غنائم الحج
الخطبة الأولى:
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:
فها فنحن - بحمد الله - جل وعلا - قد أتم الله علينا نعمة من أعظم النعم بهذا الموسم العظيم، والخير العميم، والفريضة المباركة، والمناسك المعظمة..خضعت له القلوب، وذلّت له الأعناق، ولهجت بذكره الألسن، وسارت إلى طاعته الأقدام، ورُفعت لنيل مرضاته وطلب معونته الأيدي، وكان أهل الإيمان والإسلام في البقاع المقدسة والمشاعر المعظمة يثبتون أن هذه الأمة المسلمة أمةٌ خالصةٌ مخلصةٌ لله رب العالمين، تابعة منقادة لشرع وهدي الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، هذه نعمةٌ عُظمى ما بعدها نعمة.
غنِم فيها حجاج بيت الله الحرام غنائم عظيمة.. غنموا زيادة الإيمان وتمام الإسلام، وغنموا إلى ذلك مغفرة الذنوب والآثام، غنموا الفوز برضى الله - سبحانه وتعالى - مع الثواب والسلامة من سخطه والعقاب، غنموا غنائم أحيت قلوبهم وطمأنت نفوسهم وهدَت عقولهم وهذَّبت أخلاقهم وحسَّنت أقوالهم وأصلحت أعمالهم وغيَّرت كثيراً وكثيراً في حياتهم حتى يعودوا بإذن الله - عز وجل - خيراً مما كانوا.
إنها هذه الفريضة العظيمة التي أجابوا فيها دعاء الله - عز وجل -، فهو - جل وعلا - الذي لهذه المشاعر دعاهم، ومنَّ عليهم - جل وعلا - بالإجابة وهداهم، وأوفدهم عليه - سبحانه وتعالى - وحداهم، فهو إذن لا يخيِّب رجاهم، ولا يرد سؤالهم ودُعاهم، أجابوا نداءه فاستحقوا عطاؤه كما أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في حديثه: (الحجاج والعمار وفد الله إن سألوه أعطاهم وإن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم)، ذلك من فضله - سبحانه وتعالى -.
نعم فإنهم - إي الحجاج والعمار - ما أوفدهم إلا أداء النسك الجليل، وما جعل الله - سبحانه وتعالى - لهم من الثواب إلا فضله الجزيل، ولا حثهم - سبحانه وتعالى - على الدعاء وأمرهم بالتلبية إلا ليكرمهم بالإجابة ويتحفهم بالأعطية وهو القائل كما في الحديث القدسي: (انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثاً غُبراً ضاجين من كل فج عميق أشهدكم أني قد غفرت لهم)، فما أعظم الوفود على ملك الملوك - سبحانه وتعالى -!
وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.
أقبلوا إذ سمعوا النداء إلى الله - عز وجل - رجالاً وركبانا. وفارقوا لأجل إجابة الدعاء أهلاً وولداً ودياراً وأوطانا؛ كل ذلك لأنهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، إنها رحلة إيمان عظيمة، ووفادةٌ ما بعدها وفادةٌ جزيلة.
إنها - أي هذه الفريضة العظيمة - هي التي يكرم الله - سبحانه وتعالى - بها من شاء من عبادة ليعظِّم أجره، ويمحو وزره، ويرفع ذكره؛ ليكون من عباده الطائعين.
وإذا فرح الناس في دنياهم بالوفود على الملوك فهؤلاء الحجاج سعدوا بالوفود على ملك الملوك - سبحانه وتعالى -، وإذا نال الناس الأُعطيات الدنيئة الفانية؛ فإن الحجاج رجعوا بالأُعطيات الجزيلة الباقية، وإذا سارع الناس في أوقات إجازاتهم وراحاتهم إلى المصائف والنزهات؛ فإن الحجاج قد سارعوا وسابقوا إلى مواطن الخيرات والبركات، فهل يستوي من أراد دنياه أو اتبع هواه بمن ترك محبوباته وهجر مألوفاته لنيل رضا مولاه؟
إنه أمر عظيم.. إنها فريضةٌ جليلة.. إنها عبادةٌ قد سبت قلوب المؤمنين، وتعلَّقت بها نفوسهم، وانشغلت فيها جوارحهم، واستغرقت زماناً من حياتهم، وبذلوا فيها جُهداً من أبدانهم وجزءاً من أموالهم.
لقد أحالوا حياتهم في وقت من الزمان، وبقعة من المكان وجمع من أهل الإيمان لله - سبحانه وتعالى - على هدي وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.. أنفقوا الأموال وتحمَّلوا الصعاب، لكنهم ما فعلوا ذلك إلاّ للأجر والثواب.
