المسائل الفقهية المتعلقة بالمِسْبَحَة
د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
ففي هذه الورقة بحث مسائل المِسْبَحَة وأحكامها على سبيل الإيجاز.
المبحث الأول: مصنفات أهل العمل في المِسْبَحَة:
أُلف في المِسْبَحَة عدد من الكتب؛ فمن ذلك رسالة السيوطي الشافعي: "المنحة في السُّبْحَة" مطبوعة ضمن "الحاوي للفتاوي" (2/ 46)، وصنف ابن طولون كتابًا أسماه: "الملحة فيما ورد في أصل السُّبْحَة"، كما ألَّف محمد بن علان الصديقي الشافعي مؤلَّفًا سمَّاه: "إيقاد المصابيح لمشروعية اتخاذ المسابيح"، وألَّف محمد بن عبدالسلام بن حمدون الفاسي المالكي كتاب: "تحفة أهل الفتوحات والأذواق في اتخاذ السُّبْحَة وجعلها في الأعناق"، وللكنوي رسالة باسم: "نزهة الفكر في سُبْحة الذِّكْرِ"، وألَّف الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله رسالة في السُّبْحَة مشهورة.
المبحث الثاني: جواز التسبيح بالسُّبْحَة:
ورد في التسبيح بالنوى والحصى عدد من الأحاديث، وعقد الإمام أبو داود السجستاني في سننه: "باب التسبيح بالحصى"، وأورد الحديث رقم (1500)، ووردت عدة أحاديث أُخَرُ؛ منها ما هو حسن، ومنها ما هو ضعيف، كما ورد في التسبيح بالنوى والحصى والخيوط المعقودة عدة آثار عن الصحابة والتابعين، وعقد ابن أبي شيبة في مصنفه (2/ 161) بابًا في عقد التسبيح وعدد الحصى، وورد عن عدد من الصحابة والتابعين عَقْدُ التسبيح بالحصى والنَّوى، وبخيوط معقودة معدودة؛ لتسهيل العَدِّ؛ فمن ذلك ما أورده ابن كثير في البداية والنهاية (8/ 120): "وروى عبدالله بن أحمد عن أبي هريرة: أنه كان له خيط فيه اثنا عشر ألف عقدة يسبِّح به قبل أن ينام، وفي رواية: ألفا عقدة، فلا ينام حتى يسبح به، وهو أصح من الذي قبله"، وروى أحمد في الزهد (141) عن أبي الدرداء رضي الله عنه التسبيح بالنوى.
المبحث الثالث: التسبيح بالأصابع أفضل من التسبيح بالمِسْبَحَة:
صحَّ في السنة أن العَدَّ بالأصابع والأنامل هو السُّنَّة؛ فمن ذلك:
روى في ذلك الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، عن يسيرة بنت ياسر رضي الله عنها، وكانت من المهاجرات قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا نساء المؤمنات، عليكن بالتهليل والتسبيح والتقديس، ولا تغفُلْنَ فَتَنْسَينَ الرحمة، واعقِدْنَ بالأنامل؛ فإنهن مسؤولات مُسْتَنْطَقات))؛ [أحمد (6/ 371)، وأبو داود (1501)، والترمذي (3583)، وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي"]، وثبت من فعله في حديث عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خَصلتان أو خَلَّتان لا يحافظ عليهما عبدٌ مسلم، إلا دخل الجنة، هما يسير، ومن يعمل بهما قليل؛ يُسبِّح في دُبُرِ كل صلاة عشرًا، ويحمد عشرًا، ويكبِّر عشرًا، فذلك خمسون، ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، ويكبر أربعًا وثلاثين إذا أخذ مضجعه، ويحمد ثلاثًا وثلاثين، ويسبح ثلاثًا وثلاثين، فذلك مائة باللسان، وألف في الميزان؛ فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقدها بيده))؛ [رواه الترمذي (3410)، وأبو داود (5065)، وابن ماجه (926)].
