قافية الياء.. قافية الحزن والشجن
د. أحمد الخاني





وللقوافي خصائصها، وهي تفرض نفسها دون تدخل من الشاعر في كثير من المواقف، فقد برزت قافية الدال بصفتها مَعلماً من معالم الغزل، وإن كان كثير من القوافي تشترك معها.

أما قافية الياء فقد رأيتها مشتركة بين شعراء الحزن، بدءاً من عبد يغوث بن وقاص الحارثي سيد مذحج في الجاهلية في اليمن، فمن كان يبحث عن المعارضات أو المناقضات، فليبحث عن القصائد الأم في تاريخ الأدب، ومن الملفت للنظر أنني وجدت قصيدة عبد يغوث وهي ذات اللون النفسي الحزين، قد تبعتها قصائد على قافيتها ذات لون حزين أيضاً؛ الأمر الذي دعاني إلى أن أسمي قافية الياء: قافية الشجن.

قال عبد يغوث وقد أسرته تيم:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا *** فما لكما في اللوم خير ولا ليا

ومنها هذا البيت الذي احتفت به كتب النحو:
وتضحك مني شيخة عبشمية *** كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانيا

ويختم مرثيته لنفسه بقوله:
فيا راكباً إما عرضت فبلغن *** نداماي من نجران ألا تلاقيا

ثم قتل، وانطلقت هذه القافية في أجواء الإحساس الحزين في أدبنا العربي القديم لتسكب في إحساس مجنون ليلى، أو لتكون الكأس التي يصب فيها قيس أحزانه ومواجده قبل أن يجود بنفسه، وقد ظل يرددها إلى أن مات:
تذكرت ليلى والسنين الخواليا *** وأيام لا نخشى على الدهر ناهيا

ومنها هذا البيت الشاهد:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما *** يظنان كل الظن ألا تلاقيا
وهي قصيدة زادت على مئة بيت في إحدى روايتيها[1]

وجاء مالك بن الريب فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بجنب الغضا أزجي القلاص النواجيا

تذكرت من يبكي علي فلم أجد
سوى السيف والرمح الرديني باكيا


وجاء المتنبي فقال مخاطباً نفسه:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا *** وحسب المنايا أن يكن أمانيا

وقد بلغ من قوة انطلاقة هذه القافية بهذا الوتر الشجي الحزين أن اخترقت حجاب الزمان والمكان ووصلت إلى العصر الحديث. قال محمود مفلح[2]:
بعثت إلي الحرف إذ كنتُ لاهيا
ففجرت في صحراء عمري السواقيا

إلى الله أمضي والجهاد يشدني
أسدد فيه السهم يوماً وثانيا

لعلي إذا ما مت ألقاه راضياً
علي وألقى في الجنان رفاقيا


وشاعر آخر معاصر أيضاً يقول في رثاء الشاعر عبد القادر حداد:
بكتك القوافي والندى والنواديا *** ونهر جرى في غربة الشعر داميا[3]
----------------------------------

[1] ديوان مجنون ليلى بتحقيق عبد الستار أحمد فراج نشر ومتبة مصر ص 226.

[2] شعراء عرفتهم أحمد الخاني ط 1 ص 158.

[3] يوان: عندما ينعس القمر . أحمد الخاني ط. 1.