قال الامام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله:
(بَعَثَهُ الله بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، ويدعو إِلَى التَّوْحِيدِ،
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاأَي ُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}،
وَمَعْنَى: {قُمْ فَأَنْذِرْ}: يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إلى التوحيد.
{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}: أي: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ.
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}: أَيْ طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عن الشِّرْكِ.
{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}: الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلُهَا).
الشرح
ومما يعرف به النبي صلى الله عليه وسلم: معرفة ما بُعث به،
فالنبي صلى الله عليه وسلم: (بعثه الله بالنذارة عن الشرك) بجميع أنواعه، والتحذير من أسبابه المفضية والموصلة إليه،
(و) بعثه الله تعالى: (يدعو إلى التوحيد)؛ بإفراد الله تعالى في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته،
(والدليل) على أن الله تعالى بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ليُنْذِر ويُحذِّر من الشرك، ويدعو إلى التوحيد:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}.
أورد الامام محمد ابن عبد الوهاب
جملة مما يُعرف به النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظمها وأعلاها:
معرفة ما بُعث به صلى الله عليه وسلم؛
وأنه بعث بالنذارة عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد،
وهو المقصود من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم،
وقدَّم المصنف النذارة عن الشرك قبل الدعوة إلى التوحيد؛ لأن هذا مدلول كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله)؛
ولأن الآيات الآتية تضمنت التقديم في قوله تعالى: (قم فأنذر)؛ فهذا أمرٌ بالنذارة من كل ما يُحْذَر،
وأعظم ما يُحذر هو الشرك؛
وفي قوله تعالى: (وربك فكبر) أمرٌ بتكبير الله وتعظيمه، وأعظم ما يُكبَّر الله به هو التوحيد،
فبدأ بجانب الشرك؛ لكون العبادة لا تصح مع وجود المنافي، فلو وجدت، والمنافي لها موجود لم تصح، فالتخلية قبل التحلية
ثم ثنَّى بالتوحيد؛ لأنه أوجب الواجباتوأهم المهمات ، ولا يُرْفَع عملٌ إلا به.
قال الامام محمد ابن عبد الوهاب:
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}،
وهذا استدلال من المصنف على أنه صلى الله عليه وسلم بُعث بالإنذار عن الشرك، والدعوة إلى توحيد الله جل وعلا،
والمدثر هو: الملتحف بأغطيته وملابسه؛ لأنه جاءه الملك وهو على هذه الحال، وقد بين المصنف -رحمه الله تعالى-
معنى الآيات محل الاستدلال، وتوقف عن بيان بقية الآيات؛
لأن المقصود قد حصل فيما يستدل له ببيان الآيات الأربع؛
فقال: (ومعنى: {قُمْ فَأَنْذِرْ}: ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد):
وهذه أول آية أرسل بها عليه الصلاة والسلام، فصار الواجب عليه هنا الإنذار؛
ثم قال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، أي: عظمه بالتوحيد):
وأصل الكلام: (كبِّر ربك)، فقدَّم المفعول على العامل فيه وهو الفعل، فدل على الاختصاص، أي: خُصَّ ربك بالتكبير بتعظيمه بالتوحيد وإخلاص الدين له ، فهو جل وعلا أكبر من أن يكون له شريك ،
فالله سبحانه أكبر من كل شيء ذاتاً و قدراً ومعنى وعزة وجلالة؛
فهو أكبر من كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله؛ كما هو فوق كل شيء وعال على كل شيء
، وأعظمُ من كل شيء، وأجلُّ من كل شيء في ذاته وصفاته .
والتكبير جاء في القرآن على خمسة موارد:
الأول:
تكبير الله جل وعلا في ربوبيته،
أي: اعتقاد أنه جل وعلا أكبر من كل شيء يُرى أو يُتوهم أو يُتصور أنه موجود، فهو أكبر من كل شيء في ربوبيته، وفي ملكه، وفي تصريفه لأمره في خلقه، وفي رزقه، وفي إحيائه، وفي إماتته، إلى آخر معاني الربوبية، فلا مُنازع له في الربوبية؛
فقوله تعالى:{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
يدخل فيه أولاً: اعتقاد أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في مقتضيات ربوبيته.
الثاني:
تكبير الله جل وعلا في ألوهيته،
أي:
اعتقاد أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في استحقاقه الإلهية والعبادة وحده دون غيره،
فإن العبادة صُرفت لغير الله، وهو جل وعلا أكبر، وأعظم وأجل من كلِّ هذه الآلهة التي صُرفت لها أنواع من العبادة.
الثالث: تكبير الله جل وعلا في أسمائه وصفاته،
أي:
اعتقاد أنَّ الله عز وجل أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته، فإنه في أسمائه أكبر من كل ذوي الأسماء،
فالأشياء لها أسماء، لكن أسماء الله جل وعلا أكبر من ذلك، لما فيها من الحسن، والعظمة، والجلال، والجمال، ونحو ذلك؛
وكذلك في الصفات، فصفاته عُلا، كما قال جل وعلا: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [6]
، أي: له الاسم الأعلى، وله النعت الأعلى، وقال جل وعلا: ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [7]،
وقال جل وعلا: ﴿ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ﴾ [8]، ونحو ذلك.
