مصطفى صادق الرافعي.. أديب الإسلام
بقلم أ. أحمد زكريا عبد اللطيف
كانت الإسلامية في أدبه تياراً متدفقاً، فقرظ محمود سامي البارودي شعره الملتزم، وأثنى عليه مصطفى لطفي المنفلوطي، وحيَّاه الشيخ محمد عبده قائلاً: "أسأل الله أن يجعل للحق من لسانك سيفاً يمحق الباطل" وقد كان.
- ففي كافة مؤلفاته وأشعاره ودراساته ونثره، جعل الإسلام غايته وخدمة عقيدة التوحيد مقصده وبغيته.
- وقد وقف أمام مؤامرات الإنجليز ضد الإسلام ومؤامرات الصهيونية في فلسطين ومؤامرات الذين أرادوا إحياء العامية والقضاء على اللغة العربية، وأبرز قضايا الإسلامية عند الرافعي هي قضية إعجاز القرآن الكريم، وقضية البلاغة النبوية وقضية المقالات الإسلامية.
- ولم أجد أصدق تعبير عن حال مؤلفاته، وقيمتها، وأسلوبها من الكلمات التي وصف بها الزعيم المصري سعد زغلول كتابًا للأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي فقال : "كأنه تنزيل من التنزيل".
- المولد والنشأة:
- ولد الرافعي -رحمه الله تعالى - في بيت جده لأمه في قرية "بهتيم" بمحافظة القليوبية ، و عاش حياته،وترعرع صباه في مدينة " طنطا"بمحافظة الغربية.
- و برغم حياة الرافعي القصيرة،فقد عاش -رحمه الله - سبعة و خمسين عاما,إلا أنها كانت كلها ألوانا متعددة من الكفاح المتواصل في الحياة و الأدب و الوطنية،وخدمة قضايا الإسلام الكبرى والدفاع عن القرآن ضد المناوئين والطاعنين بأسلوب أدبي راق يتميز بالإقناع والإمتاع في آن واحد،وكانت حياته العامرة في الفترة من :( 1298 هـ- 1356 هـ / 1 يناير 1880 - 14 مايو 1937 م).
- عراقة أسرة الرافعي:
- وأصل أسرة الرافعي من مدينة طرابلس في لبنان,و مازالت أسرة الرافعي موجودة في طرابلس حتى الآن, أما الفرع الذي جاء إلى مصر من أسرة الرافعي فإن الذي أسسه هو الشيخ محمد الطاهر الرافعي الذي وفد إلى مصر سنة 1827م.
- وقد جاء الشيخ بأمر من السلطان العثماني ليتولى قضاء مصر،وكانت مصر وقتها ولاية عثمانية،وكان المذهب الرسمي لمصر هو المذهب الحنفي ،فجاء جده قاضيا للمذهب الحنفي.
- ويقال: إن نسب الرافعي يمتد إلى عمر بن عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عن الجميع -وقد جاء إلى مصر بعد الشيخ محمد طاهر الرافعي عدد كبير من أخوته و أبناء عمه،و بلغ عدد أفراد أسرة الرافعي في مصر حين وفاة مصطفى صادق الرافعي سنة 1937 ما يزيد على ستمائة.
- و كان العمل الرئيسي لرجال أسرة الرافعي هو القضاء الشرعي حتى وصل الأمر إلى الحد الذي اجتمع فيه من آل الرافعي أربعون قاضيا في مختلف المحاكم الشرعية المصرية في وقت واحد،و أوشكت وظائف القضاء و الفتوى أن تكون مقصورة على آل الرافعي.
- و قد تنبه اللورد كرومر -كما يقول محمد سعيد العريان في كتابه"حياة الرافعي" - إلى هذه الظاهرة ،فأثبتها في بعض تقاريره إلى وزارة الخارجية الإنجليزية، لأنها كانت ظاهرة ملفتة للنظر وتحتاج إلى تفكير وتأمل.
