شجرة التوت في الملعب البلدي لمدينة باجة, ضخمة ومهيبة. و كانت تغيضنا بثمارها المحميّة بالجدار و حارس الملعب و كلبه المتوحّش.
كنّا أطفالا نتسوّر السور ثمّ نجري لنصعد فوق الشجرة. نأكل بعض حبّات التوت بسرعة و نهم, ثمّ ننزل منها ونهرب خوفا من أن يمسك بنا الحارس.
يومها قلت لصديقي محمد, عوض أن نأكل فوق الشجرة خائفين, نحمل أكياس بلاستك, نعبئ الأكياس بسرعة, ثمّ نتلذّذ بالأكل على راحتنا بعد ذلك.
و كان كذلك.
إلّا أنّ محمد لم يلتزم أو نسي الخطّة. عوض أن يملأ الحقيبة كانت عيناه وهو على الشجرة تجولان في أرجاء الملعب بحثا عن الحارس و يديه تنتقلان من حبّات التوت على الأغصان, إلى فمه, بتواتر سريع و أوتوماتكيا.
أكل التوت المواجه له ثمّ بدأ بقطف التوت الذي بجانبيه, دون إلتفات, مراقبا أمامه بيت الحارس خوفا من أن يفاجأانا هوّ و كلبه.
قطف التوتة الأولى و كلّ حواسه, عدى الذوق, مركزّة على الحراسة.
أكل التوتة الثانية.
إلتقم الثالثة و ضغط عليها بأسنانه. الطعم متغيّر.
جمد للحظة, و عيناه لا زالتا تراقبان بعيدا.
ضغط ثانية للتأكد. هنالك بعض لزوجة و ملوحة في هذه الحبّة.
ليس هذا طعم توت !!!
أخرج ما في فمه ليرى..
كانت خنفساء سوداء إلتقفها من الغصن الذي على يمينه !!
أترككم تتخيّلون لحظة الذهول التّي مرّ بها.
"عبد الله أمّي تناديك"
أخي الصغير يصرخ من الجانب الآخر للسور. و أنا فوق الشجرة.
أجبته مرعوبا, منكمشا, خوفا من أن يسمع الحارس صوته, و لا أدري إن كان ردّي صراخا أو همسا.
"أصمت"
فات الأوان. أفاق الحارس من قيلولته على نداء أخي. خرج يجري مع كلبه صارخا: "يا.... ماذا تفعلون هناك".
عجيب أمر الخوف !!! يمكنّك من فعل أشياء لا يمكن أن تقوم بها و أنت في وضع طبيعي. كان قفزي من الشجرة ثمّ تسلّقي السور, نطّا, ثمّ قفزة أخرى, من السور إلى الخارج و هربي, في ثلاث حركات رياضية لا غير: قفز – تسلّق - قفز, ثمّ الهروب.
ذكّرني هذا بالمرّة التي كان يلاحقني فيها كلب ضخم في الحيّ, ووجدت نفسي أمام حائط مغلقا الزقاق.
إلى يومنا هذا, لم أفهم و لا أستطيع تفسير كيف وجدت نفسي جالسا على أعلى الحائط و الكلب تحته ينبح !! طرت؟ قفزت؟ تسلّقت؟... لست أدري ! كلّ ما أذكره أنّي كنت جالسا على أعلى الحائط و الكلب ينبح حانقا في الأسفل.
عدت إلى المنزل.
"نعم أمّي. ناديتني؟"
"كنت في الملعب ثانية؟"
رمقت أخي الصغير ثمّ أنزلت بصري أمامها و لم أجب.
في العادة, عندما ينكشف أمري أعدّ نفسي لعقاب.
هيّ تعلم أنّ شجرة التوت تابعة للملك البلدي و مآل ثمارها التلف. و لو كانت ملكا لأشخاص لكان الإستقبال مباشرة بصفعة.
أميّ لا تناقش في أمرين: الدراسة و حقوق الناس.
"أعدّ نفسك للذهاب إلى أخيك في قسنطينة" قالتها دون أن تنظر إليّ.
