الدنيا غدارة غرارة لا يغترُّ بها إلا جاهل , ولا يركن إليها إلا من ضَعُفَ إيمانه أو قلّت بصيرتُه , وفي كتاب ربنا ( فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ) . ومن واقع الحياة , وفي قديم الزمان وحديثه : قد ينام المرءُ في القصور العالية وعلى الفرش الوثيرة , ثم يصبح وهو في غاية من الذل والمهانة , وقد يشح عليه المكانُ للمنام وقد يضيق به الفضاء على سعته . من خلق الله من أصبح غنياً فأمسى فقيراً , أو كان في أول النهار صحيحاً قوياً فإذا به في آخره مريضاً ضعيفاً , وفي التاريخ نماذج لمن غرتهم قوتهم وتطاولوا على مقام الألوهية واستخفوا بالعباد والعبودية وقال فرعونهم ( أنا ربكم الأعلى ) ( ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري ) ثم شاء الله أن يريهم ويرى الناس من حولهم ضعفهم ومهانتهم , بل وكان قدر الله عظيماً إذ جعل نهاية فرعون على سطح الماء الذي هو أصل الحياة والنماء ( حتى إذا أدركه الغرقُ قال آمنتُ أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين ) .

لم ينفعْ فرعونُ رجوعه للحق في ساعات الضعف والحرج , وخلد الله ذكره ونجاه ببدنه ليكون عبرة لكلّ طاغية ومستكبر ( آلان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين , فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ... ) .

ومن قوم موسى قارونُ نموذجٌ للطغيان بالمال , ونموذجٌ للجحود والإستكبار . لقد بغى وطغى أن رآه استغنى , ونسي واهب المال ومقدر الأرزاق وقال قولته الآثمة الجاهلة ( إنما أوتيته على علم عندي ) , وحين لم يأبه بنصح الناصحين ولم يسمع لعظة الذين أوتوا العلم ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير .. ) وقال الناصحون من قومه ( لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين , وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا .. ) حين سفَّه قارون كلَّ هذه الأراء وسخر بالناصحين , كانت النتيجة مؤلمةً والنهايةُ عبرةً ( فخسفنا به وبداره الأرض ) - وما أسرع فرارُ الأصحاب والخلان حين تقع الواقعة على أصحابها – حين لا يكون الولاء لله , والصحبة من الأعماق ولهدفٍ نبيلٍ ( فما كان له فئةٌ ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين ) .

عجباً لك يا ابن آدم ! تسوَّدُ وترأسُ وتقوى لتُختبر وتُمتحن وإن كنت من قبل ضعيفاً , وتتطاول على الناس أن ملكت المال والجاه – وتنسى أنك خرجت إلى الحياة – أول مرة – عارياً ومن العقل والعلم لا تعلم شيئاً .. ثم ستعود في نهاية الحياة إلى الخروج منها ليس يغطيك إلا أكفان وإن تيسر شيء من حنوط .. وأنت فاقدٌ للإحساس تماماً , غائباً عن الدنيا بأسرها حتى يُعاد بعثك حين ترد على الله .

أفيليق بمن تلك بدايته ونهايته أن يستكبر ويطغى ويظلم ويجحد , وينسى من خلق - وأنى له أن يأبه لشأن الخلق – وهو في تلك السكرة والطغيان ؟

المسلم الحق يؤمن بالقضاء والقدر , وما تدري نفس ماذا تكسب غداً , وماتدري نفس بأي أرض تموت , والقارئ للقرآن يؤمن بأن الله يُعز من يشاء ويذل من يشاء , ويؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ..

والمؤمن الحق على يقينٍ أن العزة الحقَّ لله ولرسوله وللمؤمنين , ويُهن الله فماله من مكرم , ومهما تلبس المرءُ برداء الله ( الكبرياء ) فهو قميص منتحل , ومهما طغى وظلم فالله يمهل ولا يهمل ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ) ( وأن القوة لله جميعاً ) ومهما نسى الخلق جرائم المخلوقين , أو غابت عنهم شيء من فساد المفسدين فربّك لا تخفى عليه خافية وهو عزيزٌ ذو انتقام , وعلى مرّ العصور وفي مختلف الأمكنة يكشف الله قدراً من أقداره في هتك أستار الطغاة والمجرمين ليكون عبرةً للمعتبرين ولا يظلم ربُّك أحداً .

وتلك الأيام نداولها بين الناس , وكذلك الدهر ربما بات أبناء الملوك يطأون المسك والكافور فتحولوا إلى حفاةٍ يسألون الناس المعاش ويبحثون عن المهن , وكذلك كان مشهد " العباد بن المعتمد " أحد ملوك الطوائف بالأندلس ( المفقود ) والذي عاش فترة من النعيم وملك البلاد , وزار بلاطه العلماء والشعراء – وفجأة تحول به قدر الله إلى سجن ( أغمات ) وأخذت بناته أسيرات , وقد قيل إن بنات المعتمد أتينه في عيد وكنّ يغزلن بالأجرة في أغمات , فرآهنّ في أطمار رثّة , فصدّعن قلبه وقال :

فيما مضى كنت بالأعياد مسرواً فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعةً أبصرهنّ حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدام حافيةً كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا

قال الذهبي معلقاً على حالته وفقر ولده : قلت : افتقروا بالمرَّة , وتعلموا صنائع وكذلك الدهر , نسأل الله المغفرة . " سير أعلام النبلاء 19 / 64 , 66 " .