- و كان والد الرافعي هو الشيخ عبد الرازق الرافعي الذي تولى منصب القضاء الشرعي في كثير من أقاليم مصر و كان آخر عمل له هو رئاسة محكمة طنطا للقضاء الشرعي.
- وبعد أن ولد الرافعي في بيت أبيه لأمه،دخل الرافعي المدرسة الابتدائية و نال شهادتها ثم أصيب بمرض يقال: إنه التيفود،فأقعده المرض عدة شهور في سريره, و خرج من هذا المرض مصابا في أذنيه و ظل المرض يزيد عليه عاما بعد عام حتى وصل إلى الثلاثين من عمره، و قد فقد سمعه بصورة نهائية.
- و لم يحصل الرافعي في تعليمه النظامي على أكثر من الشهادة الابتدائية.وحال في ذلك كحال العقاد وطه حسين.
- فالأول لم يحصل على غير الابتدائية، ومع ذلك حفر اسمه مع العباقرة.
- والثاني فقد بصره،لكنه استطاع أن يزاحم المبصرين ،بل ويتفوق عليهم.
- وهكذا كان حال الرافعي،عزيمة جبارة وإرادة صلبة،ولم تؤثر المحن فيه و إنما اشتد عزمه و أخذ نفسه بالجد و الاجتهاد, وعلم نفسه بنفسه حتى استطاع أن يكتسب ثقافة رفيعة وضعته في الصف الأول من أدباء عصره ومفكريه.
- وبعد أن اضطره المرض إلى ترك التعليم الرسمي استعاض عنه بمكتبة أبيه الزاخرة، إذ عكف عليها حتى استوعبها وأحاط بما فيها.
- ثم التحق بالعمل في محكمة طنطا الشرعية ، ثم انتقل إلى المحكمة الأهلية ثم عمل ككاتب محكمة في محكمة طلخا وبقي فيها حتى لقي وجه ربه الكريم سنة1937م.
- ميادين الإبداع عند الرافعي:-
- تفوق الرافعي في ميادين كثيرة من ميادين الأدب ،إلا أنه برع في عدة ميادين أساسية منها :
- الميدان الأول الشعر:
- على أن الرافعي لم يستمر طويلا في ميدان الشعر فقد انصرف عن الشعر إلى الكتابة النثرية و عندما نتوقف أمام ظاهرة انصرافه عن الشعر نجد أنه كان على حق في هذا الموقف فرغم ما أنجزه في هذا الميدان الأدبي من نجاح و رغم أنه استطاع أن يلفت الأنظار.
- إلا أنه في الواقع لم يكن يستطيع أن يتجاوز المكانة التي وصل إليها الشعراء الكبار في عصره وخاصة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم فقد برع هذان الشاعران الكبيران في التعبير عن مشاعر الناس وهمومهم وآلامهم وآمالهم في هذا الجيل.
- وقد تميز شعر هذين العلمين بالسهولة و الغزارة مما أتاح لهما القدرة على الانتشار بين القراء، حتى لو كان هؤلاء القراء متوسطين في ثقافتهم فأين يذهب الرافعي في هذه المعركة الكبيرة، وشعره لم يكن شعرا سهلا، بل كان شعرا صعبا يحتاج إلى ثقافة أدبية ولغوية عالية لكي يفهمه من يقرأه و لكي يتذوقه بعد ذلك ويستمتع به.
- ولعل الرافعي هو من أطلق أول صرخة اعتراض على الشعر العربي التقليدي في أدبنا فقد كان يقول : "إن في الشعر العربي قيودا لا تتيح له أن ينظم بالشعر كل ما يريد أن يعبر به عن نفسه"،و هذه القيود بالفعل هي الوزن و القافية،من وجهة نظر الرافعي.