والله - عز وجل - قد وعدهم بإخلاف ما أنفقوا وهو الملك الوهاب - سبحانه وتعالى -، فهذا رسول الهُدى - صلى الله عليه وسلم - يبشِّر بوعد الله - عز وجل -: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة).
هل أن أنفقت في ذلك مالاً؟ هل اقتطعت بعض ما كنت تريد أن تحسِّن به أحوالك الدنيوية، ثِق بأن الله مخلف عليك ما أنفقت، وأن البركة تحُل بمالك وآلك وحالك، فإذا بك تبدوا وأنت مغمور في طاعة الله في حالٍ لا يمكن أن يُقارن بها أحد سواك، لقد أجبت دعوة الملك وجئت إلى بيته، وائتمرت بأمره وطلبت عطيته؛ فإنك بإذن الله - عز وجل - فائزٌ غانمٌ لا تكون مطروداً ولا محروما؛ فإن الملك إذا وفدت عليه الوفود وقد دعاها لاينقلبون من عنده إلاّ بأعظم ما يمكن أن يأخذوه من ملوك الدنيا كلهم، والله - عز وجل - هو ملك الملوك ورب الأرباب - سبحانه وتعالى -.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر كما في حديث بريدة عنه - عليه الصلاة والسلام -: (النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف). رواه البخاري تعليقاً، ورواه أهل المسانيد والسُنن.
نحن نعلم أن الإنفاق في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. وهذه النفقة وأنت تنفقها وجوباً لكي تؤدي حجك عند استطاعتك ومع ذلك ففضلها يُضاعف وأجرها كالنفقة في سبيل الله، وإليك الشاهد أيضاً من كتاب الله - سبحانه وتعالى -: وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين * وأتموا الحج والعمرة لله.
قال بعض أهل العلم: " في تواصل وترابط الآيتين إشارةٌ إلى أن الإنفاق في الحج والعمرة داخلٌ في الإنفاق في سبيل الله ".
وروى جابر أن رجلاً من الصحابة مات وجعل بعيره لكي يكون في سبيل الله - أي ليُحمل عليه في الجهاد في سبيل الله - فجاءت امرأته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وتقول: إن فلاناً مات وإنه جعل بعيره في سبيل الله، وإني أريد أن أحج عليها، ليس لها راحلةٌ سواه، فقال - عليه الصلاة والسلام -: حجي عليه؛ فإن الحج في سبيل الله.
ما أعظم كرم الله! يدعونا ثم يثيبنا على هذه الإجابة وعلى كل نفقة ننفقها وعلى كل حركةٍ نتحركها، ما من حافر يُرفع ولا أرض تُقطع إلاّ والأجر من الله - عز وجل - موفور، وإذا كان الله - جل وعلا - قد أخبرنا كما في الصحيح من الحديث القدسي: (أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم، وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعا، وإن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقرَّبت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
فكيف وقد أقبلت ليس ذراعاً ولا شبراً وإنما قطعت الفيافي والقفار والمسافات الطوال؟ يسوقك إلى ذلك ابتغاؤك مرضاة الله - سبحانه وتعالى - وشوقك إلى الوفود على بيته والتعظيم لمشاعره ومناسكه - سبحانه وتعالى -، كيف بك وقد أقبلت تاركاً وراءك ما تركت وقاطعاً لكل ما به اتصلت لكي تتصل بالله - سبحانه وتعالى -.
إنها فريضةٌ عظيمةٌ يؤثِر فيها العبد مرضاة ربه على كل شيء في دنياه، ويعطل كل صلةٍ وكل أمرٍ يشغله عن غير الله - عز وجل - ليفرِّغ وقته ويبذل جهده ويُنفق ماله وينتقل ببدنه إلى طاعة ومرضاته - سبحانه وتعالى -. فما أعظم هذه الفريضة العظيمة، وما أجزل مثوبة الحق - سبحانه وتعالى - لعباده عليها؛ فإنه قد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (الحج المبرور ليس له جزاءٌ إلاّ الجنة).
ولا يستعظمن أحد فضل الله - عز وجل - فإن فضله لا يحده حد، ولا يحيط به وصف وإن رحمته واسعة ومغفرته شاملة، فثق أيها الحاجُّ بأن الله - عز وجل - لا يخلف وعده، وهو القائل كما في الحديث القدسي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رب العزَّة والجلال بأنه قال: (أنا عند حسن ظن عبدي بي فليظن عبدي بي ما شاء).