ومن قبل و أصدق ففي نماذج القرآن عبرةٌ وآية ( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له ) فلما طغوا وأعرضوا كان قدر الله منهم عظيماً ( فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أُكلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليلٍ ) .

وفي أصحاب الجنتين عبرة أخرى حينما منعوا حق الله وإن كانت الجنتان ملكاً لهم ومنعوا دخول المساكين , فتحولت الجنان كالصريم فكيف بمن يمنعون الناس من حقوقهم .

ولا يفتأ القرآن يذكر كل من طغى وتجبر ومنع من يستحق الحق حقه .. وينزل النذر والعقوبات في الدنيا وعقاب الله في الآخرة أشد وأنكى .. لكن أين من يعتبر ( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) . وصدق الله ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .. ) .

لقد تسامع الناس ما وقع في تونس ( في بلاد المغرب العربي ) ودارت تعليقات الساسة والمفكرين ورجالات الإعلام وسواهم على أنَّ عواقب الظلم وخيمة , وحرمان الشعوب من حقوقها جريمة وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات سبيل للغضب والإنفجار..
في أوضاع تونس لم تكن الأزمة الإقتصادية , والظروف الإجتماعية القاسية وحدهما سبب المشكلة – مع أهميتهما – فثمة أزمة لا تقلُّ أهمية وربما أغفلتها وسائل الإعلام ؛ في حرية التدين والإعتزاز بالقيم الإسلامية , وكم هو مؤلمٌ أن تسمع في بلاد عربية وإسلامية التضييق على المسلمين في أهم شعيرة من شعائر دينهم – وهي الصلاة , وتحاط المساجد بهالةٍ من الرعب لمن يدخلها ؟!

أما شعار الإسلام ( الأذان ) فكم يدمي القلب أن يُسمع من الرئيس المخلوع وصفه للأذان ( بالتلوث الصوتي ) ثم يزعم كاذباً أن ( التوانسة ) لا يقبلون وجود هذا التلوث ؟!

أما الحجاب فتحارب في الأسواق ( دمى محجبة ) حتى لا تنتشر ثقافة الحجاب لدى النساء في تونس ؟! إلى غير ذلك من أمورٍ وهناتٍ كشفتها الأحداث الأخير ة في تونس وكشفت معها الأرصدة المجمدة في البنوك الغربية للرئيس وحاشيته , على حين لا يجد عدد من شعب تونس فرصة العمل التي يقتاتون منها .

ومضى ربع قرن من الزمان وظن المستكبر أن حصونه مانعته من الله , فأتاه الله من حيث لا يحتسب , وتحول الشارع التونسي إلى صيحة واحدة .. لا للظلم .. لا للفساد .. وتباً للمفسدين .. ولا نقبل بفلول الظالمين .. وكانت المظاهرات السلمية أقوى وأمضى من الإنقلابات المسلحة وكذلك الله يفعل مايشاء ويحكم مايريد وينتهي الظلم , وتؤيد الشعوب بل والأنظمة خيار الشعب التونسي في تقرير مصيره ونفي الخبيث من بلاده .. لكن يبقى تنبيهات مهمة في الأحداث الاخيرة في تونس ومنها :

1 – ألا يتيح التوانسة الفرصة لمن يصطادون في الماء العكر .. سواءً أولئك الذين يحاولون العبث بالأمن أو يستغلون ظروف البلاد القاسية لمصالحهم الشخصية فتلك انتهازية لاترقى لمستوى كرامة الشعوب وتخليصها من الفساد , وتضحيتها من أجل الكرامة والأمان .

2- الوعي والحذر من قطف الثمار لعناصر رديئة في البلاد سواء كانت من حاشية الرئيس غير المأسوف عليه أو من غيرهم ممن يعيشون عقليتهم و يفكرون بمثل تفكير أسلافهم .

3- التنبيه على خطورة بعض الممارسات غير الشرعية والتي اتسعت دائرتها أعني قتل النفس أو إحراقها ، فالمسلم لا يتخذ من الوسيلة المحرمة مبررا للغايات ، وكم كان مؤسفا أن يقوم عدد من مواطني بعض البلاد العربية بإحراق أنفسهم اقتداءً بالشاب التونسي ، وقد حذر الإسلام من هذه الممارسات ( من قتل نفسه بحديدة عذّب بها يوم القيامة ) هكذا قال المصطفى صلى الله عليه وسلم .

4- أهمية الحذر من عدد من الممارسات الخاطئة الأخرى كتفجير البنى ، أو إحراق المؤسسات ، وأعظم من ذلك التساهل في قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق .

5- أهمية رص الصفوف ، وتوحيد الأهداف للغايات النبيلة بعيداً عن المصالح الشخصية أو الأغراض الحزبية .. وعدم السماح للمخترقين وللمنافقين الذي يشهد تاريخهم في الماضي والحاضر على أنهم (هم العدو) وأنهم يتلونون ويرقصون على الجراح ويحاولون اقتناص الفرص بأي ثمن ودون هوية كما فضحهم الله بقوله (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين )

6- العلماء الشرعيون والساسة الصالحون , والمفكرون الأحرار من ذل التبعية , وعمى الهوى ينبغي أن يكونوا حاضرين في تقرير مصير البلاد حتى لا يعاد الفساد بلون جديد , ويعود المبطلون بوجه جديد ! .

7- احذروا الظلم والبغي فعواقبه وخيمه ومعجلة , وفي الحديث الصحيح (مامن ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه عقوبته في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) وفي لفظ : من القطيعة والخيانة والكذب , رواه أحمد و غيره بسند صحيح . صحيح الجامع 5/163 .

إن سقوط النظام التونسي سقوطٌ للعلمانية التي لم تبقِ ديناً ولم تقمْ دنياً , وكيف لا تسقط الأنظمة التي تُحاد الله في أرضه , وكل شيء في الكون يسبح بحمده , ومأساة في بلاد المسلمين أن يضيق على المسلمين والمسلمات في دينهم , ويرغموا على التوجه العلماني وإن كانوا كارهين , وكم يتنفس المسلمون الصعداء حين تتهاوى هذه الأنظمة الظالمة .. ودونك هذا النموذج الواقعي لامرأة تونسية تقيم خارج تونس تحدث أمّها في تونس وتسأل عن حالهم بعد سقوط النظام اليائس , فتجيب الأمُ ابنتها بصورة معبرة حيث بعثت لها بصورتها ( عبر رسالة جوال ) وهي محجبةٌ داخل السُّوق , وتقول الأم الحمدُ لله ما كنّا نحلم بهذا من قبل ؟ هل هناك أجمل من هذه الحال ؟

وفي سقوط النظام التونسي سقوط للمنهج الليبرالي المنحرف وسقوط لرموزه الذين مازالوا يخادعون الناس بتسويقه في عالمنا الإسلامي , ويضربون النموذج الأمثل في تونس , ومع تهافت النظام الليبرالي وتناقض مخرجاته مع ما يزعم من مبادئه كالحرية والديمقراطية – و أيّ حرية في المنهج الليبرالي وكلها إقصاء وتسلط وجبروت , فثمة سقوط لدهاقنة الليبرالية حاضراً ومستقبلاً وغيرُ مأسوفٍ على الأسياد والأتباع ...

ذهب الحمار بأمر عمروٍ فلا رجعت ولا رجع الحمارُ

تُرى ماذا يقول العلمانيون والليبراليون اليوم في العالم وقد رفض شعب تونس مخرجات العلمنة , وأسقط الشارع وهتافات المتظاهرين رموز الليبرالية ؟ وقبل سقوط نظام تونس بأيامٍ يطرح الليبراليون في إحدى الصحف النموذج التونسي نموذجاً يحتذى في الليبرالية فماذا يقولون بعد سقوطه ؟!

وثمة مفارقات لا بد من إدراكها .. فأقوامٌ بل دولٌ يسأمون من التجربة العلمانية بعد طول تجربة وتغريب ويعودون إلى قيم الإسلام وتشريعات السماء وتركيا نموذج حاضر , وآخرون يرتكسون في حمأة الجاهلية ويحاولون ترميم العلمانية والليبرالية ويبدؤون الأمر أُنفاً - متناسين أو غافلين – عن حركة التاريخ وعن أقدار الله في خلقه ( وما يعقلها إلا العالمون ) .

والغرب حليفٌ كاذبٌ , وصديقٌ غيرُ موثوق به .. وطالما تذكر الناس ذلك بأكثر من حدث .. ولكن الأحداث الأخيرة في تونس كشفت أن الغرب صداقتهم في حال الرخاء والهيمنة , أما إذا حزب الأمر واحتاج العميل إلى عميله في أوقات الشّدة أدار الغرب ظهره , وصفق مع الناجحين .. أليس في ذلك عبرة .. أليس الواجب على العقلاء بل المسلمين أن يركنوا إلى ركنٍ شديدٍ وهو الله . ذلك ما علمه الأنبياء عليهم السلام ( أو آوي إلى ركنٍ شديد ) ألا إن الله هو صاحب القوة المتين .. ( ومن يهن الله فماله من مكرم ) ( أليس الله بعزيز ذي انتقام ) .

الأستاذ في جامعة القصيم

Suliman-alodah@hotmail.com
17 / 2 / 1432 هـ

المصدر : موقع لجينيات
http://www.lojainiat.com/index.cfm?d...ontentid=53455