مدينة سبتة المسلمة... أقدم احتلال في التاريخ!




مولاي المصطفى البرجاوي




، لعلَّ ما تشهده الساحة الإسلامية اليوم دليلٌ قاطع، وبرهان ساطع على جشع المحتل، الذي لا يهدأ له بالٌ حتَّى يجثم على أنفاس الضعفاء، أليست فِلَسطين الحبيبة أسَّ القضايا الإسلامية ومحور ارتكازها، أليستِ العراق وأفغانستان امتدادًا لها... ثم ألَمْ تمتدَّ جراحاتُ العالم الإسلامي لتغطي مساحات لا حصر لها؟ ألم يتمدَّدْ أخطبوط الاستِخْراب الغربي لينهش أمعاء الأمة الإسلامية الحيوية؟ ألم يستولِ على أرْضِها وثرواتِها ويأكل الأخضر واليابس فيها كالنار في حشيش جاف؟
بعد أن أخذت مناطق عديدة من العالم الإسلامي البحث والدراسة، يكون من الأَوْلى كما قال الشاعر:

وَأَيْنَمَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ فِي بَلَدٍ عَدَدْتُ ذَاكَ الحِمَى مِنْ صُلْبِ أَوْطَانِي!

حقًّا لقد مرَّت منطقة الغرب الإسلامي بفترات طويلة من الصراع مع إسبانيا النصرانية، منذ سقوط آخر مملكة إسلاميَّة في الأندلس (غرناطة سنة1492م) وخروج المسلمين من الأندلس، وبقيتْ آثار هذا التاريخ المشترك تُلقي بظلالِها على العلاقات المُعاصرة بين الطرفين؛ إذْ لا تزالُ بعضُ القضايا الشائكة عالقةً بينَهُما، لا سيَّما مدينتا سبتة ومليلية اللَّتان تقعان في شَمال المغرب والجزر المحيطة به.
لِمحاولة تعريف أبناء الأُمَّة الإسلاميَّة بأراضيهم المغتصبة، مع مساندة المنتظم الدولي الظالم لها؛ إذ نصَّت "معاهدة شينجن" صراحةً أنَّ المدينتَيْنِ هُما "الحدود الجنوبيَّة لأوربا"، أضِفْ إلى ذلك أنَّ الأمم المتَّحدة لم تَذكُر ولو بندًا واحدًا يذكر بمغربية مدينة سبتة، برغم الشواهد التاريخية والجغرافية؛ لتتمادى في ظلمها وغيِّها وجبروتها! - يكون من الواجب علينا دراستُها دراسةً مُستفيضة؛ ليتبيَّن لِلقارئ الطرقُ الملتوية التي يسلكها الغرب الحاقد في نهب أراضينا!
وتُعَدُّ مدينة سبتة والثغور المحتلة إلى اليوم (مليلية والجزر الجعفرية) إحدى مخلفات المجابهة بين العالم الإسلامي وأوربا الكاثوليكية في فترة الحروب الصليبية في القرن الخامس عشر الميلادي، والتي كان البحر المتوسط مسرحًا لَها، فمنذُ وقتٍ طويل ارتبط مصيرُ المدينتَيْنِ بِالمضيق البحريّ العام الذي يربط المتوسط بالمحيط الأطلسي، وقد دفعَتْ مدينة سبتة طوال مرحلة المواجهة