منقول
الغاية من علم الأهلَّة
د. عماد الدين خيتي
النظرة المقاصدية في (علم الأهلة):
على الرغم من أنَّ (مقاصد الشريعة) ليست دليلاً مستقلاً بذاتها في استنباط الأحكام الشرعية؛ إلا أنَّ أهل العلم قد بيَّنوا وفصَّلوا الحديث في هذا العلم، ومشروعية الاستدلال به، وحاجة الفقيه وطالب العلم إلى معرفته للمقاصد الشرعية للأحكام واستقرائها؛ لما في ذلك من تمكينه من معرفة معاني النصوص وفقهها، وبخاصةٍ في ضبط الحديث في المسائل المتشابهة، وقياس بعضها على بعض، وألَّفوا في ذلك البحوث والكتب، مستدلين على ذلك بأدلةٍ من الكتاب والسنة وأقوال وأعمال السلف الصالح.
والمسألة معروفةٌ عند أهل العلم وطلبته، والاستدلال بها على مسائل كبيرة في الفقه أمرٌ مشهور، كالاستدلال على تحريم نكاح المتعة بمخالفته للمقاصد الشرعية من تشريع النكاح، وغيرها كثير.
فكيف إذا كانت هذه المقاصد منصوصًا عليها في القرآن والسنة، والمسلمون مأمورون بها؟ لاشك أنَّ الاستدلال بها حينئذٍ سيكون في غاية القوة والوضوح.
هل لعلم الأهلة غاية غير إثبات الشهور القمرية؟
عند الحديث عن إثبات الشهور القمرية وما يترتب عليها من أحكام صيام أو فطر أو حج، يستغرب البعض من كثرة الخوض في هذه المسألة والحديث عنها؛ فهي _عندهم_ أهون من أن يُثار حولها كل هذا النزاع والكلام، كيف لا وقد بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم _كما يقولون_ الحكم في منتهى السهولة والوضوح بقوله: (صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَانْسُكُوا لَهَا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ: فَأَكْمِلُوا ثَلَاثِينَ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فَصُومُوا وَأَفْطِرُوا) رواه النسائي وأحمد، وليس بعد بيان الرسول صلى الله عليه وسلم بيان، ولا يحتاج الأمر لأكثر من ذلك.
لكن: هل هذا فقط هو المطلوب شرعًا؟ وهل هو غاية ما دلت عليه النصوص الشرعية؟ وهل يتوقف الأمر عن مجرد رؤية الهلال فإثبات دخول الشهر؟
هذا ما سيتضح من خلال ما يلي:
أولاً: النصوص الشرعية الواردة في مسألة (الأهلة):
عند تتبع واستقراء النصوص الشرعية نجد أنها قد احتوت على العديد من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع:
1_ ففي بيان عدد شهور السنة:
قال تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [التوبة: 36].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ) متفق عليه.
فقد بيَّنت النصوص الشرعية عدد شهور السنة، وأنَّ هذا العدد لا يتغير ولا يتبدَّل، هو من سنن الله الكونية المستمرة، بل هو (دينٌ قيم).
2_ وفي بيان أيام الشهر القمري وأنها تدور ما بين (29) أو (30) يومًا قال صلى الله عليه وسلم: (الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا، وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ، وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ) متفق عليه.
فأيام الشهر القمري لا تزيد عن الثلاثين، ولا تقل عن تسع وعشرين.
3_ وورد في بيان تحريم العبث بالشهور القمرية بالزيادة أو النقص، أو التقديم أو التأخير قول الله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَه ُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين) [التوبة: 37].
فالنصوص الشرعية لم تتعامل مع مسألة إثبات الشهور القمرية على أنها عملية (وقتية) في معرفة دخول الشهر القمري أو خروجه فحسب، بل تعاملت معها على أساس أنها عملية كلية عامة، لها قواعد وأسس واضحة المعالم، وأنها عملية مستمرة (إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ).
فما الغايةُ من (علم الأهلَّة)؟
جاء في نصوصٍ أخرى _بالإضافة إلى ما سبق_ مزيدُ توضيحٍ وتحديدٍ للمسألة الهدف، والغاية الأسمى التي ينبغي على المسلمين السعي إليها، والعمل على ضبطها وإتقانها، وذلك من خلال آيتين كريمين:
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [يونس: 5].
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) [الإسراء: 12].
