المكث بعد طواف الوداع في الحج
د. خالد بن عبد الله الشمراني
المقدمة
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومَنْ يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .. أما بعد :
فإنه فقه أحكام الحج من المطالب المهمة التي ينبغي على العلماء وطلاب العلم أن يستفرغوا وسعهم في فقهها ونشرها بين الناس ، ولاسيما أنها تتعلق بركن من أركان الإسلام ، فرضه الله تعالى على عباده مرةً واحدةَ في العمر لمن استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وإن الناظر في أحوال المسلمين في هذا الزمان ليجد إقبالاً منقطع النظير على أداء فريضة الحج ، وبأعداد هائلة ، أسهم في ذلك تطور وسائل المواصلات ، مما أدى إلى كثافةٍ هائلةٍ في أعداد الحجاج ، صاحب ذلك مشقةً ظاهرةً في أداء هذه الشعيرة ، ترتب عليها حصول الكثير من النوازل الفقهية والمخالفات الصادرة من الحجاج بسبب الجهل أو التفريط ، هذا وإن من مناسك الحج التي يحدث فيها مشقة ظاهرة بسبب شدة الزحام واستعجال الحجاج الرجوع إلى أوطانهم: طواف الوداع ، وكثيرٌ من الحجاج قد يدفعه العذر أو الجهل أو التفريط إلى عدم القيام بهذه الشعيرة على وجهها فقد يؤديها ولا يجعلها آخر عهده بالبيت مما يترتب عليه عدم الإعتداد بها ووجوب إعادتها ، ومن هذا المنطلق وجدت من الأهمية بمكان بحث هذه المسألة ، وبيان أحكامها وآثارها .
* عنوان البحث : المكث بعد طواف الوداع في الحج ، أحكامه وآثاره .
* أهمية البحث والأسباب الدافعة للكتابة فيه :
1 - أهمية طواف الوداع لكونه أحد واجبات الحج عند جمهور الفقهاء ، مما يتطلب بيان الأحكام المتعلقة به .
2 - أن موضوع المكث بعد طواف الوداع من الموضوعات المهمة التي يكثر السؤال عنها إما بسبب التفريط أو الجهل أو طروء بعض الأعذار الموجبة لهذا المكث .
3 - أن أحكام المكث بعد طواف الوداع وآثاره منثورة في كتب الفقه مما يتطلب جمعها وتجليتها للناس ، وبيان المكث الموجب لإعادة الطواف ، والمكث الذي لا يوجب ذلك .
وفي ختام هذه المقدمة ، فإن هذا البحث عمل بشري يعتريه ما يعتري البشر من النقص والقصور، فما كان فيه من صواب، فمن الله ، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله صلى الله عليه وسلم منه بريئان، والله أسأل التوفيق والسداد والإخلاص في القول والعمل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
التمهيد :
* الفرع الأول : التعريف بمفردات العنوان :
أولاً : تعريف المكث :
هو في اللغة: الأناة واللَّبَثُ والانتظار، والإقامة مع الانتظار والتلبث في المكان( 1) .
ثانياً : تعريف طواف الوداع :
1 - الطواف في اللغة : (الطاء والواو والفاء، أصلٌ واحدٌ صحيح يدل على دوران الشيء على الشيء، وأن يَحُفَّ به ثم يحمل عليه. يقال: طاف به وبالبيت يطوف طَوْفاً وطَوَافاً، وأطاف به ..) (2 ) .
وأما في الشرع فهو: التعبد لله بالدوران حول الكعبة على صفة مخصوصةً( 3) وصفة الطواف المشروع: (أن يبتدئ طوافه من الركن الذي فيه الحجر الأسود ، فيستقبله ، ويستلمه ، ويقبله إن لم يؤذ الناس بالمزاحمة ، فيحاذي بجميع بدنه جميع الحَجَر ... بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحَجَر ... ثم يبتدئ طوافَه ماراً بجميع بدنه على جميع الحجر، جاعلاً يساره إلى جهة البيت، ثم يمشي طائفاً بالبيت، ثم يمر وراء الحِجر- بكسر الحاء - ويدور بالبيت، فيمر على الركن اليماني، ثم ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، وهو المحل الذي بدأ منه طوافه ، فتتم له بهذا طوفةً واحدة، ثم يفعل كذلك، حتى يتمم سبعاً) ( 4) .