بين أوربا والعالم الإسلامي من خلال الحملات الصليبية ثمنَ موقعِها الجغرافي الإستراتيجي، الذي جعلها بوابة العالم الإسلامي للزحف على أوربا، ومنفذ الصليبيين لإحكام السيطرة على أراضي الإسلام، ولعلَّ أوربا النَّصرانيَّة كانت تتطلَّع إلى احتِلال هذا الثَّغر الإسلامي، وتَحويله إلى قلعة ضدَّ تمدُّد أطراف العالم الإسلامي نحو القارة العجوز، وهي تستعيد ذِكْرى عبور الفاتح "طارق بن زياد" منه نحو الأندلس في عام 92هـ.[1]
فمنذ استقلال المغرب عن فرنسا وإسبانيا وهي تُطالب بِمدينتَي سبتة ومليلية، وبعضِ الجزر الصغيرة قبالةَ الساحل الإفريقي؛ مثل بلازاس وسوبيرانيا وجزر الكناري؛ لكن للأسَف دون تَحقيق أيّ تقدُّم ملموس؛ إذ تُصرّ إسبانيا الصليبيَّة على احتِلال أجزاء مهمَّة واستراتيجية في المغرب!
إذًا تَعتبر المملكةُ المغربية، ومنذ استقلالها، سبتةَ جزءًا لا يتجزَّأ من التراب المغربي، وترفض الاعتراف بشرعيَّة الحُكم الإسباني على مدينتي سبتة ومليلية والجزر الجعفرية[2] Chafarinas، و يدعمها في ذلك كلُّ دول الاتحاد الإفريقي، ويطالب المغربُ إسبانيا بالدخول في مفاوضات مباشرة معها؛ لأجل استرجاعهما، كما تعتبرهما إحدى أواخر معاقل الاستعمار في إفريقيا، غيرَ أنَّ المنطقة لم تصنِّفْها الأممُ المتحدة بعدُ ضمنَ المناطق المحتلة والواجب تحريرها[3].
وفي هذه المقالة، سنحاول دراسة فصول احتلال مدينة سبتة المغربية السليبة - التي هي نقطة وجزء من بلدان العالم الإسلامي المغتصبة - التي عمر فيها الاحتلال البرتغالي ثم الإسباني إلى اليوم مدة لا يَقبَلها عقلُ المُنصِف من الأعداء قبل عقل ذَوِيها! بل الغريب ما يمارسه الإعلامُ الإسباني من تضليل وترويج لأكاذيبَ باطلةٍ علميًّا وجغرافيًّا وتاريخيًّا وثقافيًّا؛ من أن الوجود الصليبي الإسباني بمدينة سبتة يعود إلى عصور غابرة، وأنَّها استولتْ عليها بالقوَّة، وهي وسيلة شرعية في تلك الفترة للاستيلاء على أراضي الغير! كما يُروِّجون أيضًا لرؤيةٍ مفادُها: أنَّ سبتة تمَّ احتلالُها في وقت لم تكن فيه المغرب دولةً ذات سيادة! أمَّا الحجَّة المفضوحة هو ادعاؤها أن الأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوربي تعترف بأن سبتة ومليلية من الجزر الإسبانية!
وقد تمَّ الرَّدّ على هذه الطروحات الفاشلة من قِبَل المؤرِّخين والعلماء، ومن أبرزها:

- أنَّ الاحتلال العسكري لأرض الغير لم يَكُنْ في يوم من الأيام حُجَّة تخول حقَّ الاحتفاظ بما تم احتلاله، وإذا فرضنا جدلاً أن الاحتلال بالقوة حجة، فلماذا لم تعترفْ إسبانيا بمشروعيَّة تلك الحجةِ عندما يتعلَّق الأمر بجبل طارق[4] المحتل بدوره بالقوة من إنجلترا منذ 1704م؟!
- أما الحجة الثانية فقد ردَّ عليها المؤرخُ المغربي محمد عزوز حكيم بقوله: "بأنه قول فيه افتراء على التاريخ، الذي يشهد أن المغرب دولة ذات سيادة وسلطان منذ أن أسَّس المولى إدريس الأول دولتَه سنة788م؛ أي قبل أن تُصبح إسبانيا دولةً معترفًا بها بين الدول بأكثر من سبعمائة سنة، بدليل أنها لم تصبح دولة قائمة الذات إلا في سنة 1492م؛ إذ كانت خاضعة لنفوذ دولة المرابطين والموحِّدين والمرينيين"[5].
أمَّا على المستوى الجغرافي؛ فيكفي إلقاء نظرةٍ على الخريطة المغربيَّة، يتبيَّن بالملموس أنَّ سبتة تكون جزءًا من التّراب المغربي، شأنُها في ذلك شأن مليلية وبعض الجُزُر المحتلة من قِبَل الإسبان، فلِمَ السطو والترامي على سيادة الغير؟ في وقت تُرْفَع فيه شعاراتٌ رقْراقة في الغرب من تَحرير البلدان! ونشر ما يسمونه الديمقراطية! فلِمَ الضحك على الذقون؟!
- أمَّا الحجَّة الثالثة فهي باطلةٌ من أساسِها، بدليل ما قامتْ به الولايات المتحدة من غزوٍ ودمار ضدَّ العراق، بالرَّغم من رفض الأمم المتحدة، أيّ نفوذٍ لِهذه المؤسسة، أليستْ هي في الأصل مؤسسةً تَخدم مصالح الغرب؟ متى كانت في صفِّ الضعفاء؟!
ولله الحمد والمنة، أن إسبانيا أصابتها نفس المصيبة التي ابتليت به المغرب في ثغوره وجيوبه المحتلة؛ فجبل طارق ما يزال محتلاًّ من طرف بريطانيا العظمى، وبالرغم من ذلك فلا بُد من تحرُّكات دولية مكثفة، والغريب في الأمر أنَّ علماء المغرب إلى الآن لم يصدر منهم أيُّ فتوى بخصوص قضية احتلال سبتة وباقي الثغور المغربية المحتلة من قِبَل إسبانيا الصليبية!!!
لكن لا أخفي في هذا الباب تمعري الشديدَ، وحيرتي العميقةَ من بعض الأفكار الواردة في بطون بعض المصادر التاريخية، التي يُروِّج لها بعض المؤرخين؛ أمثال ما سطره المؤرخ المغربي محمد داود من أن: "الشيخ عبدالقادر التبين أخبر أن مدينة سبتة سيحتلُّها الكفار ويبقون فيها مدة، ثم يسترجعها من يدهم رجلٌ قرشي من أهل البيت اسمه محمد..."[6].
وكأن الأمر يَحتاج فقط إلى رؤى ومنامات المتصوفة وشطحاتها؛ بل الأدهى من ذلك انتظار عودة المهدي المنتظر!
أُمُورٌ يَضْحَكُ السُّفَهَاءُ مِنْهَا وَيَبْكِي مِنْ عَوَاقِبِهَا اللَّبِيبُ!
* مدينة سبتة، أصل التسمية:
وقد اختلفت الروايات في هذا الباب؛ هناك مَن ذهب إلى أنَّ تسمية سبتة مشتقَّة من الكلمة اللاتينية Septem، التي تعني سبعة؛ لوجود سبعة جبال حول المدينة[7]. كما يذهب الكثير من المؤرخين القدماء العرب أنَّ اسم المدينة يُنسَب إلى تأسيس سبتة إلى ما يسمونه سبت بن سام بن نوح - عليه السلام، استنادًا إلى التَّجانُس بين الكلِمتين[8]. كما يميل الاعتقاد أنَّ للوجود الروماني بِموريتانيا صلةً باسمها؛ إذ إنَّهم دعوها Septeme Trolés، ومنه اشتق اسم Septa، وبالتالي أَطلَقت عليها المصادرُ العربية سبتةَ. ويعود أوَّل تعريفٍ بالاسم إلى سنة 204 ق. م[9]؛ من هنا لا يمكن الحسم بصحَّة هذه الرّواية أو تلك!
* أهمية مدينة سبتة الاستراتيجية والعلمية عامل أساس في الاحتلال:

- جغرافيًّا: تقع في أقصى الشمال الغربي للمغرب، وتحتل موقعًا استراتيجيًّا بالغ الأهمية، فهي شبه جزيرة مطلَّة على حوض البحر الأبْيض المتوسّط، وعلى بوغاز جبل طارق، يُحيطُ بِها الماء من الجهات الثلاث الشَّمالية، والشَّرقية، والجنوبيَّة، ولا يَفصِلها عن السَّواحل الأندلسيَّة سوى 21 كيلو مترًا، وتبلغ مساحتها 19 كيلو مترًا، وطولها من الشرق إلى الغرب 1000م، ومن الشمال إلى الجنوب 1500م. تمتد مساحة سبتة الحالية في حدود 20,12 كلم2 ويبلغ محيطها 28 كيلو مترًا، 20 كلم من هذا المحيط تشكل شريطًا بحريًّا، والباقي 8 كلم) يمتد غربًا عبر الشريط الأرضي المتصل بالحدود المغربية.



- وتاريخيا: احتلها البرتغاليون عام 1415 م ثم الإسبان عام 1580 م.

- وتاريخيًّا: شهدَتِ المنطقةُ فتراتٍ تاريخيةً زاهية - كما سنرى - جعلها محطَّ أنظار الإمبرياليين؛ من ثَمَّ احتلها البرتغاليون عام 1415م، وبعد ذلك الإسبان عام 1580م.



لم تكن حاضرةُ سبتة لتتعرَّض للاحتلال البرتغالي ثم الإسباني، ويطبق عليها ليلُ الاستخراب الذي عمَّت غياهبُه مختلفَ معالم الهوية الإسلامية مسخًا وتشويهًا! وحوَّلت المدينةَ الشعلة إلى كومة رماد، بعد أن أخلى معظم أهلها وشرَّدهم، ودمَّر عمرانَها، واختلس مدَّخراتِها - لولا قدرُ الله، ثم تناحُرُ أهلها، ثُمَّ بوصْفِها إحدى منارات الإشعاع الفكريّ والعلميّ، وذروة للتوسع العمراني، ويظل الموقع الإستراتيجي من العوامل الأساسية؛ إذ تقع مدينة سبتة الساحلية في شبه جزيرة متَّصلة بأقصى شرق الغرب المغربي، وتبعد عن أقرَبِ نقطة بأوربا باثنَيْنِ وعشرين كلم، كما سجل التاريخ بكونها كانت مركزًا عسكريًّا حصينًا بِحُكم تضاريسِه الحدوديَّة، لهذا قدَّر الله - سبحانه وتعالى - أن تلعب دورًا متميزًا ورياديًّا في تاريخ العلاقة بين المغرب والأندلس كممرٍّ وكقاعدة بحرية.
أمَّا دورُها في الميدان الاقتصادي؛ فإنَّه بلغ الذّروة بين القَرنَيْنِ الحاديَ عشر والثالثَ عشر، وهي الفترة التي أعيدت فيها العلاقاتُ التِّجارية بين العالم الإسلامي وأوربا النصرانية.[10] كما تذكر المصادر التاريخيَّة أنَّ الدَّافِع الاقتِصاديَّ كان وراء رغبة المهدي بن تومرت في السيطرة على سبتة برغم ما لاقاه من مقاومة شديدة من قِبَل العلاَّمة القاضي عياض.[11]

على المستوى العلميّ كانتْ مدينة سبتة خلال القرْن السادس والسابع الهجري من أهم مراكز الحركة العلمية في السواحل المغربية، وبِخاصَّة أنَّ هذه المدينة أنْجبتْ أكبرَ شخصيَّة عِلمية مغربيَّة، هو القاضي عياض - رحمه الله - الذي ولد سنة 476 هجرية، كذلك أوَّل شخصية علمية في تاريخ الجغرافية، وهو الشريف الإدريسي السبتي المتوفى 562 هجرية، الذي وضع أوَّل خريطةٍ رسم فيها العالم، وبيَّن مواقعَ البلدان والبحار والأنهار والجبال، ثُمَّ شرح ذلك في كتابه "نزهة المشتاق" الذي قسم فيه الأرض إلى سبعة مناطق، وكل منطقة قسمها إلى عشرة أقطار متساوية.



وقد تعرَّض الحسنُ الوزان الملقَّب بـ"ليون الإفريقي" (توفي سنة 944هـ) في كتابه "وصف إفريقيا" لذِكْر سبتة، فقال: "وكان فيها كثيرٌ من الجوامع والمدارس، والعديد من الصنَّاع ورجال الأدب والفكر، وكان فيها نَحَّاسون مَهَرة يصنعون الشمعدانات والأطباق والمحابر وغيرها، وكانت هذه المصنوعات تُباعُ كما لو كانت من فِضَّة، وقد رأيت منها في إيطاليا، وكان كثير من الطليان يعتقدون أنها صُنعت في دمشق".
كما شكَّلت سبتةُ البوَّابةَ التي عَبَر منها المسلمون - كما سنرى إن شاء الله - نحو أوربا مؤسِّسين دولة عمرت أكثر من 8 قرون، ساهَمَتْ في تنوير الأوربيّين، وإخراجهم من ظلمات القرون الوسطى!

وللموضوع تتمة