بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله وحده، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ثم أما بعد...فهذه دراسةٌ وتخريجٌ لهذا الحديث المذكور، تبين أمره، وتكشف حاله بإذن الله تعالى. وتضع بحول الله تعالى النقاط على الحروف حول هذا الحديث وأوجهه المتعددة.وبعيداً عن الإطالة والتطويل فسأشرع بالمقصود على خيرٍ بإذن الله.
· حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:
فإنه لا يروى عنه إلا من طريقين فيما وقفت عليه:
* أما الطريق الأول عنه: فهو من رواية أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي (ثقة من رجال الصحيحين، لكنه يرسل، وجميع طرقه هنا التي روي حديث ابن مسعود عنه منها = كلها مرويةٌ بالعنعنة، والصحيح أنه لم يسمع من ابن مسعودٍ رضي الله عنه).
تفرد بالرواية عنه أبو قحذم النضر بن معبد الأزدي (ليس بشيء، ممن أجمع على ضعفه وتليينه، بل قال ابن حبان في حقه: [كان ممن ينفرد عن الثقات بالأشياء المقلوبات على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، فأما عند الوفاق فإن اعتبر به معتبر فلا ضير]).
(فائدة): قد تحرف الاسم في مطبوع أصول السنة لابن أبي زمنين إلى [النضر بن سعيد]. وأتى في طريق الحارث بن نبهان [ابن معبد].. وهو هو أبو قحذم النضر بن معبد. فتنبه
كما تحرف في الموضع الأول من رواية قوام السنة في الترغيب إلى [أبي معبد] وهو خطأ. فتنبه
ثم إنه يروى عن أبي قحذم من ستة طرق:
(الطريق الأول): طريق يحيى بن سلام التميمي (صدوقٌ في نفسه، قد ضُعِّف من قبل أئمة كبار، يهم ويخطئ) عنه.
أخرج طريقه ابن أبي زمنين في "أصول السنة" رقم (186) عن أبيه عبد الله بن عيسى (صدوق؛ ليس من أهل الرواية)، عن علي بن الحسن الخزاز (ثقة، لا بأس به)، عن أبي داود أحمد بن موسى الأزدي (صدوقٌ، صالح) عنه، وكان سماعه ليحيى بن سلام وهو صغيرٌ يحضره والده معه المجالس؛ فتنبه فروايته عنه مباشرة تستحق النظر لا تُسَلّمْ بالقبول.
(الطريق الثاني): طريق أبو نعيم الفضل بن دكين (ثقة ثبت من رجال الصحيحين) عنه.
يروى عنه من وجهين:
الأول: من طريق عمار بن رجاء التغلبي (صدوقٌ قد وثق) عنه.. أخرجه ابن عدي في "الكامل" (8/264) عن عبد الرحمن بن محمد بن علي القرشي (من أهل جرجان؛ مجهولٌ لا يعرف) عنه.
الثاني: من طريق أبو منصور نصر بن داود الصاغاني (محله الصدق) عنه.. أخرجه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" رقم (740).
(الطريق الثالث): طريق داود بن المحبر الطائي (ساقطٌ ذاهب الحديث، قد ترك حديثه) عنه.. أخرجه الحارث في "مسنده" كما في البغية رقم (742).
(الطريق الرابع): طريق يزيد بن هارون الواسطي (تقة ثبت من رجال الصحيحين) عنه.
أخرجه اللالكائي في "شرح الأصول" رقم (210) عن أحمد بن عبيد الواسطي (ثقةٌ صدوق)، عن علي بن عبيد الله بن مبشر الواسطي (ثقة)، عن أحمد بن سنان الواسطي (ثقةٌ من رجال الصحيحين) عنه.
(الطريق الخامس): طريق علي بن عاصم القرشي التيمي (ساقطٌ ليس بشئ، قد ترك حديثه) عنه.
أخرجه اللالكائي في "شرح الأصول" رقم (2351) عن الحسين بن عمر البزاز (ثقة)، عن محمد بن عمرو الرزاز (ثقة)، عن يحيى بن حعفر البيكندي (ثقة من رجال البخاري) عنه.
(الطريق السادس): طريق الحارث بن نبهان الجرمي (متروك الحديث؛ ليس بشئ) عنه.
وهو يورى عنه من وجهين:
الأول: من طريق عبد الله بن وهب (ثقة ثبت من رجال الصحيحين).. أخرجه قوام السنة في "الترغيب" رقم (629، 2360) ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (49/40) عن محمد بن عبد الواحد الصحاف (شيخ صالحٌ صدوق)، عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي (وهو وإن كان صدوقاً في نفسه؛ لكنه كثير التدليس والخلط والتصحيف والخطأ)، عن أبو الشيخ عبد الله بن محمد بن جعفر (ثقةٌ ثبت)، عن أبو العباس محمد بن أحمد الفقيه الهروي (شيخٌ صدوقٌ من الحفاظ)، عن يونس بن عبد الأعلى الصدفي (ثقةٌ من رجال مسلم) عنه.