أفتظن - أو يظن أحدٌ - أن هؤلاء الذين أقبلوا إليه، وأجابوا نداءه، وأطاعوا أمره، وعظَّموا بيته، يرجعون محرومين أو خائبين لا ينالون من رحمته شيئاً ولا يغمرهم من مغفرته سيلها المتدفِّق وهو الذي قد جعل ليوم عرفات مزيةً أنه اليوم الأعظم في عتق عباد الله - عز وجل - من النار.
لكننا نريد أن نقول بعد هذه الغنائم العظيمة والأُعطيات الجزيلة، وبعد أن تخفَّفنا بإذن الله - جل وعلا - من الذنوب التي أثقلت الكواهل، والآثام التي طمست البصائر، والمعاصي التي أظلمت القلوب، ماذا بعد ذلك، ما ذا بعد أن صُقِلت القلوب، وأشرقت بنور ربها، ماذا بعد أن تطهَّرت النفوس وتعلَّقت بمرضاة ربها، ماذا بعد أن تطهَّرت الجوارح واشتغلت بما خُلِقت لأجله من طاعة ربها، ما الذي يكون بعد ذلك.
أفرأيتم رجلاً كان عليه دين عظيم، جاءه من يحمل دينه ويسدِّده ثم يعطيه مثل ذلك الدين أضعافاً مضاعفة ليستعين به في حياته، فما عساه أن يكون حاله. لاشك أنه يكون أسعد السُعداء وأعظم الناس فرحاً بهذا، لكن كيف يكون تصرُّفه بعد أن أُزيح عن كاهله العبء العظيم والثِقل الكبير؟ هل تراه يكون أحمقاً أو مجنوناً فيعود يبدِّدُ المال في لحظات ووقت قصير ثم يعود بعد لحظة أو يسير من الزمان فإذا هو قد أثقل كاهله بديون جديدة؟
ذلكم ما قد يقع فيه بعضنا بعد أن مُحيت الذنوب يعود مرةً أخرى ليملأ صحائفها سوداء منتنة بمخالفة أمر الله - عز وجل - ويمحق ما أفاض الله - عز وجل - عليه من الخير والبركة والمثوبة والأجر والحسنات العظيمة والأُعطيات الجزيلة فيبدِّدها، نسأل الله - سبحانه وتعالى - السلامة.
لننظر ولنقارن لنرى كيف كانت أحوالنا في ذلك الموسم العظيم، حُجاجاً كُنا أو غير حُجاج؛ فإن رحمة الله في موسم الخير تعم جميع المؤمنين، ألسنتنا بأي شيء كانت مشغولة، تلبيةٌ تُرفع لتعلن توحيد الله - سبحانه وتعالى - ونفي الشرك معه - سبحانه وتعالى -، وألسنة تكبِّر الله - جل وعلا - لتقول: إن كل شيء في الحياة وكل شيء في الدنيا أصغر، والله - جل وعلا - هو الأكبر في نفوسنا، هو الأكبر في قلوبنا، هو الأكبر الذي لا ننشغل عن شيء سواه، ولا يقطعنا في الصِّلة به قاطعٌ من أمور هذه الحياة، ألسنتنا بأي شيء كانت منشغلة، كانت مسبِّحة، كانت مهلِّلة، كانت ذاكرة، كانت لله - جل وعلا - شاكره، كانت لاهجةً بالثناء عليه، متضرِّعة بالدعاء والابتهال والتوسل بين يديه، كانت تاليةً لكلامه، قارئةً لكتابه - سبحانه وتعالى -، كانت ممنوعةً فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
بَرِأت من قول الباطل والفسق والفجور وترطَّبت بذِكر الله وشُغِلت به. فهل تعود مرةً أخرى لتَلِغَ هذه الألسن في أعراض الناس غيبة أو نميمةً فتستوجب سخط الله - جل وعلا -، كما صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل الجنة قتات)، أي نمَّام. ونحن نعرف قوله - عليه الصلاة والسلام - في الغيبة: (ذِكرك أخاك بما يكره؛ فإن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).
في أي شيء كانت الأقدام، كان بالبيت طائفة، وبين الصفا المروة ساعية، وإلى مرضاة الله - سبحانه وتعالى - قائمة وإنها ما تحرَّكت حركةً في المشاعر ولا تعِبت تعباً ولا تحمَّلت عبئاً إلاَّ وهي في مرضاة الله - سبحانه وتعالى -.