2 - وأما الوداع في اللغة : فإن (الواو والدال والعين أصلٌ واحد يدل على الترك والتخلية. ودَعَهُ: تركه) (5 ).
والوداع : توديع الناس بعضهم بعضاً في المسير . وتوديع المسافر أهله إذا أراد سفراً : تخليفه إياهم خافضين وادعين ، وهم يودِّعونه إذا سافر تفاؤلاً بالدعة التي يصير إليها إذا قفل (6 ) .
وطواف الوداع هو: الطواف الذي يطوفه الآفاقي قُبَيل خروجه من الحرم إلى دياره ويكون آخر عهده بالبيت(7 ) .
ويُسمَّى طواف الصَدَر، وطواف آخر العهد، وطواف الخروج( 8).
ثالثاً: تعريف الحج:
هو في اللغة: القصد وكثرة الإختلاف والتردد ، تقول العرب: حَجَّ بنو فلان فلاناً إذا قصدوه ، وأطالوا الإختلاف إليه ، والتردد عليه(9 ) .
وأما في الشرع فهو: التعبد لله - عزَّ وجل - بأداء المناسك على ما جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم( 10).
رابعاً : تعريف الحكم :
الحكم في اللغة : الحاء والكاف والميم أصلٌ واحد ، وهو المنع .
وأول ذلك الحكم وهو المنع من الظلم، وسميت حَكَمةُ الدابة؛ لأنها تمنعها، يقال حكمت الدابة وأحكمتها (11 )، والحكم : القضاء وجمعه أحكام( 12)، كما يطلق على: العلم والفقه والقضاء بالعدل( 13) .
وأما في الإصطلاح، فهناك تعريف للحكم الشرعي عند الأصوليين، وآخرَ عند الفقهاء .
أما الأصوليين فقد تعددت تعريفاتهم للحكم الشرعي، ومِنْ أحسنها ، أنه : خطاب الشارع المتعلق بأعمال العباد ، بالاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع(14 ) .
وأما الفقهاء فعرفوه بأنه: (مقتضى خطاب الشارع المتعلق بأعمال العباد ، بالاقتضاء ، أو التخيير ، أو الوضع) ( 15) .
وسبب تغاير هذين الاصطلاحين: أن الأصوليين نظروا للحكم الشرعي بالنظر لمن صدر منه الحكم وهو الله تعالى، وأما الفقهاء فنظروا إليه باعتبار من تعلق به الحكم، وهو العبد(16 ). وكلا الاطلاقين صحيح( 17) .
خامساً : تعريف الأثر :
الأثر في اللغة: (الهمزة والثاء والراء ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء ورسم الشيء الباقي... والأثر بقية ما يُرى من كل شيء، وأثرت فيه تأثيراً: جعلت فيه أثراً وعلامة)(18 ) .
و الأثر له ثلاثة معانٍ : الأول : بمعنى النتيجة وهو الحاصل من الشيء ، والثاني : بمعنى العلامة ، والثالث : بمعنى الجزء ( 19) .
وأما في إصطلاح كثيرٍ من المعاصرين - وهو المراد في البحث - فالأثر هو: ما يترتب على الشيء (20 ) أو هو النتيجة المترتبة على التصرف (21 ) .
* الفرع الثاني : حكم طواف الوداع في الحج : اختلف العلماء في حكم طواف الوداع في الحج لمن أراد الخروج من مكة ، على قولين :
القول الأول : أنه واجب ، وإليه ذهب الحنفية(22 ) ، والشافعية في الصحيح من القولين( 23) ، وهو الصحيح من مذهب الحنابلة(24 ) .
