القول المختار :
وبعد هذه الجولة والمراجعة لكتب الأئمة ، والتعرف على مذاهب العلماء وأقوالهم ، يترجح لي قول الشافعية ، ولعله رواية عن الإمام أحمد ، وإن كانت غير المشهورة ، فتكون الرخصة خاصة بمن يأتي إلى العيد من مكان بعيد ، كأهل العوالي ونحوهم ، وذلك من باب التخفيف عليهم ، فإنهم يأتون من مسيرة ساعتين أو نحوها ، فقد يسير بعضهم قبل الفجر بساعة أو أكثر ، ويضطرون إلى الرجوع إلى أهليهم على أرجلهم ، أو على رواحل عادية كالحمر والإبل ، وذلك قد يستغرق ساعتين أو نحوها ، فلو لزمهم الرجوع إلى الجمعة لساروا راجعين نحو ساعتين ، ثم رجعوا مثلها ، فينقضي عيدهم ذلك كله في ذهاب ورجوع ، وفي هذا من المشقة والصعوبة ما يخالف تعاليم الإسلام ، وما جاء فيه من السهولة والتيسير ، ونفي الحرج والضرر عن المسلمين ، كما قال تعالى: }يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ]{ سورة البقرة : 185 [ وقال تعالى:}مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ]{ سورة المائدة : 6[
حال الناس في الزمان الأول :
وهذا هو الواقع ممن عرفناه قبل خمسين عاما في القرى والمدن ، حيث يأتون إلى صلاة العيد أو صلاة الجمعة من مسيرة ساعتين أو ثلاث ، والكثير منهم يسيرون على أقدامهم حفاة ومنتعلين ، ويتحملون ما في ذلك من المشقة والصعوبة ، رغبة في الخير ، وكثرة الأجر الذي يترتب على شهود الجمعة ، مما هو مذكور في كتب الفضائل والأحكام ، ولا شك أن تكليفهم بالرجوع لصلاة الجمعة يشق عليهم .
وحيث إن يوم العيد يوم فرح وسرور وابتهاج ، فإن المعتاد تزاور الأقارب فيه ، وتبادلهم التهاني والدعاء من بعضهم لبعض بالقول والبركة ، وهذا مما يحتاج معه إلى لزوم منازلهم؛ ليقصدهم إخوتهم وأصدقاؤهم للتهنئة والتبريك ، فإذا انشغلوا يوم العيد ، وقطعوا فيه نحو ثمان ساعات ذهابا وإيابا ، فات عليهم ما فيه غيرهم من الفرح والابتهاج فأما أهل المصر ومن حول المساجد الجوامع فلا مشقة عليهم في الإتيان إلى الجمعة ، وأداء فريضتها؛ لوجوبها على الأعيان الذين يسمعون النداء ، أو يقربون من محل إقامة الجمعة ، فقد ورد الأمر بالإتيان إليها عند النداء بقول الله تعالى: } إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ{ ]سورة الجمعة الآية 9[ فهذا الخطاب عام لكل من سمع النداء أو كان قريبا من محل الصلاة ، ولا مخصص له .
ولما ورد من الوعيد الشديد في ترك الجمعة ، كقوله صلى الله عليه وسلم: من ترك الجمعة ثلاث مرار من غير عذر طبع الله على قلبه ([70]) ، رواه أحمد وغيره عن جابر " وإسناده حسن" .
ومثله حديث أبي الجعد الضمري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه ([71]) ، رواه أحمد وغيره ، وحسنه الترمذي .
وقوله صلى الله عليه وسلم: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات ، أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين([72]) رواه مسلم عن ابن عمر وأبي هريرة .
وروى النسائي عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رواح الجمعة واجب على كل محتلم([73]) ، وغير ذلك من الأدلة على وجوب حضور الجمعة ، وإثم من تركها ، وقد ورد ثواب الخطوات إلى الجمعة ، وفضل التقدم إليها ، وكتابة الملائكة للأول فالأول ، وكفارتها لما بينها وبين الجمعة الثانية ، وغير ذلك من الفضائل التي تفوت من تركها ، ولم يرد مثل ذلك في صلاة العيد ، وإن كانت من القربات ، ومما يحصل بها أجر الذهاب والانتظار ، والصلاة والتكبير ، واستماع الخطبة ونحو ذلك .
وأما ما ذكره بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام في أن الجمعة إنما اختصت بالخطبتين ، وقد حصلت لمن حضر العيد ، أو أن شهود العيد يحصل مقصود الاجتماع ، فهذا قد يكون صحيحا إذا قيل: إن الحكمة في صلاة الجمعة هي الاستفادة من سماع الخطبة ، أو الاجتماع والتلاقي ، وتبادل السلام ، والتعارف ، ولكن قد ذهب الجمهور إلى أن صلاة العيد سنة أو فرض كفاية؛ ولذلك تفوت الكثيرين من المواطنين ، ومع ذلك فإن الجمعة فيها حكـم وفضائل غير سماع الخطبة ، وحصول الاجتماع ، كالتقدم ، والنوافل ، والانتظار ، ونحو ذلك مما لم يرد مثله في صلاة العيد ، وحيث إن أهل العوالي والمساكن النائية يشق عليهم الرجوع للجمعة ، رخـص لهم في تركها ، وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إنكم قد أصبتم خيرا ، فمن شاء أن يشهد الجمعة فليشهد فإنا مجمعون([74]) وقد سبق الحديث ، فعلى هذا تكون الرخصة في ترك الجمعة خاصة بمن منزله بعيد ، كمن بينه وبين الجمعة مسيرة ساعة أو أكثر .
