الأصول التي اعتمد عليها أهل السنَّة في الكفِّ عمَّا شجر بين الصَّحابة (1)
مذهبُ أهل السُّنة والجماعة في الصَّحابة مذهبٌ واضحٌ متَّسق مع النَّقل الصحيح والعقل الصَّريح ووقائع التاريخ، وتعاطي أهل السنة للموضوعات التي تتعلق بالصَّحابة الكرام تعاطيا ينمُّ عن منهجيَّة واضحة في التعامل مع المسائل الشرعية، ولم يجعلو الصحابة الكرام كأي أحدٍ، وفي الوقت نفسه لم يدَّعوا لهم العصمة، وإنَّما هم بشرٌ اختارهم الله لصحبة نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلهم خصائص ليست لأيِّ جيل بعدهم، ونؤمن أنَّ الله لا يختار لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إلَّا أفضل البشر كما يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «إنَّ الله نظرَ في قلوب العباد، فاختار محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -، فبعثه إلى خلقه، فبعثه برسالته، وانتخبَه بعلمه، ثمَّ نظر في قلوب النَّاس بعده، فاختار الله له أصحابَه، فجعلهم أنصارَ دينِه، ووزراء نبيِّه - صلى الله عليه وسلم ».
وقد اختلَف الصَّحابة فيما بينهم كسائر البشر، ووقعت بينهم وقائع سُطِّرت في الكتب أحداثُها ودوافعُها، وكان تعامل أهل السنة والجماعة مع تلك الأحداث من كل جهاتها أحسن تعامل، فهم ينقلون بعلم، ويحسنون الظَّن، ويبينون الخطأ، ولا يدَّعون العصمة، ومع ذلك فإنَّهم في الأصل ينطلقون من عقيدةٍ واضحة لديهم، وهي: الإمساك عمَّا شجر بين الصحابة.
أحداث لم نشارك فيها
وذلك يعني أنَّنا لا نُطلق ألسنتنا في حديث أخذًا وردًّا في أحداثٍ لم نشارك فيها بألسِنّتنا، فمن باب أولى ألا نخوض فيها بأقلامنا، إلَّا ما كان له داعٍ كما سيأتي بيانه، وقد أجمع على هذا أهل السنة والجماعة، وبينوه ووضَّحوه؛ فقد سئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان رضي الله عنهم والجمل وصِفين وما كان بينهم فقال: «تلك دماءٌ كفَّ الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها»، ويقول أبو زيد القيرواني في بيان عقيدة أهل السُّنة والجماعة: «وألا يذكر أحدٌ من صحابة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - إلا بأحسن ذكر، والإمساك عمَّا شجر بينهم، وأنَّهم أحق الناس أن يُلتمَس لهم أحسن المخارج، ويُظَنّ بهم أحسن المذاهب».
ويقول أبو عثمان الصَّابوني: «ويرون الكفَّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتطهير الألسنة عن ذكر ما يتضمن عيبًا لهم ونقصًا فيهم، ويرون الترحُّم على جميعهم، والموالاة لكافتهم».
ويقول أبو عمرو الداني في بيان عقيدة أهل السُّنة والجماعة أيضًا: «ومن قولهم: أن يحسن القول في السَّادات الكرام أصحاب محمد -عليه السَّلام-، وأن تذكر فضائلهم، وتنشر محاسنهم، ويمسك عمَّا سوى ذلك مما شجر بينهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا ذُكر أصحابي فأمسكوا»، يعني: إذا ذكروا بغير الجميل، ولقوله: «الله الله في أصحابي»، ويجب أن يلتمس لهم أحسن المخارج وأجمل المذاهب؛ لمكانِهم من الإسلام، وموضعِهم من الدِّين والإيمان، وأنَّهم أهل الرأي والاجتهاد، وأنصح الناس للعباد».
فعل علماء أهل السنة والجماعة
وكان ذلك هو فعل علماء أهل السنة والجماعة؛ فقد حضر رجلٌ إلى الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-، فسأله عمَّا جرى بين علي ومعاوية، فأعرض عنه، فقيل له: يا أبا عبد الله، هو رجلٌ من بني هاشم، فأقبل عليه فقال: «اقرأ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (البقرة: 134)».
الأصول التي اعتمد علها أهل السنة والجماعة
ولسنا بصدد بيان هذه العقيدة والتَّأصيل لها، ولكنَّنا في هذه الورقة نريد أن نبيَّن الأصول التي اعتمد علها أهل السنة والجماعة وانطلقوا منها في عقيدتهم، وهي إجابة عن السؤال: لماذا نكفُّ عمَّا شجر بين الصحابة؟
الأصل الأوَّل: علوُّ مكانة الصَّحابة ومنزلتهم وفضلهم
فإنَّ جيل الصَّحابة ليس كأي جيلٍ أتى بعده، بل هو جيلٌ فريدٌ في خصائصه؛ لقربهم من النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، ومصاحبتِهم له، ورؤيتِهم له، ولنزول الوحي بين أظهرهم، فيقينُهم أكبر من كلِّ يقين، إضافةً إلى أنَّ الله -سبحانه وتعالى- قد عدَّلهم ورضي عنهم، وقد تضمنت الآيات الثَّناء عليهم بما لم يكن لأحدٍ بعدهم، وهذا كلُّه مع علم الله بأنَّه سيقع منهم اقتتال، وتقع بينهم فتنة، ومع ذلك لم يستثن الله من تلك الثَّناءات أحدًا، فهو إذًا أصلٌ مركَّب من ثناء الله على الصَّحابة وفضلهم في أنفسهم، إضافة إلى أنَّ هذا الثناء عامٌّ لمن علم الله ما سيقع منهم بعد.
