التصعيدُ بالتطرُّف.... والتطرُّفُ بالتصعيد!
.. لمّا قال ربُّنا –تعالى- في كتابه: {والعصر إنَّ الإنسان لفي خُسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصَوْا بالحقِّ وتواصَوْا بالصبر}: كان ذلك منه –جلَّ وعلا- كلاماً فَصْلاً جزْلاً، عظيماً جليلاً؛ له حقيقتُهُ، وله آثارُهُ...
فَخَتْمُ السّورة بذِكرِ (الصبر ) بعد (الحقّ ) دليلٌ حَتْمٌ على أنَّ الحقَّ قد يتفلّتُ مِن أصحابه، إنْ لم يُصاحِبْهُ صبرٌ عليه، ومُصابرةٌ بشأنِه..
فمِن صِفَةِ الحقِّ –الذاتيّة- أَنّه ثَقيلٌ على النُّفوسٍ، شَديدٌ على القلوب؛ لأنَّه يُخالفُ مألوفَها، ويُغايرُ مسالكَها –إلا مَن رَحِمَ-...
وإنّي إذْ أذكُرُ هذا الكلام –هنا- ، وأتذكَّرُهُ:
فإنَّ ذلك لِمَا يَصِلُ إلى مسامِعنا، وتُعاينُهُ أبصارُنا -بين الحين والآخَر- مِن رسائلَ –تصدُرُ مِن هُنا(!) أو إشاراتٍ تَنطلقُ مِن هُنالك(!) –إمّا عن مجهولٍ مُبْهَم: لا يُدرى رسمُه، ولا يُعْرَفُ اسمُهُ، أو مِن مَعْروفٍ مُتَوَارٍ: يُشِبُّ –كلاهما- النّارَ، ويُوَهّجُها، ويُعْلِي ألسنتَها، ويوسِّعُ دائرتَها؛ وهم عنها بمعزِل، ودونها بأبعد مَنْزِل!!
ويتلقَّف هذه الرسائلَ (!) أفرادٌ وجماعاتٌ، يُعْلونَ مِن شأْنها، ويَتَّخِذونها منهجاً، ويختطُّونها لأنفسِهم طريقاً؛ له يسلكون، وفي فَلَكِه يدورون، فَيَثُورونَ ويُثَوِّرون!!
في الوقت الذي يطيرُ بهاتيك الرسائل –مِن جهةٍ-، وآثارِها وتَبعَاتِها –مِن جهةٍ أُخرى- أعداءُ الإسلام المُتربِّصون، وأضدادُهُ المتصيِّدون –مِن ظاهرٍ أو مكنونٍ!-، لِيَشُدُّوا –أكثر وأكثر- قَبْضَتَهم، ولِيُضعِفوا –أكثر وأكثرَ- مَن لهم يَتَصَيّدون، ومَن بهم يتربّصون!!
فنرى، ونُحِسُّ، ونسمعُ، ونُعايش: ألواناً مِن الضُّغوط، وأصنافاً مِن الويلات، وأنواعاً مِن المُنَغِّصات، الّتي تنقطع دونها الأعمال، وتضعُف أمامَها المسالك، و(يكادُ ) تَتَهادَى بين يَدَيْها الآمالُ، وتَخِرُّ لها الأمانيُّ!!
ولكنَّ الأمرَ –مِن قبل ومِن بعد- كما قال ربُّنا ذو الجلالِ والإكرام: {ولا تهنُوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}.
نعم...
لن نَهِنَ..
ولن نحزَن..
ولن نستكين...
وأملُنا بربِّنا عظيمٌ..
وظَنُّنا بمولانا كبيرٌ..
ولكنْ؛ مَن المُستفيد مِن هذا التصعيد؟!
هل سيستفيد منه المسلمون؛ وهم المُسْتَضعَفون؟ !
أم سيستفيد منه –تربُّصاً وتصيُّداً- أولئك الأعداءُ الماكرون –وهم الأَقوى فيما تراه العيون-؟!
