .
الثاني : أن الآية على عمومها ، وأن الكافر يرى جزاء كل عمله الحسن في الدنيا ، كما يدل عليه قوله تعالى : نوف إليهم أعمالهم فيها الآية [ 11 \ 15 ] ، وقوله : [ ص: 461 ] ومن كان يريد حرث الدنيا الآية [ 42 \ 20 ] ، وقوله تعالى : ووجد الله عنده فوفاه حسابه [ 24 \ 39 ] والمؤمن يرى جزاء عمله السيئ في الدنيا بالمصائب والأمراض والآلام .
ويدل لهذا ما أخرجه الطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الشعب ، وابن أبي حاتم ، وجماعة عن أنس قال : بينا أبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه : فمن يعمل مثقال ذرة الآية ، فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر - الحديث .
الوجه الثالث : أن الآية أيضا على عمومها ، وأن معناها أن المؤمن يرى كل ما قدم من خير وشر ، فيغفر الله له الشر ويثيبه بالخير ، والكافر يرى كل ما قدم من خير وشر ، فيحبط ما قدم من خير ويجازيه بما فعل من الشر .
[ ص: 462 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العاديات
قوله تعالى : إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد الآية .
هذه الآية تدل على أن الإنسان شاهد على كنود نفسه ، أي مبالغته في الكفر .
وقد جاءت آيات أخر تدل على خلاف ذلك ، كقوله : وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا [ 18 \ 104 ] ، وقوله : ويحسبون أنهم مهتدون [ 43 \ 37 ] ، وقوله : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون [ 39 \ 47 ] .
والجواب عن هذا من ثلاثة أوجه :
الأول : أن شهادة الإنسان بأنه كنود ، هي شهادة حاله بظهور كنوده ، والحال ربما تكفي عن المقال .
الثاني : أن شهادته على نفسه بذلك يوم القيامة ، كما يدل له قوله : وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين [ 6 \ 130 ] ، وقوله : فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير [ 67 \ 11 ] ، وقوله : قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين [ 39 \ 71 ] .
الوجه الثالث : أن الضمير في قوله : وإنه على ذلك لشهيد ، راجع إلى رب الإنسان المذكور في قوله : إن الإنسان لربه لكنود وعليه فلا إشكال في الآية ، ولكن رجوعه إلى الإنسان أظهر ، بدليل قوله : وإنه لحب الخير لشديد [ 100 \ 8 ] .
والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 463 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعة
قوله تعالى : وأما من خفت موازينه فأمه هاوية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الهاوية وصف لا علم للنار ، إذ تنوينها ينافي كونها اسما من أسماء النار ، لأنها على تقدير كونها من أسماء النار ، يلزم فيها المنع من الصرف للعلمية والتأنيث . وقوله تعالى :وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 10 - 11 ] ، يدل على أن الهاوية من أسماء النار .
اعلم أولا : أن في معنى قوله تعالى : فأمه هاوية ثلاثة أوجه للعلماء : اثنان منها لا إشكال في الآية عليهما ، والثالث : هو الذي فيه الإشكال المذكور .
أما اللذان لا إشكال في الآية عليهما ، فالأول منهما أن المعنى : فأمه هاوية أي أم رأسه هاوية في قعر جهنم ، لأنه يطرح فيها منكوسا رأسه أسفل ورجلاه أعلى ، وروي هذا القول عن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم ، وعلى هذا القول فالضمير في قوله : وما أدراك ما هيه ، عائد إلى محذوف ، دل عليه المقام ، أي أم رأسه هاوية في نار ، وما أدراك ما هيه نار حامية .
والثاني : أنه من قول العرب إذا دعوا على الرجل بالهلكة ، قالوا : هوت أمه ، لأنه إذا هوى ، أي سقط وهلك ، فقد هوت أمه ثكلا وحزنا ، ومن هذا المعنى قول كعب بن سعد الغنوي :
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يرد الليل حين يؤوب
وهذا القول رواية أخرى عن قتادة ، وعلى هذا القول فالضمير في قوله : " هيه " للداهية التي دل عليها الكلام ، وذكر الألوسي في تفسيره أن صاحب الكشاف قال : إن هذا القول أحسن ، وأن الطيبي قال : إنه أظهر ، وقال هو : وللبحث فيه مجال .
[ ص: 464 ] الثالث : الذي فيه الإشكال ، أن المعنى فأمه هاوية ، أي مأواه الذي يحيط به ، وبضمه هاوية ، وهي النار لأن الأم تؤوي ولدها وتضمه ، والنار تضم هذا العاصي ، وتكون مأواه .
والجواب على هذا القول ، هو ما أشار له الألوسي في تفسيره من أنه نكر الهاوية في محل التعريف لأجل الإشعار بخروجهم عن المعهود للتفخيم والتهويل ، ثم بعد إبهامها لهذه النكتة ، قررها بوصفها الهائل بقوله : وما أدراك ما هيه نار حامية .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الجواب الذي ذكره الألوسي يدخل في حد نوع من أنواع البديع المعنوي يسميه علماء البلاغة التجريد ، فحد التجريد عندهم هو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه ، وأقسامه معروفة عند البيانيين ، فمنه ما يكون التجريد فيه بحرف ، نحو قولهم : لي من فلان صديق حميم ، أي بلغ من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه ، وقولهم : لئن سألته لتسألن به البحر ، بالغ في اتصافه بالسماحة ، حتى انتزع منه بحرا في السماحة ، ومن التجريد بواسطة الحرف قوله تعالى : لهم فيها دار الخلد [ 41 \ 28 ] ، وهو أشبه شيء بالآية التي نحن بصددها ، لأن النار هي دار الخلد بعينها ، لكنه انتزع منها دارا أخرى ، وجعلها معدة في جهنم للكفار تهويلا لأمرها ، ومبالغة في اتصافها بالشدة ، ومن التجريد ما يكون من غير توسط الحرف ، نحو قول قتادة بن سلمة الحنفي :
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني نفسه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه ، فإذا عرفت هذا فالنار سميت الهاوية لغاية عمقها ، وبعد مهواها ، فقد روي أن داخلها يهوي فيها سبعين خريفا ، وخصها البعض بالباب الأسفل من النار ، فانتزع منها هاوية أخرى مثلها في شدة العمق ، وبعد المهوى مبالغة في عمقها ، وبعد مهواها ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 465 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العصر
قوله تعالى : والعصر إن الإنسان لفي خسر .
هذه الآية الكريمة يدل ظاهرها على أن هذا المخبر عنه أنه في خسر ، إنسان واحد ، بدليل إفراد لفظة الإنسان ، واستثناؤه من ذلك الإنسان الواحد لفظا .
قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات [ 103 \ 3 ] ، يقتضي أنه ليس إنسانا واحدا .
والجواب عن هذا : هو أن لفظ الإنسان ، وإن كان واحدا فالألف واللام للاستغراق يصير المفرد بسببهما صيغة عموم ، وعليه فمعنى أن الإنسان أي أن كل إنسان لدلالة " أل " الاستغراقية على ذلك .
والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 466 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الماعون
قوله تعالى : فويل للمصلين الآية .
هذه الآية يتوهم منها الجاهل أن الله توعد المصلين بالويل ، وقد جاء في آية أخرى أن عدم الصلاة من أسباب دخول سقر ، وهي قوله تعالى : ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين [ 74 \ 42 - 43 ] .
والجواب عن هذا في غاية الظهور ، وهو أن التوعد بالويل منصب على قوله : الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون الآية [ 107 \ 5 - 6 ] ، وهم المنافقون على التحقيق ، وإنما ذكرنا هذا الجواب مع ضعف الإشكال ؛ وظهور الجواب عنه لأن الزنادقة الذين لا يصلون يحتجون لترك الصلاة بهذه الآية .
وقد سمعنا من ثقات وغيرهم : أن رجلا قال لظالم تارك للصلاة : ما لك لا تصلي ؟ فقال لأن الله توعد على الصلاة بالويل في قوله فويل للمصلين ، فقال له : اقرأ بعدها ، فقال لا حاجة لي فيما بعدها فيها كفاية في التحذير من الصلاة ، ومن هذا القبيل قول الشاعر :
دع المساجد للعباد تسكنها وسر إلى حانة الخمار يسقينا ما قال ربك ويل للأولى سكروا
وإنما قال ويل للمصلينا
فإذا كان الله تعالى توعد بالويل المصلي الذي هو ساه عن صلاته ويرائي فيها ، فكيف بالذي لا يصلي أصلا ، فالويل كل الويل له وعليه لعائن الله إلى يوم القيامة ما لم يتب .
[ ص: 467 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكافرون
قوله تعالى : ولا أنتم عابدون ما أعبد .
يدل بظاهره على أن الكفار المخاطبين بها لا يعبدون الله أبدا مع أنه دلت آيات أخر على أن منهم من يؤمن بالله تعالى كقوله : ومن هؤلاء من يؤمن به الآية [ 29 \ 47 ] .
والجواب من وجهين :
الأول : أنه خطاب لجنس الكفار وإن أسلموا فيما بعد فهو خطاب لهم ما داموا كفارا ، فإذا أسلموا لم يتناولهم ذلك ، لأنهم حينئذ مؤمنون لا كافرون وإن كانوا منافقين فهم كافرون في الباطن فيتناولهم الخطاب ، واختار هذا الوجه أبو العباس ابن تيمية .
