بسم الله الرحمن الرحيم
حاجة العباد للتوحيد
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد...
فإن حاجة العبد إلى التوحيد كحاجته إلى النَّفَس. فقلب لا توحيد صحيح فيه لا روح فيه؛ لقوله عز وجل: ﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ﴾ وقال عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.
فهو الأصل والأساس، والصلاة وإن كانت هي عمود الإسلام فمع ذلك لم تفرض إلاَّ بعد الأمر بالتوحيد بنحو عشر سنين، ومما يبين أن التوحيد هو الأصل كونه يوجد من يدخل الجنة ولو لم يصل ركعة واحدة، وذلك إذا اعتقد التوحيد وعمل به ومات متمسكًا به، كأن يقتل قبل أن يصلي أو يموت قبل دخول الوقت. والصلاة لا تنفع وحدها، ولو صلى وزكى وصام إذا لم يعتقد التوحيد، وبذلك يعرف عظم شأن التوحيد، وما هلك من هلك إلاَّ بترك العلم بالتوحيد والعمل به، وما دخل الشيطان على من دخل، ولا مزق عقول من مزق، ولا وقع ما وقع إلاَّ من آفة قولهم: يكفي النطق بالشهادة ومجرد المعرفة، وذلك لكونهم ابتلوا بالشرك وعبادة الأوثان وكثرة الشبهات الباطلة، فبذلك خفي التوحيد على بعض من الناس، أو لم يعلم هؤلاء أن الإنسان لو توضأ وضوءًا صحيحًا ثم بعد قليل أحدث أما يقال له: إن وضوءك بطل وصرت كأنك لم تتوضأ، فكذلك من نطق بالشهادتين فقد دخل في الإسلام ثم بعد قليل أشرك في عبادة الله من دعاء الأموات والذبح للجن ونحو ذلك فهذا يقال له كالمتوضئ الذي أحدث، يقال: بطل إسلامك وانتقض وصرت كأنك لم تدخل في الإسلام. وكان الناس في زمن الصحابة رضي الله عنهم يعرفون التوحيد والشرك، فمن قال: لا إله إلاَّ الله يترك الشرك ويعلم أنه باطل منافٍ لكلمة الإخلاص، ولهذا لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد وقال: «قولوا لا إله إلاَّ الله تفلحوا» قالوا: ﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ وأما حين كثرت الشبهات وحدث النفاق صعب معرفة التوحيد والتخلص من ضده؛ لكثرة النفاق وشعبه، وصار الكثير يقولها ويعبد مع الله غيره، أو يقع في الشرك الأصغر لعدم معرفته بشعب النفاق والشرك الأصغر، ولو عرف ذلك لتركه واجتنبه وحرص على شعب الإيمان التي تقوي الإيمان في القلب وتزيد في التوحيد.
لذا فإنه يجب على من دعا إلى الله أن يهتم بتعلُّم التوحيد وتعلُّم ما يضاده، وأن يُبَيِّن للعامة نِعَم الله التي أنعم بها عليهم، وأنه خلقهم من العدم ورباهم بالنعم الظاهرة والباطنة. فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ملكًا واستحقاقًا. فكما أنه لا شريك له في ملكه فكذلك لا شريك له في عبادته، فربنا جل وعلا واحدٌ في أفعاله فعلينا أن نوحده في أفعالنا، والذي لا يهتم بتعلم التوحيد وتعليمه لا يعرف قدره بل لا يعرف حقيقته وتحقيقه؛ لأن التوحيد لابد أن يكون بالقلب واللسان والعمل، فإن اختل شيء من هذا لم يكن الرجل مسلمًا حقًّا، وكلما ازدادت معرفة العبد للتوحيد ازدادت رغبته فيه وفي قراءة كتبه، وازداد تعطشه إلى معرفة ما يخلصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، ومما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- في كتابه «كشف الشبهات» في الحث على تعلم التوحيد قال: «ولكن هذه القصة تفيد أن المسلم بل العالم قد يقع في أنواع من الشرك لا يدري عنها، فتفيد التعلم والتحرز ومعرفة أن قول الجاهل: [التوحيد فهمناه] أن هذا من أكبر الجهل ومكائد الشيطان» .
وأهم ما جاءت به الرسل بعد التوحيد جمع الكلمة ولم الشعث وتسوية الصفوف؛ لما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: ألاَّ تعبدوا إلاَّ الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاَّه الله أمركم» . ومثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، والمؤمن رحيم رءوف. وما شرع الله في دينه التواضع وعدم التكبر إلاَّ ليتمّ بين عباده التآلف، والمسلم أليف مألوف، وما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وآخى بينهم في كل شيء بالمعروف وقضى على ما كان بين الأوس والخزرج من الخلاف إلاَّ لكي يتحدوا، وفضل الاتحاد على الحق معروف، وما استاءت اليهود من شيء استياءهم من اجتماع المسلمين وتآلفهم بعدما كان بينهم من الفرقة والقتل والخوف، حتى أضمروا الشر ودبروا الأمر. وخوَّف الله من كيدهم وحذر فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ﴾ وبفضل الله تعالى ثم بالاتحاد على الحق ظهر المسلمون مع قلتهم على أعدائهم من كفار أهل الكتاب والمشركين. وقد ذكر العلامة محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله تعالى- في مسائل الجاهلية فقال: (الثانية) أنهم متفرقون في دينهم كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ وكذلك في دنياهم –ويرون ذلك هو الصواب- فأتى بالاجتماع في الدين بقوله: ﴿ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ ونهانا عن مشابهتهم بقوله: ﴿ وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ﴾ ونهانا عن التفرق في الدين بقوله: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾.
ثم قال رحمه الله تعالى: (الثالثة من مسائل الجاهلية) أن مخالفة ولي الأمر وعدم الانقياد له فضيلة، والسمع والطاعة ذُلٌ ومهانة. فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر بالصبر على جور الولاة، وأمر بالسمع والطاعة لهم والنصيحة، وغلظ في ذلك وأَبْدَأَ فيه وأعاد، وهذه الثلاث التي جمع بينها فيما ذكر عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: «إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن لا تعبدوا إلاَّ الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» ولم يقع خلل في دين الناس ودنياهم إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها. انتهى.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: إن من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء كالمعتزلة فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، وذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات، أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي -وإن كان متمضنًا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته واعتبار مقادير المصالح والمفاسد وهو عنوان الشريعة، فإذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل وإما يفعلوهما جميعًا أو يتركوهما جميعًا لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر، بل ينظر؛ فإن كان المعروف أكثر أمر به وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وزوال فعل الحسنات.
وإن كان المنكر أغلب نهي عنه وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف يكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر، وسعيًا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يأمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر وتارة يصلح النهي وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة والواقعة، وإنكار المنكر تارة يكون بالقلب وتارة باللسان وتارة باليد؛ فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس بمؤمن، وأما اليد واللسان فيحتاج الأمر بهما إلى فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما يقدر عليه، وما لا يقدر عليه فإذا لم يكن كذلك فهو في أمره بالمعروف متعدٍّ لحدود الله (إلى قوله رحمه الله تعالى): ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة ونهي عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: «أدّوا حقوقهم وسلوا الله حقوقكم» انتهى المراد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله تعالى- وهو كلام نفيس.
نسأل الله تعالى أن يرينا الحق حقًّا ويرزقنا أتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسًا علينا فنضل، ونسأله جل وعلا أن يصلح قلوب ولاة أمرنا وأعمالهم وأن يجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائه حربًا لأعدائه، ونسأله جل وعلا أن ينصر دينه ويعلي كلمته. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.