إنَّ أولئك المُثَوِّرين –في تصعيدهم، وتثويرهم- سواءٌ منهم الظاهرون أم المُتوارون!- لم يُدْركوا حقيقةَ المصالح الشرعية المُرتبطة بمقاصد ديننا العليّة؛ فلم يكُن لهم مِن هَمٍّ –في سائر فعائِلهم- إلا أن يُثبِتُوا وجودَهم –كيفما كان الأمرُ!- ولو على حِسَِاب ما يجري في مَنَاحٍ أُخرى في عالَم الإسلام الكبير المترامي الأطراف –اليومَ-؛ سواءٌ في العراق، أو أفغانستان، أو فلسطين... أم في السعودية، أو الجزائر، أو الأُرْدُنّ!!
وجميعُها شَهِدَتْ –وتشهدُ- ما اللهُ به عليمٌ: من فِتَنٍ ومِحَن –على نِسَبٍ وتفاوُتٍ-...
ولقد ذكّرني هذا (التصعيدُ ) –الشديد- بمقالٍ كتبتُه قبل خمسةَ عَشَرَ عاماً –قبل (11سبتمبر ) وتداعياتها!-، يومَ أن كان التصعيد –كما يُقال-:
أرى خَلَلَ الرمادِ وميضَ نار ويوشِكُ أن يكون لها ضِرامُ
فكتبتُ –يومئذٍ- ما نصُّهُ:

« تصعيد المُواجه... لمصلحةِ مَن؟!
تعيش الأَمّةُ –منذ عقودٍ- أحوالاً سيئة مِن الضَّعفِ، والعجزِ، والخَوَر، وأخرى مُظلمةً مِن التَّبعيَّة، والتفرُّق، والتّشتُّت ...
وما حصلَ هذا كلُّه إلا بعد انحِسَار مدِّ دولة الإسلام (الشاملةِ )، وتفرُّقها إلى دُويلات مُتَفَتِّتة، وممالكَ متعدِّدة، ذات حدودٍ مصطنعة، رَسَمَتها أصابعُ (المُستعمِرين!) في أوائل القرن العشرين...
.. ومنذ ذلك الحين والمُلتزمون مِن المُسلمين (يُحاولون ) إعادة مَجدٍ، وإصلاح أمَّةٍ، وبناءَ عزٍّ، ولكنَّ الضغوط التي يُواجهونها أشدُّ وأنكى مِن أن تسمحَ لهم بشيءٍ مِن ذلك، وإن ظنَّ المستعجلون أنَّ الفُرَصَ (قد ) تسنح بذلك!!
حتّى إنّ تلك الضُّغوط قد أدَّت في كثير من الأحيان إلى قتل العمل الإسلامي في مَهده، وكَبْتِهِ ووأدِه، والشواهد ناطقة بذلك، دالَّةٌ عليه، مشيرةٌ بحوادثها إليه...
ولقد عاشَ الجيلُ الإسلاميُّ الجديد –منذ مدَّة مضت، وسنينَ خَلَت- بدايات تجديد لهذا الدِّينِ، صاحَبَه التزام بالدَّعوةِ إلى الله –سبحانه وتعالى- في سائر بلادِ الدّنيا، سواءٌ منها ما كان في الشرق أو الغَرب...
وهذا الفجر لم يزل في أوَّلهِ، وفي بداية تنفُّسه، فهو غضُّ العود، هشُّ الأركان، لا يتحمَّل أن تضربه هَزَّةٌ، أو يصيبه بأسٌ.. فلو أنَّ شيئاً من هذا حَصَل –لا قدَّر الله- لكان له أعظمُ أثر سلبيٍّ على هذا الجيل الصاعدِ في هذه البداية المباركةِ الخيِّرة.. وهذا ما لا يتمنَّاه مَن في قلبهِ ذرَّة إيمان!