القول الثاني : أنه سنةٌ ، وإليه ذهب المالكية( 25) والشافعية في قول(26 ) ، والحنابلة في قول( 27) .
الأدلة :
أولاً : أدلة أصحاب القول الأول ( القائلين بالوجوب ) :
1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض ) متفق عليه(28 ) .
ومن المعلوم أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب ما لم تأتِ قرينة تصرفه إلى الندب ، ولم يوجد( 29) .
2 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت أخرجه مسلم(30 ).
والنهي هنا يستلزم الأمر بضده( 31)، وهو أن يكون آخر عهده بالبيت، والأمر - كما سبق - يقتضي الوجوب؛ إذا تجرد عن القرائن الصارفة، فدل ذلك على وجوب طواف الوداع.
3 - حديث عائشة رضي الله عنها - في قصة عمرتها - وفيه أنها لمّا فرغت من عمرتها مع أخيها عبد الرحمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : هل فرغتم؟ قالت: نعم، فأذَّنَ في أصحابه بالرحيل ، فخرج فمر بالبيت ، فطاف به قبل صلاة الصبح ، ثم خرج إلى المدينة متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم(32 ) .
وهذا الحديث يدل على الوجوب إذا ضممناه لقوله صلى الله عليه وسلم: لتأخذوا عني مناسككم( 33)؛ إذ إنه بيان لمجمل واجب( 34) .
4 - أن سقوط طواف الوداع عن الحائض تخفيفاً عنها ؛ دليلٌ على وجوبه على غيرها وإلا لم يكن لتخصيصها معنى( 35) .
ثانياً : أدلة أصحاب القول الثاني ( القائلين بالندب):
1 - أن في سقوط طواف الوداع عن الحائض ، وعن المكي الذي لا يغادر مكة ؛ دليلٌ علم انقضاء النسك( 36).
ويجاب عن هذا الاستدلال: بأن سقوط طواف الوداع عن المعذور لا يجوّز سقوطه عن غيره، كالصلاة تسقط عن الحائض وتجب على غيرها، بل تخصيص الحائض بإسقاطه عنها دليلٌ على وجوبه على غيرها ، إذ لو كان ساقطاً عن الكل لم يكن لتخصيصها بذلك معنى(37 ). وغاية ما يمكن الاستدلال به مِنْ سقوط طواف الوداع عن الحائض ؛ هو أنه ليس بركن؛ لأن سقوطه بالعذر يدل على أنه ليس من أركان الحج التي لابد منها(38 ) .
وأما المكي فإنما سقط عنه طواف الوداع لانتفاء معنى الوداع في حقه ما دام مقيماً في مكة ، لأن الوداع من المفارق لا مِنْ الملازم( 39) .
2 - أن طواف الوداع، طوافٌ حَلَّ وطء النساء قبله فأشبه طواف التطوع(40).
ويجاب من هذا الاستدلال: بأنه لا يلزم من حِلِّ وطء النساء قبل طواف الوداع؛ عدم وجوبه، فإن الرمي واجب ، والمبيت بمنى وأجب، ومع ذلك يحل وطء النساء قبل كُلِّ منهما إذا رمى جمرة العتبة وحلق أو قصر، وطاف طواف الإفاضة وسعى( 41).
3 - أن طواف الوداع تحية للبيت وهو في ذلك يشبه طواف القدوم، وبالتالي فهو مندوبٌ مثله( 42) .
ويجاب من هذا الاستدلال: بأنه قياس فاسد الاعتبار لمصادمته للنصوص الموجبة لطواف الوداع.
الترجيح:
وبعد العرض السابق لأدلة الفريقين، فإن الراجح منهما - والعلم عند الله - هو القول الأول لقوة أدلته وسلامتها من المعارض المقاوم ، ولضعف أدلة أصحاب القول الثاني. قال الشوكاني: وقد اجتمع في طواف الوداع: أمره صلى الله عليه وسلم به، ونهيه عن تركه، وفعله الذي هو بيان للمجمل الواجب، ولا شك أن ذلك يفيد الوجوب (43 ) ، والله أعلم .
