السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



..


....


(( المواســـــاة ))



المؤمن في هذه الدنيا مبتلى بأنواع من البلاء سواء في الدين أو في الأهل أو الولد أو المال ، قال تعالى : ((لتبلون في أموالكم و أنفسكم و لتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و من الذين أشركوا أذى كثيرا و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور))

من هنا جاء خلق المواساة لتفريج الكربات وتنفيسها سواء بالمال أو الكلمة الطيبة أو الدعاء وغيره ...والمواساة خلق عظيم يورث المحبة بين الناس والألفة والرحمة .

قال ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين في معنى المواساة :

فالإيثار: أن يقدم الإنسان غيره على نفسه.
والمواساة : أن يواسي غيره بنفسه .

أنواع المواساة :

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ جاء رجل على راحلة له فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر؛ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له" فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل [رواه مسلم].

وقال ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد ص (250):

المواساة للمؤمنين أنواع :

مواساة بالمال
ومواساة الجاه
ومواساة بالبدن والخدمة
ومواساة بالنصيحة والإرشاد
ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم
ومواساة بالتوجع لهم
وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة؛ فكلما ضَعُفَ الإيمان ضعفت المواساة، وكلما قوي قويت.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمَ الناس مواساة لأصحابه بذلك كله؛ فلأتباعه من المواساة بحسب إتباعهم له.
ودخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد وقد تجرَّد وهو يَنتفِضُ.
فقالوا: ما هذا يا أبا نصر؟
فقال: ذكرت الفقراء وبردهم وليس لي ما أواسيهم به فأحببت أن أواسيهم في بردهم. انتهى



من الأمثلة على المواساة :

-كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواسي أصحابه رضوان الله عليهم فقد كان يطعم الجائع ويفك كربة المكروب ويواسي المحروم منهم ويتألم لما يصيبهم .

عن سهل ابن سعد رضي الله عنه "أن امرأة جاءت النبي { ببردة منسوجة فيها حاشيتها، أتدرون ما البردة ؟ قالوا: الشملة، قال: نعم، قالت: نسجتها بيدي فجئت لأكسوكها، فأخذها النبي محتاجاً إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسَّنها فلان فقال: اكسنيها ما أحسنها، قال القوم: ما أحسنت، لبسها النبي ( محتاجاً إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يرد، قال: إني والله ما سألتها لألبسها؛ إنما سألته لتكون كفني، قال سهل: فكانت كفنه). أخرجه البخاري

-الأنصار ومواساتهم لإخوانهم المهاجرين :

ضرب لنا الأنصار خير الأمثلة على خلق المواساة والإيثار حيث أنهم آزروا إخوانهم المهاجرين ونصروهم وواسوهم على ماأصابهم من البلاء بأموالهم ودورهم وبأغلى مايملكون فقال الله فيهم : ( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على" أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)

روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي { فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله {: "من يضم أو يُضيفُ هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا؛ فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله {، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجكِ، ونومي صبيانكِ إذا أرادوا عشاءً؛ فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يُريانه كأنهما يأكلان، فباتا طاويين فلما أصبح غدا إلى رسول الله { فقال: "ضحك الله الليلة أو عجبَ من فعالكما"
فأنزل الله: (ويؤثرون على" أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون). أخرجه البخاري


- وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إن الأشعريين إذا أرملُوا في الغزوِ، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموهُ بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم)) متفق عليه.
"ارملوا" : فرغ زادهم، أو قارب الفراغ.


- أورد الإمام الذهبي(ت748هـ) ـ رحمه الله ـ في سير أعلام النبلاء (4/434) في سيرة عروة بن الزبير بن العوام ـ رضي الله عنهما ـ قول ابن خلكان:

قال: كان أحسن من عزاه إبراهيم بن محمد بن طلحة قال:( والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أرب في السعي، وتقدَّمَك عضوٌ من أعضائك، وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع للبعض إن شاء الله تعالى، وقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء، من علمك ورأيك، والله ولىُّ ثوابك، والضمين بحسابك).