الثاني: من طريق معافى بن عمران الأزدي (ثقةٌ من رجال البخاري).. أخرجه القشيري في رسالته (ص288) ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (49/39) عن أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي (ثقة), عن أحمد بن عبيد البصري (ثقة ثبت), عن إسماعيل بن الفضل البلخي (ثقة), عن يحيي بن مخلد المقسمي (ثقة) عنه.
(فائدة) تحرف اسم الحارث بن نبهان في أصل "الرسالة" وتابعه في "تاريخ دمشق" إلى [الحارث بن شهاب]. فتنبه، فلذلك استدرك الإمام ابن عساكر فقال بعد روايته: (الصواب الحارث بن نبهان).
كما أتى النص في طريق ابن وهب هكذا: ( "ثلاث هن أصل كل خطيئة فاتقوهن، واحذروهن، وثلاث إذا ذكرت فأمسكوا: إياكم والكبر فإن إبليس إنما منعه الكبر أن يسجد لآدم، وإياكم والحرص: فإن آدم إنما حمله الحرص على أن أكل من الشجرة، وإياكم والحسد فإن ابن آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسداً، فهن أصل كل خطيئة فاتقوهن واحذروهن. والثلاث: إذا ذكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا" ).
بينما أتى في طريق معافى بن عمران هكذا: ( "ثلاث هن أصل كل خطيئة فاتقوهن واحذروهن: إياكم والكبر فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم, وإياكم والحرص فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة, وإياكم والحسد فإن ابني آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسدا" ).
فأنت تلاحظ أن هناك مخالفة في المتن بين الطريقين هنا واضحة جداً أثبت الزيادة فيه ابن وهب، وقصر فيه المعافى بن عمران.. وقد يكون أصاب فيه أحدهما وأخطأ الآخر؛ طبعاً وفي هذه الحالة لا يلزم أن يكون الخطأ منهما شخصياً، بل هو من غيرهما ألصق.
* أما الطريق الثاني عنه: فيرويه أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي (ثقةٌ من رجال الصحيحين).
تفرد بالرواية عنه سليمان بن مهران الأعمش (ثقة ثبت من رجال الصحيحين)، فتفرد عنه مسهر بن عبد الملك الهمداني (ضعيفٌ غير محمود، يخطئ ويهم وفيه نظر)، فتفرد عنه سعيد بن سليمان الواسطي (ثقةٌ من رجال الصحيحين إلا أنه يقع في تصحيفات وأخطاء).
ثم هو يروى عن سعيد بن سليمان من طريقين:
الأول: طريق الحسن بن علي الفسوي (صدوقٌ لا بأس به) عنه.. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير رقم (10448)، وأبو نعيم في "الإمامة" رقم (199) و"الحلية" (4/108) عن أحمد بن إبراهيم الكندي (ثقة).
الثاني: طريق عمرو بن محمد الناقد (ثقةٌ من رجال الصحيحين) عنه.. أخرجه البيهقي في "القضاء والقدر" رقم (444) عن أبو عبد الله الحاكم (ثقة)، عن أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه (ثقة)، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل (ثقةٌ ثبت) عنه.
فخلاصة هذا الوجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه وجهٌ ضعيفٌ جداً من كلا طريقيه، لا يصح ولا يثبت.
أما الطريق الأول عن أبي قلابة؛ ففيه من العلل ما يلي:
- أبو قلابة نفسه، فحديثه عن ابن سعود رضي الله منقطع، فلم يسمع منه رحمه الله.
- أبو قحذم المتفرد به عنه، ليس بشئ ولا يحتج به، وقد مضى نقده.
فإذا كان الإعلال واقعاً في مداريّ هذا الطريق فما يأتي بعدهما من علل فتحصيل حاصل. فتأمل... وقد بينت فيما مضى علل كل طريقٍ إن وجدت في محلها فلا داعي للإعادة هنا، وهي لا تخفى على حاذق.
أما الطريق الثاني عن أبي وائل الأسدي؛ فإنه من رواية الضعيف الغير محمود الذي فيه نظر مسهر بن عبد الملك؛ والذي تفرد بها عن الأعمش ولم يتابعه عليها أحد.. فهو آفة هذا الطريق.
وإجمالاً: فلا يصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في هذا الباب شيء.. ومن حسن أو صحح هذا الحديث من بعض طرقه عن ابن مسعود أياً كان هذا المصحح أو المحسن؛ فقد تساهل وتعجل أيما تساهلٍ وتعجل. والله يعفو ويغفر.
يتبع إن شاء الله على حسب الوسع والطاقة..