وروى الترمذي (3486) من طريق الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقِد التسبيح))، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب، قال: وروى شعبة والثوري هذا الحديث عن عطاء بن السائب بقوله، ورواه أبو داود (1502) عن عبيدالله بن عمر بن ميسرة، ومحمد بن قدامة في آخرين قالوا: حدثنا عثام عن الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح))؛ قال ابن قدامة: (بيمينه).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (22/ 187): "وربما تظاهر أحدهم بوضع السجادة على مَنْكِبه، وإظهار المسابح في يده، وجعله من شعار الدين والصلاة، وقد عُلِمَ بالنقل المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكن هذا شعارهم، وكانوا يسبحون ويعقدون على أصابعهم، كما جاء في الحديث: ((اعقِدْنَ بالأصابع؛ فإنهن مسؤولات مستنطقات))، وربما عقد أحدهم التسبيح بحصًى أو نوى، والتسبيح بالمسابح من الناس من كرَّهه، ومنهم من رخَّص فيه، لكن لم يقل أحد: أن التسبيح به أفضل من التسبيح بالأصابع وغيرها"، ثم تكلم رحمه الله عن مدخل الرياء في التسبيح بالمِسْبَحَة، وأنه رياء بأمر ليس بمشروع، وهو أسوأ من الرياء بالأمر المشروع، وذكر تلميذه ابن القيم في الوابل الصيب فقال: "الفصل الثامن والستون في عقد التسبيح بالأصابع وأنه أفضل من السُّبْحَة"، وقال شيخنا ابن باز رحمه الله:
https://n9.cl/ztc1c
"يُروى عن بعض السلف أنه كان يعد التسبيح بالحصى، وبعضهم يعده بالنوى، وبعضهم يعده بعقد، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعده بالأصابع، كان يعد تسبيحه بالأصابع، وثبت عنه أنه أمَرَ بعده بالأنامل يعني: بالأصابع، فالسنة أن يكون ذلك بالأصابع، هذا هو السنة وهذا هو الأفضل، أما بالمِسْبَحَة أو بالنوى أو بالحصى، فهذا إذا كان في البيت في محله في البيت داخل البيت، فالأمر سهل إن شاء الله كما فعله بعض السلف، أما عند الناس وفي المساجد فلا ينبغي؛ لأن ذلك خلاف السنة الظاهرة، ولأن ذلك قد يفضي إلى الرياء بعمله ذلك، فالسنة أن يعدها بالأصابع في جميع الأوقات، لكن في المساجد وبين الناس يتأكد هذا، كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويُروى عن بعض السلف، ويروى عن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين أنها فعلت ذلك بالحصى في البيت".
وفي سؤال لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين (اللقاء المفتوح 3/ 30) عن التسبيح بالمِسْبَحَة هل هي بدعة؟ فأجاب: "التسبيح بالمِسْبَحَة تركه أولى وليس ببدعة؛ لأن له أصلًا، وهو تسبيح بعض الصحابة بالحصى، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد إلى أن التسبيح بالأصابع أفضل، وقال: ((اعقِدْنَ - يخاطب النساء – بالأنامل؛ فإنهن مستنطقات))، فالتسبيح بالمِسْبَحَة ليس حرامًا ولا بدعة، لكن تركه أولى؛ لأن الذي يسبح بالمِسْبَحَة تَرَكَ الأولى، وربما يشوب تسبيحه شيء من الرياء؛ لأننا نشاهد بعض الناس يتقلد مسبحة فيها ألف خرزة كأنما يقول للناس: انظروني، إني أسبح ألف تسبيحة، ثالثًا: أن الذي يسبح بالمِسْبَحَة في الغالب يكون غافل القلب، ولهذا تجده يسبح بالمِسْبَحَة، وعيونه في السماء، وعلى اليمين، وعلى الشمال؛ مما يدل على غفلة قلبه، فالأولَى أن يسبح الإنسان بأصابعه، والأولى أن يسبح باليد اليمنى دون اليسرى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعقد التسبيح بيمينه ولو سبَّح بيديه جميعًا، فلا بأس، لكن الأفضل أن يسبح بيده اليمنى فقط".
وسئل ابن حجر الهيتمي الشافعي رحمه الله: هل للسبحة أصل في السنة؟ فأجاب بقوله: "نعم، وقد ألف في ذلك الحافظ السيوطي؛ فمن ذلك ما صح عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح بيده))، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي: ((عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس، ولا تغفلن فتنسين التوحيد، واعقدن بالأنامل فإنهن مسؤولات ومستنطقات))، وجاء التسبيح بالحصى والنوى والخيط المعقود فيه عقد عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وعن بعض العلماء: عقد التسبيح بالأنامل أفضل من السُّبْحَة لحديث ابن عمر، وفصَّل بعضهم فقال: إن أمن المسبح الغلط، كان عقده بالأنامل أفضل، وإلا فالسُّبْحَة أفضل"؛ [الفتاوى الفقهية الكبرى (1/ 152)]، والله أعلم.
المبحث الرابع: حكم كون خيط السُّبْحَة من الحرير:
سئل الحافظ الشافعي ابن الصلاح كما في "أدب المفتي والمستفتي": هل يجوز للإنسان أن يسبح بسبحة خيطها حرير والخيط ثخين؟ فأجاب: "ولا يحرم ما ذكره في السُّبْحَة المذكورة، والأولى إبداله بخيط آخر".
