الدعوة إلى الله(2)
استكمالا لما بدأناه في الحديث عن الدعوة والحقائق التي يجب الانتباه إليها ونحن على هذا الطريق نقول: إن لهذه الدعوة شروطًا هي:
الشرط الأول: الإخلاص، قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة} (البينة:5) وقال صلى الله عليه وسلم : «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى»..
فالدعوة إلى الله عبادة، فيتدبر المرء هذا المشهد جليًا، ويعلم من هذا أنَّ قيامه بهذا الواجب هو ما أمر به، أما النتائج فليست داخلة في واجبه، وليست من شأنه؛ بل هي قدر الله تعالى ومشيئته، وهو ونيته وجهده وعمله جانب من هذا القدر، ومن هنا تكتسب الأعمال قيمتها في النفس من بواعثها لا من نتائجها، وجزاء المرء في العبادة التي أداها، لا في النتائج التي أحرزها.
ومتى استقر هذا المعنى في القلب تباعدت عنه الأطماع الدنيوية، لأنه حينئذٍ يرتفع إلى أفق العبودية، فتأنف نفسه وسيلة خسيسة لتحقيق غاية كريمة، ولو كانت هذه الغاية هي نصرة دين الله وجعل كلمة الله هي العليا، لأنَّ الوسيلة الخسيسة تحطم معنى العبادة الشريف، فلا نمنِّي النفس بلوغ الغايات، بل هي حريصة على أداء الواجبات، ويستمتع العبد بعد هذا براحة الضمير، وطمأنينة النفس، وصلاح البال في جميع الأحوال، سواء رأى ثمرة عمله أم لم يرها، والإخلاص عزيز، ولذلك يحتاج القلب إلى تمحيص النوايا، فعلى كل منا أن يتهم نفسه، وأن يلقي باللائمة عليها، ففي الإخلاص الخلاص، ولذلك ينبغي أن يكون هناك تمحيص مستمر للمسيرة الدعوية، ومحاولة الكشف عن العيوب، من الهوى والشهرة، وحب الظهور، وحب النفس، والعمل لها، وطلب الجاه والرياسة.
ولهذا يحتاج من الداعية دوام اللجوء إلى الله والاستعانة به على آفات نفسه، «نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا».
الشرط الثاني: وضوح الهدف
بعض الناس قد يمارس العمل الدعوي، لكن بدون منهج، فالغاية قد لا تكون في ذهنه أكثر من هتاف بشعارات لا يدري معناها، أو هو لا يقوم بواجباتها، وقد تكون الأهداف مجرد عبارات إنشائية يتشدق بها.
وقد تتعلق القلوب بأهداف كبرى، تحتاج إلى وقت ليس بالقصير، ومع الوقت يتسلل إلى النفوس الشعور بالفشل والإحباط، فهو يحلم بالدولة الإسلامية سنوات طويلة، ومر وقت طويل ولم ير حلمه يتحقق في الواقع.
والطريقة الصحيحة هنا أنْ نحدد الأهداف الكبرى لتكون نصب الأعين، ثم نحدد أهدافًا جزئية يسعى كل منَّا لتحقيقها، هذا الهدف الجزئي قد يكون دعوة الزوجة أو الزوج، دعوة الأب أو الأم، دعوة الأخ أو الأخت، دعوة الصديق أو الجار، دعوة زملاء العمل أو رفقاء السفر.
لكن يتبقى سؤال مهم في هذا الصدد ألا وهو: إلام ندعو؟ وما الهدف؟
لا ريب أنَّ أطروحات عديدة تحدثت عن هذه القضية، وتباينت وجهات النظر إزاء تلك المسألة الخطيرة، ولا أجدني في هذا المقام، وبعد تجارب واقعية كثيرة إلا مؤكدًا على تلك الأهداف الكبرى التي أظنكم لا تختلفون معي حولها.
وإذا كان الأصوليون يقولون: إن المقاصد العامة للشريعة الإسلامية خمسة: هي حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل، وحفظ العقل، وحفظ المال.
ويقول الشاطبي أن ثمة مقاصد جزئية يتحقق بها المقصد الكلي، فنحن نستعير منه هذه الوجهة في إيضاح الأهداف والمقاصد للدعوة، فإذا كان الهدف الأم هو نشر دين الله تعالى في شتى بقاع الأرض، وأن تمحق من الأرض رايات الكفر والإلحاد.
وهذا لا يتحقق إلا بثلاثة أمور: التوحيد، واتباع النبي محمد وأصحابه، وتزكية النفوس، وقد تؤول جميعًا إلى التوحيد إن أمعنا في فهمه وتدبره.