إذًا: فالغاية العظمى، والهدف الأسمى هو: ضبط مواقيت السنوات وعددها، ولا يكون ذلك إلا بإعدادِ وصناعة تقويمٍ خاصٍ بالمسلمين، ينطلق من الضوابط الشرعية العديدة التي ورد ذكرها في نصوص القرآن والسنة، سواء كانت ضوابط بداية الشهر، أو اليوم، وغير ذلك.
اهتمام المسلمين بالتقويم:
لم يخل تأريخ شعب من الشعوب من تقويم يسيرون عليه، ويعملون به، إلى أن كان للعرب في الجاهلية عدة طرق في التقويم: فمنهم من أخذ بتقويم بعض الدول المجاورة للجزيرة العربية، ومنهم من كان يؤرخ بالأحداث الهامة، كالحروب، والمجاعات، ونحوها.
واستمر الأمر في أيام المسلمين كذلك، فكانوا يؤرخون بالأحداث الهامة، كعام الفيل ونحوها.
إلى أن جاء عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذي شهد عهده استقرار شؤون الدولة وتنظيمها، فكان أن وضع التقويم الهجري على أساس التقويم القمري المعروف حينذاك، حتى أصبح هذا التاريخ من مزايا الأمة الإسلامية، انفردت به عن غيرها من الأمم.
ومن ذلك الوقت ما زال المسلمون في تطوير لنظام التقويم على مر الزمن واختلاف الدول.
وجوب الأخذ بالتقويم الهجري القمري:
ومما يؤيد هذا ويؤكده: أنَّ علماء المسلمين ما زالوا يقولون بوجوب الأخذ بالتقويم الهجري، واعتماده في فتاواهم وأبحاثهم المختلفة، والتأكيد على أنَّه التقويم المعبِّر عن هوية الأمة وثقافتها، ومما يدل على ذلك:
1_ أنَّ التقويم القمري هو التقويم الذي اختاره الله _تعالى_ لتسير عليه البشرية وتعمل به، فهو توقيفيٌ من صنع الله تعالى، كما سبق في نصوص تحديد عدد الشهور والأيام.
2_ أنَّ تفاصيل هذا التقويم القمري منصوصٌ عليها في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
3_ أنَّه مرتبطٌ بهوية الأمة الثقافية والتاريخية.
4_ أنَّ عبادات المسلم وشعائره الدينية جميعها مرتبطةٌ بالقمر وحركاته، وبالتالي هي مُرتبطةٌ بالتقويم الهجري القمري.
تساؤلات:
فإذا كان المطلوب شرعًا من المسلمين إعداد تقويم خاص بهم، فلا بد من طرح التساؤلات التالية:
1_ هل الطريقة المعمول بها حاليًا في إثبات الشهور القمرية توصل لهذا الهدف وتخدمه؟
2_ هل استقلال كل بلد أو مجموعة بلدان بإثبات دخول الشهور القمرية يخدم هدف التوصل إلى تقويم إسلامي شامل منضبط؟
3_ هل الفصل بين (التقويم الحياتي العملي) و(التقويم الشرعي) القائم على طريقة إثبات الشهور القمرية بالشكل الحالي أمر صحيح؟
إن نظرةً سريعةً إلى حال البلدان الإسلامية يجد: أن لكل مجموعةٍ منها تقاويم حياتية مدنية تعمل بها لتسيير أمور حياتها، ثم لكلٍ منها طريقةٌ منفصلة في إثبات الشهور القمرية، مما يجعلنا نقف أمام مجموعة كبيرة من البدايات المختلفة للشهور والسنوات نفسها، والتقاويم المتنوعة، فهل هذا هو ما أراده الشرع، ودلَّت عليه النصوص الشرعية؟
إنَّ منشأ المشكلة في حصر النظر في عدد محدود جدًا من الأدلة الشرعية _عادة لا تتجاوز الدليلين أو الثلاثة_ وترك عشرات النصوص المتعلقة بهذه المسألة وعدم اعتبارها، بناءً على أسباب تاريخية وعلمية كوَّنت ثقافة عامة أصبحت هي الحكم المفسِّر لبقية النصوص، والرافض للأخذ بها.
وبدايةُ تصحيح المسار: تكون في جمع النصوص الشرعية المتعلقة بمسألة (التقويم) و(إثبات الشهور القمرية) ثم إعادة النظر فيها وفق هذه النظرية المقاصدية العامة.
http://www.aleqt.com/2011/11/14/article_598165.html