- فكانت وقفة الرافعي ضد قيود الشعر التقليدية أخطر و أول وقفة عرفها الأدب العربي في تاريخه الطويل، و أهمية هذه الوقفة أنها كانت حوالي سنة 1910 أي في أوائل هذا القرن و قبل ظهور معظم الدعوات الأدبية الأخرى التي دعت إلى تحرير الشعر العربي جزئيا أو كليا من الوزن و القافية،من أمثال الرومانسية،والد يوان ومدرسة المهاجر،وأبولو، والواقعية،و...
- ومع ذلك فله إنتاج كبير في الشعر من ذلك:
- ديوان الرافعي (ثلاثة أجزاء) صدرت طبعته الأولى عام 1900م،ديوان النظرات(شعر)،صدر ت طبعته الأولى عام 1908م.
- ومن المعروف أنه ألف النشيد الرسمي التونسي الذي لا يزال معمولا به إلى يومنا هذا وهو النشيد المعروف بحماة الحمى..
- ومن أعذب ما قاله مصطفى صادق الرافعي:
بلادي هواها في لساني وفي دمي يمجدُها قلبي ويدعو لها فمي
ولا خيرَ فيمن لا يحبُّ بلادَه ولا في حليف الحبِّ إنْ لم يتيم
- الميدان الثاني النثر الأدبي:
- وهو الميدان الذي برع فيه الرافعي ولم يجاره فيه أحد ،حتى أطلق عليه بصدق: أديب الإسلام ،وأديب العربية ،وقد انتقل إليه الرافعي بعد أن كان مقيدا بالوزن و القافية في ميدان الشعر العمودي،أصبح حرا في التعبير عن عواطفه الكامنة التي كانت تملأ قلبه ،و لا يتعداها إلى تصرفات تخرج به عن حدود الالتزام الأخلاقي والديني كما كان يتصوره،فسطر أجمل ما شهدت المكتبة العربية في العصر الحديث،وهل كان للنثر الأدبي قيمة من غير كتاب "وحي القلم".
- وحقيقة لقد أصابتني الدهشة,وشعرت بالرهبة وأنا أقرأ للرافعي وحي قلمه،وشعرت بأن هذا القلم السيال وكأنه أتى من عالم آخر،وتذكرت قول سعد زغلول في حق كتابات الرافعي: "كأنه تنزيل من التنزيل"،وإذا بحثت عن السر في ذلك فهو القرآن الذي طبع على أسلوب الرافعي جمالا من جماله وهيبة من هيبته،وتأمل معي في بعض درره،
- قال الأديب مصطفى صادق الرافعي ـ رحمه الله ـ للمرأة المسلمة:(احذري تهوُّس الأوربية في طلب المساواة بالرجل ، لقد ساوته في الذهاب إلى الحلاَّق ، ولكنَّ الحلاَّق لم يجد اللحية!)، (وحي القلم(1/264).
- - وقال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله : " القرآن : آيات منزلة من حول العرش، فالأرض بها سماء هي منها كواكب، بل الجند الإلهي قد نشر له من الفضيلة علم وانضوت إليه من الأرواح مواكب، أغلقت دونه القلوب فاقتحم أقفالها، وامتنعت عليه (أعراف) الضمائر فابتزّ ( أنفالها ) . وكم صدوا عن سبيله صداً، ومن ذا يدافع السيل إذا هدر؟
- واعترضوه بالألسنة رداً ولمعري من يرد على القدر؟
- وتخاطروا له بسفائهم كما تخاطرت الفحول بأذناب ، وفتحوا عليه من الحوادث كلَّ شدق فيه من كل داهية ناب.
- فما كان إلا نور الشمس : لا يزال الجاهل يطمع في سرابه ثم لا يضع منه قطرة في سقائه ، ويلقى الصبي غطاءه ليخفيه بحجابه ثم لا يزال النور ينبسط على غطائه...
- ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة... ومعان بينا هي عذوبة ترويك من ماء البيان ، ورقة تستروح منها نسيم الجنان ..." الخ (إعجاز القرآن : 29 ـ 30).
