تذكرت قول الشاعر..
عبدالله بن عبده نعمان العواضي
الشعر العربي الفصيح هو ذلك الفن الجميل الذي ينساب داخل النفوس العربية الأصيلة فيخالط لحمها ودمها، ويبقى في حناياها ما بقيت في أجسادها أرواحُها إما بلفظه وإما بمعناه.
فحينما كانت النفوس خالصة العروبة، عاشقة للقول المنظوم، معروفة بنقاء الأذهان، وصفاء الوجدان، غير متكدرة بأمراض الحياة المادية، ولم يغشَ صفاءها بهرجُ الحياة المعاصرة ومشكلاتها وأشغالها الملهية؛ كان الشعر يرد على أسماعها فيستقر في ذاكرتها ويأبى الهجرة منها؛ لكرامة نُزله لدى قوم يحبهم ويحبونه، ويفتخرون ببقائه على سوح أذهانهم، ويتبارون به في ميادين ألسنتهم.
لقد كانت القصائد والأبيات المفردة تجري على ألسنة أولئك العرب الأقحاح جريان الدماء في العروق، فإذا مرت بها أحوال الحياة تذكرت أقوال شعرائها، ومنظوم حكمائها، وكأنها بذلك تشهد بصدق قول القائل، وتوافقه على ما قال، أو تستعين بقوله على تصوير ما شهدت، وتأكيد ما لاحظت، أو المضي في أمر أو الكف عنه، شاهدةً في بعض ذلك بتنبؤ الشاعر، ودقة حدسه، وسبق خياله.
وبهذا بقي الشعر الرائق باقياً في جبين الدهر ترويه أجيال على إثر أجيال، وتسلمه الأيام لليالي، وكل زمان إلى آخر.
قال علي بن الجهم في سير شعره وخلوده:
وَلَكِنَّ إحْسَانَ الخَلِيْفَةِ جَعْفَرٍ
دَعَانِي إِلَى مَا قُلْتُ فِيْهِ مِنَ الشِّعْرِ
فَسَارَ مَسِيْرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ
وَهَبَّ هُبُوبَ الرِّيْحِ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ[1].
وقال أبو الطيب:
فسارَ بهِ مَن لا يسيرُ مشمِّراً *** وغنَّى بهِ مَن لا يغنِّي مغرِّدا[2].
وقال أيضًا:
قوافٍ إذا سِرْنَ عَنْ مِقْولي *** وثَبْن الجبال وخُضْنَ البحارا[3].
وقال علي الجارم:
وما الشِّعرُ إلاّ تَرْجُمانٌ مُخلَّدٌ *** يَقُصُّ على الأجيْالِ مَجداً مُخَلَّدا[4].
وفي هذه السطور سنقف مع بعض المواقف التي تذكّر أهلها فيها أقوالَ الشعراء لتصوير ما هم عليه، وتجلية ما مروا به؛ لندرك مدى قدرات تلك الحافظة العربية الواعية، ونستمتع بأفنان هذه الواحة الأدبية الوارفة التي اجتنيناها من حدائق أدبية شتى.
عمر بن الخطاب وشاعر بني تميم:
دخل هشام البختريّ في ناسٍ من بني مخزوم على عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال له: يا هشام، أنشدني شعرك في خالد بن الوليد. فأنشده فقال: قصَّرت في البكاء على أبي سليمان رحمه الله، إنْ كان ليحب أن يذلَّ الشرك وأهله، وإن كان الشّامت به لمتعرضاً لمقت الله. ثم قال عمر رضي الله عنه: قاتل الله أخا بني تميم ما أشعره! [5]:
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلافَ الَّذِي مَضَى
تَهَيَّأْ لأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ
فَمَا عَيْشُ مَنْ قَدْ عَاشَ بَعْدِي بنافعٍ
وَلا مَوْتُ مَنْ قَدْ مَاتَ يَوْمًا بِمُخْلِدِي[6].
سعد وعدي بن زيد:
لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميراً أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر في جوار في مثل زيها، تطلب صلته، فلما وقفن بين يديه، قال: أيتكن حرقة؟ قلن: هذه، قال: أنت حرقة؟ قالت: نعم، فما تكرارك استفهامي؟! إن الدنيا دار زوال، وإنها لا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالا، وتعقبهم بعد حال حالا، إنا كنا ملوك هذا المصر قبلك، يجبى إلينا خراجه، ويطيعنا أهله، مدة المدة، وزمان الدولة، فلما أدبر الأمر وانقضى، صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا، وشتت ملأنا، وكذاك الدهر يا سعد، إنه ليس من قوم بحبرة، إلا والدهر معقبهم عَبرة، ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوسُ الناسَ والأَمْرُ أَمرُنا
إذا نحنُ فيهم سُوقَةٌ نتنصَّفُ
فأُفٍّ لدنيا لا يدوم نَعيمُها
تَقَلَّبُ حالاتٍ بنا وتَصَرَّفُ