وفي ظلِّ هذه (البداية ) العَصِيبة كان لا بدَّ مِن أن تكون التربية التي يُنَشَّأ عليها هذا الجيلُ الفَتيُّ الصاعدُ تربيةً علميَّةً عقائديّةً؛ تستفيد مِن النَّظَر إلى الوراء... لا للتثبيط والإحجام(!) ولكن لِتُتقِنَ الإقدام، مستفيدةً من تجارب غابرِ الأعوام، وأحداثِها الجِسام، مُسْتَشرِفَةً بهِ مستقبلَ الأيام...
ولكي تكونَ هذه التربيةُ ذات ثمراتٍ إيجابيَّةٍ صالحةٍ مُصلحةٍ، لا بدّ مِن تعاون أهل الحقِّ من أصحاب النَّهج السليم، كُلٌّ في مجال تَخَصُّصهِ؛ دعوةً وإرشاداً، ووعظاً، وتأليفاً، وفُتيا، وتوجيهاً... بِحِلمٍ يبني، وتأَنٍّ يُرَبّي، وتراحمٍ يحمي.
فأن يُخالفَ أحدٌ مِن هؤلاء (المُتَصَدِّرين ) هذا النَّهج في التربية والتوجيهِ، سالكاً طريقاً آخَرَ، قد جرَّبَهُ المُجَرِّبون، وسَلَكَه مِن قَبلُ –السالكون- يعتمد (تصعيدَ ) اللَّهجةِ وأسلوبِ الخِطاب، ويسلكُ (طريقةَ ) الاستفزازِ والمواجهةِ، اغتراراً بجموعٍ مدفوعة، وأصابعَ مرفوعة، وجماهيرَ محتشدةٍ مجموعة!!
فليس هذا –بحالٍ- مِن مصلحة المسلمين بعامَّةٍ، فضلاً عن ذاك الجيل الفتيِّ بخاصَّةٍ، بل المُستفيد منه –أوَّلاً وأخيراً- هم أولئك المتربِّصون الَّذين يمكرون اللّيل والنَّهار المَكرَ الكُبَّار لمثل هذه اللَّحظة التي يُمَكِّنُهُم فيها المسلمونَ –أنفسُهم-(!) مِن أنفسِهم؛ وَلَو بذرائعَ مُلُفَّقة، وقصَصٍ مُختلَقَة!!
ولو نَظَرتَ -الآن- إلى العالم بقارَّاتِه؛ لرَأَيتَ دلائلَ ما قُلنا: آسيا، إفريقيا، أمريكا، أوروبا... وإن شِئتَ: فَصَغِّر دائرةَ نَظَرِكَ، لِيَصلَ إلى نيويورك، والبوسنة، وطاجكستان، وأبخازيا، والصومال، وأرتريا، وأخيراً... مصر، والجزائر .. و ..!
فهلا استفدنا مِن هذه التجارِبِ التي كلَّفت الأمَّة ملايين النفوس، ومليارات الدولارات، فضلاً عن ضَعفٍ يضرِبُ بأطنابهِ فيها.. قد حلَّ في سهولها وبواديها...
وهلا كانت تلك الدروسُ (المتكررة ) سبيلاً يُوقِفُنا بأنفسنا على واقع أنفسنا، وأنْ لا سبيل يُصلح ويُغَيِّر إلا السبيل النَّبوي الواضحُ المعالم، البيِّنُ الدلائل، المبنيُّ على الاهتداء بالصبر واليقين... اللَّذين بهما تُنال الإمامة في الدين.
{وجعلنا منهم أئمَّة يهدونَ بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}.
دونَ انفعالات حماسيّة، ومِن غير تأثرات عاطفيَّة، ومِن غير تصعيداتٍ كلاميَّة ضبابيَّة!!
ومع هذا كلِّه؛ فإنَّنا نبتهل إلى الله –سبحانه- أنْ يحفظَ دينَه، ويَكْلأ عبادَه، ويُبطلَ عمل الشيطان وكيده {فاللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحمُ الرَّحمين}.
فهل مِن ناصح أمين يَصدُقُ مع هذا الجيل الفتيّ، وَيَسُوسُه بهدي النَّبي –صلى الله عليه وسلم-، ولا يُقدِّمه قرابين سائغةً في مذابح الطاغوت؟!