الثاني : هو أن الآية من العام المخصوص وعليه فهي في خصوص الأشقياء المشار إليهم بقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك الآية [ 10 \ 96 ] ، كما تقدم نظيره مرارا .
[ ص: 468 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الناس
قوله تعالى : من شر الوسواس الخناس .
لا يخفى ما بين هذين الوصفين اللذين وصف بهما هذا اللعين الخبيث من التنافي ، لأن الوسواس كثير الوسوسة ليضل بها الناس ، والخناس كثير التأخر والرجوع عن إضلال الناس .
والجواب أن لكل مقام مقالا ، فهو وسواس عند غفلة العبد عن ذكر ربه ، خناس عند ذكر العبد ربه تعالى ، كما دل عليه قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين الآية [ 43 36 ] .
وقوله تعالى : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا الآية [ 16 \ 99 ] .
وقد تم بحمد الله تعالى ما أردنا جمعه بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونرجو الله تعالى أن يوفقنا وإخواننا المسلمين في الأقوال والأفعال وأن يجعل سعينا خالصا لوجهه الكريم إنه قريب مجيب ، آمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:45 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (636)
ترجمة للشيخ رحمه الله
صـ 469 إلى صـ 475
[ ص: 469 ] ترجمة للشيخ رحمه الله
في محاضرة ألقيت موسم ثقافات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
ألقاها وأعدها تلميذه عطية محمد سالم
عن صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله
بقلم : الشيخ عطية محمد سالم القاضي بالمحكمة الشرعية بالمدينة
[ ص: 470 ] [ ص: 471 ] الحمد لله المستحق لصفات الجلال وكمال الأسماء ، المتفرد بالدوام وبالبقاء . خلق الخلق من عدم وقضى عليهم بالموت والفناء . وجعل الدنيا مزرعة الآخرة ، وحصادها الثواب والجزاء ، واختار من عباده رسلا يبلغون عنه ، فهم بينه وبين خلقه وسطاء ، واصطفى - خاتمهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهو صفوة الأصفياء ، بعثه رحمة للعالمين ، فجاء بالحنيفية السمحاء ، أطل فجرها بمكة من قمة حراء .
وأشرقت شمس نهارها بطيبة الفيحاء . ظلت مهاجر صحبه في ألفة ووفاء ، فتحمل الصحب الكرام تراثه - ما ورثوه منه هداية وضياء - وورثوه من بعدهم توريث الآباء للأبناء . وغدت المدينة مشرقة أنوارها يشع منها للعالم نور وسناء . وتوالت الأجيال تلو أجيال إنتاجها للعالم صفوة العلماء ممن قاموا لله حقا ، وأخلصوا لله صدقا ، ونشروا العلم في عفة وإباء ، نهلوا من المنهل الصافي من منبعه ، قبل أن يخالطه الترب أو تكدره الدلاء ، في مهبط الوحي محط رحالهم ، وفي الروضة غدوهم ورواحهم في غبطة وهناء .
درسوا كتاب الله حكما وحكمة ، حتى غدت آياته لمرضى الصدور شفاء ، وتكشفت حجب المعاني فانجلت من تحتها أشمس وضياء .
وترسموا سنن النبي محمد ، وكذاك سنة الخلفاء ، وكذا الصحابة والتابعون فإنهم لهم بهم أسوة واقتداء ، فهم النجوم في ليل السرى ، وهم الهداة لطالب الهدى وأدلاء ، وهم الأئمة قدوة الأمة وعلى الدين أمناء .
ونحن بالمدينة وفي هذا الجوار الكريم أشد إحساسا بمكانة العلم ومنزلة العلماء ، وأسرع فرحا بهم وأشد حزنا على موتهم ، وألما لفراقهم ، إن في موت العلماء لغربة للغرباء .
ولا شك أن هذه الآلام تزداد ، وهذا الحزن يشتد أكثر وأكثر حينما نكون قد عرفنا هذا العالم أو عاصرناه ، ولمسنا فضله واستفدنا علمه .
وهذا القدر كنا فيه سواء نحو علماء المسلمين عامة ، وشيخنا الأمين خاصة .
وإني كأحد أبنائه ومن جملة تلاميذه أقف اليوم معزيا متعزيا ، ومترجما مترحما ، [ ص: 472 ] وقد عظم المصاب وعز فيه العزاء ، وأقول ما قد قلته على البديهة ، عندما سألني سائل من هذا نعزيه في الشيخ ، فقلت هذه الأبيات :
أقول للسائل لما سأل من ذا نعزي فيما نزل كل من لاقيت فعزه
وابدأ بنفسك في الأول عز الجميع بموته
وأعلمه أن الخطب جلل موت العالم رزء العالم
في موته يأتي الخلل لو نزل الرزء بقمة
فوق الجبال لهد الجبل خير التعازي في أننا
نرد إلى الله عز وجل
ولو استحق أحد العزية لشخصه لاستحقها ثلاثة أشخاص : الشيخ عبد العزيز بن باز لزمالته 21 سنة وما له عنده من منزلة ، والشيخ عبد العزيز بن صالح أول من عرفه وتسبب في جلوسه ، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد الرحمن لمحبته وتقديره .
نعم أقف معزيا متعزيا مترجما مترحما كما قال القاضي عياض عن بعض مشايخه : " ما لكم تأخذون العلم عنا وتستفيدون منا ، ثم تذكروننا فلا تترحمون علينا " ، إنه ربط أصيل بين العلم والعالم ، وتنبيه أكيد على أن الاعتراف بفضل العالم شكر وتقدير لنفس العلم .
رحم الله شيخنا رحمة واسعة ، ورحم الله علماء المسلمين في كل زمان ومكان .
وقد قام الخلف بحق السلف في حفظ تاريخهم بالترجمة لهم خدمة لتراثهم وإحياء لذكراهم وما أثر عن السخاوي أنه قال : " من ورخ مؤمنا فكأنما أحياه " . أي من ترجم له وأرخه . وها هم علماء الأمة يعايشون كل جيل بسيرتهم وتاريخهم في أمهات الكتب .
وإني لأعتقد حقا أن تراجم الرجال مدارس الأجيال ، أي في علومهم ومعالم حياتهم .
وإن مثل شيخنا الأمين رحمه الله لحقيق بترجمته والاستفادة من منهج حياته في تعلمه وتعليمه .
[ ص: 473 ] وإني لأستعين الله فيما أقدم وأستلهمه فيما أقول :
إلى رحمة الله وحسن جواره
فقيد العلم يا علم الرجال ، نعاك العلم في حلق السؤال
. نعم فقيد الدرس يا علم الرجال ، نعاك الدرس في فصل المقال
انتقل إلى رحمة الله وحسن جواره صاحب الفضيلة وعلم الأعلام الشيخ الجليل الإمام الهمام ، زكي النفس ، رفيع المقام ، كريم السجايا ، ذو الخلق الرزين ، عف المقال ، حميد الخصال ، التقي الأمين ، والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي . توفي ضحى يوم الخميس 17 \ 12 \ 93 هـ وكانت وفاته بمكة المكرمة مرجعه من الحج ، ودفن بمقبرة المعلاة ، وصلى عليه سماحة رئيس الجامعة الإسلامية فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في الحرم المكي ، مع من حضر من المسلمين بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم .
وفي ليلة الأحد 20 \ 12 أقيمت عليه صلاة الغائب بالمسجد النبوي وصلى عليه صاحب الفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح آل صالح إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس الدائرة الشرعية بالمدينة ، ومحاكم منطقة المدينة بعد صلاة العشاء مباشرة ، وصلى عليه من حضر من الحجاج ما لا يحصى عددا .
ومن غريب الصدف وحسن التفاؤل أن يقرأ الإمام في صلاة العشاء قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ، إلى آخر السورة .
وفي الركعة الثانية : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا .
وقد سألت فضيلته عن هذه القراءة أهو قاصد لهذه الآيات ومختار لها ، أم جاءت عفوا ؟ فقال حفظه الله : بل عفوا ، لملاحظة عليها ؟ قلت : إنها من أغرب الصدف ، لأنك صليت على الشيخ الأمين رحمه الله بعدها ، فظننت أنك قصدت إليها . ولكنه من المناسبات الحسنة ، تغمد الله الفقيد برحمته وأسكنه فسيح جنته إنه جواد كريم رءوف رحيم ، كما صلي عليه بالجامعة الإسلامية وفي مساجد الدوادمي .
[ ص: 474 ] مات رحمه الله تعالى بعد أن أحيا علوما درست ، وخلف تراثا باقيا ، وربى أفوجا متلاحقة تعد بالآلاف من خريجي كليات ومعاهد الإدارة العامة بالرياض ، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
ما مات إلا بعد أن أصبح له في كل دائرة من دوائر الحكومة في أنحاء البلاد ابنا من أبنائه ، وفي قطر إسلامي بعثة من البعثات الإسلامية لمنح الجامعة التعلمية بالمدينة المنورة .
ما مات إلا بعد أن ترك في كل مكتبة وفي كل منزل ( أضواء البيان ) تبدد الظلام وتهدي السبيل .
فلا يبعد ولا يعالي من يقول : ما مات من خلف هذا التراث ، وأدى تلك الرسالة في حياته ، يبقي أثرا خالدا على مر الأجيال والقرون .
لقد أدى رسالة عظمى ، وانتقل إلى الرفيق الأعلى ليحصد ما زرع ويجني ثمار ما غرس ، وينعم بما قدم رحمه الله رحمة واسعة .