ورجح الصنعاني في (سبل السلام) من كتاب اللباس جوازَ كون خيط السُّبْحَة من حرير فقال: "وأما خياطة الثوب بالخيط الحرير ولُبسه، وجعل خيط السُّبْحَة من الحرير، وليقة الدواة، وكيس المصحف، وغشاية الكتب، فلا ينبغي القول بعدم جوازه لعدم شموله النهي له".
المبحث الخامس: استعمال المِسْبَحَة المصنوعة من الذهب أو الفضة:
ورد في فتوى للجنة الإفتاء ما نصه: "استخدام السُّبْحَة من الأمور العادية، والأصل فيها الجواز، ولا نعلم دليلًا يدل على منعها، وأما استخدام السُّبْحَة المصنوعة من ذهب أو فضة، أو أُدخل في صناعتها ذهب أو فضة، فلا يجوز استخدامها، للأدلة الدالة على ذلك"؛ [اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (24/ 206) بعضوية شيخنا الشيخ عبدالله بن قعود، والشيخ عبدالله بن غديان، ورئاسة شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمهم الله].
المبحث السادس: حكم المِسْبَحَة المطلية بالذهب أو الفضة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة))؛ [رواه البخاري (5633)، ومسلم (2067)].
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب، بل يعم سائر وجوه الانتفاع، فلا يحل له أن يغتسل بها، ولا يتوضأ بها، ولا يدَّهِن فيها، ولا يكتحل منها، وهذا أمر لا يشك فيه عالم"؛ [إعلام الموقعين (1/ 207)].
وقال البهوتي الحنبلي رحمه الله:" أُبيح التحلي للنساء لحاجتهن إليه لأجل التزيُّن للزوج، وما حرم اتخاذ الآنية منه، حرم اتخاذ الآلة منه، ولو كانت مِيلًا وهو ما يُكتحَل به، ومثل الميل في تحريم اتخاذه واستعماله من الذهب والفضة: قنديل، وسرير، وكرسي، ونعلان، وملعقة، وأبواب، ورفوف"؛ [كشاف القناع (1/ 51)].
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "الأقلام من الذهب والفضة لا يجوز استعمالها للرجال والنساء جميعًا؛ لأنها ليست من الحلية، وإنما هي أشبه بأواني الذهب والفضة، والأواني من الذهب والفضة محرَّمة على الجميع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صِحافها، فإنها لهم في الدنيا - يعني: الكفرة - ولكم في الآخرة))؛ [متفق على صحته، مجموع فتاوى ابن باز (19/ 72)].
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة (24/ 75): "لم يثبت فيما نعلم النهي عن استعمالهما – الذهب والفضة - في غير الأواني واللباس وخواتم الذهب للرجال؛ فكان استعمال الأقلام المحلاة بالذهب في الكتابة محل نظر واجتهاد، والأقرب تحريم استعمالها؛ لأنه مَظِنَّة السَّرَف والخُيَلاء، ومظهر من مظاهر الكبر، فوجب إلحاقها بأواني الذهب والفضة في تحريم الاستعمال بجامع العلة المذكورة"؛ [فتاوى اللجنة الدائمة (24/ 75)].
وسئل شيخنا ابن جبرين رحمه الله: لاحظت في الآونة الأخيرة كثرة الأدوات والأشياء المطلية بالذهب في أمور عدة؛ كالساعات، والأقلام، وأيدي أبواب، وبعض الأواني، وأشياء كثيرة جدًّا، فهل هذه الأشياء حقًّا مطلية بالذهب الحقيقي المعروف، وما حكمها؟ فأجاب: "إذا تحقق أن هذا الطلاء من خالص الذهب، فإنه يحرُم استعمال هذه الأشياء، فلا يُكتب بالقلم، ولا يُستعمل أيدي الأبواب المذهبة، ولا يُشرب في الأواني المذهبة، حتى ولو فنجان القهوة والشاي أو الملعقة ...؛ إلخ، أما الساعة، والنظارة، والخاتم، فتصح للنساء دون الرجال".
المبحث السابع: المباهاة في اتخاذ السبح الفاخرة:
رأيت من فُتِنَ باقتناء السبح الغالية، ويعدها هواية وشغفًا، مع ما في ذلك من المباهاة والسرف الممنوع؛ قال المناوي الشافعي رحمه الله: "أما ما ألفه الغفلة البطلة، من إمساك سبحة، يغلب على حباتها الزينة، وغلو الثمن، ويمسكها من غير حضور في ذلك، ولا فكر، ويتحدث، ويسمع الأخبار، ويحكيها وهو يحرك حباتها بيده، مع اشتغال قلبه ولسانه بالأمور الدنيوية، فهو مذموم، مكروه، من أقبح القبائح"؛ [فيض القدير (4/ 468)].
والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.