الحكمة ضالة المؤمن (20) ولا تنسوا الفضل بينكم
د.وليد خالد الربيع
الاعتراف بالفضل وشكر النعم، وحفظ الجميل من معالي الأخلاق التي جاء بها الإسلام الحنيف، ومن محاسن الصفات التي دعا إليها رسول الله [، وذلك أن الاعتراف بالنعم إقرار لصاحبها بإحسانه، وشكر له على آلائه، وإظهار لصنائعه وتحدث بأياديه، في حين أن كفر صنيعته وجحد إحسانه، وإنكار جميله كفر بنعمته، وتضييع لواجب شكره، واستخفاف بحقه وفضله، وهذا لا يقره الشرع المطهر ولا يقبله العقل السديد.
قال أبو حاتم البستي : «الحر لا يكفر النعمة، ولا يتسخط المصيبة، بل عند النعم يشكر، وعند المصائب يصبر، ومن لم يكن لقليل المعروف عنده وقع أوشك أن لا يشكر الكثير منه، والنعم لا تستجلب زيادتها، ولا تدفع الآفات عنها إلا بالشكر»اهـ.
ومن النصوص الشرعية التي تدل على هذا الخلق الكريم قوله تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} لما له من أثر كبير في ترسيخ الأخوّة الإيمانية ونشر المحبة والود في المجتمع المسلم، قال الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير: «فأمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل، ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.»اهـ.
ويبين الشيخ ابن سعدي أن الفضل أعلى درجات المعاملة فقال:«الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف, وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب, وهو: أخذ الواجب, وإعطاء الواجب.
وإما فضل وإحسان, وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق, والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة, ولو في بعض الأوقات, وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة, أو مخالطة, فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم»اهـ.
ولهذه الآية الكريمة معان عديدة ذكرها المفسرون منها ما ذكره الطبري: يَقُول تَعَالَى ذِكْره: وَلَا تَغْفِلُوا أَيّهَا النَّاس الأخْذ بِالْفَضْلِ بَعْضكُمْ عَلَى بَعْض فَتَتْرُكُوهُ, وَلَكِنْ لِيَتَفَضَّل الرَّجُل الْمُطَلِّق زَوْجَته قَبْل مَسِيسهَا, فَيُكْمِل لَهَا تَمَام صَدَاقهَا إنْ كَانَ لَمْ يُعْطِهَا جَمِيعه، وَإِنْ كَانَ قَدْ سَاقَ إلَيْهَا جَمِيع مَا كَانَ فَرَضَ لَهَا, فَلْيَتَفَضَّلْ عَلَيْهَا بِالْعَفْوِ عَمَّا يَجِب لَهُ, وَيَجُوز لَهُ الرُّجُوع بِهِ عَلَيْهَا, وَذَلِكَ نِصْفه؛ فَإِنْ شَحَّ الرَّجُل بِذَلِكَ, وَأَبَى إلَّا الرُّجُوع بِنِصْفِهِ عَلَيْهَا, فَلتتَفَضل الْمَرْأَة الْمُطَلَّقَة عَلَيْهِ بِرَدِّ جَمِيعه عَلَيْهِ إنْ كَانَتْ قَدْ قَبَضَتْهُ مِنْهُ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَبَضَتْهُ فَتَعْفُو عَنْ جَمِيعه, فَإِنْ هُمَا لَمْ يَفْعَلَا ذَلِكَ وَشَحَّا وَتَرَكَا مَا نَدَبَهُمَا اللَّه إلَيْهِ مِنْ أَخْذ أَحَدهمَا عَلَى صَاحِبه بِالْفَضْلِ فَلَهَا نِصْف مَا كَانَ فَرَضَ لَهَا فِي عُقَد النِّكَاح, وَلَهُ نِصْفه.
ثم نقل عن بعض مفسري السلف فذكر عَنْ قَتَادَة: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} يُرَغِّبكُمْ اللَّه فِي الْمَعرُوف, وَيَحُثكُمْ عَلَى الْفَضْل، وعَنْ سُفْيَان: {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْل بَيْنكُمْ } قَالَ: حَثّ بَعْضهمْ عَلَى بَعْض فِي هَذَا وَفِي غَيْره, حَتَّى فِي عَفْو الْمَرْأَة عَنْ الصَّدَاق وَالزَّوْج بِالْإِتْمَامِ، وعَنْ الضَّحَّاك: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} قَالَ: الْمَعْرُوف، وعَنْ سَعِيد قَالَ: سَمِعْت تَفْسِير هَذِهِ الْآيَة {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْل بَيْنكُمْ} قَالَ: لَا تَنْسَوا الْإِحْسَان.اهـ.
وقد كان النبي [ أولى الناس بهذه الصفة الكريمة، فقد كان [ يحفظ لخديجة - رضي الله عنها- إحسانها، فعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: «ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة - ولقد هلكت قبل أن يتزوجني بثلاث سنين - لما كنت أسمعه يذكرها، ولقد أمره ربه أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة ثم يهدي في خُلتها - أي أهل صداقتها - منها» أخرجه البخاري.
وفي حديث للحاكم والبيهقي أن النبي [ استقبل عجوزا بحفاوة وترحيب، فلما خرجت سألته فقال [: «يا عائشة إنها كانت تأتينا زمان خديجة، وإنَّ حُسنَ العَهدِ من الإيمان»، قال ابن حجر في شرح قول البخاري: باب حسن العهد من الإيمان، قال أبو عبيد: العهد هنا رعاية الحرمة، وقال عياض: هو الاحتفاظ بالشيء والملازمة له، وقال الراغب: حفظ الشيء ومراعاته حالا بعد حال، وعهد الله تارة يكون بما ركزه في العقل وتارة بما جاءت به الرسل، وتارة بما يلتزمه المكلف ابتداء كالنذر ومنه قوله تعالى: {ومنهم من عاهد الله}.
وحفظ لأبي بكر الصديق جهوده وبذله في نصرة الدين فقال [: «إن من أمنّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته ، لا يبقين باب في المسجد إلا سدّ إلا باب أبي بكر» أخرجه البخاري.
وحفظ رسول الله [ للمطعم بن عدي جميله حين أجاره بعد أن رده أهل الطائف قبل الهجرة، فقال بعد غزوة بدر في شأن أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» أخرجه البخاري.
وأمر [ بحفظ الجميل ومقابلة صاحبه بالشكر والجزاء فقال [: «من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه» أخرجه أبو داود وصححه الألباني.
قال أبو حاتم البستي: «الواجب على المرء أن يشكر النعمة، ويحمد المعروف على حسب وسعه وطاقته، إن قدر فبالضعف، وإلا فبالمثل، وإلا فبالمعرفة بوقوع النعمة عنده، مع بذل الجزاء له بالشكر، وقوله: «جزاك الله خيرا»اهـ.
فعلى المسلم أن يحرص على الاعتراف بالإحسان وشكر النعم، ولا يترك ذلك بسبب أن الناس تركوا شكره أو قصروا في حقه، فهو إنما يفعل ذلك ليشكر الله عز وجل أولاً على فضله وما حباه من نعم وأمكنه من إيصالها لغيره ثم يثيبه عليها بفضله عز وجل، قال ابن الأثير: «من كان عادته وطبعه كفران نعمة الناس وترك شكرها لهم كان من عادته كفر نعمة الله عز وجل ، وترك الشكر له»، وقال بعض الحكماء: «لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره؛ فإنه يشكرك عليه من لا تصنعه إليه».