إنها كانت تبيِّن لكل حاج أن جوارحه وأن قوته وأن طاقته إنما يستخدمها في مرضاة الله - سبحانه وتعالى -، كيف مضى بها إلى عرفات، كيف وقف بها على الصعيد من الزوال إلى الغروب؟ كيف أضناها وهي تطوف وتسعى؟ كيف كان يسير بها إلى رمي الجمار؟ فهل يكون بعد ذلك سعيٌّ بها إلى غير مرضاة الله؟ وهل يكون بعد ذلك مشيٌ بها إلى المواطن التي حرَّم الله؟ وهل يكون حينئذٍ رجوعٌ أو نكوصٌ؟ نسأل الله - عز وجل - السلامة.
والأيدي وما أدراك ما الأيدي! في أي شيء كانت منشغلة؟ إنها كانت مرفوعةً بالتضرع إلى الله، وإنها كانت راجمةً زاجرةً تنبؤ وتخبر وتستيقن أن الشيطان هو عدوها الأول والأكبر، وكانت ذابحةً مضحيةً منفقةً تقول إن كل شيء يهون في سبيل مرضاة الله، وإن كل شيء يُبذلُ لأجل طاعة الله - سبحانه وتعالى -. فهل تتلوَّث مرة أخرى بالأدناس؟ وهل تعود متسخة بالأرجاس؟ وهل تقبل حينئذ حراماً من رشوةٍ أو رِباً أو غشاً أو نحو ذلك؟ أو هل تكون معتديةً بالزجر والعدوان أو بالغلظة والجفاء؟
وكيف كان الناس في هذه المشاعر العظيمة؟ كل جوارحهم، كل أحاسيسهم - وقبل ذلك مشاعر قلوبهم - كلها كانت لله، لم يكن في موقف عرفات أحدٌ في قلبه خشيةٌ إلاّ لله، ولا محبةٌ إلاّ لله، ولا توكل إلاّ على الله، ولا إنابةٌ إلا إلى الله، ولا تذلل وانكسارٌ إلاَّ له - سبحانه وتعالى -، مُلِئت القلوب وحُشيت بالإيمان بالله - عز وجل -، وتعظيمه وتوقيره، وإفراده - سبحانه وتعالى - بكل هذه الأنواع التعبدية الإيمانية التي لا يُصرف منها شيء لغير الله، فهل ترجع القلوب بعد ذلك وهي تخشى فلان وفلان من الناس، وهي تذِل وترجو وتتوسَّل إلى الله - عز وجل -، وهي تتقرَّب إلى أموات، أو إلى مقبورين، أو إلى هذا أو ذاك وقد ذاقت لذة التوحيد، وشعرت بحلاوة الإخلاص، وتذوقت لذة المناجاة لله - عز وجل -، فهل تعود حينئذ لتلقي بحاجاتها بين أيدي المخلوقين وتترك الخالق - سبحانه وتعالى -؟
إنها فرصةٌ عظيمة، ومِنةٌ كبيرة، وأجرٌ جزيل وثوابٌ عميم، وتغير كبير في واقع كل من أدى هذه الفريضة وألمَّ بهذا الموسم العظيم فينبغي أن لا نحرِم أنفسنا مثوبة الله وأن لا نرجع بعد الغنيمة ولا بعد الأُعطيات صفر اليدين، ونحن قد أكرَمنا الله - سبحانه وتعالى -، فعلينا أن نعظِّم هذه الأُعطيات، وأن نحمده - سبحانه وتعالى - ونشكره بذكر نعمه وبشكرها حتى يزيدها علينا.
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا، ونسأله - عز وجل - أن يعاملنا بفضله ولطفه وجوده وإنعامه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الخطبة الثانية:
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله؛ فإن تقوى الله أعظم زادٌ يُقدِم به العبد على مولاه، وإن هذا الموسم العظيم هو موسم التقوى الأعظم: وتزوَّدوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب.
ولعلنا أيها الإخوة الأحباء نقارن ونذكِّر بكل ما قد كان من حجاج بيت الله الحرام، هذا أجابوا نداءه: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً.
فهل هذا هو نداء الله الوحيد إلينا؟ إن لله - جل وعلا - نداءاً ينادينا به في كل يوم خمس مرات، فإذا كنت قد أجبت من أقاصي الأرض وتحمَّلت ما تحملت لتلبي ذلك النداء العظيم، فما بالك بالنداء اليومي قريباً من بيتك، سهلاً عليك، تُدعى فيه إلى الفلاح، وتُدعى فيه إلى الصلاة، وتُدعى فيه إلى تكفير الذنوب: (أرأيتم لو أن نهراً غمراً يجري بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيءٌ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا).
