تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (1)
خُطْبَةُ الْمُصَنِّفِ
من صــ 66 الى صــ 70
الحلقة (9)
قال أبو بكر : فمن عمل على ترك الأثر والإعراض عن الإجماع ونظم السور على منازلها بمكة والمدينة ، لم يدر أين تقع الفاتحة ، لاختلاف الناس في موضع نزولها ، ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة إلى رأس الأربعين ، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به ، ورد على محمد صلى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه تعالى . وقد قيل إن علة تقديم المدني على المكي هو أن الله تعالى خاطب العرب بلغتها ، وما تعرف من أفانين خطابها ومحاورتها ; فلما كان فن من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر وتأخير المقدم خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى الذي لو [ ص: 66 ] فقدوه من القرآن لقالوا : ما باله عري من هذا الباب الموجود في كلامنا المستحلى من نظامنا . قال عبيد بن الأبرص :
أن بدلت منهم وحوشا وغيرت حالها الخطوب عيناك دمعهما سروب
كأن شأنيهما شعيب
أراد عيناك دمعهما سروب لأن تبدلت من أهلها وحوشا ، فقدم المؤخر وأخر المقدم ، ومعنى سروب : منصب على وجه الأرض . ومنه السارب ، للذاهب على وجهه في الأرض ، قال الشاعر :
أنى سربت وكنت غير سروب
وقوله : شأنيهما ، الشأن واحد الشؤون ، وهي مواصل قبائل الرأس وملتقاها ، ومنها يجيء الدمع . شعيب : متفرق .
فصل - وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله ، فتجرد لذلك الحجاج بواسط وجد فيه وزاد تحزيبه ، وأمر وهو والي العراق الحسن ويحيى بن يعمر بذلك ، وألف إثر ذلك بواسط كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس فيما وافق الخط ، ومشى الناس على ذلك زمانا طويلا ، إلى أن ألف ابن مجاهد كتابه في القراءات .
وأسند الزبيدي في كتاب الطبقات إلى المبرد أن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي ; وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر .
وأما وضع الأعشار فقال ابن عطية : مر بي في بعض التواريخ أن المأمون العباسي أمر بذلك ، وقيل : إن الحجاج فعل ذلك . وذكر أبو عمرو الداني في كتاب " البيان " له عن عبد الله بن مسعود أنه كره التعشير في المصحف ، وأنه كان يحكه . وعن مجاهد أنه كره التعشير والطيب في المصحف . وقال أشهب : سمعت مالكا وسئل عن العشور التي تكون في الصحف بالحمرة وغيرها من الألوان ، فكره ذلك وقال : تعشير المصحف بالحبر لا بأس به ; وسئل عن المصاحف يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية ، قال : إني أكره ذلك في أمهات المصاحف أن يكتب فيها شيء أو يشكل ، فأما ما يتعلم به الغلمان من المصاحف فلا أرى بذلك بأسا ، قال أشهب : ثم أخرج إلينا مصحفا لجده ، كتبه إذ كتب عثمان المصاحف ، فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر ، ورأيته معجوم الآي بالحبر . وقال قتادة : بدؤوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا . وقال يحيى بن أبي كثير : كان القرآن مجردا في المصاحف ، فأول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء والثاء ، وقالوا : لا بأس به ، هو نور له ، ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي ، ثم أحدثوا الفواتح والخواتيم . وعن أبي حمزة قال : رأى إبراهيم النخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا ، فقال لي : امحه فإن عبد الله بن مسعود قال : لا تخلطوا في كتاب الله ما ليس فيه . وعن أبي بكر السراج [ ص: 67 ] قال قلت لأبي رزين : أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا ؟ قال : إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه فيظنونه من القرآن .
قال الداني رضي الله عنه : وهذه الأخبار كلها تؤذن بأن التعشير والتخميس وفواتح السور ورؤوس الآي من عمل الصحابة رضي الله عنهم ، قادهم إلى عمله الاجتهاد ; وأرى أن من كره ذلك منهم ومن غيرهم إنما كره أن يعمل بالألوان كالحمرة والصفرة وغيرهما ; على أن المسلمين في سائر الآفاق قد أطبقوا على جواز ذلك واستعملوه في الأمهات وغيرها ، والحرج ; والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله .
فصل - وأما عدد حروفه وأجزائه فروى سلام أبو محمد الحماني أن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتاب ، فقال : أخبروني عن القرآن كله كم من حرف هو ؟ قال : وكنت فيهم ، فحسبنا فأجمعنا على أن القرآن ثلاثمائة ألف حرف وأربعون ألف حرف وسبعمائة حرف وأربعون حرفا . قال : فأخبروني إلى أي حرف ينتهي نصف القرآن ; فإذا هو في الكهف " وليتلطف " في الفاء . قال : فأخبروني بأثلاثه ، فإذا الثلث الأول رأس مائة من " براءة " ، والثلث الثاني رأس مائة أو إحدى ومائة من " طسم الشعراء " ، والثلث الثالث ما بقي من القرآن . قال : فأخبروني بأسباعه على الحروف ; فإذا أول سبع في " النساء " : فمنهم من آمن به ومنهم من صد [ النساء : 55 ] في الدال ، والسبع الثاني في " الأعراف " : أولئك حبطت [ التوبة : 17 ] في التاء ، والسبع الثالث في " الرعد " : أكلها دائم [ الرعد : 35 ] في الألف من آخر " أكلها " ، والسبع الرابع في الحج : ولكل أمة جعلنا منسكا [ الحج : 34 ] في الألف ، والسبع الخامس في الأحزاب : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة [ الأحزاب : 36 ] في الهاء ، والسبع السادس في الفتح : الظانين بالله ظن السوء [ الفتح : 6 ] في الواو ، والسبع السابع ما بقي من القرآن .
قال سلام أبو محمد : عملناه في أربعة أشهر ، وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربعا ، فأول ربعه خاتمة " الأنعام " . والربع الثاني في " الكهف " : ( وليتلطف ) ، والربع الثالث خاتمة " الزمر " ، والربع الرابع ما بقي من القرآن . وفي هذه الجملة خلاف مذكور في كتاب البيان لأبي عمرو الداني ، من أراد الوقوف عليه وجده هناك .
فصل - وأما عدد آي القرآن في المدني الأول فقال محمد بن عيسى : جميع عدد آي القرآن في المدني الأول ستة آلاف آية . قال أبو عمرو : وهو العدد الذي رواه أهل الكوفة عن أهل المدينة ، ولم يسموا في ذلك أحدا بعينه يسندونه إليه .
وأما المدني الأخير فهو في قول إسماعيل بن جعفر : ستة آلاف آية ومائتا آية وأربع عشرة آية . وقال الفضل : عدد آي القرآن في قول المكيين ستة آلاف آية ومائتا آية وتسع عشرة آية . قال محمد بن عيسى : وجميع عدد آي القرآن في قول الكوفيين ستة آلاف آية ومائتا آية وثلاثون وست آيات ، وهو العدد الذي رواه سليم والكسائي عن حمزة ، وأسنده الكسائي إلى علي رضي الله عنه . قال محمد : وجميع عدد آي القرآن في عدد البصريين ستة آلاف ومائتان وأربع آيات ، وهو العدد [ ص: 68 ] الذي مضى عليه سلفهم حتى الآن . وأما عدد أهل الشام فقال يحيى بن الحارث الذماري : ستة آلاف ومائتان وست وعشرون . في رواية ستة آلاف ومائتان وخمس وعشرون ; نقص آية . قال ابن ذكوان : فظننت أن يحيى لم يعد بسم الله الرحمن الرحيم قال أبو عمرو : فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا ، ويعدون بها في سائر الآفاق قديما وحديثا .
وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان : جميع كلمات القرآن - في قول عطاء بن يسار - سبعة وسبعون ألفا وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة ; وحروفه ثلاثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا . قلت هذا يخالف ما تقدم عن الحماني قبل هذا . وقال عبد الله بن كثير عن مجاهد قال : هذا ما أحصينا من القرآن ، وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف ومائة وثمانون حرفا ، وهذا يخالف ما ذكره قبل هذا عن الحماني من عد حروفه .
معنى السورة في كلام العرب الإبانة لها من سورة أخرى وانفصالها عنها ، وسميت بذلك لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة قال النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي " منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزلة الملوك . وقيل : سميت بذلك لشرفها وارتفاعها كما يقال لما ارتفع من الأرض سور . وقيل : سميت بذلك لأن قارئها يشرف على ما لم يكن عنده كسور البناء ; كله بغير همز . وقيل : سميت بذلك ; لأنها قطعت من القرآن على حدة ، من قول العرب للبقية : سؤر ، وجاء في أسآر الناس أي بقاياهم ; فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمزة ثم خففت فأبدلت واوا لانضمام ما قبلها . وقيل : سميت بذلك لتمامها وكمالها من قول العرب للناقة التامة : سورة ، وجمع سورة سور بفتح الواو . وقال الشاعر :
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ويجوز أن يجمع على سورات وسورات .
