الغضب









كتبه/ ياسر عبد التواب

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

الغضب:

ومن الأخلاق المذمومة، بل من شرها: الغضب؛ فهو من أكثر ما يتحكم به الشيطان في الإنسان، إذ الغضبان كالسكران لا يشعر بما يفعل، ويهذي بما يندم عليه بعد ذلك.

تعريف الغضب:

قال الجرجاني: "الغضب تغيرٌ يحصل عند فوران دم القلب يحصل عنه التشفي في الصدر" التعريفات.

وقال الراغب: "هو ثوران دم القلب وإرادة الانتقام".

وقال الغزالي -رحمه الله-: "الغضب غليان دم القلب بطلب الانتقام".

أنواع الغضب

أولا: الغضب المحمود:

هناك نوع من الغضب يمكن وصفه بأنه غضب محمود؛ وهو ما كان لله -تعالى- ولا يكون محمودًا إلا في حالة عدم تجاوزه للحدود الشرعية؛ فلا يؤدي إلى ظلم أو إلى انتهاك حرمات الله، أو إلى التجسس أو الأذى.

ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدوة؛ فمن غضبه لله أن يتغير وجهه عند رؤية ما لا يحسُن، فربما كان ذلك كفيلاً بتغيير المنكر، ومن ذلك ما رواه البخاري عن علي -رضي الله عنه- قال: "أَهْدَى إِلَيَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُلَّةَ سِيَرَاءَ فَلَبِسْتُهَا؛ فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ فَشَقَقْتُهَا بَيْنَ نِسَائِي" (متفق عليه)، فقد كانت لا تصلح للرجال؛ لكونها من الحرير؛ لذا فقد بدا الغضب على وجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كراهية منه للتشبه.

وأخرج مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ عَلَيّ رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَعِنْدِي رَجُلٌ قَاعِدٌ. فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِي وَجْهِه قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنّهُ أَخِي مِنَ الرّضَاعَةِ. قَالَتْ: فَقَالَ: (انْظُرْنَ إِخْوَتَكُنَّ مِنْ الرَّضَاعَةِ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ) (متفق عليه).

وكذلك في حال الجهاد في سبيل الله -تعالى-؛ فيجوز الغضب بضوابطه فلا يمثل، ولا يغدر، ولا يقتل غير مقاتل، وقد بوب البخاري بابًا اسمه باب: "ما يجوز من الغضب والشدة لأمر الله"، واستدل بقول الله -تعالى-: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (التوبة:73)، و(التحريم:9).

(جَاهِدِ): بالسيف والحجة وإقامة الحدود. (وَاغْلُظْ): شدد عليهم فيما تجاهدهم به، واستعمل الغلظة والخشونة.

وقد غضب -صلوات ربي عليه- فتكلم بذلك على المنبر: فقد أخرج مسلم عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنّي لأَتَأَخّرُ عَنْ صَلاَةِ الصّبْحِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ، مِمّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطّ أَشَدّ مِمّا غَضِبَ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ: (يَا أَيّهَا النّاسُ إِنّ مِنْكُمْ مُنَفّرِينَ، فَأَيّكُمْ أَمّ النّاسَ فَلْيُوجِزْ، فَإِنّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ).

وغضب كذلك من تشدد البعض وتهاونهم في أخذ رخص الشريعة: أخرج مسلم عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي أَمْرٍ. فَتَنَزّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِنَ النّاسِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- فَغَضِبَ حَتّىَ بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمّا رُخّصَ لِي فِيهِ. فَوَاللّهِ لأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللّهِ وَأَشَدّهُمْ لَهُ خَشْيَةً).