* الفرع الثالث : مَنْ يسقط عنه طواف الوداع :
أولاً : الحائض والنفساء :
فقد وردت النصوص الصحيحة الصريحة التي تفيد سقوط طواف الوداع عن الحائض تخفيفاً عنها والنفساء في حكمها(44 ) ، ومن هذه النصوص :
1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( أمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض ) متفق عليه(45 ) .
2 - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (رُخِّصَ الحائض أن تنفِرَ إذا أفاضت) ( 46) .
قال الإمام النووي معلقاً على هذا الحديث “ وفي هذا الحديث دليلٌ على أن طواف الوداع لا يجب على الحائض ، ولا يلزمها الصبر إلى طهرها لتأتي به ، ولا دم عليها في تركه ، وهذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة ، إلا ما حكاه القاضي عن بعض السلف وهو شاذٌ مردود ” (47 ) .
3 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( حاضت صفية بنت حُيي بعدما أفاضت. قالت عائشة: فذكرت حيضتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: احابستنا هي؟ قالت : فقلت: يا رسول الله إنها قد أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلتنفر متفق عليه واللفظ لمسلم(48).
وقال ابن حجر: قال ابن المنذر: قال عامة الفقهاء بالأمصار: ليس على الحائض التي قد أفاضت طواف وداع. وروينا عن عمر بن الخطاب وابن عمر وزيد بن ثابت أنهم أمروها بالمقام إذا كانت حائضاً لطواف الوداع، وكأنهم أوجبوه عليها كما يجب عليها طواف الإفاضة إذا حاضت قبله لم يسقط عنها. ثم أسند عن عمر بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال : (طافت إمرأة بالبيت يوم النحر ، فأمر عمرُ بحسبها بمكة بعد أن ينفر الناس حتى تطهر وتطوف بالبيت) قال : وقد ثبت رجوع ابن عمر وزيد بن ثابت عن ذلك ، وبقي عمر ، فخالفناه لثبوت حديث عائشة )( 49) .
وقد تتابعت عبارات الفقهاء في سقوط طواف الوداع عن الحائض والنفساء ومن ذلك :
1 - قال ابن عابدين : (فلا يجب - أي طواف الوداع - ... على الحائض والنفساء كما في اللباب وغيره) ( 50) .
2 - وقال المواق : (ولا يسقط - أي طواف الدواع - إلا عن الحائض وحدها ” ( 51) .
3 - وقال النووي : (ومذهبنا أنه ليس على الحائض طواف الوداع) (52 ) ، وقال : “ ويسقط عنها - أي النفساء - ما يسقط عن الحائض من الصلاة وتمكين الزوج وطواف الوداع ... ) (53) .
4 - وقال البهوتي: ( ولا وداع على حائض ونفساء ) لحديث ابن عباس : ( إلا أنه خفف من الحائض) والنفساء في معناها) (54 ) .
ثانياً : أهل مكة والحرم والآفاقي إذا أقام بمكة :
أهل مكة ، ومن كان مقيماً داخل حدود الحرم ، والآفاقي إذا أقام بمكة ؛ لا يجب عليهم طواف الوداع ؛ لأن الوداع من المفارق لا منْ الملازم( 55) .
وهؤلاء لا وداع عليهم لانتفاء معنى ذلك في حقهم فإنهم ليسوا مودعين لها ما داموا فيها( 56) .
وهذا قول جماهير أهل العلم بل نقل ابن رشدٍ الإجماعَ على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة( 57) ، وقد نصَّ علماء المذاهب الأربعة على هذه المسألة ، ومن ذلك :
1 - قال الكمال بن الهمام: ( وليس على أهل مكة ) ومَنْ كان داخل الميقات، وكذا من اتخذ مكة داراً، ثم بدا له الخروج، ليس عليهم طواف صدر ( 58).