لقد عاش رحمه الله في هذه البلاد منذ سنين حين قدم لأداء فريضة الحج ، ثم اعتزم المقام وعمل في كبريات معاهد العلم وجامعاته ، وألف وحاضر ، ولم تكتب عنه كلمة ولم يكن يرضى بالكتابة عنه . لقد كانت أعماله تترجم عنه ومؤلفاته تعرف به حتى عرفه الصغير والكبير والقاصي والداني ، والعالم والعامي ، فلم تكن وفاته رزءا على فرد أو أسرة أو جماعة أو قطر ، ولكن على العالم الإسلامي كله .
وما كتبت عنه سوى كلمة موجزة استقيتها منه رحمه الله عند طبع أول محاضرة له بالجامعة الإسلامية في آيات الصفات وطبعت في مقدمتها .
ومات رحمه الله ولم يكتب عنه أيضا إلا تعريف موجز بالنشأة والمولد وما إلى ذلك .
والآن وقد تحتمت الكتابة عنه لا تعريفا به ، فهو أعرف من أن يعرف ، فهو العلم الخفاق ، والطود الأشم ، والشمس المشرقة فليست الكتابة للتعريف ، ولكن لرسم خطاه وبيان منهجه ، مما سمعت منه رحمه الله ولمسته من حياتي معه المدة الطويلة . وإني [ ص: 475 ] لأسجل هذا عنه رحمه الله للقريب والبعيد ، لكل من عرفه عالما ولم يعرفه طالبا أو عرفه هنا ولم يعرفه هناك في بلاده ، فأقول أولا : إني لا أستطيع إيفاء المقام حقه لعظم مقامه رحمه الله وكبير منزلته ، وإن كل كتابة عن أي شخص تعتبر ذات جانبين :
جانب ترجمة له وبيان لحقيقته وتعريف بشخصه ومنزلته ، وجانب سيرته ومنهجه . بما يمكن أن يكون نهجا يسار عليه ومنهجا يقتدى به ومؤثرا يؤثر على غيره ممن أراد السير في سبيله والنسج على منواله ، والاستفادة من أقواله وأفعاله .
والكتابة عن أي شخص من هذين الجانبين تعتبر بمثابة شخصيته في إبراز صورته وبيان مكانته وفيها تقييمه في عظمته أو توسطه أو غير ذلك ، وأي عالم أو طالب علم فإن له شخصية مزدوجة ، في حياته العامة وسلوكه العام . وحياته الخاصة في طلب العلم ، ومنهجه في تحصيله ونشره ، والكتابة بهذا الاعتبار تكون عن الترجمة الشخصية ، والسيرة العلمية .
وقد مثلت المكتبات الإسلامية بتراجم وسير الأعلام من الرجال من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى عصور التدوين وامتدت إلى اليوم ، حفظا للتراث الإسلامي ، وتسجيلا للرعيل الأول ، ولم تكن الكتابة عن أي شخص وافية إلا بتعدد الكتاب عنه وتستخلص الحقيقة من مجموع ما كتب عنه ، لأن كل كاتب عن أي شخص لن يخلو من أحد أمور ثلاثة :
1 - إما موال متأثر : فقد يقع تحت تأثير العاطفة ، فينظر من زاوية واحدة . فيقال فيه
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
" .
2 - وإما زاوية معاد منفعل : فيقع تحت طائلة الانفعال فيصدق عليه تتمة البيت السابق : "
كما أن عين السخط تبدي المساويا
" .
3 - وإما بعيد معتدل : يرغب التقييم بميزان الاعتدال ومثل هذا قد يفوته ما لم يكن حريصا عليه ، بدون تقصير .
ومن هنا لم تكن كتابة كاتب عن إنسان ما مطابقة كل التطابق ومكتملة غاية الاكتمال .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:45 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (637)
ترجمة للشيخ رحمه الله
صـ 476 إلى صـ 482
وقد يتحرج الأصدقاء مخافة التهمة والتأثر بالألفة أو يتوقف الأعداء مكتفين [ ص: 476 ] بالإغضاء ، أو يتردد الآخرون خشية التقصير . ولهذا فقد تذهب الشخصية الفذة دون كتابة عنها فيفتقده الحاضرون ويفقد سيرته القادمون . علما بأن سيرة الرجال مدرسة الأجيال .
وفضيلة الوالد الشيخ محمد الأمين رحمه الله له شخصية متميزة وسيرة واضحة يعرفها كل من لقيه أو حضر مجلسه أو استمع درسه أو قرأ كتبه أو حتى سمع عنه . وقد طبقت شهرته الآفاق .
وإن الكتابة عن مثله رحمه الله لمن أشق ما يكون لتعدد جوانبه الشخصية وانفساح مجالاته العلمية والحال أنه لا مرجع لمن يكتب عنه إلا الخلطة وطول العشرة وتصيد الأخبار من ذويه الأخيار .
وحيث إن أحق الناس بالكتابة عنه هم تلامذته وأبناؤه ، وإني وإن كنت قد أكرمني الله بصحبته وطول ملازمته ليل نهار ، وكثرة مرافقته في الظعن والأسفار . داخل وخارج المملكة . وسمعت منه رحمه الله الشيء الكثير والكثير جدا ، فإني لأجدني تتجاذبني عوامل الإقدام والإحجام . فإذا استحضرت كل ما سمعته منه ، وتصورت كل ما لمسته فيه أجدني أحق الناس بالكتابة عنه .
وإذا تذكرت مكانته وتراءت لي منزلته وأحسست تأثيره على نفسي تلاشت من ذهني كل معاني الكتابة أمام تلك الشخصية المثالية وتراجعت بعيدا عن ميادين الكتابة عنه .
ولكن إذا كان كل كاتب لا يستطيع تقييم كل شخصية تقييما حقيقيا يدل على الشخص دلالة مطابقة ، وفي أسلوب المساواة . لا موجزا ولا مطنبا . إذا كان هذا حال كل كاتب مع كل شخص .
وإذا كان تلميذ الشيخ أحق بالكتابة عنه فما لي لا أدلي بدلوي بالدلاء ، وأعمل قلمي مع الأقلام ، وأبدي ما عندي سواء ما سمعته منه مباشرة أو عنه بواسطة ، أو لمسته من جوانب حياته وسيرته .
دون انطلاق مع العاطفة إلى حد الإطناب ، ودون إحجام مع الوجل والتهيب والوجل إلى حد الإيجاز . إنه لشيخي ، وأعز علي من والدي .
إنه حقا والدي حسا ومعنى ، لقد عشت في كنفه سنوات معه في بيته ، وقد يظلنا سقف واحد في غرفة واحدة أمدا طويلا .
[ ص: 477 ] وقد وجدت منه رحمه الله العناية والرعاية كأحد أبنائه كأشد ما يرعى الوالد ولده ، وقد أجد منه الإيثار على نفسه في كثير من أحيانه ، مما يطول ذكره ، ولا ينسى فضله .
وأعز من الإيثار ما منحني من العلوم والآثار ، والتوجيه الأدبي ، والفضل الخلقي ، والسمو النفسي ، في مجالسه وأحاديثه ، ودروسه من غير ما حد وبدون تقيد بوقت ، إذ كان رحمه الله كل مجالسه مجالس علم ، وكل أحاديثه أحاديث أدب وتوجيه ، ولم يكن يحتاج إلى تحضير لدرس ، ولا مراجعة لجواب على سؤال .
ولم يكن لي معه رحمه الله من وقت معين مع كثرة الإخوان الدارسين عليه المقيمين معه في بيته إلا وقت واحد هو ما بين المغرب والعشاء لمدة سنتين دراسيتين ونحن بالرياض . قرأت في خلالهما تفسير سورة البقرة .
كانت تلك الدراسة عليه رحمه الله هي رأس مالي في جل تحصيلي ، وعليها أساس دراستي الحقيقية سواء في المقررات أو غيرها . لأن فيها جميع أبواب الفقه . وعلى مباحثها تنطبق جل قواعد الأصول . ولا يبعد من يقول إن ما بعدها من السور يعتبر تفسيرا لها ، أو أن من أتقن تفسيرها سهل عليه تفسير ما بعدها . وقد كانت دراستها سببا في تأليف كتابي دفع إيهام الاضطراب ، وأضواء البيان . وكل منهما إثر سؤال وجواب .
مع ما درست من الأصول ومبادئ في المنطق ودقائق في البلاغة وغير ذلك .
لقد وجدت منه رحمه الله ما لم أجده من غيره على الإطلاق ، كما وأظن أن أحدا لم يجد منه ما وجدته أنا منه . فلئن شرفت بخدمته فلقد حظيت بصحبته . فجزاه الله عني أحسن الجزاء .
وإن صاحب مثل هذه العلاقة مع مثل هذه الشخصية ليحس بثقل ديونه على كاهله ، ويلمس عظم المنة تطوق عنقه . فهل أستطيع توفية هذا الجانب فحسب ، فضلا عن الجوانب العامة التي هي موضوع الترجمة والسيرة ، وهل يتأتى مني الإحجام عن الكتابة وأنا مدين بمثل تلك الديون ، مكبل بتلك المنن مما يجعلني أحق بقول القائل :
كليني لهم يا أميمة ناصب وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وصدر أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانب
[ ص: 478 ] علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
ولئن قيل :
وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر لا أتضعضع
فإني لأقول :
وتجلدي للسامعين أريهمو شمس الحقيقة من سناء تطلع
وإني ملزم بالكتابة لو تأثرت بالعاطفة فإني معذور .
