السـلام عليكم
هذا التذكير لي قبل أن يكون لكم
قال الشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر
في مقديمة تذكرة المؤتسي شرح عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي
((الأمر الخامس : أود التنبيه على شيء قد نغفل عنه عند دراسة العقيدة . يقول ابن القيم رحمه الله : " كل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول ، وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول " 2 ، يعني دخله شيء ، إما رياء ، أو إرادة الدنيا ، أو نحو ذلك . فلا يُنتفع به ، ولا يبارك فيه .
ولهذا فإن حسن النية في دراسة العقيدة ، ودراسة أمور الدين عموماً أمر لا بد منه . فعندما يتعلم العبد العقيدة لا يدرسها من أجل زيادة الاطلاع وكثرة المعرفة ، وإنما عليه أن يتعلمها لأنها دين الله الذي أمر به عباده ، ودعاهم إليه ، وخلقهم لأجله ، وأوجدهم لتحقيقه . فيجتهد في فهم أدلتها، ويتقرب إلى الله عز وجل باعتقادها والإيمان بها ، ويرسخها في قلبه ، ويُمكِّن لها في فؤاده .فإذا درس العقيدة بهذه النية أثمرت فيه ثمرات عظيمة ، وأثرت في سلوكه وأعماله وأخلاقه ، وفي حياته كلها . أما إذا كانت دراسته للعقيدة مجرد جدل ونقاش ، ولم يعتن بجانب تزكية القلب بالإيمان والثقة والاطمئنان بهذا الاعتقاد الذي أمر الله عز وجل به عباده لم تكن مؤثرة .
ومن الأمثلة على ذلك ـ فيما يتعلق بالإيمان برؤية الله ـ : قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ، لا تُضامُون ـ وفي رواية :"لا
ص -22- ... تُضارُّون"، وفي رواية :"لا تَضَّامون"ـ في رؤيته ، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ، ثم قرأ : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}1 " 2 . يعني صلاة الفجر وصلاة العصر .
لاحظ الارتباط بين العقيدة والعمل ، ذكر لهم العقيدة التي هي الإيمان برؤية الله ، ثم ذكر لهم العمل الذي هو ثمرة هذا الاعتقاد الصحيح ، فقال لهم :""فإن استطعتم ألا تغلبوا ..."
فلو أن شخصاً درس أحاديث الرؤية ، وتتبع طرقها وأسانيدها ، وناقش المتكلمين في شبهاتهم حولها ، ثم إنه مع ذلك أخذ يفضل السهر في الليل ، ويضيع صلاة الفجر ، بل قد لا يكون لهذه الصلاة وزن عنده ، ينادي المؤذن الصلاة خير من النوم وهو بلسان حاله وفعله النوم عنده خير من الصلاة ، فأي أثر لهذا الاعتقاد عليه . نسأل الله العافية .
إن مثل هذا يحتاج إلى تصحيح نيته ومقصده في دراسة العقيدة حتى تثمر الثمرة المرجوة ، وتحقق الآثار المباركة على صاحبها . فالمسلم يتعلم العقيدة لأنها عقيدته ، ودينه الذي أمره الله عز وجل به ، ويجتهد في أن تكون لها أثر عليه ، وعلى عبادته وتقربه إلى الله عز وجل . قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ : " والأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين ، فلكل صفة عبودية خاصة هي من
ص -23- ... موجباتها ومقتضياتها أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها ، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على العلم والجوارح . فعلم العبد بتفرد الرب بالضر والنفع والعطاء والمنع والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً . وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، وأنه يعلم السر وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور : يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله ، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك الحياء باطناً ، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح . ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء وتثمر له من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه . وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعاً من العبودية هي موجباتها . وكذلك علمه بكماله وجماله وصفاته العلا يوجب له محبة خاصة بمنزلة أنواع العبودية . فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات وارتبطت بها ارتباط الخلق بها " [مفتاح دار السعادة]))
.