بقلم: سيد نزيلي
كَثُرَ الحديث في هذه الأيام عن "الدولة الدينية" التي يتخيل أشخاص بأعيانهم وأصحاب أقلام بذواتهم أن حكم الإسلام يرتبط ارتباطاً لازمًا بإنشاء دولة يحكمها رجال الدين.. لهم زي خاص.. وفي الأغلب الأعم يلبسون الزي الأزهري.. أو ما نسميهم بأصحاب العمائم، وأن كل همهم الحديث عن الدار الآخرة، وعن الجنة والنار ومحاربة البدع وإزالة المنكرات بكل غلظة وقسوة.

وأن غاية أهدافهم قطع يد السارق ورجم الزاني أو الزانية وجلد شارب الخمر وإقامة الحدود في شكلها الجنائي الرادع، وأن التعليم سيقتصر في ظلِّ هؤلاء الحكام "المشايخ"، على الجانب الديني إلا قليلاً، وسيبتعد بالتالي عن الجوانب المدنية والحضارية إلا في حدود الحاجة أو الضرورة، وفي أضيق نطاق، ويترتب على ذلك التخلف عن ركب الحضارة الحديثة بما تزخر به من اختراعات وإبداعات من شأنها التيسير على حياة الناس، وإحداث التقدم في كل أنشطة الحياة، وأن ذلك كله بما فيه من تخلف وانحطاط كما يزعم خصوم الحكم الإسلامي سيؤدي بالتبعية إلى إزالة وزوال كل أنواع الفن من تمثيلٍ وأغانٍ ورسمٍ وتصوير وفنون تشكيلية وأنشطة السينما والمسرح.

وتنحسر فعاليات الأفلام والمسرحيات والمسلسلات في الإذاعة والتليفزيون.. وتتحول حياة الناس إلى كآبةٍ وغَمٍّ وهَمٍّ.. وتزول الابتسامة وألوان المرح.. ويحل في حياتهم التجهم والغلظة والشراسة والتكشير عن الأنياب!!.

ويهدف خصوم الإسلام وأعداء النموذج الإسلامي الراقي إلى تخويف الناس وبث الرعب في النفوس وقطع الطريق على الحركة الإسلامية.. والوقيعة بين دعاة الإسلام وأصحاب السلطة والنفوذ من الحكام بادعاء أن الإسلاميين هم البديل الطبيعي لحكم البلاد، وأنهم هم المرشحون لتولي السلطة فيترتب على ذلك زيادة القبضة الأمنية على العاملين بصدق لتحقيق النموذج الإسلامي في إدارة شئون الناس، وتعطل كل خطوات تحقيق الديمقراطية وتصادر هوامش الحريات الفردية والعامة ويستمر قانون الطوارئ بما يحمله من اعتقالات عشوائية ومحاكمات عسكرية ومصادرات للأموال والممتلكات كما تزَوَّر الانتخابات وتزيف إرادة الأمة ويعم الفساد.

الدولة الإسلامية ورجال الدين
تحت هذا العنوان يقول في كتابه "الدين والسياسة": "من الأوهام المعششة في كثير من الأذهان التي يروجها دعاة العَلمانية أن الدول الإسلامية هي دول المشايخ ورجال الدين وربما اقتبسوا هذه الصورة من حكم الكنيسة الغربية قديمًا.. وهو الحكم الثيوقراطي المعروف، وربما ذكر بعضهم دولة الملالي وآيات الله وحجج الإسلام في الجمهورية الإسلامية في إيران".

ولا شك أن قياس الإسلام على المسيحية قياس باطل من أساسه، فالمسيحية تقوم على نظام كهنوتي معترف به.. له سلطاته ونفوذه وممتلكاته ورجاله على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم في سلم القيادة المسيحية ولا يوجد هذا النظام في الإسلام.

فليس في الإسلام ما عُرف في القرون الوسطى وحتى الآن الاعتراف بين يدى القساوسة ورجال الدين عندهم.. بما يترتب على ذلك من هتك ستر الأسر والأفراد.. وانتشار الرذائل والفواحش والتغرير بالنساء المصونات.

كما ليس في الإسلام "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" فالأمر كله لله.. وإليه يرجع الأمر كله.. وما البشر جميعًا كبيرهم وصغيرهم قيصرهم ورعيتهم إلا خلفاء لله في هذه الأرض.. يقيمون أمره ويلتزمون منهجه وفق السنن والنواميس التي وضعها الله تعالى لهذا الكون.. ﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (الأعراف: من الآية 128)، والإسلام لا يعرف وساطة بين العبد وربه ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)﴾ (البقرة).