الشرط الثالث: عمق الوعي بالإسلام والواقع
وهي بعبارة الأصوليين والفقهاء ما يسمى بـ (فقه الحال) أو (فقه الوقائع)، فالعالم الآن يمر بثورة هائلة في مجالات الاتصالات، جعلت الغزو الثقافي يطل علينا من كل باب، وبما أنَّ قانون الغاب هو الحاكم، فقد أصبحت ثقافة المستعمر الأقوى تفرض كيانها، وتعمل بأساليبها الخبيثة الماكرة في طمس الهوية الإسلامية، والمسلم المعاصر يواجه تحديات خطيرة على كافة المستويات، ولم يعد التشكيل التربوي يخضع لمعايير محددة كالبيت، والمدرسة، والمسجد، فإن التلفاز، والدش، والإنترنت صار هو المربي الأول لا الأب والأم، والمناهج الدراسية لا تعطي درس الدين حقه، ناهيك عما فيها من أباطيل، والمساجد لا تقوم بدورها في أغلب الأحيان.
والأسرة المسلمة صارت تواجه مشكلات لم نعهدها قبل، لأنَّ الدين عندنا لم يعد هو الفيصل في الأمور، فالأسرة المسلمة على حافة الهاوية.
في ظل تلك الأجواء نحتاج إلى الداعية الرباني الذي يفقه الواقع الذي يعيشه، فهو يعلم أنَّ أغلب المسلمين مغيبون عن الحقيقة، وأنَّ تبصيرهم إزالة الغيام من أمامهم كفيل بإذن الله بإعادة الأمور إلى نصابها، لكن كيف؟ تلك مسألة سنتعرض لها لاحقًا.
الشرط الرابع: جدية الأخذ بالكتاب، والسنة
لا شك في أننا نتفق حول هذا الشرط أعني المرجعية إلى الكتاب والسنة، تلك المرجعية المنضبطة بفهم سلف الامة، حتى لا نقع في درك الشطحات، والأقوال الشاذة، التي لم تخرج في الأمة إلا بسبب عدم التقيد بهذا القيد اللازم.
لكني هنا أثير مسألة «الجدية» في اتباع هذا المسلك، لا سيما والحرب العلمانية الضروس تُشن لدك هذا الأصل من أساسه، فلم يعد الخلاف عندهم في التقيد بفهم السلف، والانضباط بأصولهم، بل تعدى الأمر لإنكار السنة، ثم التطاول على القرآن، ثم إظهار الوجه الحقيقي حين نالوا من الله ورسوله، وإلى الله المشتكى.
الشرط الخامس: صدق الجهاد في سبيل الله
قال تعالى: {َأم حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران:142).
وقال تعالى {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت:69)، وهنا يأتي الابتلاء والتمحيص، وامتحان النوايا بين الصدق والكذب، فيبدو من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة.
ولا يكون جهاد دون عداد العدة للنزال، فلا يكون الداعية مصيبًا في توجهه دون أن يستكمل أدواته التي سيخوض بها المعركة من أجل إعلاء كلمة الله.
الشرط السادس: الالتزام بآداب العمل الجماعي وشروطه :
فمن ذلك وحدة الصف وعدم التنازع فيما لا يستوجب النزاع، وهنا ينبغي أن تنأى الأهواء والخلافات الشخصية التي تشق عصا الجماعة تحت مزاعم جوفاء، لا تنظر إلى الآثار الوخيمة التي تترتب على هذه الخلافات، فيترتب على إنكار منكر منكرات أشدّ، لا سيما فساد ذات البين بين أصحاب التوجهات الواحدة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي في جامعه وقال: حديث صحيح، وأبو داود وصححه الألباني قوله صلى الله عليه وسلم : «فإنَّ فساد ذات البين هي الحالقة»
أي أنها تحلق دين المرء فعياذًا بالله أن نقع في هذا.
ومن هذه الآداب أنَّ الساحة طالما كانت مشتركة فلا يجوز بحكم الشراكة أن يحدث طرف ما يسبب الضرر على الآخر، فلا ضرر ولا ضرار.