قال النووي في الشرح: "قوله: فَغَضِبَ حَتّىَ بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمّا رُخّصَ لِي فِيهِ. فَوَاللّهِ لأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللّهِ وَأَشَدّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) فيه: الحث على الاقتداء به -صلى الله عليه وسلم-، والنهي عن التعمق في العبادة، وذم التنزه عن المباح شكًا في إباحته، وفيه: الغضب عند انتهاك حرمات الشرع وإن كان المنتهك متأولاً تأويلاً باطلاً، وفيه: حسن المعاشرة بإرسال التعزير، والإنكار في الجمع، ولا يعين فاعله؛ فيقال: ما بال أقوام ونحوه. وفيه: أن القرب إلى الله -تعالى- سبب لزيادة العلم به وشدة خشيته... ) انتهى.

ثانيًا: الغضب المذموم:

المذموم من الغضب هو الإفراط فيه، ويكون بغلبة هذه الصفة حتى يخرج عن سياسة العقل والدين والطاعة، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر، وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر.

وقال النووي -رحمه الله- في كتاب الأذكار: "قال بعضُهم: ما رأيتُ شيئًا أذهبَ للدين ولا أنقصَ للمروءة، ولا أضيعَ للذة، ولا أشغلَ للقلب من الخصومة.

فإن قلتَ: لابُدَّ للإِنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه.

فالجوابُ: ما أجابَ به الإِمامُ الغزالي أن الذمَّ المتأكّدَ إنما هو لمن خاصمَ بالباطل أو غير علمٍ ****ل القاضي، فإنه يتوكَّلُ في الخصومة قبل أن يعرفَ أن الحقّ في أيّ جانب هو فيخاصمُ بغير علم. ويدخلُ في الذمّ أيضاً مَن يطلبُ حَقَّه، لكنه لا يقتصرُ على قدرِ الحاجة، بل يظهرُ اللددَ والكذبَ للإِيذاء والتسليط على خصمه، وكذلك من خَلَطَ بالخصومة، كلماتٍ تُؤذي، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك مَن يحملُه على الخصومة محضُ العِناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم.

وأما المظلومُ الذي ينصرُ حجَّتَه بطريق الشرع من غير لَدَدٍ وإسرافٍ وزيادةِ لجاجٍ على الحاجة من غير قصدِ عنادٍ ولا إيذاء، ففعلُه هذا ليس حرامًا، ولكن الأولى تركُه ما وجد إليه سبيلاً، لأنَّ ضبطَ اللسان في الخصومة على حدّ الاعتدال متعذّر، والخصومةُ تُوغرُ الصدورَ وتهيجُ الغضبَ، وإذا هاجَ الغضبُ حصلَ الحقدُ بينهما حتى يفرح كل واحد بمساءةِ الآخر، ويحزنُ بمسرّته ويُطلق اللسانَ في عرضه، فمن خاصمَ فقد تعرّضَ لهذه الآفات، وأقلُّ ما فيه اشتغالُ القلب حتى أنه يكون في صلاته وخاطره معلقٌ بالمحاجّة والخصومة فلا يَبقى حالُه على الاستقامة؛ والخصومةُ مبدأ الشرّ، وكذا الجِدال والمِراء. فينبغي أن لا يفتحَ عليه بابَ الخصومة إلا لضرورة لابُدَّ منها، وعند ذلك يُحفظُ لسانَه وقلبَه عن آفات الخصومة" انتهى.

ذم الغضب في نصوص الشريعة:

قال الله -تعالى-: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (الفتح:26)، ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل، ومدح المؤمنين بما أنزل عليهم من السكينة.

وقد نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن الغضب، روى أبو هريرة -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوْصِنِي؟ قَالَ: (لا تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِرَارًا. قَالَ: (لا تَغْضَبْ) (رواه البخاري).

قال ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- في جامع العلوم والحكم: "فهذا الرجل طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يوصيه وصية جامعة لخصال الخير؛ ليحفظها عنه خشية ألا يحفظها لكثرتها فوصاه أن لا يغضب.. فهذا يدل على أن الغضب جماع الشر والتحرز منه جماع الخير؛ وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة. فقال: "ترك الغضب".

وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) (متفق عليه).

وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ومَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ الله عَوْرَتَهُ) (رواه الطبراني، وحسنه الألباني).

وقال سليمان بن داود -عليهما السلام-: "يا بني إياك وكثرة الغضب، فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم".

وعن عكرمة في قوله -تعالى-: (وَسَيِّدًا وَحَصُورًا) (آل عمران:39)، قال: السيد: الذي لا يغلبه الغضب".

بيان حقيقة الغضب:

قوة الغضب محلها القلب، ومعناها: غليان دم القلب بطلب الانتقام، والأصل في تلك القوة أنها جعلت في الإنسان؛ لدفع المؤذيات عنه قبل وقوعها، ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث من: التفريط، والإفراط، والاعتدال.

أما التفريط: فبِفَقْدِ هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه: إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي -رحمه الله-: "من استغضب فلم يغضب فهو حمار"، فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جدًا، وقد وصف الله -سبحانه- أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- بالشدة والحمية فقال: (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ( (الفتح:29)، وقال لنبيه: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِي نَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة:73)، وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب.

وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر.

وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية: فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب؛ لأن الغضب من النار.

وأما الأسباب الاعتيادية: فهو أن يخالط قومًا يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب، ويسمون ذلك شجاعة ورجولة، فيقول الواحد منهم: "أنا لا أصبر ولا أحتمل من أحد أمرًا"! ومعناه: "لا عقل فيَّ ولا حلم"، ثم يذكره في معرض الفخر بجهله.

بيان الأسباب المثيرة للغضب:

والأسباب المثيرة للغضب هي: الزهو وعلاجه التواضع؛ والعجب وعلاجه استصغار النفس، والمزاح والهزل وعلاجه بالانشغال بالجد والمهمات العالية، والهزء والتعيير والمماراة والمضادّة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً. ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب، فلابد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها.

فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع، وتميت العجب بمعرفتك بنفسك، وتزيل الفخر بأنك من جنس من تفخر عليه، إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد؛ وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتًا، فبنو آدم جنس واحد، وإنما الفخر بالفضائل. والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل، وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تتخل عنها؛ فلا فضل لك على غيرك، فلم تفتخر وأنت من جنس الآخرين من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة؟!

وأما المزاح؛ فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر، وتزيد عليه إذا عرفت ذلك.

وأما الهزل؛ فتزيله بالجد في طلب الفضائل والأخلاق الحسنة والعلوم الدينية التي تبلغك إلى سعادة الآخرة.

وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس، وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك.

وأما التعيير فالحذر عن القول القبيح، وصيانة النفس عن مر الجواب.

وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلبًا لعز الاستغناء، وترفعًا عن ذل الحاجة.

ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة، وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً، حتى تميل النفس إليه وتستحسنه! وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عند الأكابر في معرض المدح بالشجاعة، والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه، وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل، بل هو مرض قلب، ونقصان عقل، وهو لضعف النفس ونقصانها.

علاج الغضب:

1- التعوذ بالله -تعالى- من الشيطان، فعن سليمان بن صرد قال: اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا تَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَتَنْتَفِخُ أَوْدَاجُهُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنِّي لأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (متفق عليه).

وإذا تأمل العبد معنى الاستعاذة، وهو الالتجاء إلى الله -تعالى- والاعتصام به، وضم له التفكر فيما ورد في كظم الغيظ وثوابه، واستحضر أن الله أعظم قدرة من قدرته على من غضب عليه سكن غضبه لا محالة.

2- الوضوء:

3- الجلوس أو الاضطجاع

4- كظم الغيظ وعدم التجاوب مع الغضب:

قال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) (متفق عليه)

وفي تفسير قول الله -تعالى- عن يحيى -عليه السلام-: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:39).