ألسنا قد دحرنا الشيطان وكُنا نرمي الجمار مستحضرين استعانتنا واستعاذتنا بالله على مناوئة الشيطان، تلك هي الصلاة مرة أخرى، إذا سمع الشيطان النداء والأذان تولَّى هارباً وله ضُراط يُسمع، وإذا جاءت الإقامة فكذلك. يُستعان على الشيطان بذكر الله وبالإقبال على طاعة الله - سبحانه وتعالى -.
أليس في الحج إنفاق في سبيل الله؟ ألسنا قد جمعنا المال من طيِّب وحلال حتى ننفقه في سبيل الله؟ أليس عندنا نداءٌ وفرضٌ وركن آخر يتعلَّق بالمال وهو الزكاة؟ وكم من الناس من لا يخرجها، أو لا يخرجها بتمامها؟ وكذلك باب الله - جل وعلا - واسعٌ ورحمته شاملة لكي نؤدي الفريضة ونزيد من الإنفاق في سبيل الله - عز وجل - ما نكفِّر به الذنوب والخطايا.
إن كل شرائع الإسلام وفرائضه تكرِّر علينا ما كنا فيه في الحج فإقبال القلوب وإخلاصها لله يكون في الصلاة، وذِكرُ الألسنة بتلاوة القرآن والدعاء والتسبيح يكون في الصلاة، وحركة الجوارح وسير الأقدام يكون كذلك إلى المساجد في الصلاة (بنو سلمة دياركم تُكتب آثاركم).
لمَّا أرادوا أن يقتربوا من المسجد حثهم النبي على البقاء في مكانهم لأن كل خطواتهم إلى طاعة الله وإلى بيوت الله مكتوبة في سِجل وصحائف حسناتهم.
وأعظم من ذلك أيها الأحبة الكِرام الإخلاص والتوحيد الخالص لله - عز وجل -، الذي لم نعظِّم فيه إلاّ الله، ولم نتوجَّه فيه بالدعاء والتضرُّع إلاّ لله ولم نعلن الخضوع والذِّلة والاستسلام إلاّ لله، فليكن ذلك في حياتنا كلها، لا ينبغي أن نصرف شيئاً من ذلك لغير الله بعد أن أخلصنا، وبعد أن وحَّدْنا، وبعد أن نفينا كل شريك عن الله في طاعة الله.
لا ينبغي أن نعود مرةً أخرى فنشرك والعياذ بالله مع الله أحداً في قلوبنا، أو في أعمالنا، أو في طاعاتنا، أو في ما ننحرف به عن جادة صوابنا. ولقد كنا في الحجَّ متبعين لهدي وسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتباعاً لأمره لمَّا قال: (خذوا عني مناسككم)، فكُنا نتبعه في الحجِّ حذوا القُدة بالقُذة، ونسير كما سار، ونقول كما قال، ونجتهد كما اجتهد، ولا يحرِّكنا في تلك المشاعر من حركة في زمان منضبطٍ ولا في سلوك محدَّدٍ إلاّ ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعلَّمنا أن الطريق الموصل إلى مرضاة الله هو طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وينبغي أن نوقن أن أي طريق غير سُنة رسول الله لا يوصل إلى مرضاة الله، لا يُقبل في العبادة اجتهاد المجتهدين، ولا تخرُّص المتخرصين، وإنما هو اتباع المؤمنين لرسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم -: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
إخلاصنا لله ينفي الشِّرك، واتباعنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفي البدعة، فحينئذ نكون على التوحيد وعلى المتابعة وذلك هو الذي يحقِّق معنى لا إله إلاّ الله، محمدٌ رسول الله، إيمانٌ بالله وتوحيدٌ لا شرك معه، ومتابعةٌ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي دعا معها وذلك هو جوهر ما نخرج به من هذه الفريضة العظيمة، فالله الله أن نرجع بعد الطاعة إلى المعصية، وبعد التوحيد إلى الشرك، بعد الإقبال إلى الله إلى الإعراض عنه، وبعد استجابة ندائه إلى صمِّ الآذان عنه.
نسأل الله - عز وجل - أن يُقِبل بقلوبنا عليه، وأن يُعلَّق نفوسنا بمرضاته، وأن يشغل جوارحنا في طاعته، وأن يجعل أزماننا وأوقاتنا مملوءةٌ بذكره وشكره وحسن عبادته، نسألك اللهم التوفيق والهُدى والسداد، ونسألك اللهم الهُدى والإعانة والرشاد.