وإن قصرت عن حقه فلا عذر لي في التقصير .
وإني لأعتبر ما أقدمه بداية لا نهاية وتذكرة للآخرين من حاضرين وغائبين ، لعلهم يتمون ما بقي ، ويكملون ما نقص .
وإذا كانت التراجم والسير تنقسم إلى ذاتية وغير ذاتية . والذاتية هي ما يكتبها الشخص عن نفسه من طفولته إلى رجولته . ويسجل ما جرى له وعليه . وهي أصدق ما تكون إن كان صاحبها معتدلا أمينا .
وقد ترجم بعض العلماء والفلاسفة لأنفسهم منهم :
1 - ابن سينا المتوفى سنة 428 كانت ترجمته لنفسه مرجعا لكل من كتب عنه من تلاميذه .
2 - والعماد الأصفهاني المتوفى سنة 597 في مقدمة كتابه " البرق الشامي " .
3 - وابن الخطيب المتوفى سنة 776 .
4 - وابن خلدون المتوفى سنة 805 ، والسيوطي وغيرهم .
والترجمة غير الذاتية ما يكتب غيره عنه .
وإن ما أقدمه في هذا المجال ليجمع بين القسمين الذاتي ، وغير الذاتي ، لأنه يشتمل على ما قاله هو عن نفسه وسمعته منه مباشرة . كما تشتمل على ما عرفته ولمسته من حياته مدة صحبتي له .
[ ص: 479 ] والله أسأل أن يجعل من سيرته خير قدوة لتلامذته ، وأن يجعل في ولديه خير خلف لخير سلف . وأن يأجرنا في مصيبتنا ويخلفنا خيرا منها ، ونسأله تعالى أن يتغمده بوافر رحمته ويسكنه فسيحه جنته ، وأن يجزل له العطاء ويجزيه أحسن الجزاء عما بذله من جهد ، وخلفه من علم . إنه جواد كريم ( إن أول ما يبدأ به في مثل هذا المقام لهو الاسم واللقب والنسب والنشأة والموطن ) . . إلخ .
وهذه ترجمته رحمه الله كما سمعتها منه مباشرة :
الاسم : هو محمد الأمين وهو علم مركب من اسمين ، وذكر محمد تبرك .
واللقب : آبا بمد الهمزة وتشديد الباء من الإباء .
واسم أبيه : محمد المختار بن عبد القادر بن محمد بن أحمد نوح بن محمد بن سيدي أحمد بن المختار من أولاد الطالب أو بك وهذا من أولاد أولاد كرير بن الموافي بن يعقوب بن جاكن الأبر ، جد القبيلة الكبيرة المشهورة المعروفة بالجكنيين . ويعرفون بتجكانت .
نسب القبيلة : ويرجع نسب هذه القبيلة إلى حمير . كما قال الشاعر الموريتاني محمد فال ولد العينين مستدلا بفصاحتهم على عروبتهم :
إنا بنو حسن دلت فصاحتنا أنا إلى العرب الأقحاح ننتسب إن لم تقم بينات أننا عرب
ففي " اللسان " بيان أننا عرب انظر إلى ما لنا من كل قافية
لها تنم شذور الزبرج القشب
وبين شاعر آخر مرجع تلك القبيلة إلى حمير بقوله :
يا قائلا طاعنا في أننا عرب قد كذبتك لنا لسن وألوان
وسم العروبة باد في شمائلنا وفي أوائلنا عز وإيمان
آساد حمير والأبطال من مضر حمر السيوف فما ذلوا ولا هانوا
لقد كانت خصائص العروبة ومميزاتها موفورة لدى الشيخ رحمه الله ، ولدى أهله وذويه في النظم والنثر ، كما توفرت العلوم والفنون في بيته وقبيلته . وقد بين أحد [ ص: 480 ] شعرائهم أصالة العروبة فيهم وارتضاعهم إياها من أمهاتهم في قوله يخاطب من ينكرها عليهم :
لنا العروبة الفصحى وإنا أحق العالمين بها اضطلاعا
عن الكتب اقتبستموها انتفاعا بما فيها ونرضعها ارتضاعا
المولد : ولد رحمه الله في عام 1305 هـ .
الموطن : كان مسقط رأسه رحمه الله عند ماء يسمى ( تنبه ) من أعمال مديرية ( كيفا ) من القطر المسمى بشنقيط وهو دولة موريتانيا الإسلامية الآن .
علما بأن كلمة شنقيط كانت ولا تزال اسما لقرية من أعمال مديرية أصار في أقصى موريتانيا في الشمال الغربي .
نشأته رحمه الله : وقبل الحديث عن نشأته يحسن إيجاز نبذة عن البيئة في تلك البلاد .
تعتبر الحياة الاجتماعية في تلك البلاد بحسب المواطنين قسمين : عرب وعجم والعربية لغة الجميع .
أما العمل : فالعجم أكثر أعمالهم الزراعة والصناعة وسلالتهم من الزنوج .
وأما العرب فقسمان : طلبة وغير الطلبة . والطلبة من يغلب عليهم طلب العلم والتجارة ، وغيرهم من يغلب عليهم التجارة والإغارة . وهم قبائل عدة ، ومن القبائل من يغلب عليها الطلب ، ومنها من يغلب عليها الإغارة والقتال .
وقبيلة الجكنيين خاصة قد جمعت بين طلب العلم ، وفروسية القتال . مع عفة عن أموال الناس ، وفي هذا الجو كان طلب العلم على قدم وساق سواء في حلهم أو ترحالهم ، كما قال بعض مشايخهم العلامة المختار بن بونا :
ونحن ركب من الأشراف منتظم أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة بها نبين دين الله تبيانا
أما كرم الطبع فهذا سجية في جميعهم وأمر يشب فيه الصغير ، ويشيب عليه الكبير وقد ألفوا الضيف لنجعة منازلهم ، ومن عاداتهم إذا نزل وفد على بيت ، فإن أهل هذا [ ص: 481 ] المنزل يرسلون لأهل بيت المضيف مما عندهم قل أو كثر مشاركة في قرى الضيف وتعاونا مع المضيف حتى لو كان معدما غدا واجدا ، ويرحل الوفد وهو في غاية الرضا . وهكذا ليك .
وفي هذا الجو وتلك البيئة نشأ رحمه الله كما سمعته يقول : توفي والدي وأنا صغير أقرأ في جزء عم ، وترك لي ثروة من الحيوان والمال ، وكانت سكناي في بيت أخوالي وأمي ابنة عم أبي ، وحفظت القرءان على خالي عبد الله بن محمد المختار بن إبراهيم بن أحمد نوح جد الأب المتقدم .
طلبه للعلم : حفظ القرءان في بيت أخواله على خاله عبد الله كما تقدم ، وعمره عشر سنوات .
قال رحمه الله : ثم تعلمت رسم المصحف العثماني ( المصحف الأم ) عن ابن خالي سيدي محمد بن أحمد بن محمد المختار ، وقرأت عليه التجويد في مقرأ نافع برواية ورش من طريق أبي يعقوب الأزرق وقالون من رواية أبي نشيط ، وأخذت عنه سندا بذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذلك وعمري ستة عشر سنة .
أنواع الدراسة في القرءان : تعتبر الدراسة في علوم القرءان منهجا متكاملا لا تقتصر على الحفظ والأداء ، بل تتناول معرفة رسم المصحف أي نوع كتابته ما كان موصولا أو مفصولا ، وما رسم فيه المد أو كان يمد بدون وجود حرف المد ، وقد يكون حرفا صغيرا أو نحو ذلك .
ثم ضبط ما فيه من منشأيه في الرسم أو التلاوة . ومن المشهور عندهم في هذا رجز ( محمد بن بوجه ) المشهور المعروف بالبحر ، تعرض فيه لكل كلمة جاءت في القرءان مرة واحدة أو مرتين أو ثلاث مرات إلى سبع وعشرين مرة أي من الكلمات المشتبهة ، وأفرد كل عدد بفصل فمثلا : كلمة ( أعينهم ) بالرفع جاءت ثلاث مرات قال فيها :
أعينهم بالرفع من غير حضور من بعد كانت وتولت وتدور
ومن الثنائي : كلمة ( الأشياع ) بالعين قال فيه :
أشياع بالعين فهل من مدكر في سبإ من قبل بأنهم ذكر
[ ص: 482 ] وقد درس هذا كله في طفولته ، وكانت له زيادة نظم على ذلك تذييلا لزيادة الفائدة ، كما قال : على البيت الأخير مبينا حركاته وإعرابه :
في سورة القمر خاطب وانصبا وجله وغيبته في سبأ
أي في سورة القمر تكون تلاوتها الخطاب والنصب ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر .
وفي سورة سبأ تكون تلاوتها بالغيبة والجر كما فعل بأشياعهم وهذه دراسة لا تكاد توجد إلا ما شاء الله ، وهي من المهام العلمية لحفظها رسم القرءان من التغيير والتبديل وهي من آثار تعهد الله بحفظ هذا القرءان المنزل من عنده سبحانه .