قال ابن زيد: "السيد الذي لا يغلبه الغضب". وقال الزجاج: "السيد الذي يفوق أقرانه في كل شيء من الخير"، وهذا جامع.

قال الشافعي: "وإياك أن تسترضي الولد إذا غضب بلين الكلام وخفض الجناح، فإن ذلك يتلف حاله ويهون عليه العقوق، بل ذكره بخطئه وما أعد له من العقاب عليها، وإياك أن تسبه أو تشتمه؛ فإن ذلك يجرئه على النطق بمثله مع إخوانه، بل معك".

5- التفكر في حال السلف في كظمهم الغيظ وذمهم الغضب:

وتلك بعض أحوالهم وأقوالهم في بيان مساوئ الغضب والخصومة: تفكر النبي -صلى الله عليه وسلم- في حال الأنبياء وصبرهم، فقد أخرج البخاري: عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِسْمَةً. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ: وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِهَذَا وَجْهَ اللَّهِ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ؛ فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ، وَقَالَ: (رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ).

"فَتَمَعَّرَ وَجْهُهُ": تغير لونه من الغضب.

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: (وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) (القلم:48)، قال: تغاضب كما غاضب يونس".

وأخرج البخاري أيضًا عن أبي بكر -رضي الله عنه- موقفًا مشابهًا، فعن عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهما-: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ تَضَيَّفَ رَهْطًا -أي نزل عليه ضيوف- فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: دُونَكَ أَضْيَافَكَ فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَافْرُغْ مِنْ قِرَاهُمْ -أي أطعمهم- قَبْلَ أَنْ أَجِيءَ. فَانْطَلَقَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهُمْ بِمَا عِنْدَهُ فَقَالَ: اطْعَمُوا. فَقَالُوا: أَيْنَ رَبُّ مَنْزِلِنَا؟ -يقصدون الصدِّيق- قَالَ: اطْعَمُوا. قَالُوا: مَا نَحْنُ بِآكِلِينَ حَتَّى يَجِيءَ رَبُّ مَنْزِلِنَا. قَالَ: اقْبَلُوا عَنَّا قِرَاكُمْ فَإِنَّهُ إِنْ جَاءَ وَلَمْ تَطْعَمُوا لَنَلْقَيَنَّ مِنْهُ -أي سيحاسبنا على ذلك-.

فَأَبَوْا فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يَجِدُ عَلَيَّ -سيغضب مني-؛ فَلَمَّا جَاءَ تَنَحَّيْتُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا صَنَعْتُمْ فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ. فَسَكَتُّ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَسَكَتُّ. فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ إِنْ كُنْتَ تَسْمَعُ صَوْتِي لَمَّا جِئْتَ؛ فَخَرَجْتُ فَقُلْتُ: سَلْ أَضْيَافَكَ. فَقَالُوا: صَدَقَ أَتَانَا بِهِ. قَالَ: فَإِنَّمَا انْتَظَرْتُمُون ِي وَاللَّهِ لا أَطْعَمُهُ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ الآخَرُونَ: وَاللَّهِ لا نَطْعَمُهُ حَتَّى تَطْعَمَهُ. قَالَ: لَمْ أَرَ فِي الشَّرِّ كَاللَّيْلَةِ وَيْلَكُمْ مَا أَنْتُمْ لِمَ لا تَقْبَلُونَ عَنَّا قِرَاكُمْ هَاتِ طَعَامَكَ فَجَاءَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ، فَقَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، الأُولَى لِلشَّيْطَانِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا" -أي أن الشيطان انتزع القسم مني فتعوذ وأكل على أن يكفر عن القسم فيما بعد-.

ومعنى "رهطًا": ما دون العشرة من الرجال.

"دونك": خذهم وألزمهم.

"قراهم" ضيافتهم.

"يجد" يغضب.

"يا غنثر" كلمة شتم، أي: يا جاهل، أو أحمق، أو ثقيل، أو سفيه، أو لئيم.

