السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
منذ قرأت رسالة في مبحث التدليس وعلاقة الإرسال الخفي به وأنا أشرق وأغرب بين مذهب صاحب الرسالة ومذهب الحافظ ابن حجر وغيره، إلى أن قرات كتاب إجماع المحدثين والانتفاع لصحاب الرسلة ايضا، فاقتنعت برهة من الزمن بمذهبه الذي استمات في نصرته وإقامة الأدلة عليه، ثم لا زلت كذلك ما شاء الله أن أزال إلى قرأت بحثا مسهبا في المقارنة بين شرط البخاري ومسلم اعتمد صاحبه فيه المنهج العلمي المتين الرصين ألا وهو منهج الاستقراء، فقد قام باستقراء كتب البخاري كتابا كتابا وقسم استعمالاته فيما يخص مسألة العلم باللقاء، فبين أيما بيان أن مذهب البخاري واضح في اشتراط اللقاء وأنه لم يعرف اتصال عدة أحاديث أخرجها مسلم في صحيحه، بل وبين من طرف خفي أن مسلما رحمه الله لا يعبأ بالقرائن البتة في هذا المجال فانتفاء التدليس عنده مع إمكان اللقاء كافيان في المسألة، وأن بعد البلدان وغيره مما لم يلتفت له مسلم البتة فخرج حديث حميد بن عبد الرحمن الحميري عن أبي هريرة مع أن الأول بصري وأبو هريرة مدني، نعم دخل أبو هريرة البصرة لكن في قديم الدهر قبل مجيء الحسن إليها، وخرج حديث يحيى بن مالك المراغي أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو في المواقيت مع أن ابن عمرو مصري ثم طائفي، وأبا أيوب بصري ولم يدخل عبد الله بن عمرو العراق البتة سوى دخوله عام الجماعة الكوفة، وخرج لعبد الله بن معبد الزماني عن أبي قتادة فيما أحسب في فضل صيام عرفة، وقد قال البخاري فيه لا أعلم له سماعا منه.
إلا أني والله أعلم لاحظت أن مسلما ربما استبدل مثل هذه القارئن بقرائن أخرى بأن يكون مثلا شعبة واقع في إسناد الحديث، وشعبة معروف مشهور في هذا المجال فتاش ناقد.
وعلى أي حال فإن البخاري مع شيخه ابن المديني قائلان بما نفاه صحاب الإجماع بل جمهور المتقدمين على اشتراط السماع كما بين ابن رجب، وقد أجتهد وأجمع بعض النصوص إن يسر الله عز وجل، أما ما جلبه صاحبنا من بعض النصوص التي صحح فيها البخاري أو حسن بعض الأسانيد التي قال فيها هو لا أعلم سماعا، فإنه تعسف أيما تعسف في بعضها، كأن يكون إنما صححها أو حسنها لأجل الشواهد ومنها أن المتقدمين قد يقضون على انقطاع حديث ما لكن يصححونه باعتبار آخر كقول أبي حاتم أحديث سعيد عن عمر مرسلة لكنها في معنى المسند، وسئل عن حديث لابن أبي أوفى عن عبد الله بن سلام فقال لم يسمع منه لكنه في معنى المسند.
وأما البعض الأخر فإن البخاري راعى قرائن أخرى قامت مقام التصريح أو معرفة اللقاء. كجلوس أبي عبد الرحمن السلمي للإقراء منذ زمن عثمان، بالنسبة لحديث خيركم من تعلم القرآن وعلمه.
وأنب لأعجب أشد العجب كيف يقرر صاحبنا بان غمكان اللقاء مع انتفاء التدليس كافيان في الاتصال ثم يقول ان بعد البلدان من القرائن المرجحة لعدم السماعن فإنه إن كان إمكان اللقاء مع نفي التدليس = ( يساوي ) سماع، فكيف تأتي وتضيف قرينة اخرى وهي أن لا يكونا من بلدين نائيين ؟ ,أين هذا في كلام مسلم ثم أليس هذا تناقضا؟ أما مسلم فقد لزم قوله وطرد أصله وقد تقدم ذكر بعض الشواهد على ذلك.
وليس الغرض هنا الرد المفصل على صاحب هذا القول، وإنما اجتلبته لأن المسألة هذه أعني الدلالة العرفية لـ"عن" هل هي على الاتصال؟ أم على الإرسال؟ لها علاقة وطيدة بمسألة الإرسال الخفي ودخوله في التدليس بل هي متفرعة عنها تفرع الفرع عن الأصل.
وذلك بأن من رأى أن " عن " لها دلالة على الاتصال في عرف المحدثين، رأى أن استعماله في ما لم يسمعه تدليس، لأنها تقتضي السماع وهو لم يسمع، ومن المعلوم أن إرسال المعاصر داخل في حيز هذا النوع من التدليس لاستعماله عن.
أما من رأى أن "عن " لا دلالة لها البتة على الاتصال، رأى أن المعاصر لا يصير مدلسا بمجرد استعماله عن فيمن لم يلقه، فأخرج بذلك الإرسال الخفي من التدليس، واستعمال السامع لها هو الوحيد الذي يستحق اسم التلديس لما في استعماله لها من التغرير إذ هو قد ثبت له السماع.
ومنهم من توسط فسمى الإرسال الخفي تدليسا إذا كان استعمال "عن" للإيهام أعني إيهام السماع، أما من غير الموهم للسماع فلا حينئذ. وهذا مذهب جماهير المحدثين.
وأنا أميل والله أعلم إلى المذهب الثاني وهو ما نصره ابن رشيد وابن رجب - كما يفهم من كلامه عند اعتراضه على مسلم بعنعنات المخضرمين - والعلائي والحافظ وذلك لعدة أسباب:
- احتراز كثير من المتقدمين في استعمال المعاصر لـ"عن" بقولهم لا نعلم له سماعا، فهذا يؤكد أمرا وهو: أن "عن" في بداية عصر التابعين وغيرهم إلى زمان متأخر قليلا لا دلالة لها على الاتصال في عرفهم، بل تتغير من راو لآخر، واستقراء ذلك قد يعسر خاصة إذا لم يكن ممن أكثر من التحديث فبنوا الأمر على الاحتياط.
- كثرة الإرسال، قال ابن سيرين كنا لا نسأل عن الإسناد حتى وقعت الفتنة.
- أن مفهوم التدليس عند المتقدمين فهو في بابه اللغوي وهو الإخفاء، ويكاد يكون استعمالهم لذلك فيمن عرف بإسقاط الوسائط خاصة الضعفاء منهم، ولذلك أدخلوا تدليس التسوية فيه وإن لم يسقط المسوي شيخه بل شيخ شيخه وهلم جرا من الضعفاء، وأما من ذهب فاحتج باستعمال بعض المتقدمين للتدليس فيمن لم يلق شيخه، وأن هذا دليل على تسمية الإرسال الخفي تدليسا فلا حجة فيه، بل ربما يكون الراوي ممن يسقط الضعفاء، فحين يعنعن عمن لم يلقه يحترزون ويحتاطون فيذكرون أنه معروف بالتدليس، والدليل على ذلك أنهم يجزمون بعدم لقاءه لشيخه ومع ذلك يزيدون لفظ دلس كقول الإمام أحد في سعيد بن أبي عروبة دلس عن شيوخ لم يلقهم كالحكم وسعيد بن جبير و...و...
هذا والبحث يستحق أكثر مما ذكرت ولعلي سأفرغ وأقوم بتنسيق الأقوال والأفكار والله أعلم وبه التوفيق