هذه كلمات هي جزء من خطبة لي، عسى الله أن ينفعني بها وإياكم:
* - أخرج أبو داود وغيره عن ميمون بن أبي شبيب، أن عائشة، مر بها سائل فأعطته كسرة ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل فقيل لها في ذلك فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزلوا الناس منازلهم».
وفي رواية: أمرنا أن ننزل الناس منازلهم.
والحديث ضعيف، فميمون لم يدرك عائشة. إلا أن معناه حسن صحيح، بل وكان أمر حقيقيا في القرون الخيرية.
قلت: وقد ذكر مسلم هذا الحديث في مقدمة صحيحه معلقًا، يستدل به على إنزال الرواة منازلهم.
وفي الصحيحين عن عائشة: ثَقُلَ النبي صلى الله عليه وسلم فَقال: أصلى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ . قال: ضَعُوا لي مَاءً في الْمِخْضَبِ. قَالَتْ: فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فأغمي عَلَيْهِ، ثُمَّ أفاق فَقَالَ، صلى الله عليه وسلم: أصلى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال: ضَعُوا لي مَاءً في الْمِخْضَبِ. قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فأغمي عَلَيْهِ، ثُمَّ أفاق فَقال: أصلى النَّاسُ؟ قُلْنَا: لا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقال: ضَعُوا لي مَاءً في الْمِخْضَبِ، فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فأغمي عَلَيْهِ، ثُمَّ أفاق فَقال: أصلى النَّاسُ؟ فَقُلْنَا: لا، هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالنَّاسُ عُكُوفٌ في الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النبي عَلَيْهِ السَّلامُ لِصَلاةِ الْعِشَاءِ الآخرة. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بَكْرٍ بِأنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، فَأتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ إن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تُصَلِّي بِالنَّاسِ. فَقَالَ أبو بَكْرٍ -وَكَانَ رَجُلا رَقِيقا-: يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أنت أحق بِذَلِكَ. فَصَلَّى أبو بَكْرٍ تِلْكَ الأيام.
قلت: ها هو النبي صلى الله عليه وسلم ينزل أبا بكر منزلته، وكذلك عمر، حينما قال له أبو بكر: يا عمر صل بالناس. قال: أنت أحق بذلك، والله المستعان.
* - ومن الأمور التي تؤدي إلى عدم إنزال الناس منازلهم:
1- الكِبر:
في صحيح مسلم وغيره عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ».
فالكبر يجعلك تزدري الناس وتحقرهم، ولا تنزلهم منازلهم.
2- صغر السن:
وفي صحيح البخاري وغيره عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، قَالَ: كُنَّا بِمَاءٍ مَمَرَّ النَّاسِ، وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ فَنَسْأَلُهُمْ: مَا لِلنَّاسِ، مَا لِلنَّاسِ؟ مَا هَذَا الرَّجُلُ؟ فَيَقُولُونَ: يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَهُ، أَوْحَى إِلَيْهِ، أَوْ: أَوْحَى اللَّهُ بِكَذَا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ ذَلِكَ الكَلاَمَ، وَكَأَنَّمَا يُقَرُّ فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ العَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلاَمِهِمُ الفَتْحَ، فَيَقُولُونَ: اتْرُكُوهُ وَقَوْمَهُ، فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ فَهُوَ نَبِيٌّ صَادِقٌ، فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ أَهْلِ الفَتْحِ، بَادَرَ كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلاَمِهِمْ ، وَبَدَرَ أَبِي قَوْمِي بِإِسْلاَمِهِمْ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: جِئْتُكُمْ وَاللَّهِ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقًّا، فَقَالَ: «صَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، وَصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا» . فَنَظَرُوا فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي، لِمَا كُنْتُ أَتَلَقَّى مِنَ الرُّكْبَانِ، فَقَدَّمُونِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَأَنَا ابْنُ سِتٍّ أَوْ سَبْعِ سِنِينَ، وَكَانَتْ عَلَيَّ بُرْدَةٌ، كُنْتُ إِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ عَنِّي، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الحَيِّ: أَلاَ تُغَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ؟ فَاشْتَرَوْا فَقَطَعُوا لِي قَمِيصًا، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ فَرَحِي بِذَلِكَ القَمِيصِ.
وفي الصحيح من حديث أبي مسعود مرفوعًا: يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا في السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا.
قلت: فلما كانت السنة، تقديم أقرؤهم لكتاب الله وإن كان صغيرا، قدم الصحابة عمرو بن سلمة، على الرغم من صغر سنه، لأنها منزلته التي يستحقها في دين الله.
وفي سير أعلام النبلاء (12/ 393)
مُحَمَّدِ بنِ أَبِي حَاتِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ: كَيْفَ كَانَ بَدْءُ أَمرِكَ؟ قَالَ: أُلْهِمْتُ حِفْظَ الحَدِيْثِ وَأَنَا فِي الكُتَّابِ. فَقُلْتُ: كم كَانَ سِنُّكَ؟ فَقَالَ: عشرُ سِنِيْنَ، أَوْ أَقَلّ، ثُمَّ خرجْتُ مِنَ الكُتَّابِ بَعْد العشرِ، فَجَعَلْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى الدَّاخلِيِّ وَغَيْرِهِ، فَقَالَ يَوْماً فِيْمَا كَانَ يَقْرَأُ لِلنَّاسِ: سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ لَمْ يَرْوِ عَنْ إِبْرَاهِيْمَ. فَانْتَهَرنِي، فَقُلْتُ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى الأَصْلِ فَدَخَلَ فنظَرَ فِيْهِ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ هُوَ يَا غُلاَمُ؟ قُلْتُ: هُوَ الزُّبَيْرُ بنُ عَدِيٍّ، عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، فَأَخَذَ القلمَ مِنِّي، وَأَحْكَمَ كِتَابَهُ، وَقَالَ: صدقْتَ. فَقِيْلَ لِلْبُخَارِيِّ: ابْنُ كَمْ كُنْتَ حِيْنَ رددتَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً.
وفي سير أعلام النبلاء (12/ 401)
عن أَبُي بَكْرٍ الأَعْيَن قَالَ: كتبنَا عَنِ البُخَارِيِّ عَلَى بَابِ مُحَمَّدِ بنِ يُوْسُفَ الفِرْيَابِيِّ، وَمَا فِي وَجْهِهِ شَعْرَةٌ.
قلت: ها هو البخاري رحمه الله يكتب عنه وهو صغير السنة لم تبت له لحية، بل يرد خطأ شيخه، ويصحح له، ولم يمنعهم من الكتابة عنه وقبول قوله الصواب أنه صغير في السن.
3- ولا تجعل حبك لشخص أن ترفعه فوق منزلته فهذا من الغلو، ولا بغضك لشخص أن تبخسه حقه فهذا من الظلم.
ففي مسند أحمد وسنن أبي داود عن أبي الدرداء مرفوعًا: حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ.
قلت: وهذا حديث ضعيف مداره على أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، وهو ضعيف الحديث، إلا أنه واقع نحياه ونعيشه.
وفي الصحيح عن ابن عباس مرفوعًا: لاَ تُطْرُونِي كَمَا أُطْرِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ.
وفي صحيح البخاري: عَنِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، وَجُوَيْرِيَاتٌ يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، يَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِهِنَّ يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قَالَتْ جَارِيَةٌ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَقُولِي هَكَذَا وَقُولِي مَا كُنْتِ تَقُولِينَ».
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى من أن يرفع فوق منزلته، كما فعلت الصوفية في هذه الأزمان، ظنا منهم أنهم يحبون النبي ويعظمونه، والله المستعان.