"الأولى للشيطان": الكلمة الأولى التي تكلم بها وأقسم ألا يأكل.

ولذا فقد مدح الله -تعالى- أهل الإيمان بأنهم لا يلعب بهم الغضب؛ فقال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134).

قوله -تعالى-: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ): كظم الغيظ رده في الجوف؛ يقال: كظم غيظه أي سكت عليه ولم يظهره، مع قدرته على إيقاعه بعدوه، وكظمت السقاء: أي ملأته وسددت عليه.

قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير الآية: "والغيظ أصل الغضب، وكثيرًا ما يتلازمان، لكن فُرقان ما بينهما، أن الغيظ لا يظهر على الجوارح، بخلاف الغضب فإنه يظهر في الجوارح مع فعل ما ولابد؛ ولهذا جاء إسناد الغضب إلى الله -تعالى- إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم".

مدح الله -تعالى- الذين يغفرون عند الغضب وأثنى عليهم فقال: (وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى:37)، وأثنى على الكاظمين الغيظ بقوله: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)، وأخبر أنه يحبهم بإحسانهم في ذلك.

ووردت في كظم الغيظ والعفو عن الناس وملك النفس عند الغضب أحاديث؛ وذلك من أعظم العبادة وجهاد النفس؛ فقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ) (متفق عليه).

وقال -عليه الصلاة والسلام-: (مَا مِنْ جُرْعَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا عِنْدَ اللهِ، مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ كَظَمَهَا عَبْدٌ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

قال العرجي:

وإذا غضبت فكن وقورًا كاظمًا للغيظ تبصر ما تقول وتسمع

فـكـفى به شرفـًا تـصبر ساعة يرضى بها عنك الإله وترفـع

وقال عروة بن الزبير في العفو:

لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام

ويُشتموا فـترى الألوان مشـرقة لا عفو ذل ولكن عفو إكـرام

عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ) (رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الألباني).

الدعاء علاج للغضب:

وكان من دعاء المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني) أي من أوتيهن فقد أوتي الشكر فهو شاكر كشكر آل داود المأمور به في قوله -تعالى-: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ:13)، فإذا عدل فيهما صار القلب ميزانًا للحق لا يستفزه الغضب، ولا يميل به الرضا؛ فكلامه للحق لا للنفس، وهذا عزيز جدًا؛ إذ أكثر الناس إذا غضب لم يبال بما يقول، ولا بما يفعل.

لـيـس السـيـادة أكـمـامـًا مـطـرزة ولا مراكب يجـري فـوقـها الـذهـب

وإنـمـا هــي أفـعــال مــهـــذبــــة ومـكـرمـات يـليـها العـقـل والأدب

وما أخو المجد إلا من بغى شرفًا يومًا فهان عليه النـفس والـسـلب

وأفضل الـناس حرّ ليـس يـغـلـبه على الحجى شهوة فيه ولا غضب

أمور منهي عنها عند الغضب:

الدعاء على النفس أو الغير حال الغضب: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : (لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) (رواه مسلم).


إصدار الأحكام لا سيما في حق المسئولين والقضاة وأصحاب القرار: وفي صحيح مسلم: عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: كَتَبَ أَبِي (وَكَتَبْتُ لَهُ) إلَىَ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ وَهُوَ قَاضٍ بِسِجِسْتَانَ: أَنْ لاَ تَحْكُمَ بَيْنَ اثْنَيْنَ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: (لاَ يَحْكُمْ أَحَدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ).

قال النووي في شرحه للحديث: "قال العلماء: ويلتحق بالغضب كل حال يخرج الحاكم فيها عن سداد النظر واستقامة الحال؛ كالشبع المفرط، والجوع المقلق، والهم، والفرح البالغ، ومدافعة الحدث، وتعلق القلب بأمر، ونحو ذلك، وكل هذه الأحوال يُكره له القضاء فيها خوفًا من الغلط" انتهى.