الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
الزائر الذي لا يأتيك إلا كل عام مرة تجد نفسك في شوق شديد إليه، وفي لهفة إلى رؤيته ومسامرته، مع أن هذا الضيف قد لا تستفيد منه الكثير، بل قد تحمل همَّ استقباله والتفرغ له.. إلى غير ذلك مما يحتاجه الضيوف.
لكننا في هذه اللحظات ننتظر ضيفاً من نوع آخر، ضيفاً يحمل في طياته كل خير، ضيفاً يفرح بمجيئه الصالحون، ويحتفي بقربه الأولياء العاملون، إنه الضيف الذي يعطي ولا يأخذ، ويمنح ولا يسلب، لحظاته مملوءة بالبركات، وأوقاته محفوفة بالخيرات، ذكره الله في القرآن الذي فيه أنزله، وجعل من أفضل القربات فيه وفي لياليه ترتيل القرآن.
إنه الضيف الذي يأتي مبشراً بالخير، ومنذراً من الشر، يدعو أهل الخير، ويرحب بهم، ويحذر أهل الشر ويتوعدهم، بحلوله يقبل الخير فتفتح أبواب الجنان، ويدبر الشر فتغلق أبواب النيران، ويسلسل دعاة الشر من المردة والشياطين.
الضيف الذي يستبشر بقدومه أهل الإيمان، فتجدهم لم يسعهم أن يكتموا حبه في قلوبهم، حتى أعلنوا شغفهم به على الملأ، والمتتبع لكتب الأدب والشعر يلحظ أن دواوين الشعراء حفلت مرحبةً بهلال شهر رمضان؛ لما له من أهمية بالغة في عيون الشعراء، لاسيما وقد جرت عادتهم على الترحيب بهلاله الذي يأذن ببدء الشهر الكريم، فتفننوا في وصفه، وعدُّوه أمارة خير وبشارة يمن وبركة، وفي ذلك يقول الشاعر ابن حمديس الصقلي:
قلت والناس يرقبـون هلالاً يشبه الصب من نحافة جسمـه
من يكن صائماً فذا رمضان خط بالنور للورى أول اسمــه
ويذكر البحتري هلال شهر شعبان حين أصبح قمراً يؤذن بطلوع شهر رمضان فيقول:
قم نبادر بها الصيام فقد أقمر ذاك الهلال من شعبان
أما الشاعر الجزائري محمد الأخضر فيمتدح هلال رمضان بقوله:
امـلأ الـدنيا شعاعـاً أيـها النـور الحبيـب
اسكب الأنـوار فيـها مـن بعـيد وقـريـب
ذكـر النـاس عـهوداً هـي من خـير العـهود
يوم كان الصوم معـنى للتسامـي والصـعـود
ينشر الرحمـة في الأرض علـى هـذا الـوجـود
وفيه أيضاً يقول بعض الأدباء:
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيـام يا حبيباً زارنا في كــل عام
قد لقيناك بحب مفعــــم كل حب في سوى المولى حرام
فاقبـل اللهم ربِّي صــومنا ثم زدنا من عطاياك الجســام
لا تعاقبنا فقــــد عـاقبنا قلق أسهـــرنا جنحَ الظلام[1]
بل من شوقهم ووجدهم عليه صاروا يتخيلونه كالرجل المبتسم، والروضة الغنَّاء الزاكية، والربيع الطيب الزاهي فيقول أحدهم:
تبدو وثغرك للأحبــة باسـمٌ كالروض يزكو في الربيع ويسعدُ
والمسلمون عيـونهم ظمأى إلى شلال ضـوء في السماء يزغردُ
يدعو عباد الله: هيـا استبشروا فــالسعد لاح وفجره المتورِّدُ
علموا قيمته الحقيقية، وأنه مزرعة تجنى فيها الحسنات، وتطلب منها الثمار اليانعات؛ فحاولوا أن ينبهوا الناس إليها:
أتى رمضان مزرعة العبــاد لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعـــلاً وزادك فــاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نــادماً يوم الحصاد
والرحمة فيه تغيث القلوب كما تغيث الأمطار الأرض بعد حاجة وفاقة، لذلك كان المؤمنون في شوق إليه كما يشتاق الحبيب إلى حبيبه :
فديتك زائراً في كل عـــام تحيــَّا بالســلامة والسلامِ
وتقبل كالغمام يفيــض حيناً ويبقى بعــده أثر الغمــامِ
وكم في الناس من كلف مشوقٍ إليك وكم شجــيٍّ مستهامِ
بني الإسلام هذا خــير ضيفٍ إذا غشـي الكريـم ذرا الكرامِ
فهو المنى الذي يتمناه الأتقياء ويرجو لقاءه الأخفياء
أتاك شهر السعد والمكرمات فحَيِّه في أجمل الذكـريات
يا موسم الغفـران أتحفتنـا أنت المنى يا زمن الصالحات
هو الشهر الذي يحي النفوس بهداية الله - عز وجل -، ويداوي السقيم منها، بل هو الذي أقبل ومعه النور الكتاب العزيز الذي يهدي به الله من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، فكم أسهر من عابد ومتهجد، وتال للقرآن وساجد، وكم سالت فيه الدمعات، وخرجت فيه من نفوس المقصرين الآهات والأنات :
أقبل وأحيي نفوسنا بهدايـة تُمسي لأدواء النفوس دواءَ
آسي الخيار المصْطَفين فإنهم يَحيَـون في أوطانهم غرباءَ
قطعوا إلى الله السبيل لعلهم يَرِدون في رضـوانه النعماءَ
أقبلت بالنور السماوي الذي بهر الوجود وعطّر الأجـواءَ
أسهرت ليل الصائمين تعبداً وتهجداً وتلاوة ودعـــاءَ
فهجرتُ نومي في هواك توسلاً لله كـي أزداد فيك صفـاءَ
فأهلاً بك يا شهراً تزكو فيه النفوس، وتصلح فيه الأرواح، وتطمئن فيه القلوب، أهلاً بليلك الزاهي بالطاعات، وبنهارك المعطر بالافتقار إلى رب الأرض والسماوات، أهلاً بكل لحظاتك فكل جزء منها خير من الدنيا وما فيها
رمضان إن الأنفس الجرداء تزكو حين تُوفِي كالربيع وتورِقُ
أهلاً بيومك صائمين عن الأطايب راغبين إلى الرضا نتشوقُ
أهلاً بليلك قائمين لربنـــا وقلوبنا بالحب نشوى تخفقُ
حسب الموفق فرحتان أجلُّ من هذي الحياة وإن كساها رونقُ
فأقبل يا رمضان، أقبل علينا علَّ أحوالنا تصلح، وذنوبنا تغفر، وأعمالنا تقبل، أقبل فقد تطيب لك الكون، وازينت لقدومك الآفاق، فيا سعد من قام فيك وصام، واستغل كل فرصة فيك تقربه إلى الأمام، السعيد من اغتنم نهارك ولياليك حق الاغتنام، وعمل لما يقربه إلى باريه رب الأنام
رمضان أقبل قم بنا يا صاح هذا أوان تبتّل وصلاح
الكون مِعطار بطيب قدومه روح وريحان ونفح أقاحي
صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها فالصفو ليس على المدى بمُتاح
واغنم ثواب صيامه وقيـامه تسعد بخيرٍ دائم وفلاح
اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من الصائمين القائمين، المخلِصِين المخلَصِين .. آمين.