عدد من القضايا
فأهل السَّنة والجماعة ينطلقون من هذا الأصل إلى عددٍ من القضايا، من أهمِّها: الكفُّ عمَّا شجر بينهم؛ إذ إنَّه لا يمكن أن يكون ثناء الله عليهم بلا معنى مع علمِ الله -سبحانه وتعالى- بما سيحصل منهم ويقع بينَهم، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّه قال: «لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الله -عز وجل- قد أمر بالاستغفار لهم وهو يعلم أنهم سيقتتلون».
النهي عن الخوضِ فيما حصل بين الصَّحابة
وقد ذكر ابن بطَّة -رحمه الله- نهيَ جماعة من العلماء الكبار عن الخوضِ فيما حصل بين الصَّحابة فقال: «ولا ينظر في كتاب صِفين والجمل ووقعة الدَّار وسائر المنازعات التي جرت بينهم، ولا تكتبه لنفسِك ولا لغيرِك، ولا تروه عن أحد، ولا تقرأه على غيرك، ولا تسمعه ممَّن يرويه، فعلى ذلك اتَّفق سادات علماء هذه الأمَّة من النَّهي عما وصفناه، منهم: حمَّاد بن زيد، ويونس بن عبيد، وسفيان الثَّوري، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن إدريس، ومالك بن أنس، وابن أبى ذئب، وابن المبارك، وشعيب بن حرب، وأبو إسحاق الفزاري، ويوسف بن أسباط، وأحمد بن حنبل، وبشر بن الحارث، وعبد الوهَّاب الوراق، كل هؤلاء قد رأوا النَّهي عنها، والنَّظر فيها، والاستماع إليها، وحذَّروا من طلبها والاهتمام بجمعها، وقد روي عنهم فيمن فعل ذلك أشياء كثيرةٌ بألفاظٍ مختلفة متّفقَة المعاني على كراهية ذلك، والإنكار على من رواها واستمع إليها».
فضل الصحابة وثناء الله عليهم
وذكر ابن بطَّة -رحمه الله- نهيَ جماعة من العلماء الكبار عن الخوضِ فيما حصل بين الصَّحابة ومستندَ هذا القول، وأنَّه مبنيٌّ على ما بينَّاه من فضل الصحابة وثناء الله عليهم مع علمه بما سيحصلُ منهم، يقول ابن بطة -في بيان عقيدة أهل السُّنة والجماعة-: «النَّهي عن الخوض في أحداث الفتنة الكبرى، فقد شهدوا المشاهد معه، وسبقوا النَّاس بالفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرَك بالاستغفار لهم، والتَّقرب إليه بمحبتهم، وفَرض ذلك على لسان نبيِّه وهو يعلم ما سيكون منهم وأنَّهم سيقتتلون، وإنَّما فضِّلوا على سائر الخلق؛ لأنَّ الخطأ والعمد قد وُضع عنهم، وكل ما شجر بينهم مغفورٌ لهم».
وخلاصة هذا الأصل: أنَّ الخطأ على من أثنى الله عليهم وبيَّن فضلهم ومدحهم في كتابه أكبر وأعظم من الخطأ على أيِّ أحدٍ من الناس دونهم، ولثبوت فضل الصحابة قطعًا فإنَّنا نتوَّرع عن ذكر ما حصل بينهم لكلِّ أحد، وفي كل مجلس، وإنَّما يحكى ذلك في حدودٍ كما سيأتي بيانه، ويعني ذلك أيضًا أنَّنا نحتاط غاية الاحتياط في قبول أخبار ما وقع بينهم من فتن واقتتال أكثر من احتياطنا في أخبار سائر الناس.
الأصل الثَّاني: أنَّ الصَّحابة كانوا مجتهدين فيما وقع بينهم
وغاية المجتهدين أنَّهم يؤجرون فيما اجتهدوا فيه وإن أخطؤوا؛ فأفعال الصَّحابة -رضوان الله عليهم في الأصل- لم تصدر عن فسادٍ في النيَّة وإرادةٍ للفتنة، وإنما عن اجتهاد في مواقف اجتهدوا فيها، وعلى هذا اعتمد أهلُ السنة أيضًا في الكفِّ عمَّا شجر بينهم، وقد اعتمد الآجري -رحمه الله- على هذين الأصلين في بيان مستند أهل السنة في الكفِّ عما شجر بين الصحابة، أي: أصل فضلهم وعلوِّ منزلتهم، واجتهادِهم فيما وقع منهم، فقال -رحمه الله-: «ذكر الكفِّ عمَّا شجر بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورحمة الله -تعالى عليهم أجمعين-، ينبغي لمن تدبَّر ما رسمناه من فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفضائل أهل بيته -رضي الله عنهم أجمعين- أن يحبَّهم، ويترحَّم عليهم، ويستغفر لهم، ويتوسَّل إلى الله الكريم بهم، ويشكر الله العظيم؛ إذ وفَّقه لهذا، ولا يذكر ما شجرَ بينَهم، ولا ينقر عنه ولا يبحث.