حال الناس في هذه الأزمنة :
أما في هذه الأزمنة فقد خفت أو عدمت المشقة التي يلاقيها الأولون ، فأولا: بوجود وسائل النقل ، وهي السيارات المريحة ، والتي تقرب البعيد ، بحيث تقطع الفرسخ في بضع دقائق ، بدل ما كان يستغرق السير فيه أكثر من ساعة ونصف ، فمع توفر هذه الوسائل ، وتيسر الحصول عليها لا عذر في ترك الجمعة ، ولو شهد العيد ، فمن لم يملك السيارة وجدها عند جاره أو قريبه ، أو دفع أجرة لركوبه لا تضر باقتصاده غالبا ، فمن لم يجد الأجرة ، ولم يستطع السير إلى الجامع على قدميه؟ لاستغراقه زمنا كثيرا كساعة ونصف أو أكثر فهو معذور في تركها ، ولو في غير يوم العيد كما هو الواقع من الكثير .
وثانيا: ما حصل من تسهيل العلماء في الإذن بتعدد الجوامع ، والإكثار منها ، فالمدينة النبوية في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين ليس فيها مسجد تقام فيه الجمعة سوى المسجد النبوي ، أما الآن فقد توسع الناس وأكثروا من الجوامع ، حتى بلغت العشرات هناك ، ويقال كذلك في مكة المكرمة ، والطائف ، وجدة ، والرياض ، وغيرها ، فقد كثرت الجوامع بل وتقاربت ، بحيث يسمع بعضهم خطبة الآخر وتكبيراته ، فضلا عن الأذان بل تكررت في القرى الصغيرة وملحقات المدن ، وإن كان هذا التوسع خلاف المشهور من أقوال العلماء ، وخلاف ما شرعت له الجمعة من اجتماع أهل البلد ، وتعارفهم ، وتقاربهم ، ولكن حصل هذا التساهل بسبب كثرة الزحام ، وصغر المساجد ، أو التعلل بالمشقة والضعف ونحو ذلك ، وبكل حال فإن تقارب الجوامع وكثرتها تزول معه المشقة في شهود الجمعة لمن حضر صلاة العيد وغيره ، فلا يجوز التسهيل في أمرها ، والترخيص في حضورها أو تركه ، وإن كان ذلك القول المشهور في المذهب الحنبلي؛ نظرا لزوال العذر أو تخفيفه كما ذكرنا ،
والله أعلم ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .
الفهرس
مقدمة.................... .............................. .............................. .............................. .........22
نقول عن الأئمة وأهل المذاهب .............................. .............................. ............................. 3
مذهب الحنفية .............................. .............................. .............................. ................... 3
مذهب المالكية .............................. .............................. .............................. .................. 4
مذهب الشافعية.............. .............................. .............................. .............................. ... 10
مذهب الحنابلة.............. .............................. .............................. .............................. ... 11
تلخيص المذاهب السابقة................ .............................. .............................. .................... 15
تخريج الأحاديث والآثار في الباب .............................. .............................. ....................... 15
تلخيص مذاهب العلماء................ .............................. .............................. ..................... 20
القول المختار .............................. .............................. .............................. ................. 20
حال الناس في الزمان الأول.................... .............................. .............................. ........... 21
حال الناس في هذه الأزمنة................ .............................. .............................. ................. 22
(1) (( مجلة البحوث الإسلامية )) ص254 ـ العدد : 64 من رجب إلى شوال لسنة 1422هـ
..............
(1)رد المحتار 2 \ 166
(2)سنة بدائع الصنائع 1 \ 275
(3) انظر. مشكل الآثار للطحاوي 2 \ 52.
........
(1)المحلى رقم المسألة 547.
(2)شرح الخرشي على مختصر خليل 2 \ 92
(3)حاشية العدوي على شرح الخرشي 2 \ 92.
............
(1) انظر. المدونة لمالك 1 \ 142.
(2) رواه مالك في الموطأ 1 \ 178.
.......
(1) سنن أبو داود الصلاة (1073), سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311).
(2) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311).
........
(1) رواه أبو داود 1071، والنسائي 1593 وغيرهما.
(2)سنن النسائي صلاة العيدين (1591),سنن أبو داود الصلاة (1070),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1310),مسند أحمد بن حنبل (4/372),سنن الدارمي الصلاة (1612).
......
(1) خرج ذلك عبد الرزاق 5151 - 5164، 5164، وابن شيبة 2 \ 102.
(2) رواه عبد الرزاق 5162.
(3) انظر: تخريج هذه الآثار في شرح الزركشي 2 \ 201.