الشرط السابع: وضوح مفهوم الولاء والبعد عن خط الاحتواء
أحيانًا؛ بسبب عدم وضوح الأهداف والوسائل يحدث كثير من خلط الأوراق، ويظن أن الدعوة إلى المنهج السلفي يعد نوعًا من التعصب أو الحزبية، والأمر خلاف ذلك، فالدعوة هنا إلى منهج لا إلى أشخاص، والمنهج في حد ذاته معصوم؛ لأنه لا يتقيد إلا بالكتاب والسنة والإجماع، فالولاء هنا لله ولرسوله، لا لفلان وفلان من الشيوخ.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (20/5): «فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحب الله ورسوله،، وأن يبغض ما أبغضه الله ورسوله مما دل عليه في كتابه، فلا يجوز لأحد أن يجعل الأصل في الدين لشخص إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا بقول إلا لكتاب الله عز وجل، ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو {من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} (الروم:32)، وإذا تفقه الرجل وتأدب بطريقة قوم من المؤمنين مثل: اتباع: الأئمة والمشايخ، فليس له أن يجعل قدوته وأصحابه هم العيار، فيوالي من وافقهم، ويعادي من خالفهم، فينبغي للإنسان أن يعود نفسه التفقه الباطن في قلبه والعمل به فهذا زاجر.وكمائن القلوب تظهر عند المحن. وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، ولا يناجز عليها؛ بل لأجل أنها مما أمر الله به ورسوله؛ أو أخبر الله به ورسوله؛ لكون ذلك طاعة لله ورسوله. وينبغي للداعي أن يقدم فيما استدلوا به من القرآن؛ فإنه نور وهدى، ثم يجعل إمام الأئمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم كلام الأئمة. ولا يخلو أمر الداعي من أمرين:
- الأول: أن يكون مجتهدا أو مقلدا، فالمجتهد ينظر في تصانيف المتقدمين من القرون الثلاثة؛ ثم يرجح ما ينبغي ترجيحه.
- الثاني: المقلد يقلد السلف؛ إذ القرون المتقدمة أفضل مما بعدها. فإذا تبين هذا فنقول كما أمرنا ربنا: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} إلى قوله: {مسلمون} (البقرة:136 ونأمر بما أمرنا به. وننهى عما نهانا عنه في نص كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه} (الحشر:7)، فمبنى أحكام هذا الدين على ثلاثة أقسام: الكتاب، والسنة، والإجماع. أهـ.
وهنا تأتي مسألة التميز والاستقلالية، فنحن نحتاج إلى دعاة متمايزين، لأنَّ من شأن هذا التميز أن يغطي أكبر قدر من احتياجات الناس، وبهذا يخدم كل داعية شريحة معينة من المجتمع، ولذلك يتكرر التنبيه على نبذ التقليد بكافة صوره، ولا يتأتى لنا ذلك إلا بوضوح المنهج، والبعد عن الحزبيات، والتعصب المقيت، فلا يكون لواء الولاء والبراء إلا لله ورسوله.
وينبغي أن ندرك أنَّ من صور التميز: الالتزام المطلق بشرائع الإسلام؛ فإنها شهادة حق، أما التقصير فإنه مرفوض، ولا مسوغ له، وإن تعددت الذرائع، فإنَّ التفريط ولو في القليل شهادة باطل، توصم بها الدعوة ككل.
الشرط الثامن: النصيحة للإصلاح،
قال تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} (العصر)، وفي صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : «الدين النصيحة»، وفي الصحيحين قال جابر بن عبد الله: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية (28/603): أعظم ما عبد الله به نصيحة خلقه، فالنصيحة عماد الدين وقوامه، وحقيقتها قبول الحق وإن خالف الهوى، وكان بغيضًا إلى النفس، ورد الباطل على قائله ولو كان حبيبًا، وفرق بين النصيحة والفضيحة، فكلما كان النصح في السر دون العلن كان أفضل، وكلما كانت الخلافات تحل بالنصح المتبادل داخل الحجرات المغلقة كان أولى،ولا أرى أنَّ ثمرات هذا التناصح ستبدو في الأفق دون أن تتآلف القلوب، وتنبذ العداوات، وتهمش الذاتيات. هذا بين أهل الدعوة.
أما بذل النصيحة لكل مسلم، فإنه يقتضي أنْ تكون رفيقًا بهم، وإن أجرموا وتعدوا فلن تعدم فيهم الخير.
الشرط التاسع: الاختصاص
من الشروط اللازمة للدعوة إلى الله في هذا العصر، فتكثيف الجهد في تخصص معين نبغ فيه الداعية، ومع التمايز والاستقلالية، من شأنه أن بتباعد عن السطحيات، ولكن هذا الشرط مقيد بأن يوجد في الساحة من يسد جميع الثغرات، هذا في ميدان الفقه، وآخر في العقيدة، وآخر في علم الحديث وآخر في علوم القرآن، وهذا في الطب، وآخر في الاقتصاد، وآخر في الهندسة، وهكذا، نجد نوعيات مختلفة بثقافات مختلفة، يجمعها منهج واحد، أهدافهم واضحة، أدواتهم راسخة، أصحاب رؤية واقعية، صادقون في جهادهم، ملتزمون بضوابط المنهج، لهم شخصيات متميزة مستقلة، لا توالي إلا في الله، ولا تعادي إلا في الله، يبذلون جهدهم في نصيحة عباد الله بأفضل وسيلة.
اعداد: الشيخ. محمد حسين يعقوب