2 - وقال ابن عبد البر : (الوداع عنده - أي عند مالك - مستحبٌ ، وليس بسنةٍ واجبة ، لسقوطه عن الحائض ، وعن المكي الذي لا يبرح مِنْ مكة بفرقةٍ بعد حجه ، فإن خرج من مكة إلى حاجةٍ طاف للوداع ، وخرج حيث شاء) ( 59).
3 - وقال النووي: (قال أصحابنا مَنْ فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع، وهذا لا خلاف فيه سواءٌ كان من أهلها أو غريباً، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع) ( 60) .
4 - وقال البهوتي: ( فإن أراد - أي الحاج - المقام بمكة ، فلا وداع عليه ، سواءٌ نوى الإقامة قبل النفر أو بعده) ( 61) .
وهناك بعض المسائل المتعلقة بهذا الموضوع يحسُن إيرادها :
المسألة الأولى: أن سقوط طواف الوداع إنما يكون للمكي ، ولمن كان ساكناً داخل حدود الحرم؛ لتخلف علة طواف الوداع في حقهم وهي المفارقة والسفر ، لأن الوداع من المفارق لا مِن الملازم( 62)، وقد ثبت في صحيح مسلم مِنْ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( كان الناس ينصرفون في كل وجهٍ ) ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت ) ( 63) والمراد بالنَفْرِ في هذا الحديث الرحيل(64 )، ولا يصدق هذا إلا على الآفاقي دون المكي ، ومَنْ كان داخل حدود الحرم ، كما هو مذهب جمهور الفقهاء . أما الحنفية(65 ) فقد ذهبوا إلى أن مَنْ كان منزله دون المواقيت فلا يجب عليه طواف الوداع ، كما ذهب بعض الشافعية(66 ) إلى أن من خرج إلى دون مسافة القصر ، فلا يجب عليه طواف الوداع كذلك. والصواب - والله أعلم - ما ذهب إليه الجمهور من وجوب طواف الوداع على كل أحدٍ سوى أهل مكة والحرم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا ينفرن أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت ) ( 67)، ولأن غيرَ المكي وساكن الحرم ؛ خارجٌ من مكة ؛ فلزمه التوديع كالبعيد(68 ) .
المسألة الثانية : ذهب الحنفية إلى أن المكي وأهل الحرم ومَنْ نوى من الآفاقيين الإقامة بمكة(69 ) لا يجب عليهم طواف الوداع إذا أرادوا مغادرة مكة يوماً من الدهر ، جاء في الفتاوى الهندية “ كوفي حج واتخذ مكة داراً ، ثم خرج منها ، لم يكن عليه طواف الصدر : لأنه لم استوطنها صار من أهلها ، فيُلحق بالمكي ، والمكي إذا خرج من مكة لا يجب عليه طواف الصدر فكذا هنا (70 ) .
وعموم النصوص تدل على أن طواف الوداع واجبٌ على كلِّ حاجٍ خارجٍ من مكة ، للآتي :
1 - أن سقوط طواف الوداع عن المكي ومن في معناه إنما كان لعلة الملازمة وعدم المفارقة ، فإذا نَفَر وفارق مكة بعد انقضاء نسكه فهو مشمولٌ بالنصوص الآمرة بأن يكون آخر عهده بالبيت ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً .
2 - ولأنه يشبه الحائض إذا طهرت قبل مفارقة البنيان ولم تكن قد طافت للوداع ، فقد نص الفقهاء على أنه يجب عليها الرجوع والاغتسال والوداع ؛ لأنها في حكم الإقامة( 71) .
3 - كما يؤيد هذا القول ، ما ذهب إليه جمعٌ من أهل العلم من الشافعية( 72) والمالكية( 73) والحنابلة(74 ) واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية(75 ) من كون طواف الوداع عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد مفارقة مكة إلى مسافة قصر سواء كان مكياً أو أفقياً( 76) ؛ تعظيماً للحرم وتشبيهاً لاقتضاء خروجه للوداع باقتضاء دخوله للإحرام( 77) ، والله أعلم .