الرابع:
تكبير الله جل وعلا في قضائه وقدره الكوني؛
فقضاؤه وقدره له فيه الحكمة البالغة، فالله جل وعلا في قضائه وقدره بما يحدثه في ملكوته هو أكبر؛ وأما ما يقضيه ويقدّره العباد لأنفسهم، فإن هذا يناسب نقص العبد.
الخامس:
تكبير الله جل وعلا في شرعه وأمره،
وهو اعتقاد أن الله جل وعلا أكبر وأعظم فيما أمر به ونهى عنه من كل ما يحكم به العباد، أو يأمر العباد به وينهون عنه.
ولهذا صارت هذه الكلمة: (الله أكبر) من شعارات المسلمين العظيمة، يدخلون في الصلاة بها، ويرددونها في الصلاة،
وهي من الأوامر الأولى التي جاءت للنبي عليه الصلاة والسلام
قال جل وعلا له: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}؛
وباجتماع هذه المعاني الخمسة؛ يتبين أن قول المصنف هنا: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، أي: عظّمه بالتوحيد):
هذا التفسير والبيان من أحسن وأعظم ما يكون؛ لأن معاني التكبير هي معاني التعظيم، وتلك المتعلقات هي التوحيد بأنواعه،
فصار تفسير المصنف هنا للتكبير، مناسباً ملائماً واضح الدلالة
قال المصنف:
{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}، أي: طهر أعمالك عن الشرك: والآية لها تفسيران مشهوران:
الأول:
أن المراد بها تطهير الثياب الملبوسة من النجاسات، وقد نُقل هذا التفسير عن بعض السلف.
والثاني:
أن المراد بها تطهير النَّفْس والعمل،
وهذا قول جمهور المفسرين من السلف:
أن المراد بالثياب هاهنا: القلب، والمراد بالطهارة: إصلاح الأعمال والأخلاق؛
وهو ما اختاره المصنف هنا؛ بدلالة السياق في الآيات؛
فإنه جل وعلا قدَّم بتعظيمه فقال: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، ثم قال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}،
ثم أعقبه بقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}؛
فكان المناسب بين الآيتين أن يكون معنى قوله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} أي: طهر أعمالك من الشرك؛
لأنه يناسب ما قبله وما بعده، فإن ما قبله فيه الإنذار وتعظيم الله جل وعلا بالتوحيد،
وما بعده فيه تركٌ للرُّجْزِ وهجر للأصنام والبراءة منها،
فالجميعُ في البراءة من الشرك، والنهي عنه، والدعوة والالتزام بالتوحيد.
وهناك قول ثالث ذهب إليه جمع من المفسرين،
وهو اختيار ابن تيمية –رحمه الله تعالى-:
أن الآية تعم الأعمال، واللباس؛
فيكون المعنى: طهر أعمالك من كل ما ينجسها، وطهر ثيابك التي تلبسها من كل نجاسة،
فيكون مأموراً بتطهير الثياب والبدن والنفس .
قال المصنف: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}
الرجز: الأصنام،
وهجرها: تركها، والبراءة منها وأهلها:
الرّجز: الأصنام؛ كما نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما،
ونقل عن غيره من السلف أنها: الأوثان ؛
فهي: اسمٌ عام لما يُعْبَدُ من دون الله، من صنم أو وثن،
فيشمل: ما عُبِدَ من دون الله مما كان على هيئة صورة، وما لم يكن مصوراً على هيئة صورة.
والهجر أصله:
الترك والمفارقة، فأمر الله عز وجل بالترك والمفارقة للأصنام والأوثان،
وهذه الأمر بالهجر لا يختص بعبادة الأصنام، بل يعم كل ما يتخذ من الآلهة من دون الله؛
لأن العلة فيهما واحدة، وهي عبادة غير الله جل وعلا؛
أي:
أُتْرك المعبودات من دون الله، ويلزم من ذلك أن يترك أهلها، ويتبرأ منها ومن أهلها؛
يعني: اتركها واترك أهلها، وتبرأ منها وأهلها
فهجر المعبودات من دون الله يقوم على أربعة أصول:
الأول: تركها وترك أهلها.
والثاني: فراقها وفراق أهلها،
وفي الفراق قدرٌ زائد على الترك؛ لأن المفارق مباعد، بخلاف التارك فإنه قد يترك ولكنه لا يفارق.
والثالث: البراءة منها ومن أهلها.
والرابع: عداوتها وعداوة أهلها،
وفيه زيادة على سابقه بإظهار العداوة؛ لأن المتبرئ قد يُعادي وقد لا يعادي،
ففي هذا اللفظ معنى زائد ليس في سابقه-منقول من شرح الاصول الثلاثة لفهد المرشدى