فإن عارضنا جاهلٌ مفتون ضل طريق الرَّشاد فقال: لِمَ قاتل فلانٌ لفلان؟ ولم قتل فلان لفلان وفلان؟
قيل له: ما بِنا وبك إلى ذكر هذا؟ حاجةٌ تنفعنا ولا اضطررنا إلى علمها.
فإن قال: ولم؟
قيل له: لأنَّها فتنٌ شاهدها الصَّحابة -رضي الله عنهم-؛ فكانوا فيها بحسب ما أراهم العلم بها، وكانوا أعلم بتأويلها من غيرهم، وكانوا أهدى سبيلًا ممَّن جاء بعدهم؛ لأنَّهم أهل الجنة، عليهم نزل القرآن، وشاهدوا الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، وجاهدوا معه، وشهد لهم الله -عزوجل- بالرِّضوان والمغفرة والأجر العظيم، وشهد لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم خير قرن؛ فكانوا بالله -عز وجل- وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن وبالسُّنة أعرف، ومنهم يُؤخذ العلم، وفي قولهم نعيش، وبأحكامهم نحكم، وبأدبهم نتأدَّب، ولهم نتبع، وبهذا أُمرنا».
فانظر كيف اعتمد على فضلهم وخصائص حالِهم من رؤيتهم للتنزيل، وثناءِ الشرع عليهم، واجتهادهم فيما وقع منهم.
من مذاهب أهل السُّنة
وعلى الأصلين أيضًا اعتمد ابن تيمية -رحمه الله- فقال: «ولهذا كان من مذاهب أهل السُّنة: الإمساك عما شجر بين الصحابة؛ فإنَّه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتُهم ومحبتهم، وما وقع منهم ما يكون لهم فيه عذرٌ يخفى على الإنسان، ومنه ما تاب صاحبه منه، ومنه ما يكون مغفورًا… ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السَّلف». ويقول أيضًا: «وكذلك نؤمن بالإمساك عمَّا شجر بينهم، ونعلم أنَّ بعض المنقول في ذلك كذب، وهم كانوا مجتهدين؛ إمَّا مصيبين؛ فلهم أجران، أو مثابين على عملهم الصَّالح، مغفور لهم خطؤهم».
ويقول ابن حجر -رحمه الله-: «واتَّفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحدٍ من الصَّحابة؛ بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عرف المحقُّ منهم؛ لأنَّهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله -تعالى- عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنَّه يُؤجر أجرًا واحدًا، وأنَّ المصيب يؤجر أجرين».
الصَّحابة كلهم مجتهدون
ويبين السفاريني أنَّه لا منافاة بين كون الحق مع واحدٍ وبين أن يكون الصَّحابة كلهم مجتهدين فيما وقع منهم، فيقول: «والحقُّ الذي ليس عنه نزول، أنَّهم كلهم -رضوان الله عليهم- عدول؛ لأنَّهم متأوِّلون في تلك الخصومات، مجتهدون في هاتيك المقاتلات؛ فإنَّه وإن كان الحق على المعتمد عند أهل الحق واحدًا، فالمخطئ مع بذل الوسع وعدم التَّقصير مأجورٌ لا مأزور، وسبب تلك الحروب اشتباهُ القضايا، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم، وبالجملة فكلُّهم معذورون، ومأجورون لا مأزورون؛ ولهذا اتَّفق أهل الحق ممَّن يعتد به في الإجماع على قبول شهاداتهم ورواياتهم، وثبوت عدالتِهم؛ ولهذا قال علماؤنا كغيرهم من أهل السُّنة ومنهم ابن حمدان في نهاية المبتدئين: يجب حبُّ كل الصحابة، والكفُّ عمَّا جرى بينهم كتابةً وقراءةً وإقراءً وسماعًا وتسميعًا، ويجب ذكر محاسنهم، والترضِّي عنهم، والمحبَّة لهم، وترك التَّحامل عليهم، واعتقاد العذر لهم، وأنَّهم فعلوا ما فعلوا باجتهادٍ سائغ لا يوجب كفرًا ولا فسقًا، بل ربَّما يثابون عليه لأنَّه اجتهادٌ سائغ».
وخلاصة هذ الأصل: أن الصحابة اجتهدوا فيما وقع منهم، وهم مأجورون في ذلك وإن أخطؤوا؛ ولأجل هذا فإننا نكفُّ عمَا شجر بينهم ووقع منهم.
مركز سلف للبحوث والدراسات