- الميدان الثالث : ميدان الدراسات الأدبية:
- و أهم ما قدمه للمكتبة العربية في الدراسات الأدبية كان كتابه عن "تاريخ آداب اللغة العربية" و هو كتاب بالغ القيمة و لعله كان أول كتاب في موضوعه يظهر في العصر الحديث لأنه ظهر في أوائل القرن العشرين وبالتحديد سنة 1911م، وكتابه :"تحت راية القرآن"،والذي فند فيه آراء الدكتور طه حسين في قضية الشعر الجاهلي، وبعد ذلك كتب كتابه المشهور :"الشعر الجاهلي".
- وللرافعي جهود جبارة في الدفاع عن اللغة العربية والقرآن الكريم،والتصدي ببراعة عجيبة لأعداء الإسلام وللمشككين في القرآن ولغته،ومواقفه من طه حسين وسلامة موسى مشهودة معروفة.
- ومن ذلك تصديه لآراء طه حسين في كتاب "الشعر الجاهلي"، والذي طعن فيه في ثبوت وحجية الشعر العربي القديم،وما يقصد من وراء ذلك إلا الطعن في القرآن،لأن القرآن وصل بنفس الطريق التي وصل بها الشعر،مقلدا في ذلك أساتذته من المستشرقين الحاقدين من أمثال مرجليوث وغيره،فانبرى الأديب الكبير (مصطفى صادق الرافعي) يبارك مطالب شباب الجامعة التي تجاوبت بها أصداء البلاد, ويرد على "طه حسين" وأشياعه تحت عنوان:
- إلى شباب الجامعة:
- (حياكم الله يا شباب الجامعة المصرية, لقد كتبتم الكلمات التي تصرخ منها الشياطين, كلمات لو انتسبن لانتسبت كل واحدة منهن إلى آية مما أنزل به الوحي في كتاب الله.
- فطلب تعليم الدين لشباب الجامعة ينتمي إلى هذه الآية: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس" ? الأحزاب (33)
- وطلب الفصل بين الشباب والفتيات ويرجع إلى هذه الآية: "ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن" ? الأحزاب (53)
- يريد الشباب مع حقيقة العلم وحقيقة الدين, فإن العلم لا يعلم الصبر ولا الصدق ولا الذمة, يريدون قوة النفس مع قوة العقل, فإن القانون الأدبي في الشعب لا يضعه العقل وحده, ولا ينفذه وحده.
- ويريدون قوة العقيدة حتى إذا لم ينفعهم في بعض شدائد الحياة ما تعلموه نفعهم ما اعتقدوه...
- لا ... لا ... , يا رجال الجامعة ! إن كان هناك شيء اسمه حرية الفكر فليس هناك شيء اسمه حرية الأخلاق.
- وتقولون: أوربا وتقليد أوربا؟ ونحن نريد الشباب الذين يعملون لاستقلالنا لا لخضوعنا لأوربا.
- وتقولون: إن الجامعات ليست محل الدين, ومن الذي يجهل أنها بهذا صارت محلاً لفوضى الأخلاق؟
- وتزعمون أن الشباب تعلموا ما يكفي من الدين في المدارس الابتدائية الثانوية, فلا حاجة إليه في الجامعة.
- أفترون الإسلام دروساً ابتدائية وثانوية فقط؟ أم تريدونه شجرة تغرس هناك لتقلع عندكم؟. "وحي القلم" (3/184-188) تحت عنوان: (قنبلة بالبارود لا بالماء المقطر).
وفي الجزء الثاني من المقال نتناول دفاع صادق الرافعي عن الإسلام ورأيه في طه حسين وسلامة موسى.. وغيرهما إن شاء الله.
لمزيد من المواضيع طالع (رواد الأدب الإسلامي.. علي أحمد باكثير نموذجاً)