تعريف المعلوم من الدين بالضرورة
قال الامام الشافعي ( العلم عِلْمان: علمُ عامَّةٍ، لا يَسَعُ بالِغاً غيرَ مغلوب على عقْلِه جَهْلُهُ.
قال: ومِثْل ماذا؟
قلت: مثلُ الصَّلَوَاتِ الخمس، وأن لله على الناس صومَ شهْر رمضانَ، وحجَّ البيت إذا استطاعوه، وزكاةً في أموالهم، وأنه حرَّمَ عليهم الزِّنا والقتْل والسَّرِقة والخمْر، وما كان في معنى [ص:358] هذا، مِمَّا كُلِّفَ العِبادُ أنْ يَعْقِلوه ويعْملوه ويُعْطُوه مِن أنفسهم وأموالهم، وأن يَكُفُّوا عنه ما حرَّمَ عليهم منه.
وهذا الصِّنْف كلُّه مِن العلم موجود نَصًّا في كتاب الله، وموْجوداً عامًّا عنْد أهلِ الإسلام، ينقله عَوَامُّهم عن مَن مضى من عوامِّهم، يَحْكونه عن رسول الله، ولا يتنازعون فيحكايته ولا وجوبه عليهم.
[ص:359] وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط مِن الخبر، ولا التأويلُ، ولا يجوز فيه التنازعُ ) (1)
قال الشيخ سليمان بن محمد البجيرمي (1221ه) ( (قَوْلُهُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ إلَخْ) أَيْ عِلْمُهَا مُشَابِهٌ لِلْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ فِي كَوْنِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَأَمُّلٍ فَلَا يَرِدُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ مُخْتَصٌّ بِالْمُدْرَكِ بِإِحْدَى الْحَوَاسِّ. وَأَيْضًا الضَّرُورِيُّ لَا يَحْتَاجُ لِإِقَامَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَيْهِ وَقَدْ أُقِيمَ عَلَيْهَا الْأَدِلَّةُ، وَقِيلَ إنَّ الْكَافَ تَعْلِيلِيَّةٌ وَمَا مَصْدَرِيَّةٌ أَيْ لِعِلْمِ ذَلِكَ إلَخْ، وَقَوْلُهُ مِنْ الدِّينِ أَيْ مِنْ أَدِلَّتِهِ وَقَوْلُهُ وَمِمَّا يَأْتِي عَطْفُ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ. ) (2)
قال الشيخ أحمد سلامة القليوبي (1069 هـ) قَوْلُهُ: (كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ) أَيْ كَوْنُهَا خَمْسًا مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ أَيْ عِلْمُ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ يَشْتَرِكُ فِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ بَعْدَ ثُبُوتِ أَصْلِهِ (3)
قال الشيخ كمال الدين الدميري ( 808هـ)
( ولا يختص هذا بالصلاة، بل يجري في جحود كل مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، فإن جحد مجمعًا عليه ليس معلومًا من الدين بالضرورة كاستحقاق بنت الابن مع البنت السدس .. فليس بكافر بل يعرف الصواب ليعتقده ) (4)
المعلوم من الدين بالضرورة يختلف من مكان الي مكان ومن زمان الي زمان
قال الامام النووي رحمه الله ( فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَأَوَّلْتَ أَمْرَ الطَّائِفَةِ الَّتِي مَنَعَتِ الزَّكَاةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ وَجَعَلْتَهُمْ أَهْلَ بَغْيٍ وَهَلْ إِذَا أَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِنَا فَرْضَ الزَّكَاةِ وَامْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا يَكُونُ حُكْمُهُمْ حُكْمَ أَهْلِ الْبَغْيِ قُلْنَا لَا فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَ فَرْضَ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ كَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عُذِرُوا لِأَسْبَابٍ وَأُمُورٍ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ مِنْهَا قُرْبُ الْعَهْدِ بِزَمَانِ الشَّرِيعَةِ الَّذِي كَانَ يَقَعُ فِيهِ تَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ بِالنَّسْخِ وَمِنْهَا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا جُهَّالًا بِأُمُورِ الدِّينِ وَكَانَ عَهْدُهُمْ بِالْإِسْلَامِ قَرِيبًا فَدَخَلَتْهُمُ الشُّبْهَةُ فَعُذِرُوا فَأَمَّا الْيَوْمَ وَقَدْ شَاعَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَاسْتَفَاضَ فِي الْمُسْلِمِينَ عِلْمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ حَتَّى عَرَفَهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَاشْتَرَكَ فِيهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ فَلَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِتَأْوِيلٍ يَتَأَوَّلُهُ فِي إِنْكَارِهَا وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي كُلِّ مَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِمَّا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ إِذَا كَانَ عِلْمُهُ مُنْتَشِرًا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ شَهْرِ رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنى وَالْخَمْرِ وَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَا يَعْرِفُ حُدُودَهُ فَإِنَّهُ إِذَا أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْهَا جَهْلًا بِهِ لَمْ يَكْفُرْ وَكَانَ سَبِيلُهُ سَبِيلَ أُولَئِكَ الْقَوْمِ فِي بَقَاءِ اسْمِ الدِّينِ عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا كَانَ الْإِجْمَاعُ فِيهِ مَعْلُومًا مِنْ طَرِيقِ عِلْمِ الْخَاصَّةِ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا وَأَنَّ الْقَاتِلَ عَمْدًا لَا يَرِثُ وَأَنَّ لِلْجَدَّةِ السُّدُسَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ فَإِنَّ مَنْ أَنْكَرَهَا لَا يَكْفُرُ بَلْ يُعْذَرُ فِيهَا لِعَدَمِ اسْتِفَاضَةِ عِلْمِهَا فِي الْعَامَّةِ ) (5)
الحالات التي يعذر فيها منكر المعلوم من الدين بالضرورة (6)
قال الشيخ زكريا الانصاري (المتوفى 926هـ)
( (بَابُ تَارِكِ الصَّلَاةِ) الْمَفْرُوضَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ أَصَالَةً جَحْدًا أَوْ غَيْرَهُ وَقَدَّمَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى الْجَنَائِزِ قَالَ الرَّافِعِيُّ وَلَعَلَّهُ أَلْيَقُ (فَالْجَاحِدُ لِوُجُوبِهَا) ، وَإِنْ أَتَى بِهَا (مُرْتَدٌّ) لِإِنْكَارِهِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ وَتَعْبِيرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِنْ تَعْبِيرِ أَصْلِهِ بِتَرْكِهَا جَحْدًا (إلَّا جَاهِلٌ) نَفَى ذَلِكَ (لِقُرْبِ عَهْدٍ) بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّنْ يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ فَلَيْسَ مُرْتَدًّا بَلْ يَعْرِفُ الْوُجُوبَ فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْجَحْدِ صَارَ مُرْتَدًّا وَالْجُحُودُ إنْكَارُ مَا اعْتَرَفَ بِهِ الْمُنْكِرُ فَخَرَجَ بِهِ الْجَاهِلُ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ أَوْ نَحْوُهُ كَنَشْئِهِ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ الْعُلَمَاءِ ) (7)
______________________________ ______________________________ _______________________
(1) الرسالة ( 1 / 357 )
(2) حاشية البجيرمي على شرح المنهج ( 1 / 146 )
(3) حاشيتا قليوبي وعميرة ( 1 / 126 )
(4) النجم الوهاج في شرح المنهاج ( 2 / 589 )
(5) شرح النووي علي مسلم ( 1 / 205 )
(6) قلت لا يصح سحب هذا في عباد القبور
(7) أسنى المطالب في شرح روض الطالب ( 1 / 336 )