كي أضعكم في الصورة. نحن نسكن في مدينة باجة التونسية. أخي يدرس الحقوق في جامعة قسنطينة الجزائرية, وذلك لأنّ شعبة الحقوق في الجزائر تدّرس بالعربيّة, و في تونس كانت الحقوق تدّرس بالفرنسيّة. عرّبت الآن و الحمد لله. و تبعد قسنطينة عن باجة قرابة الثلاثة مائة و خمسين كيلومترا. أصعب ما في السفرة, الإنتظار الذي قد يتجاوز إثنا عشر ساعة على الحدود, حتّى تسمح لنا الشرطة و الجمارك بالمرور.
عمري أربعة عشر سنة. أميّ تطلب منّي الذهاب إلى الجزائر بنفس النبرة التي تطلب فيها منّي الذهاب إلى السوق لإحضار الخضار !!!
أجبت: "طيّب, متى أذهب؟"
"اليوم في قطار العصر. ستسلّم هذا المال إلى أخيك".
تحويل الأموال بين تونس و الجزائر لم يكن ممكنا بالبنوك. حتّى و لو تمّ ذلك, في أوقات نادرة, فإن التحويل في حدّ ذاته لا فائدة مالية منه بالنسبة للطالب. فتحويل الفرنك الفرنسي في البنك الجزائري كان بنسبة واحد فرنك يساوي واحد دينار. أمّا تحويله في السوق السوداء فكان الفرنك بثلاث دينارات و نصف.
فكان لزاما على الطلبة التوانسة الدارسين في الجزائر تدّبر أمورهم, كلّ حسب إمكانياته و أسلوبه, لتوفير إحتياجاته من المال. و يتمّ إرسال المال في المغلب بالتهريب.
كانت أمّي منشغلة. جالسة. و قد أفرغت علبة معجون الأسنان من المعجون. و بجانبها أوراق من الفرنك الفرنسي ملتفّة في ورق بلاستكيّ رهيف شفّاف.
أدخلت لفّات الأوراق في العلبة الفارغة برفق ثمّ أخذت قمعا صغيرا و أعادت إدخال المعجون في العلبة, كيّ يغطّي المال و لا ينكشف وجوده. حتّى لو ضغط رجل الجمارك على العلبة فسيخرج المعجون أوّلا و لن يشّك في أنّ ما بقي بداخلها هوّ مال.
أمّي إمرأة مجاهدة حقّا. تعبت كثيرا معنا و هيّ ذات شخصيّة حاسمة, كريمة, و قلبها نقّي. علّمتها التجارب كيف تحافظ على رباطة جأشها و تماسكها. هي لا تشتكي أمام الناس أبدا.
يومها, رأيت فيها إضطرابا تحاول إخفائه.
وأنا في تلك السنّ لم أكن قادرا على فهم ذاك الخوف في عينيها بل و لم أعره بالا. فالأمر بالنسبة لي, مغامرة أخرى من مغامرات الطيش أتت في قالب سفرة. سأهرّب أموالا لأخي. مالأمر في ذلك !!؟
اليوم, كلّما مرّت بخاطري ذكرى ذلك الخوف في عينيها , تدمع عيناي.
الآن أفهم.
أمّ تضطرّ لإرسال إبنها في مهّمة خطرة. وقلبها مقطّع بين إبنها الطالب في الجزائر المعوز الذي ليس له ما يقتاته منذ شهور, و إبنها الآخر الذي ترسله في أمر قد يؤدي به إلى مخفر الشرطة. و الشرطة كما تعلمون في خدمة الشعب.
و تعلمون أيضا كيف يكون الأمر لو قبض خدمنا علينا.
و المرور بالحدود يتطلّب صبرا و جهدا. فالمسافة, في حدّ ذاتها, ليست مرهقة و لكنّ الإجراءات و الإنتظار و صلف الجمارك و الشرطة هوّ الأمر الثقيل. حينها كان المرور عبر الحدود, صعبا.
تغيّر الحال الآن, و الحمد لله. و أصبح السفر فعلا متعة, و الموّظفين من شرطة و جمارك على الحدود على خلق و مهنية مع المسافرين.
اللهمّ أدمها نعمة.
فهمت لماذا لم تصفعني أمّي من أجل التوت. كانت ترى أنّه كثير عليّ عقابي و إرسالي إلى المجهول في يوم واحد. شخصيّا, لو صفعتني لما لاحظت أيّ تغيير.
على كلّ. أخذت جواز سفري و ركبت القطار. زرت الجزائر سابقا, و لكنّها أوّل مرّة أزور فيها أخي في قسنطينة.