المطلب الأول : أثر المكث بعد طواف الوداع بنية الإقامة أو التجارة :
إذا فرغ الحاج من طواف الوداع ، ثم مكث بمكة بنية الإقامة بها أو التجارة ، أو عبادة مريض أو قضاء دين أو زيارة صديقٍ فهل يُعتَدُّ بطوافه أم لابُد من إعادته ؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين :
القول الأول: أن هذا الطواف لا يُعتَدُّ به، وهذا قول جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وبه قال أبو يوسف والحسن بن زياد من الحنفية ، وإليه ذهب عطاءٌ والثوري وأبو ثور( 78) .
قال المواق: (وينبغي أن يكون وداعه البيت متصلاً بنهوضه بعد كُلِّ عمل يعمله، فإن اشتغل بعد الوداع فباع أو اشترى أو عاد مريضاً ، ونحو ذلك ، عادَ للوداع حتى يكون صدره ونهوضه بعد ركوعه لطواف الوداع متصلاً به) ( 79) .
وقال النووي: (ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الأشغال ويعقبه الخروج بلا مكث، فإن مكثَ نُظِرَ إن كان لغير عذر أو لشغلٍ غير أسباب الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة صديق أو عيادة مريض؛ لزمه إعادة الطواف)(80 ).
وقال الحجاوي: ( فإن ودَّع ثم اشتغل بغير شدِّ رحلٍ أو اتَّجرَ أو أقام أعاد الوداع )( 81).
وقال الكمال بن الهمام: (وعن أبي يوسف والحسن إذا اشتغل بعده بعمل بمكة يعيدُه ؛ لأنه للصدر، وإنما يُعتَّد به إذا فعله حين يصدر) ( 82) .
القول الثاني: أن المكث بعد طواف الوداع وإن طال كشهر أو أكثر ، لا أثر له ولا يوجبُ إعادة الطواف ، وهذا مذهب الحنفية .
قال الكاساني: (لو طاف طواف الصدر ثم أطال الإقامة بمكة، ولم ينو الإقامة بها، ولم يتخذها داراً، جاز طوافه وإن أقام سنة بعد الطواف، إلا أن الأفضل أن يكون طوافه عند الصدر ..) (83 ) .
الأدلة :
* أدلة القول الأول :
1 - ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أُمِرَ الناس أن يكون آخرَ عهدهم بالبيت إلا أنه خُفِفَّ عن الحائض) ( 84) .
2 - روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينفرنَّ أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت) ( 85) .
ووجه الدلالة من الحديثين السابقين واضحٌ، فإن مَنْ طاف للوداع ثم أقام أو اشتغل بتجارة أو نحوها، لا يصدق عليه أن آخر عهده بالبيت .
3 - حديث عائشة - في قصة عمرتها - وفيه أنها لمَّا فرغت من عمرتها مع أخيها عبد الرحمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: ( هل فرغتم؟ قالت: نعم، فأذنَّ في أصحابه بالرحيل، فخرج فمر بالبيت، فطاف به قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة) متفق عليه، وهذا لفظ مسلم( 86).
وهذا الحديث يدل على أن الواجب في طواف الوداع أن يكون آخر أعمال الحاجِّ قبل رحيله وذلك إذا ضممناه إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لتأخذوا عني مناسككم) ( 87)، إذ إنه بيان لمجمل واجب( 88).
4 - أنه إذا مكثْ بنية الإقامة أو التجارة ونحوهما، بعد طواف الوداع؛ خرجَ عن أن يكون وداعاً في العادة، فلم يجزه، كما لو طافه قبل حِلّ النفر( 89) .
* أدلة القول الثاني:
استُدِّل لهذا الرأي: بحديث ابن عباس رضي الله عنهما - الآنف الذكر- (أُمِرَ الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت...) الحديث
ووجه الدلالة منه: أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكاً لا إقامةً ، والطواف آخر مناسكه بالبيت وإن تشاغل بغيره(90 ) .