وهل مِن مُستجيبٍ لدلائل السَّداد في كلام العلماء الربّانيين الذين يُربُّون الأمَّة على صغار العلم قبل كباره؟!
{ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين».

... هذا آخِرُ ما كتبته –يومَذاك- قبل خمس عشرةَ سنةً خَلَتْ!
ولكنْ؛ بَعد ذا: هل مِن مُستفيد؟!
هل مِن مُتّعِظ؟!
أم أنَّ المَسَار –وللأسَف الكُبَّار- في هُبوط وانحدار؟!
فواللهِ؛ إنَّ النَّفْسَ حَرُون، والقلبَ حزين...
فما بالكُمُ والأُمور تُفْهَمُ عكساً بعكس، وتُؤْخَذُ ظهراً لِبَطْنٍ؟!
فالحالُ أشدُّ وأنكى –إذَنْ-!
لمثلِ هذا يموتُ القلبُ مِن كَمَدٍ
إن كان في القلب إسلام وإيمانُ
... وعَوداً على بَدْءٍ:
فبعد تاريخ مقالي السابق هذا بأربع سنوات، وقبل أيّامنا هذه بأكثر من عشر سنوات: كتبتُ كلمةً –أيضاً قبل (11 سبتمبر ) وتداعياتها!- في مقام (التحذير )، مُطْلِقاً (صيحةَ نذير )؛ قلتُ فيها –كنفثةِ المصدورِ، وكَبْتَةِ المصدوم- ما نصُّه:

«...ولكنّنا نقولُ الذي قُلناه ردًّا لِغُلُوِّ الغالين، وتكْفير المُكفِّرين؛ الذينَ فَتَحوا البابَ مُشرَعاً –بأفعالِهم وأَقوالِهم- لكلِّ أَعداء الدينِ ومَناوئيهِ؛ لِيَصِفوا الإسلام بالتطرُّفِ، والمسلمين بالإرهابِ.. من غير تمييزٍ، وبلا تفصيل.. فكانوا –بسوءِ صنيعهم- سدًّا مَنيعاً في وَجْهِ الدعوة الحقَّةِ للإسلامِ الحقِّ، وسبباً كبيراً للضغط على المسلمين واستِنْزاف مُقدَّراتِهم، وَشَلِّ قواهم...
فاللهُ يُصلِحُهم، ويُسدِّدُ دَرْبَهُم..».

... وها هو التاريخُ -اليومَ- يعيدُ نفسَه، والأحداث تتكرّر، والوقائع الأليمة في ازدياد، وعُموم الأُمة –وللأسف- في دواهٍ مُدْلهِمّة، والمصائب تتّسع، ودائرتُها تكبُرُ...
ولا مُفَرِّج إلا الله...
اعْلَموا –يا عقلاءَ الأُمّة- أنّه:
لن تكونَ العواطفُ العواصفُ –يوماً- سبيلَ حلٍّ لمشكلةٍ...
ولن تكونَ الرسائلُ المُهَدَّفةُ المُثَوِّرة –مِن ظاهرٍ مأْفون، أو مُتوارٍ مكنون!- طريقاً يرتفعُ به الذلُّ عن الأمة...
ولن تكونَ كتابات زبانية الإنترنت(!) المتعثّرة –المُتستِّرة- مساراً لاحباً تَضيق به الهُوَّة...
إنَّ الحلَّ الأوحَدَ –الذي لا حلَّ سواه- ما قاله رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم-:
«... سلَّط اللهُ عليكم ذُلاًّ؛ لا ينزعه عنكم حتّى ترجعوا إلى دينكم»..
ورضي الله عن الصحابي الجليل ابن مسعود –القائل-:
«السَّعيد مَن وُعِظ بغيره».
ورحم الله الإمام مالك بن أَنس –القائل-:
«لن يصلُح آخِرُ هذه الأمة إلا بما صَلَحَ به أولُها»..
... واللهُ الناصرُ...
24 ربيع الأول 1428هـ
شبكة الأصالة