أعفيكم من صور الإنتظار و الملل على الحدود حتّى يتكّرم خدمنا بالسماح لنا بالمرور.
لم يخطر ببال الجمركي أنّ شخصا في عمري مسافر لتهريب الأموال. سألني عن وجهتي فأخبرته أنّي ذاهب لزيارة أخي لإعلامه أنّ خطيبته فسخت الخطوبة نتيجة لمزاحه الثقيل.
قصّة من خيالي رميتها للجمركي.
أخي لم يخطب أحدا بعد.
الواقع أنّي وجدت متعة في مشاكسة أخي حتّى وهو غائب.
تعاطف الجمركي مع أخي وطلب منّي أن أوصيه بعدم الحزن و أنّها ليست الفتاة الوحيدة في الدنيا و يوجد غيرها بالآلاف ممّا يتمّنونه زوجا. وآسترسل في الحديث إلى الحدّ الذي نسيت فيه أنّي إخترعت القصّة و كدت أسأله عمن تكون الفتاة التي يتّحدثّ عنها.
فهمت أنّه مرّ بتجربة رفضته فيها فتاة. فبطل العجب.
دخلنا التراب الجزائري.
وصل القطار إلى قسنطينة في منتصف الليل. مدينة خلاّبة, من أجمل مدن العالم, لو تمّ الإعتناء بها. مغلب مدن الجزائر جميلة و خصوصا العاصمة و لكن تنقصها العناية. الفرق مع قسنطينة انّ نقص العناية لا يرى فيها, وهو موجود. فالمدينة, المتدرّعة الثلج شتاءا, مبنيّة على جبلين شاهقين تربط بينهما قناطر عالية. جمال التضاريس يغّطي عن أي فعل إنساني, أكان الفعل إيجابّيا كالعمارة, أو سلبيا كعدم العناية بالنظافة.
أعلم أنّ الأمر تبدّل الآن فقد زرت الجزائر أخيرا بعد غياب طويل و كنت سعيدا بما رأيته من تغيير في إدارة المدن.
سألت عن المبيت الجامعي فأوصلني رجل طيّب بسيّارته. كان ينتظر قريبه في محطّة القطار. شكرته, فآستغرب مبتسما ! عن ماذا أشكره؟ الناس في الجزائر أهل مروءة, يستغربون من عدم وجودها, أيّ المروءة, لا من وجودها.
حارس المبيت نائم. دخلت و لم أوقضه.
تتبعت الأرقام فوجدت غرفة أخي. طرقت الباب. لم يفتح أحد.
طرقت بقوّة. دقائق و يفتح لي أخي, عيناه لم تفتحا تماما بعد.
كان كمن يمشي نائما غير واعي: "عبد الله, ألم أقل لك لا توقضني سأشكوك لأمّي غدا"
و أغلق الباب.
بقيت في الرواق أمام الباب مشدوها !! بعد كلّ ما مرّ عليّ اليوم لأوصل له المال, يغلق الباب في وجهي؟ ضنّ عندما رآني أنّه في المنزل.
فتح الباب ثانية دون دقّ منّي هذه المرّة.
"عبد الله !!؟ ماذا تفعل هنا؟"
"إستفقت الآن؟"
لا لم يستفق بعد. بقي ينظر إليّ محاولا فهم ماذا أفعل في الجزائر في منتصف الليل أمام باب غرفته.
صرخت في وجهه " هل أدخل أم ستتركني أمام الباب؟"
"أدخل".
جمدت نظرات أخي عليّ, كأنّه يتسائل, هل هوّ فعلا أنا أم أنّه أحد كوابيسه أو أحلامه.
ملأ كفيه بماء و رمى به وجهه.
أفاق.
الحمد لله.
"ماذا تفعل هنا؟"
"أمّي أرسلتني"
"لماذا؟"
"لأعطيك هذه"
قدّمت له علبة معجون الأسنان دون أن أخبره بالمال الذي بداخلها.
أمسك بها. أدارها. حملق فيها, رفع عينيه إليّ و قال:
"معجون أسنان !!"
لو أردت تعليم الأطفال صيغة التعجّب في اللغة, خذ صورة لأخي وهو يسألني هذا السؤال.