ثم قال رحمه الله : وفي أثناء هذه القراءة درست بعض المختصرات في فقه مالك كرجز الشيخ ابن عاشر ، وفي أثنائها أيضا درست دراسة واسعة في الأدب على زوجة خالي أم ولد الخال أي أن ولد خاله يعلمه العلوم الخاصة بالقرآن ، وأمه تعلمه الأدب ، قال : أخذت عنها مبادئ النحو كالأجرومية وتمرينات ودروس واسعة في أنساب العرب وأيامهم ، والسيرة النبوية ، ونظم الغزوات لأحمد البدوي الشنقيطي وهو يزيد على 500 بيت وشروحه لابن أخت المؤلف المعروف بحماد ، ونظر عمود النسب للمؤلف وهو يعد بالآلاف ، وشرحه لابن أخته المذكور على خصوص العدنانيين ، لأنه مات قبل شرح ما يتعلق بالقحطانيين .
هذه دراسة في علوم القرءان والأدب والسير والتاريخ كانت في بيت أخواله على أخواله وأبناء أخواله وزوجات أخواله ، أي كان بيت أخواله المدرسة الأولى إليه . أما بقية الفنون فقال :
أولا : الفقه المالكي ، وهو المذهب السائد في البلاد درست مختصر خليل - بدأ دراسته فيه على الشيخ محمد بن صالح إلى قسم العبادات - ثم درس عليه النصف من ألفية ابن مالك . ثم أخذ بقية الفنون على مشايخ متعددة ، في فنون مختلفة ، وكلهم من الجكنيين ومنهم مشاهير العلماء في البلاد منهم :
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:46 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (638)
ترجمة للشيخ رحمه الله
صـ 483 إلى صـ 489
[ ص: 483 ] 1 - الشيخ محمد بن صالح المشهور بابن أحمد الأفرم .
2 - والشيخ أحمد الأفرم بن محمد المختار .
3 - والشيخ العلامة أحمد بن عمر .
4 - والفقيه محمد النعمة بن زيدان .
5 - والفقيه الكبير أحمد بن مود .
6 - والعلامة المتبحر في الفنون أحمد فال بن آده .
وغيره من المشايخ الجكنيين .
قال رحمه الله : وقد أخذنا عن هؤلاء المشايخ كل الفنون : النحو ، والصرف ، والأصول ، والبلاغة . وبعض التفسير والحديث .
أما المنطق وآداب البحث والمناظرة فقد حصلناه بالمطالعة .
هذا ما أملاه علي رحمه الله وسجلته عنه .
علما بأن الفن الذي درسه على المشايخ أو مطالعة من الكتب ، لم يقتصر في تحصيله على دراسته ، بل كان دائما يديم النظر ويواصل التحصيل حتى غدا في كل منه كأنه متخصص فيه ، بل وله في كل منه اجتهادات ومباحث مبتكرة ، سنلم بها إن شاء الله عند إيراد المنهج العلمي لدراسته وآثاره العلمية .
منهجه العلمي في الدراسة :
وقبل إيراد المنهج العلمي له رحمه الله في دراسته ، نلم بالمنهج العام السائد في بلاده لكافة طلبة العلم وطريقة تحصيله .
تعتبر طريقة الدراسة في تلك البلاد جزءا من حياة البوادي حلا وارتحالا . وإذا أقام أحد المشايخ في مكان توافد عليه الطلاب للدراسة عليه ومكث حتى يأخذوا عنه ، وقد يقيم بصفة دائمة لدوام الدراسة عليه ، ويقال له " المرابط " نظرا لإقامته الدائمة لنشر العلم .
[ ص: 484 ] ولا يأخذ المرابط من طلابه شيئا وإن كان ذا يسار ساعد المحتاجين من طلابه ، وقد يساعد أهل ذاك المكان الغرباء من الطلاب .
فينزلون حول بيته ويبنون لهم خياما أو مساكن مؤقتة . ويكون لهم مجلس علم للدرس والمناقشة والاستذكار .
وقد يكون المرابط مختصا بفن واحد ، وقد يدرس عدة فنون . فإذا كان مختصا بفن واحد فإن دروسه تكون في هذا الفن موزعة في عدة أماكن منه بحسب مجموعات الطلاب ، فقد تكون مجموعة في البداية منه ، ومجموعة في النهاية وأخرى في أثنائه وهكذا . فتتقدم كل مجموعة على حدة فتدرس على الشيخ ، ثم تأتي المجموعة الأخرى وهكذا .
وإذا كان يدرس عدة فنون ، فإنه يقسم طلاب كل فن على النحو المتقدم .
إفراد الفنون : ولا يحق لطالب أن يجمع بين فنين في وقت واحد ، بل يدرس فنا حتى يكمله كالنحو مثلا ، ثم يبدأ في البلاغة حتى يكلمها . وهكذا يبدأ مثلا في الفقه حتى يفرغ منه ثم يبدأ في الأصول حتى يكمله . سواء درسها على عدة مشايخ أو على شيخ واحد .
طريقة الدراسة اليومية : يبدأ الطالب بكتابة المتن في اللوح الخشبي فيكتب قدر ما يستطيع حفظه ، ثم يمحوه ، ثم يكتب قدرا آخر حتى يحفظ مقرأ من الفن حسب التقسيم المعهود . فمثلا النحو ، تعتبر الألفية أربعة مقارئ ، ويعتبر متن خليل في الفقه نحوا من ذلك .
فإذا حفظ الطالب مقرأ من الفن تقدم للدراسة فيشرحه له الشيخ شرحا وافيا بقدر ما عنده من تحصيل ، دون أن يفتح كتابا ، أو يحضر في مرجع ثم يقوم هؤلاء للاستذكار فيما بينهم ومناقشة ما قاله الشيخ ، وقد يأخذون بعض الشراح لمقابلته على ما سمعوه أو يرجعون إلى بعض الحواشي ، ولا يجتازون ذاك المكان من الدرس حتى يروا أنهم قد حصلوا كل ما فيه . وليس عليهم من سرعة أو إنهاء كتاب بقدر ما عليهم من فهم وتحصيل ما في الباب ، وقد ذكروا عن بعض الطلاب ممن عرفوا بالذكاء والقدرة على التحصيل ، أنه كان لا يزيد في متن خليل على سطرين فقط . فقيل له لم لا تزيد وأنت قادر على [ ص: 485 ] التحصيل فقال : لأنني عجلان لأعود إلى أهلي ، فقالوا له : إن العجلان يزيد في حصته ، فقال أريد أن أتقن ما أقرأ حتى لا أحتاج إلى إعادة دراسته فأتأخر .
الحياة الدراسية :
دراسة الشيخ رحمه الله : على هذا المنهج كانت دراسة الشيخ رحمه الله ، إلا أنه تميز ببعض الأمور ، قل أن كانت لغيره ، نوجز منها كالآتي :
1 - في مبدأ دراسته : تقدم أنه أتيح له في بادئ دراسته ما لم يتح لغيره حيث كان بيت أخواله مدرسته الأولى ، فلم يرحل في بادئ أمره للطلب ، وكان وحيد والديه ، فكان في مكان التدلل والعناية .
2 - قال رحمه الله : كنت أميل إلى اللعب أكثر من الدراسة حتى حفظت الحروف الهجائية وبدأوا يقرئونني إياها بالحركات ، با فتحة با ، بي كسرة بي ، بو ضمة بو ، وهكذا ت د ث . فقلت لهم أو كل الحروف هكذا ؟ قالوا : نعم . فقلت : كفى إني أستطيع قراءتها كلها على هذه الطريق كي يتركونني فقالوا : اقرأها ، فقرأت بثلاثة حروف أو أربعة وتنقلت إلى آخرها بهذه الطريقة ، فعرفوا أني فهمت قاعدتها واكتفوا مني بذلك وتركوني . ومن ثم حببت إلي القراءة .
3 - وقال رحمه الله : ولما حفظت القرءان ، وأخذت الرسم العثماني ، وتفوقت فيه على الأقران عنيت بي والدتي وأخوالي أشد عناية ، وعزموا على توجيهي للدراسة في بقية الفنون . فجهزتني والدتي بجملين أحدهما عليه مركبي وكتبي ، والآخر عليه نفقتي وزادي ، وصحبني خادم ومعه عدة بقرات ، وقد هيأت لي مركبي كأحسن ما يكون من مركب وملابس كأحسن ما تكون فرحا بي وترغيبا لي في طلب العلم وهكذا سلكت سبيل الطلب والتحصيل .
تقوم الحياة الدراسية على أساس منع الكلفة وتمام الألفة سواء بين الطلاب أنفسهم أو بينهم وبين شيخهم مع كمال الأدب ووقار الحشمة . وقد تتخللها الطرف الأدبية والمحاورات الشعرية ، ومن ذلك ما حدثنيه رحمه الله قال : قدمت على بعض المشايخ لأدرس عليه ولم يكن يعرفني من قبل ، فسأل عني من أكون ، وكان في ملأ من تلامذته فقلت مرتجلا :
[ ص: 486 ]
هذا فتى من بني جاكان قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا رمت به همة علياء نحوكم
إذ شام برق علوم نوره اشتعلا فجاء يرجو ركاما من سحائبه
تكسو لسان الفتى أزهاره حللا إذ ضاق ذرعا بجهل النحو ثم أبا
ألا يميز شكل العين من فعلا قد أتى اليوم صبا مولعا كلفا
بالحمد لله لا أبغي له بدلا
يريد دراسة لامية الأفعال .
وقد مضى رحمه الله في طلب العلم قدما وقد ألزمه بعض مشايخه بالقران . أي أن يقرن بين كل فنين حرصا على سرعة تحصيله وتفرسا له في القدرة على ذلك ، فانصرف بهمة عالية في درس وتحصيل .