.........
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1127).
(2) في مصنف عبد الرزاق برقم 5155.
(3) في التمهيد 10 \ 239 وفتح البر 5 \ 315.
......
(1)سنن النسائي صلاة العيدين (1571),سنن أبو داود الصلاة (1155),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1290).
(2)الأم 1 \ 212، وفي المسند رقم 464، 465.
(3) كتاب الأم للشافعي 1 \ 212.
(4) في الروضة 2 \ 79.
..........
(1) انظر: المجموع شرح المهذب 4 \ 491.
(2) المجموع 4 \ 491.
(3) مسائل عبد الله رقم المسألة 482.
(4) في الهداية 1 \ 53.
(5) انظر: المحرر 1 \ 159.
........
(1) كما في المذهب الأحمد 35.
(2) الإفصاح 1 \ 174.
(3) الاختيارات الفقهية 81.
(4) المقنع مع حاشيته 1 \ 251.
(5) قاله في الكافي 1 \ 510.
......
(1) سنن أبو داود الصلاة (1073),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311).
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام 24 \ 210.
(3) زاد المعاد 1 \ 448.
(4) التوضيح 1 \ 61.
(5) كما في الفروع 1 \ 134.
.......
(1) الإنصاف مع الشرح الكبير 5 \ 260.
(2) منح الشفاء الشافيات للبهوتي ص157.
..........
(1) سنن أبو داود الصلاة (1073) ،سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311).
(2) المغني مع الشرح الكبير2 \ 212.
(3) كما في الشرح الكبير 2 \ 193.
(4)المجموع شرح المهذب 4 \ 492.
(5) انظر: الفتح الرباني 6 \ 34.
(6) كما في نيل الأوطار 3 \ 320.
..........
(1) مسند أحمد 4 \ 372 رقـم 19318، وسنن أبي داود هـ 1070، والنسائي 3 \ 194، وفي الكبرى رقم 1793، وسنن ابن ماجه هـ 1310، ومسند الطيالسي 685، ومصنف ابن أبي شيبة 2 \ 188، وصحيح ابن خزيمة 1464، ومستدرك الحاكم 1 \ 288، وسنن البيهقي الكبرى 3 \ 317.
(2) كـما في التلخيص الحبير 2 \ 88
(3) للطحاوي 2 \ 54، ومستدرك الحاكم 1 \ 288، والسنن الكبرى للبيهقي 3 \ 318.
(4) كما في معالم السنن شرحه لأبي داود 2 \ 11
(5) كما في التمهيد 10 \ 239، وانظر. فتح البر 5 \ 315.
(6) وهو شر أنواع التدليس وهو أن يصرح بالتحديث ويسقط شيخ شيخه الضعيف كما ذكر ذلك في كتب المصطلح.
(7) كـما في مصنفه 5728.
.............
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1312).
(2) كما في مصباح الزجاجة 1 \ 155 .
(3) كما في سنن أبي داود 1071، والنسائي 1593.
(4) سنن أبي داود 1072، ومختصر السنن للمنذري 1030.
(5) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 187.
................
(1) كـما في المصنف 2 \ 186.
(2) وهو الباقر بن زين العابدين
(3) هو في المصنف برقم 5725 وقد سبق بتمامه في كلام ابن عبد البر.
(4) وهو جعفر الصادق.
(5) مصنف عبد الرزاق 5730.
(6) كما في مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 187.
(7) ووقع في كلام شيخ الإسلام السابق ابن مسعود.
.............
(1) مصنف أبن أبي شيبة 2 \ 187، ولعل المراد صلاة غيره ممن اجتمعوا لصلاة الجمعة فقد ذكر أنهم صلوها ظهرا.
(2) مصنف ابن أبي شيبة 2 \ 187، وعبد الرزاق 5727.
(3) سنن أبو داود الصلاة (1073),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311).
(4) صحيح مسلم الجمعة (878),سنن الترمذي الجمعة (533),سنن النسائي الجمعة (1423),سنن أبو داود الصلاة (1123),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1119),مسند أحمد بن حنبل (4/273),موطأ مالك النداء للصلاة (247),سنن الدارمي الصلاة (1566).
....................
(1) سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1126),مسند أحمد بن حنبل (3/332).
(2)سنن الترمذي الجمعة (500),سنن النسائي الجمعة (1369),سنن أبو داود الصلاة (1052),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1125),مسند أحمد بن حنبل (3/425),سنن الدارمي الصلاة (1571).
...............
(1) صحيح مسلم الجمعة (865),سنن النسائي الجمعة (1370),سنن ابن ماجه المساجد والجماعات (794),مسند أحمد بن حنبل (1/239),سنن الدارمي الصلاة (1570).
(2) سنن النسائي الجمعة (1371),سنن أبو داود الطهارة (342).
(3) سنن أبو داود الصلاة (1073),سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1311).
.............................. ..............
قام بتنسيق البحث ونشره: سلمان بن عبدالقادر أبو زيد .
رحم الله شيخنا...
وغفر له ذنبه...
وأسكنه فسيح جناته...