لم أستطع منع نفسي من مشاكسة أخيرة فأجبته: "قالت أميّ أنّنا شممنا رائحة فمك في تونس, فأرسلت لك المعجون".
بقي فمه مفتوحا و لم يجبني. كان قدومي إليه للمبيت في قسنطينة, في منتصف الليل, آخر شيء يمكن أن ينتظره.
حان الوقت لأخبره
"أميّ ارسلت إليك مالا في هذه العلبة."
صدق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: كاد الفقر أن يكون كفرا.
تأمل أخي, المعوز منذ شهور, العلبة لحظة, ثمّ إنقضّ عليها بأسنانه.
قطّع الغطاء إربا, و أنفاسه اللاحثة أظاعت كلّ نسق, لا في الصوت و لا في تواترها, فكانت بين الشخير و الشهيق. تلطّخ وجهه بالمعجون. و أخرج لفّات المال ثمّ نزع عنها غطاءها البلاستكي الرهيف.
أخذ الأوراق. فتحها. رفعها بيديه الإثنتين أمام عينيه. ثمّ..
بدأ يرقص.
أوّل مرّة أرى أخي الكبير يرقص.
ثاني مرّة كانت في زواج أخي الصغير.
أخذني معه في الصباح إلى الجامعة. لم أدخل جامعة من قبل.
عصريّة, ببرجها الشاهق و مبناها الذي يشبه كتابا مفتوحا. عرّفني ببعض أصدقائه و كانوا من أقطار عربّية مختلفة.
قدّم لي شاب سوداني كأسا ضننت أنّه كأس شاي, و من عاداتي و أنا طفل شرب أي كأس يقع في يدي جرعة واحدة و بسرعة, أكان حليبا أو ماءا أو شايا...
كان أخي يعرف عادتي تلك. طبعا, الآن و بعد أنّ هدانا الله إلى سنّة الحبيب المصطفى, صلّى الله عليه و سلّم, تغّيرت الكثير من العادات و الطباع.
على كلّ حال, إلى هذه اللحظة لا أدري ماذا شربت من ذالك الكأس الذي قدّمه لي السوداني (وهو للعلم رجل فاضل). هوّ حشائش مثل الشاي, كلّ ما أذكره أنّ رأسي دار و لم أعد أفرّق يميني من يساري.
المهمّ. وقعت على الأرض, و الجماعة يتضاحكون. في العادة أنا الذي أشاكس. كنت مغتاظا من ضحكهم.
عند العودة, أرسل معي بعض الطلبة كتبا كانت ممنوعة من الدخول إلى تونس مع أدوات للرسم التقني, وذلك لبيعها لطلبة و تلامذة معاهد و كلّيات الهندسة. كأقلام و ألواح الرسم الهندسي. حيث كانت هذه الأدوات غالية جدّا في تونس, في حين أنّ حكومة الجزائر تدعمها, فتباع بأسعار رخيصة. و كانت هذه التجارة تدّر على الطلبة بعض الربح المادي فيعينون به أنفسهم.
وضعوا الكتب في كرتون كبير و فوق الكتب مجّلات أطفال عادية باللغة الفرنسية.
كنت جالسا على الكرتون في القطار أطالع إحدى هذه المجّلات. مرّ الجمركي. طلب منّي الوقوف لرؤية ما في الكرتون. لمّا رأى المجّلات ضنّ أنّ كلّ ما في الكرتون على شاكلتها, فلم يفتّش تحتها.
"جيّد يا بني, طالع وآدرس. نريد أن نراك رجلا ناجحا."
قالها ناظرا إلّي من علوّ و أنا جالس على الكرتون, وكان متمتعا بلعب دور من يلقي النصائح. لو علم ما خفي في الكرتون لما كانت النصيحة.
وجدت أمّي في حالة قلق كبير. مجّرد ضهور القلق عليها, دلالة على حجمه.
عنّقتني.
نادرا ما تفعل ذلك, ليس لجفاف منها, حاشاها, فهي أصدق و أرّق إنسان رأيته, بل لأنّ السلوك و الطيش الذي كنت عليه لا يتركان لأحد فرصة لإبراز مشاعر رقيقة تجاهي.
حفظك الله يا غالية و نوّر دربك في الدنيا و الآخرة, و جعل ما قمت به من أجلنا في ميزان حسناتك.