وقد خاطبه بعض أقرانه في أمر الزواج فقال في ذلك ، وفي الحث على طلب العلم :
دعاني الناصحون إلى النكاح غداة تزوجت بيض الملاح
فقالوا لي تزوج ذات دل خلوب اللحظ جائلة الوشاح
تبسم عن نوشرة رقاق يمج الراح بالماء القراح
كأن لحاظها رشقات نبل تذيق القلب آلام الجراح
ولا عجب إذا كانت لحاظ لبيضاء المحاجر كالرماح
فكم قتلا كميا ذا ولاحي ضعيفات الجفون بلا سلاح
فقلت لهم دعوني إن قلبي من العي الصراح اليوم صاحي
ولي شغل بأبكار عذارى كأن وجوهها ضوء الصباح
أراها في المهارق لابسات براقع من معانيها الصحاح
أبيت مفكرا فيها فتضحى لفهم الفدم خافضة الجناح
أبحت حريمها جبرا عليها وما كان الحريم بمستباح
نعم ، إنه كان يبيت في طلب العلم مفكرا وباحثا حتى يذلل الصعاب ، وقد طابق القول العمل .
حدثني رحمه الله قال : جئت للشيخ في قراءتي عليه فشرح لي كما كان يشرح ، [ ص: 487 ] ولكنه لم يشف ما في نفسي على ما تعودت ، ولم يرو لي ظمئي . وقمت من عنده وأنا أجدني في حاجة إلى إزالة بعض اللبس وإيضاح بعض المشكل وكان الوقت ظهرا فأخذت الكتب والمراجع فطالعت حتى العصر ، فلم أفرغ من حاجتي فعاودت حتى المغرب فلم أنته أيضا ، فأوقد لي خادمي أعوادا من الحطب أقرأ على ضوئها كعادة الطلاب ، وواصلت المطالعة وأتناول الشاهي الأخضر كلما مللت أو كسلت والخادم بجواري يوقد الضوء حتى انبثق الفجر وأنا في مجلسي لم أقم إلا لصلاة فرض أو تناول طعام وإلى أن ارتفع النهار وقد فرغت من درسي وزال عني لبسي ، ووجدت هذا المحل من الدرس كغيره في الوضوح والفهم فتركت المطالعة ونمت ، وأوصيت خادمي أن لا يوقظني لدرسي في ذلك اليوم اكتفاء بما حصلت عليه واستراحة من عناء سهر البارحة .
فقد بات مفكرا فيها فأضحت لفهم الفدم خافضة الجناح
وإن هذا لدرس لأبنائه ومنهج لطلاب العلم في الصبر والدأب والمثابرة . وقد نفعني الله بهذه الحادثة في دراستي وتدريسي وخاصة في صورة مشابهة في الفرائض لم أكن درستها على أحد وكان الاختبار في المقروء لا في المقرر .
وتلك هي آفة الدراسة النظامية اليوم وكنت كلما ضجرت في تحقيقها ، تذكرت قصته رحمه الله فصبرت حتى حصلتها ولله الحمد والمنة . وكان من بعد الظهر إلى هزيع من الليل . ولكن كم كانت لذتي وارتياحي .
ومع هذه الشاعرية الرقراقة والمعاني العذاب الفياضة والأسلوب السهل الجزل ، فقد كان يتباعد رحمه الله عن قول الشعر مع وفرة حفظه إياه ، وله في ذلك أبيات يقول فيها :
أنقذت من داء الهوى بعلاج شيب يزين مفارقي كالتاج
قد صدني حلم الأكابر عن لمي شفة الفتاة الطفلة المغناج
ماء الشبيبة زارع في صدرها رمانتي روض كحق العاج
وكأنها قد أدرجت في برقع يا ويلتاه بها شعاع سراج
وكأنما شمس الأصيل مذابة تنساب فوق جبينها الوهاج
يعلى لموقع في خدرها فوق الحشية ناعم الديباج
لم يبك عيني بين حي جيرة شدوا المطي بأنسع الأحداج
[ ص: 488 ] نادت بأنغام اللحون حداتهم فتزيلوا والليل أليل داجي
لا تصطبيني عاتق في دلها رقت فراقت في رقاق زجاج
مخضوبة منها بنان مديرها إذ لم تكن مقتولة بمزاج
طابت نفوس الشرب حيث أدارها رشأ رمى بلحاظ طرف ساجي
أو ذات عود أنطقت أوتارها بلحون قول للقلوب شواجي
فتخال رنات المثاني أحرفا قد رددت في الحلق من مهتاج
وقد سألته رحمه الله عن تركه الشعر مع قدرته عليه وإجادته فيه فقال : لم أره من صفات الأفاضل وخشيت أن أشتهر به ، وتذكرت قول الشافعي فيما ينسب إليه :
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
لأن الشاعر يقول في كل مجال . والشعر أكذبه أعذبه فلم أكثر منه لذلك .
ومع هذا فقد كانت له رحمه الله عدة مؤلفات نظما في عدة فنون سيأتي بيانها إن شاء الله .
أعماله في البلاد : كانت أعماله رحمه الله كعمل أمثاله من العلماء : الدرس والفتيا ، ولكنه كان قد اشتهر بالقضاء وبالفراسة فيه ، ورغم وجود الحاكم الفرنسي إلا أن المواطنين كانوا عظيمي الثقة فيه فيأتونه للقضاء بينهم ويفدون إليه من أماكن بعيدة أو حيث يكون نازلا .
طريقته في القضاء : كان إذا أتى إليه الطرفان استكتبهما رغبتهما في التقاضي إليه وقبولهما ما يقضي به ، ثم يستكتب المدعي دعواه ويكتب جواب المدعى عليه أسفل كتابة الدعوى ويكتب الحكم مع الدعوى والإجابة ويقول لهما اذهبا بها إلى من شئتما من المشايخ أو الحكام .
أما المشايخ فلا يأتي أحدهم قضية قضاها إلا صدقوا عليها . وأما الحكام فلا تصلهم قضية حكم فيها إلا نفذوا حكمه حالا . وكان يقضي في كل شيء إلا في الدماء والحدود وكان للدماء قضاء خاص .
[ ص: 489 ] قضاء الدماء : كان الحاكم الفرنسي في البلاد يقضي بالقصاص في القتل بعد محاكمة ومرافعة واسعة النطاق وبعد تمحيص القضية وإنهاء المرافعة وصدور الحكم يعرض على عالمين جليلين من علماء البلاد ليصادقوا عليه ، ويسمى العالمان لجنة الدماء ولا ينفذ حكم الإعدام في القصاص إلا بعد مصادقتهما عليه .
وقد كان رحمه الله أحد أعضاء هذه اللجنة ولم يخرج من بلاده حتى علا قدره وعظم تقديره ، وكان علما من أعلامها وموضع ثقة أهلها وحكامها ومحكومها .
خروجه من بلاده رحمه الله : كان خروجه من بلاده لأداء فريضة الحج وعلى نية العودة وكان سفره برا ، كتب فيه رحلة ضمنها مباحث جليلة كان آخرها مبحث القضايا الموجهة في المنطق مع علماء أم درمان بالمعهد العلمي بالسودان .
وبعد وصوله إلى هذه البلاد تجددت نية بقائه . ولعل من الخير وبيان الوقاع ذكر سبب بقائه : لقد كان في بلاده كغيره يسمع الدعاية ضد هذه البلاد باسم الوهابية ، إلا أن بعض الصدق قد تغير من وجهات النظر " وإذا أراد الله أمرا هيأ له الأسباب " ومن عجيب الصدف أن ينزل رحمه الله في بعض منازل الحج بجوار خيمة الأمير خالد السديري دون أن يعرف أحدهما الآخر ، وكان الأمير خالد يبحث مع جلسائه بيتا في الأدب وهو ذواقة أديب وامتد الحديث إلى أن سألوا الشيخ لعله يشاركهم فوجدوا بحرا لا ساحل له ، ومن تلك الجلسة وذاك المنزل تعدلت الفكرة بل كانت تلك الخيمة بداية منطلق لفكرة جديدة ، وأوصاه الأمير إن هو قدم المدينة أن يلتقي بالشيخين الشيخ عبد الله الزاحم رحمه الله والشيخ عبد العزيز بن صالح حفظه الله .
وفي المدينة التقى بهما رحمه الله . وكان صريحا معهما فيما يسمع عن البلاد وكانا حكيمين فيما يعرضان عليه ما عليه أهل هذه البلاد من مذهب في الفقه ومنهج في العقيدة .
وكان أكثرهما مباحثة معه فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح . وأخيرا قدم للشيخ كتاب المغني كأصل للمذهب وبعض كتب الشيخ ابن تيمية كمنهج للعقيدة ، فقرأها الشيخ وتعددت اللقاءات وطالت الجلسات فوجد الشيخ مذهبا معلوما لإمام جليل من أئمة أهل السنة وسلف الأمة أحمد بن حنبل رحمه الله .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
ابو وليد البحيرى
2025-01-07, 05:47 AM
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/28.jpg
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد التاسع
الحلقة (639)
ترجمة للشيخ رحمه الله
صـ 490 إلى صـ 496
[ ص: 490 ] كما وجد منهجا سليما لعقيدة السلف تعتمد الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة ، فذهب زيف الدعايات الباطلة وظهر معدن الحقيقة الصحيحة ، وتوطدت العلاقة بين الطرفين ، وتجددت رغبة متبادلة في بقائه لإفادة المسلمين .
