هذه أسئلة واستفسارات كنت بعثها أيام دراستي بكلية الشريعة بأكادير إلى الشيخ العلامة الأصولي مولود السريري حفظه الله وبارك في عمره، فكتب إلي جوابا عنها، فأردت من باب تعميم الفائدة ن أضعها بين يدي إخواني من طلبة العلم الشرعي والله الموفق للصواب.
السؤال الأول: عمل أهل المدينة من الأصول التي انفرد بها المذهب المالكي، أخذ به الإمام مالك رحمه الله، وكان يقدمه على خبر الآحاد، ونوزع في ذلك من طرف العلماء، وإن كانت المسائل التي بناها رحمه الله على العمل لا تتجاوز المائتين ونيفاً، وقد اختلف علماء المذهب قبل غيرهم في عده حجة، فما الراجح عندكم بارك الله فيكم.
الجواب: عمل أهل المدينة في كونه أصلا من أصول مالك ـ رحمه الله ـ اضطراب واختلاف، كما اضطرب في كونه أصلا فقهيا لمالك. اختلف في الصورة التي هو عليها في هذا المذهب.
والذي تنخل واستبان في هذا الأمر أن عمل أهل المدينة أصل من أصول المالكية، نظرا لما تقرر من أن مالكا كان يعرض الحديث على العمل النبوي الغالب، وكذا عمل الصحابة.
وقد مدد عمله هذا إلى العرض على عمل أهل المدينة، لكن التحقيق في هذا الأمر أبدى أنه لا يرجح بهذا العمل إلا ما كان سبيله التوقيف، كما يرى ذلك حذاق مذهبه كالقاضي عبد الوهاب وأبي الوليد الباجي...وكما يدل حال فتاويه واختياراته الفقهية، وقد يمثل لذلك بما خالف فيه فتاوى عمر وأبي بكر رضي الله عنهما، وسعيد بن المسيب...
السؤال الثاني: معروف عند طلبة العلم موقف ابن حزم رحمه الله من القياس، غير أن بعض العلماء يقول بأن ابن حزم وغيره من علماء الظاهرية إنما ينكرون وينفون القياس الخفي، أما القياس الجلي فيأخذون به، أرجو منك توضيح هذه النقطة.
الجواب: ابن حزم رحمه الله لم يقل بالقياس على الإطلاق في الأمور الدينية، ويقول به في الأمور الدنيوية، والنقاشات الفكرية غير الدينية، إذا صح فيه التماثل بين المقيس والمقيس عليه بوجه حسي أو عقلي.
السؤال الثالث: من القواعد التي أخذ به علماء المالكية المتأخرون قاعدة جريان العمل، فقدموها على الراجح والمشهور... وبها أجازوا كل بدعة ومعصية في دين الله بدعوى جريان عمل الناس عليها، وزعموا أن لهذه القاعدة شروطا خمسة جمعها محمد بن المدني كنون في قوله:
والشرط في عملنا بـ (العملِ)....... صدورُه عن قُـدوة مؤهل
معـرفـة الزمان، والمكـان .........وجـود موجِبِ إلى الأوان
وبهذه القاعدة والأصل أجازوا كثيرا من البدع كتزويق المساجد وقراءة القرآن جماعة والدعاء جماعة...بل وأسقطوا أحكاما شرعية كترك العمل باللعان، وبعث الحكمين ...وما إلى ذلك من الأمثلة.
فأريد أن أعرف موقفكم ورأيكم في هذا الأمر، وما هي العلاقة بين هذه القاعدة وأصل عمل أهل المدينة.
الجواب: جريان العمل يقابله العرف تقابل المترادفين، والعرف مقامه ترجيح ما تحتمله الألفاظ الجارية في العقود، وتبيين الطرف الذي يحكم له عند التنازع... وما جرى مجرى ذلك، وغايته المساعدة على تحقيق المناط...
أما هذا الذي أطلق عليه جريان العمل على هذه الصورة التي ذكرتها، فهذا مسلك إلى هدم الدين من القواعد، ولا يقابل مثل هذا إلا بكلمة: "إنا لله وإنا إليه راجعون".
وهذه القاعدة لا علاقة بينها وبين قاعدة عمل أهل المدينة إلا في كلمة (عمل).
السؤال الرابع: اختلف العلماء قديما وحديثا في موضوع المجاز ووقوعه في اللغة العربية، وادعى البعض أن الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي فقط، فما هو القول الراجح عندكم في هذا النزاع بارك الله فيكم.
الجواب: أنكر وقوع المجاز في اللغة العربية جماعة، وتمسكوا بالاشتراك فيما يقول فيه غيرهم ـ وهم الجمهور ـ بالمجاز، وفي ظاهر الأمر الخلاف لفظي، لأن الأحكام المأخوذة من تلك الألفاظ المختلف فيها واحدة، سواء قلنا بالاشتراك أو بالمجاز، لأن الاشتراك وإن كان من أسباب الإجمال لا يكون كذلك مع البيان.
والمجاز ـ كما لا يخفى عليكم ـ من الظاهر، وبذلك يجتمعان في الظاهر، فيتساويان من هذه الحيثية.
لكن قرر الأصوليون أنهما إذا تعارضا قدم المجاز.
هذا بإيجاز معتصم من قال في هذه المسألة: الخلاف لفظي.
والذي يظهر لي أن الخلاف معنوي من جهة أخرى، وهي أن المجاز لا يقابل بالحقيقة لضعفه وقوتها، وهذا يفضي إلى أن من أثبت المجاز أضعف دلالة ما أثبته فيه، ومن أثبت الاشتراك أثبت الحقيقة، ودلالتها قوية كما هو معلوم.
فلو أن نصا ألفاظه بقيت على حقائقها عارض نصا فيه مجاز، رجح عليه ذو الحقيقة، بخلاف حقيقة عارضت مثلها فبينهما تساو، وبذلك يطلب الترجيح من خارج.
ومن أدرك ضعف المجاز وقوة الحقيقة وما يترتب على ذلك من أمور ـ مثل سهولة سقوط المجاز، وكون الحقائق الشرعية لا تحمل عليه، وبالتالي لا تبنى عليه الأحكام الشرعية... وكون الحقيقة بخلاف ذلك ـ أدرك أن الخلاف معنوي، لأن كل خلاف أحد شقيه يخالف الآخر فيما يبنى عليه من أحكام، وما يفيده من فوائد، وفيما يؤدي إليه العمل به هو خلاف معنوي.
وإذا أدركت هذا فستورد بقية الكلام على هذا المنحى.
هذا ما تيسر ذكره وكان الأمر فيه على عجلة، تقبلوا ـ أخي أبا عبد الرحمن المراكشي ـ فائق التقدير والاحترام.
والسلام عليكم.