ويمكن مناقشة هذا الاستدلال : بأنه لا يُسَلَّم بأن المراد : آخر عهده بالبيت نسكاً ، بل المراد آخر عهده بالبيت إقامةً للآتي:
1 - فعله صلى الله عليه وسلم - كما في عائشة رضي الله عنها - الآنف الذكر ، فإنه صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت ، ثم صلى الصبح وارتحل إلى المدينة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لتأخذوا عني مناسككم )( 91) .
2 - ويؤيد ما سبق أن الراجح في طواف الوداع أنه ليس من مناسك الحج بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل مَنْ أراد الخروج من مكة من الحجاج ، وهذا القول له وجاهته وقوته ودليله ما أخرجه مسلم في صحيحه عن العلاء ابن الحضرمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقيم المهاجر بمكة، بعد قضاء نسكه ثلاثاً) (92 ) قال النووي: المراد بقوله صلى الله عليه وسلم ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً ) أي بعد رجوعه من منى.. وهذا كُلُّهُ قبل طواف الوداع، وفي هذا دلالة لأصح الوجهين عند أصحابنا: أن طواف الوداع ليس من مناسك الحج، بل هو عبادة مستقلةٌ أُمِرَ بها من أراد الخروج من مكة ( 93) .
وهذا يقوي ما ذهب إليه الجمهور من كون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: ( آخر عهدهم بالبيت) أي إقامة؛ لأن مناسكهم قد انقضت، والله أعلم.
الترجيح :
وبعد العرض السابق، فإن الذي يظهر رجحانه هو قول الجمهور الذي ذهبوا فيه إلى أن المكث بعد طواف الوداع بنية الإقامة أو التجارة ونحوها، يجعل هذا الطواف غير مُعتد به بل تجب إعادته، لقوة أدلة هذا القول وسلامته من المعارض المقاوم، وضعف دليل الحنفية في هذا الشأن والله أعلم .
المطلب الثاني: أثر المكث بعد طواف الوداع للاشتغال بأسباب السفر :
إذا مكث الحاج بعد فراغه من طواف الوداع لاشتغاله بأسباب السفر، كشد الرحل، وشراء الزاد وإصلاح المركوب ونحو ذلك، فهل يوجب ذلك عليه إعادة طواف الوداع؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أن طوافه مُعتَدَّ به، ولا تلزمه إعادته، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء من المالكية، والشافعية والحنابلة.
قال الخرشي معلقاً على قول خليل: (وبطل - أي طواف الوداع - بإقامة بعض يومٍ لا بشغلِ خَفَّ ( ما نصه ) يعني أنه من طاف للوداع، ثم أقام بعده بمكة، أو بمحلٍ دون ذي طوى يوماً، أو بعضه؛ فإنه يبطل كونه وداعاً لا ثوابه؛ لأن الطواف صحيحٌ في نفسه .... وأما إن فعل فعلاً خفيفاً بعد الوداع من بيع أو نحوه، فإن ذلك لا يضر، وهو باقٍ لم يبطل) (94 ) .
وقال النووي : (وإن اشتغل بأسباب الخروج - أي بعد طواف الوداع - كشراء الزاد وشدِّ الرحل فهل المحتاج إلى إعادته ؟ فيه طريقان ، قطع الجمهور بأنه لا يحتاج) (95 ) .
وقال البهوتي: ( و ( لا ) يعيد الوداع ( إن اشترى حاجة في طريقه ) أو اشترى زاداً، أو شيئاً لنفسه ) ( 96) .
القول الثاني : أن طوافه غير مُعَتدِّ به ، وتلزمه الإعادة ، وهو رواية عن أحمد وبه قال بعض الشافعية .