ورغب رحمه الله في هذا الجوار الكريم وكان يقول : ليس من عمل أعظم من تفسير كتاب الله في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وتم ذلك بأمر من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله وكان الشيخان أقرب الناس إليه ودرس الشيخ عبد العزيز بن صالح الصرف والبيان عليه . رحم الله الموتى وحفظ الله الأحياء .
وهنا كلمة يجب أن تقال للحقيقة ولطلبة العلم خاصة نضعها في ميزان العدالة وقانون الإنصاف : لقد كان لجلوس الشيخ رحمه الله فائدة مزدوجة استفاد وأفاد .
أما استفادته فأمر حتمي ومنطقه علمي للآتي :
وهو أن منهج الدراسة في بلاده كان منصبا أكثر ما يكون على الفقه ، وفي مذهب مالك فقط . وعلى العربية متنا وأسلوبا ، والأصول والسيرة والتفسير . وتقدم أنه رحمه الله درس المنطق بالمطالعة ولم تكن دراسة الحديث تحظى بما يحظى به غيرها للاقتصار على مذهب مالك . وكان الشيخ رحمه الله إماما في كل ما تقدم مما هو شائع في البلاد .
ولما عزم على البقاء وبدأ التدريس في المسجد النبوي وخالط العامة والخاصة وجد من يمثل المذاهب الأربعة ، ومن يناقش فيها ، ووجد في المسجد النبوي دراسة لا تقتصر على مذهب مالك . بل ولا على غيره ، فكان لا بد من دراسة بقية المذاهب بجانب مذهب مالك ، وبما أن الخلاف المذهبي لا ينهيه إلا الحديث أو القرءان ، فكان لزاما من التوسع في دراسة الحديث ، وقد ساعد الشيخ على هذا التوسع والاستيعاب وقوة الاستدلال ودقة الترجيح ما هو متمكن فيه من فن الأصول والعربية ، مع توسعه في دراسة الحديث ، وبالأخص المجاميع كنيل الأوطار وفتح الباري وغيرها .
وقد ظهر ذلك في منهجه في أضواء البيان حينما يعرض لمبحث فقهي مختلف فيه فيستوفي في أقوال العلماء ، ويرجح ما يظهر له بمقتضى الدليل عقلا كان أو نقلا .
وهذا المنهج هو سبيل أهل التحصيل ، الدأب على الدراسة ، ومواصلة المطالعة والتنقيح .
[ ص: 491 ] أما في العقيدة فقد بلورها منطقا ودليلا ، ثم لخصها في محاضرة آيات الأسماء والصفات في أول محاضرات الجامعة ثم بسطها ووضحها إيضاحا شافيا في أخريات حياته ، في كتابي آداب البحث والمناظرة دليلا واستدلالا وعرضا وإقناعا . ومن آثار بيانه لها وأسلوبه فيها ما قاله فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله لما سمع بيان الشيخ لعقيدة السلف في مسجد الشيخ محمد رحمه الله قال : جزى الله عنا الشيخ محمدا الأمين خيرا على بيانه هذا ، فالجاهل عرف العقيدة ، والعالم عرف الطريق والأسلوب .
وهذه الحقيقة تضع بين يدي طالب العلم منهج الاستزادة في التحصيل وطموحه فيه ، كما قال صلى الله عليه وسلم : منهومان لا يشبعان أبدا : طالب علم وطالب مال هذا جانب استفادته ، أما جانب إفادته فهو ما سنتحدث عنه إن شاء الله .
أولا : في المسجد النبوي : يعتبر التدريس في المسجد النبوي من أهم التدريس في كبريات جامعات العالم ، في نشر العلم ، وهو الجامعة الأولى للتشريع الإسلامي منذ عهد النبوة . وحين كان جبريل عليه السلام يأتي لتعليم الإسلام في مجالس الرسول صلى الله عليه وسلم . ومنذ كانت مجالس الخلفاء الراشدين وعلماء الصحابة رضي الله عنهم أجمعين . إذ كانت المدينة العاصمة العلمية وظلت محافظة على مركزها العلمي ، ولم تخل في زمن من الأزمان من عالم يقوم بحق الله فيها .
وقبل مجيء الشيخ رحمه الله كان قبله الشيخ الطيب رحمه الله نفع الله به كثيرا . وتوفي سنة 1363 هـ . فكان جلوس الشيخ رحمه الله للتدريس في المسجد النبوي امتدادا لما كان قبله ، مع من كان من العلماء بالمسجد النبوي آنذاك من تلاميذ الشيخ الطيب وغيرهم . وكان درس الشيخ في التفسير ، ختم القرءان مرتين .
منهجه في درسه : من المعلوم أن التفسير لا ينحصر في موضوع فهو شامل عام بشمول القرءان وعمومه ، فكان المنهج أولا بيان المفردات ثم الإعراب والتصريف ثم البلاغة مع إيراد الشواهد على ما يورد .
ثم يأتي إلى الأحكام إن كان موضوع الآية فقها ، فيستقصي باستنتاج الحكم وبيان الأقوال والترجيح لما يظهر له . ويدعم ذلك بالأصول وبيان القرءان وعلوم القرءان من عام [ ص: 492 ] وخاص ومطلق ومقيد وناسخ ومنسوخ وأسباب نزول وغير ذلك .
وإذا كانت الآية في قصص أظهر العبر من القصة وبين تاريخها وقد يربط الحاضر بالماضي كربط تكشف النساء اليوم بفتنة إبليس لحواء في الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما ، وفتنته للجاهلية حتى طافوا بالبيت عرايا رجالا ونساء وها هو يستدرجهن في التكشف شيئا فشيئا . بدأ بكشف الوجه ثم الرأس ثم الذراعين . . . إلخ . فكان أسلوبا علميا وتربويا في آن واحد ، كما كان أحكاما وحكما .
وكان درسه أشبه بحديقة غناء احتوت أشهر الثمار وأجمل الأزهار ، في تنسيق الغرس وجمال الجداول تشرح الصدر وتشفي القلب وتروق للعين . فيستفيد منه جميع الناس ويأخذ كل واحد ما طاب له وما وسعه .
وقد يستطرد للقاعدة بمبحث كامل كما استطرد في الرد على ابن حزم في رده القياس بإتيانه بأنواعه عند قوله : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ، وقد طبع في نهاية مذكرة الأصول تعميما للفائدة . وبهذا الشمول والاستقصاء لم يكن يترك مجالا لسؤال ولم يبق لذي حاجة تساؤل .
وأذكر كلمة لقاضي قرية " قرو " في موريتانيا بعد أن سئل رحمه الله عن مهام من المسائل العلمية ، وأجاب إجابة مستفيضة مفصلة كافية . قال قاضي قرو : لم يبق لأحد هنا كلام فقد ظهر الحق . ولا سؤال فقد زال اللبس ، وإن الحضور بين أحد رجلين ، عالم فقد عرف الحق فلم يبق له سؤال ، وجاهل فلا يحق له أن يسأل .
فكان نفعه رحمه الله في المسجد النبوي للمقيم والقادم للقاصي والداني نفعا عظيما .
ثانيا : في سنة 1371 هـ افتتحت الإدارة العامة بالرياض على معهد علمي ، تلاه عدة معاهد وكليتا الشريعة واللغة .
واختير للتدريس في المعهد والكليتين نخبة من العلماء من داخل وخارج المملكة . وكان رحمه الله ممن اختير لذلك فتولى تدريس التفسير والأصول إلى سنة 1381 هـ حين افتتحت الجامعة الإسلامية بالمدينة .
آثاره في الرياض : كانت مدة اختياره للتدريس بالرياض عشر سنوات دراسية ، يعود [ ص: 493 ] لقضاء العطلة بالمدينة ، وما كان عمله في التدريس بالمعهد والكلية كغيره من المدرسين . ولكن لبيان أثره حقيقة نورد نبذة عن الحالة العلمية آنذاك بالرياض .
كانت الرياض عاصمة نجد علميا وسياسيا وكان يفد إليها طلاب العلم من أنحاء نجد لأخذ العلم عن آل الشيخ . وكان مركز الدراسة والتدريس في المساجد إلا خواص الطلاب لدى سماحة المفتي فيدرسون عليه بعض الدروس في بيته ضحى ، وكانت الدراسة عمادها التوحيد والفقه والتفسير وكذلك الحديث والسيرة والنحو ، وكانت دراسة مباركة تخرج عليها جميع علماء نجد ، حتى جاءت تلك الحركة العلمية الجديدة ، أو تنظيم الدراسة الجديد في عام 1371 هـ .
نشأة هذه الحركة : كانت نشأتها كما سمعت منه رحمه الله استجابة لرغبة المرحوم جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله . قال لجماعة العلماء وهم في مجلسه الخاص : لقد كانت الرياض مليئة بالعلماء عامرة بالدروس . وانتقل الكثير منهم إلى رحمة الله ولم يخلفهم من يماثلهم ، وأردت تعاونكم مع سماحة المفتي في تربية جيل من طلبة العلم عن العلوم الصحيحة والعقيدة السليمة ، فنحن وأنتم مشتركون في المسؤولية . فكانت هذه النهضة ترعاها عناية ملكية وتقوم عليها كفاءة علمية ، تولى إدارة المعهد الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم ورئاسته لسماحة المفتي ، وافتتحت الدراسة على طلاب حلق المساجد الأكفاء وفيهم خواص طلاب فضيلة الشيخ محمد رحمه الله وأبناؤه . صنفت الدراسة على ثلاث سنوات ثانوية ومنها إلى الكلية ، يغذي هذا القسم قسم تمهيدي يأخذ من رابعة ابتدائي ويدرس خامسة وسادسة ومن ثم للمعهد الثانوي فالكليتين .