وأما الآية فهي العلامة ، بمعنى أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها وانفصاله ، أي هي بائنة من أختها ومنفردة . وتقول العرب : بيني وبين فلان آية ; أي علامة ، ومن ذلك قوله تعالى : إن آية ملكه وقال النابغة :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
وقيل : سميت آية لأنها جماعة حروف من القرآن وطائفة منه ; كما يقال : خرج القوم بآياتهم أي بجماعتهم . قال برج بن مسهر الطائي :
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
وقيل : سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها . واختلف النحويون في أصل [ ص: 69 ] آية ; فقال سيبويه : أيية على فعلة مثل أكمة وشجرة ، فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها انقلبت ألفا فصارت آية بهمزة بعدها مدة . وقال الكسائي : أصلها آيية على وزن فاعلة مثل آمنة فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها . ثم حذفت لالتباسها بالجمع . وقال الفراء : أصلها أيية بتشديد الياء الأولى فقلبت ألفا كراهة للتشديد فصارت آية وجمعها آي وآيات وآياء . وأنشد أبو زيد :
لم يبق هذا الدهر من آيائه غير أثافيه وأرمدائه
وأما الكلمة فهي الصورة القائمة بجميع ما يختلط بها من الشبهات أي الحروف ، وأطول الكلم في كتاب الله عز وجل ما بلغ عشرة أحرف ، نحو قوله تعالى : ليستخلفنهم [ النور : 55 ] . و أنلزمكموها [ هود : 28 ] وشبههما ; فأما قوله : فأسقيناكموه [ الحجر : 22 ] فهو عشرة أحرف في الرسم وأحد عشر في اللفظ . وأقصرهن ما كان على حرفين نحو ما ، ولا ، ولك ، وله ، وما أشبه ذلك . ومن حروف المعاني ما هو على كلمة واحدة ، مثل همزة الاستفهام ، وواو العطف ، إلا أنه لا ينطق به مفردا . وقد تكون الكلمة وحدها آية تامة نحو قوله تعالى : والفجر والضحى والعصر وكذلك الم المص و طه و يس و حم في قول الكوفيين ، وذلك في فواتح السور ، فأما في حشوهن فلا . قال أبو عمرو الداني : ولا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله في الرحمن : مدهامتان [ الرحمن : 64 ] لا غير . وقد أتت كلمتان متصلتان وهما آيتان ، وذلك في قوله : حم عسق على قول الكوفيين لا غير . وقد تكون الكلمة في غير هذا : الآية التامة ، والكلام القائم بنفسه ، وإن كان أكثر أو أقل ، قال الله عز وجل : وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [ الأعراف : 137 ] قيل : إنما يعني بالكلمة هاهنا قوله تبارك وتعالى : ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض [ القصص : 5 ] إلى آخر الآيتين ، وقال عز وجل : وألزمهم كلمة التقوى [ الفتح : 26 ] . قال مجاهد : لا إله إلا الله . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم . وقد تسمي العرب القصيدة بأسرها ، والقصة كلها ، كلمة فيقولون : قال قس في كلمته كذا ، أي في خطبته ; وقال زهير في كلمته كذا ، أي في قصيدته ; وقال فلان في كلمته يعني في رسالته ; فتسمى جملة الكلام كلمة إذ كانت الكلمة منها ، على عادتهم في تسميتهما الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره وكان بسبب منه ، مجازا واتساعا .
وأما الحرف فهو الشبهة القائمة وحدها من الكلمة ، وقد يسمى الحرف كلمة والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع والمجاز . قال أبو عمرو الداني : فإن قيل فكيف يسمى ما جاء من حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد نحو " ص " و " ق " و " ن " حرفا أو كلمة ؟ قلت : كلمة لا حرفا ، وذلك من جهة أن الحرف لا يسكت عليه ، ولا ينفرد وحده في الصورة ولا ينفصل مما يختلط به ; وهذه الحروف مسكوت عليها منفردة منفصلة كانفراد الكلم وانفصالها ، فلذلك سميت كلمات لا [ ص: 70 ] حروفا . قال أبو عمرو : وقد يكون الحرف في غير هذا : المذهب والوجه ، قال الله عز وجل : ومن الناس من يعبد الله على حرف [ الحج : 11 ] أي على وجه ومذهب ، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنزل القرآن على سبعة أحرف أي سبعة أوجه من اللغات ، والله أعلم .