قال الزركشي : ( وقد بالغ أحمد في ذلك، فقال له أبو داود: إذا ودع البيت ثم نَفَر يشتري طعاماً يأكله ؟ قال : لا ، يقولون حتى يجعل الردم(97 ) وراء ظهره ، وقال في رواية أبي طالب : إذا ودَّع لا يلتفت ، فإن التفت رجع حتى يطوف بالبيت ) ( 98) .
كما أشار النووي إلى أن في هذه المسألة خلافٌ في مذهب الشافعية فقال : ( فإن اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد ... فهل يحتاج إلى إعادته ؟ فيه طريقان : قطع الجمهور بأنه لا يحتاج ، وذكر إمام الحرمين فيه وجهين ) ( 99) .
الأدلة :
* أدلة القول الأول :
1 - أن الاشتغال بأسباب السفر ، ليس بإقامة ، تخرج طوافه عن أن يكون آخر عهده بالبيت( 100) .
2 - أنه لا يُعْلَمُ مخالفٌ لهذا القول من العلماء ، قال ابن قدامه عن هذه المسألة : ( .. وبهذا قال مالك والشافعي ولا نَعَلَمُ لهما مخالفاً ) (101 ) .
ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال : بأن عدم العلم ليس علماً بالعدم ، فقد نُقِلَ عن الإمام أحمد وعن بعض الشافعية مخالفتهم لهذا القول .
3 - يمكن أن يستدل لهذا القول: بقاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد( 102) ، إذ إن شراء الزاد هنا، أو شدَّ الرحلِ، وسيلةٌ لمقصدٍ مشروع، ألا وهو مفارقةُ مكة بعد طواف الوداع، والذي يعتبر شرطاً للإعتداء بهذا الطواف الواجب، ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب( 103) .
4 - كما يمكن أن يستدل لهذا القول : بقاعدة : يغتفر في التوابع مالا يغتفر في غيرها(104 ) ، إذ إن شراء الزاد ، وشدَّ الرحل ونحوهما ، ليس مقصوداً لذاته بل هو تابعٌ للسفر المقصود .
* أدلة القول الثاني :
لم يستدل أصحاب هذا القول لما ذهبوا إليه ، ولكن يمكن أن يستدل لهم بالآتي :
1 - أن من اشتغل بأسباب السفر كشراء الزاد وشدِّ الرحل ونحوهما لم يكن آخَرَ عهده بالبيت ، بل كان آخر عهده بشراء الزاد أو شدِّ الرحل ونحوهما .
ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال: بأن المقصود بأمره صلى الله عليه وسلم للحاج بأن يكون آخر عهده بالبيت، أي أن لا يقيم بعد طواف الوداع بمكة، والاشتغال بأسباب السفر ، ليس إقامةً بل هو مقدمةٌ للسفر ووسيلةٌ له .
2 - كما يمكن أن يستدل لهذا القول، بقاعدة: الاشتغال بغير المقصود إعراضٌ عن المقصود( 105). فمن اشتغل بشراء زادٍ أو شدِّ رحلٍ، فهو معرضٌ عن الأمر المقصود وهو أن يكون طوافه بالبيت آخر العهد، ولاسيما أن هذه الأشياء كان يمكنه القيام بها قبل الطواف .
ويمكن أن يناقش هذا الاستدلال: بأن الاشتغال بأسباب السفر والخروج هو مقدمةٌ ووسيلة للمقصود، ولهذا قال السيوطي مفرعاً على القاعدة السابقة: (ولهذا لو حلف: لا يسكن هذه الدار، ولا يقيم فيها، فتردد ساعة؛ حنث، وإن اشتغل بجمع متاعه، والتهيؤ لأسباب النقلة: فلا ) ( 106) .
الترجيح :
وبعد العرض السابق، فإن الذي يظهر رجحانه - والعلم عند الله - ما ذهب إليه الجمهور من كون المكث بعد طواف الوداع للاشتغال بأسباب السفر، لا يوجب إعادة طواف الوداع، وذلك لقوة أدلته في الجملة، وضعف أدلة القول الثاني، والله أعلم .
يتبع