المنهج العلمي : وضع المنهج العلمي لتلك الدراسة على أساس في العلوم الدينية والعربية وتكميل من المواد الاجتماعية وعلوم الآلة من مصطلح وأصول حتى الحساب والتقويم والخط والإملاء والتجويد . فكان قويا في موضوعه شاملا في منهجه . وكان الطلاب من الصفوة الذين درسوا في المساجد المتعطشين للعلوم متطلعين للتوسع وكان القائمون على التدريس نخبة ممتازة من الأجلة الفضلاء من وطنيين وأزهريين . فكان الجو حقا جدا علميا التقت فيه همة عالية من طلاب جيدين مع عزيمة ماضية من مشايخ مجتهدين . كان يسودهم الشعور بأن هذه طليعة نهضة علمية واسعة ، وكان رحمه الله كوالد للجميع وكان درسه التفسير والأصول . فكان في التفسير المجال الواسع لجميع [ ص: 494 ] المواد والعلوم . وكان مع التزامه بالمنهج والحصص إذا تناول بحثا في أي مادة يخاله السامع مختصا فيها ، فعرف له الجميع قدره وتطلع الجميع إلى ما عنده حتى المدرسون : وقد رغب المدرسون آنذاك في قراءة بعض كتب الشيخ ابن تيمية واستيعاب دقائقه فلم يكن أولى بذلك من فضيلته رحمه الله . خصص لذلك مجلس خاص في صحن المعهد بدخنه بين المغرب والعشاء .
في مسجد الشيخ : وفي مسجد الشيخ محمد رحمه الله بدأ درس الأصول لكبار الطلبة في قواعد الأصول ، حضره العامة والخاصة وكان يتوافد إليه من أطراف الرياض ، وكان الشيخ عبد الرحمن الإفريقي رحمه الله يدرس الحديث وكان درس الأصول بمثابة فتح جديد في هذا الفن
في بيته رحمه الله : ولما كان الدرس في الأصول في المسجد عاما - وفي الطلبة من خواصهم رغبوا في درس خاص في بيته رحمه الله ، فكان لهم درس خاص بعد العصر . وكان بيته رحمه الله كمدرسة سواء لأبنائه الذين رافقوه للدراسة عليه وقد أملى شرحا على مراقي السعود في بيته على أخينا أحمد الأحمد الشنقيطي .
لقد كان لتدريسه هذا سواء رسميا في المعهد والكليتين أو في المسجد ، أو في المنزل - كان له أثر طيب ونتائج حسنة لا يسع متحدث التحدث عنها بقدر ما تحدثت هي عن نفسها في أعمال كافة المتخرجين من تلك المعاهد والكليتين المنتشرتين في أنحاء المملكة المبرزين في أعمالهم وفي أعلى مناصب في كافة الوزارات .
ولا يغالي من يقول إن كل من تخرج أو يتخرج فهو إما تلميذ له أو لتلاميذه فهم بمثابة أبنائه وأحفاده وكفى .
تقدير المسؤولين له : لقد كان بعلمه ونصحه وجهده وعفته موضع تقدير من جميع المسؤولين وبالأخص أصحاب الفضيلة آل الشيخ وصاحب الجلالة الملك عبد العزيز وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد الرحمن وكان أشد الناس تقديرا له . وقد منحه جلالة الملك رحمه الله أمرا بالجنسية لجميع من ينتمي إليه وفي كفالته ثقة به وإكراما له .
ولما زار الملك محمد الخامس ملك المغرب الرياض استأذن في صحبة الشيخ إلى [ ص: 495 ] المدينة فرافقه تقديرا وإكراما وألقى محاضرته بالمسجد النبوي بحضور الملك محمد الخامس بعنوان اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وقد طبعت مرتين .
وهكذا قدم الرياض رحمه الله في ترحيب وإكرام وانتقل منها في إعزاز وإكبار بعد أن ترك فيها أطيب الآثار ، وساهم في أكبر نهضة علمية في البلاد .
دوره رحمه الله في الجامعة الإسلامية : إن من يعرف نشأة الجامعة الإسلامية ، وقد عرف الحركة العلمية الحديثة بالرياض ليقول إن افتتاح الجامعة الإسلامية امتداد للحركة العلمية الحديثة بالرياض .
والمتتبع للحركات العلمية في العالم الإسلامي ليقول إن افتتاح الجامعة الإسلامية في ذلك التاريخ عناية من الله وتدارك للتعليم الإسلامي حينما أصيبت بعض دور العلم الكبرى بهزات في برامجها .
فكان إيجادها امتدادا للحركة العلمية الحديثة بالرياض ومجيئها آنذاك تداركا لبعض ما فات ، ولعلها جزء من تحقيق الحديث : إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها . ومعلوم أن الإيمان عقيدة وعمل والعلم قبله .
ومن هنا نجدد أو نتذكر أهمية الجامعة الإسلامية ومدى وجودها بالمدينة المنورة ، وبالتالي مجيء أبناء العالم الإسلامي إليها للدراسة وللتربية في هذا الجو الروحي لتبرز لنا قيمة العمل في الجامعة وأن رسالتها تربوية بجانب أنها علمية ، وأنها منعت الانتساب دون الحضور لهذا الغرض نفسه .
وقد كان لوالدنا رحمه الله في هذه المجالات اليد الطولى والمجهود الأكبر فلم يدخر وسعا في تعليم ولم يتوان في توجيه ، سواء في دروسه أو أحاديثه أو محاضراته مع الطلاب أو المدرسين فكان كالأب الرحيم والداعية الناصح الأمين . تحمل عنه تلاميذه إلى أنحاء العالم الإسلامي حينما وصلت منح الدراسة بالجامعة الإسلامية لبلدان العالم الإسلامي ، فهل يمكن أن نقول ولو ادعاء أو تجوزا إنه كان بحق في منزلة [ الشيخ ابن تيمية ] ، في هذا الوقت . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
وقد كان بجانب التعليم عضو مجلس الجامعة ساهم في سيرها ومناهجها ، [ ص: 496 ] كما ساهم في إنتاجها وتعليمها .
وفي سنة 86 هـ افتتح معهد القضاء العالي بالرياض برآسة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي وكانت الدراسة فيه ابتداء على نظام استقدام الأساتذة الزائرين فكان رحمه الله ممن يذهب لإلقاء المحاضرات المطلوبة في التفسير والأصول .
قد امتد نشاطه خارج المملكة : إذا كانت الجامعة الإسلامية فتحت للبلاد نوافذ تطل منها على العالم الإسلامي كله ، وجعلت من حق أولئك الأبناء ما يجب من رعايتهم ، وحق تلك الأقطار ما يلزم من تقوية أواصر الروابط . فكانت فكرة إرسال بعثات إلى الأقطار الإسلامية وخاصة إفريقيا ، فكان رحمه الله على رأس بعثة الجامعة إلى عشر دول أفريقية بدأت بالسودان ، وانتهت بموريتانيا موطن الشيخ رحمه الله ، كان لهذه البعثة في تلك البلاد أعظم الأثر ، وأذكر في مجلس من أفاضل البلاد بموريتانيا وفي حفل تكريم للبعثة وكل إلي فضيلته رحمه الله كلمة الجواب فكان منها أن الذكريات لتتحدث وإنها لساعة عجيبة أدارت عجلة الزمان حيث نشأ الشيخ في بلادكم ثم هاجر إلى الحجاز ثم ها هو يعود إليكم على رأس وفد ورئاسة بعثة فقد نبتت غرسة علمه هنا عندكم فذهب إلى الحجاز فنمت وترعرعت فامتدت أغصانها حتى شملت بوارف ظلها بلاد الإسلام شرقا وغربا وها نحن في موطنه نجني ثمار غرسها ونستظل بوارف ظلها . فكانت تلك الرحلة حقا حلقة اتصال وتجديد عهد وإحياء معالم للإسلام .
وكان له رحمه الله العديد من المحاضرات والمحادثات سجلت كلها في أشرطة لا تزال محفوظة ، آمل أن أوفق لنقلها وطبعها إتماما للفائدة إن شاء الله . ونضم إليها منهجه وسلوكه مع الحكام وصغار الطلاب والعوام مما يرسم الطريق الصحيح للدعوة إلى الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة .
في هيئة كبار العلماء : وكما شكلت هيئة كبار العلماء بعد سماحة المفتي رحمه الله ، وهي أكبر هيئة علمية في البلاد . كان رحمه الله أحد أعضائها . وقد ترأس إحدى دوراتها فكانت له السياسة الرشيدة والنتائج الحميدة . سمعت فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح حفظه الله وهو عضو فيها يقول : ما رأيت قبله أحسن إدارة منه مع بعد نظر في الأمور ، وحسن تدبر للعواقب .
https://majles.alukah.net/imgcache/2020/10/29.jpg
السليماني
2025-01-12, 09:47 AM
بارك الله فيك ...
Powered by vBulletin® Version 4.2.2 Copyright © 2025 vBulletin Solutions، Inc. All rights reserved.