- وفي الدرر السنية في الأجوبة النجدية (5/163-166) قال الشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ في تعزيته لبعض إخوانه:

(المأمول فيكم الصبر والاحتساب، والتعزي بعزاء الله ـ تعالى ـ، فقد قال بعض العلماء: إنك لن تجد أهل العلم والإيمان إلا وهم أقل الناس انزعاجاً عند المصائب، وأحسنهم طمأنينة، وأقلهم قلقاً عند النوازل، وما ذاك إلا لما أوتوا مما حرمه الجاهلون، قال الله تعالى: {بَشِّرِ الصَّابِرِينَ{155 } الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ{156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}( 9)، فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصائب، وأنفعه له في العاجلة والآجلة.

فإنها تضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته؛ أولاً: أن العبد وأهله وماله وملكه لله ـ تعالى ـ يتصرف فيه، حيث جعله تبارك وتعالى عند عبده عارية، والمعير مالك قاهر قادر، وهو محفوف بعدمين، عدم قبله، وعدم بعده، وملك العبد متعة معارة؛ الثاني: أن مصير العبد ومرجعه ومرده إلى مولاه الحق، الذي له الحكم والأمر، ولا بد أن يخلف ما خوله في هذه الدار وراء ظهره، ويأتي فرداً، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات والسيئات، ومن هذا حاله لا يأسف على مفقود؛ وإذا علم المؤمن علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، هانت عليه المصيبة؛

وقد قيل:

ما قد قضى يا نفس فاصطبري له *** ولك الأمان من الذي لم يُقدر
وتعلـمي أن المقـدر كـائـن *** يجري عليك عذرت أم لم تُعذر

ومن صفات المؤمن: أنه عند الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور؛ ومما يخفف
المصائب برد التأسي، فانظروا يميناً وشمالاً، وأماماً ووراء، فإنكم لا تجدون إلا من قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها، ولم يبق إلا التفاوت في عوض الفائت، أعوذ بالله من الخسران، ولو أمعن البصير في هذا العالم جميعه، لم يرَ إلا مبتلى إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام ليل، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً أساءت دهراً، جمعها إلى انصداع، ووصلها إلى انقطاع، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزاله، حالها انتقال، وسكونها زوال، غرارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، ويكفي في هوانها على الله: أنه لا يعصى إلا فيها، ولا ينال ما عنده إلا بتركها.

مع أن المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن، وزيادة في درجاته، كما قال بعض السلف: لولا مصائب الدنيا لوردنا الآخرة مفاليس، والرب سبحانه لم يرسل البلاء إلى العبد ليهلكه، ولا ليعذبه، ولكن امتحان لصبره ورضاه عنده، واختباراً لإيمانه، وليراه طريحاً ببابه لائذاً بجنابه، منكسر القلب بين يديه؛ فهذا من حيث المصائب الدنيوية؛ وأما ما جرى عليكم، فأنتم به بالتهنئة أجدر من التعزية، ولعمر الله أن من سلم له دينه، فالمحن في حقه منح، والبلايا عطايا، والمكروهات له محبوبات، وأما المصيبة والخطب الأكبر، والكسر الذي لا يجبر، والعثار التي لا تقال، فهي المصيبة في الدين،

كما قيل:
من كل شيء إذا ضيعته عوض *** وما من الله إن ضيعته عوض

وقد مضت عادة أحكم الحاكمين لمن أراد به خيراً، أن يقدم الابتلاء بين يديه).

-وجاء في كتاب سير أعلام النبلاء (4-534) كان بكرُ بنُ عبد الله المزنيُ رحمه الله تعالى يقول: "إني لأرجو أن أعيش عيش الأغنياء، وأموت موتَ الفقراء؛ فكان رحمه الله كذلك، يلبسُ كسوته، ثم يجيء إلى المساكين، فيجلسُ معهم يحدثهم ويقول: لعلهم يفرحون بذلك.