والمسلم يستطيع أن يؤدي عبادته من صلاة وصيام وزكاة وحج بدون وساطة "شيخ" وليس بينه وبين الله وساطة، وبابه مفتوح له في كل حين وكل حال ليس عليه حاجب ولا بواب.
والحاكم في الإسلام ليس بالضرورة شيخًا أو متخصصًا في علوم الدين وفي كل مذاهب الإسلام.. ويرشح الشخص للمنصب صفتان أساسيتان: القوة والأمانة.. كما جاء في القرآن ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ (القصص: من الآية ٢٦).


والقوة هنا تعني الكفاية والقدرة على أداء العمل بجدارة بما لدى الشخص من مواهب وثقافة وخبرة وقدرة.. فهذا يعني: الجانب العلمي والفني.. والأمانة تعني الجانب الخلقي بحيث يخشى الله في عمله.. لا يغش ولا يخون ولا يهمل ولا يتعدى حدًّا من حدود الله ولا يجور على حق من حقوق الناس.

وفي كلمات يرد بها على الأستاذ خالد محمد خالد تحت عنوان "شبهات حول الحكم الديني" يقول: "يقع في الوهم أن الحكم إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن "رجال الدين"، وقد ثبت في الأذهان صور لعمائم كبيرة ولحًى موفورة وأردية فضفاضة، وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء.. وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة.. ويستطرد الشيخ الغزالي متهكمًا فيقول.. ومَن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرة وحسبهم ذلك من الظفر بالحكم!!

وهذا وهم مضحك ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائن.

وحقيقة الأمر أن المسلمين لا يعرفون طوال تاريخهم هذا الاصطلاح المريب "رجال الدين" إنما نعرف فقط "علماء الدين" الذين لهم علم ودراية ودراسة لكل علوم الإسلام من تفسير وحديث وتاريخ وسيرة وفقه وأصول الفقه، وكذلك علوم الكلام والفلسفة وغير ذلك من مجالات تحتاج إلى تعمق ودراسة وتخصص، وهناك تخصصات أخرى لا تقل أهميةً ولا احترامًا ولا تشجيعًا في حياة الدولة الإسلامية مثل الطب والهندسة والعلوم المختلفة كالكيمياء والفيزياء والفلك وعلوم البحار والأرض، وغير ذلك من التخصصات التي لا غنى عنها لتحقيق التقدم والنمو والازدهار في حياة الأمة.

ومن هنا فقد وجدنا على مدار التاريخ الإسلامي رجالاً للحكم والسياسة تؤهلهم مواهبهم وخبراتهم، يشغلون أعلى المناصب في الدولة مثل عبد الرحمن بن عوف في التجارة وابن الوليد في القيادة وابن الخطاب في الحكم، ولا يمكن أن يدَّعي أحد أن هؤلاء الكرام وأمثالهم كانوا رجال دين متخصصين في علوم الشريعة، إنما كانوا فقط يحكمون الأمة باختيار أهل الحل والعقد لهم، وكانت مرجعيتهم في إدارة الدولة إسلامية ولم يَدَّعِ حكام المسلمين إطلاقًا أنهم يحكمون باسم الله، أو تنطبق عليهم النظرية "الثيوقراطية"، كما كان الحال في حكام أوروبا في القرون الوسطى، وفي بداية عصر النهضة وكما سبق الإشارة إلى ذلك.

ومبدأ "وليتُ عليكم ولست بخيركم" يعني أن الحاكم في الإسلام "شخص ليس بأفضل من باقي المسلمين ولا يتميز عليهم، وهو فقط قد اجتمعت عليه الشورى، وهو بحاجةٍ إلى مساندة الأمة له بالنصح والمساندة والعمل الدائب لتقوية أساس الدولة، ورفع شأنها وسد ثغورها في كل مجالات الحياة، وهو بشر يخطئ ويصيب، وبهذا فقد أردف أبو بكر الصديق رضي الله عنه "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم"، وهذا عمر رضي الله عنه: "فإن وجدتم فيَّ اعوجاجًا فقوموني" فقام رجل فقال له: والله يا عمر لو وجدنا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا.

ومن هنا فإن الحاكم لا يتولى شئون الحكم بالتفويض الإلهي، ولا " باسم الله"، إنما كما قلنا بشر يخطئ ويصيب، ولكن مع هذا تدور كل شئون الأمة التي يتولى قيادتها في إطار من شرع الله.

ومن هنا كذلك نؤكد أن الحكم في الإسلام حكم مدني يتولاه حكام مدنيون بمرجعية إسلامية، إذ لم يعرف الإسلام تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوروبا كما ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خوَّلها الله لكل المسلمين أدناهم وأعلاهم والأمة هي التي تولّي الحاكم، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه.

وأخيرًا، أليس من حقنا أن نقول لكل العَلمانيين والكارهين للمشروع الإسلامي النهضوي "كفاكم هُراء وتقليدًا للغرب وسيرًا وراءه حذو القذة بالقذة فلا كهنوتية في الإسلام".